رواية جمر الجليد هي رواية رومانسية والرواية من تأليف شروق مصطفي في عالم مليء بالتناقضات والأسرار تتشابك مصائر شخصيات رواية جمر الجليد لتجد نفسها في مواجهة قرارات صعبة تُغير مجرى حياتهم إلى الأبد ان رواية جمر الجليد هي قصة عن الحب الذي يتحدى الزمن والمصير الذي يفرض نفسه والأرواح التي تسعى خلف الحرية والسعادة بين الأمل واليأس وبين القوة والضعف ينسج رواية جمر الجليد تفاصيل حياتهم في معركة غير متكافئة مع القدر لتكشف كل صفحة عن لغز جديد يقود القارئ نحو نهاية غير متوقعة
رواية جمر الجليد من الفصل الاول للاخير بقلم شروق مصطفي
في حي (...)، اختفى طفلان من أمام منزلهما أثناء اللعب، لتتكرر مأساة مشابهة وقعت في نفس الحي سابقًا. التساؤلات تتزايد: هل أصبحوا ضحايا لعصابات تتاجر بأعضائهم؟ ولماذا تتوالى حوادث اختفاء الفتيات أيضًا؟
التحقيقات أسفرت عن أدلة وصور قادت إلى مجموعة خالية من الإنسانية، وتم القبض عليهم. نطالب بإعدام كل من تسبب في أذى لهؤلاء الأبرياء.
الخطر قريب، تحركوا قبل فوات الأوان.
بقلم (س.م)
وضع الأستاذ أحمد المقال جانبًا ونظر إلى سيلا قائلاً: "مقالك قوي يا سيلا، لكن فين الدليل والصور؟"
أخرجت سيلا مجموعة أوراق وصور، وقالت: "اتفضل يا فنـ.ـد.م، دي نسخ من المحاضر، صور للجناة، وتسجيل مع ممرضة شافت حاجات مريبة. الدكتور كان بيقفل غرفة بجنزير وما يفتحها إلا لما العيادة تفضى. في مرة شافته فاتح الغرفة ومرتبك، وشمت ريحة غريبة. بعدها شافته بيتكلم في التليفون عن تجهيز الأدوات، وانتظرت برا. صورت ناس شايلة بنت فاقدة الوعي، وبعدها بشوية نزلوا بصندوق وشوال."
أكملت بثقة: "العيادة اتقفلت بالشمع الأحمر، والطبيب اتحبس، ولسه باقي الجناة هاربين. كل الدلائل والصور والتسجيلات موجودة مع المقال."
نظر أحمد للأوراق وقال بإعجاب: "شغلك ممتاز... المقال ده هيكون حديث الجميع!"
ابتسم أحمد وهو ينظر إلى سيلا قائلاً: "شغلك رائع يا سيلا، لكن أنا قلقان عليك. المعلومـ.ـا.ت اللي بتجيبيها خطيرة، وانتي بتواجهي ناس ممكن يكونوا خطرين جدًا. أنا خايف يحطوكي في دماغهم، انتي مش بس صحفية، انتي بتحققي بنفسك."
ردت سيلا بابتسامة واثقة: "متقلقش يا فنـ.ـد.م، ده شغلي، وبعدين أنا مش بكتب اسمي. الحمد لله إحنا مع الحق، وربنا بينصر الحق دائمًا."
سيلا، فتاة في الخامسة والعشرين، خريجة إعلام قسم صحافة، ذات شعر قصير ووجه دائري. كانت مرحة ومفعمة بالحياة، لكن صدمة مؤلمة جعلتها تنعزل عن الناس وتفقد براءتها. أصبحت أكثر قوة وعنفًا، وكرست حياتها لهدف غامض... سنكتشفه مع الأحداث.
نظر أحمد إلى سيلا وقال: "مش عارف أقولك إيه، بس خلي بالك يا سيلا."
ابتسمت بثقة: "إن شاء الله، يا فنـ.ـد.م."
ثم أكمل بجدية: "المقال هايل، وانتي من أكفأ الصحفيين عندي."
ردت بفرحة: "متشكرة جدًا على ثقتك يا فنـ.ـد.م."
تمت طباعة المقال، وانتشر كالنار في الهشيم، محدثًا ضجة كبيرة.
في صباح اليوم التالي، استدعاها المدير على عجل. دخلت المكتب وقالت: "نعم، يا فنـ.ـد.م، طلبتني؟"
أشار لها أن تجلس وقال: "جاهزة للسبق الجديد؟"
ردت بحماس: "أكيد، يا فنـ.ـد.م، هتكلم عن إيه المرة دي؟"
ابتسم قائلاً: "مش هلاقي حد أكفأ منك لتغطية الموضوع ده."
أجابته بثقة: "يشرفني أكون عند حسن ظنك."
.بعد صمت قصير، قال أحمد: ، افتتاح فرع جديد لأكبر شركات السياحة. الشركة دي عالمية ولها فروع كتير، وهيفتتحوا فرع جديد في الغردقة."
تفاجأت سيلا وقالت باندهاش: "بس يا فنـ.ـد.م، ده مش تخصصي وأنا..."
قاطعها بسرعة قائلاً: "الصراحة مش هلاقي حد أحسن منك، وكمان هتغيري جو في الغردقة!" ثم ضحك وأضاف بلهجة آمرة: "معندناش وقت، لازم تجهزي، السفر بكره، والافتتاح بعد بكره."
حاولت السيطرة على غضبها وأجابته: "تمام يا فنـ.ـد.م، ممكن آخد مي معايا؟"
فكر أحمد للحظة ثم قال: "خديها معاكِ."
سيلا أجابت بامتنان: "شكرًا يا فنـ.ـد.م، بعد إذنك." وغادرت مكتبه بتأفأف.
أحمد كان يعتبر سيلا مثل ابنته، ولم يرغب في إخبـ.ـارها عن السبب الحقيقي وراء سفرها إلى الغردقة. ثم عاد إلى عمله.
التقت سيلا بصديقتها مي بعد خروجها من المكتب، ولاحظت مي أنها تبدو مشوشة فقالت: "مالك، مقلوبة ليه كده؟"
تنهدت سيلا بضجر: "اسكتي، مش طايقة نفسي بجد. بعتوني أغطي افتتاحية شركة سياحة جديدة! أنا مالي بشركات السياحة؟ أنا بكتب عن جرايم القـ.ـتـ.ـل والتحرش والاغـ.ـتـ.ـsـ.ـاب، مش سياحة."
ثم توقفت وقالت: "المهم، عاوزاكي معايا. مش هروح لوحدي الغردقة دي."
تفاجأت مي من كلامها وصرخت: "الغردقة؟ مش طاايقه نفسك؟ والله وش فقر! اطلعي وفكي شوية، حـ.ـر.ام الضغط اللي عاملاه لنفسك ده!"
لم ترد سيلا، لكنها قالت بغضب: "هتيجي معايا ولا أروح لوحدي؟"
أجابت مي ضاحكة: "طبعًا جايه معاكِ."
سيلا قالت: "تمام، جهزي نفسك، هنسافر بكره من الفجر."
مي ضحكت وقالت: "استني أروح أستأذن من أستاذ أحمد، وبعدين نمشي سوا."
مي، التي هي بنفس عمر سيلا، لكن شخصيتها مرحة ومـ.ـجـ.ـنو.نة، كانت قد تخطت الأزمـ.ـا.ت التي مرّت بها سيلا، وعادت لحياتها الطبيعية بسرعة.
في مكان آخر، كان الشخص يجلس يدخن السجائر بشراهة، بينما كان أمامه شخص آخر يقدّم له ورقة.
قال المجهول الأول: "امسك العنوان ده. عاوزك تعرفلي كل اللي شغالين في المخروبه دي، وتجيبلي كل حاجة عنهم!"
أجاب الشخص الآخر: "اعتبرها حصلت يا باشا."
ثم صرخ المجهول الأول بصوت جهوري: "غور بقى من قدامي! قدامك 24 ساعة تكون كل حاجة عندي، فاهم؟"
رد الشخص الآخر بخوف: "حاضر، حاضر يا باشا."
مغادرًا، خرج الشخص الآخر وهو يركض بسرعة، في حين أخرج المجهول الأول نفسًا عميقًا من الدخان الذي ملأ المكان، ثم همس قائلاً: "قريب أوي هعرفك!"
..
في مكتبه، جلس عاصم الخولي يراجع الأوراق أمامه بينما كان المحامي ومعتز يجلسان بالقرب منه.
توجه عاصم للمحامي وقال: "جهزت العقود؟ وكيل الفرع الجديد على وصول؟"
أجاب المحامي: "كل شيء تمام، والعقود جاهزة."
دون أن يرفع نظره عن الأوراق، رد عاصم: "عملت اللي قولتلك عليه؟"
أجاب المحامي: "تمام، زي ما أمرت بالضبط."
أشار عاصم للمحامي ليغادر، ثم نظر إلى أخيه معتز الذي تساءل: "إيه اللي قولت له عليه؟"
معتز، في الخامسة والعشرين، خريج تجارة ويدير الشركات مع أخيه وابن عمه. بشرة قمحي وعيون بنيّة، معروف بغروره وعنادته، ويأخذ في حسبانه أخاه الأكبر الذي يهابه الجميع.
لم يلتفت عاصم لمعتز ولم يقدم له مبررات، فاستمر في مراجعة أوراقه. ثم نظر إلى ساعته وقال: "يلا بينا."
تنهد معتز، وشعر أن عاصم يخطط لشيء ما لكنه لن يفصح عنه. ثم توجهوا معًا إلى غرفة الاجتماع، حيث وقع الوكيل الجديد عقد استلام الفرع الجديد في الغردقة.
عاد عاصم إلى مكتبه وأبلغ السكرتارية بسفره طوال الأسبوع، وطلب تحويل المكالمـ.ـا.ت والمقابلات لمعتز. ثم قرأ إحدى الخواطر في الصحيفة:
"من المؤسف أن تبحث عن الصدق في عصر الخيانة، وعن الحب في قلوب جبانة. ابحث عن الرجل في داخلك إن كنت ترغب في بث روح الرجولة في الآخرين."
ابتسم عاصم لهذه الخواطر بتهكم، ثم جمع متعلقاته وجهز شنطته للسفر. بينما ظل معتز في مكتبه يكمل بعض الحسابات قبل أن يلحق بأخيه.
غادرت سيلا ومي الجريدة، وأثناء الطريق، أبدت مي خوفها من ركوب الموتوسيكل، لكن سيلا لم تكترث وركبت بسرعة. وصلوا إلى منزل مي، وقالت سيلا: "جهزي شنطتك وهكلمك." ثم توجهت إلى منزلها.
في المنزل، قابلت سيلا والدتها نرمين، مديرة دار أيتام، وسألتها عن حالها، ثم أخبرتها بأنها مسافرة إلى الغردقة مع مي للعمل. نرمين، قلقة، طلبت منها أن تأخذ معها شخصًا للحماية، لكن سيلا طمأنتها بأنها قادرة على حماية نفسها. محسن، والد سيلا، تدخل وقال: "سيبيها، أنا واثق فيها." وأخيرًا، سأل محسن عن موعد سفرها، فأجابته سيلا بأنها ستغادر في الفجر.
بعد الحادثة التي مرت بها منذ ست سنوات، تعلمت سيلا فنون القتال والدفاع عن نفسها، وأتقنت الكاراتيه والعديد من الألعاب القتالية، تحت إشراف والدها ومدربيه المتخصصين.
نرمين، والدتها، عرضت أن ترافقها إلى الغردقة، لكن سيلا طمأنتها بأنها قادرة على حماية نفسها. ثم اقترحت على همسة، التي تحب الرسم، أن تأتي معهما للاستفادة من الفرصة لعرض لوحاتها في المكان الذي سيذهبون إليه، وهو ما لاقى قبولًا من همسة.
في النهاية، قرر محسن، والد سيلا، أن يوصلهم إلى السوبر جيت. بدأت سيلا وهمسة في تجهيز شنطهن استعدادًا للسفر في الفجر، مع حماس للرحلة القادمة.
سيلا اتصلت بصديقتها مي، التي كانت مشغولة بمحاولة إقناع أخيها بالسفر. بعد أن نجحت في ذلك، أكدت أنها ستلتقي بهم في الفجر، وأخبرتها أن همسة سترافقهم أيضًا. بعد تجهيز حقيبتها، ذهبت إلى همسة وانتظروا والدهم ليأخذهم إلى السوبر جيت.
وصلوا إلى السوبر جيت، وطمأن والدهم أنهم ركبوا الأتوبيس. مي كانت متحمسة للترفيه بعد الوصول، لكن سيلا كانت تركز على العمل أولًا. همسة وافقت على رأي سيلا، بينما كانت مي تتحدث عن الخروج للتمتع بالوقت. سيلا فضلت أن تظل بعيدة عن أي ارتباطات عاطفية وركزت على عملها. أخيرًا، طلبت منهم أن يتركوها لتنام قليلاً، وأغمضت عينيها في محاولة للراحة.
تدور أفكار سيلا في دوامة من الماضي المؤلم الذي يعصف بها. لا تستطيع النوم براحة بينما يطارده عقلها باستمرار. كانت تحاول التظاهر بأنها تعافت، لكن الألم لا يزال ينهش في قلبها. تلك الذكريات التي لا تُمحى، خاصة الحادث الذي وقع يوم تخرجها، كانت محورية في حياتها، إذ عاشت في معاناة دامت سنتين. على الرغم من أنها كانت قد أظهرت للآخرين أنها تعافت تمامًا، إلا أن جروحها الداخلية كانت لا تزال تنزف.
في تلك الأيام، قررت مع صديقاتها مي ورودي إقامة حفلة للاحتفال بتخرجهن. اتفقن على اختيار مكان قريب من الجامعة، وتولت سيلا ومي حجز المكان بينما كانت رودي مسؤولة عن جمع باقي الصديقات. مي كانت نشيطة للغاية ومتحمسة لتزيين المكان، بينما كانت سيلا تفضل البساطة ولا تهتم بالتفاصيل الزائدة. رودي كانت مشغولة أيضًا بمواعيد أخيها الذي كان حريصًا على أن تلتزم بمواعيد معينة.
بعد أن اتفقوا على الحجز، دارت محادثة خفيفة بينهن. سيلا أعربت عن عدم اهتمامها بزينة الحفل المبالغ فيها، بينما حاولت مي أن تضيف المزيد من المرح والتفاصيل. كان كل شيء يمر بسلاسة حتى بدأ الحوار يتحول إلى جدال حول ترتيب الأمور. انتهى الحديث بتوزيع المهام، سيلا ومي سيتفقان مع الكافيه، بينما رودي ستجمع باقي الفتيات لتأتي إلى الحفل بعد الترتيبات.
بينما كانت سيلا ومي تسيران في الشارع، اقترحت سيلا اختصار الطريق عبر الشارع الذي يقع خلف الجامعة. مي أمسكت يد سيلا فجأة، مرعوبة وقالت: "استني، الشارع ده، لا بلاش!" وأضافت: "أنا خايفة، ده شارع مقطوع ومحدش بيمشي فيه، أنا قلقت. تعالي نرجع ولفي مش مشكلة، بس بلاش من هنا."
لكن سيلا حاولت تهدئتها قائلة: "يا بنتي، إحنا في عز النهار، وفي ناس ماشيه هنا، تعالي بلاش جبن، يلا." رغم أن الشارع كان معروفًا بين الطلاب بالهدوء والأمان خلال النهار، إلا أن هناك قصصًا عن سرقات تحدث فيه ليلاً، مما جعل مي أكثر خوفًا.
واصلتا السير حتى منتصف الطريق، ولم يحدث شيء. مي كانت ما زالت متـ.ـو.ترة، بينما حاولت سيلا تهدئتها: "يا بنتي خلاص، قربنا نوصل، بدل ما نلف كل ده. معندناش وقت كتير، البنات حيتجمعوا وأنا لازم أكلمهم عن المكان اللي هنروح له." ولم تكمل كلامها حينما توقفت سيارة فجأة أمامهما. السيارة كانت تسير عكس الاتجاه، وتوقفت بجانب الطريق بينما كانت تُسمع أصوات عالية جدًا من داخلها.
أصوات استغاثة من فتاة داخل السيارة: "اللحقوووني!" مع محاولاتها الفاشلة لفتح الباب، في حين كان أحد الأشخاص في السيارة يغلق الباب بقوة، والفتاة تواصل الصراخ: "اللحقووووني!"
توقفت مي، وعينيها مليئة بالفزع، وتمسكت بسيلا وهي تقول: "اللحقيني، مش قولتلك بلاش؟ يلا بسرعة، نجري، شايفة اللي أنا شايفاه؟ يلا بسرعة!" كانت مي في حالة من الرعـ.ـب، لكن سيلا كانت تفكر بسرعة في كيفية إنقاذ الفتاة.
وقالت سيلا بهدوء: "اهدي، لازم نتصرف بسرعة، لازم نلحقها قبل ما يعملولها حاجة وحشة."
لكن مي كانت على وشك الانهيار، وقالت وهي تبكي: "هنلحقها، هنلحقها، بس يلا بسرعة! أنا خايفة أوي، دول شكلهم مرعـ.ـب، وممكن يكونوا خطفنها. يلا نرجع ونكلم حد يروح لهم ويمسكهم."
سيلا تحدثت بسرعة، وأخذت تدفع مي بعيدًا عنها قائلة: "طيب، ارجعي بسرعة وجيبي حد، أنا هلهيهم عنها قبل ما يحصل لها حاجة." مي كانت ما تزال مصدومة، وقالت: "لا، لا، تعالي معايا، مش قادرة أسيبك، أنا خايفة عليكِ."
لكن سيلا دفعتها مرة أخرى وقالت: "مفيش وقت للكلام، إنتِ لازم تروحي بسرعة، وأنا هكون بخير، بس مفيش وقت." وركضت باتجاه السيارة.
↚
تراجعت مي بخوف وقلبها مضطرب، ثم ركضت وهي تناجي ربها: "ربنا يستر يا رب" حتى وصلت إلى أول الشارع.
اقتربت سيلا بحذر من السيارة ووقفت خلف عمود إنارة، لتفاجأ بمشهد مروع لم يخطر ببالها. حاولت إنقاذ الفتاة الواقعة بين أيدي ذئاب بشرية، لكن الوقت كان قد فات.
التقطت حجرًا من الطريق وألقته بقوة على السيارة محطمًا زجاجها. انتبه المعتدون وتركوا الفتاة، ثم وجهوا أنظارهم إليها. أحدهم نظر إليها بوحشية، وأمر رفيقه: "انزل هاتها بسرعة !"
هرع الآخر نحم لاً بغلظة: "تعالي يا حلوة، نحلي ! حاولت الهرب، لكنها شلت من الصدمة، وسقطت في قبضتهم…!
…
نظرت نرمين لمحسن بقلق وقالت:
"أنا خايفة على البنات يا محسن."
أجابها مطمئنًا:
"اطمني، أنا مش سايبهم. كلمت واحد صاحبي في الداخلية وكلف حد يأمنها. وكمان أحمد الأسيوطي بعتها لمهمة بعيد عن القضية."
لكنها ردت بانزعاج:
"بنتك عنادية، أكيد هتفضل وراهم، والعصابة دي مش سهلة."
تنهد محسن وقال:
"ارمي حملك على ربنا، وبكرة أطمن عليهم."
هزت رأسها محاولة طمأنة نفسها، لكنها عادت بذاكرتها لمكالمة الأمس، حينما هددها صوت غليظ عبر الهاتف:
"لو عاوزة بنتك تعيش، خليها تبعد عن طريقنا."
صرخت نرمين بفزع، مما دفع محسن للحضور. أخبرته بالتهديد وهي منهارة، فحاول تهدئتها:
"هكلم أحمد وأتصرف، بس إوعي تقولي لها حاجة."
وافقت بتردد، ثم دخلت مع زوجها للغرفة تحاول النوم، لكن القلق كان سيد الموقف.
…
وصلت مي إلى أول الطريق وهي تركض والدمـ.ـو.ع تغمر وجهها. رأت شابين، فاستنجدت بهما بسرعة:
"الحقوني بسرعة، صاحبتي هتضيع! أرجوكم تعالوا معايا!"
هرعا معها إلى مكان الحادثة، ليُصدموا بالمشهد أمامهم.
في الوقت ذاته، كانت همسة تحاول إيقاظ سيلا من شرودها:
"سيلا، فوقي! خلاص وصلنا!"
استفاقت سيلا من ذكرياتها، تنهدت بعمق وأجابت:
"أنا صاحية، يلا بينا."
وصلت الفتيات إلى الفندق الذي تم حجزه مسبقًا بالقرب من الشركة الجديدة. عند وصولهن، لم تصدق همسة جمال المكان وقالت بحماس:
"واو! المكان خيالي جدًا، أكيد هبدع وأكسب المسابقة!"
ردت مي بسخرية:
"بدعي يا أختي، أما نشوف آخرتك أنتِ وأختك!"
لاحظت مي أن سيلا متضايقة، فقد كانت الأخيرة غير مهتمة بجمال المكان أو الرحلة. كل ما يشغل بالها هو إنهاء المهمّة والعودة سريعًا، ولم تفهم حتى الآن سبب مجيئها.
شعرت مي بضيقتها وقالت:
"يا بنتي فكي شوية! سيبيلي اللقاء، أنا أكتب أي كلام عن الافتتاح والكلمتين اللي هيقولهم صاحب الشركة. خلينا نستمتع بالمكان ده، ده حتى كأننا في جنة! بصي، حجزوا لنا يومين، نخلص ونمد يومين كمان على حسابنا!"
ضحكت همسة وقالت بحماس:
"وأنا معاكم!"
أما سيلا، فاكتفت بقولها بفتور:
"أجري من هنا أنتي وهي! أنا تعبانة وعاوزة أرتاح قبل ما نروح نشوف الشركة."
أمسكت هاتفها، طمأنت والدها على وصولهم، ثم اتجهوا إلى غرفهم في الفندق للاستراحة.
…
وصل عاصم إلى الغردقة صباحًا، واستقر في فندقه لأخذ قسط من الراحة. بعدها قرر زيارة الشركة الجديدة، حيث اطمأن على استعداداتهم للافتتاح غدًا، وترك الوكيل يشرف على التفاصيل.
خرج للتنزه قليلاً، مستمتعًا بجمال البحر الذي بدا وكأنه يعكس حياته بموجاته المتلاطمة. وقف متأملًا، مسترجعًا ذكريات مؤلمة تركت أثرًا عميقًا في نفسه. قبض على يديه بشـ.ـدة حتى ابيضت عروقه، ثم تنهد بحرارة وقرر العودة إلى غرفته للراحة.
التفت للرحيل، لكنه اصطدم فجأة بشخص! توقف للحظة وهو يتساءل أين رأى هذا الوجه من قبل.
توجهت الفتيات إلى الفندق للاستراحة قبل بدء تحرياتهُن عن الشركة الجديدة، وحجز موعد مع المدير، وحضور الافتتاح.
عند وصولهن إلى غرفتهن، قالت سيلا بإرهاق:
"أنا هنام شويه، بعدين ننزل."
ردت مي:
"وأنا كمان تعبانة، هنام جنبك شويه."
أما همسة، فقالت بحماس:
"لا، أنا هقعد في الفراندة وأرسم شويه لحد ما يغلبني النوم."
نامت سيلا مباشرة، بينما استلقت مي بجانبها. بعد ساعتين، استيقظت سيلا وحاولت إيقاظ مي وهمسة اللتين كانتا غارقتين في النوم. شعرت بالملل، فقررت تركهما، وبدلت ثيابها وأخذت كاميرتها، ونزلت للتنزه والتصوير على البحر.
بينما كانت تركز في التصوير، اصطدمت فجأة بشخص، مما جعل الكاميرا تسقط من يدها. نظرت إليها بدهشة وهمست:
"هو ده اللي كان ناقص!"
ابتسم عاصم ابتسامة غامضة دون أن ينطق، وهو يحاول تذكر مكان رؤيته لها من قبل.
تضايقت سيلا من نظراته وأسلوب ابتسامته، فصرخت بغضب:
"تصدق إنك معندكش دم وبتضحك؟"
دفعتْه بعيدًا عنها، ثم انحنت لالتقاط قطع الكاميرا المبعثرة دون أن تعتذر له.
عاصم، بهدوء، ابتسم بتكهن وتراجع بعض الخطوات إلى الخلف. لم ينطق، بل ترك المكان وهو يبتسم بخبث، ثم عاد إلى غرفته.
…
عادت سيلا إلى غرفتها غاضبة بعد أن جمعت بقايا الكاميرا المكسورة. وجدت مي مستيقظة تتثاءب وتقول:
"أنا جعانة جدًا، تعالي ننزل ناكل."
لكنها لاحظت ملامح الحزن على وجه سيلا وسألتها:
"مالك؟ والكاميرا دي مالها؟"
ألقت سيلا الكاميرا على السرير وقالت بضيق:
"خرجت أتمشى شويه، خبطت في واحد مستفز جدًا، والكاميرا وقعت واتكسرت. مش عارفة فين شفته قبل كده."
ردت مي بمحاولة لتهدئتها:
"سيبيها عليّ، معايا كاميرا تانية خديها، ودي تتصلح أو تشتري غيرها بعدين. ما تزعلش نفسك."
ابتسمت سيلا وقالت:
"ميرسي يا مي، دايمًا عندك الحلول."
مي بابتسامة ساخرة:
"أكيد، أنا مش أي حد."
ضحكت سيلا وأمسكت وسادة لتضـ.ـر.ب بها مي، ليبدأ بينهما شجار صغير بالوسائد. استيقظت همسة فجأة وسألت بـ.ـارتباك:
"إيه اللي بيحصل؟"
ضحكت مي وسيلا وأكملا المزاح معها حتى شاركتهما اللعب والضحك.
بعد فترة، قالت مي:
"كفاية هزار، يلا قوموا ناكل، أنا جعانة جدًا!"
أجابتها سيلا وهي تضحك:
"ماشي، يلا نجهز وننزل."
..
عاد إلى غرفته، يتذكر وجهها. تلمعت عيناه بمكر عنـ.ـد.ما استعاد الموقف. لكنه لم ينسَ. والآن، القدر يعيدها إلى طريقه. "أهلاً بكِ في جحيمي مرة أخرى."
قبل خمس سنوات، يوم تخرج أخته، عاد عاصم من السفر ليحتفل معها. أثناء دخولهم بسيارتهم شارعًا ضيقًا قرب الجامعة، لاحظ حركة غريبة: سيارة متوقفة بشكل مريب، وفتاة تقف خلف عمود إنارة، تمسك بحجر، مستعدة لرميه.
أوقف عاصم أخاه بسرعة وهتف: "وقف العربية على جنب بسرعة."
سأله معتز باندهاش: "في إيه؟" فأشار عاصم نحو المشهد أمامهم.
نزل كلاهما من السيارة بحذر، يدرسان الموقف، مستعدين لأي تصعيد قد يحدث.
عاصم أشار لمعتز بالتوقف مكانه وتقدم نحو الفتاة بحذر، محاولاً منعها من الإقدام على أي فعل تنـ.ـد.م عليه. لكنه لم يكن سريعًا بما يكفي؛ ألقت الحجارة في اللحظة ذاتها.
أسرع عاصم نحوها قبل أن تسقط في قبضة ذلك الشاب غريب الأطوار. أمسك بها وألقى نظرة خاطفة داخل السيارة ليفاجأ بشخص آخر يجلس بجوار فتاة شبه عارية بلا حراك.
تقدم معتز غاضبًا، ووجه للشاب ضـ.ـر.بة قـ.وية أسقطته أرضًا، ثم انهـ.ال عليه بلكـ.مـ.ـا.ت متتالية حتى نزف أنفه وتراجع مذعورًا. لكن معتز لم ينتبه للشخص الآخر الذي خرج .. السيارة ممسكا بعصا كبيرة وضـر.بة على رأسه لإجبـ.ـاره على ترك زميله.
بينما كان المشهد يزداد تـ.ـو.ترًا، وصلت فتاة مع شابين آخرين. صُدمت بما رأت من اشتباك محتدم، وحاولت التدخل، لكن الأمر تحول إلى معركة شاملة بين الجميع. وسط هذا الفوضى، ركضت الفتاة نحو صديقتها المرتجفة، واحتضنتها بحنان بينما أجهشت الأخرى بالبكاء، مرعوبة من هول ما يحدث.
عاصم، ببرود وحسم، أمسك بالشخص الذي كان يحمل العصا، وأحبط محاولاته للتصعيد. بمساعدة أخيه، تمكنوا من تقييد المعتدين، وفرض السيطرة حتى وصلت الشرطة والإسعاف إلى الموقع.
أمر الضابط بجمع الجميع إلى قسم الشرطة لأخذ إفاداتهم. تم اقتياد الشخصين المعتدين والشابين الآخرين، فيما حرص الضابط على تسجيل التفاصيل اللازمة.
على جانب، تحدث عاصم مع الضابط بهدوء، وأوضح بعض النقاط قبل أن يتجه مع أخيه إلى سيارتهما. قبل أن يغادر، ألقى نظرة أخيرة نحو الفتاة التي كانت تحتضن صديقتها المذعورة، ثم شاهدها تُنقل إلى سيارة الإسعاف التي أخذتها بعيدًا. بدون كلمة أخرى، استقل السيارة وانطلق، تاركًا خلفه المشهد بما يحمله من أسئلة عالقة في الأذهان.
بينما كان عاصم ومعتز في طريقهما إلى قسم الشرطة، زفر معتز بضيق: "آخرها ندخل القسم علشان شوية بنات شمال، واحدة مع شابين في العربية، واحدة جايه مع شابين، والتالتة واقفة تتفرج، ولما لاقت إنهم هيتكشفوا نبهتهم برمي الحجارة. ده مسلسل حمضان، دي تاخد جائزة أحسن ممثلة! أنت مش بترد عليا ليه؟"
عاصم استمع بهدوء ولم يرد. أكمل معتز: "عجبك اللي حصلنا فيه ده؟"
رد عاصم بهدوء و برود: "هنعرف لما نوصل، أهدى شوية، واتصل بأختك، شوفها روحت ولا لأ."
معتز زفر مجددًا وأمسك بهاتفه ليبلغها بضرورة العودة للمنزل فورًا.
وصلوا إلى قسم الشرطة، ودخلوا مباشرة عند وكيل النيابة حيث شرحوا له ما حدث. بعد الإدلاء بأقوالهم، عادوا إلى المنزل. صعد معتز إلى غرفته ليرتاح قليلاً، بينما صعد عاصم إلى غرفة أخته ليطمئن عليها.
طرق الباب ودخل، ليجدها تنهي مكالمتها مع شخص ما. فسألها برفق: "عاوزة تروحي لمين يا حبيبتي؟"
: "ممكن توصلني للمستشفى؟ صاحبتي عملت حادثة وأنا عاوزة أطمن عليها."
بقلم شروق مصطفى قصص الحياة
رد عاصم بهدوء: "حاضر يا قلبي، هغير هدومي وأجي أطلعك."
فرحت رودي وقالت: "ما تحرمش مني يا رب."
وصلوا إلى المستشفى، وهناك اكتشف أن شقيقته صديقة لإحدى الفتيات اللواتي كن في الحادثة.
بينما كان عاصم يفكر في الموقف، اهتز هاتفه فجأة، وكان معتز على الطرف الآخر: "أيوه يا عم، بتتفسح وسايبني لوحدي في الشغل؟ هقر عليك ."
حاول عاصم أن يبتسم بقدر الإمكان، وقال لمعتز: "قر براحتك يا عم، خلاص خلص الشغل اللي عندك بسرعة وتعالالي. نقضي يومين مع بعض، هستناك على الافتتاح."
أجاب معتز: "تمام يا ريس، هشوف الشغل الناقص هنا وأخلصه وأجي. يلا هسيبك بقى عشان أكمل شغلي، أنا بطمن عليك بس. يلا سلام."
"سلام." أغلق عاصم الهاتف، وأخذ نفسًا عميقًا. قرر أن ينزل إلى المطعم ليأخذ قسطًا من الراحة.
نزل من الغرفة في اتجاه المطعم، وقبل أن يدخل، لمحها هي واثنان آخرين. لمع في ذهنه فكرة ما لبداية لعبته. ابتسم ابتسامة خبيثة واقترب منهم بحذر حتى وصل إلى مسافة قريبة، ثم فجأة...
يتبع بقلم شروق مصطفى
↚
نزل الثلاثي إلى المطعم الخاص بالفندق وطلبوا وجباتهم. بعد قليل، وصل النادل بطلباتهم، وقرروا أن ينتهوا من تناول الطعام أولًا، ثم يكتشفوا المكان ويسألون عن مقر الشركة.
بعد أن أنهوا وجبتهم، قرروا التمشي قليلاً، وهم يثرثرون ويضحكون، حتى اقتربوا من حوض السباحة الكبير.
قالت مي: “نفسي أقعد هنا على طول، كل يوم أنزل في البسين ده، شكله رائع! ما تيجي ننزل شويه بعد ما نخلص شغلنا؟”
همسة همست: “الصراحة شكله مغري، بس مش مستعدة.”
سيلا ابتسمت بخبث وقالت: “طيب، لو تحقق لكم أمنياتكم، هتعملوا إيه؟”
ردا مي وهمسة معًا: “إزاي يعني؟”
قبل أن يكملوا حديثهم، دفعتهم سيلا فجأة إلى الحوض. سقطوا في الماء وبدأوا في السعال.
سيلا ضحكت وقالت: “حققـ.ـتـ.ـلكم أول أمنية!”
مي: “بس لما أطلعلك يا زفتة!”
همسة: “ماشي يا سيلا.”
استمرت سيلا في الضحك بصوت عالٍ حتى كانت بجانبهم في البسين، ما صدم مي وهمسة. رفعت سيلا وجهها للأعلى وصدمة أخرى عنـ.ـد.ما اكتشفت أنه نفس الشخص الذي دمر الكاميرا. نظر إليها بابتسامة انتصار ثم ترك المكان.
غضبت سيلا بشـ.ـدة وضـ.ـر.بت الماء بيديها وقالت: “ماشي، دا انت يومك مش معدي! يا أنا يا أنت!” ثم وجهت نظرًا ناريًا لمي وهمسة: “عجبكم كده؟”
همسة ضحكت قائلة: من حفر حفرة لأخيه وقع فيه.
بينما مي كانت تفكر للحظة في أين رأت هذا الشخص، لكن لم تتذكر. بدأت مي بنثر الماء على همسة، ثم اتجهوا جميعًا إلى سيلا. بعثروا الماء على وجهها وهي لم تنـ.ـد.مج معهم، فتركتهم وخرجت لتنظف نفسها.
أخرجت نفسًا عميقًا وقالت بغضب: “أه لو شفتك تاني…”
اتجهت سيلا إلى غرفتها بغضب شـ.ـديد، تلاحقها مي وهمسة. في المطعم، استمر هو في الابتسام لنفسه وهو يفكر: “دي البداية!” ثم أكمل طعامه وغادر.
سيلا في غرفتها، لم تتمالك نفسها، ودخلت الحمام تحت الماء البـ.ـارد لتخفف من غضبها، ثم غيّرت ملابسها. لم تهدأ، وكانت تفكر في الانتقام منه.
ظلت تذهب وتعود في الغرفة، تحاول تذكر أين راته، وتقول بغضب: “لو شفته تاني مش هسيبه!”
دخلت مي وهمسة، وحاولتا تهدئتها. فقالت مي: “هو ليه يعمل كده؟ ت عـ.ـر.فيه؟”
سيلا انفجرت: “وأنا إيه اللي يخليني أعرفه؟!”
ثم قالت بعنف: “لو شفته، مش هسيبه. هنزل أدور عليه تحت!” وحاولت دفعهما لتصل إلى الباب.
وقفت مي وهمسة أمام سيلا، يحاولان منعها من التوجه إلى الباب. قالوا لها: “استني بس، ما ينفعش تنزلي كده، اهدي الأول.” هرولت مي وأغلقت الباب بالمفتاح وأخذته في جيبها.
سيلا، وهي غاضبة، قالت: “لا، أنا نازلة! أبعدوا عني.” وصلت إلى الباب، ثم طرقت عليه بشـ.ـدة: “أفتحي الباب يا مي، بقولك، غوري من وشي دلوقتي!”
همسة حاولت تهدئتها: “اهدي، طيب، هنيجي معاكي، نغير هدومنا ونيجي معاك.” ثم دخلت همسة الحمام لتغيير ملابسها.
سيلا وجهت حديثها إلى مي: “سيبي المفتاح هنا.”
مي، بخوف، قالت: “لا، خليه معايا، اطمني.”
سيلا، رافعة حاجبها: “وأنا لو عاوزة أفتح الباب هغلب؟ ممكن أكلم روم سيرفس. أمشي يا مي من وشي.”
خرجت همسة سريعًا، ثم تربت على ظهر سيلا لتهدئها. مي هرولت لتغيير ملابسها.
فردت سيلا جسدها على السرير، وهمسة حاولت تهدئتها.
همسة، وهي تحسس شعرها: “اهدي يا حبيبتي، هندور عليه كلنا، ونعرف عمل كده ليه. أكيد مش قصده.”
غفت سيلا، بينما خرجت مي من الحمام. همسة أومأت لها بأن لا تتحدث، بينما مي حمدت الله أن سيلا نامت، ثم خرجت إلى الشرفة أمام البحر، تفكر في أين رأت هذا الشخص، وتحدثت مع نفسها: “مش غريب عليا، حاسة إني شوفته، بس فين؟”
سرحت قليلاً وهي تحاول تذكر أين رأت هذا الشخص. تذكرت حادثة المشفى، حيث حاولوا إنقاذ الفتاة التي كانت قد فارقت الحياة قبل أن تصل إلى المستشفى. أما الأخرى، فقد كانت فاقدة للوعي بعد تعرضها للاعتداء، وكان الأطباء في محاولات مستميتة لإنقاذها.
خرج الطبيب ليخبر مي بأن الفتاة قد فارقت الحياة بالفعل، ما أصابها بانهيار، فسقطت مغشياً عليها. بعد أن استفاقت، أخبرتها الممرضة أن حالة الفتاة الثانية خطيرة جداً وأنها بحاجة إلى دعم نفسي.
السرد الذي كتبته جيد، إليك بعض التعديلات الطفيفة لتدعيمه:
—
مي كانت في حالة صدمة شـ.ـديدة، لم تستوعب بعد ما سمعته عن صديقتها. فبصوت يرتجف، سألَت الممرضة: “هي عايشة صح؟”
الممرضة أجابت بصوت هادئ، محمَّل بالتعاطف: “هي حية، لكن حالتها النفسية سيئة جداً.”
مي، وقد بدأ ألمها يخف قليلاً، سألت بحيرة: “مين، مـ.ـا.تت؟”
الممرضة، بحزن، أجابت: “البنت اللي تعرضت للاعتداء.”
لم تتمالك مي نفسها، وقلبها المثقل بالحزن والارتياح في نفس الوقت، قالت بصوت مرتعش: “الحمد لله، سيلا متقلقيش، أنا هكلم أهلها، وأخويا هيجي في الطريق. لكن البنت الثانية، ما عنديش فكرة عن أهلها.”
الممرضة ابتسمت بلطف وقالت: “تمام ماشي أستريحي أنتي دلوقتي.”
لكن مي، رغم التعب الذي بدأ يظهر عليها، قالت بحزم: “لا، خذيني إلى سيلا، أطمن عليها.”
أومأت الممرضة برأسها، وأجابت: “تعالي معي.”
دخلت مي الغرفة، وعنـ.ـد.ما رأت سيلا ممددة على السرير، تملأ دمـ.ـو.عها عينيها. كانت عينا سيلا مغلقتين، وجسدها محاط بالأسلاك والأجهزة الطبية. قلب مي انقبض من الألم، لكنها حاولت أن تبقى قوية. قالت الممرضة برقة: “سيبيها دلوقتي، هي بحاجة إلى الراحة.”
نظرت إلى سيلا قبلت جبينها وشعرت بأهتزاز هاتفها ليظهر اسم والد سيلا فغادرت وأجابت بصوت مهزوز ضعيف: “أهلاً يا أونكل.”
ردت عليه بعد أن فهم تـ.ـو.ترها: سيلا أ.. سيلا تعبت شوية وجبناها المستشفى.”
أخبرته باسم المستشفى وأغلقت الهاتف. انتظرت بالخارج، حيث حضرت الشرطة وأخذت أقوالها، وأوضحوا لها أنهم في انتظار الشاهدة التي رأت الحادثة.
رودي اتصلت بها وقالت: “إيه ده؟ البنات زعلوا منك، فين سيلا؟”
ردت مي بصعوبة: “إحنا في المستشفى، سيلا مش كويسة، لسه مفاقتش. ادعي لها، محتاجين دعواتك.”
رودي قالت: “أنا هكلم أخويا أول ما يجي، وهخليه يوصلني.”
بعد مرور ربع ساعة، وصل محسن ونرمين مسرعين إلى المستشفى. وجدا العسكري واقفاً أمام غرفة سيلا، فتوجهوا مباشرة للطبيب الذي أخبرهم بكل التفاصيل، مشيراً إلى أنهم في انتظار أن تستفيق سيلا.
نرمين، وهي ترى مي في حالة انهيار، احتضنتها وقالت: “مي، حبيبتي، طمِّنيني، أنتي كويسة؟”
مي حكَت لها ما حدث، وتبادلا الدمـ.ـو.ع معاً. ثم سألَت نرمين: “وأنتِ شُفتي اللي حصل؟”
مي هزت رأسها نفياً وقالت بتردد: “لا، ما شُفتش حاجة. بس سيلا راحت تلهيهم عن البنت اللي معاهم.”
نرمين ربتت على كتف مي وقالت: “اهدي يا حبيبتي، إن شاء الله هتقوم بسلامة، كل شيء هيعدي.”
بعد دقائق، وصلت رودي، واحتضنت مي بشـ.ـدة، ثم دخلوا غرفة سيلا، حيث كانت مستلقية بوجه شاحب وعينين مغمضتين. نظرت رودي إلى مي وسألت: “إيه اللي حصل؟”
فاقت مي من شرودها عنـ.ـد.ما تحدثت همسة اليها: “ها بتكلميني؟”
همسة نظرت إلى مي وقالت بابتسامة: “أنتي مش هنا خالص! بقولك أكيد مش قصده يوقعها، مش كده؟”
مي ردت بحزن: “أنا شايفة إن اليوم كله راح على الفاضي. لا شغلنا اشتغلنا، ولا فسحنا استمتعنا. كل حاجة راحت.”
همسة ضحكت وقالت: “بس أنا ما ضيعتش وقتي، استغليت لما كنتوا نايمين واشتغلت شويه. الصراحة، أنتو صداع قوي.”
مي بابتسامة حزينة: “تصدقيني، كنت غلطانة إني بكلمك أصلاً. دلوقتي هنزل أتمشى شوية، تعالي نصحي سيلا وننزل. هتيجي معانا ولا هتفضلي ترسمي؟”
همسة: “أنا جايه معاكم. يلا نصحيها.”
حاولوا يوقظوا سيلا، لكنها كانت ما زالت نائمة.
مي قالت: “ياسيلا، قومي بقى، اليوم هيروح واحنا هنا. يلا ننزل نسأل عن الشركة الجديدة.”
سيلا فتحت عينيها بصعوبة وقالت: “آه، أنا مصدعة أوي.”
مي ردت: “نمتي كتير، يمكن عشان كده.”
سيلا: “ممكن تطلبي لي فنجان قهوة؟ دماغي هتنفجر.”
همسة: “طيب، يلا قومي، ننزل نشربها تحت. إحنا جايين نقعد هنا.”
سيلا أخيرًا حاولت النهوض: “طيب، طيب. هدخل أغسل وشي، وننزل نشرب قهوة مع بعض.”
…
داخل مكان مجهول، في جو يملؤه الغموض والرهبة، قال أحدهم بحدة:
“ها، قول اللي عندك.”
رد الآخر متلعثمًا:
“ياباشا، الجريدة شغال فيها أربع شباب وثلاث بنات. ودي ورقة مكتوب فيها تخصص كل واحد فيهم، وورقة تانية فيها عناوينهم.”
تناول الأوراق دون اكتراث، ثم قال بنبرة قرف:
“طيب غور انت بره، لو عوّزتك هندهلك.”
رد الرجل بخضوع:
“أوامرك يا باشا.” ثم غادر مسرعًا.
بدأ الرجل في تفحص الأوراق بعناية، ولمعت عيناه ببريق مريب عنـ.ـد.ما وقعت عيناه على اسم معين. قال لنفسه بنبرة مشوبة بالسخرية:
“ممم… طلعت بنت! شكلها هتحلو أوي.”
نادى بصوت عالٍ:
“تعالى يا زفت هنا!”
دخل أحدهم مهرولًا:
“أؤمر يا باشا، خدامك.”
ناول الرجل الورقة التي تحمل اسم الفتاة وقال بأمر حازم:
“خد دي، وهاتلي كل حاجة عنها. تحركاتها، بتاكل إيه، بتشرب إيه، بتروح فين… كل حاجة عنها. فاهم؟”
تردد الآخر قليلاً قبل أن يرد بخوف:
“ف… فاهم يا باشا.”
صرخ فيه:
“امشي يلا!”
خرج الرجل مهرولًا، بينما انفجر رئيسه في ضحكات عالية، قائلاً بصوت مشوب بالسخرية:
“كده اللعب هيحلو أوي.”
…..
بينما كانت سيلا تستعد لمغادرتها، رن هاتفها فجأة. رفعت السماعة وردت بحذر:
“ألو؟”
جاءها صوت متلعثم:
“أ… ألو.”
سألت سيلا باستغراب:
“مين معايا؟”
رد الصوت:
“أنا… لازم أشوفك ضروري.”
ضاقت سيلا ذرعًا وسألت بحدة:
“مين معايا الأول؟”
أجاب الصوت بعد تردد:
“أنا منى.”
قالت سيلا بعد أن تذكرت:
“آه يا منى! في إيه؟ صوتك مش طبيعي.”
ردت منى بتـ.ـو.تر:
“لازم أقابلك، الموضوع مش هينفع في التليفون.”
سيلا:
“أنا مسافرة ولسه مش هرجع. قولي اللي عاوزاه هنا. في حاجة جديدة؟”
منى حاولت أن تسيطر على قلقها وقالت:
“أيوه، حد غريب كلمني. مش عارفة هو مين، بس واضح إنه تابعهم. هدّدني إني ما أروحش المحكمة وقال لو شافوني هناك، هيعملوا حاجة فيا، وقفل المكالمة.”
سيلا بغضب:
“مش معقول! إيه الجبن ده؟”
منى:
“هما فاكرين إن الأدلة معايا، وده سبب التهديدات. أنا خايفة على نفسي وأولادي. مضطرة أختفي.”
سيلا، بعد لحظة صمت:
“ومش هتحضري المحكمة؟”
منى بأسف:
“ماقدرش. أنا آسفة، كان نفسي أساعد أكتر.”
ردت سيلا بغضب مكبوت:
“طول ما إحنا ساكتين، هيتمادوا أكتر. لازم حد يقف لهم.” ثم أغلقت الهاتف بعصبية بعدما رمقته بنظرة غاضبة.
على وقع صوتها العالي وارتطام الهاتف بالأرض، دخلت همسة ومي مسرعتين:
“مالك؟ بتكلمي مين؟ في إيه؟”
لم تجب سيلا، وبدلاً من ذلك، تركتهم ودخلت الحمام. فتحت المياه على وجهها محاولة تهدئة غضبها الذي اشتعل من المكالمة.
بعد دقائق، خرجت وقد استعادت بعض هدوئها، ثم ارتدت ملابسها بسرعة وقالت بنبرة حاسمة:
“يلا بينا ننزل.”
تبادلت مي وهمسة نظرات متسائلة، لكنهما لم تعلقا احترامًا لمزاجها، واكتفيا بالقول:
“يلا بينا.”
نزلت سيلا برفقة مي وهمسة إلى الكافيه. جلسن وطلبن مشروباتهن، وبدأن الحديث، لكن سيلا كانت شاردة الذهن. فجأة، وقع نظرها على رجل يجلس أمامها منشغلًا بأوراقه وهاتفه. شعرت أن ملامحه مألوفة، فحاولت تذكر أين رأته.
عادت بذاكرتها إلى يوم أفاقت من الغيبوبة. كان والدها قد هرع للطبيب بعدما فقد الأمل، والطبيب أخبرهم أن حالتها الجسدية مستقرة لكن الصدمة أفقدتها النطق، وأنها بحاجة لعلاج نفسي عاجل.
في الغرفة، بقيت همسة بجانبها، لكنها خرجت لاحقًا لإحضار قهوة. خلال غيابها، دخل رجل إلى الغرفة. بخطواته الواثقة وصوت حذائه، انتبهت سيلا لوجوده. تقدم نحوها وقال ببرود:
“كلمة واحدة هقولها وأمشي.”
نظر لها بازدراء وقال بحدة:
“عاوزك تقطعي علاقتك بأختي، سامعة؟”
لم ترد، فتابع بسخرية:
“فاقدة النطق زي ما بيقولوا؟ ولا بتمثلي زي التمثيلية البايخة اللي عملتوها انتي وصحبتك؟ بس للأسف صحبتكم مـ.ـا.تت… يا خسارة.”
اقترب منها فجأة، أمسك وجهها بيده وقال ببرود:
“هنشوف إذا كنتِ شمال ولا لأ، والطب الشرعي موجود.”
حاولت إبعاد يده عنها، لكنه أكمل:
“ما يشرفناش أن أختي تصاحب واحدة متهورة زيك. لو كنتي أخدتيها معاكي، كنت دمرتك بأيدي! تقطعي علاقتك بها وبصحبتك التانية، ومتحاولوش تكلموها تاني، مفهوم؟”
ثم غادر الغرفة بعنف، تاركًا إياها في حالة انهيار، تبكي وتتساءل بصوت مخـ.ـنـ.ـوق:
“ليه؟ أنا ذنبي إيه؟ بعد كل ده، هي مـ.ـا.تت؟!”
وأخيرًا تذكرته سيلا! ابتسمت ابتسامة غامضة، مما جعل الجميع يتساءل عن سببها. فجأة، قامت من مكانها، مما أثار قلق مي التي سألتها:
“مالك يا سيلا؟ في حاجة؟”
لكن سيلا لم ترد، بل أخذت كوب ماء من الطاولة وخرجت من الغرفة بهدوء.
تفاجأ الجميع بتصرفها المفاجئ، وظلوا يراقبونها بقلق. بعد لحظات، حدث ما لم يتوقعوه، مما جعلهم يضعون أيديهم على وجوههم من هول المفاجأة.
بعد الغداء، ذهب إلى غرفته ليأخذ قسطًا من الراحة. كان ماضيه يعصف به، ولم تنطفئ النار التي كانت تشتعل داخله منذ سنوات. حمل مسؤولية أسرته منذ أن كان مراهقًا، فافتقد طفولته ومراهقته. عايش شجارات والدته ووالده، وكان يسمع صراخهم يومًا بعد يوم، ما جعله يكره كل شيء وكل شخص.
تذكر كيف كان يحرص على حماية إخوته التوأم من هذه الصراعات، وعنـ.ـد.ما كانت تنشب مشاجرات بين والديه، كان يحاول إبعادهم عن الموقف.
ثم جاء اليوم الذي غيّر كل شيء. كان الأخ الأكبر في رحلة مدرسية، والأب مسافر للعمل. وفي تلك اللحظة، تلقى الأب مكالمة من ابنه الأصغر معتز، الذي كان خائفًا ويخبره بأنه سمع صوتًا غريبًا في البيت. طلب منه الأب أن يغلق باب غرفته ويحتفظ بأخته معه، وأوصاه ألا يخرج من الغرفة. لكن معتز كان في حالة من الذعر، وأخبره أن هناك شخصًا غريبًا في المنزل، وحاول التواصل مع عاصم ليخبره عن الموقف.
معتز كان يرتجف من الخوف وأخبر عاصم أنه سمع صوتًا غريبًا في غرفة والديه، مما جعله يشعر بالقلق. طلب عاصم منه أن يأخذ أخته ويغلق الباب بإحكام وأكد له أنه قادم فورًا.
وصل الأب بسرعة إلى المنزل، دخل مكتبه ليأخذ سلاحه ثم خرج ليجد عاصم أمامه، فطلب منه الصعود إلى غرفته مع إخوته وعدم الخروج مهما حدث.
عنـ.ـد.ما اقترب الأب من غرفة نومه، سمع أصوات غير طبيعية، ففتح الباب فجأة ليكتشف الموقف الصادم زوجته مع عشيقها! شعور بالغضب والخيانة دفعه إلى التصرف بسرعة، لإطـ.لاق النار عليهم ثم خرج مسرعًا ليطلب الشرطة، لكنه تفاجأ برؤية عاصم أمامه.
.الأب تحدث بصعوبة وهو يمسك قلبه: “أنت هنا من إمتى؟”
عاصم اغرورقت عيناه بالدمـ.ـو.ع وركض نحو والده قائلاً: “بابا”.
احتضنه الأب بشـ.ـدة، وطبطب عليه قائلاً: “آسف يا بني، آسف ليكم كلكم… كنت أتمنى لكم حياة أفضل، آسف… خلي بالك من أخواتك، اختك أمانة عندك”.
ثم انهار الأب في البكاء.
فجأة، سقطت أخته على الأرض مغشيًا عليها. بينما ظل معتز في مكانه، ساكنًا، ينظر إلى شيء أمامه، وكأن عقله قد شرد. أمامه صورة مؤلمة: والدته في وضع مهين مع شخص آخر.
عنـ.ـد.ما سمعوا صوت الرصاص، هرعوا إلى الغرفة ليجدوا الدماء تغمر السرير، والملاءة البيضاء قد تلوثت بالدم. الأب انهار من الصدمة، ولم يستطع الوقوف. عاصم ركض نحو أخته بينما بقي معتز فاقدًا للوعي، غير قادر على التعبير عن مشاعره.
اتصل الأب بشقيقه، وأخبره بما حدث، وأبلغ الشرطة. حضر أفراد الشرطة، وقاموا بتأمين مسرح الجريمة. تم القبض على الأب الذي اعترف بقـ.ـتـ.ـلهم دفاعًا عن شرفه.
ولكنه لم يتحمل الفاجعة، فسقط مغشيًا عليه بسبب أزمته القلبية، ورحل عن الحياة.
تنهد عاصم وأغمض عينيه، ثم غلبه النوم بسبب إرهاقه من طول اليوم.
بعد ساعتين، استفاق على اتصال من معتز.
معتز قال: “أنا خلصت وجاي في الطريق، هوصل الصبح إن شاء الله. عاصم، تيجي بسلامة؟”
أغلق معه على جلس على طرف السرير ونظر إلى ساعته، فوجدها العاشرة مساءً. غمض عينيه وأخذ يحرك أصابعه على جفنيه، ثم قام واتجه للحمام ليأخذ دشًا. بعد أن انتهى، ارتدى ملابسه، أخذ حقيبة العمل ونزل ليراجع بعض الأوراق.
أمسكت سيلا بكوب من الماء البـ.ـارد، ثم اتجهت نحو الجالس أمامهم دون أن يأخذ باله، وسكبت الكوب كله فوق رأسه. قالت بلهجة غاضبة: “مش أنا اللي هيتعامل معايا كده.”
ثم كادت أن تبتعد، لكن قبضته أمسكت بمعصمها بقوة، وقف فجأة وجذبها معه إلى الوراء. ركضت وراءه، بينما كانت تسبه بأفظع الكلمـ.ـا.ت. التفتت أنظار من حولهم إليهم، وزادت الهمهمـ.ـا.ت بين الناس.
كانت تتلوى تحت يديه من شـ.ـدة قبضته عليها، وصرخت: “سيب إيدي يا حـ.ـيو.ان، بقولك!”، لكن فجأة
↚
صرخت سیلا بصوت عال: “سيب إيدي بقى وحاولت تحرير يدها، لكن قبضته كانت أقوى.
جرها إلى مكان خال من الناس، وقال بصوت مخيف: “إنت عارفة أنا مين؟ وأقدر أعمل فيك إيه؟” ردت بسخرية: هتكون مين يعني؟ سيب إيدي أحسنلك، أنا زعلي وحش.”
نظر إليها بتحد: “وريني زعلك!” صرخت: “سيب إيدي للمرة الأخيرة” لكنه ظل ثابتًا.
في لحظة، باغتته بلكمة قوية على أنفه، تبعتها بركلة بين قدميه، فتراجع متألمًا. ابتعدت وهي تضحك بسخرية:
روح اللعب بعيد.
فرّت سيلا عائدة إلى الفندق بعد أن أفقدت خصمها توازنه بلكمة على الأنف، وصلت إلى غرفتها ولم تجد أحدًا، فأغلقت الباب وغفلت سريعًا.
في الخارج، كانت همسة ومي تبحثان عنها بقلق. قالت مي: “مش شايفاهم… أخدها فين؟ شكله مش هيسكتلها!”
ردت همسة: “تعالي ندور عليهم، أنا خايفة يعملها حاجة!”
بحثتا في كل مكان بلا جدوى. توقفت همسة وقالت: “ده شكله مش طبيعي… افتكرتي مين ممكن يكون؟”
قالت مي وهي تحاول تهدئة همسة: “تعالي نقعد الأول، متقلقيش على سيلا. أنا متأكدة إنها تعرف تدافع عن نفسها، لكن المشكلة إنه مش هيسيبها في حالها بعد كده.”
ردت همسة بتفكير: “ويعرفكوا منين أصلاً؟ ده شكله إنسان غير طبيعي! رحتي فين انتي كمان ساكتة كده؟”
سرحت مي قليلًا وقالت: “في حاجة افتكرتها… هو فيه شبه منه. بس أنا شوفته مرة واحدة من سنين، وحاسة إنه هو.”
نظرت لها همسة بعدم فهم: “مش فاهمة حاجة! وضحي.”
تنهدت مي وقالت: “طيب هحكيلك حاجة. فاكرة يوم التخرج والحادثة اللي حصلت؟”
ردت همسة بقلق: “آه، فاكرة… بس إيه اللي جاب سيرة الموضوع ده دلوقتي؟ مصدقنا إنها خلصت!”
قالت مي: “فاكرة رودينا صاحبتنا؟”
ردت همسة وهي تحاول التذكر: “تقريبًا… كنتوا دايمًا ثلاث أصحاب، صح؟”
مي: “ما علينا، المهم اللي حصل يومها إن رودينا جات المستشفى تطمّن عليّ، وكلمها أخوها في التليفون. قالتله إنها معايا وعرض يوصلني، وأنا وافقت وركبت معاهم.
اتصـ.ـد.مت لما شفته، لأنه نفس الشخص اللي أنقذها يوم الحادثة دي، واللي لولا تدخله كانت ضاعت هي كمان. لكن وقتها، من طريقته وكلامه، حسيت إنه بيهاجمنا واتنرفز جـ.ـا.مد.”
همسة: “إزاي بيهاجمكم؟ ذنبكم إيه أصلاً؟”
“بعد يوم الحادثة، جاءت رودينا إلى المستشفى للاطمئنان على مي. خلال وجودها، تلقت مكالمة من أخيها وأخبرته أنها مع صديقتها، فاقترح أن يوصلها. وافقت مي وركبت معهم.
ما إن جلست في السيارة حتى اكتشفت أن أخا رودينا هو نفس الشخص الذي أنقذها يوم الحادثة. لكن سرعان ما تحول الموقف إلى تـ.ـو.تر، حيث بدأ يهاجمها بعصبية. سألها بحدة عن سبب وجودهما في الشارع المشبوه في ذلك الوقت، وقاطع رودينا عنـ.ـد.ما حاولت الدفاع عنها، مطالبًا مي بالإجابة بنفسها.
حكت له ما حدث، لكنه انفجر غاضبًا واتهمهما بالتهور قائلاً إنهما أغـ.ـبـ.ـياء، وكيف يمكنهما السير في شارع يعرفان أنه خطير دون اتخاذ احتياطات، بل وتأخرهما عن طلب المساعدة عند رؤيتهما السيارة المشبوهة. أنهى كلامه بجملة خبيثة أزعجت مي، متهمًا صديقتها بأنها “عاملة نفسها راجـ.ـل”.
نظراته وصوته العالي جعلا مي ترتجف ورودينا تشعر بالتـ.ـو.تر. حاولت رودينا تهدئته، مبررة أن يومهما كان صعبًا، لكنه لم يهدأ وأكد أن تدخله في الوقت المناسب أنقذ الموقف، وإلا لكانت الكارثة قد وقعت.
في النهاية، اعتذر لها بطريقة جافة لم تخفف من استيائها، مما دفعها لطلب النزول عند أقرب مكان، وقد شعرت بالاختناق من الموقف بأكمله”
أخذت مي نفسًا عميقًا ثم استرسلت في حديثها. أخبرت همسة أنها عرفت لاحقًا من سيلا، التي تحدثت معها بعد تعافيها بثلاثة أيام، عن ما حدث في تلك الليلة. أخبرتها سيلا أن ذلك الشخص جاءها ليلًا بعد أن غادر والداها المنزل، ووقف أمامها بنظرة حادة وملامح غاضبة، ليطـ.ـلق كلمـ.ـا.ت جارحة مليئة بالاتهامـ.ـا.ت.
قال لها بلهجة قاسية: “طب شرعي وانتي شمال انتي وصاحبتك! وابعدوا عن أختي. ما حدش منكم يقرب منها تاني.”
كانت كلمـ.ـا.ته جارحة بشكل لا يحتمل، مما ترك أثرًا كبيرًا على سيلا. تابعت مي بمرارة: “ومن وقتها علاقتنا برودينا اتقطعت للأسف، والسبب هو الشخص ده… وأخوه كمان، اللي كان ألعن منه.”
سألتها همسة بقلق: “وأخوه عمل إيه؟”
هزّت مي رأسها وقالت: “ده موضوع طويل… أحكيلك عنه بعدين.”
… .
في مكان آخر مجهول، كان الشخص نفسه يتحدث في الهاتف:
“مرحبًا، أريد تجهيز طفلين للتنفيذ بعد يومين. سأصل بعد يومين لإتمام التجهيزات عند الطبيب وبنفس السعر.”
رد بدر: “آسف، لا يمكننا الآن. اعطنا بعض الوقت. تم القبض على طبيبنا، واعترفت الممرضة وأخذت صورًا وفيديوهات لنا. الصحافة تهاجمنا أيضًا. انتظر فقط لبعض الوقت.”
أجاب الشخص بلهجة غاضبة: “ماذا! هل أنتم مجانين؟ ما الذي تنتظرون؟ قوموا بتنفيذ الأمر الآن، أو سيتم تصفيتكم أنتم! سأتصل بكم لاحقًا لأتأكد أن كل شيء على ما يرام.” ثم أغلق الخط.
بعد انتهاء المكالمة، زفر وأجرى مكالمة أخرى، وقال: “نفذوا اليوم! أريد أن أسمع خبرهم جميعًا.” ثم أغلق الخط.
عادت مي وهمسة إلى الغرفة بعد أن يئسا من العثور على سيلا، وفوجئا بوجودها نائمة على السرير. تبادلتا نظرة متفاجئة وسألت مي: “جت إمتى دي؟” هزت همسة كتفيها، وأجابتها مي بأنها لا تعلم. ثم استلقيا بجانبها، منهكتين من يوم طويل.
بعد أن ضـ.ـر.بته، أفلتت سيلا يد عاصم وتراجعت إلى الوراء، بينما هو مصدوم من جرأتها. سمع صوتها وهي تبتعد قائلة: “مش عاوزه أشوف وشك مره تانية قدامي.” ثم تركته واختفت عن الأنظار.
أمسك عاصم بأنفه وهو يهددها في نفسه: “هتشوفي أيام معايا، صبرك.”
ثم ترك المكان غاضبًا، يلعن نفسه حتى رن هاتفه فجأة. استمع للمكالمة، مصدومًا من محتواها، وقبض على يديه بعنف.
رد أخيرًا: “تمام” وأغلق الخط. زفر بعمق، ثم ذهب إلى غرفته ليُنهي اليوم.
في صباح يوم جديد، استيقظت مي على صوت المنبه فوجدت الساعة السابعة صباحًا، فأطفأته وقررت أن تقضي صباحًا مختلفًا. قامت بأخذ شاور سريع لتنشيط نفسها، ثم تركت رفيقاتها نائمـ.ـا.ت وقررت الجري قليلاً. ارتدت ملابس رياضية ورفعت شعرها بطريقة فوضوية، ثم خرجت من الغرفة متوجهة إلى الاستقبال لتسأل عن مكان مخصص للجري.
في نفس الوقت، وصل معتز متعبًا ومرهقًا بعد رحلة طويلة، وتوجه إلى الاستقبال ليسأل عن شيء ما.
وصلت مي أولًا إلى الاستقبال وقالت: “لو سمحت؟”
لكن الموظف كان مشغولًا بالتقاط شيء قد وقع منه. وفي نفس اللحظة، وصل معتز وقال: “لو سمحت؟”
اعتدل الموظف ونظر مبتسمًا إلى معتز قائلاً: “معتز باشا، نورتنا يا فنـ.ـد.م، أخدمك بإيه؟”
رد معتز: “تسلم يا حبيبي، كنت عاوز…”
لكن مي قطعت حديثهم وقالت بنبرة حادة: “على فكرة، أنا جيت الأول وكلمتك الأول، مش من الذوق تسيبني واقفة وتكلمه هو.” كانت توجه كلامها للموظف دون أن تنظر إلى الشخص الذي كان بجانبها.
قال الموظف لمي: “آسف يا فنـ.ـد.م، ما خدتش بالي بجد.”
ثم نظر إلى معتز وقال مبتسمًا: “أستاذ معتز من أصحاب الفندق و…”
لكن مي قاطعته قائلة بغضب: “رغى، ميهمنيش صاحب ولا مش صاحب. أول حاجة تشوفني عاوزة إيه بعد كده، ابقوا رحبوا بيه براحتكم.”
شعر الموظف بالإحراج وألقى نظرة على معتز.
معتز رفع يده بقرف وقال: “خلصها الأول، مش ناقصين رغي على الصبح.”
نظرت مي إليه وقالت: “ما تحترم نفسك يا أخي، هو حد وجهلك كلام أصلاً؟” ثم تفاجأت عنـ.ـد.ما اكتشفت أنه أخو رودينا وصمتت لتتجنبه.
رد معتز عليها قائلاً: “إنتي عدي يومك معايا، مش ناقصك أنا.”
استشاطت مي من أسلوبه وقالت بغضب: “إيه بت دي؟ انت شايفني عيلة بتلعب معاك ولا إيه؟ ما تحترم نفسك، اجدع أنت! بتقول شكل للبيع على الصبح؟”
معتز نظر إليها بنظرة ذات مغزى، وكأنها تذكرته، وقال: “مش عجبك بت؟ يبقى أنتي أدري بنفسك، وغمز لها.”
صُدمت مي من تصريحه الحقير، وفتحت عينيها على أوسعها وقالت بغضب: “تصدق أنت؟ أنت بجد حـ.ـيو.ان، وقليل الأدب كمان!”
ثم رفعت يدها لتصفعه، لكنه أسرع وأمسك بها بقوة أمام الموظف، وعصر كف يدها بشـ.ـدة.
مي، بصوت عالٍ: “إنت غـ.ـبـ.ـي، سيب إيدي يا حـ.ـيو.ان!”
معتز، بتحدٍ: “أيوة، أنا حـ.ـيو.ان، والحـ.ـيو.ان ده بقى حيعرفك تكلمي أساتذتك إزاي.”
حاولت مي أن تبعد يدها عن قبضته وقالت: “إبعد بقى، بقولك والله هتنـ.ـد.م على اللي عملته زمان، واللي عملته دلوقتي كمان.”
معتز، بمكر: “إنتي هتنـ.ـد.ميني؟ طيب، أنا مستني أشوف هتنـ.ـد.ميني إزاي.” ثم ترك يدها وألقى نظرة استهزاء وقال: “أنا مستني، وريني هتنـ.ـد.ميني إزاي.”
نظرت إليه مي بقرف، وقبل أن تبتعد، ردت: “هتعرف بعدين!” كانت قد أقسمت داخليًا أنها سترد له كل ما فعله بها حتى الآن.
كان الموظف في حالة من الحيرة بين مي ومعتز، وكان يحاول تهدئة الجو قائلاً: “أستاذ معتز، يا أنسة، اهدوا، مفيش داعي لكل ده. حصل خير، أنا بعتذر لكم بجد، أنا السبب.”
لكن مي ومعتز كانا يتبادلان النظرات العدائية، وكأن كل واحد منهما يتوقع أن ينقض على الآخر أولًا.
أعاد معتز الحديث مرة أخرى إلى الموظف قائلاً: “إزاي بتوافقوا على نزلاء زي دول؟ ده مش هعدهالكوا، بس خلصوا الافتتاح النهاردة، ولينا كلام تاني. قولي رقم غرفة عاصم كام؟”
رد الموظف بخوف: “إحنا آسفين يا فنـ.ـد.م بجد. رقم الغرفة 901.”
ركضت مي بعيدًا عن معتز، والأحداث التي مرّت بها معه تتكرر في ذهنها. بعد أن استفاقت سيلا، ذهبت لزيارتها، ووجدت رودينا فرصة لسفر أخيها الأكبر، وبعد محاولات عديدة، وافق معتز على ذهابها. أثناء خروجها، التقت مي، وصممت على أن ترافقها، ترددت بسبب خوفها من معتز بعد الهجوم الذي تعرضت له سابقًا، لكن رودي أصرّت وقالت لها إنها لن تتركها في الشارع بمفردها، وأكدت لها أنها ستكون معها.
داخل السيارة، كان معتز يجلس في المقدمة، وعيناه تراقبان عقارب الساعة بعصبية. تأخرهم أزعجه بشـ.ـدة، وما إن لمح مي تقترب حتى تجمدت ملامحه للحظة. إنها هي، الفتاة التي كانت معهم يوم الحادث. نطق بغضب مكتوم: “مـ.ـا.تخلصوا بقى واركبوا، ولا هتفضلوا واقفين كده؟”
رودي استدارت إلى مي وأشارت إليها أن تسرع. مي، التي بدا عليها التـ.ـو.تر، تحركت بسرعة نحو السيارة وهي تهمس لنفسها عن إخوتها الذين لا يعرفون سوى الشجار. جلست في الخلف بصمت، لكن عينا معتز لم تتركها، التقاها عبر المرآة الأمامية وسأل بنبرة صارمة: “إنتو تعرفوا بعض من إمتى؟”
رودي، التي شعرت بتـ.ـو.تر الموقف، سارعت بالإجابة: “أنا ومي وسيلا نعرف بعض من أيام الجامعة.” لم يرد معتز، لكنه اكتفى بنظرة غريبة صاحبتها كلمـ.ـا.ت مشبعة بالسخرية: “ونِعمة المعرفة.”
عنـ.ـد.ما وصلوا إلى وجهتهم، التفت معتز إلى رودينا وقال ببرود: “انزلي، أنا في ورق مهم في الشركة هجيبه على سكة صحبتك.” فبادرت مي بالقول بسرعة: “لا، هنا كويس. مش محتاجة توصلني.” شكرته على عجل ودفعت باب السيارة لتنزل، لكن صوته أوقفها فجأة.
“استني عندك!” قالها بصوت جاف حمل تهديدًا مبطنًا أرعـ.ـبها. اهتزت يدها على مقبض الباب، وتركت الباب فورًا. سمعت صوت قفله فأصابها الذعر.
التفتت إليه مي بخوف أقرب إلى البكاء، وقالت بتلعثم:
“حضرتك قفلت الباب ليه؟ أنا… أنا عايزة أنزل. نزلني لو سمحت! مش عايزة توصلني، شكراً.”
لكنه أجاب بغضب مكتوم، سرعان ما تصاعد إلى صراخ مدوٍ:
“بت! انتي اخرسي بقى لحد ما أزفتك وأوصلك! ما أسمعش صوتك خالص، فااااااهمة؟”
اهتزت من نبرة صوته المهينة، لكنها تماسكت وردت بانفعال:
“وأنت بتزعق لي كده ليه أصلاً؟ ما سمحلكش تكلمني بالطريقة دي! تعرفني منين أصلاً عشان تتكلم معايا كده؟ نزلني هنا لو سمحت!”
ضغط على المكابح فجأة، فتوقفت السيارة بعنف على جانب الطريق. التفت إليها بوجه متجهم ونظرة مشبعة بالغضب، وقال بسخرية:
“شوفي يا ست الكل، مش عشان سواد عيونك يعني أنا هوصلك! فوقي كده بقى، ها؟ ولا عايزة تتشقطي؟ ما انتو واخدين على كده!”
تجمدت ملامحها من الصدمة، والدم يغلي في عروقها. تمالكت نفسها بصعوبة وقالت:
“إنت مريـ.ـض… بجد والله مريـ.ـض! ومش فاهم أي حاجة!”
ثم أدارت وجهها بعيدًا عنه، محاولة تفادي نظراته الحاقدة. شعرت أن الهواء داخل السيارة أصبح خانقًا، واحتقنت عيناها بالدمـ.ـو.ع، لكنها أبت أن تظهر ضعفها أمامه.
اتسعت عينا مي بصدمة من كمّ الاتهامـ.ـا.ت التي ألقاها عليها. ردّت بحدة وقهر:
“إنت مريـ.ـض… بجد والله مريـ.ـض! ومش فاهم حاجة.”
ثم أدارت وجهها نحو النافذة، محاولة تفادي نظراته الحقيرة التي جعلتها تشعر بالاختناق.
لم يعلّق معتز، بل التفت للأمام وأعاد تشغيل السيارة، وكأن شيئًا لم يحدث. للحظات بدا وكأنه استعاد هدوءه المصطنع، ثم نطق بنبرة تحمل استهزاء:
“وتعرفوا البنت التالتة كمان!”
مي سمعت كلمـ.ـا.ته، لكنها لم ترد، مكتفية بالنظر إلى الخارج. شعر بالضيق من صمتها، فرفع صوته قليلاً وقال بحدة:
“بتكلم أنا على فكرة!”
نظر إليها عبر المرآة الأمامية، ينتظر إجابة. لكنها، دون أن تلتفت، تكتفت وقالت ببرود:
“مش ملزمة أجاوبك على فكرة… ابقى اسأل أختك.”
ضغط بأسنانه غيظًا، ثم تمتم بصوت منخفض، لكنه مسموع بما يكفي لتثير كلمـ.ـا.ته استفزازها:
“معرفة هباب وأشكال زبـ.ـا.لة شمال… يومها مش معدّي لما أروحلها بس.”
مي شعرت بالغضب يتصاعد في صدرها، لكنها حاولت السيطرة على نفسها، مثبتة نظرها على النافذة لتجنب الانفجار. همست بغضب مكتوم:
“الأشكال الزبـ.ـا.لة دي… إنت تعرفها آه يا زبـ.ـا.لة!”
لم تدرك أن همسها كان مسموعًا بما يكفي ليصل إليه. فجأة، شعرت بباب السيارة يُفتح بعنف، ويد قوية تجذبها من ذراعها. قبل أن تستوعب ما يحدث، وجدته يهزها بشـ.ـدة، وجهه غاضب وكلمـ.ـا.ته كالسياط:
“أنا الزبـ.ـا.لة؟ يا زبـ.ـا.لة؟! إنتِ وصاحبتك الشمال اللي بتتشقطوا مع رجـ.ـا.لة عادي في الشارع!”
صرخت مي بألم، محاولة التخلص من قبضته:
“آه! أبعد عني! إنت إنسان مريـ.ـض ومـ.ـجـ.ـنو.ن… سيبني بقى!”
لكنه اقترب أكثر، وجهه مملوء بالغضب والاحتقار، وقال بفحيح:
“لو شوفتك تاني… مش هرحمك. سامعة؟”
تركها أخيرًا، ثم صعد إلى سيارته وأغلق الباب بقوة، منطلقًا بسرعة جنونية بعيدًا عنها.
مي وقفت مكانها، تشعر بالألم يشتعل في ذراعيها حيث أمسكها بعنف. انهمرت دمـ.ـو.عها وهي تهمس لنفسها:
“حـ.ـيو.ان… ومش طبيعي.”
نظرت حولها، ولاحظت أنها كانت قريبة من منزلها. هرولت بخطوات متعثرة، بالكاد تستطيع الوقوف من شـ.ـدة الخوف والصدمة. ما إن وصلت إلى غرفتها حتى ألقت بجسدها على الفراش وانهارت في بكاء مرير.
دفنت وجهها في الوسادة، وهمست بين شهقاتها:
“ليه؟ ليه يقول علينا كده؟ ليه؟”
فاقت من أفكارها عنـ.ـد.ما شعرت بشلالات من الدمـ.ـو.ع الساخنة تنهمر على وجنتيها. كانت تلك أول مرة تسمع فيها أحدًا يتحدث عنها بهذه الطريقة السيئة. شعرت بالإهانة، والغضب يشتعل في صدرها. لم تستطع تقبل فكرة أن يمر ما حدث دون رد. همست لنفسها بصوت خافت لكنه مليء بالإصرار:
“لا… لا يمكن أسيبه متهني وأنا أحرق في دمي كده!”
مسحت دمـ.ـو.عها بعنف، محاولة استعادة هدوئها، لكنها أدركت أن الغضب لن يهدأ بسهولة. قررت أن تفرغ طاقتها السلبية بأي طريقة. ركضت بلا هدف، وكأنها تهرب من ثقل الكلمـ.ـا.ت التي ما زالت تتردد في أذنيها.
مع كل خطوة، شعرت أن غضبها يتلاشى تدريجيًا، وتحل مكانه قوة جديدة، عزم على عدم السماح لأي شخص بتحطيمها مجددًا. عنـ.ـد.ما انتهت من الركض، كانت أنفاسها لاهثة، لكن عقلها أصبح أكثر صفاءً. عادت إلى الفندق مرهقة جسديًا، لكنها أكثر تصميماً على استعادة كرامتها وإعطائه درسًا لن ينساه.
مي دخلت إلى الغرفة لتجد سيلا جالسة على الفراش، وأمامها اللاب توب. كانت ملامحها متجمدة، وعيناها شاخصتين، وكأنها رأت شيئًا لا يُصدق. اقتربت منها وقالت بقلق:
“سيلا؟ في إيه؟ مالك؟ وشك أصفر كده ليه؟ انتي يا بنتي في إيه؟”
لكن سيلا لم ترد. كانت غارقة في صدمتها، لا تنبس ببنت شفة. شعرت مي بالذعر، فالتفتت تبحث عن همسة، ووجدتها نائمة في زاوية الغرفة. اقتربت منها وهزتها بخفة وهي تقول بصوت متـ.ـو.تر:
“همسة… اصحي! انتي كمان جاية تنامي هنا؟”
همسة فتحت عينيها بصعوبة، تتثاءب بسبب النوم:
“في إيه يا مي؟ بتصحيني بدري ليه؟ سيبيني أكمل نومي بقى.”
وكادت تغفو مرة أخرى، لكن مي جذبتها من ذراعها بعصبية قائلة:
“اختك مالها يا بنتي؟ أنا سيباكوا نايمين، قومي شوفيها! متنحة كده ومش بترد عليّ.”
نهضت همسة بفزع، وقد بدأت تشعر بالقلق من نبرة مي. قالت وهي تفرك عينيها:
“سيلا مالها؟ فيها إيه؟”
توجّهتا معًا نحو سيلا، حاولتا هزها لتفيق من صدمتها، لكن عينيها كانت ما زالت مثبتة على شاشة اللاب توب. نظرتا إلى الشاشة لتعرفا السبب، وبمجرد أن رأتا الخبر أمامهما، تجمدتا.
مي تمتمت بذهول، وقد بدأ عقلها يستوعب ببطء:
“مـ.ـا.تت… ده معناه إنهم…” ثم توقفت، لم تكمل الجملة، وكأن الكلمـ.ـا.ت خانتها.
همسة، التي لم تفهم بعد، نظرت بين أختها وسيلا بـ.ـارتباك وقالت:
“في إيه يا مي؟ فهميني! مين اللي مـ.ـا.ت؟ وسيلا مالها؟ حد يرد عليّ!”
…
داخل مبنى الداخلية صباحًا
كان الهرج والمرج يعم المكان، بينما اللواء أيمن الجابري يقف غاضبًا يصيح بصوت يملؤه الانفعال:
“ده تهريج! إزاي ده يحصل؟ إزاي وهو عليه حراسة مشـ.ـددة؟ إزاي ينتحر وكل ده وانتو نايمين؟!”
وجه حديثه لأحد الضباط قائلاً بغضب حاد:
“حضرتك متحول للتحقيق إنت والطقم اللي عندك لعدم المحافظة على السجناء! اتفضل!”
خرج الضابط من المكتب متـ.ـو.ترًا، وسرعان ما أجرى مكالمة بصديقه، الذي أجاب فورًا:
“اللواء محسن، لازم أقابلك ضروري، الموضوع لا يحتمل التأخير!”
رد اللواء محسن بقلق:
“حاضر، هعدي عليك في مكتبك. موجود إمتى؟”
أجابه اللواء أيمن:
“دلوقتي لو ينفع، الموضوع كبير، منتظرك.”
أغلق الخط، ثم تحدث لنفسه بغضب مكتوم:
“أغـ.ـبـ.ـياء! لازم تبعد لحد ما الأمور تهدى. مش هيسيبوها في حالها.”
بعد نصف ساعة، وصل اللواء محسن، والد سيلا.
دخل المكتب بعد الترحاب المعتاد وقال:
“خير يا أيمن؟ قلقتني لما قلت الموضوع لا يحتمل التأخير! أوعى تقول سيلا حصل لها حاجة!” ووضع يده على قلبه، يظهر عليه القلق.
كان اللواء أيمن قد تحدث سابقًا مع محسن بشأن وضع حراسة على ابنته بعد مكالمة تهديد تلقتها. هدّأه قائلاً:
“اطمّن يا محسن، بنتك بخير. لكن للأسف القضية كبرت جدًا. الطبيب مـ.ـا.ت مقـ.ـتـ.ـو.ل داخل السجن، والصبح لقينا جثة الممرضة مذبوحة ومرمية جنب النفايات بعد بلاغ باختفاءها!”
ارتعش وجه محسن من الصدمة وقال بصوت مختنق:
“إذن الدور على بنتي…!”
بدأ قلبه ينبض بسرعة، وأنفاسه تتقطع من الهلع. فزع اللواء أيمن وهو يرى حالته، وصرخ:
“محسن! محسن!”
نادى عسكريًا من الخارج:
“هات مية بسرعة!”
ظل يهوي عليه، فتح أزرار قميصه، وقدم له الماء ليشرب. بعد أن استعاد محسن بعض هدوئه، قال أيمن:
“اهدى، بنتك بخير وأنا أضمنلك إنها هتكون بأمان.”
نادى على العسكري مرة أخرى:
“هات ليمون بسرعة!”
عاد بعد لحظات، وبدأ أيمن يشرح الوضع بوضوح:
“اسمعني كويس، يا محسن. بنتك دخلت نفسها مع ناس خطر جدًا، الناس دي ما بيلعبوش. وراهم شخصيات تقيلة وأول حل عندهم لما الأمور تضيق عليهم هو القـ.ـتـ.ـل.”
تابع بجدية:
“بنتك تورطت بسبب آخر مقال نشرته، اللي فضحت فيه تفاصيل الجريمة بالكامل، بما في ذلك مكان الطبيب. حتى لو ما كتبتش اسمها، هم مش بالسذاجة إنهم ما يعرفوش توصلوا ليها. دي شبكة كبيرة جدًا، أطرافها في الخارج، ولما بيحسوا إنهم قربوا يتكشفوا، بيصفوا أي طرف داخلي.”
أضاف:
“بعد مكالمة التهديد، لازم سيلا تبعد عن الموضوع نهائي. للأسف، بموت الطبيب والممرضة، القضية تقريبًا انتهت. إلا إذا بنتك احتفظت بنسخة من الصور اللي كانت معاها. لو فكرت تلعب بيها ضدهم، مش هيسيبوها.”
رد محسن، وهو ما زال تحت وقع الصدمة:
“وفكرك، هي هتوافق تبعد؟ ولو أصرت على النبش وراهم؟ وهي لسه هنا؟”
ابتسم اللواء أيمن بثقة:
“لا تقلق، معاها ذئب الداخلية. مش هيديها فرصة تعمل أي حاجة. ولو فكرت مجرد تفكير، هنقدر نسيطر عليها.”
شكر محسن صديقه بامتنان:
“بجد، ما كنتش عارف أعمل إيه من غيرك.”
رد اللواء بابتسامة:
“احنا إخوات، ولا نسيت؟”
ضحك محسن وقال:
“أنسى إزاي؟ دي عشرة عمر.”
اختتم اللواء الحديث قائلاً:
“لسه كنت مع أحمد امبـ.ـارح، كنا بنتكلم على أيام زمان.”
بعد قليل من الحديث عن الذكريات القديمة، استأذن محسن للعودة إلى البيت، حيث تنتظره المهمة الأصعب: إقناع زوجته بسفر سيلا إلى الخارج حفاظًا على حياتها.
…
داخل منزل محسن
بعد شـ.ـد وجذب طويل بينه وبين نرمين، حاول محسن تهدئتها بينما كانت تصرّ بقلق:
“يعني حتى مش هشوفها وأسلم عليها؟”
أجابها محسن بحزم:
“لا طبعًا. همسه هترجع مع مي بعد ما يخلصوا الافتتاح النهارده، وهيوصلوا هنا بكرة الصبح إن شاء الله.”
لكن نرمين لم تكن قادرة على استيعاب الأمر:
“بس بنتي مش هتسكت، ولو رجعت مش هتنكش وراهم؟ أنا عارفة بنتي، يا محسن، سيلا مش بتسيب حاجة!”
تنهّد محسن وهو يتذكر كلمـ.ـا.ت صديقه اللواء أيمن، ثم قال محاولًا طمأنتها:
“متقلقيش، أيمن مطلع معاها أكفأ ظابط مخابرات على مستوى الداخلية كلها. هيعرف يتعامل معاها كويس.”
نرمين ما زالت قلقة:
“وأنت واثق إنه هيقدر يسيطر عليها؟”
أومأ محسن بثقة، ثم أضاف بتحذير:
“بس خلي بالك، أيمن نبهني على نقطة مهمة جدًا. لو اتكلمتي معاها النهارده، إياك تفتحي موضوع السفر أو أي حاجة من اللي قلناها.”
سألته بتـ.ـو.تر:
“ليه؟”
ردّ بهدوء لكنه كان جادًا:
“لأن لو نبهتيها، هتعمل أزمة كبيرة، ومش هنضمن هتعمل إيه. هي هتسافر فورًا بعد الافتتاح.”
تنهّدت نرمين مستسلمة وقالت:
“ماشي، مش هقولها حاجة. أهم حاجة إنها تبعد عن العصابة دي في أسرع وقت وتكون بأمان.”
نظر إليها محسن مطمئنًا، لكنه كان يعلم أن المهمة الحقيقية لم تبدأ بعد، والقلق على ابنته لم يفارقه لحظة.
في مكان آخر
كان الجو متـ.ـو.ترًا داخل غرفة مظلمة، حيث جلس رجل يرتدي بدلة أنيقة وخلفه نافذة تطل على مدينة تغرق في الأضواء. صوت مكالمة مشحونة بالتـ.ـو.تر انبعث من الهاتف أمامه.
الرجل الأول (بغضب):
“ماذا فعلتم؟ هل حصلتم على الأدلة؟”
الرجل الآخر (بتـ.ـو.تر):
“سيدي، تم تصفية الطبيب والممرضة كما أمرتم، لكننا لم نجد أي أدلة بحوزتهما، ولم نعثر على أثر للصحفية حتى الآن. القضية تم إغلاقها، تمامًا كما حدث في السابق.”
الرجل الأول (بتهديد واضح):
“استمع جيدًا… إن ظهرت الصورة الخاصة بي في أي مكان، سأمحو وجودك عن وجه الأرض. أفهمت؟”
الرجل الآخر (بصوت مرتجف):
“لا تقلق، سيدي. لم يظهر أي أثر لأي صور حتى الآن، وإن وُجدت، سأتصرف فورًا.”
الرجل الأول:
“جيد. وداعًا.”
أنهى المكالمة بغضب، ثم ألقى الهاتف بقوة على الطاولة. عيناه توهجتا بشراسة، وهو يفكر في الخطوة التالية للحفاظ على سرّه مهما كلفه الأمر
…..
استفاق عاصم على صوت طرقات الباب. فتحه بسرعة، وابتسم عنـ.ـد.ما رأى معتز أمامه. قال بابتسامة واسعة وهو يحتضنه:
“حمدلله على السلامة، حبيبي! تعال هنا.”
معتز، الذي بدا عليه التعب الشـ.ـديد، ردّ بصوت منخفض:
“آه، هلكان بجد وعاوز أنام، مش قادر.”
ضحك عاصم وهو يربت على ظهره:
“تعال ريح شوية، قدمنا يوم طويل جدًا اليوم، وأيضًا محضرلك مفاجأة هتعجبك جدًا.”
ابتسم عاصم بخبث، بينما أظهر معتز علامـ.ـا.ت القلق:
“مش مطمئن من مفاجأتك دي، حاسس وراها بلاوي… خير إن شاء الله؟”
ضحك عاصم وقال:
“لا، لما تريح شوية وبعدها نروح الفرع. هتكون الأمور أفضل!”
…
أخيرًا، تخلّت سيلا عن صمتها، وعينيها ممتلئتان بالدمـ.ـو.ع التي حاولت كبحها. قالت بصوت مخـ.ـنـ.ـوق:
“ليه؟ عملت إيه علشان تموت كده؟ عشان حاولت تظهر الحق؟ هل إحنا رخيصين كده؟”
همسة أرادت أن تواسيها، لكنها توقفت عنـ.ـد.ما أشارت مي لها بأن تتركها تكمل.
واصلت سيلا:
“هل ده جزاؤها؟ حاولت تكشف الحق وتُظهر الغلط، فكانت نهايتها كده؟ وأطفالها يتيموا؟ إحنا ما عندناش قيمة! بيقـ.ـتـ.ـلونا ويسـ.ـر.قونا عشان يعيشوا. شايفين الفرق؟ يختطفونا، يسـ.ـر.قونا، وأطفالنا يتخطفوا مننا كده!”
كانت كلمـ.ـا.تها محملة بالحزن، بينما همسة اكتفت بالصمت عاجزة عن تقديم شئ.
همست سيلا بألم: “عايزين يعيشوا على حسابنا احنا. دمروا أولادنا وبناتنا، وبيستغلوا شبابنا. ليه كده؟ ليه رخاص؟”
انهارت في بكاء مرير، فاحتضنتها مي وهمسة، وبكوا جميعًا.
قالت سيلا وسط شهقاتها: “أنا السبب، مقالي هو اللي كشفهم. أنا اللي وضحت التفاصيل، وكمان لما كلمتني، قلت لها إني معاها، ولكنهم غدروا بيها.”
مي حاولت تهدئتها: “ده نصيبها، مش أنتِ السبب. هي شافت شيء غلط، وبلغت عنه. أنتِ قابلتيها بالصدفة، وكتبتِ عشان تثيري الرأي العام، لكن في ناس خانت الأمانة وبينفذوا اللي عايزينه.”
مسحت سيلا دمـ.ـو.عها بثبات، وقالت: “لا، مش هكون ضعيفة. مش نصيبها كده. أنا هفضل وراهم لحد ما يوقعوا واحد ورا تاني زي الكلاب.”
مي، قلقًا: “ابعدي عنهم، هم مش قدك.”
سيلا هزت رأسها بنعم، لكن داخلها كان يعلن العصيان. كانت تعرف تمامًا أن ما تفكر فيه قد يكون خطيرًا، لكنها لم تعد قادرة على السكوت أو التراجع. كان هناك شعور قوي داخلها يدفعها للاستمرار، رغم تحذيرات مي.
مي: “أنا خايفة عليكِ، بلاش تأذي نفسك.”
همسة: “بقولكو إيه، فكّوا من جو الدراما ده، ياريتني ما جيت معاكم، أنتو الاثنين أوفر أوي.”
مي: “خليكي على جنب، يافنّانة، النهاردة هنسيبك، طول النهار إرسمي براحتك، عشان ورانا شغل أنا والأستاذة دي.”
همسة: “هتوحشوني أوي، متتأخروش عليا.”
مي: “بتتريق؟”
همسة: “ها، لا، أبداً.”
مي: “بقولكو إيه، عرفتوا شفت مين قبل ما أطلعلكم؟” وغيرت ملامح وجهها.
سيلا وهمسة: “مين؟”
مي: “أخو رودينا.”
سيلا: “أه مش ده اللي حميته إمبـ.ـارح بكوباية المياه.”
مي: “لأ، ليه أخ تاني؟ سقيل وملزق في نفسه، مش عارفة على إيه. اتعاركت معاه تحت في الريسيبشن وطلعو أصحاب الفندق.”
سيلا: “أصحاب الفندق؟”
مي: “آه، عاوزين نزبطهم بمقالات، خلي السياحة تنضـ.ـر.ب عندهم. ولاد اللي تيت دول.”
سيلا ضاحكة بمكر: حلو أوي بس إنتي دخلك إيه؟ أنا وليا عداوة معاه من زمان، هو اتصدر ليكي في حاجة؟”
سيلا: “اتنهدت بضيق. للأسف، آه. لكن محبتش أيامها، وقابلته النهاردة برده.”
سيلا شاركت مي مواقف قديمة وجديدة، مؤكدة أنها سترد الاعتبـ.ـار لكل ما حدث. همسة، التي لم تفهم ما يدور، قررت أن تجهز أدوات الرسم وتبحث عن مكان هادئ للرسم استعدادًا للمسابقة.
مي قالت لسيلا إنهما بحاجة للتحقق من أصحاب الفندق أولاً ثم العمل على نشر مقالات تفضحهم. ضحكت سيلا ووافقتها على ذلك، بينما ضحكت الاثنتان ضحكة شريرة.
همسة دخلت عليهما، مستهزئةً من تصرفاتهما المـ.ـجـ.ـنو.نة. ثم ألقى الاثنان عليها المخدات، فركضت همسة إلى الباب وقالت: “يا مامي، اللحقيني!”، وأغلقت الباب خلفها.
…
عاصم كان واقفًا بكامل أناقته في بدلته السوداء، وقد وضع أفخر العطور ومرّ بشعره قبل أن يوجه حديثه إلى أخيه الذي بدأ يغلبه النعاس: “ارتاح شويّة، خلي تليفونك جنبك ومتتأخرش. هخلص شوية حاجات هناك، تكون ارتحت، سامعني؟”
رفع الأخ يده ليؤكد أنه سمعه، فابتسم عاصم وقال: “ماشي، سلام.”
لم يكاد عاصم يخرج حتى رن هاتفه، فاستقبل المكالمة قائلاً: “عاصم، تحت أمرك يا فنـ.ـد.م.”
من الجهة الأخرى، سُمع صوت يقول: “أيوه يا عاصم، جاهز؟”
عاصم أجاب: “جاهز يا فنـ.ـد.م.”
رد الصوت: “نفّذ النهاردة بعد ما تخلصوا الافتتاح على طول، مفيش وقت، أنت عارف.”
أجاب عاصم: “عارف يا فنـ.ـد.م، متقلقش.”
ثم أغلق المكالمة وأجرى مكالمـ.ـا.ت أخرى، حيث قال في إحداها: “جهزوا لي طائرتي الخاصة، أريدها في مطار الغردقة الساعة… بدون تأخير. فاهم؟” ثم أغلق الخط وانتقل لمكالمة أخرى باللغة الألمانية قائلاً: “أهلاً سيدتي، سأحضر اليوم مع ضيف. أرجو تجهيز المكان قبل الحضور. إلى اللقاء.”
بعدها، توجه عاصم إلى مقر الشركة لمتابعة التجهيزات الخاصة بالحفل. كان الحفل يتضمن قطع الشريط الأحمر، ثم إلقاء كلمة، وبعد ذلك لقاء مع الصحفيين لالتقاط الصور وإجراء الحوار معهم. وفجأة
↚
توجه إلى مكتبه زافرًا بضيق، يحمل صورة بين يديه يتأملها بتهكم، قبل أن يستعيد تركيزه بعد مكالمة تطالبه بالتوجه فورًا إلى مبنى الداخلية.
دخل المبنى بثبات، يحيط به احترام الجميع، مكتفيًا بإيماءات سريعة حتى وصل الطابق الثاني. عند الباب، فتح الحارس له الطريق بخضوع، فدخل المكتب بخطوات واثقة.
أدى التحية العسكرية:
– “تمام يا فنـ.ـد.م، حضرتك طلبتني؟”
دفع اللواء ملفًا باتجاهه:
– “دي مهمتك الجديدة. قبضنا على عنصر، لكن الباقيين هربوا. عندنا عنصر ثالث تورط معاهم، وهو في خطر لأنه ممكن يكون معاه صور للمتهمين. المطلوب حمايته من غير ما يعرف إنه تحت المراقبة. كل التفاصيل في الملف.”
– “تمام يا فنـ.ـد.م. أي توجيهات تانية؟”
– “لا، تابعني بالجديد.”
أخذ عاصم الملف وغادر. ما إن فتحه ورأى الصورة حتى ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة:
– “حظك الأسود هو اللي جابك لي تاني… قربت المواجهة.”
….
بعد قليل، التقى عاصم بالمسؤول الذي سيتولى إدارة الشركة السياحية. استمر الحديث بينهما لبعض الوقت حتى قطعه اتصال من الأمن يُبلغه بوجود صحفيين من جريدة الأمل يرغبون بمقابلة صاحب الشركة.
أمر بحزم:
– “دخلهم قاعة الانتظار، ولا تسمح بدخول أي صحفي آخر، ولو اضطر الأمر، امنعهم من مغادرة المبنى.”
ثم وجه نظره نحو المسؤول قائلاً:
– “تقدر تتفضل دلوقتي، راجع اللي طلبته منك. وأول ما يوصل معتز والباقي، هننزل.”
رد أسامة باقتضاب:
– “تمام، بعد إذنك.” ثم غادر.
أمسك عاصم بهاتفه وأجرى اتصالاً بأخيه، لكن لم يجد إجابة. حاول مرة أخرى، دون جدوى، فنفخ بضيق:
– “وقتك يا معتز… قولتلك متتأخرش.”
انتظر قليلاً، واضطر للتوقف مجددًا حتى…
خرجت همسة تركض بابتسامتها، تحمل أدواتها وعلبة ألوانها، تبحث عن مكان هادئ تقضي فيه يومها بعيدًا عن الضوضاء التي أثقلتها منذ الصباح. ظلت تبحث حتى وجدت زاوية مثالية تلائم رغبتها.
ثبتت الحامل الخشبي، وضعت سكتش أبيض كبير أمامها، ووزعت أقلامها داخل كعكة شعرها المرتفعة. أخذت لحظة تتأمل المكان، تستوحي ما سترسمه، ثم بدأت تخطط بالقلم الرصاص، تضع أولى الخطوط بخفة. وضعت السماعات على أذنيها لتستمع إلى موسيقى هادئة، وانعزلت عن العالم من حولها، غارقة في تفاصيل لوحتها.
بقلم شروق مصطفى
لم تنتبه للعيون التي راقبتها منذ اللحظة التي وصلت فيها. كان يراقبها بصمت، وابتسامة خفيفة لا تفارق وجهه، يتابع حركاتها الدقيقة وكأنها لوحة حية. ظل مكانه حتى قطعه صوت هاتفه، فرد بهدوء:
– “خلاص، جاي دلوقتي.”
قبل أن يغادر، ألقى عليها نظرة أخيرة، وكأنها مشهد لن يتكرر. رحل بخطوات بطيئة حتى اختفى، متمنيًا أن يلتقي بها مجددًا.
…..
مي وسيلا خططتا بإحكام لما سيفعلانه مع هؤلاء المغرورين، وجهزتا أنفسهما بعناية، وأضافتا اللمسات الأخيرة على مظهريهما. قبل أن تغادرا، أعطت مي سيلا الكاميرا الخاصة بها، لكن الاتصال المفاجئ من والدة سيلا أوقفهما.
نظرت مي لسيلا باستغراب:
– “إيه ده؟ دي مامتك؟”
أجابت مي على المكالمة بابتسامة:
– “ألو، يا طنط! إحنا كويسين الحمد لله. سيلا جنبي، هأديهالك حالاً.”
أخذت سيلا الهاتف وقالت بلهفة:
– “ألو يا ماما، واحشتيني.”
بعد أن سمعت صوت والدتها، أجابت بتلقائية:
– “آه يا ماما، تليفوني وقع مني واتكسر، ونسيت تماماً. هكلمك من تليفون مي أو همسة. إحنا كلنا كويسين، متقلقيش.”
ثم أضافت بابتسامة دافئة:
– “حاضر يا ماما، هخلي بالي من نفسي. مع السلامة، وسلمي لي على بابا.”
بعد إنهاء المكالمة، نظرت مي لسيلا بحماس:
– “يلا بينا.”
دخلتا الفندق وتوجهتا نحو مكتب الاستقبال. سألت سيلا الموظفة بابتسامة:
– “لو سمحتي.”
أجابت الموظفة بلطف:
– “اتفضلي حضرتك، أقدر أساعدك في إيه؟”
سيلا بخبث خفي:
– “كنت حابة أعرف مين مدير الفندق هنا؟”
الموظفة باستغراب طفيف:
– “في مشكلة واجهت حضرتك؟ أقدر أساعدك أنا.”
سيلا بابتسامة ماكرة:
– “لا خالص، المكان عجبني جداً، والخدمة ممتازة. أنا صحفية وحابة أكتب عن نظافة المكان ومستوى الخدمة، وكنت محتاجة أعرف معلومـ.ـا.ت عن المدير.”
ردت الموظفة بحماس:
– “طبعاً، الأستاذ عاصم ومعتز الخولي هما المديرين، ولاد عم وشركاء في سلسلة شركات سياحية. لو حابة، ممكن أحدد لحضرتك ميعاد مع الأستاذ عاصم، هو موجود الأيام دي.”
سيلا بابتسامة واثقة:
– “أكيد، بس بعد ما أخلص شغلي اللي جيت عشانه. لما أرجع تاني أحدد معاد.”
سحبت مي خارج الفندق وقالت بخبث:
– “سمعتي؟ عندهم إيه؟ ظبطي كام صورة حلوة من اللي قلبك يحبهم.”
مي بتردد:
– “إنتِ بجد حتقابلي المدير وتحددي ميعاد معاه؟”
سيلا بضحكة خفيفة:
– “إنتِ هبلة يا بنتي؟! أقابل مين؟ أنا بقول كده عشان ما تشكش فينا بس. المهم، استني.”
أخرجت من حقيبتها بطاقة مدون عليها اسم الشركة وقالت:
– “تعالي نسأل على الشركة دي.”
أثار انتباههما تجمع كبير من النزلاء، فقالت سيلا بتعجب:
– “إيه ده؟ ليه الزحمة دي فجأة؟”
توجهتا إلى حارس البوابة وسألته سيلا:
– “لو سمحت، ممكن أعرف شركة A.M فين؟”
نظر الحارس للبطاقة وابتسم قائلاً:
– “هناك، الناحية التانية من الفندق.”
شكرتاه وتوجهتا إلى المكان. وجدا مبنى ضخمًا، وحاولتا الدخول، لكن الحارس أوقفهما قليلاً وتحدث مع سيده قبل أن يأذن لهما بالدخول. أشار لهما بالانتظار في الساحة القريبة لأن المدير مشغول.
…..
حاول عاصم الاتصال بأخيه معتز عدة مرات دون جدوى حتى تلقى مكالمة منه. قال معتز بصوت متهدج:
– “كنت في الحمام بأخد شاور عشان أفوق. خلاص جهزت، ودقايق وأكون عندك. كلمت وليد، هنقابله ونجي سوا.”
رد عاصم بهدوء:
– “تمام، اطلعوا على طول مكتبي. لازم نتكلم شوية.”
أنهى المكالمة معتز قائلاً:
– “ماشي، سلام.”
خرج معتز من الفندق والتقى بابن عمه وليد، وسأله:
– “فين أخوك؟ مجاش ليه؟”
أجاب وليد:
– “لسه قافل معاه، قال إنه في الشركة بيستقبل الوزراء.”
علق معتز وهو يشير بيده:
– “طيب، تمام. يلا بينا.”
وليد، ابن عمه الثاني البالغ من العمر سبعة وعشرين عامًا، شريك معهم أيضًا. يتميز بعيون زرقاء كلون السماء وشعر مائل إلى الذهبي، وشخصيته مرحة للغاية. يعشق عاصم ومعتز، فهم تربوا سويًا. أما أخوه الأكبر عامر، فهو متزوج من أخت عاصم، يبلغ من العمر ثلاثين عامًا، ولديه توأم في الثالثة من العمر.
اجتمع الجميع داخل الشركة وتوجهوا إلى مكتب عاصم، حيث انضم إليهم أسامة، المدير الإداري. بدأ الحديث عن ترتيبات الحفل.
وجه عاصم سؤاله لعامر وأسامة:
– “ها، الكل حضر تحت؟ تممتوا على كل حاجة؟”
رد عامر، ابن عمه، بثقة:
– “أنا رتبت كل حاجة بنفسي. الحفلة جاهزة، متقلقش.”
أضاف أسامة بابتسامة:
– “وأنا جهزت كل شيء تحت. الصحافة كمان حضرت.”
علّق معتز وهو ينظر للساعة:
– “طيب، يلا بينا ننزل. اتأخرنا عليهم.”
نهض الجميع متجهين نحو الساحة الكبرى لافتتاح الشركة الجديدة بموقعها الجديد.
الساحة كانت تحفة معمارية، تتميز بالرقي والتحضر. تضم عدة مكاتب بتصميم أنيق وشاشات عرض كبيرة تُبرز إنجازات الشركة وشركاتها التابعة منذ تأسيسها عام 1980 وحتى اليوم. على الشاشة، عُرضت صور لجدهم ووالدهم، ثم صور لكل افتتاح قامت به الشركة بعد ذلك، مع صور للشركاء والوكلاء داخليًا وخارجيًا.
المكان كان صرحًا عظيمًا يعكس تاريخهم وجهودهم، حيث زُودت المكاتب بشاشات صغيرة للترقيم، مما أضفى لمسة تقنية متقدمة على التصميم. افتتح الشركاء المكان وسط أجواء من الفخر والاحتفاء بإنجازاتهم.
كل شيء كان منظمًا كما يجب أن يكون. وصل عاصم إلى ساحة الانتظار حيث تواجد الصحفيون. كان قد أبلغ مسبقًا المحامي بإبلاغ صاحب جريدة “الأمل”، الأستاذ أحمد الأسيوطي، بضرورة تغطية الحدث، مع تأكيده على وجود صحفية بعينها لتغطية الافتتاح. لم يكن يعلم وقتها أن هذه الصحفية هي نفسها الفتاة التي تصادم معها قبل خمس سنوات في حادث غير متوقع.
اختيار عاصم لهذه الجريدة لم يكن صدفة، بل لأنه علم أن هذه الصحفية هي العنصر الثالث في قضيته، تلك التي أُوكل بحمايتها والحفاظ على حياتها. لكنه، في نفس الوقت، وجد الفرصة لاستغلال هذا الموقف لتكون تغطية الحدث حصرية لجريدتهم، مانعًا أي تدخل من صحفيين آخرين، ومشـ.ـددًا على الأمن بمنع دخول أي جهة إعلامية بخلاف جريدة “الأمل”.
أكد عاصم على الأمن إبلاغه فور وصول الصحفيين، كما شـ.ـدد على عدم السماح لهم بالخروج بمفردهم لأي سبب.
حين وصل إلى ساحة الانتظار، رأى الفتاة. كانت سيلا تجلس مع صديقتها مي، تتبادلان الحديث بينما تنتظران دورهما. نظر إليها بنظرة مكر، وكأن القدر يعيد نفسه. لكنها، عنـ.ـد.ما رفعت رأسها ورأته، اتسعت عيناها بدهشة وصدمتها لم تخفَ. نفس الحال بدا على مي، التي وقفت فورًا بجانب صديقتها، تحاول استيعاب ما يحدث.
أما عاصم، فقد تجاهل نار الصدمة التي أشعلها حضوره بالمكان، وواصل طريقه مع شركائه والوزراء لافتتاح المقر الجديد. قصوا الشريط الأحمر وسط تصفيق الجميع.
بينما كان الجميع منشغلين بالحدث، اقترب أحد رجال الأمن من عاصم وهمس في أذنه. أومأ عاصم برأسه وأجاب باقتضاب:
– “سأتولى الأمر بنفسي.”
استأذن من الحضور وتوجه مباشرة نحو سيلا، التي كانت تحاول التسلل للخارج وقفت أمام الباب، تحاول الحديث مع أحد أفراد الأمن، لكنه منعها.
اقترب عاصم بخطوات ثابتة حتى وقف أمامها مباشرة. رفعت رأسها لتنظر إليه، وقبل أن تنطق بكلمة، قال بلهجة هادئة ولكن صارمة:
– “رايحة فين؟ أظن إنه واضح إن محدش يخرج من هنا إلا بإذني؟.”
قالت بحدة:
– “أنا مش محتاجة إذن من حد.
اقترب عاصم من سيلا بخطوات ثابتة، خافضًا صوته ليضمن ألا يسمعه أحد، ثم ابتسم ابتسامة خبيثة وقال: “للأسف، وجودك هنا أصبح شغلي. ومش هسمح لك تخرجي من هنا.” وعنـ.ـد.ما شعر بأن الغضب بدأ يظهر في عينيها، قرر أن يضع حدًا لهذا الموقف، وأمر قائلاً: “تعالي نتكلم في مكتب فوق.”
سيلا، التي كانت في حالة من الغضب، ردت بعناد: “مش هتحرك من هنا، ولا عاملين معاك حوار. وهنطلع دلوقتي حالًا.”
عاصم، الذي لم يكن مستعدًا لمناقشة الموضوع، قال بهدوء بـ.ـارد: “ومين قالك إنك طالعة أصلاً؟” ثم وجه إليها أمرًا صارمًا: “يلا يا سيلا، قدامي على المكتب حالًا.”
رفضت سيلا أن تنصاع لأوامره، ومع تصاعد غضبها حملها عاصم على كتفيه وكأنها لا تزن شيئا، مما جعلها في حالة من الذهول والدهشة. حاولت مقاومته بضـ.ـر.به وركله، لكن محاولاتها باءت بالفشل. دخل بها إلى المكتب، وألقاها على أقرب مقعد، ثم حاولت النهوض، لكنه أحاط بذراعيه حولها ليمنعها من الحركة.
هتفت بغضب: “أنا مش مجبرة على فكرة أكمل!”
قال بنبرة بـ.ـاردة كالجليد وعينيه تغلفهما نظرة حادة: أنا هنا اللي أقرر لو كنتي فاكرة أنك هتخرجي من هنا أكيد غلطانة هتنزلي تغطي الحفلة للأخر.
في تلك اللحظة، تدخلت مي، التي كانت تراقب المشهد من بعيد، محاولة تهدئة الوضع. قالت بأدب: “أستاذ عاصم، ممكن أتكلم؟”
عاصم لم ينظر إليها، بل رد بصوت منخفض لكنه صارم في مواجهه سيلا: “عايزة إيه أنطقي؟”
قالت مي بسرعة، وهي تشعر بثقل الموقف: “أنا هقوم بكتابة الحوار بما إننا كنا متفقين على كده من البداية. سيلا مش متخصصة في السياحة، وأنا هأخذ مكانها.”
قاطعها عاصم، غاضبًا، وقال بصوت حاد: “متدخليش تاني.”
بنبرة حازمة: “إنتِ مش هتطلعي من هنا إلا لما أكون راضي عن شغلك. فاهمة؟”
ظلت سيلا تتابع غضب عاصم بصمت، لم ترد فورًا، لكن نظراتها كانت مليئة بالتحدي والمكر. كانت تعلم جيدًا أنها في مواجهة شخص لا يمكن التنبؤ بتصرفاته، ومع ذلك كانت مستعدة لملاقاة التحدي بعزيمة.
عاصم، الذي أدرك أن المواجهة قد بدأت، ترك لها المجال لتكمل، لكنه لم يخفِ عن عينيها تلك اللمعة التي تكشف عن صراع أكبر بينهما.
قال عاصم بصرامة: “أنتِ مش طالعة من هنا غير لما أكون راضي عن شغلك. فاهمة؟”
سيلا، التي كانت تتوقع تصعيد الموقف، أخيرًا خرجت عن صمتها وقالت بموافقة، رغم أنها كانت تدرك تمامًا أن المعركة قد بدأت. عاصم، الذي توقع هذه الإجابة منها، تركها تواصل، ثم قام معتدلًا في وقفته وقال: “يلا على تحت.”
نزلوا جميعًا إلى الأسفل، وأخرجوا الكاميرات ليبدأوا بتصوير بعض الرؤساء مع الشركاء. في تلك الأثناء، توجه عاصم نحو معتز، الذي كان يراقب الموقف بنظرات مشوشة. عاصم، الذي فهم أن معتز يترقب الأمور، أشار إليه أن يصمت قائلاً: “هفهمك كل حاجة بعدين. سيبهم يشوفوا شغلهم الأول.”
معتز، الذي كان يشعر بقلق متزايد، قال بتردد: “نفسي أعرف بتخطط لإيه من البداية. أنا حاسس إنك بدبر لشيء، لكن ما توقعتش أنهم لدول.” وأشار بيده إلى الفتيات اللواتي كانت تبدو عليهن علامـ.ـا.ت الاهتمام الغريب.
عاصم أخذ نفسًا عميقًا، ثم أخرجه ببطء، وقال بابتسامة خفيفة: “الشغل عاوز كده! هقوله لأ هسيبك دلوقتي هطلع أقول كلمتي؟”
كانت هذه التقديمه التي قالها منظم الحفلة وهو يقف على منصة مرتفعة بدرجتين، أمامه مايك وطاولة. وفجأة، ساد الصمت في القاعة. كانت الأنظار تتوجه جميعها إلى أ/عاصم الخولي، رئيس إحدى الشركات الكبرى “A.m”، الذي كان يقترب من المنصة.
دقت لحظة التـ.ـو.تر في الجو، وأصبحت كل التفاصيل أكثر وضوحًا؛ الحضور ينتظرون الخطوة التالية منه، متسائلين عما سيقوله. كانت هناك هالة من القوة حول عاصم، الذي كان يبدو هادئًا رغم الجو المشحون بالترقب.
رفع عاصم يده بلطف، وأخذ المايك، ثم نظر للحضور بعينيه الثابتتين. ابتسم ابتسامة خفيفة قبل أن يبدأ بالكلام، وكأن اللحظة كانت ملكه وحده.
“مساء الخير جميعًا. شكرًا لحضوركم اليوم، ولمنظمي هذا الحدث الرائع. هذا اليوم يمثل بداية مرحلة جديدة لنا جميعًا. نحن هنا لنبني، لنتشارك الأفكار، ولنتطلع إلى المستقبل.”
كان صوته ثابتًا، مليئًا بالثقة، لكن بدا أن خلف تلك الكلمـ.ـا.ت توجد نية أكبر من مجرد الحديث الرسمي…
انسحب عاصم بخطوات واثقة، بينما كانت تصفيقات الحضور تملأ المكان وتوثق الكاميرات كل لحظة. ابتسم عاصم للحضور قبل أن يتوجه الوزراء إلى الحفل المقام في الفندق. بقي عاصم مع شركائه، معتز وعامر، لمراجعة تفاصيل الحدث، بينما انسحب وليد مع الوزراء غارقًا في أفكاره عن تلك الساحرة التي أسرته من النظرة الأولى، متمنيًا لقاءها مجددًا.
أشار عاصم إلى سيلا ومي للانضمام إليه لإجراء حوار سريع حول إنجازات الشركة، حيث شاركت مي التفاصيل بينما بقي معتز متحفظًا حتى أسكتته نظرة حازمة من عاصم. انتهى الحوار بتسجيل سيلا لما دار، قبل أن يتوجه عامر ومعتز إلى الحفل.
أوصى عاصم مي بتوثيق كل ما تراه هناك، وأجابته بثقة. رغم الموافقة، كان عاصم متيقنًا من أن شيئًا ما يُدبر. تابع الجميع إلى الحفل، لكنه ظل مراقبًا سيلا ومي.
همست سيلا لمي قائلة: “الموضوع جا لصالحنا، مش هو اللي جابنا مخصوص؟”
ضحكت مي وأجابتها:
“ضـ.ـر.بنا عصفورين بحجر واحد.”
↚
بينما كانت سيلا ومي تمزحان وتضحكان، كان عاصم يراقب شفتيهما بحذر، فهو يعرف كيف يقرأ الشفاه. ثم قالت سيلا فجأة:
“مي، عاوزة تليفونك. هعمل مكالمة منه.”
أجابت مي وهي تمد لها الهاتف:
“اتفضلي.”
ابتعدت سيلا إلى زاوية هادئة وبدأت مكالمتها:
“ألو، أهلاً أستاذ أحمد. كنت عاوزة أستفسر من حضرتك عن شيء…”
سألت عن طلب شركه A.m، وأكد لها أحمد أن اسمها كان مطلوبًا بالذات. بعدها ذكرت له:
“وأنا سمعت إن الممرضة اتقـ.ـتـ.ـلت!”
ثم تابعت في دهشة:
“القضية لسه شغالة؟”
أجابها أحمد مؤكدًا أن القضية قد أغلقت بموتها، وتركها في حالة صدمة.
سيلا ردت بتوهان، غير قادرة على تصديق ما سمعته، بينما كان عاصم يراقبها بتركيز، يدرك أن شيئًا ما يحدث. عنـ.ـد.ما انتهت المكالمة، حاولت سيلا أن تتماسك، لكن دمعة ترقرقت في عينيها. سألها، “مالك يا سيلا؟ فيه إيه؟” لكنها ردت بتوهان، “لا، مفيش حاجة.”
لاحظ عاصم اختلال توازنها، وقرر متابعة تحركاتها. بينما كانت في حالة ضياع، طلبت سيلا شنطتها من مي، ثم همست لها:
“خليكي هنا وكلمي همسة، خليها تيجي هنا، أنا هدخل الحمام و جايه!”
أخذت شنطتها، وتوجهت إلى الحمام لتنفيذ خطتها التي أجلتها كثيرًا.
…..
استغرقت همسة ساعات في الرسم حتى اهتز هاتفها بمكالمة من مي. بعد أن تحدثت معها، قررت الذهاب إليهم، أثناء تجميع أدواتها، اصطدمت بشخص كان يتحدث في هاتفه، فسقطت هواتفهم وأقلامها. اعتذر الرجل بابتسامة وجمع الأقلام معها، وسألها عن لوحاتها. أخبرته أنها فنانة ولديها معرض، ثم أسرعت إلى قاعة الحفل.
بينما كانت همسة تراقب الرجل الذي اصطدمت به وهو يقف مع رجال الأعمال مبتسمًا لها، كانت تفكر في سبب تأخر سيلا ، بعدما قصت لها مي تـ.ـو.ترها بعد مكالمتها الهاتفية ودخولها الحمام، بينما لاحظت تـ.ـو.تر عاصم أيضًا، مما أثار اهتمام الجميع.
ظل عاصم يراقب سيلا حتى دخلت الحمام، ثم عاد للحفل لفترة قصيرة. بعدها اهتز هاتفه فابتعد قليلاً عن الضوضاء، حيث تحولت ملامحه إلى الغضب بعد مكالمة. ضغط على يده حتى شعرت عروقه بالتـ.ـو.تر، وأغلق المكالمة قائلاً: “استعجلتي أوي.”
أخذ عاصم عامر على جنب وأخبره أنه سيغادر في مهمة عاجلة، وأنه يجب على عامر إنهاء الحفل والتغطية على غيابه. عامر تفاجأ بالقرار، لكن عاصم طلب منه أن يرسل معتز مع الفتيات لتوصيلهن إلى بيوتهن.
عاد عاصم إلى الحفل بسرعة، وعنـ.ـد.ما وقف خارج الحمام، سأل العامل عن من كان بداخله. أخبره العامل بدهشة أن هناك فتاة واحدة فقط داخل الحمام. أمر عاصم العامل بالابتعاد، ثم هجم على الحمام ليجد أنه فارغ. لكن، سمع صوتًا قادمًا من أحد الأبواب.
ــــــــ ــــــ ـــــ ـــــــ
“انظروا إلى هؤلاء الذين لا يزالون على قيد الحياة، يعيشون حياتهم وكأنهم لا يهتمون بما فعلوه بنا. يخـ.ـطـ.ـفون ويقـ.ـتـ.ـلون، ويستولون على ما ليس لهم حق فيه، على حساب آلامنا وفقدنا. هؤلاء قـ.ـتـ.ـلوا الطبيب كي لا يكتشف أحد جريمتهم. نعم، هم يستحقون الحساب العادل، لكن أين حقوق الأبرياء الذين فقدوا حياتهم دون ذنب؟ أين حق الفتاة التي تعرضت للأذى بدم بـ.ـارد كي لا يعترفوا بجريمتهم؟
ماذا كان ذنب هؤلاء الذين لم يرغبوا سوى في العيش بسلام وأمان؟ هل ذنبهم أنهم فقراء؟ أم لأنهم لا يجدون من يساندهم؟
يُقـ.ـتـ.ـلون بلا مبرر، دون أن يجدوا من يدافع عنهم.
أطالب بالبحث عنهم ومعاقبتهم بأشـ.ـد العقوبات.”
(كانت هذه الكلمـ.ـا.ت مرفقة بالفيديو والصور الواضحة للمجرمين، حيث كانت تحتفظ بنسخة منها على اللاب توب. وعنـ.ـد.ما علمت بموت الطبيب وحفظ القضية، شعرت بالغضب وقررت أن لا تتركهم يعيشون حياتهم بهدوء. نشرتها على مواقع التواصل الاجتماعي واليوتيوب، وكذلك على موقع آخر. استغرقت أكثر من نصف ساعة داخل الحمام، كتبت فيها ونشرتها، وانتظرت حتى بدأ عدد المشاهدات والمشاركات في الارتفاع، وهاشتاج “حساب قـ.ـتـ.ـلة الأبرياء” بدأ يتفاعل أكثر فأكثر.
ابتسمت بانتصار، لكنها شعرت فجأة بأصوات تأتي من الخارج. أغلقت اللاب توب بسرعة ووضعته في حقيبتها، ثم فتحت الباب لتخرج. لكنها توقفت، متسعة العينين، ارتجفت قليلاً. لم تكن تتوقع أن يظهر لها أحد داخل الحمام…
وعنـ.ـد.ما وصلت إلى تلك النقطة، قالت بدهشة!:
“أنت! دخلت هنا أزاي
اقترب منها بسرعة، وعينيه ملؤها الغضب. هجم عليها بشكل مفاجئ، وكتم فمها بيده، بينما كانت لا تزال في حالة من الذهول، غير قادرة على استيعاب ما يحدث أو سبب وجوده هنا. تساءلت في داخلها: ماذا يريد مني؟ ولماذا يفعل هذا؟
كانت عيناها متسعتين، وهو قريب منها، ممسكًا بفمها كي لا تصدر أي صوت. قال بصوت منخفض ولكن حاد:
“مستعجلة على نهايتك؟”
لم تستطع فهم المقصد، وكانت مشوشة، تتساءل عما يجري. رغم أنها كانت قادرة على فك قبضته، إلا أنها كانت تحاول أن تفهم السبب وراء وجوده هنا. هزت رأسها بعنف، يمينًا ويسارًا، محاولة أن تجد إجابة.
أجابها بصوت أهدأ، لكن التهديد كان لا يزال في نبرته:
“ما تستعجليش كده، هي جاية قريب، للأسف مضطر أعمل ده دلوقتي.”
كانت كلمـ.ـا.ت غير واضحة، ولم تفهم منها شيئًا، لكن التـ.ـو.تر بدأ يزداد. حاولت التملص منه، وضـ.ـر.بت بكعب حذائها في قدمه بقوة، لكنه كان قد توقع تصرفها. ابتسم ابتسامة خفيفة، وقال:
“ولا أي حركة منك هتأثر عليّ. شكلك هتتعبي نفسك على فاضي، هريحك مؤقتًا.”
ثم، بحركة سريعة، ضغط بإصبعه على أسفل رقبتها، في المنطقة التي تسمى “الترقوة”، وفي لحظات قليلة، شعرت بأنها تغيب عن الوعي.
حملها بسرعة، وخرج بها من الباب الخلفي لتجنب أن يراه أحد. توجه إلى سيارته، وأدخلها برفق. أغلق الباب بإحكام، وعاد سريعًا إلى الداخل، حيث كان يعلم أن أخاه في حالة عصبية شـ.ـديدة، مما جعل الموقف أكثر تعقيدًا.
بينما كانوا في الداخل، لاحظوا أن الحفل قد انتهى، وأن الضيوف بدأوا في المغادرة، ما عدا الفتيات اللاتي بدت عليهن علامـ.ـا.ت القلق بسبب غياب “سيلا”. في ذات الوقت، كان صوت معتز يرتفع احتجاجًا على أمر ما، مما زاد من التـ.ـو.تر في الجو.
عنـ.ـد.ما وصل عاصم، كان في حالة من الانفعال، فأخبر معتز بضرورة توصيل الفتيات إلى بيوتهن. رد معتز بتعجب:
“استحالة أوصلهم، أنت عارف إني مش بطيقهم.”
عاصم رفع صوته بنبرة لا تحمل اي نقاش:
“معتز!”
في نفس الوقت، همسة قالت بقلق لمي: “مش موجودة! دورت عليها وما لاقيهاش.”
مي ردت بسرعة: “يلا نسألهم، يمكن يعرفوا راحت فين.”
اقتربت الفتيات منهم وانتظروا حتى ينتهوا من حديثهم. لكنهم تفاجأوا برد معتز، حيث قال:
“أنا مش هوصلهم، مش هكون سواق لهم، يرجعوا زي ما وصلوا.”
تدخلت مي بسرعة وقالت مستفسرة:
“ليه توصلنا؟ وهي فين سيلا؟”
عاصم سحب معتز بعيدًا عنهم وقال بجدية:
“اسمعني، أنا مسافر دلوقتي عندي شغل، طمنهم على سيلا. بعدين هفهمك كل حاجة، لكن دلوقتي لازم توصلهم لبيوتهم.”
ركب عاصم سيارته بسرعة، بينما عاد معتز إلى الفتيات وقال بنفاذ صبر:
“يلا، جهزوا نفسكم، هوصلكم لبيوتكم.”
مي، التي كانت مشوشة، قالت بقلق:
“فين سيلا؟ ليه مصمم توصلنا؟ إحنا مش صغيرين، زي ما جينا هنروح.”
معتز، وقد بدأ نفاذ صبره، رد بسرعة:
“خمس دقايق، وتكونوا جاهزين والأ، ما تزعلوش.”
وليد، الذي كان يتابع المشهد عن كثب، تدخل وقال:
“أنا هأجي معاك يا معتز. يلا، بنات، بسرعة.”
همسة، والدمـ.ـو.ع في عينيها، قالت بحزن:
“فين سيلا؟ محدش شافها طيب! مش هنمشي إلا لما تكون معانا.”
مي، بنبرة حازمة، قالت:
“مش هنروح معاكوا.”
جذبت همسة يد مي وسحبتهما للخروج. لكن معتز ووليد لحقا بهما عند باب القاعة، مانعين إياهما من الخروج.
معتز، وقد بدأ يفقد صبره، قال بصوت حاد:
“مفيش خروج. وهتركبوا معايا أوصلكم، بلاش أستخدم العنف.”
لكن وليد تدخل بسرعة محاولًا تهدئته:
“اهدي يا معتز، مش كده هتخضهم منك. في ايه؟ لكل ده؟ يلا بنات، هنعرف مكان سيلا قريب، عاصم أكيد عارف فين هي. متقلقوش، هنمشي دلوقتي وهنطمن عليها.”
همسة قالت بتردد:
“أنا هطلع أجيب حاجتي من فوق.”
مي ردت بسرعة:
“وأنا كمان هجي معاكي.”
معتز نظر إليهما بعينين حادتين، وقال بحزم:
“متتأخروش، خمس دقايق لو مخرجتوش هدخلكوا. فاهمين.”
بسرعة، بدأ الجميع يتحرك نحو الوجهة المحددة.
↚
صعدت همسة إلى أعلى بسرعة مع مي، التي كانت مرتبكة وتتحرك بتـ.ـو.تر، قلقة على صديقتها والخوف يسيطر عليها: “يا ترى اختفيتي فين؟ والأغـ.ـبـ.ـية اللي تحت مش راضين يقولولنا ليه!”
همسة: “أنا خلصت، يلا يا مي قبل ما الهمجي ده يدخل علينا، أنا خايفة منه أوي.”
مي: “أنا أصلاً مش طايقاه، إزاي هيوصلنا طول الفترة دي!”
همسة: “أنا قلبي واجعني على أختي، هقول لماما وبابا إيه لما يسألوا؟ لازم نبلغ الشرطة على اختفائها. أكيد حصل…”
قاطعتها طرقات حادة على الباب، تلاها صوت معتز: “يلا، الخمس دقايق عدوا، أنجزوا!”
أنهت مي سريعاً جمع أشيائها، وخرجن ليجدن معتز واقفاً عند الباب، يضع يديه في جيوبه وينظر إليهن بحدة: “يلا قدامي.”
تحركن أمامه بخطوات متـ.ـو.ترة حتى وصلوا إلى السيارة. ركب وليد بجانب معتز، وانطلقت السيارة بهم جميعاً.
جلس بجانبها في السيارة، مراقبًا ارتجاف جسدها النائم من شـ.ـدة التعب والقلق. دون تردد، خلع سترته وألقاها فوقها بلطف، محاولًا أن يمنحها شيئًا من الدفء. عادت به ذاكرته إلى المكالمة التي تلقاها من اللواء قبل مهاجمتها في القاعة.
كان الحديث حاسمًا؛ الصور والفيديوهات التي انتشرت كالنار في الهشيم على صفحات الميديا جعلت الوضع أكثر خطورة. المطالبات بأقصى العقوبات ملأت الساحة، وكان واضحًا أن هناك من يسعى للإيقاع بها. أمره اللواء بحزم أن يخفيها عن الأنظار فورًا، فالخطر أصبح أكبر من أي وقت مضى.
عاد إلى الواقع، وألقى نظرة عليها، تمتم ساخرًا:
“غـ.ـبـ.ـية… ولسه مصرة تعرضي نفسك للهلاك؟”
ابتسم بسخرية، وعيناه تتأملان الطريق:
“فاكرة نفسك هتغيري العالم لوحدك؟ هتوقفي اللي بيعملوه؟ طيب إحنا هنا ليه؟”
أعاد تركيزه إلى الطريق أمامه، مهيئًا نفسه لما ينتظرهما، وعقله يدور بين التحديات القادمة وما يجب عليه فعله لحمايتها.
ساد الصمت داخل السيارة، وكأن كل فرد فيها محاصر بعالمه الخاص. وليد شارد بأفكاره، تائه في سحر امرأة خطفت عقله بلا رجعة. مي وهمسة تجلسان بصمت مثقل، مشغولتان بالقلق على اختفاء سيلا المفاجئ. أما معتز، فقد بدا ضيقًا من كل شيء، خاصة من تصرفات أخيه التي وضعته في موقف لا يحسد عليه.
الطريق طويل وممل، ومع الوقت بدأ النعاس يتسلل إلى معتز، فتمتم بصوت مبحوح:
“قربنا على ريست… محتاج قهوة أفوق. حد عايز حاجة؟”
رد وليد سريعًا: “آه، ياريت.”
أما مي وهمسة، ظلتا صامتتين، غارقتين في قلقهما.
عنـ.ـد.ما توقفت السيارة عند محطة استراحة، التفت معتز إليهم:
“لو عايزين تنزلوا أو تشربوا حاجة، يلا.”
همسة هزت رأسها بالرفض، مفضلة البقاء في السيارة، بينما نزلت مي لتشرب فنجان قهوة وتستعيد شيئًا من تركيزها.
رافقها وليد وطلب لهما القهوة، ثم التفت إليها قائلاً:
“ارجعي أنتي، وأنا جاي وراكم.”
عاد وليد ومي إلى السيارة ليجدا همسة قد غلبها النوم. صعدت مي بجانبها، متأملة وجهها المتعب قبل أن تقطع الصمت بسؤال وجهته إلى وليد:
“لو سمحت، ممكن أسألك سؤال؟”
أجابها وليد بهدوء: “طبعًا، اتفضلي.”
قالت بتردد: “ما تعرفش سيلا فين؟”
أجابها بأسف: “للأسف، معرفش حاجة.”
تنهدت مي بحيرة واضحة، قبل أن تهمس: “طيب…”
لم تمر لحظات حتى صعد معتز إلى السيارة، ليلمح أنهما كانا يتحدثان، فسأل بحدة:
“مالكم سكتوا أول ما ركبت؟ في حاجة؟”
رد وليد بنبرة طبيعية: “لا أبدًا، كانت بتسألني عن سيلا وقلت لها معرفش حاجة. أنت تعرف عنها حاجة؟”
زفر معتز بضيق قبل أن يرد بهدوء مصطنع:
“سيلا مع عاصم دلوقتي. هو اللي خلاكم تيجوا الافتتاح مخصوص. بس طالما هي مع عاصم، يبقى تطمني… هي في أيد أمينة. أول ما يكلمني، هبلغكم.”
ارتبكت مي من الإجابة، وقالت بدهشة غير مصدقة:
“سيلا مع عاصم؟! إزاي؟ الاتنين عمرهم ما طاقوا بعض!”
رد معتز بجمود: “ده اللي قالهولي. معرفش أكتر من كده. أنا مكلف بس أوصلكم، والباقي مش شغلي.”
مي ظلت صامتة، تنظر من النافذة وعقلها يعج بالتساؤلات:
“عاصم؟ إيه اللي ممكن يكون عايزه منها؟ إحنا من يوم الحادث وكل واحد بعيد عن التاني… غريب جدًا!”
وزّع معتز القهوة على الجميع، ثم وقف يستريح قليلاً قبل أن يمد يده إلى كيس كبير مليء بالكيك والعصائر والشوكولاتة. رفعه نحو مي قائلاً بنبرة جادة:
“أكيد ما أكلتوش حاجة… اتفضلي.”
نظرت مي إلى الكيس وهي تشعر بالجوع، لكنها ترددت وأجابت بخجل:
“ميرسي… مش جعانة.”
أدارت وجهها إلى الناحية الأخرى لتتجنب الموقف، لكن صوت معتز الحازم جعلها تعود:
“أنا مش بحب أعيد كلامي كتير. وبعدين ده مش ليكي لوحدك، ده لينا كلنا… يعني هتوزعيه علينا، امسكي بقى!”
كان صوته في الكلمة الأخيرة أكثر صرامة، مما جعلها تمسك الكيس سريعًا دون نقاش. وحين لامست أصابعها البـ.ـاردة يده، لاحظ برودة يديها من المرآة الأمامية، وأخذ يتابعها بنظراته.
دون أن يتحدث كثيرًا، خلع جاكيته وأعطاها إياه بنظرة تحمل أمرًا واضحًا:
“البسي ده… ومن غير كلام.”
نظرت إليه بدهشة وهمّت بالاعتراض:
“بس أنا…”
قاطعها بجديته المعتادة:
“قلت البسي وخلصيني.”
تناولت الجاكيت بتردد وارتدته، مستغربة من ملاحظته أنها تشعر بالبرد. بعد لحظة من الصمت، نظرت إليه وسألت بتردد:
“ممكن سؤال… بس متتعصبش؟”
نظر إليها من المرآة الأمامية، وقال بنبرة متزنة:
“قولي.”
ترددت قليلًا قبل أن تضيف:
“يعني… أنت على طول كده؟”
رفع حاجبه مستفسرًا:
“إزاي يعني؟”
خفضت صوتها وقالت بخجل:
“يعني… متعصب مع الكل؟ أنا كل مرة بشوفك فيها بتبقى متعصب.”
شعرت بالخوف من ردة فعله، فغطت وجهها بيديها كما لو أنها تختبئ. لكنه ابتسم لأول مرة، متسليًا بحركتها الطفولية، وقال بلهجة أخف:
“شيلي إيديك، مستخبية ليه؟”
أنزلت يديها ببطء وقالت بحذر:
“يعني… مش هتزعق لي؟”
عنـ.ـد.ما رأت ابتسامته، شعرت بالاطمئنان وابتسمت بدورها، قبل أن تضيف ممازحة:
“ما أنت بتضحك أهو، زينا يعني! أمال مالك، يا عم التنين؟”
رفع حاجبه مجددًا وقال بابتسامة خفيفة:
“تنين؟!”
قبل أن يرد، تدخل وليد وهو يضحك:
“أحم… أحم… مش هتاكلونا بقى ولا إيه؟ أنا متت من الجوع!”
انفجر الجميع ضاحكين على كلمته، مما أيقظ همسة التي كانت تغفو بجانبهم. اعتدلت في جلستها وسألت بقلق:
“لقيتوا سيلا ولا إيه؟”
التفتت إليها مي وطمأنتها:
“على الأقل عرفنا هي فين. سيلا مع عاصم، وهو هيجيبها. متقلقيش.”
تنفست همسة الصعداء، وقالت بتأثر:
“بجد؟ الحمد لله، كنت هموت من القلق عليها.”
رد وليد تلقائيًا:
“بعد الشر عليكِ.”
ساد الصمت للحظات، قبل أن تفتح مي الكيس وتبدأ بتوزيع محتوياته عليهم.
مرت ساعات طويلة، ومع شروق الشمس، توقفوا عند منزل مي لتوصيلها، ثم منزل همسة، قبل أن يتوجهوا أخيرًا إلى وجهتهم النهائية.
فاقت سيلا ببطء كأنها لم تنم منذ زمن طويل. شعرت بثقل في جفونها، فتحت عينيها بتردد، لتجد نفسها في مكان غريب. رمقت الغرفة بنظرات مضطربة، ثم همست لنفسها بتساؤل:
“إيه ده؟ أنا فين؟”
حاولت أن تسترجع ما حدث. آخر ما تتذكره كان وجودها في حمام القاعة، ثم هجوم عاصم عليها. وضعت يدها على رأسها عنـ.ـد.ما شعرت بصداع حاد. عادت تنظر حولها بدهشة وقلق:
“إيه المكان ده؟”
رمت الغطاء عنها ونهضت بسرعة. توجهت إلى النافذة، فتحتها، وتجمّدت في مكانها من الصدمة. المنظر الخارجي كان غريبًا تمامًا، أشجار كثيفة تحيط بالمكان، والجو بدا معزولًا عن العالم. تراجعت وهي تتمتم بـ.ـارتباك:
“فين أنا؟”
لم تلبث أن لاحظت شيئًا غريبًا آخر. نظرت إلى نفسها، كانت ترتدي “ترنج” قطني وردي لا يخصها. عقدت حاجبيها بدهشة:
“إيه ده؟ مين اللي غير لي هدومي؟!”
الغرفة نفسها كانت بسيطة للغاية، كل شيء فيها مصنوع من الخشب: سرير في منتصفها، دولاب صغير، طاولة وكرسيان. شعرت بالاختناق، وقررت الخروج بسرعة لفهم ما يحدث.
خطت خطوات متسرعة نحو الباب، فتحته وخرجت إلى ممر خشبي، ثم بدأت تنزل درجات سلم خشبي يقودها إلى الطابق الأرضي. كانت تركض بخوف وارتباك حتى وصلت إلى صالة واسعة. الغرفة كانت تحتوي على مدفأة وحطب، وكل شيء فيها يوحي بالعزلة والهدوء الغريب.
رأت بابًا أمامها، هرعت إليه بسرعة وبدأت تحاول فتحه بجنون. الباب كان مغلقًا بإحكام. وبينما كانت تحاول الخروج، جاءها صوت خلفها، عميق ومفاجئ:
“علي فين العزم؟”
التفتت بسرعة، منتفضة من شـ.ـدة المفاجأة. وقعت عيناها عليه، وخرج صوتها مصدومًا:
“إنت!”
كان عاصم يقف بثبات، يده في جيب بنطاله، وعيناه تنظران إليها ببرود مستفز. قال بلهجة هادئة لا تخلو من سخرية:
“آه، أنا. كنتي متوقعة حد تاني؟”
اشتعلت سيلا غضبًا، تقدمت نحوه بخطوات سريعة ودفعته في صدره:
“إنت… إنت قليل الأدب وسـ.ـا.فل! إزاي تهاجمني بالطريقة دي؟ وإزاي تكلمني كده؟ وجايبني هنا ليه؟ أنا فين أصلاً؟ وفين هدومي؟ دي مش هدومي!”
وقف عاصم دون أن يتحرك أو يرد، مكتفيًا بالنظر إليها ببرود شـ.ـديد زاد من عصبيتها. استدارت نحو النافذة مجددًا، حاولت فتحها دون جدوى، ثم عادت للباب وضـ.ـر.بته بقبضتها بعصبية شـ.ـديدة:
“افتح الباب! افتح حالًا! أنا مش هفضل هنا ولا ثانية!”
رد عاصم ببروده المعتاد، ناظرًا إليها بلا اكتراث:
“خلصتي؟”
صرخت بوجهه:
“إنت بتعمل معايا كده ليه؟ أنا من يوم الحادثة وأنا بعيد عن أختك وماعرفش عنها حاجة! إيه اللي انت ناوي عليه؟”
ظل واقفًا، نظراته البـ.ـاردة تخترقها. قال أخيرًا:
“انتي هنا علشان تحمي نفسك، سواء عجبك أو لأ. ولو عايزة تفكري غير كده، دي مشكلتك. بس تخرجي من هنا؟ مستحيل.”
تجمدت سيلا مكانها، شعور بالعجز يغمرها كالموج العاتي. أهي أسيرة الآن؟ ومن يكون عاصم ليتخذ القرارات عنها؟
صرخت بتحدٍّ:
“هخرج يعني هخرج، مفيش قوة هتمنعني، فاهم!”
غمض عاصم عينيه، يحاول لملمة أعصابه المشتعلة، ثم قبض يده وتحكم في نبرته ببرود:
“أولاً، مفيش خروج من هنا.
ثانياً، أنا هنا لحمايتك من المافيا اللي سيادتك دخلتي نفسك فيها. ومش بس كده، بعد أول مقال نشرتيه صوت وصورة، كأنك بتقولي لهم: أنا هنا، تعالولي!”
توقف لحظة، ثم أكمل بنبرة صارمة:
“هتتحبسي هنا لحد ما ننهي كل شيء ونمسكهم. وبطلي شغل العيال ده، مش صغيرين. بطريقتك دي، بتضيعي مجهودنا كله.”
ردّت سيلا بحنق:
“ومصلحتك إيه؟ بتحميني؟! إنت دخلك إيه أصلاً؟ مين إنت عشان تمسك مصيري؟ أنا عايزة أمشي من هنا، دلوقتي! هتاخر عليهم كده!”
نظر لها عاصم ببرود، ثم توجه إلى المدفأة وجلس أمامها بلا اكتراث، يتحدث بلا مبالاة:
“تتأخري على مين؟ زمانهم كل واحدة في بيتها وفي سابع نومة.”
تحدق فيه بعدم تصديق:
“بيت مين؟! وأنا؟! إزاي يروحوا من غيري؟!”
ابتسم بسخرية:
“نصيبك كده.”
صرخت بحنق:
“إنت مـ.ـجـ.ـنو.ن! مش مصدقاك. أنا همشي من هنا، يعني همشي!”
ابتسم عاصم بهدوء مستفز:
“بصي، أحب أقولك لو عدّيتي من الحراس بره الباب (رجال ضخام كالجدران) والكلاب اللي معاهم بقالهم يومين مش ماكلين لحمة، ولو نجحتي ودخلتي الغابات، مش هتطلعي سليمة. ليكي مطلق الحرية.”
رماها بنظرة تحدٍّ وهو يضع المفتاح على الطاولة الخشبية أمامه بلا مبالاة:
“عاوزة المفتاح؟ أهه.”
تقدمت بخطوات مترددة، عينها على المفتاح، وحين مدّت يدها لتأخذه، هبّ عاصم كالصقر، أمسك معصمها بحزم، وثبّت يدها بين قبضته. صوته صارخ بالنفاذ صبر:
“إنتي إيه؟ مخك ده مش شغال؟! (وأشار إلى رأسها بأصبعه) بقولك إنتي في خطر، والمافيا هتموتك! ما تسمعي الكلام بقى؟!”
نظر إليها بعينيه التي تحمل بركاناً مكبوتاً:
“أنا هنا عشان أخلص مهمتي. انتي هتقعدي هنا لحد ما أضمن سلامتك، وبعدها أنا اللي هوصلك بنفسك بيتك. وبالمناسبة، والدك ووالدتك عارفين، يعني مش خطفك حُباً فيك.”
ظلّت سيلا تحدق فيه بلا حراك، لم يرجف لها جفن، بينما هو خفّض صوته حتى كاد يهمس، لكنه كان كالخنجر:
“إياكي… إياااكي أشوفك قدام الباب ده. مفهوم؟!”
ثم أكمل بصوت انفجر كالرعد:
“مفهـــــووووم؟!”
نظرت سيلا إليه ببرود، ضيقت عينيها ولم ترد، معتقدة أن التجاهل هو الرد الأمثل له.
اشتعل غضب عاصم من تجاهلها، اقترب منها بحدة وأمسك فكها بيدٍ قوية، بينما يثبت يديها الأخرى بقبضته. قال بنبرة تهديد، مليئة بالعزم:
“واضح إنك عنيدة، بس أنا صبري طويل جداً، وهعرف إزاي أخلّيك تسمعي الكلام.”
رفعت سيلا رأسها بتحدٍّ، وفي لحظة استجمعت كل قوتها، واستغلت الفرصة قامت بركله أسفل منطقة الحزام لتدفعه بعيداً عنها بحركة مباغتة. ارتد عاصم للخلف مذهولاً من فعلتها، بينما ألقى عليها نظرة حادة تحمل كل معاني التحذير.
صوته كان جهورياً وهو ينادي الخادمة:
“كاثرين!”
هرولت الخادمة إليه وهي تقول بتـ.ـو.تر ورعـ.ـب من هيئته:
“تأمر بشيء، سيدي؟”
رد بصرامة:
“أحضري لي الس.وط فوراً، ولا تتأخري!”
انحنت برأسها بـ.ـارتباك وغادرت لتنفيذ طلبه، بينما سيلا هرولت من امامه مسرعة و…
……
عادت مي إلى المنزل مع أولى ساعات الصباح، فتحت الباب ودخلت بهدوء. الجميع كان نائمًا. توجهت إلى غرفة والدتها، استلقت بجانبها وهمست:
“ممكن أنام في حـ.ـضـ.ـنك؟”
ربتت والدتها عليها بحنان:
“طبعًا يا حبيبتي.”
وغفت مي مطمئنة بين ذراعيها.
……
عاد معتز ووليد إلى المنزل، فقال معتز بإنهاك:
“مش شايف قدامي، طالع أنام، ولما أصحى هكلم عاصم أفهم منه. تصبح على خير يا وليد.”
رد وليد بابتسامة:
“وأنت من أهله.”
دخل وليد غرفته، غيّر ملابسه وجلس على السرير يحاول النوم، لكنه شرد بتفكيره:
“يا ريتني طلبت رقمها… أتواصل معاها إزاي دلوقتي؟ غـ.ـبـ.ـي أوي.”
تذكر انشغاله باختفاء أختها، فأخرج هاتفه ليقضي الوقت عليه حتى يغلبه النوم، لكنه لاحظ أن الهاتف لا يفتح ببصمة إصبعه، وحين حاول إدخال كلمة المرور، فشل. دقق في الهاتف، ثم لاحظ خلفيته، فتفاجأ:
“ده تليفونها!”
تذكر لحظة الاصطدام وأدرك أن الهواتف قد تبدلت. ابتسم ابتسامة واسعة وقال لنفسه:
“يااه… دي أحلى صدفة.”
أخذ الهاتف بين يديه، احتضنه وهو يفكر كيف سيعيده لها، ثم غلبه النوم على تلك الأفكار.
…..
همسة خبطت على الباب، ففتح لها والدها الذي كان يستعد مبكرًا للعمل بينما كانت نرمين تحضر الفطور.
قالت همسة وهي تحتضنه وتبكي:
“بابا حبيبي، سيلا ما جاتش معايا… أنا خايفة أوي.”
شعر والدها بخوفها وقال لها بهدوء:
“اهدي، اهدي، تعالي، هفهمك.”
ثم جلست معه واستمع لها.
قال والدها وهو يأخذ نفسًا عميقًا:
“حبيبتي، اختك دخلت في مشكلة كبيرة مع مافيا تجارة الأعضاء. كان الموضوع صدفة، لما كانت جنب قسم مستشفى وشافت ممرضة مترددة، فقررت تروح لها وتتكلم معها. الممرضة ارتاحت لها وحكت لها عن الطبيب اللي كان بيعمل عمليات مشبوهة، وصورت فيديو له مع شركائه. اختك شجعتها تتقدم بشكوى ضده، وعملت ده، وبالفعل المباحث قبضت عليه، لكنه مـ.ـا.ت في السجن، والبنت قُتلت، والموضوع أكبر مما نتخيل.”
همسة نظرت له بصدمة وقالت:
“وأنت كنت عارف؟”
ابتسم والدها ليطمئنها وقال:
“أنا عارف، بس القضية كانت سرية. المباحث بتشتغل عليها، ومش عاوزين نكشف كل شيء. لكن بعد ما نزلت اختك المقال، جت تهديدات وطلبنا منها تبتعد لفترة، علشان كمان ممكن يكون عندها دليل تاني ممكن يضرنا.”
ثم أضاف:
“دلوقتي حياتها في خطر أكتر، وأنتي لازم تكوني مستعدة لأن الموضوع أكبر من كده بكتير.”
همسة كانت مذهولة، ولم تتمكن من الرد.
↚
همسة كانت في حالة صدمة وقالت:
“ياااااه… كل ده وأنا مش عارفة! عشان كده سيلا انهارت مرتين. أول مرة كانت بتتكلم بانفعال مع حد في التليفون ومن كتر عصبيتها رمت تليفونها في الأرض وكسرته. ومرة تانية انهارت لما سمعت خبر مقـ.ـتـ.ـل البنت بطريقة شنيعة وقالت: ‘أنا السبب، أنا السبب بسبب المقال اللي نشرته.’ وصمتت قليلاً، تجمع باقي خيوط الحقيقة.”
قالت لهمسة في ذهنها:
“يبقى عاصم هو الظابط السري المكلف بحمايتها؟ لأنه هو اللي خلى الجريدة دي بالذات تغطي افتتاحية شركته.”
سألت همسة والدها:
“طيب وهي فين يعني مش جنبنا هنا ليه؟”
أجاب والدها:
“أنا اللي أعرفه أنها في ألمانيا. هيسافروا بيها لحد ما الأمور تهدأ، وينهوا القضية، ويمسكوا الطرفين متلبسين، وبعد كده يرحلوا الطرف الأجنبي ويسلموه هناك.”
همسة:
“ربنا يستر. الموضوع ده ممكن يطول وسيلا مش هتسكت. ربنا يستر إن شاء الله.”
في تلك اللحظة، دخلت نرمين، مفاجئة لرؤيتها، وأخذتها في أحضانها قائلة:
“حبيبتي، واحشتيني! عاملة إيه؟”
ثم نظرت إلى محسن، الذي طمأنها قائلاً:
“ما تخافيش، هي عرفت كل حاجة.”
حاولت نرمين أن تطمئنها وقالت:
“مـ.ـا.تقلقيش على سيلا، هتكون بخير.”
همسة، وهي تردد في نفسها:
“يارب يا ماما.”
ثم قالت لها:
“قومي ريحي شويه، شكلك مرهق.”
أجابت همسة:
“أيوه، مرهقة جدًا. هقوم أنا.”
دخلت همسة غرفتها، ثم أخذت حمامًا دافئًا، وأخيرًا غطت في نوم عميق، محاطة بكل تلك الأفكار والهموم.
…
استغلت سيلا الفرصة، ركضت بسرعة وصعدت السلم، ثم دخلت الغرفة وأغلقت الباب، لكنها اكتشفت أنه لا يوجد مفتاح. وضعت كرسيًا على الباب لسده. سمعت خطواته تقترب، فبدأت تلعن حظها وتقول:
“إيه حظ مهبب دا كان لازم يعني اه يا غلبانة يا سيلا؟!”
لكن فجأة، طرق الباب بعنف وقال:
“افتحي، وإلا هكسر الباب على دماغك!”
انتفضت من الصوت تمتت”هـ.ـر.بت منهم وهو قال حاميني وجاي يق.تلني!”
ركضت إلى النافذة ووجدت كلابًا أسفلها، فصدمت: كلاب دي مش بيأكلوها ولا ايه يا مُرك.
انفتح الباب فجأة، ووجدته ممسكًا بسوط أسود طويل، مبتسمًا بابتسامة ماكرة.
ابتسمت له وقالت بتردد:
“لا… لا، إهدأ يا شبح، هتعمل إيه؟ كنت بدافع عن نفسي و و.”
….
تحدث بصوت فحيح: “أبعد! دلوقتي!”
بدأ يقترب منها، فابتعدت حول الغرفة حتى توقفت عند النافذة، ثم قفزت على الفراش وقالت: “بص، اعقل! لسه بقول عليك عاقل، هقولك!”
ثم صرخت بشـ.ـدة عنـ.ـد.ما لمس السوط.
،،،،،
استفاقت منزعجة على نغمة غريبة، فأمسكت بتليفونها ووجدت اسمًا غريبًا “عامر”، فسألت:
“مين؟”
رد:
“انتي مين؟ وفين وليد؟”
ردت بنعاس:
“وليد مين؟ الرقم غلط!” وأغلقت في وجهه، ثم عادت للنوم.
..
استفاقت مي بعد نوم طويل، فدخلت الحمام وأخذت شاورًا ثم توضأت وأدت فرضها. بعد ذلك خرجت لمساعدة والدتها في المطبخ، قائلة: “بما أني في إجازة اليوم، خليني أساعدك.”
تقابلت مع شقيقها هيثم الذي قال: “صحي النوم يا هانم.”
ردت مي: “صباح الفل عليك يا حبيبي، أوعا تقول إنك إجازة أنت كمان!”
قال هيثم: “إحنا بتوع إجازات برده، ما أنتي عارفة إن الجمعه بس هي الإجازة.”
مي: “مفيش يوم إجازة كده؟ يا ربي! وتاخد اختك تفسحها؟ يا ظالم!”
قال هيثم: “إنتِ لسه جايه من رحلتك في الغردقة، إنتِ وصاحبتك. اتفسحتوا وعملتم هيصة، عاوزه إيه تاني مني؟”
مي: “آه اتفسحنا، أووووي!” ثم ضحكت وهي تقول: “اسكت، مش فاهم حاجه.”
هيثم: “طب تعالي قوليلي، صاحبتك ما عملتش كوارث؟”
مي: “سيلا؟ لا خالص، دي نسمه تتحط على جرح يطيب.”
هيثم: “طبعا كله على يدي، ولسه دماغها من ناحيتي برده.”
مي تنهدت بحزن، ثم قالت: “أنا فاهمتك، بس سيلا مش هتفكر في الجواز. حاول تنساها وشوف حياتك. لازم تكمل.”
هيثم: “مش قادر، حاولت، لكن فشلت. هي مش مديني فرصة. كنت أتمنى أساعدها في اللي مرت بيه.”
مي: “اللي حصل ليها مأثر عليها، بس لازم تعدي. بس مش هي دي سيلا اللي عايشة حالياً.”
تدخلت والدتها بعدما شاهدت مغادره ابنها: “ما تكلّمي معاها. هي هتلاقي حد يحبها زي ما هي.”
مي: “سيلا زي ما هي، ما تغيرتش. بس الكل بيتغير.”
والدتها: “هو في دنيا بتفضل على حالها لازم تقدر تساعد نفسها.”
مي: “تركيبة عجيبة من العناد.”
ثم تكلمت والدتها قائلة: “قولتله سيبك من سيلا، وابقى مع بنت أختي. كفاية إنه مربّيها.”
مي ضحكت وقالت: “طيب ما يفكر فيها كزوجة، لأن سيلا لو استناها هيعنس جنبها.
والدتها: “فال الله بت أنا ماشية الله يعينك في نفسك، اغسلي المواعين، أنا مش قادرة أكمل.”
…..
صرخت بأعلى صوتها عنـ.ـد.ما لامس السوط طرف الفراش الخشبي، كأن الصوت وحده كان كافيًا ليزلزل كيانها. نظراته البـ.ـاردة كانت تراقبها دون أن تترك لها مجالًا للهرب. رآها ترتجف وتحاول تبرير موقفها بعبـ.ـارات متلعثمة، لكنها كانت تعلم أن لا مفر. كان مصممًا على ترويضها، ليجعلها تدرك تمامًا مع من تتعامل.
رفع السوط وضـ.ـر.ب به المنضدة الخشبية بقوة، فاهتزت الغرفة بصوت مدوٍ جعل قلبها يقفز بين أضلاعها. نظرت إليه بعينين زائغتين، تحاول البحث عن فرصة للهرب، لكنه اقترب منها بخطوات ثابتة وصوت كفحيح الأفعى:
“يا ترى الضـ.ـر.بة الثانية هتكون فين؟”
تراجعت إلى الخلف وهي ترفع يديها محاولة الدفاع عن نفسها، وتقول بتلعثم:
“أنا… أنا بدافع عن نفسي! أنت السبب مش أنا، على فكرة!”
أغمضت عينيها بشـ.ـدة، وكلمـ.ـا.تها خرجت متوسلة:
“أبعد السوط ده عني! خلاص، بلاش كده، يا ماما!”
ركضت بعيدًا في محاولة بائسة للابتعاد عنه، لكنه أوقفها بصوته المرتفع الذي ملأ الغرفة:
“عاوزة تضيعيني، يا بت؟”
نظرت إليه بذعر، وصوتها يرتجف:
“أنا؟ أبدًا! ليه تقول كده؟”
ضيق عينيه بسخرية:
“إنتِ هتستعـ.ـبـ.ـطي؟”
هزت رأسها بسرعة وهي تحاول تهدئته:
“لا، طيب… خلاص! مش هعمل كده تاني. امشي بقا!”
اقترب منها أكثر، صوته صارم وحدته لا تقبل النقاش:
“وهو هيبقى فيه تاني كمان! انتي شكلك ما ت عـ.ـر.فينيش لسه. وأحسنلك بلاش، لأن وقتها مش هرحمك، بجد!”
لوّح بالسوط في الهواء، الصوت يخترق صمت الغرفة كتحذير أخير. أكمل بصوت بـ.ـارد:
“ولو كنت ضـ.ـر.بت الهوا المرة دي، المرة الجاية ما تضمنيش الضـ.ـر.بة فين. ويا ويلك لو فكرتِ تقربي من الباب أو تحاولي تهربي. وقتها بتكوني انتي اللي جنيتي على نفسك يلا أتخمدي.
أنهى كلامه بصرخة حادة، واستدار مغلقًا الباب بقوة جعلت سيلا تقفز في مكانها. بقيت للحظات مرتجفة، تحاول استيعاب ما حدث. بعد أن هدأت قليلًا، همست لنفسها بتحدٍ:
“غـ.ـبـ.ـي! مين قاله إني عاوزة حماية أصلاً؟ يحبسني هنا ويعاملني كأني عايشة فيلم رعـ.ـب، وكل ده عشان يهوشني بالكلاب؟ فاكرني خايفة؟! هي موتة ولا أكتر. لا يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. مستحيل أعيش مع الهمجي ده، لازم ألاقي طريقة أخرج من هنا… هيعمل إيه يعني؟”
ثم ضـ.ـر.بت كفًا بكف وقالت بتذمر:
“يووووه! هتجنن، ولا إيه؟ عمالة أكلم نفسي! ولا حتى معايا تليفون أو اللاب توب، وكل حاجتي ضايعة… آه! شنطتي! لازم أروح أسأله هي فين بدل الزهق ده.”
بعد قليل، فتحت الباب بحذر ومشت على أطراف أصابعها، تتحسس الطريق كأنها تخشى أن يراها. فتحت الباب ونظرت حولها، لكنها لم تجده. قررت أن تبحث عنه، وأثناء سيرها وجدت خادمة تقف في إحدى الزوايا. نادتها قائلة:
“لو سمحتي، فين شنطتي؟”
لكن الخادمة أجابتها بلغة ألمانية لم تفهم منها شيئًا. توقفت سيلا في مكانها، تلوح بيديها في محاولة لإيصال فكرتها، لكنها شعرت بالإحباط.
“يووه! شكله هيشلني هنا! أنا أصلاً بتكلم عربي بالعافية. خلاص، مش مهم!” فكرت للحظة، ثم أضافت بسخرية:
“أهو شكلنا هنتعامل بالإشارة، ما فيش حل غير كده.”
لوحت بيديها بحركة تعني أن الخادمة يمكنها الانصراف، فرحلت الأخيرة دون جدال. عادت سيلا تتمتم:
“طيب! فين هو كمان؟”
نزلت إلى الطابق السفلي وهي تبحث عنه. الجو كان هادئًا بشكل مريب، مما زاد تـ.ـو.ترها. تفاجأت عنـ.ـد.ما وجدت المكان فارغًا تمامًا. لا صوت ولا حركة، كأن المنزل قد أصبح مهجورًا.
وقفت في منتصف الدرج تتأمل الصمت الذي يحيط بها، وبدأت ضـ.ـر.بات قلبها تتسارع. تمتمت بخوف:
“إيه الهدوء ده؟ حتى الكلاب مش سامعة صوتهم!”
بقلم شروق مصطفى قصص الحياة
أخذت نفسًا عميقًا، محاولًة تهدئة نفسها، وأكملت نزولها ببطء. وصلت إلى الصالة الكبيرة ولاحظت بابًا مواربًا يؤدي إلى الحديقة الخلفية. تقدمت نحوه بحذر، تدفعه قليلًا لتلقي نظرة، وفجأة…
سمعت صوتًا خلفها جعلها تقفز من مكانها:
“بتدوري على إيه؟”
استدارت بسرعة لتجده واقفًا خلفها، يضع يديه في جيوبه ونظراته البـ.ـاردة تراقبها، وكأنها طفلة صغيرة تثير استغرابه. شعرت سيلا بالارتباك، لكنها سرعان ما رفعت رأسها وتماسكت، وردت بنبرة متحدية:
“بدور على شنطتي… أو أنت كمان خبّيتها؟”
ظل صامتًا للحظة، ثم قال ببرود:
“شنطتك في أمان، لكن ما فيش داعي تخرجي تدوري عليها. كل اللي تحتاجيه موجود هنا.”
ردت سيلا بحدة:
“أنا مش محبوسة هنا! ومش هسمحلك تتحكم في حياتي!”
نظر إليها بابتسامة ساخرة وقال:
“جربي تخرجي، وهنشوف مين اللي بيتحكم في مين.”
↚
نظر إليها بابتسامة ساخرة وقال:
“جربي تخرجي، وهنشوف مين اللي بيتحكم في مين.”
سيلا كانت غاضبة وصوتها يعلو بالاعتراض:
“هو كل حاجة عندك لا؟! إيه القرف ده؟”
لكنه لم يجب. ألقى الحطب بقوة على الأرض، وصوت ارتطامه أظهر حجم غضبه. اقترب منها بخطوات غاضبة كأنه عاصفة لا تهدأ.
شعرت بالخوف يعتريها، فتراجعت سريعًا وركضت إلى الأعلى. عقلها يضج بالأسئلة:
“جايبني هنا ليه؟ هعمل إيه؟”
لكن وسط ارتباكها، لمعت شرارة التحدي في عينيها. همست لنفسها بحزم:
“مش هستسلم… لسه ما تعرفش مين سيلا.”
وبينما كانت الأفكار تدور في رأسها، تسلل التعب إليها، فاستسلمت للنوم رغم كل ما بداخلها من اضطراب.
على الجانب الآخر، كان زال يعمل بصمت في الخارج. قطع الحطب بعناية من الأشجار وحمله إلى الداخل، حيث أكمل تقطيعه ليتناسب مع المدفأة. بعد الانتهاء، أغلق الباب بإحكام ليمنع برد الليل من الدخول.
دخل الحمام وأخذ حمامًا دافئًا، وكأن الماء يزيل عن جسده تعب اليوم. ارتدى بنطالًا رماديًا بيتيًا وتيشيرتًا أسود بسيطًا، ثم توجه بهدوء إلى غرفتها.
وقف عند الباب للحظات، يتأملها وهي تغط في نوم مضطرب. اقترب منها، قام بتغطيتها بعناية لتدفئتها، وبينما كان يهم بالمغادرة، سمعها تهمس في نومها:
“ههرب… أنا ههرب منك.”
توقف عند الباب وابتسامة صغيرة تشكلت على شفتيه، وهمس لنفسه:
“وأنا بقا كابوسك من دلوقتي.”
…..
معتز أخذ إجازة من العمل، مرهقًا من السفر. جلس وحده، وذهبت أفكاره إلى وجهها البريء وكلمـ.ـا.تها:
“الله، أنت بتضحك زينا أهو.”
بقلم شروق مصطفى
ابتسم دون وعي، لكن سرعان ما عاد لعقله ونفض الفكرة. تمتم بحدة:
“لو الأقرب خان، البعيد هيكون إيه؟ كلهم نفس الشيء… ظاهرهم بريء، وجوّاتهم شياطين.”
حاول أن ينشغل بأي شيء، لكنه لم يستطع الهروب من ظلال الماضي.
….
استيقظت همسة وظلت للحظات تستجمع وعيها، ثم نهضت وكادت أن تخرج، لكنها سمعت رنة غريبة. عادت وأمسكت الهاتف، متسائلة:
“إيه النغمة دي؟ مش بتاعتي.”
نظرت إلى الشاشة فرأت اسم “عامر”. استغربت وقالت:
“مين ده؟ هو أنا مكنتش بحلم؟”
ردت بحذر:
“ألو؟”
جاءها صوت يقول:
“أنتِ مين؟ ده رقم وليد أخويا. أنتِ تبقي مين؟”
نظرت مجددًا إلى الهاتف ولاحظت صورة خلفية غريبة. ردت بسرعة بعدما أستمعت لتأفأفه:
“آسفة، بس شكل الموبايل اتلخبط بعتذر جدًا وهكلم رقمي عشان نبدله.”
رد عامر مطمئنًا:
“ماشي، ولا يهمك. كنت بس بطمن إنه وصل. مع السلامة.”
أنهت المكالمة وقالت لنفسها:
“إزاي مخدتش بالي؟ هكلمه دلوقتي أزاي وأنا مش فاكرة أسمه!.”
اتصلت برقمها، وبعد رنين طويل، رد وليد بصوت مفعم بالتعب، لكنه سرعان ما تغير حين عرفها:
“ألو؟ حضرتك أنا همسة، أخت سيلا، اللي اتقابلنا صدفة في الغردقة، و…”
قاطعها بابتسامة:
“كانت أحلى صدفة، بجد.”
تلعثمت همسة بخجل:
“أحم… واضح إن تليفوناتنا اتبدلت.”
رد بمزاح:
“لحسن حظي عشان أسمع صوتك.”
قالت بخجل:
“محتاجه تليفوني، وأخوك كلمك مرتين.”
قال وليد:
“طيب، نتقابل عند الكافيه جنب بيتك بعد ساعة؟”
وافقت وأغلقت المكالمة. بعدها ذهبت إلى والدها ووالدتها وقالت:
“تليفوني اتبدل في الغردقة، وحد هييجي يرجعه. ممكن تروح تقابله، يا بابا؟”
رد والدها:
“ماشي، هشرب الشاي وأنزل.”
أما وليد، فكان سعيدًا، جهز نفسه بسرعة وتوجه للكافيه، ينتظر لقاءها بشوق.
انتظر وليد داخل الكافيه حتى جاءه اتصال، لكنه فوجئ بصوت رجل خشن يقدم نفسه:
“أنا محسن، والد همسة اللي تليفونك اتبدل معاها.”
نهض وليد ورحب به قائلًا:
“أهلاً بحضرتك، أنا وليد، وآسف لو تعبتك.”
رد محسن:
“مفيش تعب، اتفضل تليفونك.”
تبادلوا الهواتف، ثم أصر وليد:
“تشرب حاجة، يا عمي؟”
لم ينتظر رده ونادى النادل الذي أخذ طلب القهوة. بدأ محسن الحديث:
“همسة قالت إنك وابن عمك وصلتوهم من الغردقة.”
أجاب وليد بـ.ـارتباك:
“أيوه، يا عمي. كنا راجعين بعد الافتتاح، ووصلناهم.”
تضييق عيني محسن أربك وليد أكثر حين سأله:
“مين عاصم ده؟”
رد وليد بتـ.ـو.تر:
“ده صاحب أكبر سلسلة شركات سياحية، وإحنا كلنا شركاء.”
قاطعه النادل بإحضار الطلب، لكن محسن أكمل:
“عاوز رقم عاصم لو ممكن.”
أعطاه وليد الرقم بقلق، ثم استأذن وغادر وهو يتمتم:
“إيه الراجـ.ـل ده؟ حاسس إني في تحقيق! ماشي يا همسة، بتسلميني كده؟ استني عليّ!”
عاد محسن للمنزل وأعطى همسة الهاتف قبل أن يغادر لعمله، عازمًا على الاتصال بعاصم لاحقًا للاطمئنان على ابنته.
وضعت همسة الهاتف في الشاحن ثم عادت لإكمال لوحتها. بعد قليل، اهتز الهاتف بمكالمة من مي. أجابت بسعادة:
“أهلاً، حبيبتي. عاملة إيه؟ حشـ.ـتـ.ـيني و .”
ردت مي بقلق:
“الحمد لله. طمنيني، في أي جديد عن سيلا؟”
تنهدت همسة:
“بابا وماما طلعوا عارفين كل حاجة.”
تفاجأت مي:
“بجد؟ كانوا عارفين إنها مش راجعة معانا؟”
ردت همسة:
“آه، وطلع الموضوع كبير أوي.”
قالت مي بحماس:
“طيب احكي بسرعة!”
هتفت همسة:
“مش هينفع في التليفون. تعالي بكرة عندي، أشرحلك كل حاجة.”
وافقت مي:
“خلاص، هعدي عليكِ بعد الشغل. بس ماما بتناديني دلوقتي عشان الغدا، هقفل.”
ردت همسة:
“ماشي، سلام، حبيبتي.”
…
في صباح اليوم التالي، ذهبت مي إلى الجريدة لمتابعة عملها. وصلت إلى مكتبها وكانت بالكاد تجلس حين قال زميلها ياسر:
“المدير عاوزك ضروري، بيسأل عنك كل شوية. روحي له الأول.”
تأففت مي وهي تسأله:
“إيه الموضوع؟ عارف هو عاوزني ليه؟”
هز ياسر كتفيه بمعنى أنه لا يعرف. فقالت وهي تهم بالذهاب:
“ماشي، رايحة أهو. يا خبر دلوقتي بفلوس بعد شوية يبقى ببلاش.”
ثم همست لنفسها بمرح:
“شكلي هتعلق! فينك يا سيلا تجيبي حقي!”
ضحك ياسر وأدهم عليها، فقد كانت تضيف جوًا مرحًا دائمًا في المكتب.
وصلت مي إلى مكتب المدير، استأذنت بالدخول، وعنـ.ـد.ما أذن لها، دخلت.
استقبلها بابتسامة وقال:
“حمد لله على السلامة يا مي.”
ردت:
“الله يسلمك يا فنـ.ـد.م.”
قال المدير:
“طبعًا، أخدتِ أجازة، خلاص، ماسمعش كلمة تانية.”
ابتسمت وقالت:
“متشكرة جدًا يا فنـ.ـد.م.”
أشار لها بالجلوس وقال:
“في موضوع مهم عاوز أكلمك فيه.”
جلست مي وهي تسأله:
“خير يا فنـ.ـد.م؟”
قال المدير بجدية:
“الموضوع متعلق بزميلتك سيلا. أنا عارف كل اللي حصل، والدها صديقي وعلى علم بالموضوع، وأنا اللي خليت سيلا تطلع الرحلة دي تحديدًا.”
صمت قليلاً، ومي تحاول فهم ما يحدث دون أن تقاطعه.
أكمل:
“بما إن سيلا مش هتظهر دلوقتي، محتاجك تمسكي شغلها. هتكتبي عن كل اللي شفتِيه في الافتتاحية والحفلة، وتقيمي الحدث مرفقًا بالصور. بس…”
سألته بحيرة:
“بس إيه، يا فنـ.ـد.م؟”
قال بحزم:
“هترفقي اسم سيلا محسن على كل المقالات، سواء افتتاحيات، أخبـ.ـار مشاهير، أو أي حاجة تكتبيها. مش هينفع غير كده لحد ما ترجع.”
ترددت مي للحظة، لكنها وافقت بإصرار:
“موافقة طبعًا يا فنـ.ـد.م، سيلا مش مجرد زميلة، دي أخت، وأنا مستعدة لأي حاجة تساعدها.”
ابتسم المدير بـ.ـارتياح وقال:
“وده العشم فيكِ. خلصي شغلك وابعتِيه لي للمراجعة قبل ما ينزل العدد بكرة.”
ردت مي:
“تمام، بعد إذنك.”
خرجت من المكتب وهي تتمتم لنفسها:
“مش فاهمة حاجة، بس يلا. أخلص شغلي وأروح أشوف البت همسة.”
عملت بجد طوال اليوم حتى انتهت من المقالات وأرسلتها للمدير، ثم توجهت إلى منزل همسة.
…
أما معتز توجه إلى الشركة للإشراف على العمل ومراجعة الملفات، حيث كانت لديهم عدة فروع يدير كل واحد منها مدير إداري. انشغل معتز بترتيب الأوراق حتى دخل عليه وليد دون استئذان، مما جعله يهتف بانزعاج:
“ما تخبط يا بني آدم! داخل كده زي الثور!”
ضحك وليد قائلاً:
“إيه يا عم، هو أنا داخل عليك الحمام ولا إيه؟”
تنهد معتز باستسلام:
“مفيش فايدة فيك. اتأخرت ليه كده؟”
في الشركة، رد وليد بابتسامة خفيفة على معتز:
“كان عندي مشوار وخلصته وجيت، بس قولي، إيه حكاية أخوك مع الصحفية دي؟ سافر فجأة ليه؟”
رد معتز وهو يضع الأوراق جانبًا:
“عاصم دايماً كده، محدش يعرف بيخطط لإيه. اللي أعرفه إنه في مأمورية شغل، والصحفية دي شكلها عاملة مشكلة كبيرة.”
وليد بخبث:
“وصحبتها؟ نظامها إيه؟”
نظر معتز إليه بحدة:
“صحبتها مين يا عم نحنوح؟ مـ.ـا.تلم نفسك شوية، وانشف كده بدل ما تبقى طري.”
ضحك وليد وقال:
“مكان قلبك ده صخر، ما بيحسش زي البني آدمين.”
ثم أكمل بثقة:
“أتحداك يا معتز، وقت ما تحس إن صورتها مش بتفارق خيالك، تعرف وقتها بس إنك بني آدم عنده قلب.”
رد معتز بجفاء:
“مستحيل. قلبي مـ.ـا.ت من زمان. الحب ده خليته ليك يا عم الرومانسي. قوم نكمل شغل.”
أومأ وليد بأسف وقال:
“للأسف، مش هتحسوا بقيمة الكلام ده إلا لما يبقى متأخر. لو حسيت إن قلبك اتحرك، أوعى تخسره.”
ثم غادر المكتب وهو يهز رأسه.
تركه وليد في حالة شرود، تتردد كلمـ.ـا.ته في ذهن معتز رغم تجاهله لها. استغرق في العمل لساعات طويلة حتى شعر بالاختناق من الروتين. قرر المغادرة، فأخذ مفاتيحه ونظارته، وركب سيارته.
ظل يقود بلا هدف في الشوارع لفترة، حتى توقف فجأة عند مكان مألوف، لا يعلم لماذا جذبه هناك!
↚
استفاقت سيلا ببطء، عيناها مفتوحتان بصعوبة، وألم الصداع يضـ.ـر.ب رأسها بشـ.ـدة. حاولت النهوض، لكن جسدها خذلها، فاختل توازنها وسقطت جالسة على حافة السرير. شعرت بدوار مرير، إلا أنها عزمت على الوقوف مجددًا. بعد محاولات شاقة، تمكنت من الاتكاء على الحائط، خطت خطوات مترددة حتى وصلت إلى السلم، تشبثت به بحذر ونزلت ببطء.
كان المنزل غارقًا في سكون مريب، ولم تلحظ أي حركة أو وجود لأحد. شعرت براحة داخلية لعدم وجود من تضطر للتعامل معه، فهي بالكاد تمتلك الطاقة لمواجهة نفسها. اتجهت نحو المطبخ، تشتاق إلى قهوتها الصباحية التي اعتادت أن تمنحها بعض الحيوية. أخذت تبحث عن شيء ما، لكن عينيها لم تقعا على ما تبحث عنه. خارت قواها مجددًا، فجلست على أحد المقاعد، متعبة ومنهكة.
أسندت رأسها المثقل على الطاولة، وأغمضت عينيها، لكنها لم تجد سوى سواد يمتد أمامها. فجأة، ارتخت يدها الثقيلة وسقط جسدها تدريجيًا، وكادت تهوي على الأرض لولا أن يديه أمسكتا بها في اللحظة الأخيرة.
كان قد استيقظ للتو على وقع خطواتها المرتبكة وأصوات خفيفة كادت أن تخفى. هرع نحوها وحملها بين ذراعيه، ثم وضعها برفق على الأريكة. حاول إيقاظها بضـ.ـر.بات خفيفة على وجهها، لكن دون جدوى. تركها للحظة وأحضر زجاجة عطره القوية، محاولًا إنعاشها، إلا أن استجابتها كانت معدومة.
عاد عاصم سريعًا بكوب ماء محلى بالسكر، قلبه جيدًا واقترب منها، ثم عدل جلستها برفق ممسكًا بظهرها ليساعدها على الشرب. كان قريبًا منها للغاية، قدم لها القليل من الماء، وببطء بدأت تستعيد وعيها شيئًا فشيئًا. فتحت عينيها بصعوبة، وبمجرد أن شعرت بقربه منها، دفعته بعيدًا قائلة بصوت حاد:
“ابعد عني.”
تركها على الفور واستقام واقفًا، ينظر إليها بتركيز، ثم سأل بجدية:
“آخر مرة أكلتي كانت إمتى؟”
خفضت رأسها وأمسكت جبينها بيدها، تتنفس ببطء وبصوت ضعيف مهزوز:
“مش فاكرة… يمكن من يوم الحفلة أو قبلها.”
بقلم شروق مصطفى
حدقت عيناه بها بصدمة، فهو أدرك فجأة أنها قضت يومين كاملين دون طعام؛ يوم افتتاح الحفل واليوم الذي جلبها فيه إلى هنا. صمت برهة، ثم استدار وابتعد متجهًا نحو المطبخ لتحضير الفطور.
حاولت الوقوف واتباعه، متثاقلة الخطى حتى جلست أمام الطاولة في المطبخ وقالت بصوت متعب:
“فين القهوة؟ مش لاقياها… صداع رهيب.”
كان عاصم منهمكًا، ظهره لها بينما كان ينهي طبقًا من الأومليت. التفت إليها قليلاً بعد أن وضع الحليب على النار وسـ.ـخن الخبز، ثم قال بصوت حازم:
“مفيش قهوة إلا لما تشربي ده” -وأشار إلى كوب الحليب- “وتاكلي ده” -وأشار إلى طبق الأومليت-.
رفعت حاجبيها بتحدٍ ونظرت له قائلة:
“مين قال إني عاوزة أكل ولا أشرب؟”
ثم زفرت بضيق وحاولت النهوض. لكن عينها وقعت على كيس القهوة الذي وضعه في أعلى الدلفة، فتمتمت بصوت منخفض وبامتعاض:
“قال اشرب لبن! شايفني طفلة لسه هشرب لبن؟ وبيض إيه اللي يعمله ده كمان؟!”
استدار فجأة إليها وسحب الكيس من فوق الدلفة، متجاهلًا تعليقها، ثم عاد إلى طهي الفطور. مدت يدها محاولة أخذ الكيس منه، قائلة بإصرار:
“ممكن الكيس بقا؟”
هز رأسه بالرفض وأشار إلى الطعام قائلًا:
“ده يخلص الأول.”
شعرت بالغضب، فردت:
“مش قادره أتكلم بجد، متعصبنيش بقا.”
لكنه أجاب بثبات:
“قولت لا. يلا كلي الأول.”
قالت بتحدٍ:
“مش هاكل!”
ابتسم بسخرية ورد بهدوء:
“براحتك، مفيش قهوة.”
نظرت له بعناد وأجابت:
“هشرب القهوة الأول، وبعدها هاكل.”
رد ببرود:
“مش هتكلم كتير. مش بعزم، يلا اتفضلي.”
شعرت بالإرهاق وعدم الرغبة في مجادلته أكثر، فجلست بصمت وأبعدت كوب الحليب بتقزز، ثم تناولت بضع لقيمـ.ـا.ت صغيرة من الطعام. بعد أن انتهت، رفعت رأسها وقالت:
“ممكن القهوة بقا؟”
بقلم شروق مصطفى
كان قد أنهى إعدادها بالفعل، فناولها الكوب قائلًا:
“اتفضلي.”
تناولت القهوة وشكرته باقتضاب. جلس هو على الطاولة وبدأ في تناول فطوره بصمت. بمجرد انتهائه، نهض وغادر المطبخ متجهًا إلى مكتبه.
أما هي، فقد أنهت قهوتها وعادت إلى غرفتها، تشعر بالضيق والتـ.ـو.تر. ظلت تفكر كيف يمكنها التخلص من وجوده، فهي لا تطيق البقاء معه. أخذت تتمشى في الغرفة بقلق، تتأمل تفاصيلها، ثم اقتربت من النافذة محاولة فهم المكان. لم ترَ سوى غابات كثيفة وأشجار شاهقة تحجب أي معالم للطريق. شعرت بالارتباك، وكأنها عالقة في مكان لا سبيل للخروج منه.
تنهدت سيلا بعمق، وهي تتمتم بضيق:
“أنا فين بس؟ وداني فين ده يا رب؟ فاكرني سكت وخلاص؟ ماشي، نشوف!”
توجهت نحو الدولاب، فتحته لتجد ملابسه مرتبة بعناية. أخذت تتفحصها حتى انتقت بنطالًا طويلًا وتيشيرتًا بأكمام طويلة. بعد أن ارتدتهما، وقفت أمام المرآة، فضحكت على شكلها؛ الملابس كانت واسعة جدًا عليها بسبب قصر قامتها مقارنة بطوله، لكنها هزت كتفيها بلا اكتراث:
“مش مهم!”
خرجت من الغرفة بخطوات حذرة، عاقدة العزم على استكشاف هذا المكان الغريب، بحثًا عن مخرج للهرب منه. أثناء تجولها في المنزل، لفت انتباهها باب خشبي داخل المطبخ بدا مختلفًا عن باقي الأبواب.
بدأت تتحرك بخفة، تتلفت يمينًا ويسارًا، متأكدة من خلو المكان. نزلت إلى الطابق السفلي بخطوات بطيئة، تتفحص جميع الاتجاهات بحذر شـ.ـديد. لاحظت الهدوء التام، فلا أثر لعاصم، ولا حتى للخادمة. تساءلت في نفسها:
“يا ترى هو فين؟”
ثم أكملت بابتسامة خفيفة:
“أحسن!”
اتجهت نحو الباب الخشبي، وقفت أمامه وحاولت فتحه، لكن الباب كان مغلقًا بإحكام. زفرت بضيق، وبدأت تدفعه بكل ما أوتيت من قوة، دون جدوى. استدارت لتعود، لكنها تجمدت في مكانها فجأة.
كان داخل مكتبه، يجلس أمام جهاز الحاسوب، يتابع سير العمل في شركته عبر تقارير ومكالمـ.ـا.ت متواصلة. أجرى اتصالًا أخيرًا طلب فيه إرسال خادمة جديدة لتتعامل معها، فقد أدرك أن الوضع يتطلب شخصًا أكثر صبرًا. في الوقت نفسه، لم يكن يغفل عن مراقبتها؛ فقد وضع كاميرات في أرجاء المنزل، وكانت تحركاتها جميعها تحت ناظريه. ظل يراقبها بابتسامة خفيفة، متسلّيًا بتصرفاتها العفوية ومظهرها في ملابسه الفضفاضة. بعد لحظات، قرر أن يترك مكتبه ويذهب للتسلية قليلاً.
بينما كانت سيلا تقف أمام الباب الخشبي محاولًة فتحه، كان عاصم يقف خلفها مباشرة، يراقبها بصمت وعيناه تضيقان بنظرة فضولية مشوبة بالجدية. لم يكن يبدو غاضبًا، لكنه كان يدرس تصرفاتها بتمعن.
قال بصوت هادئ، لكن نبرته تحمل تحذيرًا خفيًا:
“كملي، وقفتِ ليه؟ هاتي أخرك بقى! وبالمناسبة… إيه اللي لابساه ده؟”
شعرت بالارتباك من وجوده المفاجئ ونظراته الساخرة، فردت بتردد وهي تحاول التظاهر بالهدوء:
“ك… كنت زهقانة فقلت أتمشى شوية… إيه بلاش.”
ثم نظرت إلى نفسها وأشارت إلى ملابسها الواسعة:
“مش لاقية حاجة ألبسها! شنطتي مش معايا وأنت السبب في كل ده.”
عاصم، بنبرة مليئة باللامبالاة، استدار ليوليها ظهره وهو يقول ببرود:
“يلا على أوضتك، مش عاوز رغي كتير، وما تطلعيش منها.”
شعرت بالاستفزاز من تجاهله وبروده، فردت بغضب واضح:
“مين قالك إنِّي عاوزة حماية؟ اللي بيحمي حد يخـ.ـطـ.ـفه ويحبسه كده؟! أنا عاوزة أمشي من هنا! مش هقعد دقيقة واحدة، سامع؟”
لكنها لم تجد ردًا. نظرت حولها، فرأته يدخل مكتبه بهدوء وكأنها لم تكن موجودة. لم يعرها أي اهتمام، مما زاد من غضبها. ضـ.ـر.بت الأرض بقدميها بحنق وقالت بصوت تحدٍّ وهي تغادر المطبخ:
“وأنا همشي يعني همشي من هنا، حتى شوف!”
توجهت نحو النافذة في غرفة المعيشة. حاولت فتحها بعصبية، لكنها كانت مغلقة بإحكام. التفتت حولها ووجدت قطعة أنتيك معدنية على المنضدة، فأمسكتها بإصرار، ورفعتها بقوة لتحطم الزجاج.
تراجعت للخلف قليلًا وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تضـ.ـر.ب الزجاج بكل قوتها. لكن فجأة، وقبل أن تضـ.ـر.ب، شعرت بيد قوية تمسك معصمها بقوة وتوقفها في اللحظة الأخيرة.
التفتت لتجد عاصم يقف خلفها مباشرة، نظرته حادة ونبرته صارمة:
“إنتِ بتعملي إيه؟! فاكرة الهروب لعبة؟”
أمسك عاصم بيد سيلا بقوة، لوى ذراعها للخلف وألقى القطعة المعدنية على الأرض بعنف. ضغط على ذراعها بشـ.ـدة حتى شعرت بألم حاد وكأن عظامها ستنفصل عن مكانها. أنَّت بصوت مكتوم، تحاول إخفاء ألمها:
“سيبني!”
تحدث ببرود، لكن نبرته كانت مشـ.ـدودة كأنه يكبح غضبه:
“فاكرة قعادك هنا برغبتي؟ أنا مستني المهمة دي تخلص عشان أخلص منك! مش طايق وجودك أصلاً. عندي شغل أهم من التعامل مع تصرفاتك الطفولية.”
ردت بصوت متحشرج، تحاول الإفلات من قبضته:
“سيب ذراعي… سيبه بقى! أنت شخص همجي!”
اقترب منها، همس في أذنها بنبرة منخفضة، لكنها حملت تهديدًا واضحًا:
“فكري تعملي كده تاني، تعلي صوتك أو تتجرأي تقللي أدبك معايا. جربي بس، وشوفي رد فعلي المرة الجاية. ما تلعبش بالنار، سيلا.”
ثم دفعها فجأة للأمام، فسقطت على الأرض بقوة. أمسكت بذراعها المتألمة، ورفعت رأسها لتنظر إليه بعينين غاضبتين:
“ومين قالك إني طايقاك أصلاً؟! أو حتى عايزة أشوفك؟ الحامي هو اللي خلقني، مش أنت. خليك في حالك وسيبني أرجع لبيتي! مش محتاجة مساعدتك ولا حمايتك. لو خايف عليّ من الموت، فأنا ما عنديش مانع أواجهه. بلغ رئيسك إنك مش هتكمل المهمة. انتهينا!”
نهضت بصعوبة، متجاهلة نظراته البـ.ـاردة، واتجهت نحو النافذة مرة أخرى. انحنت والتقطت القطعة المعدنية من الأرض بعزم.
لكن فجأة، وقبل أن تحرك يدها، شعرت بظله خلفها. استدارت ببطء، لتجده يقف هناك، عينيه تشتعلان بالغضب. أمسك القطعة المعدنية من يدها بقوة وألقى بها بعيدًا، ثم اقترب بخطوات ثقيلة ونبرته منخفضة لكنها حادة كالسيف:
“إنتِ مصرة تخليني أتصرف بطريقة مش هتعجبك، مش كده؟
نظرت إليه بتحدٍ، لكن قلبها تسارع نبضه. شعرت للحظة أنها ربما تجاوزت الحد، لكنه أكمل بصوت صارم:
“المرة الجاية اللي هتفكري تعملي فيها حاجة زي دي، مش هيبقى عندك فرصة تكرريها تاني.”
ثم استدار وتركها واقفة وحدها، يشتعل في داخلها مزيج من الخوف والغضب.
ـــــــــــــــــــــ
أنهت مي عملها وسلمت المقال الذي كتبته باسم صديقتها سيلا، وتركت الأوراق للطباعة، ثم توجهت إلى همسة للاطمئنان عليها. بعد السلامـ.ـا.ت وتقديم واجب الضيافة، دعتها همسة إلى غرفتها.
جلست مي على طرف السرير ونظرت لهمسة بقلق قائلة:
“إيه البرود اللي فيكي ده يا بنتي؟ طمنيني عليها! قلبي مش مرتاح لسيلا، حاسة إنهم هيخلصوا على بعض.”
أخذت همسة نفسًا عميقًا، وكأنها تحاول استيعاب كل ما يحدث، ثم قالت:
“والله يا مي، أول ما رجعت البيت كنت متـ.ـو.ترة جدًا، وما كنتش عارفة أقول لهم إيه. بس أول ما بابا فتح لي الباب، انهارت أعصابي ومقدرتش أتمالك نفسي. الغريب إنه كان هادي جدًا وقعد يشرح لي الموضوع كله.”
مي، وهي تقترب منها لتسمع التفاصيل:
“طب قوليلي، فهمتي إيه؟”
همسة جلست بجانبها وأخذت تروي:
“بصي، الموضوع بدأ لما سيلا نشرت مقالها الأول عن العصابة. الداخلية وقتها قررت تعين ظابط سري لحمايتها، خصوصًا بعد ما الممرضة والدكتور اللي كانوا على علاقة بالقضية اتقـ.ـتـ.ـلوا. بعد كده، قرروا يبعدوا سيلا عن الأنظار شوية لحد ما يسيطروا على الوضع ويمسكوا باقي أفراد العصابة.”
مي، بدهشة:
“ومين الظابط ده؟”
همسة، بنبرة جادة:
“عاصم! الظابط السري المكلف بحمايتها. هو اللي طلب من الجريدة إنها تغطي الافتتاحية عشان يبعد عنها الشبهات، خصوصًا إنها لو فضلت تكتب عنهم، العصابة هتلفت نظرها ليها بسرعة.”
مي، بتـ.ـو.تر:
“بس سيلا ما تسكتش. أكيد عملت حاجة!”
همسة أكملت:
“بالضبط. لما سيلا عرفت بالصدفة إن الدكتور اتق.تل يوم الحفلة، نشرت صور العصابة على أكتر من موقع. وقتها عاصم اتصرف بسرعة وسفرها لمكان محدش يعرفه لحد ما القضية تخلص.”
مي، بإحباط:
“يا حظها الأسود! بقولك، تفتكري تأقلمت معاه؟”
همسة، بابتسامة صغيرة:
“اللي أنا متأكدة منه إنهم مش بيطيقوا يشوفوا بعض. سيلا عصبيتها فوق الوصف، وعاصم شكله ما بيعرفش يتفاهم!”
ثم توقفت مي فجأة كأنها تذكرت شيئًا، وقالت:
“دلوقتي فهمت ليه المدير كان مصر إني أكتب أي مقال باسم سيلا! حتى المقالات اللي ما لهاش علاقة بالقضية طلب إنها تكون باسمها هي. عايز يشغل العصابة عنها بأي شكل. ومش بس كده، يوم الحفلة عاصم كان مصر إنها هي اللي تعمل الحوار بنفسها، رغم إننا كلنا كنا بنعرض نساعد. واضح إنه كان عاوز يبعد الأضواء عنها بأي طريقة.”
همسة، وهي تضـ.ـر.ب كفها بكفها:
“ربنا يستر. فاكرة لما وقعها في البسين وهي رمت عليه مياه؟ كان يوم كارثي.”
مي ضحكت وقالت:
“ومشوفتيش يوم الحفلة لما دخلوا في جدال قدام الناس. كان موقف مش سهل أبدًا طيب هي كلمتكم.”
همسة بآسى: لأ، لسة
مي بتنهيدة: “ربنا يعدي الأيام دي على خير. سيلا عصبيتها فوق الوصف، وعاصم شكله عنيد جدًا. أنا خايفة الأمور بينهما تتعقد أكتر.”
أيدتها همسة:
“فعلاً، شكله متكبر، واضح عليهم كلهم مغرورين.”
ابتسمت مي بمكر وغمزت لها:
“بس ابن عمهم؟لأ، ولا إيه؟”
ثم بدأت تقلد صوته بنبرة ساخرة:
“بعد الشر عليكِ!” وضحكت بصوت عالٍ: “والله شكله وقع يا عيني ها اعترفي!”.
ارتبكت همسة وقالت:
“أنا؟ أنا إيه!” ثم انفجرت ضاحكة تتذكرشيئا:
“أسكتي عملت فيه مقلب طلع من نافوخه.”
قهقهت مي وقالت:
“مش قولتلك إنه واقع؟ قولي يا مفضوحة، احكي!”
تنهدت همسة وقالت بمرح:
“لا خلاص، مش هقول حاجة طول ما بتتريقي.”
مي، بابتسامة واسعة:
“لا لا، خلاص، مش هتريق. قولي.”
تنهدت همسة وقالت:
“بصي، اللي حصل إن تليفوناتنا اتلخبطت…”
قصت همسة القصة كاملة عن كيف تبادلت الهواتف معه وكيف انتهى الأمر بدعوته للقاء في مقهى، لكنها أرسلت والدها بدلاً منها، وضحكت:
“كان شكله متعشم أوي، يعيني!”
ابتسمت مي بخبث:
“تصدقي؟ نظراته ليكي كانت واضحة جدًا في الحفلة، وحتى في العربية طول السكة.”
ضحكت مي ثم أكملت:
“يلا، يستاهل! عشان يعرف إننا مش ساهلين. إحنا جـ.ـا.مدين أوي!”
ردت همسة بثقة:
“أه طبعًا، جـ.ـا.مدين جدًا.”
نهضت مي وقالت:
“يلا، أنا لازم أمشي. اتأخرت. لو سيلا كلمتكم، كلميني على طول.”
همسة: “أكيد، حاضر.”
غادرت مي وركبت سيارة أجرة، وعنـ.ـد.ما وصلت إلى منزلها وهمّت بالدخول، تفاجأت بأخر شئ تريد أن تراه
↚
قاد سيارته بلا هدف، شاردًا في كلمـ.ـا.ت ابن عمه التي لم تفارقه. ذكريات الماضي عادت تطارده، صور متقطعة وصوت والدته يختلط بشخص آخر، والدماء تغطي المشهد. حياته تحطمت منذ ذلك اليوم. أصبحت الكراهية والعنف جزءًا من روحه، وبدأ يتلذذ بتعذيب من حوله، خاصة النساء. عيناه ازدادت ظلامًا، ونيران غضبه اشتعلت من جديد، لم تهدأ يومًا.
ضغط على كفه بقوة حتى ابيضت عروقه، وتمتم بعصبية:
“إزاي عاوزني أعيش من جديد؟ وكأن اللي حصل محصلش؟ أنا من جوا ميت. النار دي مش هتطفي أبدًا. أنا اتق.تلت خلاص، والميت عمره ما بيصحى. لازم أكسرها عشان متجيش في بالي تاني. حظها الأسود إنها جات في طريقي، ولازم أنهي وجودها عشان أخلص من التفكير فيها!”
ابتسم ابتسامة شيطانية، وفي غمرة أفكاره وجد نفسه متوقفًا بسيارته أسفل منزلها. نزل بعنف وأغلق الباب بقوة، وكانت هيئته مخيفة للغاية. عيناه توحي كأنه صياد يترصد لفريسته فجأة، لمحها امامه.
كانت قد نزلت من المواصلات، وعنـ.ـد.ما رأته تجمدت مكانها. كانت نظراته مريبة ومليئة بالشر، ما أثار رعـ.ـبها على الفور. لم تتحدث ولم تحاول تفسير الموقف، بل اندفعت مسرعة ركضًا نحو منزلها دون أن تنظر خلفها.
دخلت شقتها بسرعة، وأغلقت الباب بإحكام وهي تحاول تهدئة أنفاسها المتسارعة. هرعت إلى النافذة لتتحقق من وجوده. رأته واقفًا بجوار سيارته، يضـ.ـر.ب كفه على سقفها مرارًا وكأنه يخطط لشيء ما.
رفع رأسه فجأة، ونظر مباشرة نحو نافذتها بابتسامة خبيثة، كأنه يعلم تمامًا أنها تراقبه. شعرت بـ.ـارتجافة في جسدها، وتراجعت عن النافذة وهي تمسك قلبها بيدها.
ركب سيارته وانطلق مبتعدًا، لكنها لم تستطع التخلص من شعورها بالخوف. همست لنفسها بصوت مرتجف:
“إيه اللي جابه هنا؟ وعاوز مني إيه؟ أنا نقصاك إنت كمان؟ يا ترى جاي ليه؟”
ظلت واقفة في مكانها، ترتجف بين قوتها الظاهرة وهشاشتها الداخلية، تحاول استيعاب ما حدث وما ينتظرها لاحقًا.
ـــــــــــــــــــــ
رن هاتفها بإشعار على تطبيق الواتساب. تناولته بفضول، وما إن فتحته حتى ظهرت أمامها رسالة منه. كانت صورته تظهر بجانب النص:
“صباح الورد والفل على أجمل وردة شوفتها في حياتي. لكن أنا زعلان منك.”
توقفت للحظة وابتسمت بغير وعي. فكرت:
“أكيد زعلان عشان مرحتش قابِلته.”
لكنها لم ترد. أغلقت الهاتف بهدوء ووضعته جانبًا دون أن تعطيه أي اهتمام. عادت إلى لوحاتها الغارقة في الألوان والتفاصيل، منشغلة بإكمال عملها استعدادًا للمسابقة التي لم يتبقَّ عليها سوى أيام قليلة.
بين الحين والآخر، تردد صوت إشعارات أخرى، لكن هذه المرة وضعت الهاتف على الوضع الصامت لتتجنب أي تشويش على تركيزها.
سرحت للحظة وهي تحمل الفرشاة بين يديها، وعادت كلمـ.ـا.ت مي ترن في أذنها:
“هو فاكر إنه لما وصلنا بالعربية هنتقابل عادي ونتكلم؟!”
ابتسمت بخفة وأردفت بينها وبين نفسها:
“ده طيب أوي.”
تنهدت بعمق كأنها تحاول طرد تلك الأفكار من ذهنها، ثم أعادت تركيزها إلى لوحتها.
داخل غرفة مظلمة، بـ.ـاردة رن هاتف وظهر صوت رجل بنبرة حادة تحمل غضبًا مكبوتًا:
“لقد حذرتك من قبل! إذا ظهرت صوري مرة أخرى، سأمحي وجودك عن وجه الأرض. ألم تفهم بعد؟”
رد الآخر بخضوع واضح:
“أعتذر، سيدي. سأجد هذه الصحفية وأنهي حياتها للأبد.”
جاءه الرد بخبث وابتسامة متوعدة:
“لا… لا أريدك أن تنهي حياتها. أريدها حية. سنلعب معها قليلاً… لتتعلم ما يعنيه اللعب مع الكبـ.ـار. هل تفهمني؟”
أجاب الرجل الثاني بطاعة:
“أمرك، سيدي. سأرسل رجالي للبحث عنها وأحضرها لك.”
صمت للحظة ثم أضاف الرجل الأول بنبرة بـ.ـاردة مشوبة بالغضب:
“وأين باقي الفتيات؟ لماذا لم أستلمهن بعد؟”
تحدث الآخر بتـ.ـو.تر:
“سيدي، الشرطة تراقبنا منذ نشر الصور الأخيرة. لم أستطع التحرك بحرية. أرجوك اعذرني، لكني أعدك، سننهي كل شيء قريبًا. وسأتصل بك لتأكيد التنفيذ.”
صرخ الأول بغضب:
“كل هذا بسبب تلك الصحفية الغـ.ـبـ.ـية! أريدها هنا فوراً! راقب منزلها جيداً، وأرسلها لي دون أي تأخير. هل هذا واضح؟”
رد الثاني سريعًا:
نعم، نعم، سأراقب منزلها، وأرسلها لك فورا.
أنهى المكالمة بغضب واضح، تاركا الغرفة بصمت ثقيل يخفي خلفه عاصفة تنتظر، الأنفجار.
ـــــــــــــــــــــــ
اقتربت من النافذة مجددًا بعد أن أعادت قطعة الأنتيك لمكانها، وأخذت تنظر إلى الخارج محاولة تهدئة نفسها قليلاً. فجأة، هرولت نحو المطبخ، تبحث بسرعة عن شيء محدد بينما كانت عيناها تراقبان الخارج باستمرار خشية أن يكتشف أمرها. عنـ.ـد.ما لاحظت خروجه فجأة من مكتبه، وقفت كأنها تتناول كوب ماء، متظاهرة بالهدوء.
خرج هو سريعًا من المنزل متجهًا إلى الخارج، واطمأنت أنه غادر. عادت إلى المطبخ لتكمل بحثها المحموم عن أداة رفيعة يمكنها استخدامها لفتح الباب المغلق.
—
في مكان آخر، كان اللواء يتحدث عبر الهاتف:
“إيه الأخبـ.ـار عندك؟”
رد عاصم بثقة:
“لسه بتحاول تهرب ومش مستوعبة الموقف، لكن متقلقش، يا فنـ.ـد.م. كله تحت السيطرة.”
هتف اللواء بنبرة جدية:
“أنا معتمد عليك. ورجالتي شغالين على القضية، إحنا قربنا خلاص، هانت.”
رد عاصم:
“تمام يا فنـ.ـد.م. ولو احتجت مساعدتي أنا جاهز في أي وقت.”
قاطعه اللواء بحزم:
“كفاية عليك المهمة اللي عندك. لو احتجتك، هبقى أقولك تنزل. سلام دلوقتي.”
ما إن أغلق عاصم المكالمة حتى ظهرت مكالمة أخرى من رقم مجهول. أجاب بحذر:
“أيوه، مين معايا؟”
جاءه صوت ودي:
“أنا والد سيلا، يا بني. طمّني عليها، هي كويسة وبأمان؟ كنت عاوز أكلمها لو ينفع.”
رد عاصم ببرود:
“اطمّن، هي كويسة وفي أمان. بس مش هينفع تكلمها دلوقتي، لدواعي أمنية. أنا اللي هتواصل معاك بعد كده.”
تحدث محسن بأسف:
“ماشي، يا بني. كنت قلقان عليها بس. هستنى اتصالك. مع السلامة.”
أنهى عاصم المكالمة، ثم توجه إلى صالة الألعاب ليخرج شحنات غضبه المتراكمة.
—
استغلت هي غيابه وواصلت بحثها في درج المطبخ حتى وجدت ما تبحث عنه: أداة صغيرة رفيعة لمعالجة الباب المغلق. لمع بريق عينيها بابتسامة خفية تدل على بداية نجاح مخططها. خبأت الأداة داخل ملابسها، وقررت انتهاز أول فرصة للهروب.
بعد فترة، جلست بجانب المدفأة لتستجمع أفكارها. عاد عاصم متعرقًا بعد تمرينه، واتجه مباشرة إلى غرفته في الطابق العلوي. تابعت تحركاته بنظراتها حتى اختفى.
وقفت بسرعة وتوجهت نحو الباب المغلق، وأخرجت الأداة التي خبأتها. بدأت تحاول فتحه بتحريك الأداة داخل القفل، لكنها لم تنجح. جففت العرق عن جبينها وقالت بصوت خافت:
“مش هيأس… هفضل أحاول.”
عادت لتجلس على الطاولة، شاردة الفكر، محاولة ابتكار خطة أخرى. بينما كانت غارقة في أفكارها، نزل عاصم بعد أن استحم، ودخل إلى المطبخ. التفت إليها بينما كان يحضر لنفسه كوبًا من عصير البرتقال، وقال بنبرة تحذير:
“ياريت تكوني فكرتي كويس وعقلتي، عشان لو قلبتي مش هتعجبك. أنا بحذرك، ومش هيهمني أي توصيات. هما عارفين أنا مين وبعمل إيه.”
تحدث عاصم بنبرة حادة:
“ومتقوليش إني محذرتكيش! انتي هنا بسبب غبائك واستهتارك، وده مش أول مرة تعمليها!”
نظرت إليه سيلا بثبات وأجابت بتحدٍ:
“انت بتهددني؟ أنا بعمل اللي بعمله بمزاجي، ومش خايفة منك أصلاً. ولو الزمن رجع بيا تاني، هعمل اللي عملته من غير تردد، سواء زمان أو دلوقتي. أنا مقتنعة باللي عملته. مش زيكم، سلبيين، تشوفوا الحقايق وتعملوا نفسكم مش شايفين، أو تتحركوا بعد فوات الأوان!”
اشتعل غضبه وهتف:
“انتي فاكرة نفسك مين؟ لما تعرضي اللي حواليكي للأذى؟! مش في زفت نيابة هي اللي بتحقق وقاضي هو اللي بيحكم؟ مين انتي بقى؟ مجرد صحفية مالهاش أي قيمة!”
قاطعت حديثه بانفعال واضح:
“أنا، واللي زيي، السبب إنكم تتحركوا أصلاً! لأنكم لوحدكم ما بتتحركوش. لازم نموت قدامكم عشان تفكروا تتحركوا. حتى لما حد بيتخطف، ما بتتحركوش غير لما يكون الوقت فات. يكونوا اتذبحوا، أو سافروا بعيد، وساعتها تتحركوا!
أنا عملت اللي عملته عشان حقوق الناس اللي ضاعت. لكن واضح إني بضيع وقتي معاك. مفيش فايدة!”
تركته غاضبة، وصعدت إلى غرفتها في الأعلى. أغلقت الباب خلفها، واستلقت على السرير لتستريح قليلاً، تفكر في خطتها القادمة للهروب. همست لنفسها:
“لا مفر… المرة الجاية لازم أنجح.”
—
في الأسفل، تمتم عاصم بيأس:
“فعلاً، مفيش فايدة من الكلام معاكي.”
توجه لاستقبال الخادمة التي وصلت لتوها من مصر، السيدة فاطمة، التي كانت تعمل لدى عائلته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا. كانت بالنسبة لهم مثل الأم، خاصة بعد انتقالهم للعيش في منزل عمهم.
استقبله الحارس ليبلغه بوصولها، فابتسم عاصم وسارع لاستقبالها:
“نورتي ألمانيا يا ست الكل.”
ابتسمت السيدة فاطمة وهي ترد عليه:
“نورك يا ابني.”
أشار لها عاصم بابتسامة دافئة:
“يلا ارتاحي في أوضتك شوية، وبعدها حضري لنا أكلة حلوة من إيديك. وحشني أكلك جدًا.”
ابتسمت فاطمة وقالت:
“عنيا يا بني.”
ثم أضاف عاصم:
“عندي ضيفة هنا في الأوضة اللي فوق، اعملي حسابها في الأكل.”
توقفت فاطمة للحظة، ونظرت إليه بدهشة:
“مين دي؟ انت اتجوزت؟!”
تجمد عاصم في مكانه، وأصيب بالصدمة من سؤالها، ولم يعرف بماذا يجيب
↚
عاصم نظر إليها بصدمة، ثم انفجر ضاحكًا:
“أتجوز مين يا ست؟! أنت هتبليني ببلوة! لا طبعا، دي أمانة عندي هنا لحد ما أرجعها.”
فاطمة، مدهوشة ومش مصدقة:
“يا لهوي! انت خاطفها يا بني؟! ليه كده؟ دي مش أخلاقك، ولا مشيت في الحـ.ـر.ام؟!”
عاصم ضحك بصوت عالي:
“حـ.ـر.ام إيه بس؟! ولا خطف إيه؟! روحي ريحي، شكل السفر بقى مأثر على أخلاقك! يلا يلا.”
فاطمة نظرت إليه بعينين مشبعتين بالقلق، ثم قالت بلهجة قاسية:
“والله شكلك مش مريحني، لما أطلع أشوفها.”
رد عاصم بسرعة:
“سيبيها لحد وقت الغدا، وشوفيها بعدين.”
فاطمة هزت رأسها:
“ماشي يا عاصم بيه.”
ثم ذهبت إلى غرفتها بجانب المطبخ لترتاح قليلاً.
—
بعد عدة ساعات، استيقظت سيلا على صوت خبط على باب غرفتها. قامت بسرعة وتقدمت للباب.
كانت فاطمة تقف أمام الباب:
“الغدا جاهز يا هانم، وعاصم بيه منتظرك تحت.”
تركته فاطمة وغادرت.
اتجهت سيلا للحمام لغسل وجهها، ثم نزلت لأنها لم تأكل منذ الصباح. عنـ.ـد.ما وصلت إلى الطاولة، وجدته جالسًا، فأشار لها بيده دون أن ينظر إليها، كي تجلس.
جلست بجانبه، وبدأت في تناول الطعام بسرعة، وكأنها لم تشعر بشيء حولها. لكن مع مرور الوقت، انتبهت أنه كان يراقبها، فشعرت بالحرج وقالت:
“أحم، شبعت، الحمد لله.”
ابتسم عاصم لها نصف ابتسامة، ثم قال:
“كملي طبقك كله، وقومي بعدين، أنا الحمد لله.”
تركها على راحتها، وذهب إلى مكتبه.
ردت سيلا في نفسها:
“أحسن برده عشان آخذ راحتي… حتى اللقمة بصص لي.”
بعد أن امتلأت معدتها، جاءت فاطمة لتلم الأطباق.
قالت سيلا مبتسمة:
“تسلم إيدك، الأكل جميل. إنتِ اسمك إيه?”
أجابتها فاطمة:
“اسمي فاطمة.”
سيلا ابتسمت وقالت:
“عاشت الأسامي. بس قوليلي، الباب اللي في المطبخ ده بيودي على فين؟”
أجابتها فاطمة:
“ده بيودي على الجنينه اللي بره.”
قالت سيلا بتململ:
“آه، طيب. أنا زهقانة عايزة أطلع الجنينه بره. ممكن؟”
فاطمة قالت بجدية:
“هبلغ عاصم بيه الأول، لو ينفع، هخرجك.”
سيلا ردت بملل:
“يبقى مش هطلع، أنا بقالى يومين هنا محبوسة أصلاً وزهقت بجد.”
فاطمة قالت مطمئنة:
“طالما أنا اللي قولتله، مش هيقولي حاجة. استني بس، هخلص المطبخ وروح استأذنه.”
سيلا ابتسمت بانتصار “لم تاخد بالها.”
انتظرت حتى خرجت فاطمة من المطبخ، ثم دخلت هي مرة أخرى وأخذت شيئًا كانت قد خبأته سابقًا، ثم جلست تنتظر فاطمة.
عنـ.ـد.ما دخلت فاطمة، بدت حزينة، وقالت:
“موافقش صح.”
ردت سيلا:
“معلش يا بنتي، بكره هكلمه تاني، يمكن يرضى. بس إنتي عملتي إيه مخليه مشـ.ـدد الحراسة عليكي كده؟ ومش عاوزك تخرجي حتى!”
سيلا ردت بغضب:
“هو أصلاً خاطفني، بيقول إنه بيحميني، وأنا أقدر أحمي نفسي كويس ومستغنية عن خدمـ.ـا.ته دي!”
فاطمة هزت رأسها وقالت بحكمة:
“لا، يبقى موضوعك كبير طالما بيحميكي. هو أكفأ ضابط مخابرات، مش بيمسك مهمة إلا لو كانت كبيرة قوي.”
أضافت فاطمة بنبرة جادة:
“عنده حق إنه مشـ.ـدد الحراسة عليكي، اسمعي كلامه يا بنتي، عشان مش عاوزين مشاكل معاه. أنا مربياه وفاهماه. ما يغركيش إنه ساكت كتير كده. لما يطلع غضبه، محدش يقدر يتحكم فيه. خلي بالك.”
ثم قالت بلطف:
“ولو كنتي زهقتي، استني بكرة، يمكن أخرجك شويه.”
سيلا بتفكير:
“هو فين طيب؟ عاوزاه!”
: _ في المكتب “استني، دخلي له القهوة دي معاكِ.”
خبطت على الباب، وسمعت صوته يقول:
“ادخلي يا فاطمة.”
دخلت سيلا الغرفة فوجدت عاصم مشغولًا بالأوراق أمامه، لم يلاحظ وجودها. اقتربت منه بصمت، وضعت القهوة على المكتب، لكن فور أن نظرت إلى شاشة الحاسوب، فوجئت بما رأته، فوقف جسدها فجأة من الصدمة.
كانت شاشة الحاسوب تعرض مراقبة لكل تحركاتها في المنزل. تفاجأت، ووقف قلبها في مكانه. انتبه لها عاصم، أغلق الحاسوب بسرعة، ونظر إليها باستغراب:
“خير، إيه اللي جابك هنا؟”
جلست سيلا أمامه، محاولة الهدوء:
“ممكن أقعد؟”
عاصم رفع حاجبه بتعجب:
“أمال إنتِ عملتي إيه دلوقتي؟”
سيلا كانت قد جاءت لتحدثه بشأن أمر ما، لكنها قررت تغيير خطتها عنـ.ـد.ما اكتشفت أنه يراقب تحركاتها. شعرت أن لا مفر من الهروب، لكن قررت إعلان هدنة مؤقتة معه.
قالت سيلا بنبرة هادئة:
“يعني، كنت جايه أقولك إني فكرت بكلامك، يعني وأنا شكلي فعلاً اتسرعت. بس أنا هقعد هنا لامتى؟ مش متعودة على حبسي ده، ومش عارفة أنا فين أصلاً.”
عاصم أومأ برأسه:
“كويس إنك فكرتِ، هتقعدي لأمتى لحد ما نمسك أفراد العصابة. إحنا بنراقبهم، وقريب هيتقبض عليهم أول ما يطلعوا من جحورهم.”
سيلا بتفاؤل:
“بجد؟ طيب كويس، بس ما قلتليش إحنا فين؟”
عاصم بضجر:
“في ألمانيا.”
سيلا صُدمت وقالت:
“هااااه؟ بجد؟ طيب إزاي وجيت هنا إزاي؟”
عاصم:
“مش عاوزة رغي كتير. عندي شغل، اتفضلي قومي.”
سيلا بحذر:
“ممكن استعير كتاب من عندك أقرأه بدل الزهق ده؟”
عاصم نظر إليها قليلاً، ثم قال:
“ماشي، خدي. المكتب مليان كتب.”
سيلا بابتسامة صفراء:
“ميرسي.”
ثم قامت تبحث في المكتب عن كتاب، رغم أنها لم تكن تحب القراءة، لكنها وجدت أنها لا تملك خيارًا آخر لتمضية الوقت.
أمسكت بكتاب لفت نظرها بعنوان “موجوع قلبي”، وهمست لنفسها:
“وده إيه اللي وجع قلبه ده كمان؟ عشان يجيب “موجوع قلبي”، هي ناقصة وجع قلب! عدينا المرحلة دي من زمان.”
عاصم، الذي كان يراقبها، رد مازحًا:
“ها، خلصتي كلام مع نفسك ولا لسه؟”
سيلا ابتسمت ابتسامة بـ.ـاردة وقالت:
“لا، أبدًا. لاقيت كتاب هنا، هقراه وأرجعه تاني.”
عاصم:
“ماشي، خدي الباب وانتي طالعة.”
سيلا:
“حاضر.”
خرجت بالكتاب وذهبت لتقرأه.
دخلت غرفتها، غيرت ملابسها، وجلست على السرير. ظلت تقرأ حتى غلبها النوم، والكتاب داخل حـ.ـضـ.ـنها.
بعد أن انتهى من عمله، توجه عاصم إلى غرفته ليستريح. لكنه سمعها تتهمس، ثم طرق الباب، ولم يأتِ الرد. ففتح الباب ودخل ليجدها نائمة، والكتاب فوقها. كانت تتحدث وتبكي أثناء نومها:
“ليه؟ ليه كده؟”
وقف عاصم مترددًا، مستغربًا من حالتها، لم يعرف إن كان يوقظها أم يتركها نائمة. قرر في النهاية تركها وشأنه.
أخذ الكتاب من يديها ووضعه جانبها، ثم غطاها بالبطانية.
رجع إلى غرفته لينام بعمق.
أغلقت همسة عينيها بعد أن قرأت الرسائل التي أرسلها وليد، وعلى وجهها ابتسامة خفيفة قبل أن تسقط في نوم عميق من شـ.ـدة التعب. في الجهة الأخرى، كان وليد في حالة من الإحباط بعد أن لم يتلقَ أي رد منها، متسائلًا في نفسه عن السبب وراء تجاهلها لرسالته.
أما معتز، فقد ركب سيارته بعد أن أجرى اتصالًا سريعًا، وقال للمُجيب في الطرف الآخر، “انتو فين؟”، وبعدما تلقى الإجابة، أضاف “طيب تمام، أنا جايلكم. سلام.” وقاد سيارته مبتعدًا عن المكان.
دخل معتز الملهى الليلي، وحاول أن يبحث عن حمزة وحسام وسط الأضواء الخافتة والموسيقى الصاخبة. لم يمر وقت طويل حتى عثر عليهم، وكانوا جالسين معًا على إحدى الطاولات.
حمزة: “إيه يا عم، عاش من شافك!” حسام: “لك وحشة، أبرنس! فينك مش بتظهر ليه؟” معتز: “أكون فين يعني؟ في الشغل وقرفه، سيبك مني. أنتم عاملين إيه؟ وأخبـ.ـار الليلة إيه؟”
حمزة: “إحنا زي الفل، والليلة بدأت تحلو اهيه.”
وغمز بعينيه باتجاه فتاة جالسة مواجهتهم، ملابسها تكشف أكثر مما تستر، وكأنها جزء من التسلية في المكان.
حسام: “بس إيه، رماك علينا المرة دي؟ مش بتيجي إلا وإنت وغمزله.”
معتز: “عندك، ولا أروح أشوف في مكان تاني؟”
حسام ضحك ضحكة عالية: “عيب تقول الكلام ده، وأنا صاحب المكان، كده بتشتمني! طلبك عندي، بس مش عاوزين قلق.”
معتز: “عيب عليك.”
حمزة تدخل: “معتز، أنت مش بطلت الموضوع ده بقالك فترة، رجعت له ليه تاني؟”
معتز: “خليك في حالك.”
معتز نظر إلى حسام قائلاً: “إيه الكلام؟”
حسام قام قائلاً: “خمسة دقايق وجاي.” مرّ بضع دقائق، ثم عاد حسام وغمز لمعتز، قائلاً: “طلبك مستنيك فوق.”
معتز قام وصعد إلى الغرفة، مستعدًا لما ينتظره هناك.
… ..
ظلت مي جالسة في غرفتها، عينيها لا تفارق الجدار أمامها، مشاعر القلق تسيطر عليها. كلما تذكرت نظرته الغريبة، كلما شعرت برهبة أكبر. فكرت في نفسها مرارًا: “أكيد جاي هنا صدفة، مفيش غير كده.” لكنها لم تستطع التخلص من تلك النظرة التي لا تفارق ذهنها، كانت مرعـ.ـبة لدرجة أنها بدأت تشك في كل شيء حولها.
“أنا و سيلا كنا عاوزين نسيئ سمعتهم و نكتب عنهم كلام غلط في شركتهم… الحمد لله، ملحقناش.” قالت لنفسها، محاولة أن تجد مبررًا لما حدث. “يا لهوي، ده كان موتني بشكله ده.”
استمر التفكير يتوالى في رأسها حتى غلبها النعاس، وغفت على سريرها، بينما كانت الصورة المرعـ.ـبة التي تركها في ذهنها لا تزال عالقة، تفكر في ما إذا كانت ستلتقي به مرة أخرى، وكيف سيكون رد فعلها حينها.
ــــــــــــــــــــــــــ
دخل الغرفة وأغلق الباب خلفه بعنف، عينيه مليئة بالغضب والانفعال. كانت جالسة تنتظره، لكنها تراجعت إلى الوراء، بعدما رأته واقف أمامها يخلع حزامه ويلفه حول يده، ملامحه مشـ.ـدودة وعينيه مليئة بالغضب، ثم بدأ في صوته القاسي وهو يردد كلمـ.ـا.ت مؤلمة عن الخيانة، و ضـ.ـر.باته على جسدها كانت عميقة في تأثيرها، أنتهى منها أرتدى ملابسه، ثم قام بأخراج دفتر الشيكات والقي أمامها، تاركا المكان وهو غارق في أفكاره المشتتة والضبابية.
بينما هو في طريقه إلى منزله، عينيه لا تبرح صورة وجهها الذي لا يزال في ذهنه. كان يحاول الهروب من ذكرياته بطرق مختلفة، لكنه لم يستطع. عنـ.ـد.ما وصل إلى غرفته، توجه إلى حقيبة الملاكمة ليخرج ما تبقى من غضبه على الحقيبة المعلقة، محاولاً أن يتخلص من تلك المشاعر التي تحاصره.
أخذ حمامًا بـ.ـاردًا على أمل أن يهدأ قلبه، ثم جلس في مكانه، يردد كلمـ.ـا.ت غير واضحة، وكأنها محاولة لتبرير نفسه. لكن في أعماقه كان يعلم أن ما فعله لن يكون قادرًا على تهدئة تلك النار المشتعلة داخله.
في صباح اليوم التالي، استفاقت سيلا وجلست على السرير لبعض الوقت قبل أن تنهض وتنزل إلى الأسفل. هناك، قابلت فاطمة التي كانت تحضر الفطور.
“صباح الخير”، قالت سيلا بابتسامة.
“صباح الخير يا حبيبتي”، ردت فاطمة بحنان، “بحضر الفطار ثواني ويكون جاهز.”
“لا، أنا محتاجة قهوة مش بفطر”، قالت سيلا وهي تقترب من المطبخ، “خليكي هعملها أنا.”
تحدثت فاطمة بنبرة الأم الحانية: “لا قهوة ايه، لازم تفطري الأول.”
ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة وقالت: “عارفة، بتفكريني بماما كل يوم الصبح نفس الكلام ده لحد ما غلبت معايا.”
“عارفة، واحشتني أوي هي وبابا وهمسة…” قالت سيلا بتأثر، ثم صمتت فجأة عنـ.ـد.ما سمعت صوته خلفها.
عاصم، الذي كان يقف خلفها، قال: ” روحي جهزي الفطار يا دادا.”
“حاضر يا بني”، قالت فاطمة بسرعة، وتركتهما وذهبت لتكمل تحضير الفطور.
ثم نظر عاصم إلى سيلا وقال بنبرة حازمة: “تعالي يا سيلا، على مكتبي، عاوزك.”
لم تلتفت له فور سماعها صوته، لكنها مسحت بيدها بقايا دمعة هـ.ـر.بت منها، محاولة إخفاء مشاعرها
↚
وقفت سيلا مكانها، متجمدة، دون أن تلتفت لصوت عاصم. مسحت دمعة تسللت رغماً عنها، دمعة شوق لأهلها. تبعته بخطوات هادئة نحو المكتب.
لاحظ عاصم ارتعاش عينيها، جلس خلف مكتبه وقال بصوت هادئ:
“تعالي، اقعدي.”
جلست أمامه صامتة، فقال مبتسماً:
“خلصتي الكتاب ولا لسه؟”
رفعت نظرها إليه بدهشة، وأجابت:
“لا، لسه. نمت قبل ما أخلصه، فاضلي آخر أربع فصول. غريب أوي، مكنتش متوقعة ألاقي النوع ده من الكتب عندك.”
ابتسم بسخرية خفيفة وقال:
“ليه يعني؟ مش بني آدم زيكم؟ عموماً، الجزء اللي كنتِ واقفة عنده ده مش تبعي أصلاً.”
نظرت إليه بفضول:
“أمال تبع مين؟”
أجاب وهو يعقد ذراعيه:
“ده تبع رودينا، أختي. كانت بتجيب معاها كتب لما كانت بتزور المكتب قبل ما تتجوز، وسبتهم هنا.”
سرحت سيلا للحظة عنـ.ـد.ما سمعت اسم صديقتها القديمة، وشعرت بضيق غريب. لكنها لم تُعلّق، فقط نهضت وقالت بهدوء:
“طيب، أنا هطلع بعد إذنك.”
وهي على وشك الخروج، استوقفها بصوته الواضح:
“مش عايزة تكلمي أهلك؟”
توقفت، التفتت إليه وأومأت بالإيجاب.
قال:
“طيب، تعالي اقعدي. أنا هكلم والدك.”
تناول الهاتف وأجرى اتصالاً. وما إن رد الطرف الآخر، أعطى الهاتف لسيلا. أخذته بسرعة، وعيناها تلمعان بالفرحة، وقالت بشوق:
“بابا!”
رد والدها بحنان:
“سيلا، حبيبتي! عاملة إيه يا قلب أبوك؟”
أجابت بصوت مخـ.ـنـ.ـوق من الشوق:
“أنا كويسة، بابا، بس وحشتوني أوي. أنا عايزة أرجع، مش قادرة أستحمل البُعد عنكم.”
حاول تهدئتها، رغم الألم في صوته:
“معلش يا حبيبتي، دي فترة وهتعدي. قريب ترجعي لنا.”
لكن صوت نرمين، والدتها، جاء سريعاً وهي تخطف الهاتف:
“سيلا! يا حبيبتي، إنتِ كويسة؟ صوتك ماله؟ حد ضايقك؟”
ابتسمت سيلا رغم اختناقها وقالت:
“لا يا ماما، أنا كويسة. محدش مضايقني، بس… وحشتوني أوي. فين همسة؟ عايزة أكلمها.”
راقبها عاصم بصمت، لم يغفل عنها للحظة.
جاء صوت همسة من الطرف الآخر مليئاً بالشوق:
“سيلا! البيت وحش من غيرك. تعالي بقى!”
نظرت سيلا لعاصم بتحدٍ وهي تقول:
“حشـ.ـتـ.ـيني و يا همسة. خلي بالك من نفسك، وقريب جداً هكون عندك.”
ردت همسة بصوت منخفض وكأنها تخشى أن يسمعها أحد:
“حاضر. بس قوليلي، عامل معاكي إيه اللي ما يتسماش اللي عندك؟”
همست سيلا وهي تكتم ابتسامة:
“هتوديني في داهية يا بت! هاتي بابا.”
عاد والدها إلى الهاتف وقال بلهجة جدية:
“سيلا، خلي بالك من نفسك. وأنا متفق مع عاصم إنه يخليكِ تكلمينا باستمرار.”
ردت بتوسل:
“بابا، أنا عايزة أمشي من هنا. زهقت، مش طايقة المكان.”
قال والدها بحزم:
“سيلا، بطّلي العناد. إنتِ مش صغيرة، لازم تسمعي كلامه. هو عارف مصلحتك. ولما ترجعي من السفر، هيبقى ليا كلام تاني معاكي.” ثم أضاف:
“هاتي عاصم.”
ناولته الهاتف. تحدث عاصم مع والدها باختصار، ثم قال:
“ما تقلقش، وأقرب وقت هخليها تكلمك تاني. مع السلامة.”
قالت بهدوء ممتن:
“شكراً ليك.”
أجاب بابتسامة صغيرة:
“العفو.”
فاطمة دخلت تخبرهم بأن الفطور جاهز. جلس عاصم على الطاولة وألقى نظرة على سيلا، التي كانت ما زالت واقفة. قال بصوته الحازم:
“اقعدي.”
ردت سيلا ببرود:
“مش هقدر أفطر دلوقتي. سبني على راحتي.”
قال بنبرة لا تقبل النقاش:
“سيلا، اقعدي.”
زفرت بتأفف وجلست في مكانها، ليضيف بصرامة:
“اتفضلي، كُلي.”
أمسكت السكين بعصبية، وبدأت تقطع الجبن بعنف، تصدر أصواتاً واضحة أثناء التقطيع. وضعت قطعة صغيرة أمامها وظلت تنظر إليها دون أن تتحرك.
ابتسم عاصم بسخرية وقال:
“شكلها حلو، صح؟ خلصينا بقا. مش باكل بنت أختي، وبعدين أنا شلت القهوة من مكانها. افطري زي الشاطرة.”
زفرت بضيق، لكنها بدأت تأكل ببطء وهي تنظر إليه نظرات مليئة بالغضب والاحتقان. بعد دقائق قليلة أنهت إفطارها وقالت بنبرة تحدٍ:
“ممكن أشرب قهوتي بقى؟”
نظر إليها ببرود وقال:
“أفكر.”
همست بكلمـ.ـا.ت وصلت لمسامعه:
“إنسان بـ.ـارد.”
رفع عينيه نحوها وقال بعصبية:
“قلة أدب! مش بحبها.”
صمتت على الفور، متجنبة إثارة غضبه أكثر. نادى على فاطمة قائلاً:
“داده، اعملي لها قهوة.”
ردت فاطمة:
“حاضر يا بيه.”
نظرت سيلا إليه بخجل وقالت بتردد:
“كنت عاوزة أطلب حاجة كده يعني…”
أجاب بحدة:
“اطلبي!”
تحدثت بصوت منخفض:
“أنا هنا ومعنديش لبس، ومحتاجة آخد شاور يعني و…”
قاطعها سريعاً:
“طيب، ماشي. هتصرف.”
نهض من مكانه غاضباً، تناول مفاتيح سيارته، وغادر دون أن يضيف كلمة.
بعد دقائق، جاءت فاطمة بالقهوة. شكرتها سيلا، ثم لمعت عيناها بفكرة. استغلت خروجه السريع، وهرعت إلى غرفتها. بدّلت ملابسها سريعاً، وأحدثت بعض الفوضى المتعمدة في الغرفة. جلبت شيئاً كانت قد أخفته سابقاً، ثم اتجهت نحو فاطمة تطلب منها ترتيب الغرفة.
فاطمة، كالعادة، وافقت بابتسامة قائلة:
“حاضر يا هانم.”
تنفّست بعمق وكأنها تنتظر ما سيأتي بعد ذلك.
ظلت تراقب بعيناها جميع الاتجاهات على موضع كاميرات حتي وجدتها.
نظرت لها و ابتسمت لها و عملت حركة بصوابع ايديها كأنها تقول له سلام.
و جلبت كرسي صعدت عليه و قامت بتغطيتها و حاولت فتح الباب عدة مرات الى ان فتح اخيرا و صفقت بسعادة: يس يس.
نظرت للخارج بحذر يمين شمال وجدت الحراس واقفين بعيدا خارج البوابه خرجت و اغلقت الباب و ركضت حتى وقفت خلف شجرة تختبئ وراءها حتى تجد مخرج للخارج نظرت حولها تستكشف المكان حولها .
المكان محاط بسور عالي و بوابه حديد و وقوف بعض الحراس و كلاب.
وجدت مخرج اتجهت خلف المنزل بسرعة و أزاحت بعض الأشجار و تسلقت السور لم يكن عالي و قفزت للخارج و ظلت تركض لم تجد الا شجيرات فقط تحدثت حالها : وبعدين بقا مفيش طريق عربيات ليه.
حاولت تبتعد بقدر الامكان من المنزل ثم وقفت تسترح قليلا لحد ما ! …
خرج للخارج وركب سيارته لكنه لم يكن مرتاحا تحرك للخارج لشراء بعض ملابس لها تناسبها وصل للطريق بعد فتره قصيره و دخل على محل ملابس و اختار لها بعض ملابس و انتهى سريعة وركب سيارته و غادر .
و امسك جهاز التابليت الموصل بكاميرات المراقبة داخل المنزل و ابتسم ابتسامه شيطانيه :
قلبي حاسس والله يلا بينا نلعب شويه و تجربي وشي التاني عامل ازاي.
انطلقت سيارته بسرعة، وعيناه تشعان بالغضب كأن بركانًا يوشك على الانفجار. وصل إلى البوابة، وتوقف فجأة، ثم خرج من السيارة مسرعًا، ممسكًا بسلاحه، وأخذ شيئًا آخر قبل أن يتوجه نحو الحراس. بدا الغضب يتساقط من كل كلمة نطق بها، وهو يوجه لهم اللوم بلا رحمة: “أنتم أغـ.ـبـ.ـياء! كيف ما شفتوش حاجة؟ موقف زي ده كأنكم بهائم!” ثم أشار بيده إلى الحراس، وأضاف بتحدٍ: “لما أرجع، مش عايز أشوف حد فيكم!”
نظرت عيناه ببرود إلى الكـ.ـلـ.ـب الجالس بجانبه، ثم تجاهل الحراس الذين حاولوا التوسل إليه. “غـ.ـبـ.ـية… مش هرحمك. عديتلك كتير، بس دلوقتي في مملكتي. خروجك يعني نهايتك، ومش هعديها لك المرة دي!” ثم انطلق متجهًا إلى الجزء الخلفي من المنزل. كان الباب مفتوحًا، فدخل بخطى سريعة، يشم في الهواء بحثًا عن أي أثر يدل عليه.
الكـ.ـلـ.ـب بدأ يشم شيئًا على الأرض، ثم أمسك بقطعة كانت قد سقطت منها أثناء نومها في الطائرة. حملها في فمه، وركض خلفه. توقف الكـ.ـلـ.ـب فجأة، ثم بدأ ينبح بعنف، وكأنما يوجهه إلى وجهة معينة. وقف عاصم بجانب الكـ.ـلـ.ـب، يراقب بتـ.ـو.تر، وفجأة انطلقت نداءات صوته في الأفق: “سيلااااااه!”
توقفت سيلا فجأة وسط الركض، تكاد لا تجد أنفاسها. حولها غابات كثيفة، وعرفت أنها تاهت، ولكنها لم تستسلم. بينما كانت تواصل الركض، بدأ قلبها ينبض بقوة، وسرعان ما أدركت أن شيئًا رهيبًا يقترب منها. ثم، في لحظة، سمعته ينادي اسمها بصوت قوي ومهيب، يتزامن مع صوت الرعد الذي يخترق السماء.
توقفت فجأة، غير قادرة على اتخاذ خطوة واحدة أخرى. التفتت ببطء، لتجد عاصم واقفًا أمامها بابتسامة بـ.ـاردة، يده داخل جيب بنطاله، والكـ.ـلـ.ـب بجانبه في وضع الاستعداد، ينبح وكأن اللحظة التي سينقض فيها عليها قد حانت.
ظلا يواجهان بعضهما البعض، وعينيه تشتعلان بغضب لم يطفئه حتى تساقط الأمطار. بل على العكس، كانت النيران في عينيه تزداد اشتعالًا، وكأنها تهدد بابتلاع كل شيء حوله.
لم تكن سيلا قد حسبت حساب هذه المواجهة. بدأ الرعـ.ـب يتسلل إلى قلبها، فشعرت بدفء التـ.ـو.تر في الجو وبرودة الأمطار التي كانت تتساقط على بشرتها. ولكن برودة الجو كانت أقل تأثيرًا من حرارة نظرته التي كانت تجمد كل شيء في محيطها. خطوة بخطوة، بدأت تسحب قدميها إلى الوراء، تحاول الابتعاد عنه، ولكن كلما تحركت خطوة إلى الخلف، كان يقترب منها أكثر وأكثر.
“مفيش مفر من هروبك خلاص، ارجعي يا سيلا. أنا حذرتك قبل كده، وقولتلك إن الضـ.ـر.بة المرة اللي فاتت كانت على هواء، لكن إنتي استهنتي واستعجلتي!” كانت كلمـ.ـا.ته ثقيلة، كالرصاص، تضغط على قلبها وتزيد خوفها.
عينيه كانت تتبع كل حركة منها، وكلما تراجعت أكثر، كان يخطو هو للأمام. شعرت أن الحافة قد اقتربت منها، وأنه لا مفر. عنـ.ـد.ما أمرها بالتوقف، كان صوته عميقًا، يأمرها بالانتظار، لكن قلبها كان قد انتفض في صدرها وركضت مبتعدة عنه بسرعة.
بينما كانت تهرب، سمعت صوته يأمر الكـ.ـلـ.ـب: “قف روي!” توقف الكـ.ـلـ.ـب فجأة عن الركض وراءها، ولكن فضولها جعلها تلتفت للحظة واحدة. كانت تلك لحظة قـ.ـا.تلة. لم تتعد ثوانٍ معدودة حتى شعرت بشيء غريب، ثم جاء الصوت المفاجئ.
الطلقة أصابتها مباشرة. تراجعت بضع خطوات إلى الوراء، وكأن قدميها فقدت قوتها تمامًا. شعرت بألم مفاجئ، ودمائها بدأت تسيل. تجمدت في مكانها للحظة، وعينيها اتسعتا، فمها مفتوحًا في صدمة، وعقلها غير قادر على استيعاب ما حدث.
سقطت أرضًا، وكأنها فقدت كل قوتها، بينما كانت الأرض من تحتها تتحول إلى سواد دامس.
ـــــــــــــــــ
استفاق معتز من نومه، وقد بدت علامـ.ـا.ت الإرهاق واضحة على وجهه بعد يوم طويل من العمل الشاق. كان جسده يصـ.ـر.خ من التعب، لكنه حاول أن يطرد هذا الشعور. نهض بتثاقل، واتجه إلى الحمام ليأخذ حمامًا منعشًا يساعده على استعادة نشاطه. بعد أن انتهى، ارتدى ملابسه بعناية، وأخذ لحظة ليجمع أفكاره قبل أن يخرج من المنزل.
قبل أن يغادر، قرر إجراء مكالمة هامة، ثم خرج ليقابل وليد عند الباب. اتجه الاثنان معًا إلى الشركة، حيث جلس معتز خلف مكتبه في هدوء، عينيه تركزان في الفراغ وكأن ذهنه مشغول بمكان آخر. كان ينتظر بشـ.ـدة وصول شخص ما، وكأن الوقت يمر ببطء وهو جالس هناك.
مر وقت طويل، ولكن لم يحدث شيء. بدأ وليد يلاحظ انشغال معتز، فتوجه نحوه وسأله بقلق: “مالك يا بني؟ فيك إيه؟ بقالي ساعة بكلمك مش بترد.” كان يشير بيده أمام وجهه، وكأنه يحاول استعادة انتباهه.
استفاق معتز أخيرًا، وقال وهو يحرك رأسه: “إنت لسه قاعد هنا؟ فكرتك مشيت؟”
غمز وليد بابتسامة واسعة، وقال على أمل: “لا، ما مشتش. مالك بقى؟ رحت فين؟ شكلك فكرت في كلامي، يا بن عمي، ولا إيه؟”
تنهد معتز بعمق، وأجاب: “آه، فعلاً فكرت في كلامك… وبحاول أتنفذه. امشي أنت دلوقتي، عشان أنا مستني حد.”
ابتسم وليد وقال: “ماشي يا عم، الله يسهلها. أطير أنا بقى.”
مرت ساعة كاملة قبل أن يأتي خبر مفاجئ من السكرتارية: هناك شخص من جريدة يريد مقابلته. معتز كان جالسًا في مقعده، مولّيًا ظهره للباب، عنـ.ـد.ما سمع طرقًا خفيفًا على الباب. أذن بالدخول، ثم لف كرسيه ليواجه القادم. وعنـ.ـد.ما نظر، تفاجأ تمامًا بما رآه أمامه…
↚
في مكان آخر، كان الحديث متـ.ـو.ترًا، حيث كان الرجل الأول يصـ.ـر.خ بصوت غاضب: “يعني إيه اختفت؟!” كانت كلمـ.ـا.ته مليئة بالتهديد، عينيه تبرقان بالغضب.
رد الرجل الآخر بحذر، محاولًا التخفيف من حدة الموقف: “محدش عارف مكانها يا باشا. إحنا بنراقب بيتها، وما فيش غير اختها ووالدتها وأبوها. حتى الجرايد مش رايحة لها.”
لكن غضب الرجل الأول لم يهدأ، بل زاد تأججًا. أمسك بالرجل الآخر من عنقه، وقال بصوت مخـ.ـنـ.ـوق: “إنت عارف لو البت دي مظهرتش، الباشا الكبير هيصفينا كلنا! يعني لازم نجيبها! رقبتنا في خطر، فاهم؟”
أصبح الوضع أكثر تـ.ـو.ترًا، فصرخ الرجل الأول في وجهه: “امشي من قدامي، متجيش تاني إلا لما تعرف مكانها! يلا، فاهم؟”
الرجل الآخر، وقد خشي على نفسه من غضب الرجل الأول، رد بسرعة: “أمرك يا ريس.” ثم خرج مسرعًا، عاقدًا العزم على العثور عليها بأي طريقة كانت.
بعد إطـ.ـلا.ق النار، اقترب عاصم منها بسرعة، وحملها بين ذراعيه، عائداً إلى المنزل. عند الباب، قابلته الست فاطمة التي صُدمت عنـ.ـد.ما رأت حالتها. كانت ملابسها مبللة بالدماء والأمطار، وجسدها ينزف بشـ.ـدة. لطـ.ـمـ.ـت على صدرها، وتفجرت مشاعرها قائلة: “يا لهوي! يا لهوي! مالها؟ حصلها إيه؟ ليه مش بتتحرك كده؟ يا حبيبتي يا بنتي!”
لم يكن عاصم في حال يسمح له بالكلام الكثير. رد بسرعة: “مش عايز كلام كتير، عاوز مياه مثلجة بسرعة، وجيبي عدة الإسعافات من مكتبي، يلا بسرعة!” كان صوته عميقًا، وصدره يضيق من التـ.ـو.تر.
فاطمة لم تتردد، هرعت مسرعة: “حاضر، حاضر.” ثم جرت إلى مكتبه لتنفيذ أوامره.
نقلها عاصم إلى الكنبة، وتأكد من وجود نبض في جسدها، بينما كانت لا تزال فاقدة للوعي. ساعده ذلك في تحديد مكان الرصاصة، فقام بسرعة بإحضار مقص وقطع ملابسها حول يدها اليسرى. خرج الرصاصة بعناية، ثم بدأ في تعقيم الجرح. في تلك اللحظة، دخلت فاطمة ومعها المياه البـ.ـاردة وعدة الإسعافات، فشرع عاصم في تعقيم الجرح مرة أخرى، ثم لفه بالشاش بإحكام. كان معتادًا على هذه الأمور من خلال المهمـ.ـا.ت التي يشارك فيها.
ظلت سيلا غارقة في إغمائها، تهمس بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة، لكنه لم يكترث. حملها بحرص وأمر فاطمة: “تعالي ورايا.” توجه بها إلى غرفتها، حيث قال لها: “غيري لها ولبسيها الملابس دي، فيها هدوم كتير. ناديني بعد ما تخلصي.”
أجابت فاطمة: “حاضر.” ثم خرج عاصم بسرعة، متجهًا إلى غرفته. حاول أن يسيطر على غضبه الذي بدأ يشتعل داخله، فتمتم لنفسه: “أيامك سودة معايا، وانتي جربتي غضبي.” استبدل ملابسه بسرعة، ثم حضر شيئًا ما قبل أن يخرج مرة أخرى.
عنـ.ـد.ما دخل غرفتها، وجد فاطمة قد انتهت من تغيير ملابسها. سألها عاصم بصوت أجش: “خلصت؟” أجابت فاطمة: “أيوه، يا بني، خلصت. بس… إيه اللي حصل لها؟ مين اللي ضـ.ـر.بها بالنار كده؟”
عاصم رد بنبرة غاضبة: “وانتي كنتي فين لما هـ.ـر.بت؟ مش عايز أسمع كلمة تانية.” ثم أضاف بأمر: “أنا هديها حقنة مسكنة، هي احتمال تسخن. خليكي جنبها، وأول ما تفوق تبلغيني.”
أومأت فاطمة برأسها في طاعة، وقالت: “حاضر يا بني.”
ثم أعطى لها عاصم الحقنة، وأمسك يدها بعناية. في تلك اللحظة، وضع سوارًا حديديًا أسود اللون حول معصم يدها، ثم قفله باستخدام مفتاح خاص به. تركها في الغرفة، وخرج.
على الجانب الأخر، ذهبَت مي إلى الجريدة كما اعتادت، متبعَة الروتين اليومي. كانت تكتب المقالات وتنسبها لسيلا، حتى تبتعد عن أي مراقبة أو تخطيط من العصابة التي كانت تطاردها. جلست على مكتبها، لكن سرعان ما طلبها المدير، أحمد.
قال أحمد وهو يبتسم: “تعالي يا مي، أنا حبيت أشكرك بنفسي على المجهود الرائع اللي بتعمليه، وأنا مش ناسي ده، وطبعًا هكافئك.”
أجابت مي بتواضع: ” يا فنـ.ـد.م، أنا بعمل المفروض يتعمل.”
رد أحمد: “عموماً، المرة دي هننسب الموضوع ليكي أنتي. نفس الشركة اللي حضروا الافتتاح في الغردقة، لكن فرعها هنا. المدير كلمني وطلب حد من عندي، طلبك بالاسم كمان! تعملي معاه حوار عن إنجازات الشركة، ها يا ستي، مبسوطة؟”
أخذت مي نفسًا عميقًا، فشعرت بشيء غير مريح. لم ترتح لهذه المقابلة، وأيقنت أن نية المدير ليست بريئة. لكن ابتسمت ابتسامة متـ.ـو.ترة وقالت: “أه طبعًا مبسوطة جدًا، بس… بس إيه؟ في حاجة كدة ممكن أي زميل يعمل الحوار؟”
أجاب أحمد بإزعاج: “مي، ازاي يعني؟ ده شغل يا أستاذة! هنلعب ولا إيه؟ بعدين انتي مطلوبة بالاسم! عايزني أبدلك بحد تاني؟ اتفضلي، تقدري تروحي دلوقتي، هو في انتظارك!”
مي، التي لم تجد مفرًا، ردت بقلة حيلة: “تمام يا فنـ.ـد.م.” ثم خرجت، وهي لا تعرف ماذا تفعل، فاستقلت المواصلات وذهبت إلى منزل همسة. فتحت لها الباب ودخلتا معًا إلى غرفتها.
قالت همسة بابتسامة مشجعة:
“مي، واحشتيني أوي! عاملة إيه؟ وأخبـ.ـار المعرض إيه؟”
ابتسمت مي وردت بحماس:
“الحمد لله، خلاص قرب، فاضل كام يوم بس. أكيد هتيجي معايا، ما تسبنيش في اليوم ده، انتي كمان!”
ضحكت همسة وأكدت:
“طبعًا جايه يا حبيبتي، ربنا يوفقك يا رب.”
ثم فجأة، توقفت مي وكأن شيئًا خطر ببالها، فسألت:
“سيلا، ما اتصلتش تاني بيكم؟”
تغيرت ملامح همسة للحزن وهي ترد:
“لا، للأسف.”
لاحظت همسة شحوب وجه مي، فسألتها بقلق:
“مالك يا مي؟ شكلك مش مريحني، في حاجة حصلت؟ مامتك كويسة؟”
ردت مي بتردد:
“ماما كويسة، الحمد لله. لكن أنا حاسة إني مشوشة، مش عارفة إيه اللي بيحصل لي بالضبط.”
حاولت همسة طمأنتها:
“خير يا حبيبتي، انتي قلقتيني عليكِ. فيكي إيه؟ احكي لي، يمكن أفيدك.”
أخذت مي نفسًا عميقًا وقالت:
“أنا مش عارفة، بجد. فاكرة يوم ما مشيت من عندك آخر مرة؟ فاكرة معتز، أخو عاصم، اللي وصلنا؟ اللي شوفناه يوم الغردقة؟”
ردت همسة وهي تتذكر:
“آه، فاكرة طبعًا.”
تابعت مي بنبرة مرعوبة:
“لقيته واقف تحت البيت عندي، وشكله كان مرعـ.ـب أوي. طلعت فوق جري وخفت منه جدًا. بصيت عليه من الشباك لقيته فجأة رافع راسه يبص عليا، وبعدها مشي مرة واحدة. ومن وقتها وأنا خايفة، مش عارفة سبب وجوده هناك.”
تفاجأت همسة وقالت باستغراب:
“غريب جدًا! طيب ليه ما كلمتيهوش وسألتيه؟”
هتفت مي بخوف:
“أكلمه إيه؟ ده شكله كان مش طبيعي أبدًا، وكمان اللي خوفني أكتر إنه طلبني أنا تحديدًا عشان أروحله أعمل معاه حوار. أنا المفروض أكون عنده دلوقتي كمان!”
ردت همسة بقلق:
“طيب وبعدين؟ مش هتروحي؟ ده ممكن يسببلك مشكلة مع الجريدة!”
ردت مي وهي تشعر بالارتباك:
“مش عارفة. أنا مش هروح، بس أتمنى يبعد عني. مش كفاية زمان حاولنا نقطع علاقتنا برودينا؟”
همسة أيدتها:
“فعلاً، هم ما فيهمش تفاهم. وإنتِ وذنبك إيه اللي خلاهم يعاملوا سيلا بالطريقة دي؟”
مي تنهدت بحزن:
“معرفش. كل اللي عارفاه إن وقتها كل واحد فيهم اتعصب علينا وبعد أخته تمامًا عننا. ومن يومها ما نعرفش عنها حاجة.”
حاولت همسة تهدئتها:
“متقلقيش يا مي، إحنا مع بعض.”
ردت مي وهي تبتسم وتغمز لها:
“بس ابن عمه شكله غيرهم خالص! هادي وعاقل، مش كده؟”
احمر وجه همسة قليلًا وقالت بتردد:
“مش عارفة والله.”
سألتها مي بخبث:
“مكلمكيش تاني؟”
ردت همسة بجدية:
“اتكلم، بس أنا ما أعطيتوش فرصة. إنتِ عارفة أنا مش بحب أعلق نفسي في حاجة ممكن تجرحني. ما بردش حتى على رسايله.”
وافقتها مي:
“عندك حق. اللي جاد مش هيضيع وقته في اللف والدوران.”
قطع حديثهما اتصال من ياسر، زميل مي في الجريدة.
أجابت مي بسرعة:
“ألو، إيه يا ياسر؟ عملت إيه؟”
لكن ملامحها تغيرت فجأة وهي تسمع رده:
“إيه؟ بجد؟! طيب، وانت عملت إيه؟”
أغلقت مي الهاتف بصوت متـ.ـو.تر:
“خلاص، هتصرف. مع السلامة.”
سألتها همسة بقلق:
“في إيه؟ مالك قلبتي كده؟”
مي بتـ.ـو.تر واضح قالت:
“شكي طلع في محله! هو عاوزني أنا مخصوص، مش حد تاني. أنا بعت ياسر عشان أتأكد، بس دلوقتي هيقلب عليا المدير، وهتبقى مشكلة كبيرة. مش بعيد أترفض. أنا مش فاهمة ليه حاططني في دماغه بالشكل ده! والله ما جيت جنبه أبدًا. ربنا يستر.”
همسة، محاولة تهدئتها:
“طيب، هتتصرفي إزاي؟ هتروحي تقابليه؟”
ردت مي بسرعة وحزم:
“أقابله؟ لا طبعًا! ده عصبي وما بيتفهمش مع حد. أنا بجد مش عارفة أعمل إيه. المهم، أنا همشي دلوقتي. وهكلمك بعدين عشان المسابقة بتاعتك. مع السلامة. شكلها بكره هتنفجر في الجريدة.”
همسة بتوسل:
“خليكي شوية طيب!”
لكن مي رفضت بشـ.ـدة:
“لا، لا. لازم أروح وأشوف هتصرف إزاي. مع السلامة.”
…
في مكان آخر، كان معتز ينتظر بابتسامة لاستقبال الصحفي، لكنه تفاجأ بدخول شخص آخر غير المتوقع.
الشخص القادم قال بتـ.ـو.تر:
“أنا ياسر، من جريدة… حضرتك طلبت صحفي يقدم حوار للشركة.”
معتز، وهو يعتصر الورقة التي بيده، تحدث بحدة واضحة:
“آه، أنا كنت طلبت الأستاذة مي، لأنها حضرت افتتاح الفرع الجديد بنفسها. هي مجتش ليه؟”
ياسر رد بتـ.ـو.تر:
“اعتذرت، وطلبت مني أجي بدلها.”
فجأة، ارتفع صوت معتز غاضبًا:
“ده تهريج! مش شغل أبدًا! يعني إيه اعتذرت؟ أنا متفق مع المدير! ده لعب عيال ولا إيه؟! انتو مش عارفين أنا مين ولا إيه؟! ممكن أقفل الجريدة على دماغكم. بس أنا مش هعديها على خير أبداً. اتفضل! وأنا هعرف ليه كلامي ما بتسمعش لا من المدير ولا من الأستاذة!”
أشار له بالخروج، فخرج ياسر مسرعًا، متفاجئًا من غضبه وتـ.ـو.تره.
همس ياسر لنفسه بعد الخروج:
“يا حول الله… لازم أكلمها وأبلغها. يمكن تلحق تتصرف قبل ما يوصل الخبر للمدير!”
…
استيقظت سيلا من نومها تتأوه بألم وهي تهمس لنفسها:
“آه… أنا فين؟ آه… إيدي!”
تذكرت ما حدث، وهمست بغضب وألم:
“حـ.ـيو.ان! آه لو شفتك قدامي، إيدي…”
لاحظت الست فاطمة نائمة بجوارها على الأريكة، وحاولت النزول من الفراش. تأوهت من الألم وهي تنادي:
“داده… يا داده! عاوزه أشرب… عطشانة داده.”
لم تجد استجابة، فجمعت شجاعتها وتحاملت على نفسها للوقوف. بالكاد استطاعت الوصول إلى الباب، وعنـ.ـد.ما همّت بفتحه، وجدته يفتح من تلقاء نفسه.
ظهر أمامها فجأة، فتصلبت ملامحها وهتفت بغضب، دون أن تخفي رعشة صوتها:
“نعم؟ جاي تكمل على إيدي التانية؟ لعلمك، أنا مش هعدّي اللي عملته ده على خير، فاهم؟!”
ارتفع صوتها، فأفاقت الست فاطمة من على الأريكة، وسارعت نحوها:
“فوقتي يا حبيبتي؟ عاملة إيه دلوقتي؟”
نظرت سيلا لفاطمة بحب، وردت بصوت هادئ:
“الحمد لله، أحسن.”
أشار هو للست فاطمة بحزم:
“روحي انتي يا فاطمة، ارتاحي. أنا هكمل مكانك.”
هزت الست فاطمة رأسها وقالت:
“حاضر يا بني.”
بقلم شروق مصطفى
خرجت، لكن سيلا انتفضت وهي تصيح بغضب:
“اطلع برا! أنت! أنت داخل ليه؟ برا!”
لم يأبه لصراخها، بل تقدم نحوها بخطوات ثابتة، وعيناه تلمعان بشرارات غضب واضحة. أشارت إليه بأحد أصابع يدها السليمة قائلة بتحدٍ:
“عارف لو قربت أكتر؟ أنت… أنت حر! فاهم؟ هتعمل إيه أكتر من اللي عملته؟ والله أنت مـ.ـجـ.ـنو.ن!”
وقف أمامها بثبات، وتحدث ببرود قـ.ـا.تل وهو يشير إلى ذراعها الملفوفة:
“دي كانت قرصة ودن صغيرة. لكن لو حاولتي تاني… مش هتتوقعي الضـ.ـر.بة تبقى فين، أو ممكن أعمل إيه. أبعدي عن غضبي… لأن غضبي وحش!”
لم تتراجع سيلا، بل نظرت إليه بتحدٍ صارخ وهتفت:
“غضبك؟ أنا مش خايفة منك! فاكر إنك تخوفني باللي عملته؟ أنا مش هسيب حقي، فاهم؟ لو كنت فاكر إنك أقوى مني، يبقى إنت غلطان!”
اقترب خطوة أخرى، لكنها لم تتحرك، وظلت تواجهه بشجاعة رغم الألم الذي ينهش جسدها.
نظر إليها بحدة وهو يقترب خطوة أخرى، حتى أصبحت المسافة بينهما تكاد تختفي. نبرة صوته كانت أشـ.ـد برودة وهو يرد:
“حقك؟ اللي زيك ما ليهش حق عندي! أنتي تعديتي حدودك، وأنا عرفت كويس إزاي أوقفك عندها. لو كنتي عاقلة، كنتي فهمتي الرسالة من أول مرة.”
سيلا لم تتراجع، رغم أن قلبها يخفق بقوة من مزيج الخوف والغضب، وهتفت بشجاعة مصطنعة:
“إنت فاكر نفسك مين عشان تهددني كده؟ أنا مش لعبة بين إيديك! واللي عملته مش هيسكتني، بالعكس، ده السبب اللي هيخليني أواجهك وأقف ضدك لآخر نفس!”
رفع حاجبه بسخرية، وضيق عينيه وهو يقترب أكثر:
“أواجهني؟ تقفي ضدّي؟ أنتي مش عارفة بتلعبي مع مين. المرة دي هعدّيها، لكن لو حصلت تاني… مش هتلاقي حد ينقذك، ولا حتى نفسك.”
لم تتراجع سيلا، ولكن صوتها بدا أكثر هدوءًا وهي ترد:
“روح هدّد حد غيري. أنا مش زي الباقيين اللي بتخوفهم كلمتين. لو عندك الشجاعة اللي بتدعيها، وريني أفعال مش كلام!”
اشتعلت عيناه بالغضب من تحديها، لكنه فجأة ابتسم ابتسامة ساخرة وقال بنبرة تنم عن الهدوء المريب:
“زي ما تحبي، يا سيلا. بس وقت ما تغلطي تاني، ما تلوميش غير نفسك.”
تراجع خطوة للخلف، لكنه قبل أن يغادر أضاف:
“بس خلي بالك… اللعب معايا خطير، وأنتِ لسه ما شفتيش الوجه الحقيقي لي.”
خرج من الغرفة بهدوء، تاركًا إياها تواجه أفكارها المتشابكة ومشاعرها المختلطة بين الغضب والخوف، وبين إحساسها بأنها دخلت لعبة أكبر مما كانت تتصور.
جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها:
“ما فيش حد فوق القانون… هوريك مين اللي غلطان.
↚
جلست سيلا على طرف السرير، وضغطت على يدها المصابة بحذر، وهمست لنفسها: “حـ.ـيو.ان” فاكرني هخاف منه!
لفت نظرها السوار الملفوف حول معصمها، وظلت تحدق فيه باستغراب، تتساءل بصوت خافت:
“إيه ده؟ بتاع مين؟ مين اللي لبسهالي؟”
رغماً عنها، غلبها الإرهاق فأغمضت عينيها وغرقت في نوم متقطع. لم يمر سوى نصف ساعة حتى دخلت الدادة فاطمة لتطمئن عليها، لكنها فوجئت بحرارتها المرتفعة وبالكلمـ.ـا.ت المتقطعة التي تهلوس بها بصوت مبحوح وغير مفهوم.
على الفور، تركت الغرفة مسرعة لتبلغ عاصم بالأمر. وقف بجدية وهو يستمع، ثم قال بحزم:
“اعملي لها كمادات مبللة أولاً، وبعدين ندّيها الحقنة.”
نفذت الدادة التعليمـ.ـا.ت، بينما ظل هو جالساً بجانبها يراقبها عن كثب. كانت شفتاها تهمسان بأشياء مبهمة، اختلط فيها الغضب بالوجع:
“بكرهك… ابعد عني… بكرهك… ابعد عن طريقي… رودي… لا… ليه؟ بكرهكم…”
ظلت الدادة منهمكة في عمل الكمادات، بينما وقف عاصم متصلباً ينظر إليها بشرود. ما إن انتهت حتى أشار إليها قائلاً:
“خلصي الكمادات، وناديني أول ما تنزل الحرارة.”
ترك الغرفة وخرج إلى الفناء، حيث استقبله الهواء البـ.ـارد بصفعات منعشة. أخرج سيجارة من جيبه، وأشعلها بحركة آلية. ظل يدخن، واحدة تلو الأخرى، يراقب الدخان وهو يتلاشى في الهواء. فجأة، قطعت الدادة شروده بندائها:
“يا بيه، الحرارة نزلت.”
دهس السيجارة الأخيرة أسفل حذائه، وأخذ نفساً عميقاً قبل أن يعبر عتبة المنزل مرة أخرى. دخل الغرفة بخطوات ثابتة، أعطاها الحقنة بهدوء ثم دثرها جيداً باللحاف، وأغلق الأنوار. همس للدادة وهو يخرج:
“خلي بالك منها.”
توجه بعدها إلى مكتبه. جلس خلف الطاولة، وبين يديه الملفات والأوراق. حاول أن يغرق في عمله، لكن عقله كان يتسلل بين الحين والآخر إلى الغرفة المجاورة. أجرى بعض المكالمـ.ـا.ت، يتابع مستجدات القضية التي كانت تؤرقه منذ أيام. الوقت يمضي، لكنه ظل عالقاً بين عمله وهمومه، وبين الغموض الذي يحيط بها وبحالها المتدهور.
على الجهة الأخرى، كان معتز في مكتبه، يمشي جيئة وذهاباً وقد تملّكه الغضب. قبض بيده على هاتفه بقوة، ملامح وجهه توحي بأنه على وشك الانفجار. توقف فجأة، ونظر إلى إحدى الملفات أمامه ثم أزاحها بعصبية، قبل أن يتمتم بحدة:
“إزاي ترفض تقابلني؟!”
أخذ نفساً عميقاً ليهدئ غضبه، لكنه فشل. جمع أوراقه بعشوائية، ثم أمسك بمفاتيح سيارته وخرج من المكتب بخطوات ثقيلة وحازمة. فور جلوسه خلف عجلة القيادة، أجرى مكالمة قصيرة بصوت متهدج، لكنه سرعان ما استعاد هدوءه شيئاً فشيئاً.
أنهى المكالمة بابتسامة واسعة، خبيثة، تشي بنصر داخلي. تمتم بصوت منخفض، وكأنه يخاطب شخصاً غير موجود:
“لما أشوف بقى هتنزلي الشغل تاني إزاي.”
أدار محرك السيارة، وبدأ بالتحرك بسرعة ملحوظة، متجهاً إلى منزله. عقله مشغول بخطته القادمة، وقلبه ينبض بنشوة الانتقام.
وليد جلس في غرفته، يتأمل السقف بصمت. كان أمرًا يشغل باله منذ فترة طويلة، لكنه ظل يؤجل مواجهته مرارًا وتكرارًا. شعر أن اللحظة قد حانت الآن، فمد يده إلى هاتفه وتردد قليلاً قبل أن يطلب الرقم.
رنّ الهاتف للحظات حتى جاءه صوت أخيه من الجهة الأخرى، هادئًا ومطمئنًا كعادته. بدأ وليد الحديث بتردد، لكن سرعان ما انساب الكلام منه كما لو كان سدًا انفتح فجأة. أخبر أخاه بكل ما يدور في ذهنه، بكل التفاصيل الصغيرة والكبيرة التي أبقته مستيقظًا ليالٍ طويلة.
كان أخوه يستمع بصبر، ولم يقاطعه إلا بين الحين والآخر ببعض الكلمـ.ـا.ت المشجعة التي جعلت وليد يشعر براحة لم يعهدها منذ وقت طويل. انتهت المكالمة أخيرًا، وابتسامة ارتسمت على شفتيه، مزيج من الارتياح والثقة.
وضع الهاتف جانبًا، ونهض من مكانه. نظر حوله في الغرفة بعينين حازمتين، ثم بدأ بترتيب أولوياته. الآن وقد أزال هذا الحمل عن كاهله، بات مستعدًا للمضي قدمًا، بخطوات واثقة نحو ما ينتظره.
في منزل رودينا بالغردقة، كانت الحياة تمضي وسط ضحكات الأطفال وضجيجهم المعتاد. جلست رودينا على الأرض بين توأميها، كنزي وكرما، بينما الصغيرة كرما تطالبها بوجبتها المفضلة بطريقة طفولية:
“ماما جوعانة… بشاميلو!”
ضحكت رودينا بمرح وهي ترد:
“بشاميلو مرة واحدة؟ حاضر يا عيون ماما، خليكي هنا وأنا هقوم أعمل الأكل.”
هزت كرما رأسها ببراءة وجلست مكانها، لكن عقل رودينا كان في مكان آخر. همست لنفسها وهي تدير رأسها بحثاً:
“فين كنزي؟ البت دي هتجنني! مش سامعة لها حس… آه ياني، شكلها بتعمل كارثة!”
نادت بصوت عالٍ:
“كوكي! يا كوكي! بتعملي إيه؟”
جاء الرد من كنزي، بصوت بريء وهي تهمهم:
“مم… مم…”
دخلت رودينا المطبخ على عجل لتتفاجأ بالكوارث المنتشرة أمامها. البيض موزع في كل مكان، وكنزي تقف أمام الثلاجة مفتوحة، تحمل شيئاً بيدها. صرخت رودينا بدهشة وهي تقترب منها:
“والله زي ما انتي! أوعي تتحركي! بتعملي إيه يا قلب ماما؟”
ردت كنزي بابتسامة عريضة:
“ماما… مم!”
شهقت رودينا وهي ترى البيض المكسور والأرضية الملطخة:
“مم! وفتحتي الثلاجة وتقوليلي مم! طب والبيض ده؟ موزعاه كده؟ آه ياني! تعالي هنا يا حبيبتي، تعالي أعملك مم… لا، تعالي أحميكي الأول!”
أخذتها إلى الحمام، وهي تحدث نفسها بصوت مسموع:
“أول إيه؟ ده ثالث ولا رابع مرة! أنا اتجننت… بكلم نفسي بجد!”
بعدما انتهت من تنظيفها، أجلستها بجانب أختها كرما. وفي اللحظة ذاتها، سُمع صوت مفاتيح الباب. قفزت الفتاتان بحماس نحو الباب، وركضتا ليحتضنا والدهما.
“بابا! تيت؟” سألت كنزي بحماس.
ضحك عامر وهو ينظر إلى طفلته الصغيرة:
“لا يا ملاكي، لسه متتش!”
ثم ضحك أكثر عنـ.ـد.ما سألته كرما ببراءة:
“بابا تيفونك؟”
رد عليها بابتسامة واسعة:
“كل يوم تثبتوني اتفضلي يا ست البنات، خدي التليفون وفرجي أختك معاكي.”
أخذت كرما الهاتف وركضت مع كنزي للجلوس معاً، تتابعان مقاطع يوتيوب. أما رودينا، فقد دخلت لتقابل عامر بنبرة عتاب:
“اتأخرت ليه كده؟”
أجابها بإرهاق ظاهر:
“شغل كتير، والله لسه مخلص وهلكان. هموت وأنام.”
ردت بابتسامة:
“طيب، غير هدومك، الأكل جاهز.”
اجتمعوا جميعاً على السفرة، وكانت الأجواء مليئة بالضحك والحديث العائلي. فجأة، سألت رودينا بحماس:
“هنآخد إجازة إمتى؟ وحشوني أوي نفسي أشوف إخواتي!”
ابتسم عامر وقال:
“هانت، قريب أوي هنزل. وليد كلمني النهارده… وعاوز يخطب!”
ابتسمت رودينا بفرحة:
“بجد؟ الله! أخيراً، مين بقى اللي شقلبته كده؟”
قهقه عامر:
“من ناحية شقلبته، فهي شقلبته فعلاً. مش عارف ياخد منها حق ولا باطل، بس هيحدد مع والدها الأول، وبعدها نروح نطلبها منه.”
فرحت رودينا:
“يا رب… عقبال ما نفرح بيهم كلهم!”
في هذه الأثناء، كانت كارما تحاول لفت انتباه والدتها:
“ماما… بعت!”
نظرت رودينا إليها وضحكت:
“لا، كلي يا كوكو. دي طيب!”
لكن كارما ردت بإصرار طفولي:
“توتو نو!”
تدخلت كنزي، وهي تقول ببراءة:
“ماما، توتو أنا!”
ضحكت رودينا وقالت:
“اللي هاكل الكوكو كله، عندي له مفاجأة!”
وبين ضحك ولعب الطفلتين، تابعت رودينا حديثها مع عامر حول الهاتف المحمول، مشيرة إلى مخاطر جلوس كارما الطويل على اليوتيوب. وافقها عامر الرأي، وأقترح عليها البحث عن حلول على الإنترنت.
أنهى عامر حديثه قائلاً:
“ما عندناش أغلى منهم. أنا معاكي في أي خطوة تاخديها.”
ابتسمت رودينا وقالت:
“طيب، ادخل نام شوية وأنا هخلص شغل البيت وأنيم البنات.”
ـــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، دخلت مي مبنى الجريدة بخطوات متـ.ـو.ترة، شعور بالقلق يسيطر عليها منذ استدعائها إلى مكتب المدير. بالكاد ألقى عليها أحد الموظفين التحية حتى قيل لها:
“الأستاذ عاوزك فورًا.”
طرقت الباب برفق ودخلت. كانت عينا المدير حادة وهو ينظر إليها مباشرة. بادرها بالسؤال بلهجة صارمة:
“قوليلي يا مي… عملتي إيه في مشوار امبـ.ـارح؟”
ارتبكت مي، وبدأ صوتها يتلعثم:
“أ… أ… أصل أنا… ت…”
قاطعت كلمـ.ـا.تها المتقطعة نبرة المدير الغاضبة:
“بلاش شغل العيال ده يا مي! احنا مش فاتحين الجريدة عشان نلعب. لما أبعِت حد لمهمة، المفروض يرجع بنتائج. ولو مش قد الشغل، كنتِ تقولي، ونبعت حد غيرك.”
حاولت مي تبرير موقفها:
“أنا… أنا آسفة، بس أنا…”
لكن المدير لم يمهلها وقتًا:
“مفيش بس. اللي حصل إمبـ.ـارح خلا اسم الجريدة يتضرر جدًا مع واحدة من أكبر الشركات العالمية. عارفة ده معناه إيه؟ معناه إني مضطر آسف أنهي شغلك معانا. استلمي ملفك النهاردة، وآخر يوم ليكي عندنا. عدي على أستاذ شوقي في قسم الحسابات وخدي باقي مرتبك.”
شحب وجه مي، وحاولت الدفاع عن نفسها بصوت مكسور:
“بس… يا فنـ.ـد.م، دي أول غلطة أغلطها. وأنا شغالة هنا بقالى أكتر من ثلاث سنين!”
نظر المدير إليها بعينين جـ.ـا.مدتين وأردف:
“للأسف، ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
اغرورقت عينا مي بالدمـ.ـو.ع، لكنها لم تستطع قول المزيد. أومأت برأسها بخضوع وهمست:
“تمام يا فنـ.ـد.م… بعد إذنك.”
خرجت من المكتب، وكأنها تحمل على كتفيها جبلًا من الحزن والخذلان. كانت خطواتها ثقيلة، والدمـ.ـو.ع تغطي وجهها.
في الخارج، بينما كانت تحاول استيعاب الصدمة، لم تلحظ السيارة السوداء المتوقفة على بعد أمتار منها. جلس داخلها معتز، يراقبها بابتسامة خبيثة مرسومة على شفتيه. تمتم بسخرية:
” ولسه! انتي لسه ما شفتيش حاجة. هكسّرك كمان.”
ارتدى نظارته الشمسية، وأدار محرك سيارته، ثم انطلق مبتعدًا، تاركًا وراءه مي غارقة في حزنها.
استقلت مي سيارة أجرة، متجهة إلى منزل صديقتها همسة. ما إن فتحت همسة الباب حتى ألقت مي بنفسها في أحضانها، تشهق بالبكاء:
“شفتي… شفتي اللي حصل؟”
احتضنتها همسة وهي تحاول تهدئتها:
“اهدي… اهدي يا مي، مالك؟ تعالي دخلي جوا واحكيلي.”
جلست مي على الأريكة وهي تضع يديها على وجهها وتبكي بحرقة:
“اترفدت! أنا اترفدت! وهو السبب… هو اللي عمل كده فيا. ليه؟ ليه يعمل كده؟! أنا مش مصدقة لحد دلوقتي. المدير قال إن ده أقل عقاب بدل ما الجريدة كلها تتقفل.”
ربتت همسة على كتفها:
“طيب، طيب، اهدي… ده واصل قوي على كده؟”
هزت مي رأسها وقالت بغضب:
“أكيد، ما هو أخو ضابط، وعندهم ناس تقيلة. لكن ليه؟ ليه يعملوا كده فيا؟”
صمتت همسة قليلاً، ثم حاولت تهدئتها:
“بصي، فكك يا مي. اللي خلق الجريدة دي خلق غيرها. الدنيا مش هتقف على كده. شوفي جريدة تانية تشتغلي فيها. استني، أنا هعملك عصير ليمون يروق دمك.”
مسحت مي دمـ.ـو.عها ونهضت من مكانها بتصميم:
“صح! أنا مش هستسلم. هشوف جريدة تانية، ومش هسيبه يفرح فيا.”
حذرتها همسة وهي تنظر إليها بجدية:
“مي، ابعدي عنه. طالما هو غـ.ـبـ.ـي بالشكل ده وقطع رزقك، خليكي بعيدة أحسن.”
أجابت مي بحزم:
“طيب، أنا همشي دلوقتي. يلا، سلام.”
نادت عليها همسة:
“استني! اهدي الأول، وأنا هعملك ليمون.”
لكن مي هزت رأسها واعتذرت:
“لا، مش قادرة. أنا تعبانة، وعاوزة أنام.”
ربتت همسة على ظهرها وهي تودعها:
“خلي بالك من نفسك… مع السلامة.”
غادرت مي منزل همسة وعادت إلى منزلها، ترتمي على سريرها، محاولة لملمة شتات نفسها والاستعداد لبداية جديدة.
… ..
بعد مرور يومين…
بدأت سيلا تستعيد عافيتها تدريجيًا، لكنها اختارت تجنب أي مواجهة مباشرة مع عاصم. كانت تقضي وقتها في استعارته للكتب من مكتبه، تقرأها، ثم تعيدها دون أن تثير انتباهه.
في إحدى المرات، أثناء استعارته كتابًا، لاحظت شيئًا غريبًا مخفيًا خلف الكرسي. حاولت التظاهر بالهدوء والخروج كالمعتاد، لكن عقلها كان يعج بالتساؤلات. عادت إلى غرفتها وظلت تفكر كيف يمكنها الحصول على هذا الشيء دون أن يُمسك بها.
انتظرت بصبر حتى سمعت صوت سيارته يغادر المنزل. نزلت مسرعة إلى مكتبه، متظاهرة بأنها تبحث عن كتاب آخر. التقطت أحد الكتب لتغطي تحركاتها، واستغلّت معرفتها بمواقع الكاميرات داخل الغرفة.
عند مرورها قرب الكرسي، تظاهرت بالتعثّر، ووقعت على الأرضية بطريقة طبيعية. مدّت يدها بخفة والتقطت الشيء المخفي خلف الكرسي، دون أن تُظهر الكاميرات أي شيء مريب. استقامت بسرعة وخرجت إلى غرفتها، وقلبها ينبض من فرط الإثارة. أخيرًا، حصلت على ما تبحث عنه.
—
في يوم المسابقة…
أنهت همسة تجهيز لوحاتها وسلمتها للمعرض قبل يوم واحد من المسابقة. وفي صباح يوم الحدث، كانت العائلة تستعد للذهاب. والدها، محسن، ووالدتها، نرمين، انشغلا بالتجهيز، بينما همسة قالت بلهفة:
“بابا، ممكن نعدي على مي ونأخذها معانا في الطريق؟”
ابتسم محسن وهو يرتدي معطفه:
“حاضر يا ست الكل.”
نرمين من غرفة أخرى:
“أنا جاهزة يا همسة، إنتِ مستعدة؟”
همسة تنهدت بحزن:
“كان نفسي سيلا تكون معانا النهارده.”
ربت محسن على كتفها مطمئنًا:
“قربت ترجع لنا، خلاص القضية قربت تخلص، ومش هيطولوا لحد ما يمسكوهم.”
نرمين بتفاؤل:
“يارب يا حبيبي، إن شاء الله.”
أسرعوا للخروج، مروا على مي واصطحبوها معهم إلى المعرض.
في قاعة المسابقة…
قدمت همسة لوحاتها وسط تـ.ـو.تر وحماس، وبنهاية اليوم حازت على المركز الثالث. فرحتها لم تكن مكتملة بسبب غياب سيلا، لكنها شعرت بالفخر بما حققته.
وبينما كانت تتلقى التهاني، تفاجأت بحضور وليد. شعرت بالتـ.ـو.تر فور أن رأته يتقدم نحوهم مبتسمًا، وقال:
“أهلاً يا عمي، عامل إيه؟ الصدفة الجميلة دي!”
نظر إليه محسن محاولًا تذكره:
“أهلاً وسهلاً، إحنا اتقابلنا قبل كده؟”
رد وليد بابتسامة:
“آه، اتقابلنا لما اتبدل تلفوني بتليفون بنت حضرتك.”
تذكر محسن الموقف وابتسم:
“آه، فعلاً. أهلاً يا بني.”
نظر وليد إلى همسة مباشرة، وقال بصوت عميق:
“مبروك.”
تـ.ـو.ترت همسة وردت بخجل:
“الله يبـ.ـارك فيك.”
لاحظ محسن نظرات وليد، فسأله ليقطع الصمت:
“إنت مشترك في المسابقة ولا جاي مع حد؟”
انتبه وليد للسؤال بسرعة وأجاب:
“ها… لا، أنا جاي مع صديق مشترك في المسابقة.”
ثم أضاف:
“طيب، بعد إذنك، أروح أشوفه.”
أومأ محسن برأسه:
“تفضل.”
ابتعد وليد قليلاً عن المجموعة، لكنه ظل يراقبهم من بعيد. انتظر حتى وجد همسة تنسحب من وسطهم متوجهة إلى زاوية هادئة. انتهز الفرصة وتقدم نحوها بخطوات واثقة…
…
بعد دخول الحمام…
كانت سيلا تعلم أن الحمام هو المكان الوحيد في المنزل الذي يخلو من الكاميرات. دخلت بخطوات مترددة، وأغلقت الباب خلفها بإحكام. أخرجت حقيبتها الصغيرة من تحت معطفها، واحتضنتها لثوانٍ كما لو كانت تحمل كنزًا لا يُقدر بثمن. فتحت الحقيبة بسرعة وأخرجت منها جهاز لابتوب صغيرًا كان مخفيًا بعناية.
وضعت الجهاز على الأرضية، ثم أخرجت شاحنه ووصلته بالكهرباء. جلست بجانبه للحظات، تراقب ضوء الشحن وهو يضيء. كان قلبها ينبض بشـ.ـدة؛ شعور من الخوف والحماس يملأ صدرها.
همست لنفسها بصوت خافت:
“لسّه بدري… لازم كل حاجة تكون في الوقت المناسب.”
قررت أن تترك الجهاز داخل الحمام لبعض الوقت حتى يكتمل شحنه. خرجت من الحمام وكأن شيئًا لم يكن، واتجهت إلى غرفتها. هناك، فتحت النافذة بهدوء وأخذت تراقب الخارج بعينين حذرتين. عنـ.ـد.ما رأت السيارة تدخل إلى ساحة المنزل، أسرعت عائدة إلى الحمام.
التقطت الجهاز المشحون وأخفته بعناية بين أغراضها. عادت إلى غرفتها بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها. وضعت اللابتوب في مكان آمن وابتسمت بشعور من الانتصار.
همست مجددًا:
“كل حاجة بوقتها… وهعرف أتصرف.”
جلست على سريرها تحاول أن تبدو طبيعية، لكنها لم تستطع أن تهدئ من تسارع دقات قلبها. كانت تعلم أن ما ستفعله قد يكون مخاطرة كبيرة، لكنها لم تكن على استعداد للتراجع الآن.
ـــــــــــــــــــــــــ
بعد انتهاء المسابقة…
بعد أن انتهى الحفل وكرّمت همسة لحصولها على المركز الثالث، تقدم وليد إلى محسن بطلب مهذب:
“لو سمحت يا عمي، ممكن أتكلم مع حضرتك في موضوع مهم؟”
ابتسم محسن بترحيب:
“اتفضل، قول اللي عندك يا بني.”
وليد أشار إلى الخارج قائلاً:
“طيب ممكن نطلع برا شوية؟ الجو هنا دوشة وازدحام.”
هزّ محسن رأسه بالموافقة:
“ماشي، اتفضل.”
خرج الاثنان إلى ساحة المعرض بعيدًا عن الضوضاء، وهناك تحدث وليد بنبرة جادة:
“بصراحة يا عمي، أنا عارف إن الوقت ممكن ميكونش مناسب، بس أنا جاي أطلب إيد بنت حضرتك. شوف الوقت المناسب ليكم إمتى، وأنا هاجيب أخويا وابن عمي ونتقدم رسمي.”
تفاجأ محسن قليلاً لكنه رد بتروي:
“والله يا بني، الموضوع كبير وبيتطلب تفكير. البيت عندنا مش مهيأ للحاجة دي دلوقتي، وبنتي سيلا مش معانا…”
قاطعه وليد بسرعة وبحزم:
“أنا فاهم، وأنا مش مستعجل على حاجة. اللي بفكر فيه دلوقتي مجرد تعارف. لو حصل قبول ونصيب، مش هنتمم أي خطوة إلا لما بنتكم تكون موجودة ومعانا، وكمان في حضور عاصم، لأنه أخويا ومش بس ابن عمي. فحضرتك فكر براحتك وخد وقتك.”
أجاب محسن بتأنٍ:
“طيب، خليني أرجع البيت وأشاورهم الأول، وكمان أتكلم مع البنت. وبعد كده هرد عليك إن شاء الله.”
وليد رد بابتسامة ممتنة:
“تمام، مفيش مشكلة. ممكن أخد رقم حضرتك عشان أتابع معاك؟”
تبادل الاثنان أرقام الهواتف، واتفقا على أن يتم الرد خلال الأيام المقبلة. استأذن وليد بعد ذلك بالانصراف، بينما عاد محسن إلى الداخل حيث انتهت همسة من تسلم جائزتها.
—
في طريق العودة…
استقلوا السيارة، وأعادوا مي إلى منزلها قبل التوجه إلى بيتهم. طوال الطريق، بدا محسن شارد الذهن، مما دفع نرمين إلى سؤاله:
“مالك يا محسن؟ شكلك سرحان كده!”
ابتسم محسن بخفة وقال:
“لا مفيش حاجة، بس كنت بفكر في اللي حصل النهارده. على فكرة، وليد طلب إيد همسة.”
نظرت نرمين إليه بدهشة، بينما همسة شعرت بتـ.ـو.تر شـ.ـديد وهي تسأل:
“طلب إيدي؟ إمتى ده؟ وإزاي؟”
حكى محسن بإيجاز عن الحديث الذي دار بينه وبين وليد، ثم أضاف:
“بس قلتله هفكر وأشاوركم الأول، ومش هيتم أي حاجة إلا لما نكون كلنا مستعدين.”
نرمين تحدثت:
“ربنا يكتب اللي فيه الخير، بس لازم نسأل البنت رأيها الأول.”
همسة، التي لم تتوقع الموقف، قالت بتـ.ـو.تر:
“أنا محتاجة وقت أفكر، ده موضوع كبير.”
محسن ابتسم وقال:
“خدي وقتك يا بنتي، أهم حاجة تكوني مرتاحة.”
عادوا إلى المنزل، وكل منهم يحمل في ذهنه أفكارًا مختلفة حول ما سيأتي لاحقًا.
داخل المكتب المظلم…
جلس الرجل الثائر على مكتبه، يتحدث إلى رجاله بصوت صارم:
“سننفذ بعد الغد. لا أريد أي تأخير أو أخطاء. سأتي أنا ورجالي، قم بتجهيز السيارات وكل ما يلزم.”
رد الرجل الآخر باحترام:
“تم تجهيز كل شيء يا سيدي، لا تقلق. الأمور تحت السيطرة.”
—
في منزل عاصم…
بدأ الجرح في ذراع سيلا يلتئم قليلاً، لكنها ما زالت متـ.ـو.ترة من برودة أعصابه وتقلبات شخصيته. أحيانًا يبتسم ببرود كأن شيئًا لم يكن، وأحيانًا تتحول ملامحه إلى غضب ثائر دون سابق إنذار. بينما هي في غرفتها، همست لنفسها بغضب:
“مـ.ـجـ.ـنو.ن… بـ.ـارد… وغـ.ـبـ.ـي. يض،ربني بالنار ويقول قرصة ودن! المرة الجاية هيم.وتني، مريـ.ـض متـ.ـخـ.ـلف!”
كلما حاولت نزع السوار حول معصمها، تفشل. قررت أن تواجهه، وذهبت إلى مكتبه وهي تغلي من الغضب. دفعت الباب دون استئذان وصرخت:
“أنت! أنا مش عايزة البتاعه دي. واجعة إيدي. فكها زي ما ركبتها!”
نظر إليها للحظة، ثم أعاد نظره إلى الأوراق أمامه دون أن ينبس بكلمة، كأنه لم يسمعها.
اشتعلت غضبًا وضـ.ـر.بت الأرض بقدميها:
“أنت بـ.ـارد كدة ليه! أنا مش طفلة عشان تلبسني دي كأني هضيع!”
توقف عن الكتابة، ورفع رأسه فجأة بغضب حاد. لكنها لم تمنحه الفرصة للرد، تركت المكتب وخرجت بقوة، وأغلقت الباب خلفها بصوت عالٍ.
عادت إلى غرفتها تتمتم:
“بـ.ـارد! لوح ثلج مستفز… صبرني يا رب. والله ما أنا سايباك كده!”
—
داخل غرفتها…
جلست سيلا بغضب، ثم استجمعت أفكارها. فتحت حقيبتها وأخرجت الحاسوب المحمول الذي خبأته بعناية. دخلت الحمام لتجنب كاميرات المراقبة، وجلست لتبدأ خطتها.
فتحت صفحتها على الإنترنت، وبدأت بنشر صور ومعلومـ.ـا.ت عن الشركات التي يملكها، خاصة الشركة الجديدة في الغردقة. كتبت:
“كيف يمكن لرجل ثلاثيني أن يمتلك عشر شركات بهذا الحجم في وقت قصير؟ أموال هذه الشركات مشبوهة، وغالبًا ما تكون مرتبطة بغسيل أموال تابع للماف.يا. تابعوا هذه القضية للتأكد من مصداقية هذه الادعاءات.”
نشرت المقال على أكثر من موقع كبير، وأضافت صورًا ومستندات تعزز شكوكها. عنـ.ـد.ما انتهت، رسمت ابتسامة انتصار على شفتيها وأغلقت الحاسوب.
خرجت من الحمام وهي تهمس:
“دلوقتي تعرف إني مش سهلة.”
لكنها تفاجأت عنـ.ـد.ما فتحت الباب، لتجد عاصم يقف أمامها مباشرة، ملامحه جـ.ـا.مدة ونظراته تخترقها. في يده كان يحمل هاتفًا يظهر إشعارًا بالمقال الذي نشرته، وصوته الهادئ والمخيف قال:
“كنتي فاكرة إنك هتلعبي عليا؟”
شعرت سيلا برعـ.ـب يتسلل إلى قلبها، لكنها حاولت التماسك، متسائلة في داخلها: كيف عرف؟!
↚
في منزل محسن، نرمين توقفت أمام محسن وهي تقوم بتعديل الكرافت له، وقالت:
“متأكد يا محسن من الخطوة دي؟ مش كنا استنينا حضور سيلا؟ أحسن تكون وسطينا على الأقل.”
رد محسن بابتسامة مطمئنة:
“يا حبيبتي، هما جايين تعارف مش أكتر، ومش هنعمل أي حاجة إلا بحضور سيلا طبعًا.”
نرمين أيدت كلامه قائلة:
“اللي تشوفه. هروح أشوفها خلصت ولا لسه.”
ثم وجهت نرمين كلامها لمي وهمسة:
“ها يا بنات، جهزتوا؟”
ردت مي بثقة:
“أيوه يا طنط، خلاص، فاضل حاجات بسيطة بس.”
أما همسة فقالت بخجل:
“إيه رأيك يا ماما؟”
ابتسمت الأم بفخر وقالت:
“قمر يا حبيبتي ما شاء الله.”
رن جرس الباب، فالتفتت نرمين قائلة:
“أنا طالعة أستقبلهم. خليكوا لحد ما أنادي عليكم.”
هزّ البنات رؤوسهن بالموافقة، لكن همسة سألت بقلق:
“شكلي حلو؟”
ردت مي مؤكدة:
“والله قمر!”
لكن همسة أضافت بتـ.ـو.تر:
“أنا هستناكي هنا، مش هحضر معاكو بره.”
رفضت مي بشـ.ـدة:
“لا طبعًا، إنتي هتقعدي معانا! إنتي مش شايفاني عاملة إزاي؟ لا لا.”
مي قالت بقلق:
“أنا خايفة يجيب الزفت ده معاه. ولو شفته مش عارفة ممكن أعمل إيه بجد.”
ردت همسة بحزن:
“هتسبني يعني لوحدي معاهم بره؟”
تنهدت مي قائلة:
“فين لوحدك بس!”
لكن همسة أصرت:
“لا لا لا، مش هينفع بجد، خلاص مش هطلع أنا كمان.”
استسلمت مي:
“خلاص، أمري لله.”
في الخارج
استقبلت نرمين ومحسن الضيوف؛ وليد، وأخوه عامر، وزوجته، وأولاده التوأم كرما وكنزي، وابن عمه معتز.
كانت رودينا متفاجئة عند دخولها المنزل، إذ ظنت أنه منزل صديقتها سيلا، وامتلأت بالحماس لرؤيتها.
قال محسن مرحبًا:
“أهلًا بيكم، اتفضلوا.”
دخل الجميع وسلموا على نرمين، واتجهوا للصالون.
بدأ وليد بالتعريف عن عائلته:
“ده عامر، أخويا الكبير، ودي بنت عمي رودينا ومـ.ـر.اته، ودول التوأم كرما وكنزي، وده معتز ابن عمي.”
ثم أضاف:
“وعاصم في مأمورية، لكنه على علم بكل شيء، وأول ما ينزل هنتقابل تاني بإذن الله.”
رحب محسن وزوجته بهم بحرارة:
“أهلًا بيكم، منورين والله. وكتاكيت صغيرين حلوين ما شاء الله.”
ابتسمت رودينا وسألت:
“طنط، مش فاكراني؟”
نظرت لها نرمين وقالت بتردد:
“والله بشبه عليكي فعلًا.”
قالت رودينا بحماس:
“أنا وسيلا كنا زمايل في الجامعة، ومي كمان.”
تذكرتها نرمين وقالت:
“آه، فعلًا! اختفيتي فجأة مرة واحدة. سيلا لو شافتك هتفرح بيكي جدًا، ومي كمان. دي مي حتى جوة، هتفرح أوي لما تشوفك.”
حين سمع معتز اسم مي، لمعت عيناه ببريق غريب؛ فقد كان ينتظر رؤيتها بفارغ الصبر بعد أن قطع عليها عملها ومنع الصحف من توظيفها.
قالت رودينا بحماس:
“بجد هنا؟ طيب ممكن أدخل لهم؟”
ردت نرمين بترحاب:
“آه طبعًا، تعالي معايا.”
في غرفة البنات
طرقت نرمين الباب، ففتحت مي ووجدت رودينا أمامها. ما إن رأتها حتى قفزت من الفرحة:
“آآآآه دودو!”
ركضت مي نحوها واحتضنتها قائلة:
“حشـ.ـتـ.ـيني و يا جزمة! كل دي غيبة؟”
ردت رودينا:
“وانتي كمان حشـ.ـتـ.ـيني و ، وسيلا كمان، غصب عني. إخواتي طبعهم صعب جدًا.”
بحثت رودينا بعينيها وسألت:
“أمال هي فين؟”
حاولت مي تغيير الموضوع قائلة:
“أحم، ودي عروستنا. إيه رأيك؟”
ابتسمت رودينا وقالت:
“همسة حبيبتي، إزايك؟”
ردت همسة بتـ.ـو.تر:
“الحمد لله، انتي عاملة إيه؟”
سألت مي بمزاح:
“اتجوزتي يا بت؟”
ضحكت رودينا:
“أيوه، ومعايا كرما وكنزي كمان.”
قالت مي بسعادة:
“الله! ماجبتيهمش نلعب بيهم ليه؟”
ردت رودينا ساخرة:
“مين هيلعب بمين؟ هما اللي هيلعبوا بيكو! هما بره مع باباهم.”
ثم أضافت بحماس:
“خلينا نركز مع عروستنا. أنا فرحانة أوي إنك هتبقي سلفتي بجد.”
احتضنت رودينا همسة وأضافت بمزاح:
“وليد عرف يختار بقى!”
ضحكت مي وقالت:
“يا بنت، خفي عليها شوية. مش شايفة قلبت ألوان إزاي؟”
ردت همسة:
“والله انتو رخمين أوي!”
قاطعتهم نرمين وهي تفتح الباب:
“يلا يا بنات، تعالوا اقعدوا وسطينا بقى.”
في الصالون كان معتز جالسًا أمام الباب، منتظرًا لحظة ظهور مي بشغف.
تقدمت نرمين بجانب همسة، بينما كانت رودينا تمسك بيدها. لاحظ عامر ذلك وعلّق بابتسامة على زوجته:
“أنا شايف إنهم أخدوا على بعض أوي.”
ردت رودينا بحماس:
“طبعًا! همسة دي أختي أصلاً. بجد يا وليد عرفت تختار.” ثم جلست بجانب زوجها.
سلمت همسة على الجميع بتـ.ـو.تر، وقدمت المشروبات، ثم جلست بجانب والدها، وظلت تنظر إلى الأرض دون أن تتحدث كثيرًا.
تأخرت مي عن الانضمام إليهم قليلاً. وعنـ.ـد.ما جاءت، قدمتها نرمين قائلة:
“دي مي، صديقة العيلة.”
رحبت مي بابتسامة جذابة ورقيقة:
“أهلًا بيكم.” ثم جلست بجانب همسة وأمسكت بيدها، محاولة تخفيف حدة التـ.ـو.تر عنهما معًا، ولم تنظر أو تعره أي انتباه.
بدأ الجميع في الحديث وتبادل الأحاديث العامة، إلى أن تحدث عامر بجدية قائلًا:
“إحنا يا عمي جايين النهارده قعدة تعارف، وإن شاء الله يكون فيه قبول بينا. إحنا طالبين إيد بنتك همسة لأخويا وليد.
أنا ووليد ملناش غير بعض، وولاد عمنا قريبين من بعض جدًا. جايين نتعارف النهارده، لأن في فرد من العيلة غايب، سواء عندكم أو عندنا.”
رد محسن بابتسامة ترحيب:
“ده شيء يشرفني طبعًا، وأنا اتشرفت بمعرفتكم بجد. خصوصًا لما وليد كلمني، وقلتله مفيش حاجة تتم إلا بحضور بنتي. هو كمان أكدلي إنه مش هيتم أي شيء إلا بحضور الكل.”
قال عامر:
“على بركة الله.”
ثم استأذن وليد قائلًا:
“عمي، ممكن أتكلم معاها شوية؟”
رد محسن موافقًا:
“طبعًا، تعالوا اقعدوا في الفرندة هناك.”
وأشار لهم إلى مكان جانبي في نفس الغرفة (الصالون).
وقفت همسة بتردد، ووقف وليد بجانبها، ثم ذهبا معًا للتحدث.
بعد ذلك، استأذنت مي قائلة:
“بعد إذنكم، هقوم شوية.”
وبعدها مباشرة، استأذن معتز قائلاً:
“ممكن أدخل الحمام؟”
رد محسن بابتسامة:
“أيوة طبعًا، اتفضل.”
لكن دخول الحمام كان مجرد حجة من معتز لـ…
عند وليد ينظر إلى همسة بحاجب مرفوع:
“إيه بقى؟ ينفع كده مترديش عليا؟ أهون عليكِ؟”
ردت همسة بخجل ممزوج بالصراحة:
“الصراحة… آه.
وليد بدهشة وابتسامة ساخرة:
“والله؟”
همسة، محاوِلة توضيح موقفها:
“يعني أنا مش بكلم حد ما أعرفهوش، ومش ممكن أخون ثقة أهلي. بس كده.”
ابتسم وليد وقال بنبرة هادئة:
“وعشان كده أنا جيت النهارده، علشان أتعرف عليكِ. مش كده أحسن؟”
همسة بخجل شـ.ـديد:
“أكيد.”
بدأ الاثنان يتحدثان بهدوء للتعرف أكثر على بعضهما، وظهر القبول على ملامحهما، وكأنهما بدآ يشعران بالراحة تدريجيًا.
—
في الداخل – ترك محسن معتز عند باب الحمام وعاد إلى باقي الضيوف. لكن معتز لمح مي واقفة في المطبخ، فتأكد أن الجميع منشغل، وذهب إليها.
توقف معتز عند باب المطبخ، وربع يديه بنبرة استفزازية:
“حلوة القعدة في البيت، مش كده؟”
انتفضت مي من أثر صوته، ثم التفتت إليه بنظرة ممتلئة بالاشمئزاز:
“تصدق إنك بجح؟ وليك عين تتكلم كمان؟ اتفضل اخرج برا.”
معتز ببرود:
“أنا أقف في المكان اللي يعجبني!”
مي، وقد بدأت تفقد أعصابها:
“إنت بني آدم متكبر ومستفز جدًا! مش كفاية اللي عملته؟ جاي تشمت كمان؟ أنا لو أقدر كنت قـ.ـتـ.ـلتك بجد!”
ضحك معتز بقهقهة مستفزة:
“بجد؟ ضحكتيني.”
مي وهي تحدق فيه بغضب:
“يخرب بيت برودك. إيه كمية الغل والسواد اللي جواك دي؟ روح عالج نفسك الأول، إنت مريـ.ـض بجد!”
معتز بغضب مكتوم:
“بنت! احترمي نفسك وا عـ.ـر.في إنتِ بتكلمي مين.”
مي بسخرية:
“هه، وهكلم مين يعني؟ واحد مغرور وشايف نفسه. ولزق كده… مش عارفة على إيه.”
ثم نظرت إليه بنظرة مليئة بالاشمئزاز:
“ملزق! يا بيئة إنت. هو إنت تطول تكلم واحدة زيي أصلاً؟”
معتز، وقد فقد صبره:
“وأنا أصلاً مين قالك إنك تعنيلي حاجة؟ أنا…!”
قاطعت مي بحدة:
“ومين قالك إني عايزة أكلمك؟ ولا هموت عليك أصلاً؟! ومبسوطه إني قعدت في البيت… كنت محتاجة أريح نفسي من كل ده.”
ثم تركته دون أن تنتظر رده، وخرجت من المطبخ بعد أن أنهت عملها.
خرجت مي من المطبخ، ولم تكن ترغب في العودة للجلوس مع الباقين. وبينما كانت في طريقها للدخول إلى غرفتها، نادت عليها رودينا قائلة:
“مي!”
التفتت مي إليها بقلة حيلة، ثم جلست بجانبها. سألتها رودينا بابتسامة:
“كنتي فين؟”
ردت مي:
“كنت في المطبخ، بعمل حاجة.”
رودينا بغمزة ماكرة:
“طيب، مفيش أخبـ.ـار جديدة كده ولا كده؟”
ضحكت مي محاولة التهرب:
“يعني!”
رودينا:
“يعني إيه؟ مش فاهمة!”
في هذه اللحظة، كان معتز جالسًا قريبًا منهما، وبدأ يشعر بغضب غريب دون أن يفهم سببه، خاصة بعدما سمع حوارهما.
—
بينما كان عامر يتحدث مع محسن ونرمين عن طبيعة شغلهم ومشاريعهم، كان هناك اتفاق على التعاون المستقبلي بين العائلتين في مجال الحراسة، إذ إن عامر يملك شركات مختصة في هذا المجال.
مي، في الجهة الأخرى، ضحكت بصوت عالٍ وهي تحاول كتمه، لكنها لم تستطع. أمسكت بفمها وقالت:
“بصي، يعني هو زميلي في الجريدة، وناوي يتقدم قريب!”
رودينا بفرحة:
“بجد يا حبيبتي؟ ربنا يتمم لكِ على خير يا رب!”
ثم سألت رودينا:
“وإيه أخبـ.ـار سيلا؟”
ردت مي بنبرة حزينة:
“للأسف، سيلا حكايتها حكاية… هي رافضة فكرة الزواج من زمان. وكل مرة حد يتقدم، بترفض.”
رودينا باستغراب:
“ليه كده؟
مي بحزن: “من وقت الحادثة اللي حصلت زمان، وهي اتعقدت من الموضوع كله.”
رودينا بتعاطف:
“يااه، معقولة؟ ربنا يهديها ويطمن قلبها يا رب.”
مي:
“يا رب.”
في هذه اللحظة، جاءت ابنة رودينا الصغيرة تقول:
“ماما، عايزة أشيب!”
ضحكت مي وقالت مازحة:
“ترجمي يا دودو، هي عايزة إيه؟”
رودينا بضحك:
“عايزة تشرب.”
مي بابتسامة عريضة:
“بقت أشيب دلوقتي؟ أيامنا كان أمبو! إحنا اتطورنا خالص.”
رودينا:
“أكيد يا بنتي!”
—
انتهى اللقاء بعد حديث ممتع، وتم الاتفاق على لقاء جديد في حضور الأخ الأكبر الغائب. غادر الجميع المنزل، وكل شخص كان يحمل أفكارًا ومشاعر مختلفة عما حدث في هذا اليوم.
.
كان جالسًا في مكتبه، محاطًا بأوراقه وملفاته، بينما الحاسوب أمامه يعرض مجموعة من البيانات. فجأة، صدر صوت إشعار أزعجه. رفع نظره إلى الشاشة بدافع الفضول، لكن ما رآه جمد الدم في عروقه. محتوى الرسالة كشف شيئًا لم يكن يتوقعه أبدًا.
تجمد للحظة، ثم تبدلت ملامحه بالكامل إلى الغضب الشـ.ـديد. أسقط القلم من يده، ونهض بسرعة، متجهًا بخطوات غاضبة نحو غرفتها.
فتح الباب بقوة، ليجدها تخرج لتوها من الحمام، تمسك المنشفة لتجفف شعرها. التقت عيناها بعينيه، وشعرت وكأنها أمام بركان على وشك الانفجار. لم تتوقع أن يكتشف الأمر بهذه السرعة، خاصة أنها لم تذكر أي أسماء.
قالت بتـ.ـو.تر وهي تحاول السيطرة على الموقف:
“إيه… إيه مالك؟ داخل كده ليه؟”
وبسرعة حاولت أن تخفي الحاسوب المحمول خلف ظهرها، محاولة حماية ما عليه.
لكن عاصم لم يكن مستعدًا لسماع أي أعذار. بخطوة واحدة، اقترب منها، وجذبها بقوة نحوه. أمسك الحاسوب من يدها، وسحبه بعنف وألقاه على أقرب مقعد.
أمسك يدها بقسوة وقال بصوت مليء بالغضب:
“تعالي! أنا هوريكي شغل المافيا الحقيقي! وهعلمك غسيل الأموال بيتعمل إزاي مع اللي زيك!”
حاولت التملص منه وهي تصرخ:
“سيبني! موديني فين؟! سيبني بقى!”
لكنه لم يستجب، بل زاد من قبضته عليها وسحبها بعنف إلى الخارج. نزل بها السلالم بخطوات متسارعة، متجهًا إلى الطابق السفلي حيث القبو.
فتح بابًا خشبيًا قديمًا يؤدي إلى غرفة معتمة، ودفعها للداخل بقوة. أغلقت الباب خلفها بصوت صاخب.
نظرت سيلا حولها، لتجد نفسها في غرفة بـ.ـاردة مظلمة، أرضيتها خرسانية، والهواء يكاد لا يدخل إلا من نافذة صغيرة جدًا في الأعلى. كل شيء فيها يوحي بالخوف.
تراجعت للخلف بخوف، وقالت بصوت مرتعش:
“إحنا فين؟ إنت عايز تعمل إيه؟ أبعد عني!”
لكن لم يتراجع. تقدم نحوها بخطوات ثقيلة وصوت غاضب هز المكان:
“أبعد؟ أيوة؟ بعد ما تخرجي وتطلعي أسوأ ما فيا! هااااااه؟!”
كانت تحاول الحفاظ على شجاعتها، بدأت تشعر بالخوف الحقيقي. قالت محاولة تهدئته
“عاصم… إهدى شويه أنا مش قصدي حاجة! كنت… كنت بس بحاول أفهم أكثر!”
لكنه لم يهدأ. كان واضحًا أن غضبه قد تجاوز كل الحدود، وعيناه تلتهبان كالنار مما جعل سيلا تدرك أن هذه المواجهة لن تمر بسهولة.
عاصم كان في حالة غضب أعمت بصيرته، عيناه اشتعلتا بسواد لا يرحم. أمسك سيلا من شعرها القصير بقسوة، وجذب رأسها للخلف بشـ.ـدة، صرخ بصوت غاضب ومتهدج:
“عاوزة تشوفي شغل المافيا؟ هوريكي العصابات بجد!”
اندفع جنونه إلى أقصى درجاته، وفقد كل سيطرة على نفسه. بقبضة مشحونة بالغضب، وجه ضـ.ـر.بة قوية إلى معدتها، متناسيًا أنها فتاة، متناسيًا كل معايير الإنسانية.
صرخت سيلا بصوت مملوء بالألم:
“آه أبعد!” أمسكت مكان الضـ.ـر.بة في معدتها، وهي تتألم بشـ.ـدة، تحاول جاهدة أن تلتقط أنفاسها. لكن لم يمهلها لحظة لتهدأ، فقد اقترب منها مجددًا، وأمسك بشعرها بعنف، وجذبها للأعلى حتى اضطرت للوقوف. كان غضبه عارمًا، يشعل فيه ثورة لا يعرف كيف يوقفها. بدأ يهزها بعنف، وصوته يرتفع في كل لحظة
“إيه اللي إنت عملتيه ده؟ ت عـ.ـر.في إيه عشان تكتبي كده؟ عاوزة تشوهي أي حد قدامك ؟ عشان سبق صحفي ؟ انطقي!”
كان يصـ.ـر.خ بكلمـ.ـا.ت مليئة بالغضب وكأنها لا تملك حق في الاختيار ، وهي تكافح لتلتقط أنفاسها وسط آلام موجعة، ردت بصعوبة وعينان تملؤهما الدمـ.ـو.ع وتحدِ:
“وإنت… تعرف إيه عني عشان تبعدني عن أقرب ناس لي زمان؟” قالتها بصوت متـ.ـو.تر، حاولت التملص من قبضته. “مين أعطاك الحق تسيطر عليّ؟ مين سمحلك تضـ.ـر.بني كأني مش إنسانة؟! كان المفروض تحميني وأنا وسط أهلي… مش تجيبني هنا… سيبني بقى!”
لكن صوته كان أقوى منها، حيث صرخ بها بغضب مكتوم، وكان صوته مليئًا بالتهديد:
“عشان أنتي غـ.ـبـ.ـية… وما زالتِ… وأنانية! ما بتفكريش في غير نفسك، وطز في أي حد حواليك، وطز فيهم لو اتأذوا بسبب تهورك! ولا حتى بتتعلمي من غلطاتك!”
ثم انفجر بصوت عالٍ، كالرعد الذي يهز المكان، فيما وجهها يتلقى موجات من صراخه:
“لكن معايا أنا؟ لا! عندي أنا خط أحمر! فاااااهمه؟ خط أحمر ما ينفعش حد يتعداه!”
ض،ربها مرة أخرى في معدتها بقوة، مما جعلها تفقد توازنها وتسقط على الأرض، متكورة من شـ.ـدة الألم. وقف للحظة، عينيه خالية من أي رحمة أو تعاطف، ثم استدار بسرعة، فتح الباب بقوة، وخرج بخطوات عنيفة، دون أن يلتفت خلفه. أغلق الباب بعنف، مما جعل المكان يهتز، تاركًا إياها وحيدة في الظلام، تكافح بين ألمها ودمـ.ـو.عها.
فاطمة، التي كانت قريبة، ركضت نحوه عنـ.ـد.ما رأته وهو يسحبها للأسفل بسرعة، وقالت بتـ.ـو.تر: “يا بني، دي لسه متصابة، خليها ترتاح شويه.”
عاصم نظر إليها بنظرة قاسية لا تقبل النقاش، وقال بصرامة: “كلمة واحدة، أوعي تفتحي لها الباب، ولا تدخليها أكل ولا شرب، سيبيها زي الكـ.ـلـ.ـبة جوه كده فاهمة؟”
قالت بتنهيدة دون حيلة منها: “حاضر يا بني.”
وتركت المكان، عائده إلى عملها في صمت.
لم تهدأ ثورته بعد، توجه إلى غرفتها، سحب جهاز اللاب توب، وحاول مسح ما نشرته، لكن لم يتمكن من مسح جميع المشاركات الأخرى التي نشرها الآخرون. زفر بغضب وأجرى بعض المكالمـ.ـا.ت، ثم خرج من المنزل متوجهًا إلى صالة الألعاب ليخرج غضبه.
هو بـ.ـارد كالجليد، لكن عنـ.ـد.ما يغضب، لا أحد يجرؤ على مواجهته. عائلته بالنسبة له خط أحمر، ولا أحد يستطيع الاقتراب منهم.
ظلَّت سيلا تسعل بشـ.ـدة وتتلوى بألم في معدتها حتى غفت في حالتها المزرية.
مرَّ يوم كامل دون أن يسمع عنها شيئًا.
…
في اليوم التالي، دخل عاصم إلى غرفتها ليجدها ما زالت متكورة على الأرضية، وقد لاحظ تجمعًا دمويًا خارج فمها. توقف مندهشًا، نظر إلى جرحها فوجد أنه كما هو، لم يتغير. حاول إفاقتها، نادى على فاطمة ليحضر شيء مسكر بسرعة.
فاطمة جاءت بماء وسكر، لكن رغم محاولاته لم تستجب. فاستدعى الطبيب الخاص به ليأتي على وجه السرعة. عنـ.ـد.ما وصل الطبيب، قام بمحاولة إفاقتها، لكن ما قاله له الطبيب صدمه بشكل كبير، وأقفل فمه عن الكلام، تاركًا الطبيب يذهب وهو في حالة من الصدمة.
عاصم استعاد وعيه بعد فترة، نظر إليها بعينين محملتين بالهموم، فوجدها قد أغمضت عينيها مجددًا. لم ترغب في رؤيته، فتركها وخرج من الغرفة.
في المساء، استفاقت سيلا وطلب منها عاصم أن تستدعيها إلى مكتبه. فاطمة صعدت لإخبـ.ـارها، لكن سيلا ردت بنفاذ صبر: “مش عاوزة أقابل حد، من فضلك قولي له إني هفضل هنا لحد ما نتكرم ونمشي من هنا خالص.”
فاطمة نزلت وأخبرت عاصم، فطلب منها أن تعطي سيلا الهاتف لكي تتصل بأهلها، ثم تعيده مرة أخرى.
عادت فاطمة وأعطت سيلا الهاتف، فقالت سيلا بسخرية: “يا لكرم أخلاقه”، ثم أمسكته وأخذت تنتظر الرد بشغف.
يتبع
↚
أمسكت الهاتف وانتظرت حتى جاءها الرد، فردّت بلهفة:
"بابا..." ثم بدأت في البكاء.
محسن، بقلق:
"مالك يا قلب أبوك؟ فيكِ إيه؟"
سيلا، بصوت متقطع من البكاء:
"نفسي أشوفك أوي يا بابا. عاوزة أرجع لكم. مش عايزة أقعد هنا. تعالَ خدني بقى."
محسن، محاولًا تهدئتها:
"اهدي يا حبيبتي، اهدي. خلاص، كلها أيام وهتكوني وسطنا. عارفة؟ همسة جالها عريس وقعد معانا واتعرفنا عليه. ومستنينك تيجي عشان نعمل الخطوبة."
سيلا مسحت دمـ.ـو.عها، وقالت بفرحة مختلطة بالحزن:
"بجد؟ مبروك! فرحتلها أوي. هي فين عشان أبـ.ـارك لها؟"
محسن:
"معاكي هي. اتفضلي كلميها."
تحدثت همسة بحماس:
"حبيبتي يا سيلا! حشـ.ـتـ.ـيني و أوي!"
سيلا:
"وانتي أكتر يا قلبي. مبروك يا حبيبتي! فرحتلك أوي أوي. هتعملوا الخطوبة إمتى؟"
همسة:
"لما ترجعي إن شاء الله. بابا قالي إنك هترجعي الأسبوع ده. تجي بسلامة يا رب."
ثم تدخلت نرمين، وخطفت الهاتف قائلة بحنان:
"عاملة إيه يا حبيبتي؟ بتاكلي كويس؟ خلي بالك الجو بـ.ـارد عندك. ادفي كويس يا عمري."
سيلا:
"حاضر يا ماما. وحشني حـ.ـضـ.ـنك أوي. نفسي أترمي في حـ.ـضـ.ـنك أوي."
نرمين، بقلق:
"مالك يا قلبي؟ بتعيطي ليه؟ قلبي وجعني عليكي. طمنيني، فيكِ حاجة؟ خلاص، استحملي اليومين دول بس."
سيلا تنهدت، محاولة طمأنتها:
"أنا كويسة، متقلقيش عليا. بس أنتم وحشتوني أوي."
لم تستطع متابعة المكالمة بسبب اختناقها بالبكاء، فقالت بصعوبة:
"معلش، مضطرة أقفل. عايزين التليفون. مع السلامة."
أغلقت الخط وأعطت الهاتف لفاطمة، ثم ارتمت على الفراش تبكي. لكن فجأة بدأت تسعل بشـ.ـدة، وأحست بوجع في معدتها. لاحظت بقعًا من الدم، مسحتها بسرعة، ثم غفت بالنوم من شـ.ـدة تعبها.
شروق مصطفى
فاطمة أخذت الهاتف وذهبت لإنهاء عملها، بينما ظل محسن في مكتبه قليلاً قبل أن يذهب إلى النوم.
......
صباح اليوم التالي اندلعت معركة بالصحراء بين الشرطة والعصابة التي كانت مختبئة في أوكارها. وبعد مواجهة مسلحة وإطـ.ـلا.ق ن.ار، تمكنت الشرطة من السيطرة على الوضع وإلقاء القبض على أفراد العصابة بالكامل، رغم إصابة بعض رجالها. أثناء التفتيش، عُثر على شاحنة كبيرة مليئة بالأطفال المختط.فين، وأخرى تضم فتيات قاصرات في حالة تخدير تام.
بعد انتهاء المهمة، أجرى اللواء اتصالًا بعاصم ليبلغه بالنجاح ويطلب منه الاستعداد للعودة في أقرب وقت.
أغلق عاصم الهاتف وتنهد بـ.ـارتياح قائلاً:
"وأخيرًا المهمة دي خلصت."
ظل جالسًا للحظات، مسترجعًا ما حدث، ثم أمسك هاتفه مرة أخرى ليجري مكالمة مع طبيب مختص بحالة سيلا. استفسر عن خطة العلاج الأنسب، خصوصًا أن الإمكانيات الطبية في هذا البلد متطورة بشكل أفضل مما كان متاحًا في موطنهم.
بعد المكالمة، قرر مواجهة سيلا بما علمه، ليترك لها القرار بشأن خطواتها القادمة. طلب من فاطمة أن تحضرها إليه، لكنها عادت تقول بأسف:
"للأسف، مش راضية تخرج."
أغمض عاصم عينيه لبرهة، ثم قال بحزم:
"قولي لها لو ما نزلتش، أنا هطلع لها بنفسي."
نقلت فاطمة كلامه، فجاء رد سيلا غاضبًا:
"مش هقابله! مش طايقة أشوفه ولا أسمع صوته. لحد أرجع."
عنـ.ـد.ما علم عاصم بردها، لم ينتظر طويلًا. صعد إلى غرفتها ودخل فجأة، وقال بصوت حازم:
"مش هينفع كده يا سيلا. عايز أتكلم معاكي، تعالي على المكتب حالًا."
وقفت سيلا، وهي تنظر إليه بغضب، ثم تقدمت خلفه متذمرة، تضـ.ـر.ب الأرض بقدميها. دخلت المكتب وجلست على الكرسي أمامه بوجه متجهم، وقالت بحدة:
"اتفضل، خير؟"
جلس عاصم أمامها ونظر إليها بجدية، ثم قال:
"خير إن شاء الله. العصابة أتقبض عليها، ولو عاوزة نمشي من هنا هنمشي حالا بس..."
الفرحة اجتاحت قلبها للحظة، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجهها الشاحب. عينيها تلألأت بالسعادة وهي تقول:
"بجد؟ بجد أخيرًا؟ الحمد لله!"
ثم تابعت بحماس:
"طبعًا عايزة أمشي، ومن غير أي سؤال. ودلوقتي حالًا! أخيرًا الكابوس ده خلص."
أنهت كلمـ.ـا.تها بنظرة غاضبة لعاصم، وكأنها تلومه على كل ما حدث.
نظر إليها بهدوء، محاولًا كتم تـ.ـو.تره، وقال:
" بس في حاجة محتاجين نفكر فيها قبل ما ننزل. وده قرار يرجعلك في النهاية."
سيلا، بوجه متجهم وقد بدت عليها الدهشة:
"حاجة؟ حاجة إيه دي؟ إحنا مش خلصنا خلاص؟ العصابة واتقبض عليها وكل حاجة انتهت!"
عاصم تنهد طويلًا، محاولًا جمع شتات كلمـ.ـا.ته، وقال:
"أحم... بصي. يوم ما حبستك، تاني يوم لما الدكتور وصل وكشف عليكي، بلغني بـ..."
توقف للحظة، ثم أكمل وهو يشرح حالتها الصحية بتفاصيل دقيقة، محاولًا تهدئة وقع الصدمة عليها.
"أنا شايف إن الإمكانيات هنا متطورة أكتر، ولو مددتي الفترة دي شوية، هتتحسني بشكل أسرع. الموضوع في بدايته سهل، يعني مش هياخد وقت طويل."
صدمتها كلمـ.ـا.ته، ولم تستوعب ما تسمعه. شعرت وكأن الأرض اهتزت تحت قدميها. نعم، كانت تشكو من آلام في معدتها، لكنها لم تتخيل أن الأمر بهذا الجدية.
ابتسمت ابتسامة بـ.ـاردة تخفي وراءها خليطًا من الغضب والإنكار، وقالت:
"شكرًا... شكرًا إنك نبهتني. أنا هعرف آخذ بالي من نفسي. ومن صحتي. شكرًا لحد هنا."
ثم أضافت بحدة:
"وأنا طالعة أجهز نفسي للسفر بعد إذنك."
لم يدعها تغادر قبل أن يرد بسرعة:
"بلاش العناد في الموضوع ده. لو عايزة، ممكن أبعت حد من أهلك هنا، أو أجيبهم كلهم لو تحبي."
استدارت قليلاً دون أن تنظر إليه، وقالت بنبرة حازمة وبـ.ـاردة:
"لا. وياريت متجبش سيرة لحد. مهمتك وانتهت هنا. وابعد عن طريقي."
غادرت المكتب بخطوات ثابتة، وأغلقت الباب وراءها دون أن تترك له مجالًا للحديث.
جلس في مكانه لبضع ثوانٍ، يحاول استيعاب ما حدث. غضبه كان واضحًا، فنهض فجأة وضـ.ـر.ب بيده على المكتب عدة مرات وهو يتمتم:
"غـ.ـبـ.ـية! عنادك ملوش لازمة."
ثم أمسك هاتفه وأجرى اتصالًا سريعًا بابن عمه قائلاً بحزم:
"جهز كل حاجة. أنا جاي الصبح."
... .
نرمين بفرحة غامرة قالت:
"بجد يا محسن؟ قبضوا عليهم؟ الحمد لله يا رب! أخيرًا الكابوس ده خلص! فاكر إننا كنا نادرين لما ترجع بالسلامة نطلع نعمل عمرة؟ ولا نسيت؟"
ابتسم محاولًا إخفاء إرهاقه، وقال:
"ما نستش طبعًا، بس الواد مستعجل يا ستي. نستنى نكتب كتابهم الأول، وبعدها نطلع عمرة. لما نرجع، يكونوا خلصوا تجهيزاتهم على مهلهم للشهرين دول."
بتردد قالت:
"بس مش حاسس إننا استعجلنا؟ مش كانوا محتاجين وقت أطول عشان يتعرفوا على بعض؟"
نظر إليها بثقة وقال:
"لو كنت شايف إنه ما يستهلهاش، مكنتش وافقت. أنا اختبرت الولد، وهو قد المسؤولية. وكل شيء معمول بحساب."
بحنان اقتربت منه، وأمسكت وجهه بيديها، وقالت بابتسامة:
"وأنا واثقة فيك وفي كل قراراتك يا حبيبي. نفسي أفرح بهم أوي، وسيلا كمان."
ربت على يدها بحب وقال:
"سيبيها، كل حاجة ليها وقتها. والأيام الحلوة جاية."
قطع حديثهما صوت همسة وهي تدخل بابتسامة عريضة
"الله الله الله! الأحضان كده من غيري؟ خيانة واضحة، وأنا ماليش نصيب ولا إيه؟"
ضحكا بصوت عالٍ، وفتحا أذرعهما لها، وقالا:
"تعالي يا أجمل عروسة!"
دخلت همسة وسطهما، واحتضنتهما بسعادة كبيرة، ثم رفعت رأسها وقالت بابتسامة:
"مبسوطة أوي إن سيلا هترجع بكرة. مش قادرة أستنى أشوفها."
ركضت بعدها إلى غرفتها، تتوق لإخبـ.ـار حبيبها بالخبر السعيد.
عنـ.ـد.ما استقبل مكالمتها وأخبرته بكل شيء، امتلأ قلبه بالفرحة. اتصل بأخيه عامر وقال:
"عامر، كنت لسه هكلمك! عاصم بلغني إن كل حاجة تمام. حضّر نفسك، هنقرأ الفاتحة قريب، ونعمل تلبيس دبل. وبعد ثلاث شهور نكتب الكتاب."
بصوت مليء بالسعادة رد قائلاً:
"إن شاء الله، يا وليد."
....
دخل غرفته يحضر حقيبته، ثم توجه إلى الدادة فاطمة قائلاً:
"جهزي حاجتك وبلّغي سيلا إننا هنتحرك على الفجر."
هزّت رأسها موافقة، وبدأت تجهيز احتياجاتها، ثم صعدت لتبلغ سيلا، بينما ظل عاصم في مكتبه، مستغرقًا في أفكاره. جلس ممسكًا سيجاره الذي أشعله ببطء. فكر في حالة سيلا الصحية، وكيف أنها رفضت أن يخبر أحدًا بما تعانيه. كان يعلم أن علاجها يجب أن يبدأ فورًا، لكن عنادها أربكه. زفر بحدة وقال بصوت منخفض:
"أنا مالي ومالها؟ تتعالج أو متتعالجش، مش مشكلتي."
ثم نفض أفكاره بقوة ووقف أمام النافذة. شرد قليلاً، يحاول تجاهل قلقه غير المفهوم. فجأة، سمع صوتًا ما عبر سماعة الأذن. تنهد وابتسم بخفة، وكأنه يحاول طرد الأفكار المزعجة من رأسه.
كانت سيلا تجلس على السرير تدندن بسعادة، تغني لنفسها وكأنها تطمئن قلبها:
"وحشتوني وحشتوني وحشتوني! أهلًا ترارارا، أهلًا ترا رارا! أهلًا أهلًا بأعز الحبايب!"
ثم توقفت فجأة لتتكلم مع نفسها بسخرية:
"أخيرًا! هخلص منه جبل الجليد كابوس. يبااااي! دمه تقيل بشكل!"
استلقت على السرير بتعب، تذكرت أنها لم تحضر معها سوى حقيبة صغيرة. أغمضت عينيها وغفت بسرعة، بينما ترتسم على وجهها ابتسامة خفيفة.
صعدت لتوقظ سيلا وتبلغها بالتحرك بعد قليل. عنـ.ـد.ما دخلت الغرفة، وجدتها نائمة بعمق خرجت تبلغ عاصم، كان مستندًا على حافة المكتب، وملامحه متحفظة، لكنه أومأ برأسه قائلاً:
"خليها. كمان شوية نتحرك."
مرور أسبوع على عودتهم
عاد عاصم إلى حياته المعتادة بعد عودتهم، يوازن بين إدارة أعماله في الشركات وأعماله السرية. كان يومه مزدحمًا بالاجتماعات والتخطيط، لكنه لم يغفل عن التنسيق مع عامر ووليد لترتيب زيارة عائلية بنهاية الأسبوع. الهدف كان واضحًا: قراءة الفاتحة والإعداد لمراسم الخطوبة.
أما سيلا، فكانت قصتها مختلفة تمامًا. طوال الأسبوع، ظلت حبيسة المنزل. لم تغادر غرفتها سوى للحظات قليلة، ولم تذهب حتى للجريدة التي كانت تحب عملها فيها. انعزلت عن الجميع، وخسرت الكثير من وزنها بسبب فقدان الشهية. كل ما تأكله كان يسبب لها الألم أو ينتهي به الأمر إلى التقيؤ.
كانت غارقة في التفكير والصدمة، تعيد في ذهنها ما قاله لها الطبيب، وتحاول استيعاب الأمر. قررت ألا تخبر أحدًا عن حالتها، لا تريد أن تعكر فرحة عائلتها بزواج همسة أو سفرهم للعمرة. أجلت فكرة الحديث عن مرضها أو العلاج لما بعد انتهاء هذه الأحداث السعيدة.
قبل نهاية الأسبوع بيوم قررت الخروج أخيرًا، بحجة شراء شيء مناسب لمناسبة الخطوبة. رفضت أن يصاحبها أحد، فقد كانت لديها نية أخرى. ذهبت مباشرة إلى المستشفى، لتزور الطبيب المختص بالأورام. كشف الطبيب عليها واكتشف وجود كتلة في منطقة المعدة، وأكد ضرورة إجراء أشعة متخصصة لمعرفة طبيعة الكتلة، سواء كانت حميدة أو خبيثة، وكذلك لتحديد حجمها بدقة.
شعرت بصدمة جديدة لكنها تماسكت. خرجت من المستشفى وتوجهت إلى مركز الأشعة لإجراء الفحص المطلوب. تناولت المحلول الذي طُلب منها قبل الفحص، وأخبرها الطبيب أن النتائج ستظهر في اليوم التالي.
بعد ذلك، حاولت أن تخفف عن نفسها قليلاً، فدخلت متجرًا وابتاعت شيئًا بشكل عشوائي دون تفكير. كان فستانًا بسيطًا بلون سماوي جذب انتباهها. لم تقسه حتى، فقط اشترته وغادرت.
عند وصولها، وجدت الجميع يغنون ويرقصون بفرحة. الأجواء كانت مليئة بالسعادة، فابتسمت سيلا بصعوبة ودخلت بينهم تحاول مشاركتهم. همسة كانت أول من لاحظ الفستان، فأخرجته من الكيس بحماس:
"الله! جميل جدًا يا سيلا، هيبقى تحفة عليكي!"
وضعت همسة الفستان عليها وهي تصفر بإعجاب:
"واو، واو! تحفة بجد، عقبالك يا رب."
احتضنتها بحرارة، بينما نرمين ابتسمت وقالت بحنان:
"رقيق أوي يا حبيبتي، مبروك عليكي."
كانت مي، التي حضرت قبلها بيوم للتجهيز مع العائلة، تقفز بمرح. فجأة قرصت همسة مما جعل الأخيرة تصرخ:
"آآآه! إيه يا بت؟"
ضحكت مي بشـ.ـدة وهي تقول:
"عشان أحصلك في جمعتك، يلا يا سيلا، اقرصيها انتي كمان!"
لكن همسة ركضت مبتعدة وهي تضحك:
" اللي يقدر يمسكني!"
استمرت الأجواء المرحة، وضحك الجميع على همسة، حتى انضم محسن وقال بابتسامة كبيرة:
"عقبالكم يا بنات!"
ردت مي بفرحة:
"الله يبـ.ـارك فيك يا عمو!"
سيلا في عالم آخر كانت تحاول أن تشاركهم الابتسامـ.ـا.ت والضحكات، لكنها كانت غارقة في عالم آخر. شعور الوحدة والخوف كان يسيطر عليها. لم ترد أن تعكر صفو فرحتهم، فانسحبت بهدوء ودخلت الحمام.
كانت ما تزال تمسك بالفستان السماوي، ووقفت أمام المرآة تتأمله. لم يكن اختيارها له عن قصد، لكنها شعرت بأنه يناسبها بطريقة ما. نظرت لنفسها في المرآة، وحاولت أن تبتسم، لكنها كانت ابتسامة مليئة بالوجع والقلق الوقت يمر... والصمت يثقل على قلبها.
وجاء اليوم جلس الجميع الأب مع عاصم وأخيه عامر و وليد .
وتم تحديد بعد ثلاث اشهر خطوبه و كتب الكتاب مع بعض و بعد رجوعه من العمرة سيكملون الزواج.
داخل غرفة البنات همسه وضعت اخر اللمسات و كانت هاديه ورقيقه بفستانها الكشمير و شعرها المائل للعسلي الغامق الذي رفعته لأعلي بطريقه جذابه و انزلت بعض الخصل للأمام مع القليل من مستحضرات التجميل
و ايضا وضعت سيلا بعض مستحضرات التجميل لاخفاء شحوب وجهها ولبست طقم آخر بعد الكثير من المجادلة منهم أن تلبس هذا الفستان الا انها رفضت و تركته ليوم الخطبة.
و حضرت ايضا مي التي لاحظت تغير في صديقتها لكنها لم تريد ان تتكلم فالوقت غير مناسب.
فور وصول رودينا إلى المنزل، أسرعت إلى الداخل تحمل طفليها النائمين، لتضعهما بلطف على الفراش وتتركهما يكملان نومهما. اتجهت مباشرة إلى سيلا، واحتضنتها بحرارة، وكأنها تحاول تعويض سنوات الغياب الطويلة. بعيون دامعة وقلب مليء بالفرح، قالت رودينا:
"مش مصدقة نفسي بجد... بعد كل السنين دي رجعنا تاني لبعض، وكمان بقينا نسايب!"
ردت سيلا بابتسامة هادئة، تحاول أن تخفي مشاعر مختلطة داخلها:
"أهو النصيب بقى..."
لكن رودينا، وقد شعرت بالذنب، أضافت بصوت منخفض:
"متزعليش مني، والله كان غصب عني. إخواتي كان طبعهم صعب جدًا، وحاصروني بشكل ما كنتش أقدر أتصرف فيه."
في داخلها، همست سيلا لنفسها: "أنتي هتقوليلي؟ أنا عشت الطبع ده بكل قسوته... ضـ.ـر.بني، حبسني في بدروم وسط الثلج."
ولكنها لم تُظهر شيئًا من ذلك، بل أفاقت من ذكرياتها حين شعرت بضغط رودينا على كتفها، تبكي وتطلب السماح.
ربتت سيلا عليها بحنان وقالت:
"مش زعلانة منك يا حبيبتي، والله. اللي فات مـ.ـا.ت، انسي بقى. متعيطيش."
بعد أن هدأت رودينا، قالت سيلا مازحة وهي تشير إلى طفليها:
"طب يلا صحيهم، يلعبوا معانا."
تراقب الطفلين بملامح محبة:
"دول شكلهم كيوت أوي."
رودينا ضحكت وقالت:
"كيوت إيه! دول مطلعين عيني طول النهار. أقعد أقول لهم: بس اسكتي، كفاية دوشة! لكن لما بيناموا، أحس بزهق رهيب وأفضل أقول: اصحوا، كفاية نوم!"
ضحكت سيلا ومي وهمسة معًا على وصفها، بينما خفضت رودينا صوتها وهي تضحك أيضًا:
"بس هس... خليهم نايمين دلوقتي عشان نقعد شوية برا بدل ما يطلعوا روحنا."
نادت نرمين على الجميع استعدادًا لقراءة الفاتحة وتلبيس الخواتم. خرجوا جميعًا إلى الصالة حيث تجمع الأهل في جو عائلي دافئ ومليء بالحب. كانت همسة في كامل أناقتها تجلس بجانب وليد، الذي لم يستطع أن يُخفي نظراته العاشقة لها، تلك النظرات التي عبّرت عن إعجابه بها منذ اللحظة الأولى.
سيلا، بابتسامتها الهادئة، توجهت إليه وقالت:
"ألف ألف مبروك."
رد وليد بابتسامة مماثلة:
"الله يبـ.ـارك فيكِ، وعقبالك إن شاء الله."
ردت سيلا بامتنان بسيط:
"ميرسي."
جلست مي في مواجهة معتز، الذي لم يكن قادرًا على فهم مشاعره المتضاربة تجاهها. كان مضطربًا، بينما هي اختارت تجاهله تمامًا وكأنه غير موجود.
قرأ الجميع الفاتحة معًا في لحظة مبـ.ـاركة، ثم قام وليد بإلباس همسة الخاتم وسط تصفيق وفرح العائلة. كان الأب والأم ينظران بسعادة إلى ابنتهما، بينما لم يتوقفا عن الدعاء في سرّهما أن يمنح الله السعادة لسيلا أيضًا، وأن تجد نصيبها قريبًا.
رودينا جلست بجانب زوجها، تنظر إلى المشهد بابتسامة، وهي تفكر في حظوظ القدر التي جمعتها مجددًا بسيلا بعد كل تلك السنين.
ظل عاصم يراقب سيلا بعينيه، ولاحظ الشحوب الذي بدا على وجهها رغم محاولتها إخفاء ذلك باستخدام مستحضرات التجميل. هي أيضًا انتبهت لنظراته وفهمت ما يعكسه، فبادلت نظرته بنظرات تحذيرية، دون أن تنطق بكلمة واحدة.
استأذن عاصم ليشعل سيجارة إلى الشرفة، ورافقه الأب، حيث تبادلا بعض الكلمـ.ـا.ت في لحظات هادئة قبل أن يعودا إلى الداخل. أضاء عاصم سيجارته، وظل يدخن في صمت لفترة، حتى أدرك أن سيلا اقتربت منه. سعلت بشـ.ـدة جراء كثافة الدخان الذي يملأ المكان، فتوجهت إليه بغضب:
↚
"جايبني ليه؟ خليت بابا يناديني ليه؟ طفي الزفتة دي! مش قادرة!"
بعد لحظات من السعال، هدأت وقالت بحدة:
"أخبـ.ـار قضية أية؟اللي عايز تتكلم فيها؟ مش هي انتهت خلاص؟"
أطفأ عاصم سيجارته، ونظر إليها بنظرة مرعـ.ـبة، وقال بصوت حازم:
"صوتك ميعلاش فاهمة؟"
حاولت التوجه للداخل، لكن عاصم أمسك بذراعها بقوة قائلاً:
"استني هنا، مخلصتش كلام عشان تمشي."
فجأة، ترك يدها، فرفعت يدها بتعب وقلة حيلة، وقالت:
"اتفضل اتكلم."
عاصم، وهو ينظر في عينيها مباشرة، قال:
"ليه مقولتيش لحد عن حالتك؟"
ابتسمت سيلا ابتسامة ساخرة وقالت:
"إيه ده، خايف عليا؟ معقول؟ اللي أنا أعرفه إنك مش بتحس ولا بيفرق معاك. بتضـ.ـر.ب بدم بـ.ـارد زي ما ضـ.ـر.بتني قبل كده،" وأشارت إلى كتفها.
عاصم، بنفاد صبره، قال:
"ما ترديش سؤال بسؤال. مش خوف عليكي، بسأل من ناحية الواجب. أنا اللي اكتشفت مرضك في الأول، مش أكتر. وبالنسبة للإحساس ده، مايخصكش في حاجة. ودم بـ.ـارد لأنك تستاهلي."
سيلا، وهي تنظر إليه بدهشة ثم تفكر في كلامه قليلاً، قالت:
"طيب، واجبك... وهو وصل. متشكرين. خلي ضميرك يرتاح. لو مت، مش هتكون السبب. ومتدخلش في حياتي تاني."
غضب عاصم، وقال بعنف:
"أنتِ مـ.ـجـ.ـنو.نة! بتعاندي في دي كمان؟ اعقلي شوية! لو مقولتيش لحد، أنا اللي هبلغهم بنفسي."
سيلا، وقد نفد صبرها، ردت بصرامة:
"أظن إن مهمتك انتهت. ملكش صفة ولا مكانة إنك تتكلم أصلاً. أنا هبلغهم في الوقت المناسب، مش هعكر عليهم فرحتهم، مش هخليهم يتلهوا فيا وهم فرحانين. بعد كتب الكتاب، إن شاء الله، هبلغهم بنفسي وأبدأ العلاج. ياريت ترتاح وتبعد."
عاصم، وهو يحذرها، قال:
"خلي بالك، لو منفذتيش اللي قولتي ده، أنا اللي هتصرف بطريقتي. مفهومة؟ وعندي طرقي، وأنتِ جربتيها بنفسك."
سيلا، بحزم شـ.ـديد، قالت:
"لحد كده وكفاية! ملكش دعوة بيا بقى."
عاصم، محاولًا تهديدها، قال:
"هسيبك لحد كتب الكتاب، لكن لو مابدأتيش أي خطوة، هبلغ والدك بضرورة سفرك لأمور تخص القضية، وهسفرك غصب عنك. مفهومة؟"
سيلا نظرت إليه قليلاً، لم تعرف كيف ترد، وكان واضحًا أنه لا يفهم أن تدخله في حياتها بهذا الشكل ليس له أي مكان. فأجابت:
"وأنا مش موافقة على جنانك ده."
تركت عاصم ودخلت مجددًا إلى الداخل، حيث جلسوا جميعًا. كانت سيلا تحاول أن تتغاضى عن كل هذا الصراع الداخلي الذي تعيشه.
في جو عائلي محير ورغم التـ.ـو.تر الذي عاشته مع عاصم، لم تخلو الجلسة من أجواء عائلية دافئة. كانت نظرات معتز تحمل نوعًا من التوعد، لكن الأسباب التي جعلته يحدق فيها بهذه الطريقة كانت لا تزال غير واضحة بالنسبة له. وفي المقابل، كانت بين همسة ووليد نظرات مليئة بالحب والشوق، لكن نظرات أخرى بين الحضور كانت بـ.ـاردة كالجليد، لا تحمل أي نوع من المشاعر. إلى أن انتهت المقابلة، تاركة الجميع مع مشاعرهم التي ما زالت معلقة.
دخلت سيلا غرفتها بعد قليل، لتجد صديقتها مي قد غيّرت ملابسها وهي في انتظارها. استأذنت مي من أخيها ووالدتها بالمبيت لديها.
مي: "كان يوم جميل أوي، عقبالنا يا رب."
ابتسمت سيلا ابتسامة مكسورة، وقالت: "عقبالك إنتِ يا حبيبتي."
دخلت همسة بعد أن بدلت ملابسها، وانضمت إليهما.
مي (بحب): "مبروك يا عروسة، كنتي قمراية."
همسة: "حبيبتي، عقبالك إنتِ وسيلا، يا رب تفرحوا قريب. بصوا بقى، أنا هلكانة أوي، وجعانة ونوم. هسيبكم ترغوا بس، وطوا صوتكم، ماشي؟"
مي (بضحك): "ماشي يا حب."
ثم رجعت مي إلى سيلا التي ما زالت تائهة، سرحانة في أفكارها، وقالت لها:
مي: "مالك يا سيلا؟ حساكي مش طبيعية خالص، وبتسرحي كتير، ووشك غريب. فيكي إيه يا حبيبتي؟"
حاولت سيلا أن تهرب من أسئلتها وقالت: "لا يا بنتي، مفيش. شوية إرهاق بس من الأحداث الأسبوع وقلة النوم. يلا ننام بقى، لأني تعبانه بجد."
لكن مي كانت تشعر بعدم ارتياح، لأن سيلا لم تحكي لها عن ما حدث لها أثناء السفر، وكلما حاولت أن تسألها، كانت تهرب من الإجابة.
هتفت مي بشك: "طيب يا سيلا، هسيبك دلوقتي، بس لما تحبي تتكلمي، أنا موجودة."
في صباح اليوم التالي، خرجت سيلا لتستلم نتيجة الأشعة. ذهبت مباشرة إلى الطبيب، الذي نظر في الأشعة لفترة من الزمن، محاطًا بالصمت. لكن سيلا كانت تشعر بتـ.ـو.تر كبير يملأها، وهي تنتظر الإجابة.
ثم جاء الرد الذي كانت تخشاه: " "الورم موجود في أعلى بطانة المعدة، وحجمه صغير وواضح في الأشعة. الحمد لله إنك اكتشفتيه بدري، لإن في حالات كتير الورم مش بيبان في البداية وبيبقى انتشر في أماكن تانية. لازم تعملي عملية عشان تستأصلي الورم ده."
سيلا: "ممكن يا دكتور أأجل العملية شوية؟ عندي ظروف خاصة كده محتاجة وقت."
الطبيب: "المفروض إننا نستعجل في العملية دلوقتي بما إن الورم في بدايته، بس ممكن أديكي أدوية تقلل حجمه شوية، وجربيها أسبوعين. بعدين تعالي علشان نتابع الوضع. لو الأدوية ما نفعتش، هنبقى نغير العلاج، بس لازم ت عـ.ـر.في إن مفيش بديل عن الجراحة في الآخر."
أخذت سيلا الروشتة وقرأت تعليمـ.ـا.ت النظام الغذائي بعناية، ثم شكرت الطبيب وخرجت.
فور مغادرتها العيادة، ألقت بصور الأشعة في سلة المهملات حتى لا يلاحظها أحد. بعدها، توجهت لشراء الأدوية المؤقتة، وأخفتها داخل حقيبتها قبل أن تعود إلى منزلها مباشرة. كانت تشعر بتعب شـ.ـديد، فلم تعد قادرة على القيام بأي مجهود. رفضت العودة للعمل ووافقت دون نقاش على طلب والدها بترك عملها أو التحول إلى تخصص آخر.
ثم توقفت لحظة، تتذكر كيف كان الوضع قبل أن تصبح كل هذه الأحداث جزءًا من حياتها...
في اليوم الثاني بعد رجوع سيلا من السفر، دخل محسن غرفتها وقال: "ممكن أقعد معاك يا سيلا؟"
سيلا ابتسمت وقالت: "طبعًا يا بابا، اتفضل."
عدلت من وضعها شويه، وقعد جنبها، وقال: "إيه الحلو زعلان ليه بقى؟"
سيلا ردت بصوت هادي: "مفيش يا بابا، مش زعلانه."
يعلم جيدًا عناد ابنته، فاختار أن يتحدث معها من زاوية أخرى، قائلاً:
"طيب يا بنتي، أنا مليش غيركوا في الدنيا أنتي وأختك، وبخاف عليكو من الهوا الطاير، ومش هابقى مبسوط أبدًا وأنتي بتضيعي وأنا واقف بتفرج عليكي."
صمت شوية، ثم أخذ نفس عميق وقال: "بصي، أنا مش همنعك من شغلك اللي بتحبيه، المرة دي الحمد لله لحِقنا نفسنا، لكن ما أعرفش المرة الجاية ممكن يحصل إيه. الشغل ده، التحقيقات والجري وراء الحقيقة، ده ليه ناس متدربة على أعلى المستويات ومختصين، فأنا هخليكي تختاري: يا تمسكي تخصص تاني خالص، أو تسيبي المجال ده كله."
فهمت سيلا تمامًا مشاعر والدها وخوفه العميق عليها، لكنها كانت في حالة إرهاق شـ.ـديدة، جسديًا وعقليًا، لا سيما بعد اكتشاف مرضها. لم تعد قادرة على بذل أي مجهود، وكانت تدرك تمامًا أن كل شيء أصبح فوق طاقتها. كما أن صديقتها مي توقفت عن العمل معها، مما جعلها تشعر بأنها في حاجة ماسة للراحة. باتت عاجزة عن مواجهة العمل في هذه الفترة، وأصبحت مقتنعة بأنها بحاجة إلى فترة من السكون والتعافي بعيدًا عن الضغوطات التي كانت تلاحقها.
فجأة، اندفعت سيلا إلى أحضان والدها، وكأنها تبحث عن مأوى في حـ.ـضـ.ـنه الدافئ، تحس بريحته التي تحمل في طياتها الأمان والحنان. في تلك اللحظة، غمرتها مشاعر غريبة، شعرت وكأنها على حافة الفراق منهم، كأن الزمن يهرب منها بسرعة. كانت تحاول بكل ما فيها أن تقتنص أي لحظة لتبقى بالقرب منهم، تخشى أن تفوتها، وتهيم في شعور غريب من القلق والحنين.
محسن لاحظ سكوتها، وقال: " ها، قولتي إيه؟"
أخيرًا تكلمت، وقالت: "هختار الاختيار التاني. أنا تعبت من الشغل، فعلاً محتاجة أريح شوية. وكمان مي مش هينفع أسيبها، مش هينفع أشتغل لوحدي."
حاولت سيلا أن تبتسم بصعوبة، وقالت: "مش بحب أعمل حاجة من غيرها، إنت عارف."
قهقه محسن وهو ما زال يحتضنها، وقال: "ربنا يخليكم لبعض."
نظرت سيلا إليه بابتسامة دافئة، ثم أمسكت بيده برفق وقالت: "ويخليك لينا يا رب."
لكن حديثهم قُطع فجأة بدخول شخص آخر...
قالت بصوت متهكم: "لا لا لا! كل يوم ألاقيك في حـ.ـضـ.ـن واحدة تانية، وأنا الغلبانة مفيش حد يضمّني."
ضحك محسن وقال: "تعالي تعالي، دايمًا بتيجي في أهم لحظة."
ودخلت وسطهم، مما أضاف جوًا من المرح تلك اللحظة.
في أحد الأيام، كان في مكتبه مشغولًا بأعماله، لكنه سرح قليلاً وهو يتذكر ما سمعه عن تلك التقنية الحديثة التي زرعها لها. كان السوار الذي وضعه في يدها يحتوي على تقنيات متطورة للغاية، يتم استخدامها في بعض العمليات السرية والحساسة فقط. تركه في يدها دون أن يزيله، رغم أنه كان بإمكانه فعل ذلك، ليظل السوار على معصمها مع ميزات قد تبدو بسيطة في الظاهر لكنها معقدة في الحقيقة.
الطريف في الأمر أنه لم يكن مجرد جهاز تتبع عادي، بل كان يحتوي أيضًا على سماعة صغيرة للغاية مدمجة، تقوم بتسجيل الأصوات من حولها. الطرف الآخر يستطيع الاستماع لكل ما يحدث عبر سماعة دقيقة للغاية زرعها في أذنه. تلك السماعة كانت غير مرئية تقريبًا، ما يجعلها مستحيلة الملاحظة من أي شخص آخر. كما أن هذه التقنية لم تكن مقتصرة على المسافات القريبة فقط، بل تم تصميمها خصيصًا لتغطية مسافات بعيدة أيضًا، مما يجعلها أداة قوية وفعالة في مراقبتها دون أن تشعر بذلك.
بينما كانت همسة في غرفتها الصغيرة التي خصصتها للعمل على رسم لوحاتها، كانت مشغولة تمامًا في رسم لوحة جديدة بعناية، تخطط للخطوط بالرصاص، شاردة في خيالها الذي ينسج تفاصيل اللوحة. في لحظة من التركيز التام، فاجأها رنين هاتفها، وكانت النغمة الخاصة به تعلن عن وجود رسالة من وليد، الذي أضاءت الشاشة باسم "حبيبي". ردت على الاتصال بخجل.
قال وليد: "حياتي كلها، عاملة إيه؟ حشـ.ـتـ.ـيني و ." همسة أجابت برقة: "الحمد لله."
ثم أضاف وليد: "عارف إنك زعلانة مني، المفروض أخرجك النهاردة، بس جالي سفرية فجأة وهرجع بالليل، بس بكرة إن شاء الله ننزل سوا وهعوضك."
همسة طمأنته: "لا مش زعلانه والله."
وليستمر وليد: "يعني مش نفسك تشوفيني؟"
همسة ضحكت: "لا."
رد وليد: "ال ال ال بقا كده أنا زعلت بجد."
فأجابته همسة: "أقصد إني شيفاك قدامي، أصلي برسمك."
فوجئ وليد بفرحة: "الله بجد؟ طيب ينفع ترسمني كده وأنا مش قدامك؟"
همسة: "منا بتخيلك وبرسمك."
ضحك وليد قائلاً: "ربنا يستر، ربنا يستر."
همسة: "كده برده زعلت أنا."
قال وليد ضاحكًا: "لا لا لا، بهزر والله. لازم أشوفها بعد ما تخلصيها."
همسة: "أكيد."
وليد: "طيب اسيبك تكملي الصورة وأنا خلص، وهكلمك تاني."
همسة: "أوكي، مع السلامة."
ثم تابعت همسة العمل على لوحتها، بينما كان صوت وليد في قلب حديثها، يعزز من إلهامها في رسمته الخاصة.
داخل السجن، كان الرجل يتكلم مع آخر، وعيناه مليئتان بالغضب والتهديد. قال بنبرة مليئة بالتحذير: "لم أترك هذه المهزلة تمر بسلام. لم تعرفوا مع من وقعتم، لكن قريبًا ستعرفون."
ثم أخذ الهاتف المخبأ وتحدث مع شخص آخر قائلاً: "حضّر لي ما قلت لك، سننفذ الخطة قريبا. جهّز الرجال ليعرفوا تحركاتها!"
وأضاف بلهجة حادة: "لا أريد أي خطأ. سضيع رقبتك، مفهوم؟"
أجاب الطرف الآخر بصوت خافت: "مفهوم سيدي، لا تقلق. إنها رجعت، ورجالتي لم يفارقوها."
أغلق الرجل الهاتف في وجهه، ثم انفجر ضاحكًا ضحكة شيطانية مليئة بالشر. "هاهاهاها، قريبًا سوف ألتقي بكِ، ملاكي."
بعد مرور ثلاثة أشهر، أصبحت علاقة همسة ووليد أقوى بكثير، وكانت الأمور بينهما تسير بشكل جيد، بينما كان الوضع غير مستقر بالنسبة لمي فقد قطعت علاقتها بزميلها، حيث اختفى فجأة ولم يعد يرد على اتصالاتها. وصل إليها عن طريق أخته أنه ترك العمل بالجريدة وسافر.
أما معتز، لم يعرف سببًا لتلك الأفعال، لكن كل ما كان يريده هو أن يكسرها ويبعدها عن حبيبها. قام بتهديده في محاولات يائسة، لكنه لا يزال يتربص لها في الخفاء.
وفي مكان آخر، كان عاصم قد ذهب في مهمة سرية أخرى، حيث غاب لمدة شهرين ونصف. عاد في الوقت المناسب ليحضر كتاب كتاب ابن عمه.
أما سيلا، فكانت ما زالت مستمرة في علاجها، تتناول المسكنات وتزور الطبيب بشكل دوري. قامت بإجراء أشعة أخرى، وأخبرها الطبيب أنه من الضروري أن تخضع لعملية جراحية بأسرع وقت خوفًا من أن ينتشر الورم، الذي كبر بمقدار بعض السنتيمترات. على الرغم من ذلك، طمأنته بأنها ستبدأ العلاج قريبًا جدًا.
وفي يوم الخطبة المنتظر، جاء الحدث المفاجئ...
في صباح يوم الخطبة وكتب الكتاب، توجهت همسة، سيلا، مي، ورودينا إلى القاعة التي كانت قد حُجزت خصيصًا لهذا اليوم المميز. هناك، استلموا العروس، وبدأ الجميع بالتحضير، حيث تم تخصيص مكان خاص للتجميل لكل منهن.
بينما كانت سيلا تحاول التماسك، بدأ الإرهاق يظهر على وجهها، إلا أنها كانت حريصة على أن لا تظهر شيئًا من تعبها أمامهن حتى يمر اليوم بكل تفاصيله كما هو مخطط له.
مرت ساعات، وانتهت الفتيات من ارتداء فساتينهن الخاصة، وكل واحدة منهن أظهرت جمالها بطرق مميزة وفريدة.
كانت همسة في غاية الرقة والبساطة، فستانها النبيتي الذي كان ضيقًا من أعلى الصدر حتى الوسط بتطريزات بسيطة ورقيقة، ينزل بوسع حتى أسفل القدمين، مما أضفى على مظهرها سحرًا خاصًا. رفعت شعرها بطريقة مبهره ووضعَت تاجًا رقيقًا فوقه، ليزيد من جمال إطلالتها.
أما سيلا، فقد اختارت فستانًا سماويًا بسيطًا، فوقه طبقة من التل الذي كان نفس لون الفستان، والمجـ.ـسم حتى الركبة، بينما كان ينزل بحرية واتساع من أسفل الركبة. وضعت مستحضرات تجميلية خفيفة لإخفاء شحوب وجهها والهالات السوداء تحت عينيها، بينما تركت شعرها القصير كما هو، مما أضفى على مظهرها طابعًا ناعمًا.
أما مي، فقد ارتدت فستانًا من اللون الجنزاري، في حين اختارت رودينا فستانًا ذهبيًا هادئًا، مع حجاب منير على وجهها، حيث أضاء ملامحها بشكل رائع. كانت بنات رودينا يرتدين فساتين بنفس لون فستانها، ليكنّ جميعًا مثل الأميرات، يسرن بخفة وأناقة في ذلك اليوم المميز.
أنهين الفتيات آخر اللمسات، وكل واحدة منهن كانت جاهزة للظهور. في تلك الأثناء، وصل وليد وكان في انتظار أن يُفتح له الباب ليتمكن من دخول القاعة. لكن، سارعَت مي ورودينا نحو الباب، وتوقّفن خلفه مانعاتٍ إياه من الدخول، ضاحكتين بمرح: "لا، مش فاتحين!"
قال وليد مازحًا وهو يقف أمام الباب: "بطلي رخامه يا رودينا، هقول لعامر."
ضحكت رودينا ردًا عليه: "مش فاتحين."
أما مي، فحاولت أن تكتم ضحكتها، وقالت: "طيب، ادفع كم، وافتحلّك أنا."
فأجاب وليد، مستنكرًا: "حتى أنتي كمان؟"
وعنـ.ـد.ما سمعت سيلا، اقتربت منهم وقالت بلطف: "خليه يدخل بقى، كفاياكم كده، حـ.ـر.ام عليكم." ثم فتحت الباب ليدخل وليد.
أشارت سيلا إلى البنات وقالت: "يلا بينا، إحنا نستناهم بره. يلا، يلا منك ليها أنتي كمان."
بينما كان وليد يدخل، ضحك وقال لها بغضب: "والله لسلّط علىكي عامر يا زفتة أنتي."
خرجوا جميعًا، تاركين وليد مع همسة التي كانت لا تزال متـ.ـو.ترة وخجولة، لكنه اقترب منها وأمسك يدها بحنان، محاولًا أن يطمئنها: "اهدي، أنا جنبك، مفيش داعي للتـ.ـو.تر ده كله."
ثم نظر في عينيها وقال: "لا لا، مش هينفع كده، مش هينفع تخرجي كده كمان."
همسة، ببساطة وبراءة، سألته: "ليه بس؟"
أجاب وليد بجدية: "أنا عاوز أخبّيك عن عيون الناس كلها."
ابتسمت همسة بخجل، ولم ترد عليه، فاستمر هو في حديثه، واقترب منها أكثر، همس في أذنها بكلمـ.ـا.ت عاشقة جعلت وجهها يحمر خجلًا. حاولت أن تبتعد عنه، وقالت بسرعة: "أأ، بينادوا عليك بره."
دفعته بلطف ليخرج، لكنه ظل يحدق فيها بتوهان، وفي عينيه كان هناك لمعة خاصة، وقال بمرح: "أحم، أنا شكلي بنطرد كده ولا إيه؟ دا أنا حتى النهاردة هتتكتبي باسمي، واسمك هيرتبط بيا لأخر العمر، ولا إيه؟"
تحدث وهو متجه نحو الباب، لكنه توقف فجأة، وأمسك بالباب بيده، ثم دخل برأسه مجددًا ليغمز لها قائلاً: "طيب، مفيش حاجة علينا."
همسة، بخجل، قالت: "لا، وامشي بقا يلا."
لكن وليد، ضاحكًا، أخرج رأسه مرة أخرى وقال: "طيب، تصبيره صغيرة قد كده، انتي مراتي والله."
تحركت همسة لتغلق الباب، وقالت بصوت خافت: "هس، عيب كده." ثم أغلقته وأخذت خطوة للأمام، لكن ما إن تقدمت، حتى فُتح الباب مرة أخرى، لتتفاجأ به أمامها، ممسكًا بيدها بقوة، وعينيه تتأملان عينيها العسليتين.
سألت، متلعثمة: "أ، ايه في ايه؟ مالك جيت تاني؟ ليه الناس بره؟"
لكن لم ينتبه وليد لما قالته، فقد كانت شفتاها تتكلمان بما لا يستطيع مقاومته، فاقتنص فرصة حديثها واختطف شفتاها في قبلة طويلة لم يتركها إلا ليأخذ أنفاسهما. ثم، وهمس بتحذير: "بلاش الروج ده تاني، مطمنش، ممكن أعمل إيه بره؟"
ابتسم، وأغلق الباب وراءه.
همسة هرولت بسرعة لتغلقه، وقلبها يدق بسرعة كطبول الحرب، بينما كانت تمسك طرف شفتها بأصابعها، هامسة في نفسها: "مـ.ـجـ.ـنو.ن! أنا هتجوز مـ.ـجـ.ـنو.ن."
لكن فجأة، بدأ الخبط على الباب، وظهر والدها، الذي أخذ يدها برفق، ثم تبعته جميع الفتيات، ليصعدوا بها إلى السلالم.
وعنـ.ـد.ما وصلوا إلى الأسفل، قام والدها بتسليمها إلى عريسها الذي أمسك بها برفق، وهمس في أذنها قائلاً: "شطورة، سمعتِ الكلام."
ضحكت همسة وقالت له، بخجل: "مـ.ـجـ.ـنو.ن."
رد وليد بتلقائية: "بيكي."
جلس الجميع في المكان المخصص لهم، وسط أجواء من البهجة والفرح التي أضفها الأهل والأصدقاء بمبـ.ـاركتهم للعروسين. كانت سيلا تقف بعيدًا عن الجمع، محاولًة أن تخفي تعبها، تمسك معدتها بين الحين والآخر، رغم ابتسامتها التي كانت تظهر بين الفينة والأخرى.
لكن لم يكن عاصم بعيدًا عن ملاحظتها. وصل إلى القاعة للتو، وكان يضع هاتفه في جيبه بعد إنهاء مكالمة كانت قد قلبت جميع الموازين. زفر بضيق، فقد شعر أن المكالمة لم تكن مطمئنة أبدًا. نظر إلى سيلا بتأمل، فوجدها منزوًية في أحد الأركان، وقد تجنبته هي بعناية. كان عينيه تتابعان حركاتها بتوجس، لا يريد أن تفلت من نظره، فذهب إلى ابن عمه ليبـ.ـارك له، ولكنه كان مشغولًا بالتركيز على سيلا.
أما مي، فقد كانت تبحث عنها بين الحضور حتى وجدتها، فذهبت إليها مسرعة: "مالك واقفة بعيد ليه كده؟ تعالي اقفي وسطنا شوية، ماما وهيثم بيسألوا عليك، تعالي سلمي عليهم."
استجابت سيلا لها، وسارت معها نحو العائلة، حيث وقفت وسلمت على والدتها التي احتضنتها بحب وابتسامة، ثم توجهت لتحيي هيثم. كان هيثم قد أمسكت يده بكف يدها، ولم يتركها بسهولة. كانت عيناه شاردتين بها منذ أن وقع نظره عليها لأول مرة.
قال لها بابتسامة هادئة: "إزايك يا سيلا؟ عاملة إيه؟"
تحدثت سيلا بابتسامة خفيفة، حاولت أن تبدو طبيعية، وقالت: "الحمد لله، أنت أخبـ.ـارك إيه؟".
ثم تعالت أصوات الموسيقى، وبدأ منسق الحفل في إعلان بداية أول رقصة سلو، داعيًا جميع الأزواج للتقدم. بدأت الرقصة الأولى، وامتزجت الأضواء بالأنغام، لحين وصول المأذون.
اقترب هيثم من سيلا، وقال: "تسمحيلي بالرقصة دي؟". كانت سيلا على وشك الرفض، لكن هيثم لم يمنحها الفرصة، فانتزع يدها من بين الحضور وسحبها إلى الاستيدج، ووضع يدها على كتفه، بينما أمسك خصرها بكلتا يديه. ثم بدأ يتحدث، في انغماس تام في اللحظة، قائلاً: "أنا مبسوط أوي يا سيلا النهارده، عارفة ليه؟".
نظرت سيلا إليه بدهشة، مستفسرة عن سبب سعادته. فأجاب هيثم، وهو يغرق في أفكاره: "حياتي متوقفة من غيرك، عارفة كده؟".
ابتسمت سيلا ابتسامة هادئة، وقالت بصوت هادئ: "ليه كده يا هيثم؟ قدامك فرص كتير قوي. حاول تمسكها، بص حواليك هتلاقي الحب الحقيقي قدام عيونك، وانت مش واخد بالك. صدقني، أنا بعتبرك زي أخويا كان نفسي يبقى لي أخ".
في الجهة الأخرى، كانت مي واقفة، تغرق في تفكيرها، تتمايل برفق مع الكابلز الذين كانوا يرقصون. من بينهم همسة ووليد، ورودينا وعامر. كانت تتمنى لهم الخير، خصوصًا بعد أن رأتهم منـ.ـد.مجين في رقصة سلو، حتى أوقفها شخصٌ ما، أحد أصدقاء العريس، الذي لاحظ وقوفها وحيدة.
مدَّ يده قائلاً: "ممكن يا آنسة بالرقصة دي؟". ترددت مي للحظة، وكانت سترفض، ولكن نظرات الأخير، التي كانت تحمل شيئًا من التحذير، جعلتها توافق أخيرًا. نزلت يدها في يده، وانضمت إلى بقية الثنائيين على الحلبة.
ثم بدأت الحرب تنفجر في مكان آخر.
معتز، الذي كان يقف بعيدًا، كانت نظراته تتفجر من الغضب وهو يرى تلامس خصر مي مع ذلك الشخص. لو بقيت الأمور كما هي لدقيقة أخرى، لكان قد أحرقهم بنظراته. أطلق زفرة حارقة، ثم ترك القاعة بأكملها. خرج في عجلة، يدخن سيجارة تلو الأخرى، يلهث من الغضب، حتى لمح عاصم يجري بسرعة كبيرة. استغرب من حالته، فألقى بعقب السيجارة على الأرض، وركض وراءه ليلحقه.
"في إيه؟ حد جرى له حاجة؟" سأل معتز بلهفة، لكن لم يكن هناك رد.
↚
كان عاصم واقفًا في زاوية المكان، يده تستقر في جيبه، وعيناه معلقتان بسيلا التي كانت تتمايل برفق، وكأنها تنسج مع اللحظة حكاية لا يراها غيرها. نظراته كانت تلاحق حركتها في صمت، يراقبها عن كثب دون أن ينبس بكلمة.
وفجأة، تغيرت ملامحها؛ ارتسم على وجهها شبح ألم مفاجئ، جعلها تتوقف عن الحركة، تمسك معدتها بتلقائية كمن يحاول مقاومة وجع باغتها دون سابق إنذار. لم يمضِ سوى لحظات حتى استدارت مبتعدة، تاركة الجميع وراءها، واندفعت راكضة دون أن تنبس بحرف.
مي، التي كانت تقف بجانبها، لاحظت التغيير في حالتها على الفور. ارتسمت علامـ.ـا.ت القلق على وجهها، وهرولت خلفها دون تردد، تنادي باسمها بخوف مكتوم. أما عاصم، فقد التقط المشهد بعين ثاقبة، لم يغفل عن أي تفصيل.
بخطوات ثابتة لكن مفعمة بالقلق، تبعهما عاصم، يراقب من بعيد دون أن يثير الانتباه. وحين رأى سيلا تختفي داخل الحمام، توقف على مسافة قصيرة، يتأكد من سلامتها بصمته المعتاد. ومع ذلك، لم تغب عن ملامحه تلك النظرة الحادة التي تكشف عن عقل مشغول وأسئلة لا تنتهي.
أشعل عاصم سيجارته بهدوء، بينما التقط أذناه همسات متبادلة بين سيلا ومي. نظراته لم تغفل عنهما، يراقب المشهد من بعيد دون أن يتدخل، لكنه كان يشعر بشيء غريب ينبض في الأجواء.
كانت سيلا منهمكة في تفتيش حقيبتها بـ.ـارتباك واضح، وكأنها تبحث عن شيء ضاع منها. تحدثت إلى نفسها بصوت خافت، يحمل نفاد الصبر: "هي فين دي بس؟". ملامحها كانت متـ.ـو.ترة ومشوشة، مما دفع مي إلى سؤالها بقلق بالغ: "مالك يا سيلا؟ جريتي فجأة ليه؟ تعبانة؟".
ترددت سيلا للحظات، وكأنها تقاوم البوح بحقيقة ما تشعر به. كانت ما تزال تبحث في حقيبتها بعصبية، قبل أن تجيب بتلعثم واضح: "مفيش حاجة، أنا... أنا... مصدعة شوية بس".
ولكن عنـ.ـد.ما لم تجد ما تبحث عنه، توقف صوتها للحظة، قبل أن ينطلق مختنقًا: "أنا مخـ.ـنـ.ـوقة، هطلع آخد هوا بره. تيجي معايا؟".
مي، التي بدا القلق جليًا على وجهها، لم تتردد في الإجابة. وافقت بسرعة قائلة: "يلا، بس تحكيلي مالك."
تحركت الفتاتان نحو الخارج، بحثًا عن هواء يخفف وطأة التـ.ـو.تر. أما عاصم، فكان يراقبهما بصمت. عيناه لم تفارقا خطوات سيلا، لكن إحساسًا داخليًا بدأ يهمس له بأن هناك ما يدعو للقلق.
وفي لحظة خاطفة، وقبل أن تبتعدا كثيرًا، ظهرت سيارة مسرعة من العدم. توقفت بجانبهما فجأة، ونزل منها رجال ملثمون بحركة خاطفة ومربكة. كان كل شيء يحدث كأنه مشهد من كابوس: يد قاسية تختطف سيلا، وأخرى تمسك بمي التي حاولت المقاومة دون جدوى.
اختفت السيارت بسرعة البرق، تاركة خلفها صمتًا ثقيلًا وصدًى في عقل عاصم، الذي وقف متجمدًا للحظة قبل أن ينطلق في سباق مع الزمن.
في السيارة، جلس معتز بجوار عاصم، والقلق يتملكه كليًا، صوته مليء بالتـ.ـو.تر: "في إيه؟ أنطق!"
لم يلتفت عاصم إليه، عيناه كانت مثبتة على الطريق أمامه، ورد بصوت خافت لكنه حاسم: "سيلا ومي اتخطفوا."
عبـ.ـارة واحدة كانت كافية لتشعل نار الخوف في قلب معتز. عنـ.ـد.ما أدرك خطورة الموقف، أوقف عاصم السيارة فجأة، مما جعلها تصدر صريرًا حادًا على الطريق. نظر إلى أخيه بوجه متجهم، وقال بلهجة لا تقبل الجدال: "انزل هنا ماينفعش تكون معايا المهمة خطر مفيش وقت. كل ثانية بتعدي خطر عليهم أنزل."
لكن معتز، وقد اشتعل الغضب في عينيه، صاح بعناد: "يلااااه! مفيش وقت مش هسيبك تروح لوحدك! جاي معاك! مش هسيبهم!"
عاد عاصم إلى مقعده، وأدار السيارة بعزم، زاد من سرعتها كأنما يسابق الزمن. في يده كان جهاز التتبع لا يفارق عينيه، بينما يضع سماعة الأذن ليستمع إلى أي إشارة قد تدله على وجهتهم.
وصلوا إلى منطقة نائية، حيث الصحراء تمتد بلا نهاية، وصمت قاتم يحيط بالمكان المهجور الذي دلهم عليه جهاز التتبع. توقف عاصم عند مدخل المبنى القديم، نظر إلى معتز بحزم، وقال بنبرة آمرة: "اسمعني، ما كانش المفروض تيجي معايا. خليك هنا. أنا هادخل، والقوات على وصول. سامعني؟"
لكن معتز، بروح متمردة لا تقبل الأوامر، رد بتلقائية وعزيمة: "مش هقدر أسيبها... أقصد مش هسيبك تدخل لوحدك. رجلي على رجلك."
تفاقم تـ.ـو.تر عاصم، قبض على أعصابه، وحذر مجددًا بصوت صارم: "مفيش وقت للهزار! دول مافيا، مش بيرحموا حد. دي أوامر! خليك هنا!"
لكن معتز لم يعر كلامه اهتمامًا. كانت مشاعره تغلي داخله، فكرة أن مي قد تكون في خطر كانت كفيلة بأن تجعله يتجاهل أي منطق. قفز من السيارة دون تردد، وتقدم نحو المبنى بخطوات ثابتة، مصممًا على البقاء إلى جانب أخيه مهما كان الثمن.
في تلك الأثناء، كانت سيلا ومي داخل المبنى، تحاولان المقاومة بكل ما تبقى لديهما من قوة. لكن يدًا قاسية باغتتهما بضـ.ـر.بات على رأسيهما، أفقدتهما الوعي. سقطتا أرضًا بلا حراك، ثم قام الخاطفون بحملهما إلى غرفة مظلمة.
داخل الغرفة، كان الظلام كثيفًا، لا شيء سوى صوت الأنفاس المتقطعة. وثقوا أيديهما وأرجلهما بحبال خشنة،
تقدّم مجهول بخطوات راسخة، وصوت كعب حذائه يهز الأرض بقوة، فيرن في المكان كالرعد، يزرع الرعـ.ـب في القلوب، وكأن الزمن قد تجمّد عند كل خطوة يخطوها، والجوّ من حوله يزداد ثقلاً وبرودًا نظر إليهم لحظة، ثم قذف دلوًا من الماء البـ.ـارد عليهم، وقطع وثاق أفواههم بعنف. نهضوا فزعين، وجحظت أعينهم في خوف، قبل أن ينفجر قهقهة عالية ملأت المكان: "إنني في غاية السعادة اليوم، وأخيرًا تقابلنا وجه لوجه. من منكما تُدعى سيلا؟"
سيلا، التي تذكرت هذا الوجه من الصور التي كانت قد نشرتها لهم من قبل، ردّت بغضب: "أنت وغد، حقير وأقذر إنسان رأيته بحياتي!"
أما مي، فقد تـ.ـو.ترت عيونها بين سيلا والموقف، وسألت بحيرة وتـ.ـو.تر: "مين دا؟ أحنا فين؟"
كانت نظرتها مليئة بالكراهية، وتحاول فك نفسها من القيود، لكنها لم تستطع. فقال لها عنـ.ـد.ما شاهد قوتها: "أنتِ سيلا إذن."
تحت نظراته الماكرة، ابتسم قائلاً: "هذه أسعد لحظات حياتي الآن، ليس واحدة فقط، بل اثنتين معًا، وأجمل اثنتين لا يشبههما شيء."
ثم أشار إلى مي وقال: "أنتِ ستسافرين معي، وجهك...!" نظر إليها بنظرة خبيثة لجسدها الممشوق والوجه المصري الأصيل: "سأستفيد منكِ كثيرا."
ولكنه أشار إلى سيلا وقال: "أما أنتِ، فسأريحكِ تمامًا من هذه الحياة بعد قليل."
وبعد لحظات من لذة الأنتصار، نادى على أحد رجاله قائلاً: "قم بتجهيز غرفة العمليات حالًا لتلك الصحفية."
أجاب الرجل في طاعة: "أمرك سيدي."
ثم نادى على آخر وقال له: "وخذ هذة إلى الغرفة الأخرى سترافقني."
نُقلت مي إلى غرفة أخرى، وأعادوا تكميم فمها مرة أخرى، وتركوا صمت المكان يحيط بها. ثم أطبقوا الباب خلفهم بإحكام، ليغمرها الظلام ويغلق أمامها كل أمل في الهروب.
تم تجهيز غرفة العمليات، ثم أنهى طبيب التخدير مهمته سريعًا، حيث حقنها في الظهر ليبقيها مستيقظة، ثم غادر الغرفة، تاركًا إياها وحدها في عتمة المصير.
بقلم شروق مصطفى
بينما انطلق أحد الرجال ليبلغ الرئيس بذلك، توجه نحوها في صمت ثقيل، خطواته تزداد ثقلاً وكأنها تحمل ثقل العالم. دنا منها ببطء، ومد يده ليُمسح على رأسها بأصابعه البـ.ـاردة، كأنه يطفئ فيها أي أمل بالهرب. همس في أذنها بصوت منخفض، مفعم بالرعـ.ـب، يقشعر له الأبدان: "لا وقت للنوم، جميلتي." ثم تابع، كلمـ.ـا.تُه تتناثر كالسكاكين: "أريدكِ مستيقظة لترَي هذا العرض المجاني لما نفعله بهؤلاء الفتيات اللاتي تدافعين عنهما. ولكن هذه المرة، سيكون هناك فرق. ستكونين أنتِ، وأنتِ فقط، مستيقظة. ما رأيكِ؟"
كانت عيناها مفتوحتين، لا تشعر بشيء، جسدها ثابت كالجسد الميت، وكأنها قد غادرت عالمها الواقع إلى عالم آخر. استسلمت تمامًا، فقد فقدت كل مقاومة وكل قوة كانت في جسدها. لكنها، فجأة، خطر ببالها عاصم. نظرت إلى معصمها حيث السوار الذي يذكرها بحمايته لها في تلك اللحظات. كأنها قد نسيته، أو لم تشعر به من قبل، ولم تعرف كيفية أزالته. همست باسمه لأول مرة، بصوت خافت يكاد لا يُسمع: "عاصم... أنت فين؟ تحميني منهم؟"
ثم ابتسمت ابتسامة نصفية، تلك الابتسامة التي تخلط بين الحزن والاعتراف بالواقع. وقالت في نفسها، عنـ.ـد.ما شعرت أنه لا مفر من الموت المحتوم: "بس أنا كده كده ميتة."
وكأن القدر استمع لندائها ودفع الباب بقدميه بقوة، واندفع نحوها بسرعة كأنما يسابق الزمن، يهتف بصوت يفيض بالقلق: "سيلا! سيلا فوقي!" كان صوته ممتزجًا برجاء لا يعرف الانطفاء، محاولًا أن ينتشلها من غياهب الغياب: "أنتِ قوية، ما تستسلميش! فوقي!"
كلمـ.ـا.ته كانت كخيط رفيع يمتد بين الحياة والموت، ليعيد إليها وعيها الباهت. فتحت عينيها ببطء، نظرت إليه وكأنها رأت فيه كل ما احتاجته لتتشبث بالحياة من جديد. ألقت بنفسها في أحضانه، هامسة باسمه بصوت بالكاد يُسمع: "عاصم..."
ظلت تختبئ في حـ.ـضـ.ـنه، وكأن وجوده هو الأمان الوحيد في هذا العالم الموحش، متجاهلة الألم الذي يحيط بهما. لكنه، وفي خضم تلك اللحظة الحانية، شعر بشيء غريب يكتسح داخله، إحساس لم يعهده من قبل. ضمها أكثر إلى صدره يتأكد من شئ، جسده يرتجف نعم! كما لو أن لمستها أثارت داخله شعورًا عميقًا، شعورًا لم يتذوقه من قبل، وكأنه لأول مرة يعيش لحظة حقيقية.
نظر إلى سيلا، فوجدها قد ارتخت بين يديه، وكأنها انسحبت من العالم مرة أخرى. إلا أن صوت طلق ناري مفاجئ شق صمت الليل، أعاده إلى الواقع بقسوة. انتفض فزعًا، متذكرًا أنه ترك شقيقه وحيدًا في إحدى الغرف بعدما تأكد من سلامة واحدة منهم وذهب لإنقاذها.
اندفع بسرعة، مستخدمًا كاتم الصوت لتصفية من يعترض طريقه، مع باقي أفراد الشرطة الذين وصلوا للتو. وحين وصل إلى الغرفة، توقف الزمن فجأة، وعجزت قدماه عن التقدم خطوة أخرى. أمامه كان شقيقه غارقًا في دمائه، يتنفس بصعوبة، بينما كانت هي تبكي بجواره بانهيار. ظل واقفًا في مكانه، يحاول استجماع نفسه، غير قادر على استيعاب المشهد الذي قلب عالمه رأسًا على عقب.
↚
مرّت أكثر من سبع ساعات والجميع في حالة ترقب وقلق خارج غرفة العمليات، ينتظرون بفارغ الصبر أي خبر يطمئنهم عن حالته. كان وليد، عامر، ورودينا في حالة يُرثى لها، تملؤهم المخاوف والرهبة مما قد يحدث.
في الجانب الآخر، كانت سيلا قد استعادت وعيها داخل غرفة الإفاقة، محاطةً بعائلتها. والدها ووالدتها يجلسان بجانبها، ومي وهمسة ووالدتها وأخيها يحيطون بها بعدما وصلوا إلى المستشفى على عجل، بعدما علموا بما حدث خلال الحفلة التي انتهت بخبر اختفائهم. تم تأجيل كتب الكتاب، وأصبح الجميع في حالة تـ.ـو.تر ينتظرون أي تطورات.
فتحت سيلا عينيها ببطء، تتفحص الوجوه من حولها بـ.ـارتباك، وسألت بصوت ضعيف:
"أنا فين؟ إيه اللي حصل؟"
ابتسم الجميع براحة وحمدوا الله على سلامتها. احتضنتها والدتها وهي تردد بامتنان:
"حبيبتي، الحمد لله، قومتي بالسلامة. ألف حمد وشكر ليك يا رب!"
تحدث والدها بابتسامة مرحة محاولًا التخفيف من وطأة الموقف:
"واضح إنك كنتِ عاوزة تشوفي غلاوتك عندنا!"
اقترب منها وقبّل جبينها بحب وقال:
"كده تقلقينا عليكي يا حبيبتي؟"
بقلم شروق مصطفى
وأضافت همسة بحب:
"ألف سلامة عليكِ يا حبيبتي."
نظرت سيلا إليهم بخجل وابتسمت:
"الله يسلمكم. أنا آسفة يا همسة... بوظتلك يومك. آسفة يا بابا..."
تدخلت والدتها بسرعة، واحتضنتها بحنان:
"ما تقوليش كده! أهم حاجة إنك وسطنا."
وأضاف والدها بصوت دافئ:
"متأسفيش تاني. أنتِ مالكيش ذنب. يوم بيتعوض، لكن وجودك بيننا لا يمكن تعويضه لو لقدر الله حصل حاجة."
هتفت سيلا بحب وهي تنظر إليهم:
"أنا بحبكم أوي!"
استمتعت بدفء أحضانهم، ثم التفتت نحو أختها، وقالت بابتسامة:
"قربي يا همسة، مش عاوزة تحـ.ـضـ.ـنيني؟"
ابتسمت همسة ابتسامة خافتة، تخفي وراءها حزنًا مكبوتًا، وانضمت إلى العناق.
لكن صوت نحيب كسر سكون اللحظة. التفتت سيلا بفزع لتجد مي تجلس على الأريكة، تبكي بحرقة، ووالدتها تحاول تهدئتها. قامت سيلا فجأة، متذكرة ما حدث، وحاولت نزع الكانولا من يدها رغم محاولات الجميع منعها. هرعت نحو مي، وجلست أمامها، تمسك يديها بقلق:
"مي، مالك؟ إيه اللي حصل؟ حد أذاكي؟ اتكلمي!"
ردّت مي بين شهقات بكائها، وصوتها متهدج:
"معتز يا سيلا... بعد ما أنقذني... ضـ.ـر.بوا برصاصة غدر في قلبه... وهو مش بينطق. أنا خايفة أوي... أوي. في العمليات بقاله أكتر من ست ساعات ومحدش عارف إيه اللي بيحصل جوه."
تذكرت وقت أقتحامه لغرفتها مشاعر متناقضة أين ذهبت قسوته وحل محلها لهفته خوفه في عيناه هاتفا:
"أنتِ بخير؟ حذ أذاكي ؟ حد قرب منك؟ أتكلمي!..."
لكنها هزت رأسها، نافية بصمت مخـ.ـنـ.ـوق بالبكاء. ضمها إلى صدره بقوة، وكأنه يريد أن يخبئها من قسوة العالم، وهمس في أذنها بصوت يفيض طمأنينة:
"هشش، خلاص... أنا هنا. مش هسيبك تاني أبدًا. اهدي... أنا جنبك."
طبع قبلة مطمئنة على جبينها المرتجف، لكن اللحظة لم تدم طويلًا؛ إذ انفتح الباب بعنف، واقتحم المكان شخص غريب بابتسامة ساخرة وعينين تحملان مزيجًا من السخرية والشر. صفق الرجل ببطء، وقال بنبرة تنضح تهكما: "ما أجمل هذا الثنائي العاطفي لكن... ألم تعلم يا هذا أن من يدخل هنا لا يخرج سالما ؟"
وقف معتز بسرعة، واقفا أمامها كالسد المنيع، يحجبها عن الأنظار، ثم أجاب بصوت ثابت يحمل نبرة تهديد واضحة "وأنت، ألم تعلم أن من يقترب من أي شيء يخصني لا يخرج سالما ؟"
تجمدت مي خلف ظهره، مصدومة مما تفوه به. "يخصه ؟" تساءلت في نفسها، لكن الخوف حال دون أن تنطق بكلمة، لتتشبث به لا إراديا، باحثة عن الأمان خلفه.
قهقه الرجل بصوت عال، وقال بسخرية زادت الموقف تـ.ـو.ترا "أحب هذه الروح كثيرا... لكن للأسف لن تفيدك هنا. وهذه الفتاة..." وأشار إليها بنظرات مليئة بالتهديد "تخصني أنا."
كل هذا حدث بثوان، رفع سلااحه وأطلق رصاصة سقط معتز على أرضًا، يصارع الموت، بينما شهقت مي بفزع، وسقطت بجواره ترتجف من هول المشهد، وقد أدركت أنها باتت وحيدة في مواجهة هذا المجهول.
كاد ان يصوب رصاصه اخري بأتجاهها باغته برصاصه بمنتصف رأسه وقع جثة فورا.
لم يكن سوى قناص يقف متربصا، ثم اقتحم المكان بحذر. لكن ما إن دخل حتى تجمد في مكانه، مصعوقا بما رآه أخيه، بين الحياة والموت، غارقًا في دمائه.
معتز الذي بالكاد يستطيع التنفس، حاول أن ينطق بكلمـ.ـا.ت، لكن صوته خرج متقطعًا، ينهش قلب مي بألمه. كان يضع يده على جرح ينزف من صدره وعيناه لا تفارق وجهها
"أ... آسف... س- ساميحيني يا مي... أنا...ح - حبيتك... بس... بس ك كنت
بخوفك... علشان.... أنساكي... بس... بس مقدرتش... أنا ... أنا بب... بحبك....
قطعت مي كلمـ.ـا.ته بوضع يدها على شفتيه، محاولةً منعه من إكمال الحديث، والدمـ.ـو.ع تغرق وجهها " ارتاح... ما تتعبش نفسك... أرجوك."
لكن معتز أصر، ونظر إليها بتوسل: "لا... س - سيبيني... أتكلم... وأنت تكوني آخر.... حد أشوفه... ق - قبل ما أموت."
لم يتمكن من إكمال جملته صوت أنفاسه انقطع، ورأسه سقط بلا حراك.
صرخت مي بنحيب متواصل، وكأنها تحاول إعادته من الموت "هديك فرصة تانية والله مسامحاك بس قوم... انهارت بجانبه غير قادرة على الحركة أو التفكير، بينما دمـ.ـو.عها لا تتوقف. في تلك اللحظة، اخترقت أصوات إطـ.ـلا.ق نlار متتالية سكون المكان. رفعت رأسها بفزع، لترى ظلالا تقترب من الباب.
لم تنتبه في البداية لوجود عاصم، لكنه كان هناك، واقفًا بلا حراك عند المدخل وعيناه مسمرة على أخيه المسجى أمامه، غارقًا في دمائه. للحظة، شلت كل حواسه، ووقف في صمت ثقيل، غير مصدق لما يراه.
احتضنتها سيلا بقوة، محاولة طمأنتها:
"إن شاء الله ربنا ينجيه. اهدي... اهدي. تعالي نقوم نشوف وصلوا لإيه ونتطمن عليه."
وقف محسن، وقال لهم:
"طيب، شوفوا وأنا أخلص الحسابات ونستناكم تحت."
خرج الجميع من غرفة الاستعلام، حيث لا تزال الأخبـ.ـار غامضة، والقلوب مثقلة بالقلق. في تلك اللحظة، لمحها عاصم تقف هناك، وعيناه اشتعلتا بالغضب المكبوت. كأن كل مشاعره انفجرت دفعة واحدة، فانقض عليها فجأة كذئب غاضب، وأمسكها من كتفيها يهزها بعنف، وصوته يهدر كالرعد:
"إنتِ السبب في كل المصايب اللي إحنا فيها! إنتِ اللي وقعتينا في ده كله! معرفتك دمار على كل اللي حواليكِ! عارفة؟ لو جراله حاجة، مش هيكفيني موتك! سامعة؟!"
كانت كلمـ.ـا.ته كالسياط، تمزق الأجواء بصوتٍ زلزل المكان بأكمله.
أكمل تهديده بنبرة أشـ.ـد غضبًا:
"حذرتك قبل كده! أنا واللي يخصني خط أحمر، متقربيش مننا! أنتي وهي... كفاية لحد هنا!"
رأت رودينا المشهد من بعيد، وهرولت نحوهما بخطوات غاضبة. ما إن وصلت حتى صرخت بنظرة مملوءة بالكراهية:
"إنتو ليكو عين تيجوا هنا؟! ابعدوا عنا بقى! كفاية! كان عنده حق لما قرر يبعدني عنكم زمان... إنتو دمار! أي حد يقرب منكم بيتأذى. ابعدوا عنا، بلاش نشوف وشكم تاني!"
كانت مي تستمع للاتهامـ.ـا.ت الموجهة إليها وصديقتها، وكأنها تتلقى صفعات متتالية. عينها امتلأت بالدمـ.ـو.ع التي تأبى السقوط، وملامحها أضحت فارغة، تائهة بين نظرات عاصم ورودينا.
دفعها عاصم بقسوة للخلف، ثم استدار ليحتضن أخته بحنان، محاولًا تهدئتها. عاد الجميع إلى مقاعدهم، لكن الصمت كان ثقيلًا كأنه سيف معلق فوق رؤوسهم.
مي، التي ما زالت في حالة صدمة من الاتهامـ.ـا.ت الجارحة، حاولت لملمة شتات نفسها. أخذت نفسًا عميقًا، ثم احتضنت سيلا بحنان وهمست في أذنها بصوت مخـ.ـنـ.ـوق:
"يلا يا حبيبتي... ملناش مكان هنا. والدك مستنينا تحت، تعالي نمشي أحسن."
وافقتها سيلا بصمت، وودعتها مي بعناق أخير، ثم انطلقت مع أخيها ووالدتها، تجر خلفها ثقل الحزن والخيبة.
سيلا بدورها لحقت بعائلتها، وركبت معهم السيارة في طريق العودة إلى المنزل، حيث خيم الصمت على الجميع، وكل منهم غارق في أفكاره وألمه.
… .
كانت همسة في حالة يُرثى لها؛ فرحتها التي طالما حلمت بها انقلبت إلى حزن عميق. بقيت صامتة، لا تتحدث مع أحد، وكأن الألم جمد كل مشاعرها.
بعد ساعات من الانتظار، خرج الطبيب، وعلامـ.ـا.ت الإرهاق بادية عليه. أسرع عاصم نحوه بلهفة، وسأله:
"طمنا يا دكتور، حالته إيه؟"
أجاب الطبيب بنبرة عملية اعتاد عليها:
"عملنا اللي نقدر عليه. الحالة حرجة، وتم نقله للعناية المركزة. لو مرت عليه 48 ساعة وحالته استقرت، يبقى عدى مرحلة الخطر. الرصاصة كانت قريبة جدًا من القلب، ولو تحركت ولو بمقدار بسيط، ماكناش هنلحقه. ادعوله يعدي اليومين دول على خير."
أنهى الطبيب حديثه وغادر، تاركًا الجميع في حالة من التـ.ـو.تر والقلق.
عامر اقترب من عاصم وحاول طمأنته:
"إن شاء الله يقوم بالسلامة. معتز قوي وهيعدي منها. أنا رايح أصلي، تيجي معايا؟"
أومأ عاصم برأسه دون أن ينطق، وذهب معه. لكن في الحقيقة، كل قواه قد خارت، ولم يعد قادرًا على الوقوف. سنده عامر ابن عمه، وأجلسه على أقرب مقعد، محاولًا تهدئته.
عاصم لم يعتبر معتز مجرد أخيه، بل كان بالنسبة له كابن قام بتربيته، كصديق دربه، بل كجزء من روحه. فكرة فقدانه كانت تعني له النهاية، وكأن حياته ستُسلب معه.
بعد فترة، لاحظ عامر أن حالته تزداد سوءًا، فطلب الطبيب. كشف الطبيب عليه، ثم قال بلهجة مطمئنة:
"ده إجهاد زائد. أنا أديته حقنة مهدئة، وهيفوق الصبح. لازم راحة."
ترك عامر عاصم نائمًا وخرج ليجد رودينا ووليد بالخارج. وبعد جدال قصير، أصر عليهم بالعودة إلى المنزل، مشيرًا إلى حالتها:
"مفيش فايدة لقعدتكم هنا. معتز ممنوع من الزيارة، وعاصم هيفوق الصبح. وبعدين، انتي مش ينفع تقعدي بالمنظر ده." وأشار إلى فستانها الذي أصبح غير مرتب من كثرة الجلوس والتـ.ـو.تر.
وافق وليد على إعادتها، وقال لعامر:
"أنا هوصلها، وهرجع على طول."
أصر عامر:
"لا، متسبهاش لوحدها. تعالوا الصبح."
انصاع الجميع لكلامه، وغادروا المستشفى، وكل منهم يحمل ثقلاً كبيرًا في قلبه.
مرت الساعات ببطء، وكأن عقارب الساعة كانت تتعمد تعذيبهم. أخيرًا، استقر وضع معتز بعد تجاوز مرحلة الخطر.
في تلك الأثناء، سافر كل من نرمين ومحسن بعدما تأكدوا أن الخطر قد زال تمامًا بقـ.ـتـ.ـل زعيم المافيا. اتفقوا مع وليد على العودة بعد أسبوعين، لإتمام كتب الكتاب والفرح في نفس اليوم، وودعوا الجميع قبل مغادرتهم.
أما في المنزل، فعاد الجميع لمحاولة استعادة حياتهم الطبيعية. لكن همسة كانت متجنبة اختها سيلا تمامًا، ولم تتحدث معها منذ يوم خطبتها. كان الصمت بينهما أشبه بجدار، يحجب كل شيء، حتى الحب الذي كان يجمعهما.
أفاق معتز أخيرًا وتم نقله إلى غرفة أخرى، حيث اجتمع الجميع حوله للاطمئنان عليه. كانت عيونه تبحث عنها، لكنه لم يجدها. لاحظ عاصم ذلك، فاقترب منه قائلاً بابتسامة مطمئنة:
"حمدلله على السلامة يا بطل! كده قلقتنا عليك."
ثم انضمت إليه رودينا بحنان:
"حمدلله على سلامتك يا حبيبي."
ابتسم معتز بهدوء وأجاب:
"الله يسلمكم كلكم."
تدخل وليد بابتسامة دافئة:
"حبيبي، حمدلله على السلامة."
نظر له معتز بأسف وقال معتذرًا:
"آسف يا وليد، بوظت لك أحلى يوم ليك."
ضحك وليد وهز رأسه نافيًا:
"أنت مـ.ـجـ.ـنو.ن ولا إيه؟ أهم حاجة إنك تقوم بالسلامة، معندناش أغلى منك. أنت بتشكك في كده؟"
ابتسم معتز وردّ مازحًا:
"وده العشم برده يا وليد."
ثم استدار ناحية عاصم وقال بملل:
"بس أنا هطلع من هنا إمتى؟ مش بحب جو المستشفيات... بتخـ.ـنـ.ـقني."
غمز له عاصم بابتسامة ماكرة:
"اهدى يا بطل، لسه شوية. ولا مستعجل على الـ..." ولم يكمل جملته، تاركًا معتز في حيرة.
رد معتز بعدم فهم:
"ها؟ بتقول إيه؟"
اقترب عاصم منه وهمس له ببعض الكلمـ.ـا.ت جعلت معتز يرد بنفس الكلمة، لكن بعناد:
"هااااه؟"
ضحك عاصم مقلدًا صوته بطريقة مضحكة:
"آه، قعد تفكر كده كتير! هروح أشوف الدكتور يكتبلك خروج إمتى." ثم خرج والابتسامة تزين وجهه.
رودينا، التي كانت تتابع المشهد من بعيد، سألت بمزاح:
"أموت وأعرف بتتوشوشوا على إيه؟"
نظر لها معتز بعناد وابتسم:
"ملكِيش دعوة يا بـ.ـاردة، خليكي في جوزك وعيالك. هما فين بالمناسبة؟"
ردت رودينا بابتسامة:
"في الحضانة. لسه ميعاد خروجهم كمان نص ساعة."
ضحك معتز بخفة:
"حبايب قلبي."
---
في المنزل عادت سيلا مع همسة إلى البيت. شعرت سيلا أن همسة تتجنبها، لكنها لم ترغب في الضغط عليها. بعد قليل، قررت أن تدخل مرسمها. طرقت الباب بهدوء، ولما سمعت الإذن بالدخول، تقدمت قائلة:
"ممكن أتكلم معاكِ شوية؟"
كانت همسة تمسك الفرشاة، تضـ.ـر.ب بها لوحتها بلا اكتراث. أجابت دون أن تلتفت:
"اتفضلي، أنا سامعاكِ."
اقتربت منها سيلا وقالت بنبرة قلقة:
"إنتِ زعلانة مني في حاجة؟"
ردت همسة بهدوء زائف:
"وهزعل منك ليه؟ إنتِ عملتِ حاجة تزعل أصلاً؟"
حاولت سيلا تفسير ردها، وقالت:
"مش عارفة، بس حاسة إنك متضايقة مني من يوم الخطوبة. لو فيه حاجة قولي لي."
ابتسمت همسة ابتسامة باهتة وقالت:
"لا، بيتهيألك. مش زعلانة ولا حاجة. أهم حاجة إننا اطمنا عليكِ."
شعرت سيلا أن هناك شيئًا ما لا يُقال. اقتربت منها بحب واحتضنتها قائلة:
"طيب يا حبيبتي. خفت تكوني زعلانة مني. إن شاء الله نعوض اليوم ده بأحلى منه. هسيبك تكملي رسمتك." ثم ابتسمت وخرجت.
---
جلست همسة وحدها، تنظر إلى اللوحة أمامها، وتخربش عليها بلا اهتمام. سرحت في أفكارها، ودمـ.ـو.عها حبست نفسها في مقلتيها. همست لنفسها بصوت مختنق:
"أنا مين اللي يحس بيا؟ راحوا العمرة عشانك. ويوم خطوبتي باظ عشانك. وكل الحب بيروح عشانك. وأنا فين؟ حتى يوم خطوبتي اللي كان المفروض يبقى أسعد يوم في حياتي، محدش وساني ولا طيب بخاطري."
تنهدت بعمق، ثم مسحت دمـ.ـو.عها سريعًا وهي تلوم نفسها:
"عارفة إنه مش ذنبك... بس فرحتي للأسف اتكسرت."
صباح اليوم التالي، أجرت سيلا مكالمة للطبيب المختص الذي يتابع حالتها، حيث أرادت البدء بالعلاج قبل عودتهم من السفر لتكون في حالة جيدة. طلب منها الطبيب أن تأتي إلى العيادة في اليوم التالي لإعطائها بعض النصائح وإجراء الفحوصات اللازمة قبل بدء العلاج.
بعد ذلك، أجرت مكالمة أخرى لصديقتها مي، وطلبت منها الحضور لأمر هام. وبعد ساعات، حضرت مي ودخلت إلى غرفة سيلا.
قالت مي بفضول: "سافروا خلاص؟"
ردت سيلا بنبرة هادئة: "أه، لسه موصلنهم الصبح أنا وهمسة."
ابتسمت مي قائلة: "يرجعوا بسلامة إن شاء الله. وهمسة أخبـ.ـارها إيه؟ ما شفتهاش وأنا داخلة."
تنهدت سيلا تنهيدة طويلة وأجابت بحزن: "همسة واخدة جنب لوحدها من يوم خطوبتها وكتب كتابها اللي تأجل بسببي. هي ما قالتش حاجة، بس أنا حاسة إنها متجنبة ومش بتكلمني. والله غصب عني فرحتها ما اكتملتش بسببي. أنا عملت اللي أقدر عليه وضغطت على نفسي عشان اليوم ده، لكن القدر كان ليه رأي تاني."
بدأت سيلا تبكي بحرقة على كل ما حدث بسببها. ثم تابعت بتنهيدة: "حتى معتز... أنا ما عرفش هو وصل إزاي، ولا عاصم، ولا أي حاجة. أنا استسلمت للموت وقتها، والله."
احتضنتها مي بحنان قائلة: "موت إيه اللي بتتكلمي عنه ده؟! ده شغله، ومعتز نصيبه كده. ملكيش أي ذنب في حاجة. أما أختك العبـ.ـيـ.ـطة دي، أنا هروح لها وأعقلها. إيه الهبل ده؟ بدل ما تقف جنبك! إحنا كنا مخـ.ـطـ.ـوفين، مش بنلعب يعني! ده يوم، ويتعوض بيوم أحلى منه، لكن الإنسان لا يمكن يتعوض. سيبك منها."
حاولت سيلا التخلص من عناق مي وهزت منكبيها قائلة: "أنا عايزة أقولك على حاجة، بس أوعديني الأول ما تقوليش لأي حد."
↚
أنا عايزة أقولك على حاجة، بس أوعديني الأول ما تقوليش لأي حد.
مي نظرت إليها بترقب وقلق، وقالت بنبرة مترددة: "أوعدك، مش هقول لحد حاجة."
سيلا أخذت نفسًا عميقًا، ثم أمسكت بيد مي وشـ.ـدت عليها برفق، بينما تغوص عيناها في عيني صديقتها. قالت بصوت متماسك لكنه يحمل عبق الألم:
"مي، أنا رايحة بكرة لدكتور مختص بالأورام... وهبدأ جلسات الكيماوي."
مي سحبت يدها فجأة وكتمت شهقتها العالية بيدها، وعيناها امتلأتا بالذهول: "هاااه..."
سيلا لم تتراجع، بل أعادت الإمساك بيد مي، محاولة تهدئتها، قائلة بصوت ملؤه الرجاء:
"اهدي... اسمعيني. انتي أول حد أحكيله، مش انتي قلتي إن فيَّ حاجة مش طبيعية؟ أنا حكيتلك عشان تقويني، عشان تبقي جنبي. ما أقدرش أتحمل أكتر من كده. حتى أجلت علاجي ثلاث شهور عشان خطوبة أختي."
مي كانت تهز رأسها بالرفض، غير قادرة على استيعاب الكلمـ.ـا.ت التي تسمعها. بصوت متردد ومخـ.ـنـ.ـوق، سألت:
"ا... اتأكدتي امتى؟"
ردت سيلا بعينين تغالب دمـ.ـو.عها:
"قبل قراية الفاتحة بيوم. عملت أشعة، وظهر إن الورم بيكبر. أنا تأخرت على العلاج، واستغليت فرصة سفرهم عشان ما أشوفش الحزن في عيونهم. حتى همسة ما تعرفش حاجة. خايفة عليهم، مي... هتيجي معايا وتكوني جنبي، ولا أروح لوحدي؟"
لم تستطع مي منع دمـ.ـو.عها، وارتمت في حـ.ـضـ.ـن صديقتها، قائلة بحنان لا يخلو من العزم:
"حبيبتي... أنا معاكي. مش هسيبك أبداً."
ظلتا متعانقتين، ومي تمسح على ظهرها برفق حتى هدأت تمامًا.
بعد لحظات من الصمت، همست سيلا:
"بكرة الدكتور هيقولنا الخطوات الجاية، والفحوصات والتحاليل المطلوبة قبل العلاج."
نظرت مي إلى داخل عينيها بعمق، وقالت بثبات:
"انتي قوية يا سيلا... فاهمة؟"
هزت سيلا رأسها بالموافقة دون أن تنطق بكلمة، وتشبثت أيديهما معًا، وكأنهما تتعاهدان على مواجهة كل شيء سوياً.
عند معتز، اجتمع الجميع حوله ليطمئنوا على حالته الصحية. أخبرهم الطبيب أن وضعه مستقر، لكنه بحاجة للبقاء تحت الملاحظة خمسة أيام على الأقل. انتهت الزيارة، وبدأ الجميع في المغادرة، لكن عاصم توقف فجأة عنـ.ـد.ما سمع صوت أخيه يناديه:
"استنى... عاوزك!"
التفت عاصم نحوه باندهاش، محاولًا إخفاء قلقه:
"خير يا حبيبي؟ محتاج حاجة قبل ما أمشي؟"
نظر إليه معتز بعينين مليئتين بالرجاء، وقال بصوت منخفض:
"عاوز أشوفها... لازم أكلمها. هتخليها تيجي، صح؟"
حاول عاصم أن يبتسم ليطمئنه، لكنه لم يستطع سوى أن يرد بتردد:
"حاضر... ارتاح إنت، وأنا هتصرف."
خرج عاصم مسرعًا، وكأن قدميه تحملانه بعيدًا عن كل شيء. كان عقله مشوشًا وداخله يضج بالأسئلة. كيف يمكنه أن يطلب منها أن تعود بعد ما حدث؟ كيف يطلب منها أن تواجه نظرات أخيه بعد تلك اللحظة التي أهانها فيها أمام الجميع؟ لكن رغم كل شيء، لم يستطع تجاهل ما رآه في عيني معتز. ذلك البريق، تلك النظرة التي تحدثت عن حب حقيقي، وعن ألم أعمق مما يمكن وصفه.
قاد سيارته بلا وجهة محددة، ضائعًا في أفكاره. وجد نفسه في النهاية أمام المدفن العائلي. نزل بخطوات مثقلة واتجه إلى قبر أبيه. جلس على الأرض، قرأ الفاتحة، ثم تحدث بصوت متقطع كأنه يخاطب روحًا لا ترد:
"ليه؟ ليه وصلنا للِّي إحنا فيه؟ ليه حياتنا كانت مجردة من أي إحساس؟ أنا عشت عمري كله ما أعرفش يعني إيه حـ.ـضـ.ـن أم... ما أعرفش يعني إيه حب. أول مرة حسيت بحاجة، كان معاها. كأنها النور اللي رجعني للحياة. لمستها... مجرد لمسة، كانت كفاية تخليني أحس بدفء أول مرة أعيشه.
يا ترى في أمل أرجع إنسان طبيعي؟ أخويا... شفت في عينيه نظرة مليانة حياة، كأنه كان بيبدأ من جديد. يا ترى لنا حق نفرح زي باقي البشر؟ ولا فات الأوان على كل حاجة؟"
صمت للحظات طويلة، وكأنه ينتظر إجابة لا تأتي. ثم قال بصوت أقرب للهمس:
"هحاول. هحاول أصلح كل حاجة. ربنا يسامحك على اختياراتك اللي دمرت حياتنا."
نهض أخيرًا، وغادر المكان بعزم جديد. كانت هناك نار تشتعل بداخله، لكنها لم تكن نار غضب أو انتقام هذه المرة، بل كانت رغبة في التغيير.
عاد إلى منزله، عازمًا على أن يبدأ من جديد، رغم إدراكه التام بأن الطريق لن يكون سهلًا. كان الماضي ثقيلًا، حمل معه كل الألم والخيبة. طفولة ممزقة، بيت غاب عنه الأمان، خيانة شاهدوها بأعينهم، وموت كانت ذكراه كالجحيم.
كل ذلك جعله وأخيه غرباء عن الإحساس. أحدهما صار حاميًا لعائلته الصغيرة، لكن قلبه صار كالصخر، لا يعرف الرحمة. والآخر عاش في عزلة، يملأه العنف والغضب، يمارس قسوته وكأنها السبيل الوحيد للتنفيس.
لكن الآن، لأول مرة، رأى بصيص أمل. ربما يستطيع أن يبدأ من جديد. ربما القدر منحه فرصة أخيرة ليحيا كإنسان.
السؤال الوحيد الذي ظل يتردد داخله: هل سأتمكن من اغتنامها، أم ستضيع كما ضاع كل شيء من قبل؟
ــــــــــــــــــــــ
بعد تأجيل كتب الكتاب، أصبح وليد رفيق همسة الدائم، يخفف عنها بحديثه اللطيف ووعوده التي تملأ قلبها أملًا. لم يتركها للحظة واحدة، وكان دائم السؤال:
"عاملة إيه النهارده؟"
تنهدت همسة وهي تجيب بهدوء:
"الحمد لله، يا وليد."
لكنه باغتها بسؤال مباشر فهتفت بغصة وهي تجيب بصوت خافت:
" أه سافروا؟ أول مرة يبعدوا عنا ويسبونب لوحدي؟"
نظر إليها بملامح متضايقة، وقال بجدية:
"وأنا؟ أنا هنا معاكي، مش كفاية؟ على فكرة، هزعل منك لو فكرتي إنك لوحدك. أنا جنبك طول الوقت، واختك كمان معاكي. كلها أسبوعين، وتنوري بيتك. أنا عارف إني مقصر معاكي، بس الظروف صعبة. بين شغل والمستشفى، وتجهيز الفيلا، وكل حاجة جات فوق بعضها. الفيلا متشطبة، آه، بس كنت بجدد حاجات بسيطة. وكنت بكلمك عشان بكرة نخرج نتفرج على الألوان ونختار حاجات العفش مع بعض."
ابتسمت همسة بخجل:
"عارفة يا وليد، وربنا يخليك ليا يا رب."
أمسك يدها برفق وقال بابتسامة دافئة:
"وليا أنا كمان. بس تصدقي؟ أنا فرحان إن التأجيل حصل."
نظرت إليه باستغراب:
"فرحان؟!"
ضحك بخفة، وقال:
"أيوه. كلها أسبوعين ونبقى مع بعض على طول بدل ما نستنى ثلاث شهور. الموضوع جاي لمصلحتنا، ولا مش عاجبك كده؟"
ابتسمت بخجل، وقالت بصوت ناعم:
"أي وقت معاك بيكون جميل.
ظلا يتحدثوا قليلا.
ـــــــــــــــــــــ
مرَّ الأسبوع الأول بثقل لا يمكن احتماله. بدأت سيلا أولى جلسات العلاج الكيماوي، وكان الأثر واضحًا على جسدها وروحها. هزلت كثيرًا، وبدا عليها الإعياء الشـ.ـديد منذ الجلسة الأولى. لم تفارقها مي لحظة واحدة، كانت رفيقة ليلها ونهارها، تمنحها دفئًا وسندًا لم تكن لتستمر بدونه.
لكن سيلا، رغم كل ذلك، كانت تنهار داخليًا. اختارت الانعزال داخل غرفتها، تقضي معظم وقتها في النوم أو في التظاهر به كلما حاولت همسة الاقتراب منها. لم تكن ترغب في أن ترى أختها حالتها، ولم تتحمل فكرة مشاركة ضعفها مع أحد!!.
همسة، من جانبها، لم تكن غافلة عن حالتها. شعرت بثقل غريب يجثم على قلبها، لكن وجود وليد بجانبها كان كفيلاً بتخفيف هذا العبء. كان وليد حاضرًا دائمًا، يشـ.ـد على يدها ويمنحها القوة لتظل ثابتة، رغم كل ما يحدث من حولها.
في أعماقها، كانت همسة ترفع دعاءً صامتًا بأن تمر هذه الأيام العصيبة بسلام، أن تعود الحياة إلى طبيعتها، وأن يجد كل من حولها بداية جديدة تستحق.
---
على الجانب الآخر، كان عاصم يعيش صراعًا داخليًا مريرًا. وعند سؤال شقيقه عن من خطفت قلبه يتحجج بأنه لم يرها منذ ذلك اليوم، لكنه في الحقيقة كان يراقبهم من بعيد.
فهو لم يستطع أن يبتعد عن تفاصيل حياتها، فكان يتابع حالتها بعد خروجها من المستشفى، يزور طبيبها المعالج سرًا ليطمئن عليها. أخبره الطبيب أنها تعاني من أنيميا حادة، وتحتاج إلى نظام غذائي خاص ورعاية دقيقة.
في مرة، حاول أن يوقفهم ليحدثهم عن حالتها، لكنهم تجاهلوه ومضوا بعيدًا عنه، تاركينه وحيدًا مع إحساسه بالذنب والحيرة. ومع ذلك، لم يكن ممن يستسلمون بسهولة. قرر أن يمهد الطريق، أن يصل إليها ولو بعد حين.
أما معتز، فقد عاد إلى منزله، لكن روحه بقيت عندها. لم تغب عن باله لحظة واحدة، فقرر أن يخطو خطوة جريئة، أن يذهب إليها ويحدثها، يروي لها الحكاية بأكملها، عسى أن تمنحه فرصة له.
---
في ذلك الوقت، كانت أسرة همسة قد وصلت أخيرًا إلى وجهتهم بعد رحلة طويلة عبر البحر. أول اتصال جاء منهم كان مليئًا بالفرح، طمأنوا همسة وسيلا عن حالهم، وأخبروهم عن سعادتهم بأداء مناسك العمرة. ووعدوا بالاتصال مجددًا قبل العودة، وأغلقوا الهاتف على أصواتهم المليئة بالبهجة.
لكن حين التفتت همسة نحو أختها، تفاجأت بشكلها المرهق. شحوب وجهها وهزالها كانا واضحين. بعد إنهاء المكالمة، جرت سيلا سريعًا إلى غرفتها، كأنها تهرب من أي سؤال قد يفـ.ـضـ.ـح ضعفها.
لحقتها همسة بخطوات سريعة قبل أن تدخل الغرفة.
"سيلا... استني!"
التفتت إليها سيلا وقد ارتسم التعب على ملامحها:
"نعم يا همسة؟"
قالت همسة بقلق وهي تقترب منها:
"مالك يا سيلا؟ انتي تعبانه ولا إيه؟ لو تعبانه، قوليلي يا حبيبتي، أنا هنا معاكي."
ابتسمت سيلا ابتسامة شاحبة وقالت بصوت منخفض:
"مفيش... شوية إرهاق مش أكتر. أنا كويسة، بس عاوزة أنام."
تركتها سيلا واقفة في مكانها واتجهت إلى غرفتها، مغلقة الباب خلفها، بينما بقيت همسة في مكانها، قلبها يزداد قلقًا، وعيونها تراقب الباب المغلق، وكأنها تعرف أن وراءه سرًا أكبر مما تراه.
...
ظل معتز يوميًا يذهب أسفل منزلها، يجلس داخل سيارته لساعات طويلة، عله يلمحها أو يراها ولو من بعيد. كان أمله يتجدد مع كل يوم، لكنه يعود خائبًا في كل مرة. ورغم ذلك، لم ييأس. كان يشعر أن لقائهم قادم لا محالة، وأن صبره سيؤتي ثماره.
وذات يوم، وبينما هو ينتظرها كعادته، لمحها أخيرًا. خرجت من المنزل تحمل حقيبة كبيرة بيدها، تسير بسرعة وكأنها تحاول الهروب من ثقل أفكارها.
لم يتردد لحظة. أدار محرك سيارته وتوقف أمامها فجأة، قاطعًا طريقها. رفعت عينيها بدهشة، لتجده يقف أمامها.
"معتز؟!" نطقت اسمه بتعجب، وكأنها لا تصدق وجوده أمامها.
شعر معتز أن الحياة عادت إليه بمجرد سماع صوته على لسانها. ابتسم لها ابتسامة عميقة، مليئة بالشوق، وقال بصوت يحمل رجاءً:
"أخيرًا شفتك. كنت بدور عليك كل يوم. استحالة أوافق إنك تمشي تاني."
شعرت مي بالخجل من كلمـ.ـا.ته، ودهشت من صراحته المفاجئة. حاولت أن تبدو ثابتة، لكنها لم تستطع إخفاء ارتباكها:
"بعد إذنك، مش هينفع كده."
نظرت حولها بسرعة، محاولة التخلص من الموقف، ثم قالت بصوت مضطرب قبل أن تهرب من أمامه:
"حمد لله على سلامتك... عن إذنك."
أسرعت بالتحرك بعيدًا عنه، واتجهت إلى موقف المواصلات، عازمة على العودة إلى صديقتها التي كانت تقيم لديها مؤقتًا، بعدما أحضرت بعض الملابس من منزلها.
أما معتز، فوقف مكانه، ينظر إليها وهي تبتعد. لقاء اليوم لم يكن كافيًا، ولن يتركها تختفي مرة أخرى. كانت هذه المرة بداية جديدة، مهما كلفه الأمر.
ــــــــــــــــــــ
مرّت الأيام ثقيلة، وجسد سيلا ينهار أكثر بعد كل جلسة علاج. كانت الآلام تفوق طاقتها، وكأن كل لحظة تمضي تزيد من احتراق روحها وجسدها معًا.
جلست مي بجانبها، تمسك بيدها المرتجفة، تحاول أن تكون مصدر قوة وسند لها، لكن سيلا، بصوتها المتعب، قالت بوجع عميق:
"أنا بموت بالبطيء، يا مي... مش قادرة أتحمل أكتر من كده. جلستين بس، وكل ده يحصل. يا رب امتى أرتاح من العذاب ده؟"
حاولت مي، رغم ألمها، أن تبدو ثابتة وهي ترد عليها بحنان:
"انتي أقوى من المرض يا سيلا. متخليش حاجة تكسر قوتك. خليكي دايمًا فوقه."
نظرت سيلا إلى السقف، كأنها تشتكي لله قسوة ما تمر به، وقالت بحرقة:
"النار بتكوي جوايا يا مي. إحساس مش ممكن يوصف. ربنا ما يكتبه على حد أبداً. نفسي ارتاح، بس مش عارفة امتى."
↚
مسحت مي على شعرها بحنان وهي ترد:
"هانت يا قلبي. شويه كمان، وكل ده هيعدي، وهتقوميلنا بالسلامة. أنا متأكدة إن ربنا هيخفف عنك."
تمتمت سيلا بصوت خافت:
"يا رب."
تذكرت مي شيئا فجأة وقالت:
"عارفة مين شفته وانا جاية؟ معتز."
نظرت إليها سيلا بدهشة وسألت:
"معتز؟ عمل حاجة؟"
ثم تنهدت بنبرة يملؤها الإرهاق وقلة الحيلة:
"تعبت منهم يا مي... مرة يقولوا نبعد، نبعد. وبعدين يرجعوا يقربوا تاني! طيب ليه؟ ما فيش غير وجع القلب منهم. حتى رودينا بقت زيهم."
أيدتها مي وهي تتأمل ملامحها المنهكة:
"أنا كمان شايفة كده. المهم دلوقتي مش هم، المهم انتي. لازم تاكلي كويس يا سيلا. شايفة شكلك عامل إزاي؟"
هزّت سيلا رأسها بضعف وقالت:
"مش قادرة، بجد يا مي. كل مرة أحاول أكل حاجة، مش بستحمل."
عبست مي وهي ترد بحزم:
"انتي كده بتضري نفسك أكتر. أنا مش هعرف أتعامل معاك كده، وهقول لأختك همسة تتصرف معاكي."
رفعت سيلا يدها بسرعة بإشارة رفض:
"لا، بلاش همسة. هي مش هتستحمل تعرف. وأنا مش قادرة أتكلم. خلاص، هاكل... هاتي يا ستي."
ضحكت مي بصوت عالٍ وهي تهتف مازحة:
"أهو كده! ناس تخاف من العين الحمرا!"
ابتسمت سيلا رغم ضعفها، وللحظة، شعرت بأن حب من حولها هو الدافع الذي تحتاجه لتكمل هذه الرحلة القاسية.
قاد معتز السيارة خلف مي، متابعًا خطاها حتى وصلت إلى منزل صديقتها. انتظرها قليلًا حتى اطمأن عليها، ثم استدار بسيارته، عائدًا إلى مكتبه ليكمل العمل المتراكم عليه. جلس لساعات طويلة، غارقًا في أوراقه واجتماعاته، حتى كاد ينهي كل المهام المؤجلة. لكنه، مع تقدم الوقت، شعر بالإرهاق يتسلل إلى جسده، فقرر العودة إلى المنزل للراحة.
بينما كان يغادر المكتب، التقى بعاصم عند المدخل.
معتز: "أه، أنا تعبت شوية. رايح البيت. تيجي معايا؟"
عاصم: "يلا بينا. أنا كمان خلصت، وكنت عاوز أتكلم معاك في موضوع مهم."
ركبا السيارة، وتولى عاصم القيادة. كانت لحظات من الصمت تخيم على الأجواء، حتى قطعها معتز بسؤال:
"كنت عايز تكلمني في إيه؟"
تردد عاصم قليلاً، ثم أخذ نفسًا عميقًا وأعاد ضبط المرايا الأمامية:
"ناوي على إيه؟"
نظر معتز إليه باندهاش:
"في إيه؟"
التفت عاصم نحوه للحظة، ثم أعاد تركيزه على الطريق:
"في حياتك."
تأمل معتز السؤال قليلاً، ثم أجاب بصوت يحمل بعض الحيرة:
"هتصدقني لو قلت لك إني معرفش؟"
ثم تابع بعد لحظة صمت:
"بجد نفسي أرتاح. تعبت من كل حاجة حواليا. أظن كفاية لحد كده. إحنا مش بنظلم غير نفسنا. شفت الموت بعيني، شريط حياتي كله كان قدامي. كنت خايف أموت، أوصل للنهاية وأنا كلي معاصي. الضـ.ـر.بة دي..." وأشار إلى صدره، "فوقتني."
أخذ عاصم يحدق في الطريق بينما يتحدث معتز:
"اكتشفت إن الدنيا مش مستاهلة. الانتقام من اللي مالوش ذنب؟ اللي غلط وأذنب؟ خلاص، مـ.ـا.ت وشبع موت. اللي باقي له الرحمة بس. قررت إني أعيش صح المرة دي."
مد عاصم يده، وأمسك بيد معتز بقوة:
"وأنا مش هسيبك. في ظهرك، وهساعدك بما إنك ناوي تتغير."
نظر الاثنان لبعضهما بابتسامة أمل، وعاصم أكمل:
"وأنا كمان هرمي كل حاجة ورا ضهري وأبدأ من جديد."
معتز: "بس الطريق طويل، وهنقابل عقبات كتير."
عاصم: "قدها؟"
معتز: "طبعًا قدها."
ضحكا سويًا حتى وصلا أمام الفيلا، وكانت ابتسامتهما مشبعة بطاقة جديدة لم يشعروا بها منذ سنوات.
عند المدخل، كان وليد يتحدث في الهاتف. بمجرد أن لمحهم، أغلق مكالمته واقترب بدهشة ممزوجة بالابتسامة:
"إيه ده! داخلين بتضحكوا كمان؟ يا رب تستر. أكيد بتخططوا لحاجة كبيرة."
ضحك معتز، ورد عليه بحسم:
"قررنا نعيش."
نظر عاصم إلى وليد بثقة وقال:
"عندك مانع؟"
أسرع وليد نحوهما، واحتضنهما معًا بقوة:
"مانع؟ أحلى خبر سمعته في حياتي!"
ارتسمت الابتسامة على وجوههم جميعًا، وكأنهم وجدوا خريطة طريق جديدة لحياتهم، مليئة بالأمل والإصرار على التغيير. كانت لحظة فارقة، لحظة توافقهم مع أنفسهم، ووعدهم بأن يواجهوا المستقبل معًا، بعيدًا عن الماضي وهمومه.
ـــــــــــــــــــــــــ
كانت مي مستلقية بجانبها، ترفض أن تتركها وحدها حتى يعود والداها من السفر. همست سيلا بصوتٍ مطمئن:
"لو عاوزة تروحي يا بنتي، روحي. أنا كويسة، ولو احتجت حاجة هقول لهمسة."
ابتسمت مي برفق وأجابت:
"هعمل إيه يعني؟ خليني معاكي، ما وراياش شغل ولا أي حاجة. وبعدين ماما قاعدة عند خالتي... بيتفقوا على هيثم. عقبال عندك!"
رفعت سيلا حاجبيها بدهشة:
"بيتفقوا عليه ليه؟"
كتمت مي ضحكتها بصعوبة وقالت:
"أصل هيثم فاجئ ماما تاني يوم ما رجعنا من المستشفى وقرر يخطب بنت خالتي! ومن وقتها ماما مقيمة عندها، مصدقة إنه أخيراً جه منه!"
تنهدت سيلا براحة:
"أخيراً فكر صح وأخذ أول خطوة. ربنا يتممله على خير."
ردت مي بابتسامة:
"يا رب، وعقبالنا إحنا كمان."
ابتسمت سيلا ابتسامةً مكسورة وقالت:
"عقبالك إنتِ وهمسة يا رب."
ضحكت مي وقالت مازحة:
"وإنتِ قبلنا، يا رب. أو أنا وإنتِ في يوم واحد... ياااه، تخيلي!"
ظلّت مي تدعو بصدق أن يكون يوم فرحهم جميعًا في يومٍ واحد، ولم يكن أحد يدري أن أبواب السماء قد تكون مفتوحة، وربما تُستجاب الدعوات.
بعد لحظة صمت، التفتت سيلا إلى مي وقالت:
"مش ناوية تدوري على شغل جديد؟ ليه وقفتي؟"
تنهدت مي بإحباط وأجابت:
"مين قال إني ما دورتش؟ أنا لفيت على أكتر من جريدة، لكن أول ما يسمعوا اسمي يعتذروا. ربنا يسامح اللي كان السبب."
قالت سيلا بحزم:
"هكلم بابا يكلّم أستاذ أحمد علشان يرجعك تاني. إوعي تزعلي نفسك."
هزّت مي رأسها بإحباط وقالت:
"مبقتش فارقة."
في هذه اللحظة، أطلت همسة برأسها من باب الغرفة وقالت مازحة:
"ممكن أنام معاكم؟ مش عارفة أنام لوحدي."
ابتسمت سيلا بحب وردت:
"طبعًا يا حبيبتي، تعالي."
تسللت همسة إلى السرير ونامت في المنتصف، وبدأ الثلاثة يتبادلن الأحاديث في مواضيع مختلفة حتى قطعت مي الصمت وسألت:
"لسه زعلانة مننا يا همسة من يوم خطوبتك؟"
ترددت همسة قليلًا قبل أن تقول:
"بصراحة؟ آه، كنت زعلانة جدًا، وحمّلتكوا السبب. بس لما فكرت، لقيت إنكم مالكوش ذنب. لكن زعلت إن محدش حاول ياخد بخاطري."
ردت مي بأسف:
"يا حبيبتي، متزعليش. والله كلنا زعلنا يومها. كانت صدمة، ومكنش حد فاهم حاجة. كنا مرعوبين وتايهين بجد."
همسة:
"خلاص، مش زعلانة والله. بس بابا وماما وحشوني أوي. مش متعودة يغيبوا عنّا كده."
غلب الإرهاق سيلا فنامت دون أن يشعرن بها.
بعد لحظات، التفتت مي نحو همسة وقالت:
"هانت. الأسبوع هيجري بسرعة. البت دي ليه ساكتة فجأة؟"
نظرت همسة إلى سيلا وأجابت مبتسمة:
"نامت!"
ضحكت مي وقالت:
"وعاملين نرغي وهي ولا هنا!، مش جديدة عليها. دي تنام في أي وقت."
ردت همسة ضاحكة:
" أه فاكرة لما كانت متعصبة من عاصم وقت وقعت في البسين ونامت وهي قاعدة؟"
ابتسمت مي وهي تتذكر:
"آه، يوم ما يتنسيش!
هتفت همسة: بس حاسة إنها تعبانة؟حاسة إنها مش طبيعية. مش بتخرج من الأوضة خالص."
أجابت مي بتردد وهي تلجلج:
"ها... لا، هي بس زعلانة علشان السفر وكده."
همسة دون اقتناع: "مش عارفة، بس حاسة إنها متغيرة فعلاً."
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في صباح اليوم التالي، استيقظت سيلا باكرًا على غير عادتها، وقد أعدت وجبة خفيفة لتناولها قبل موعد الجلسة. جلس الثلاثة يتناولون إفطارهم في جوٍّ مرح، وكأن شيئًا لم يُثقل صدورهم بالأمس. عادت همسة إلى طبيعتها، وقد نفضت عنها ما وسوس به الشيطان من أفكارٍ لا مكان لها.
قالت همسة بحماس وهي تتناول رشفة من كوب الشاي:
"أنا النهارده هنزل مع وليد نتفرج على الأجهزة... عاوزاكم معايا، لأني محتارة أوي! إيه رأيكم؟"
ردّت سيلا وهي تنظر لمي مبتسمة:
"ممكن مي تروح معاكي، وأنا هخلص مشوار وأحصلكم بعد كده."
أضاء وجه همسة بالسعادة وقالت:
"تمام أوي! ربنا يخليكوا ليا يا رب!" ثم أضافت وهي تقوم من مكانها:
"ألحق أكلم وليد أشوفه جاي إمتى."
اختفت همسة في غرفتها لتجهز، تاركةً مي وسيلا وحدهما.
نظرت مي نحو سيلا بحدة وقالت معاتبة:
"إنتِ دبستيني ليه؟ وهسيبك إزاي؟"
ردّت سيلا بنبرة جادة لكنها مليئة بالحنان:
"عشان مش هينفع أرفض لها طلب، وخصوصًا وأنا شايفة الفرحة في عينيها. ماقدرش أكسر فرحتها، وأقولها إني تعبانة. خليتك تروحي معاها وأنا أخلص الجلسة وأحصلكم بعدين."
قالت مي بإصرار:
"وإزاي أسيبك لوحدك؟ إنتِ مـ.ـجـ.ـنو.نة! مش هقدر أسيبك، انتي بتتعبي جـ.ـا.مد بعدها."
ابتسمت سيلا مطمئنة وقالت:
"متخافيش عليا، هخلص وأركب تاكسي وأجي على طول."
تنهدت مي وقالت بحذر:
"طيب... خلي بالك من نفسك، عشان خاطري."
بعد دقائق، خرجت مي مع همسة، حيث التقوا بوليد، وركبوا جميعًا سيارته.
قال وليد مرحبًا:
"أهلاً، مي! عاملة إيه دلوقتي؟"
أجابت مي بلطف:
"الحمد لله، بخير."
سأل وليد:
"وهي سيلا مش هتيجي معانا؟"
ردّت مي:
"آه، هتيجي. بس عندها حاجة تخلصها وهتكلمني علشان تيجي على طول."
قاد وليد سيارته إلى أحد أكبر المراكز التجارية، الذي يضم كل ما يحتاجونه من أجهزة وأثاث، بالإضافة إلى كافيهات، متاجر للملابس، ألعاب للأطفال، وغير ذلك. وصلوا أخيرًا، وأوقف السيارة في المكان المخصص لها.
ما إن نزلوا حتى تلقى وليد مكالمة هاتفية. كان صوته متحمسًا ومشحونًا بشيء من المزاح:
"حبيبي، فينك؟ وصلنا ولسه قاعدين. انجز بقى، الدنيا زحمة!"
ردّ الطرف الآخر ممازحًا:
"ما أنت لسه سايبني! إيه، وحشتك؟"
ضحك وليد وقال:
"رخم أوي! تصدق تساعدني؟ مش قايلك على كل حاجة إمبـ.ـارح. المهم... جت معاكم؟"
ردّ وليد بضحكة مكتومة:
"آه، ياسيدي، جت. إحنا في قسم الأجهزة، هتلاقينا هنا. يلا سلام بقى، يا عم روميو، وربنا معاك. ده أنت هتشوف أيام عسل!"
سمعت همسة جزءًا من الحديث وسألت بفضول:
"مين يا وليد اللي جاي؟"
خفض وليد صوته وقال لها:
"معتز. بس متجيبيش سيرة لمي. شكله جاي يعملها مفاجأة."
ابتسمت همسة بحماسة وقالت:
"الله! بحب المفاجآت أوي."
أشار لها وليد أن تهدأ وقال:
"هسس... يلا ندخل المحل."
وبينما كانوا يتجولون بين الأقسام، لاحظت همسة أن مي لم تكن معهم. التفتت حولها وقالت:
"مي؟ مش لاقياها!"
قال وليد بهدوء:
"كلميها، وقوليلها إحنا في قسم الأجهزة."
ابتعدت مي قليلاً لتترك مساحة بينهم، بينما كانت تتجول بمفردها بين الأقسام. أعجبتها المعروضات وسرحت للحظات، حتى شعرت بشخص يصطدم بها عند مدخل أحد المحلات.
التفتت بعصبية وقالت:
"ما تفتح! إنت أعمى ولا إيه؟!"
لكنها توقفت فجأة، واتسعت عيناها دهشة وهي تراه أمامها.
معتز، بابتسامة مشرقة أضاءت وجهه: "أنا فعلاً أعمى لكن فتحت عيني بمجرد ماشوفتك!."
مي، دون أن تنطق بحرف، تركته ورحلت بخطوات متسارعة. شعرت أنها ستفقد أعصابها لو ظلت واقفة أمامه، لكنه لم يتركها تبتعد. تبعها بخطوات واثقة، والابتسامة لم تفارق شفتيه، يده في جيب بنطاله وكأنه يمسك بها مفتاح حوار جديد.
انضمت مي إلى همس وليد، ارتفع صوت وليد بدهشة مصطنعة:
"معتز! ياااه، إيه الصدف الحلوة دي، يا راجـ.ـل!"
رد معتز بنبرة مليئة بالغرور:
"جيت أتفرج على حاجة كده، عندك مانع؟"
وليد، راغباً في إضفاء جو من المزاح على الموقف، قال بمرح:
"اتفرج براحتك، يا سيدي. يلا يا همسة، يلا يا مي، نمشي من هنا."
لكن معتز أسرع بالمقاطعة:
"إزايك يا همسة؟ عاملة إيه مع الغتت ده؟"
فهمت همسة مغزى كلامه، فأجابت بابتسامة بـ.ـاردة:
"الحمد لله، بس انت جاي تتفرج على إيه هنا يا معتز؟"
ثم وجهت نظرها نحو وليد قائلة بخبث:
"استنى يا وليد، يمكن محتاج رأينا."
رد وليد وهو يرفع حاجبه بسخرية:
"عشان خاطرك بس يا حبيبتي، هقوله رأيي."
ثم أضاف بقهقهة، يلعب بحاجبيه بطريقة فكاهية، فضحك الجميع وانـ.ـد.مجوا في الحديث. تنقلوا بين الأماكن، ومعتز يحاول اختلاق أي حديث يجذب اهتمام مي، لكنها كانت تتجاهله تماماً، كأن وجوده غير مرئي بالنسبة لها.
همس معتز لنفسه بتصميم:
"شكل عاصم عنده حق... واضح أننا هنواجه عقبات كتير، بس مش هَيأس."
في وقت لاحق، استقلت سيلا وسائل المواصلات حتى وصلت إلى المستشفى. تم تجهيزها لإجراء جلستها الطبية. قضت عدة ساعات داخل غرفة العلاج، وحين انتهت، نقلتها الممرضة إلى غرفة أخرى لتستعيد اتزانها قبل المغادرة.
فتحت باب الغرفة بتثاقل، لكنها تفاجأت بوجود أخر شخص يقف داخلها...!
↚
فتحت باب الغرفة بتثاقل، لكنها تفاجأت بوجود أخر شخص يقف داخلها...! حين وقع بصرها عليه، اندهشت تمامًا من حضوره غير المتوقع، لتُطلق بغير وعي: "أنت!".
رفعت كتفيها في حركة متثاقلة كمن أرهقها الجدل المستمر، وهتفت بتعب ممزوج بالاستسلام:
"ارحمني بقى! عايز مني إيه تاني؟"
جلست على طرف الفراش، تغلف ملامحها سحابة من الإرهاق، وقالت بنبرة مُتعبة:
"أظن إن الأفضل أبعد عنكم كلكم... وأبعد أنت كمان، وسيبني فحالي. إيه تاني حصل؟ جاي دلوقتي تقولي إني السبب، فيه؟"
تقدم نحوها بخطوات ثقيلة، وجلس بجانبها، يظهر على ملامحه أسف عميق يُخفيه بضعف كلمـ.ـا.ته:
"سيلا... أنا آسف على كل حاجة عملتها من يوم ما عرفتك."
رفعت رأسها ببطء، تتطلع إليه بعينين تحملان مزيجًا من السخرية والمرارة، لتبتسم ابتسامة تهكمية مشوبة بالألم:
"آسف؟ معقول؟! عاصم باشا نفسه جاي يتأسف لي؟ لا... أنا أكيد بحلم!"
سكتت لحظات تتجرع خلالها صدمة وجوده، ثم تابعت بنبرة واثقة لكنها مشوبة بالتعب:
"أو يمكن جاي علشان أقول لك إني مسامحاك قبل ما أموت، مع إني متأكدة إنك مفيش شعور ولا أحساس. عادي يعني... لو مسامحتكش، ما هتفرقش معاك!"
حاول التماسك، لكن لهفته خانته، فهتف:
"بعد الشر عليكِ يا سيلا! انتي هتخفّي وتعدّي بالسلامة... أنا مش عاوز أي حاجة غير نبدأ صفحة جديدة. ننسى كل اللي فات... كل الخلافات والمشاكل. إيه رأيك؟"
رغم الألم الذي كان ينهش جسدها، حاولت ألا تُظهر ضعفها أمامه، لكنها لم تستطع كبح اندهاشها من كلمـ.ـا.ته. تناست آلامها لوهلة، لتضحك ضحكة قصيرة، خرجت منها رغماً عنها، وقالت بنبرة ممزوجة بالسخرية والقهر:
"صفحة جديدة؟ مع مين؟ معاك إنت؟ هاه هاه... بجد، ضحكتني وأنا مش في مزاج للضحك أصلاً!"
ساد الصمت للحظات، بينما بدأت ملامح وجهها تتلوّى من الألم. حاولت جاهدة أن تقاوم، لكن الألم كان أقوى منها. شعرت برغبة عارمة في الصراخ، فيما هو ينظر إليها بقلب مثقل بالنـ.ـد.م. أراد لو يقترب منها، لو يحتضنها، لو يُعيد الزمن للوراء ليعوّضها عمّا فات، لكنه بقي متجمداً في مكانه، لا يجد ما يقوله.
قطعت صمتهما بصوتٍ بالكاد يخرج من حنجرتها:
"طلبك مرفوض، يا عاصم. ابعد عني. مش عايزة أشوفك تاني في حياتي كلها. وأسفك... مرفوض. أنا مش مسامحاك!"
قبضت يدها على ملاءة الفراش، والوجع يكاد يفتك بجسدها. فجأة، لم تعد تقوى على الاحتمال أكثر، لتصرخ بكل ما أوتيت من قوة:
"آآآآآآآه! مش قادرة... اطلع براااااا! مش عايزة أشوفك تاني! براااااا!"
صرختها الأخيرة اخترقت أذنه كطعنة، لكنها لم تكن مجرد صوت؛ كانت وجعًا ناطقًا، كأنها تلفظه خارج حياتها للأبد.
ارتعب من حالتها: اهدي اهدي خلاص همشي همشي طيب.
هرول عاصم بخطواتٍ سريعة نحو الطبيب يناديه بفزعٍ لم يستطع إخفاءه، وما إن وصل الطبيب حتى انطلق يسأله بلهفة:
"مالها؟ مالها؟ فيها إيه؟"
أجابه الطبيب بنبرة هادئة وعملية:
"اهدأ، مفيش حاجة خطيرة. عطيتها مسكنًا، وبعد شوية تقدر تمشي عادي."
تنفس عاصم قليلًا وكأن الهواء قد عاد إلى رئتيه، لكنه لم يستطع منع نفسه من السؤال مجددًا:
"طيب... إمتى ميعاد الجلسة الثانية؟"
رد الطبيب:
"بعد خمس أيام. لكن لازم تركزوا على علاج الأنيميا، لأن وضعها كده هيأثر على العلاج بصورة سلبية. بعد إذنك."
تركه الطبيب ورحل، بينما وقف عاصم يحاول تهدئة نفسه. لكن قلبه كان مثقلًا بالحزن عليها. شعر بعجز كبير؛ هو الذي طالما اعتاد السيطرة على كل شيء، يقف الآن ضعيفًا أمام ألمها. قرر ألا يتركها وحدها، وظل منتظرًا خارج الغرفة حتى خرجت.
ما إن فتحت الباب وظهرت أمامه حتى تقدم نحوها سريعًا، وقال بحزمٍ لا يقبل الجدال:
"هوصلك. مش هينفع تمشي وإنتِ في الحالة دي. ومن غير نقاش... قدامي."
وقفت تنظر إليه بدهشة من هذا التحول المفاجئ في شخصيته، ثم أردفت بتهكم:
"لسه ما مشيتش؟"
تخطته متجهة نحو الخارج، بينما تبعها دون أن يقول شيئًا. وما إن وقفت على الرصيف لتبحث عن سيارة أجرة، استدارت إليه فجأة، ونظرت إليه بغضبٍ مكتوم:
"أنا همشي لوحدي زي ما جيت. ما تتعبش حالك."
لم تمنحه فرصة للرد. أشارت لأول سيارة أجرة مرت أمامها، صعدت بداخلها، وأغلقت الباب خلفها دون حتى أن تنظر إليه.
وقف عاصم يراقبها وهي تبتعد، ثم شـ.ـدّ شعره بضيق وهو يتمتم:
"عنيدة! ...، ماشي يا سيلا. نشوف آخرتها معاك."
لم يتردد طويلًا. صعد إلى سيارته، وأدار المحرك، وبدأ يتتبع سيارة الأجرة من بعيد. ظل يراقب الطريق بصمت، يزداد فضوله كلما اقتربت المسافة.
أوقفت سيارة الأجرة أمام مركز صغير. نزلت سيلا واتجهت نحو الداخل، بينما أوقف عاصم سيارته على الجانب وتبعها بهدوء. دخل خلفها، وكانت المفاجأة بانتظاره.
رآها تقترب من مجموعة تجمّعوا في إحدى الزوايا. كانت أختها ومي هناك، ومعها وليد، ومعتز أيضًا. وما إن رأوه قادمًا خلفها حتى ظهرت الدهشة على وجوههم جميعًا.
قطع وليد الصمت، متحدثًا بنبرة ساخرة، محاولًا كتمان ضحكته:
"آه يا سلام! الحبايب كلهم جايين عشاني. ياااه... معرفش إنّي غالي عليكم كده. عاصم باشا بنفسه جاي برضه؟! مش ناقص غير عامر... كده أكلمه ينزل من الغردقة هو ومـ.ـر.اته وعياله!"
ضحك الحاضرون، لكن سيلا كانت تقف بعيدًا، متجاهلة عاصم تمامًا، وعينيها تُخفيان خليطًا من الألم والغضب. بينما عاصم، الذي لم يعر سخرية وليد أي انتباه، كان مشغولًا بشيء واحد فقط: الاقتراب من سيلا بأي وسيلة.
رفع عاصم حاجبه بنظرة تجمع بين الجدية والسخرية، وقال موجهاً حديثه إلى وليد:
"خفّة حد قالك قبل كده إنك خفيف؟"
أجابه وليد بمرح وهو يبتسم ابتسامته المعتادة التي لا تخلو من مشاكسة:
"كتير ولا أية يا زيزي... مش عارفين نعدهم أصلاً."
تدخّل معتز، يرمق وليد بنظرة نارية ورافعاً حاجبه باستفزاز:
"يا مين؟ تعالى هنا! مين؟ تعالى، تعالى بتهرب ليه؟ أنا هقولك!"
لم ينتظر وليد مزيداً من التوبيخ، أطلق ضحكة صغيرة وهو يلوّح بيده قائلاً قبل أن يهرب مبتعداً:
"أنا هاخد اللي ليّا وأطير!"
ثم أمسك بيد همسة وابتعد عن الأجواء المشحونة، تاركاً معتز وعاصم خلفه، والابتسامة لا تفارق وجهه.
من بعيد، كانت سيلا تراقب الموقف، تشعر بثقل لا علاقة له بما يجري حولها. التفتت إلى صديقتها مي، وبنظرة معبّرة، همست لها:
"تعالي ننسحب، نقعد في أي كافيه بعيد عنهم. أنا خلاص، على آخري من وجع دماغهم ده."
قهقهت مي على فكرة صديقتها، وردّت مازحة:
"يلا بينا، أنا معاكِ في الهروب الكبير!"
وبالفعل، تسللت الفتاتان بهدوء حتى ابتعدتا عن الشباب، واتجهتا إلى أحد المقاهي. جلستا هناك، حيث الأجواء كانت أهدأ بكثير من الفوضى السابقة.
نظرت مي إلى سيلا، تلاحظ علامـ.ـا.ت الإرهاق على وجهها، وقالت بتعاطف:
"شكلك تعبتي... ياريتني كنت جيت معاكي الجلسة. النهارده جيت على الفاضي!"
تنهدت سيلا بصوت خافت وردّت:
"الحمد لله، بقيت أحسن شوية. بس بجد، أنا مخـ.ـنـ.ـوقة أوي النهارده."
أومأت مي بتفهم وقالت:
"خلاص يا سيلا، كم جلسة وهتكوني بخير وترجعي لنا زي الأول."
لكن سيلا لم تجد في كلمـ.ـا.ت صديقتها عزاءً كافياً. رفعت عينيها نحوها وقالت بمرارة:
"مش بتكلم عن الجلسات، خلاص تأقلمت عليها وعلى وجعها. اللي خـ.ـنـ.ـقني بجد اللي حصل النهارده... أنا تعبت أوي، مقدرتش أتحمل. انهرت قدامه. شافني في أضعف حالاتي. شفت نظرة الشفقة في عينيه. أنا مش قادرة أستحمل ده، مش عاوزاه يقرب مني تاني."
اتسعت عينا مي في دهشة، وسألتها بحذر:
"مين اللي شافك؟ تقصدي عاصم، صح؟"
هزت سيلا رأسها بالإيجاب، مؤكدة ما خافت مي أن تسمعه.
تابعت مي، بنبرة امتعاض:
"وإيه اللي عرفه ميعاد الجلسة أصلاً؟"
أجابت سيلا وهي تهز كتفيها باستسلام:
"معرفش، بس أكيد حاجة زي دي مش هتستخبى عليه. جاي يقول إنه عايز يفتح صفحة جديدة، وإننا ننسى اللي فات. فاكرني هرمي نفسي في حـ.ـضـ.ـنه وأوافق؟ ده أكيد مـ.ـجـ.ـنو.ن!"
ضحكت مي بخفة، تحاول تخفيف الجو المشحون:
"سيبيك منه، حتى أخوه معتز شكله بيحلو عليّا!"
قهقهت سيلا، لأول مرة منذ بداية اليوم، وعلّقت ساخرة:
"هههههه... كمان؟"
ردت مي مازحة:
"آه والله، دول بحالات! كل ما نبعد يقربوا، وكل ما نقرب يبعدوا. إحنا مش فاهمين لهم حاجة."
ابتسمت سيلا بتعب وقالت:
"سيبيك منهم يا مي. أنا مش قادرة أكمل. يلا بينا، كلمي همسة وقولي لها إحنا مش عارفين نوصل. هنمشي وخلاص."
نهضت الفتاتان، تاركتين خلفهما الأحاديث المشوشة والمشاعر المتناقضة، عازمتين على البحث عن راحتهما في مكان آخر بعيد عن كل ما يثقل كاهلهما.
داخل غرفة البنات بمنزل همسة، أجواء مليئة بالمرح والدفء.
همسة، بنبرة عتاب خفيفة وزعل:
"مشيتوا ليه؟ كان في عربيات كتير، كنتم هتركبوا. دول فضلوا يدوروا عليكم يا حـ.ـر.ام، كانوا هيجننوا!"
مي، تكتم ضحكتها وهي تحاول الحفاظ على جديتها:
"شكلهم كان مسخرة، باين عليهم من الكلام."
سيلا غمزت لها بخفة حتى لا تقع بالكلام وتُغضب همسة:
"أحم... يا بنتي إحنا دورنا عليكوا، بس كانت الزحمة فظيعة، وأول ما لقينا تاكسي ركبناه على طول."
ابتسمت همسة بنصف رضا، ثم غيّرت الموضوع قائلة بحماس:
"بالمناسبة، الحاجات اللي اخترناها طلعت تحفة! كان نفسي تشوفوها قبل ما تتنقل للبيت."
ردت مي وسيلا في نفس اللحظة بابتسامة حنونة:
"تتهني بيها يا حبيبتي!"
أضافت سيلا:
"إن شاء الله نشوفها في بيتك الجديد."
همسة بابتسامة مليئة بالامتنان:
"تسلمولي يا رب."
رن هاتف المنزل فجأة، فقطع حديثهن، فتسارعن جميعاً للرد.
همسة، ترد بحماس وفرحة وهي تسمع صوت والدها:
"بابا! حبيبي، وحـ.ـشـ.ـتني أوي أوي! كلنا كويسين الحمد لله... ماما فين؟ هاتها أسمع صوتها."
وبعد لحظات، صرخت بسعادة:
"ماما! حشـ.ـتـ.ـيني و أوي، وحشني حـ.ـضـ.ـنك أنا وسيلا كويسين ومي بتبات معانا ومش بتسيبنا أبدًا. هتيجوا إمتى بقى؟"
استمعت إلى الرد، ثم هتفت:
"بجد؟ طيب حلو أوي... تيجوا بالسلامة."
ناولتها الهاتف لسيلا، قائلة:
"خدي، ماما عايزة تكلمك."
سيلا، تأخذ الهاتف بشوق:
"ماما! عاملة إيه؟ حشـ.ـتـ.ـيني و أوي أوي. عمرة مقبولة يا حبيبتي."
استمعت لوالدتها بفرحة، ثم أضافت:
"إحنا كويسين الحمد لله، بس البيت من غيركم وحش أوي. ما تقلقيش علينا."
ثم ناولت الهاتف لهمسة مرة أخرى، وهي تهمس بابتسامة:
"بابا على الخط كمان."
أ
ردت همسة سريعًا:
"ألو، يا بابا!"
بعد حديث قصير، أغلقت الخط وهي تهمس بالدعاء لهم.
مي، كعادتها، لا تفوّت فرصة للمرح:
"جايين إمتى؟ عشان أخلص اعتكافي عندكم. أكيد قالوا عليّ: إيه البنت اللزقة دي؟"
سيلا، بابتسامة ماكرة:
"بس انتي مش لازقة بس وغرا كمان."
مي، ترد ممازحة:
"آه والله؟ طيب! والله ما أنا سيباك!"
سيلا، تضحك بخفة:
"لا لا لا، انتي زي العسل، وقمر كمان. خدي بوسة أهي!"
همسة، بين ضحكاتها:
"ناس تخاف من العين الحمرا فعلاً!"
سيلا، توجه كلامها لهمسة بجدية:
"صحيح، نسيت أسألك. جايين إمتى؟ قالوا لك إيه؟"
ردت همسة:
"خلصوا العمرة خلاص، قدامهم حوالي أربع أيام ويوصلوا."
مي بابتسامة:
"يوصلوا بالسلامة إن شاء الله."
سيلا:
"إن شاء الله."
مرّت الأيام بسرعة، وما زالت محاولات عاصم ومعتز للتقرب من الفتيات تبوء بالفشل المعتاد.
في هذه الأثناء، كان وليد وهمسة يضعان اللمسات الأخيرة على تجهيزات زفافهما. انتهيا من إعداد الفيلا، وترتيب الأثاث، ونقل الأجهزة، واختارت سيلا ومي وهمسة فستان الزفاف الذي زادها إشراقًا.
كان الموعد محددًا بعد عودة الأهل مباشرة، ولم يتبقَ سوى أسبوع على الحفل.
ولكن في الساعة الرابعة فجرًا، رن الهاتف بشكل مفاجئ وغير متوقع.
صوت الرنين اخترق سكون الليل، لتنهض الفتيات في حالة من الحيرة والتساؤل:
"مين هيتصل في الوقت دا؟!"
ساد الصمت للحظة، ثم عاد الهاتف يرن مجددًا، كأن الإلحاح يحمل معه نذير سوء. استيقظ الجميع فزعين، يتساءلون من يمكن أن يتصل في مثل هذا الوقت المتأخر.
همسة، التي لم يهدأ قلبها منذ بدء الرنين، أسرعت لتجيب، لكن يدها ارتعشت وهي ترفع الهاتف. ردت على الاتصال، غير أنها لم تنطق بكلمة، واكتفت بالإنصات للطرف الآخر. عيناها امتلأتا بالدمـ.ـو.ع في لحظة واحدة، وصوت مي المذعور يناديها:
"مين؟! مين بيتصل؟!"
لم تجب همسة. حتى على سيلا، التي تجمدت في مكانها وهي تحتضن قلبها، أخذت تهز رأسها في محاولة يائسة لإنكار ما يخبرها به حدسها. فجأة، ألقت همسة الهاتف بإهمال وكأنها ترفض تصديق ما سمعت، وبدأت تهز رأسها بعنف وهي تردد بلا وعي:
"لا... مش ممكن... مستحيل!"
تقدمت سيلا، غير قادرة على كبح فضولها أو مخاوفها، التقطت الهاتف المرتجف من الأرض.
"ألو؟ ألو؟ مين معايا؟"
وجاءها نفس الصوت الحزين من الطرف الآخر. الكلمـ.ـا.ت القليلة التي سمعتها أكدت ما كانت تخشاه. ضرورة حضورهم للتعرف عليهم؟.
أغلقت سيلا الهاتف ببطء، لكن دمـ.ـو.عها انهمرت كشلالات لا تعرف التوقف. صرخت وهي تهلوس بكلمـ.ـا.ت غير مترابطة:
"مـ.ـا.توا؟ غرقوا؟ يعني خلاص؟ مش هشوفهم تاني؟ سابونا؟! لا! لا! أنا جاية... أنا جاية لكم!"
همسة التي كانت في حالة صدمة عميقة، بدأت تفقد وعيها تدريجيًا، إلى أن سقطت على أقرب كرسي بلا حراك. مي، التي كانت ترتجف بينهن، هرعت نحوها محاولة إفاقتها، وهي تهتف:
"سيلا! سيلا! إلحقيني... همسة أغمي عليها!"
لكن سيلا لم تكن أفضل حالًا، فقد تجمدت في مكانها كأن الكلمـ.ـا.ت سرقت روحها. مي، المرتبكة والخائفة، لم تعرف من تلحق ومن تساعد. ركضت نحو المطبخ، بحثت عن أي شيء يمكن أن يفيقهن، لكنها كانت تدور كالعمياء بين الأشياء.
في لحظة يأس، التقطت هاتف همسة واتصلت بوليد، الذي أجاب بصوت ناعس:
"ألو؟"
مي صاحت وهي تبكي:
"وليد! تعال بسرعة على بيت همسة! جالنا خبر أن مامتها وباباها حصل لهم حاجة وحشة في ميناء إسكندرية! أنا لوحدي... وهما مش بينطقوا! أنا خايفة عليهم قوي!"
ثم انفجرت في بكاء هستيري:
"الحقنا، أرجوك! مش عارفة أعمل إيه!"
ما أن سمع وليد الخبر حتى قفز من سريره كمن لسعته نار، هرول مسرعًا إلى الخارج وهو ممسك بهاتفه، يخاطب مي التي لم تتوقف عن البكاء:
"حاضر... حاضر، أنا جاي حالًا. حاولي انتي تفوقيهم بأي طريقة، متسبهمش لوحدهم!"
مرت دقائق بدت كأنها ساعات. مي، التي لم تفقد الأمل، استعانت بعطر قوي خاص بسيلا. بعد محاولات مضنية، بدأت سيلا تستفيق شيئًا فشيئًا، وما هي إلا لحظات حتى استيقظت همسة بدورها، لكن صدمتها كانت أكبر من أن تحتمل.
↚
بصوت متقطع خرج من أعماقها:
"قولولي إن ده كان حلم... صح؟!"
توجهت بنظراتها المرتعشة نحو مي ثم نحو سيلا، باحثة عن تأكيد يطمئن قلبها:
"صح يا سيلا؟ حلم... كابوس! أكيد كابوس، صح؟"
لكن سيلا لم تنبس ببنت شفة. نهضت فجأة واتجهت نحو غرفتها بخطوات متعثرة، ارتدت أي ملابس وجدتها أمامها على عجل، وخرجت مسرعة نحو الباب.
مي، التي شعرت بالخطر، وقفت في طريقها محاولة إيقافها:
"رايحة فين يا سيلا؟! استني! مش هينفع تروحي لوحدك!"
لكن سيلا كانت غارقة في دوامة من الغضب والحزن. قطعت حديث مي بصوت حاد ونظرات زائغة:
"سيبيني، يا مي! مش هقدر أتكلم غير لما أشوفهم بنفسي. مش هرتاح إلا لما أتأكد! ابعدي عني دلوقتي!"
حاولت مي التماسك، وتحدثت بسرعة:
"استني، أنا جايه معاكي! أغير هدومي وأجيلك حالًا."
لم تكن سيلا وحدها من استعدت للذهاب؛ حتى همسة غيرت ملابسها على عجل. وبينما هي تهم بالخروج، فوجئت بوجود وليد عند الباب. نظرت إليه بذهول، وكأنها لم تفهم سبب وجوده. عندها بادرت مي بالتوضيح، متحدثة بـ.ـارتباك:
"أنا... أنا اللي كلمته من تليفونك يا همسة! لما شفتكوا واقعين وخفت عليكم. مكنش قدامي غيره. أخويا مسافر وماما في البلد."
لم يرد أحد. سيلا، مي، همسة، كلهم كانوا غارقين في عوالمهم، يحملون حزنًا أكبر من الكلمـ.ـا.ت. أما وليد، فحسم الموقف بقوله:
"طيب... يلا! أنا جاي معاكم. مش هسيبكم لوحدكم."
بعد ساعات من الطريق المحموم، وصلوا إلى الميناء. المشهد كان مرعـ.ـبًا. أصوات الصراخ والعويل ملأت الأرجاء، والأعداد الغفيرة من الأهالي الباحثين عن أحبائهم زادت الموقف قسوة.
جلسوا داخل السيارة للحظات، كأنهم غير قادرين على مواجهة ما ينتظرهم بالخارج. الصمت كان سيد الموقف، لكن قلوبهم كانت في حالة انهيار تام.
في الخارج، جاءت الأخبـ.ـار كالصاعقة: "لقد غرقت إحدى العبـ.ـارات القادمة من السعودية بالقرب من السواحل المصرية."
وليد، الذي كان يحاول التماسك من أجلهم، قال بصوت هادئ:
"اهدوا... إن شاء الله يكونوا من الناجين. متفقدوش الأمل!"
لكن همسة، التي سمعت كلمـ.ـا.ته، لم تستطع أن تتحمل أكثر. خرجت من صمتها بأنفاس متقطعة ومتسارعة، وكأن الهواء لم يعد يكفيها.
صرخت مي بذعر:
"وليد! وقف العربية! هي مش قادرة تاخد نفسها!"
أوقف وليد السيارة على الفور، ونزل منها مسرعًا نحو همسة. حاول إسعافها بـ.ـارتباك، أمسك بزجاجة مياه ونثر على وجهها بضع قطرات، يردد آيات من القرآن بصوت ثابت لتهدئتها:
استغفري ربنا، واهدي... هتعدي، إن شاء الله هتعدي."
بدأت أنفاسها تهدأ قليلًا، لكن عيناها لم تستطع أن تفتح، وكأنها فقدت آخر ذرة من قوتها. أغمضت عينيها وسقطت بلا وعي بين ذراعيه.
"خلي بالك عليها."
قالتها سيلا بصوت مختنق بالدمـ.ـو.ع، وكأنها توصية أخيرة، ثم اندفعت خارج السيارة بخطوات مسرعة، لم تنتظر أحدًا، ولم تعر نداءات وليد أي انتباه. لحقت بها مي، التي لم تستطع أن تتركها تواجه هذا المشهد وحدها، متشبثة بها كما لو أن قربها سيخفف من وطأة الألم الذي يزداد ثقله مع كل خطوة.
"استنوا! ماينفعش كده! خليكوا هنا لحد ما تفيق همسة!"
ناداهما وليد بصوت مرتفع، لكنهما لم تتوقفا. سيلا كانت رافضة حالة التشتت التي تنهش روحها، تريد فقط أن تعرف، أن تتأكد أن والديها بخير.
تقدمتا بخطوات متعثرة بين الحشود، أيديهما متشابكة بقوة، وكأن هذا التشابك هو الحبل الأخير الذي يبقيهما متماسكين وسط هذا الطوفان من البشر. ومع كل خطوة نحو الداخل، اشتدت الصدمة.
شهقتا في وقت واحد من هول المنظر الذي امتد أمام أعينهما. صفوف طويلة من الجثث، بعضها مغطى بأكفان بيضاء، وبعضها مكشوف، وصراخ الأهالي يمزق الآذان. المشهد كان أقرب إلى كابوس حي.
تراجعت سيلا خطوة إلى الخلف وهي تغلق عينيها بقوة، وكأنها ترفض أن ترى المزيد. مي، التي حاولت أن تتحلى ببعض القوة، فتحت عينيها ببطء، ونظرت حولها وهي تهمس:
"سيلا... افتحي عينيك. لازم نتأكد... يمكن هما مش هنا."
لكن سيلا لم تستطع. تشبثت بيد مي أكثر، وكأنها تبحث عن ملاذ وسط هذا الجحيم. كلما وقع بصرها على جثة جديدة، ازداد الرعـ.ـب الذي يأكل قلبها. شعرت وكأنها على وشك الانهيار.
تقدمتا خطوة بخطوة، تتعثران بين الحشود، حتى توقفتا أمام جثتين موضوعتين بجانب بعضهما، مغطاتين بغطاء أبيض. توقفت سيلا فجأة، جسدها تجمد في مكانه.
بصوت مرتجف، قالت مي:
"سيلا... مالك؟"
لكن سيلا لم ترد. كانت عيناها معلقتين بتلك الجثتين. حين رفع أحد المسؤولين الغطاء عن وجهيهما، تجمدت الدماء في عروقها.
بدأت تهذي بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة، دمـ.ـو.عها تنهمر بغزارة:
"كنت مشتاقة لحـ.ـضـ.ـنكم أوي دلوقتي مش هشوفكم غير في أحلامي"
تقدمت نحو الجثتين ببطء، وكأنها غير قادرة على تصديق ما تراه. مدّت يدها المرتعشة، وكأنها تريد أن تلمس ملامحهما، أن تتحقق أن هذا مجرد وهم.
ثم فجأة، انهارت على ركبتيها بجانبهما، واندفعت في بكاء حار، تصرخ بصوت مكلوم كنت بستناكم.... كنت مستنية أشوفكم تاني!"
أما مي، فوقفت خلفها، عاجزة عن الكلام أو الحركة، تكتفي بمسح دمـ.ـو.عها وهي تنظر إلى السماء كأنها تطلب الصبر لما يحدث.
….
أنهى مراسم دفن والديها في المدافن الخاصة بعائلتها بمدينة الإسكندرية بعد صلاة الظهر. الأجواء كانت ثقيلة، ممتلئة بالأسى والصمت القـ.ـا.تل. بعد انتهاء كل شيء، ركب عاصم السيارة برفقة شقيقه معتز، استعدادًا للعودة إلى القاهرة.
قاد معتز السيارة، محاولًا كسر حاجز الصمت المطبق بينهما. حاول مرارًا جذب الحديث مع عاصم:
"عاصم... عاوز تتكلم؟ يمكن ترتاح شوية؟"
لكن عاصم لم يكن حاضرًا. كان غارقًا في عالم آخر، عيناه تحدقان في الأفق، وصدره يعلو ويهبط كمن يحمل همًّا أثقل من أن يتحمله. حين أدرك معتز أن الحديث لن يجدي، ركز انتباهه على الطريق الطويل الممتد أمامه، تاركًا شقيقه في شروده.
أسند عاصم رأسه إلى مسند المقعد، وأخذ نفسًا عميقًا، محاولًا تهدئة ضـ.ـر.بات قلبه المتسارعة. حاول إغماض عينيه، لكن كلما فعل ذلك، عادت صورها إلى ذهنه، حالتها المنهارة، الكلمـ.ـا.ت التي تفوهت بها، والخوف الذي زرعته في قلبه.
كان عقله مشوشًا، يدور حول الأحداث التي وقعت منذ ساعات قليلة. تذكر المكالمة المفاجئة التي تلقاها من ابن عمه:
"عاصم، لازم تيجي حالًا على ميناء الإسكندرية! الوضع صعب جدًا، وفيه أخبـ.ـار سيئة عن أسرة همسة."
لم يكن هناك مجال للتفكير. ارتدى ملابسه على عجل، وركض نحو غرفة شقيقه معتز يطرق الباب بقوة:
"معتز، اصحى بسرعة! لازم تيجي معايا، في مصيبة حصلت."
ركبا السيارة، وقاد عاصم بسرعة جنونية، وكأن الطريق نفسه قد اختفى. لم يحسب الوقت، لم يهتم بالمسافة، كان كل ما يريده هو الوصول.
حين وصل إلى الميناء، خرج من السيارة مسرعًا، عيناه تبحث عنها بين الحشود. لكن ما رآه أوقفه في مكانه، وكأن الزمن تجمد حوله.
كان المشهد أشبه بالكابوس: الأهالي جالسون على الأرصفة، بعضهم يبكي بصوت عالٍ، والبعض الآخر جالس بصمت مميت، سيارات نقل الموتى مصطفة، والأجواء أشبه بمقبرة مفتوحة. الجو كان بـ.ـاردًا، ليس بفعل الطقس، بل بسبب الحزن الذي خيم على المكان.
تقدم بخطوات بطيئة، يجر قدميه كمن يسير في حلم ثقيل، حتى وصل إلى المكان الذي تخرج منه الأكفان. ما رآه هناك كان أقسى من كل ما تخيله.
رآها وهي منهارة على الأرض، جسدها يرتعش من شـ.ـدة البكاء، ورفيقتها تحاول السيطرة عليها لكنها عاجزة. عيناه اتسعتا، لم يستطع التحرك. كان واقفًا كالصنم، عاجزًا عن التفكير أو التصرف.
بقلم شروق مصطفى
نظر حوله، رأى وجوهًا غارقة في الحزن، العيون مشبعة بالقهر، الهموم مرسومة على ملامح كل شخص. كل شخص هناك فقد عزيزًا، كل شخص يحمل جزءًا من هذا الألم الثقيل الذي ملأ المكان.
لكن عينه لم تفارقها. كانت هي مركز كل ما يشعر به. كلمـ.ـا.تها الأخيرة قبل أن يغادر المكان ترن في أذنه كإنذار:
"مش عايزة أعيش من غيرهم... مش هقدر."
ظل ينظر إليها، خائفًا عليها أكثر مما كان خائفًا على نفسه.
وقفت سيلا بين الجثتين، كأن العالم من حولها قد توقف. كل ما فكرت به في تلك اللحظة كان احتضانهما ولو لمرة أخيرة قبل أن يفصلهما عنها التراب للأبد.
جثت على ركبتيها، حتى بات وجهها بمستوى وجهيهما، وعيناها تلتمعان بالدمـ.ـو.ع المتحجرة التي تأبى أن تنزل، وكأنها تخشى أن تتحرر وتغرقها أكثر في هذا الألم. لم تكن ترى أو تسمع شيئًا من حولها. انقطعت حواسها تمامًا عما يدور في المكان، وصمتت أذناها عن أصوات العويل والنحيب الذي يملأ الأجواء.
بدأت تهمس، بصوت أقرب للبكاء المكتوم، وكأنها تحاول إقناع نفسها أن ما تراه ليس حقيقيًا:
"أنا بحلم... صح؟ حد يصحّيني. الحلم طول أوي. أكيد ده حلم... أنتم ليه نايمين كده؟ افتحوا عينيكم! اصحوا! قولوا إنه مش حقيقي!"
مدت يدها المرتعشة لتلامس مقدمة رأس أبيها، ثم انزلقت يدها على وجنتيه، وكأنها تحاول إيقاظه. صمتت للحظات، ثم تابعت بصوت مكسور:
"مش بترد عليَّ ليه؟ ها؟ يا حبيبي... أنا سيلا، بنتك. رد عليَّ."
انتظرت لحظة، وكأنها تأمل أن تسمع صوته يجيبها، لكن الصمت كان سيد المكان. تمالكت نفسها قليلًا، ثم تحدثت بصوت يفيض وجعًا:
"انت لسه زعلان مني، صح؟ عشان شغلي... خلاص، والله مش هشتغل تاني! والله، بس انت اصحى... اصحى بقى! انت مش بترد ليه؟ ارجوك، رد..."
ابتلعت غصة ثقيلة عالقة في حلقها، ثم أكملت بصوت مرتعش:
"طيب... مين هيسندني دلوقتي لما أقع؟ مش كنت دايمًا تقول لي: أنا قوتك يا سيلا، وظهرك؟ صح؟ طيب، أنا محتجاك دلوقتي تقويني... أنا فعلا بقع. كنت مستنياكم، مستنياكم عشان أنتم اللي تقووني منه."
توقفت قليلًا، وكأنها تجمع بقايا قوتها، ثم تابعت ببحة اختلطت بالألم الذي بدا واضحًا على ملامحها:
"آه... منه..."
رفعت عينيها نحوه، كأنها تتحدث إليه مباشرة، ثم تابعت بصوت متقطع:
"أنا... مريـ.ـضة كانسر. آه، شوفت؟ شوفت وقعت إزاي؟ مين يقويني دلوقتي؟ مين يدعمني؟ انت علمتني القوة زمان، فاكر؟ لكن... لكن..."
توقفت، ثم أكملت بصوت يختنق بين الدمـ.ـو.ع:
"دلوقتي أنا ضعيفة... ضعيفة جدًا، ولوحدي. سبتوني ليه؟ قوم عشان ما تكسّرش قلبي من بعدك. قوم... عشان خاطري. طيب، كلمني... احـ.ـضـ.ـني بس... بس مرة واحدة! أنا... أنا بردانة..."
وهنا، انفجرت دمـ.ـو.عها أخيرًا، كأنها شلال جارف. لم تتوقف عن البكاء، وكأن الدمـ.ـو.ع كانت تجرف كل شيء معها، كل قوة أو تماسك قد حاولت التشبث به.
أخذت تتحدث بصوت مليء بالألم والوجع:
"طيب، بلاش أنا... طيب همسة؟ مين هيسلمها لعريسها؟ مين هيقول له: خلِّي بالك منها، ما تزعلهاش؟ مين يا بابا؟"
"حتى كلمة بابا... اتحرمت منها! سبتونا لمين؟ أااااااه!"
بقلم شروق مصطفى
صوتها كان كافياً ليهز أركان المكان، ليجعل الحاضرين يتوقفون عما يفعلونه وينظرون إليها. تلك الصرخة كانت أكثر من مجرد كلمـ.ـا.ت، كانت انكسارًا، كانت وجعًا لا تسعه الكلمـ.ـا.ت.
بدا وكأن صدى صوتها ينعكس على الجميع، كل من حولها شعر وكأن قلبه ينزف معها. دمـ.ـو.عها انهمرت كالسيل، وكأنها تحاول غسل ألمها، لكن الألم كان أعمق من أن يُمحى.
تركت سيلا والدها، وجثت بجانب والدتها المفترشة بجواره، نظرت إلى وجهها الجـ.ـا.مد وكأنها تترقب أن ينبض بالحياة مجددًا، لكن عبثًا. صمتت لحظات، ثم انطلقت كلمـ.ـا.تها وكأنها زفرات من نار تحرق قلبها، وعيناها تفيض بالدمـ.ـو.ع:
"وانتي كمان؟ رحتي معاه وسبتينا لوحدينا؟ لا عم، ولا خال، ولا قريب! مين هيسأل علينا بعدكم؟ مين هيطيب بخاطرنا ويمسح دمـ.ـو.عنا؟ ها؟ مين؟!"
أخذت نفسًا مرتعشًا وكأنها تحاول التقاط أنفاسها بين كلمـ.ـا.تها التي أثقلت الهواء من حولها، ثم تابعت بوجع لا يُحتمل:
"عمي؟ عمي اللي أكل حق بابا! عمره ما سأل علينا وانتو عايشين، وسبنا له كل حاجة يشبع بيها وجينا هنا!"
رفعت عينيها وكأنها تبحث عن إجابة من وجه والدتها الجـ.ـا.مد، ثم أردفت بصوت مشحون بالغضب والألم:
"ولا خالتي؟ خالتي اللي سابت البلد كلها وهاجرت من سنين وما بتسأل على حد؟ لا فيكم ولا فينا! طيب... مين؟ مين ينصحنا؟ مين يحبنا من قلبه زيكم؟"
توقفت للحظة، وكأن الكلمـ.ـا.ت تعجز عن الخروج من فمها، ثم تابعت بصوت خافت لكنه يقطر تعبًا وحسرة:
"مين ينصح همسة لحياتها الجديدة؟ مين يلبسها طرحة فستانها الأبيض؟ مين ياخدني أنا في حـ.ـضـ.ـنه...؟ أنام وأنا مطمنة زي زمان... مين يا ماما؟"
صوتها تهدج أكثر، وانخفض حتى صار أقرب إلى الهمس وهي تقترب من وجه والدتها، تمسح على وجنتيها البـ.ـاردتين وكأنها تحاول أن تبعث فيهما الحياة:
"ردي... ردي عليّ، عشان خاطري... قولي لي إنها كذبة، قولي لي إنك لسه هنا... قولي لي إنك مش هتسيبيني...'
وحين وصلت إلى هذه الكلمـ.ـا.ت، بدا أن عقلها قد بدأ يفقد اتزانه تمامًا. صوتها تحول إلى صراخ مكبوت، وأصبحت تهذي بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة. جسدها بدأ يهتز، وكأنها على وشك الانهيار الكامل.
أمسكت بها مي ، محاولًا تهدئتها، لكنها كانت تتلوى بين ذراعيه، تصرخ وتبكي، وكأنها تحاول اللحاق بهما بأي طريقة.... يتبع
بقلم شروق مصطفى
أقترب الجزء الأول على الأنتهاء
↚
"قولتيلي إنك مش هتسيبيني"
أمسكت مي بها بقوة وهي تحاول السيطرة على جسدها المرتعش بين ذراعيها، محاولًة تهدئتها بكل ما أوتيت من صبر وحنان. لكن سيلا كانت تتلوى كأنها تحاول الهروب من قبضتها، تصرخ بصوت مبحوح وتبكي بحرقة، وكأنها تسعى للحاق بأحبائها الذين فارقوها.
في هذه اللحظة، قطع صوت رفيقتها المشهد، كانت كلمـ.ـا.تها مليئة بالرجاء والحزم وهي تحاول أن ترفع سيلا من على الأرض:
"كفاية يا سيلا! أرجوكي فوقي، يلا بينا! حـ.ـر.ام عليكي اللي بتعمليه ده، انتي بتعذبيهم كده!"
لكن سيلا لم تكن تسمع، كان عقلها غارقًا في صدمته، وقلبها يرفض تصديق ما حدث. تمسكت بالمكان وكأنها تخشى أن يغادر من تبقى من أثرهم.
جذبتها مي بقوة محاولة أن ترفعها من الأرض، وهي تهتف بصوت ممتزج بالخوف والرجاء:
"يلا بينا يا سيلا، كفاية! حـ.ـر.ام عليكي اللي بتعمليه ده بتعذبيهم كدة."
لكن كلمـ.ـا.ت مي كانت كالشرارة التي أشعلت نارًا مستعرة بداخل سيلا. دفعتها للخلف بعنف، وكأنها تدافع عن بقعة الألم التي تحيط بها، وصرخت بهستيريا، صوتها يمزق السكون المحيط:
"ابعدي عني! مش هسيبهم! ولا همشي! والعذاب اللي أنا فيه ده إيه؟! ليه يا رب؟ ليه سبونا كلهم مرة واحدة؟!"
مي، التي كادت تنهار من ضعفها أمام هذا المشهد، صاحت بانهيار، تفقد كل ذرة تحمل بداخلها:
"حـ.ـر.ام عليكي! دي إرادة ربنا! فوقي بقى! أختك محتجاكي جنبها!"
لكن سيلا لم تكن تسمع. عقلها كان غارقًا في صدمة لا نهاية لها، وقلبها محطم لا يقوى على النبض سوى بالألم. بدأت تهلوس بكلمـ.ـا.ت غير مترابطة، تردد دون وعي:
"وأنا مين هيقف جنبي؟! مين؟!"
ثم توقفت للحظة، رفعت رأسها بعينين تغرقان في بحر الدمـ.ـو.ع، وقالت بصوت حاسم مليء بالرفض:
"لا! لا مش همشي غير وأنا معاهم! ياخذوني معاهم! أنا رايحة مكان ما يروحوا! مش هسيبهم أبدًا!"
جلست على الأرضية بينهم، وكأنها تريد أن تصبح جزءًا منهم، تمسكت بيدي كل منهم بقوة وكأنها تخشى أن يرحلوا مرة أخرى. أغمضت عينيها وهي تشهق بصوت عالٍ، تناجي ربها بصوت متهدج:
"يااااارب! خدني! سايبني لمين؟ مليش حد بعدهم! خدني وريحني من العذاب! أنا كده كده ميتة... لو ما متش دلوقتي، أكيد هموت منه! خدني دلوقتي وريحني يا رب!"
ظل جسدها ينتفض بعنف، شهقاتها تتردد في أرجاء المكان، ودمـ.ـو.عها تنهمر بلا توقف. لم يكن في الأفق سوى ألمها المتصاعد وصدى دعواتها التي تحمل استسلامًا كاملًا أمام حجم الفقدان الذي دمر كيانها.
ظل واقفًا كتمثال جـ.ـا.مد، عيناه مثبتتان على سيلا التي أفترشت الأرض بجانب أحبائها الراحلين، تناجي الموت وتطلب الخلاص بصوت ينزف ألمًا. مشهدها المكسور والضعيف، وهي تنام بين جثامينهم كأنها تبحث عن دفء رحل معهم، كان أشبه بسكين يخترق صدره. شعر بنغزة في قلبه، ألم لا يوصف، بينما تردد كلمـ.ـا.تها ودعواتها للموت في أذنيه كطعنة متجددة.
نظرات الأهالي من حولهم كانت مثقلة بالآهات، كل منهم يحمل جرحًا خاصًا به، غارقًا في حزنه وصمته. أحدهم قلب كفيه في الهواء وقال بخفوت:
"ربنا يصبرك يا بنتي."
وآخر تمتم بحزن:
"لا حول ولا قوة إلا بالله... إنا لله وإنا إليه راجعون."
بينما امرأة جلست قرب جثمان زوجها وأخيها، تغرق في دمـ.ـو.عها، تهز رأسها وتقول:
"الصبر من عندك يا رب... صبرنا على ابتلاءنا."
أما الأب الذي جلس قرب جثمان ابنته وزوجها، تاركين طفل لم يتعدّ الخمس سنوات، فقد بدا كتمثال صامت، يشهد موت روحه مع فقد ابنته الوحيدة.
وسط هذا الحزن الثقيل، اقترب بخطوات مترددة عنـ.ـد.ما رأى سيلا تدفع مي بعيدًا عنها وهي تصرخ بجنون:
"سيبيني! مش هقوم! مش همشي! سامعة؟! ابعدي عني! أنا رايحة معاهم! سيبيني بقى!"
حاولت مي مرة أخرى أن ترفعها عن الأرض، لكنها دفعتها بشـ.ـدة وكادت تنام مجددًا بجانب أحبائها، وكأنها ترفض مغادرتهم. عندها تقدم بسرعة وأمسك ذراعيها، وقف أمامها بحزم، وصوته يمزج بين الصراخ والرجاء:
"هشش! خلاص! اهدي! مفيش داعي اللي بتعمليه ده! انتي بتعذبيهم بصراخك ودمـ.ـو.عك! ادعيلهم، هما شهداء، فاهمة؟! دول في الجنة! جايين من بيت الله، فوقي بقى!"
ظل يهزها محاولًا أن يوقظها من غيبوبتها العاطفية، لكنها نظرت له بعينين غارقتين بالدمـ.ـو.ع وقالت بصوت متحشرج مليء بالانهيار:
"ملكش دعوة بيا! ابعد عني! أنا لازم أروح معاهم! هما محتاجيني، وأنا محتاجاهم! سيبني أروح لهم!"
بدأت تضـ.ـر.به بصدره بعنف، لكن يديها المرتعشتين لم تكن تحمل سوى اليأس، وهو لا يزال ممسكًا بذراعيها بإصرار. حاولت الإفلات منه وهي تصرخ:
"ابعد عني! لازم أروح معاهم!"
احتضنها فجأة بقوة، وكأنه يحاول أن يطوّق كل ألمها بين ذراعيه، وقال بصوت مملوء بالحنان:
"هش... ششش... خلاص! هوديكي عندهم... حاضر! بس اهدي، ممكن؟ عشان خاطري، اهدي وهعملك اللي انتي عاوزاه."
ظل يربت على رأسها برفق، يهمس لها كلمـ.ـا.ت طمأنينة في أذنها:
"اهدي... كلنا معاكي، محدش هيسيبك. أنا سندك، أمانك، وقوتك بعد النهارده. مش هسيبك أبدًا."
اقترب أكثر وهمس لها بصوت مرتعش:
"أنا مصدقت إني رجعت للحياة تاني، عاوزة تسيبيني انتي كمان؟ لا يمكن أسيبك تضيعي مني... فاهمة؟"
شعر بجسدها ينهار بين يديه، وكأنها استكانت أخيرًا. نظرت له بعينين نصف مغمضتين قبل أن تغرق في النوم، أنفاسها تهدأ تدريجيًا. حملها بين ذراعيه بحذر وكأنها قطعة زجاج هشة، ثم غادر المكان الذي غمره الحزن والآهات، حاملًا معها وعدًا بأن يبقى بجانبها دائمًا، مهما اشتد الألم.
وصل حينها الى سيارة وليد، حيث كان في انتظاره. أوقف السيارة ببطء، ثم أدار رأسه للخلف ليتأكد من حالة شقيقتها تبدو وكأنها فاقدة الوعي تمامًا، شاردة لا تبدي أي استجابة لما يحدث من حولها.
وجه نظره لوليد وسأله بقلق:
"هي ساكتة ليه؟"
تنهد وليد وقال بصوت خافت:
"لسه راجعين من المستشفى... هحكيلك كل حاجة، بس بعدين."
أشار عاصم لمي، التي كانت خلفه، وقال بحزم:
"مي، كلمي حد من أهلهم وبلغيهم اللي حصل. أنا ومعتز هنخلص باقي الإجراءات وهحصلكم."
ثم وجه كلامه لوليد:
"روح معاهم يا وليد، ما تسبهومش لحد ما نخلص احنا."
غادر عاصم ومعتز لإنهاء الإجراءات الضرورية، بينما بقي وليد مع الفتاتين.
مي نظرت إلى سيلا التي بدت وكأنها قد استسلمت للنوم هربًا من الواقع المؤلم. دمـ.ـو.عها جفت على وجنتيها، وصوتها اختفى تمامًا. ثم التفتت إلى همسة، التي كانت تجلس في صمت مطبق، ملامحها جـ.ـا.مدة وعينيها تحملان صدمة عميقة. قالت مي بخيبة أمل:
"أهلهم؟!"
لكنها لم تضف أي كلمة أخرى، وفضلت الصمت.
---
↚
عنـ.ـد.ما عاد عاصم من شروده على صوت إغلاق باب السيارة بعنف، أدرك أنهم قد وصلوا أخيرًا إلى المنزل الذي تقطن فيه العائلة المنكوبة. نزل من السيارة بتثاقل، يتبعه معتز الذي رمقه بنظرة ساخرة قائلاً:
"صحي النوم، لسه بدري!"
رد عاصم بنبرة تنم عن إرهاق شـ.ـديد:
"مش فايقلك... يلا بينا نطلع نشوفهم."
تنهد معتز بحزن واضح، وهز رأسه قائلاً:
"يلا بينا."
صعدا معًا إلى الطابق الذي يقطن فيه أهل الفاجعة. كانت الأجواء ثقيلة والكآبة تخيم على المكان. الباب مفتوح، وصوت القرآن الكريم يصدح بهدوء عميق، يبعث شعورًا مزيجًا بين الرهبة والتعزية. طرق عاصم الباب عدة مرات بخفة، حتى أطلت مي من الداخل وفتحت لهم الباب. بدت شاحبة، لكنها قالت بهدوء يشوبه التعب:
"اتفضلوا، ادخلوا."
دخلا إلى الصالة الخارجية وجلسا بصمت لبعض الوقت، قبل أن يسأل عاصم بسرعة، وقد بدا القلق على وجهه:
"وليد فين؟"
أشارت مي بيدها نحو الداخل وقالت:
"دخل يغسل وشه في التواليت."
نظر معتز إليها، وسألها بنبرة قلقة:
"إنتوا عاملين إيه دلوقتي؟"
تنهدت مي تنهيدة طويلة تحمل في طياتها كل الألم وقالت:
"زي ما إحنا... سيلا نايمة، أو بتحاول تهرب من اللي حصل بالنوم."
ثم صمتت لوهلة، قبل أن تتابع بصوت مرتجف بالكاد يُسمع:
"وهمسة... مش بتتكلم، ولا حتى بتعيط. خايفة عليها أوي."
تبادل عاصم ومعتز نظرات مليئة بالأسى والقلق، صمت ثقيل حل بينهما وكأن الكلمـ.ـا.ت باتت عاجزة عن وصف ما يجول في خاطريهما.
قطع عاصم الصمت فجأة ووجّه سؤاله لمي بنبرة حادة:
"أنا مش شايف حد من أهلهم جا. محدش بلغهم باللي حصل ولا إيه؟"
أجابت مي بأسف وحزن بالغين:
"للأسف... مالهمش حد غير ربنا دلوقتي."
نظر كلاهما إليها بذهول. أراد عاصم أن يقول شيئًا، لكن صوته انقطع فجأة مع دخول بعض الجيران الذين جاؤوا لتأدية واجب العزاء بعد أن علموا بالخبر الفاجع.
ابتسمت مي بمرارة وهي ترحب بهم قائلة:
"اتفضلوا هنا."
ثم أشارت لهم إلى غرفة مجاورة قائلة:
"استريحوا هنا، هجيبلكم حاجة تشربوها."
دخل الجيران الغرفة، وجلسوا بصمت، بينما انشغلت مي بتقديم الضيافة. الجو العام كان ثقيلًا ومفعمًا بالحزن، وكأن الجميع قد شعر بثقل الكارثة التي حلّت بهذه العائلة الصغيرة.
جلس وليد بجانب عاصم ومعتز، مستفسرًا بصوت مثقل بالقلق:
"عملتوا إيه؟"
أجابه معتز وهو يشيح بنظره بعيدًا وكأنه يحاول كتم حزنه:
"خلصنا... أخذنا تصريح الدفن ودفناهم على صلاة الظهر."
كان في صوت معتز نبرة تعب وألم. عاصم بدوره لم يستطع كتمان قلقه، فوجه نظره إلى ابن عمه وسأله بصوت خافت يعكس الإرهاق الذي يثقل كاهله:
"حصل معاك إيه هناك؟ رحتوا المستشفى ليه؟"
تنهد وليد بعمق، وكأنه يحاول ترتيب أفكاره قبل أن يتحدث. أخذ نفسًا طويلاً ثم أخرجه ببطء، وبدأ في سرد ما حدث. قال بصوت يحمل مزيجًا من الحزن والاضطراب:
"الدكتور قال إنها فاقدة للنطق بسبب صدمة نفسية شـ.ـديدة. جايز تكون فاهمة اللي بيحصل حواليها، لكن مش قادرة تواجهه. فاختارت عدم الكلام كطريقة للهروب أو لإنكار الموقف كله."
ساد الصمت للحظات، وكأن الكلمـ.ـا.ت أثقلت المكان بحزنها. حاول عاصم أن يخفف من وطأة المشهد، لكنه لم يجد كلمـ.ـا.ت كافية، فاكتفى بالنظر إلى وليد، يتأمل عمق الألم في عينيه، وكأن الحديث الذي دار للتو جعل المشاعر أعمق من أن تُقال.
عادت والدة مي، نبيلة، مساءً من السفر بعد اتصال مستعجل من ابنتها فور وصولهم إلى المنزل، تُخبرها بضرورة حضورها لتكون إلى جانبها، فقد أصبحت بحاجة ماسّة إليها.
عنـ.ـد.ما دخلت نبيلة إلى المنزل، هرعت مي إليها دون تردد. أغلقت ذراعيها حول والدتها وانهارت في حـ.ـضـ.ـنها، تاركة دمـ.ـو.عها تسيل بلا توقف، كأنها وجدت أخيرًا ملاذًا يخفف من ثقل ما رأته وعاشته. شهقت مي وسط بكائها، تشكو بحزن عميق:
"ما تسبنيش لوحدي تاني... خليكي جنبي... أنا خايفة... خايفة أوي..."
ربّتت والدتها على رأسها بحنان، وعانقتها بقوة كأنها تحاول بث الطمأنينة داخلها. قالت لها بصوت يحمل كل دفء الأمومة:
"مالك يا ضنايا؟ إيه اللي تعبك؟ قوليلي يا بنتي، حقك عليا، أنا هنا، مش هسيبك تاني أبدًا."
لكن مي لم تستطع الرد، وظلت تتمسك بوالدتها بقوة، كأنها تخشى أن تبتعد عنها ولو للحظة.
حاولت نبيلة التخفيف عنها وهي تقول:
"أنا جنبك، مش هسيبك. اهدي يا حبيبتي، خليني أفهم منك الأول."
بعد فترة من البكاء والاحتضان، خرجت مي من أحضان والدتها، وعيناها تلمعان بدمـ.ـو.ع غزيرة. نظرت إلى والدتها وقالت بصوت مكسور:
"حشـ.ـتـ.ـيني و أوي يا ماما."
ابتسمت نبيلة بحزن وهي تمسك وجنتي ابنتها وتقبلها:
"وإنتِ كمان يا عين ماما... كل ده عشان كده؟ بطلي دراما بقى وقوليلي، مين دول؟" وأشارت إلى الثلاثة رجال الجالسين في الغرفة.
مسحت مي دمـ.ـو.عها بكفها كالطفلة وقالت بخجل:
"ده واحد منهم خطيب همسة... نسيتِ ولا إيه؟ والباقي ولاد عمه، منهم واحد ظابط اللي..."
قاطعتها والدتها سريعًا وهي تلوّح بيدها:
"آه، صح افتكرت. طيب، أنا هروح أشوف البنات، وإنتِ قومي حضّري لهم حاجة يشربوها."
ردّت مي بصوت تعب وإرهاق:
"حاضر... تعالي أوصلك الأول."
لم يلاحظا أن حديثهما هذا كان يُراقب بصمت من معتز، الذي كان ينظر إلى مي بنظرات تحمل ألمًا وحسرة. كان قلبه يعتصر لرؤيتها خائفة هكذا، متمنّيًا لو كان هو الملاذ الذي تجد فيه أمانها بدلاً من الخوف الذي سبّبه لها سابقًا.
أخذت نبيلة ابنتها إلى غرفة همسة، على أمل أن تكون أقرب لها فتساعدها على كسر صمتها والخروج من حالتها.
في الخارج، تحدث عاصم بصوت متعب:
"هنعمل إيه دلوقتي؟ الوقت اتأخر."
أيده وليد وهو ينظر إلى ساعته:
"فعلاً، يلا بينا. أكيد هما محتاجين يرتاحوا بعد اليوم الطويل ده."
وقف عاصم مؤيدًا كلامه، لكن معتز ظل جالسًا مكانه، وكأنه في عالم آخر، غير منتبه لما يحدث حوله. اضطر عاصم إلى التدخل، فهزّه قائلاً بحدة ممزوجة بالمرح:
"يا بني، قوم بقى! يلا نمشي، إيه التناحة دي؟"
نهض معتز أخيرًا على مضض، وتحرك الثلاثة نحو باب المنزل، تاركين خلفهم ذكريات يوم مليء بالألم والإنهاك.
أفاق معتز من شروده على صوت أخيه عاصم، الذي كان ينظر إليه بنفاد صبر وقال:
"ها، بتقولوا إيه؟"
نظر عاصم إلى معتز وواصل بحدة:
"يلا يا عم، إنت جاي تحب وتسرح هنا؟ وقتك ده أصله!"
تردد وليد قليلاً، وكأنه يبحث عن ذريعة للبقاء، ثم قال:
"طيب نستنى شوية، نسألهم الأول لو محتاجين حاجة!"
تنهد عاصم، ثم جلس مرة أخرى على الكرسي وقال:
"ماشي، هنستنى مي تخرج ونسألها، وبعدها نمشي. تمام؟"
انفرجت أسارير معتز قليلاً، فقد كان يريد فرصة أخيرة للاطمئنان عليها قبل الرحيل.
في هذه الأثناء، تقدمت نحوهم مي وقالت بلطف:
"تشربوا قهوة؟"
رد معتز بسرعة وكأنه تايه في ملامحها الحزينة التي زادت عينيها بريقاً:
"ياريت..."
لكنه لم يكن يريد القهوة بقدر ما كان يريد البقاء لدقائق أخرى لرؤيتها.
نهض عاصم فجأة، وسحب معتز من يده قائلاً:
"لا، تسلم إيديك. إحنا هنمشي. كفاية كده. نسيبكم ترتاحوا، وبكرة نعدي عليكم. محتاجين حاجة؟"
هزت مي رأسها بالنفي مع ابتسامة ضعيفة بالكاد وصلت إلى شفتيها وقالت:
"لا شكراً، تعبناكم معانا طول اليوم. تنورونا أي وقت."
توقف وليد قبل المغادرة وسأل بقلق:
"همسة... لسه مفيش جديد؟"
تنهدت مي وقالت بأسى:
"للأسف، لسه مش بتتكلم. وكمان سيلا نايمة ومفقتش من الصبح. يمكن بتهرب بالنوم. أنا خايفة عليهم أوي."
حاول وليد أن يطمئنها قائلاً:
"النهارده كان يوم صعب عليهم. خليكي جنبهم، وبكرة إن شاء الله نكون موجودين. مش هنسيبهم غير لما الأزمة دي تعدي على خير."
هزت مي رأسها بحزن وهمست:
"خير إن شاء الله... يارب."
غادروا وهم يلقون السلام عليها، فردت بابتسامة باهتة، ثم أغلقت الباب خلفهم بهدوء.
عادت إلى الداخل، تاركة والدتها مع همسة، ثم دخلت إلى غرفة سيلا. تسطحت بجانبها، واحتضنتها بحنان. نظرت إلى وجهها الشاحب الذي اكتسى بالحزن، ثم أغمضت عينيها وغطت في النوم بجانبها، منهكة من أحداث اليوم الطويل.
---
في الخارج، كان عاصم يوبخ معتز قائلاً:
"والله ما عندك ذرة دم واحدة! قلنا هنستنى شوية ونسألها، وانت قاعد مبلم! كمان تقول ياريت قهوة؟ مش شايفها مش قادرة توقف؟!"
رد معتز بنبرة هادئة كأنه غير مهتم بالتوبيخ:
"بصراحة، كنت عاوز فنجان قهوة تاني من إيديها. أول واحد شربته دخل مزاجي، وكنت عاوز أختم بيه يومي. فيها إيه يعني؟"
بقلم شروق مصطفى جمر الجليد
اغتاظ عاصم وزفر بغضب:
"البعيد مش بيحس! مش شايفها مش قادرة تفتح عنيها أصلاً؟ وإنت تقول عاوز تختم بيه كمان؟! إحنا في إيه ولا في إيه يا بني آدم!"
تدخل وليد ليفصل بينهما وقال بابتسامة صغيرة:
"خلاص يا عاصم، سيبك منه. عارف أخوك تافه، مش هتخلص منه. بقولكم إيه، أنا همشي أسبقكم. يلا سلام، أشوفكم هناك."
ركب وليد سيارته وانطلق، تاركاً عاصم ومعتز يتشاجران.
نظر عاصم إلى معتز بسخرية وقال:
"يلا يا بتاع المزاج، سوق خلينا نروح نرتاح شوية."
قاد معتز السيارة، ولحقا بوليد حتى وصلوا جميعاً إلى المنزل. توجه كل منهم إلى غرفته الخاصة، وخلدوا إلى النوم، لكن الحزن ظل جاثماً
كانت سيلا تتوسط بساتين غنّاء، محاطة بزهور تفوح بأروع العطور وأشجار مثقلة بفواكه غريبة ذات مذاق لا يُقاوَم. الأطفال كانوا يمرحون بجانب مياه عذبة تتلألأ تحت أشعة الشمس، بينما يلهو شاب يشع وجهه نورًا مع فتاة ذات جمال ملائكي ترتدي فستانًا أبيض واسعًا كأنها إحدى حوريات الجنة. كانا يضحكان ويلعبان مع الأطفال، يملأ المكان فرحًا وسعادة.
لكن فجأة توقفا عن اللعب والتفتا للخلف، كأنهما ينتظران أحدًا. ابتسم الشاب ابتسامة صافية ومد يده قائلاً بحنان:
"سيلا، تعالي... حشـ.ـتـ.ـيني و ."
كانت سيلا تقف على مسافة، غير مصدقة ما تراه. اقتربت ببطء، عيناها متسعتان من الدهشة، ولمست وجنتيه بخوف كأنها تخشى أن يختفي. قالت باندهاش وهي تتفحص ملامحه:
"بابا؟... إنت بجد؟"
ابتسم لها الشاب، ثم ردت الفتاة بجانبه بصوت دافئ وابتسامة هادئة:
"سيلا، حبيبة ماما، تعالي في حـ.ـضـ.ـني."
احتضنها الاثنان بحب ودفء، وبدأت الأم تهمس لها بحنان وهي تلمس وجنتيها بلطف:
"خلي بالك من نفسك يا قلبي... إحنا هنفضل حواليكي في كل مكان. خلي بالك من أختك همسة، ومـ.ـا.تزعلنيش منك تاني، يا روحي."
لكن بعد لحظات، بدأ الاثنان يبتعدان عنها ببطء، محاولين أن يفلتوا من عناقها، بينما هي تتمسك بهما بقوة. صرخت بصوت مفعم بالرجاء:
"لا، لا... مـ.ـا.تسبونيش لوحدي! خليكوا معايا شوية، محتجاكم أوي... ملحقتش أشبع منكم!"
ابتسم الوالدان بحب وحنان وهما يبتعدان، والأب يكرر بصوت مطمئن:
"خلي بالك من همسة، همسة يا سيلا... خلي بالك منها."
بكت سيلا بحرقة، تركض للأمام في محاولة للحاق بهما، لكن كلما اقتربت منهما ابتعدا أكثر، كأنهما يتلاشيان تدريجيًا. استمرت في الصراخ:
"ماما! بابا! لا... مـ.ـا.تمشوش! خدوني معاكم... عايزة أعيش معاكم هنا!"
لكن الوالدين لم يتوقفا، وظلا ينسحبان للخلف، يداً بيد، حتى اختفيا تمامًا بين بساتين الجنة، تاركين سيلا وحيدة.
توقفت سيلا في مكانها، تنظر حولها بيأس، تبحث عن أي أثر لهما، لكن لم تجد أحدًا. سقطت على ركبتيها ودمـ.ـو.عها تنهمر بغزارة، تردد بصوت مخـ.ـنـ.ـوق:
"ماما... بابا... مـ.ـا.تسبونيش..."
وظلت تناديهما، صوتها يملأ الفراغ من حولها، لكن دون جدوى.
بقلم شروق مصطفى
استفاقت سيلا من حلمها المثقل بالذكريات، وقلبها يعتصر ألماً. فتحت عينيها المنتفختين من أثر البكاء الذي أثقل جفونها منذ الأمس. جلست ببطء، وضمت ركبتيها إلى صدرها، ودفنت رأسها بين قدميها وهي تعانق نفسها بحزن شـ.ـديد. أخذت تحدث نفسها بصوت متهدج، كأنها لا تزال تحاول تصديق ما حدث:
"كده تسبوني لوحدي؟! أعمل إيه دلوقتي؟ أقضي حياتي وحيدة من غيركم إزاي؟"
توالت الأفكار داخل رأسها، ذكرياتهم، أصواتهم، لمساتهم، كل شيء بدا بعيداً وكأنه لم يكن سوى حلم. شعرت بمرارة الفقدان تعتصر قلبها، ولم تستطع أن تمنع نفسها من الانهيار مرة أخرى.
انفجرت بالبكاء، صوتها مكتوم داخل الغرفة التي غلفها الصمت.
فجأة، شعرت بيد دافئة تربت على كتفها. رفعت رأسها ببطء، وقد غيمت دمـ.ـو.عها على الرؤية، محاولة تبين من يواسيها. كانت مي، رفيقة دربها وصديقتها الأقرب، التي دخلت الغرفة دون أن تشعر بها سيلا، وجلست بجانبها. احتضنتها مي بقوة، وكأنها تحاول أن تطوقها بكل الحنان الذي افتقدته، وقالت بحزن وعيناها تلمعان بالدمـ.ـو.ع:
"قلبي معاكي يا حبيبتي."
انهارت سيلا داخل أحضانها أكثر، كأن مي كانت طوق النجاة الوحيد في بحر أحزانها. تشبثت بها بشـ.ـدة، كأنها تخشى أن تفقدها أيضاً.
بعد لحظات، أبعدتها مي قليلاً عن حـ.ـضـ.ـنها، لكنها أمسكت يديها بقوة تبث لها الثقة والأمان. نظرت في عينيها الرماديتين التي أطفأ الحزن بريقهما، وقالت بحزم ممزوج بحنان:
"سيلا، إنتي أقوى من كده... فوقي يا حبيبتي!"
كانت سيلا تستمع، لكنها بدت وكأنها في عالم آخر، غارقة في ألمها وغير قادرة على النهوض. أخذت تهز رأسها بالنفي ببطء، غير مصدقة أن لديها القوة للاستمرار.
شـ.ـدت مي يديها أكثر وقالت بجدية أكبر:
"مفيش حاجة اسمها لا! أنا مش بس صديقتك، إحنا أكتر من إخوات، فاهمة؟ لازم تكوني قوية عشانك، طيب... حتى لو مش عشانك، عشان همسة! همسة يا سيلا محتجاكي أوي. فقدت النطق، وانتي العلاج الوحيد ليها. لو انتي وقعتي، هي كمان هتقع. انتو لازم تقووا بعض."
تنهدت مي وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تكمل:
"حبيبتي، أنا مش بقولك متزعليش، أكيد إحنا كلنا زعلانين ومقهورين، مفيش أغلى منهم. بس الحزن لوحده مش هيغير حاجة. دي إرادة ربنا، وسنة الحياة. ناس بتموت وناس بتتولد، الحياة بتكمل، واللي بيفضل هو اللي في قلوبنا. بس همسة محتجاكي يا سيلا. لو انتي وقعت، هي كمان مش هتقدر تكمل."
توقفت سيلا عن البكاء فجأة، وكأن كلمـ.ـا.ت مي اخترقت جدار حزنها السميك. بدأت تعيد كلمـ.ـا.ت مي في رأسها مراراً:
"همسة محتجاكي... فاقدة النطق... لو وقعتي، هي كمان هتقع... خلي بالك من همسة..."
ربطت بين كلمـ.ـا.ت مي والحلم الذي رأته. ظلت تردد داخلياً:
"خلي بالك من همسة... همسة يا سيلا... همسة محتاجاني..."
فجأة، تركت يدي مي، ورفعت رأسها بسرعة. نطقت بصوت متهدج، كأن الكلمة خرجت رغماً عنها:
"همسة!"
↚
ربطت بين كلمـ.ـا.ت مي والحلم الذي رأته. ظلت تردد داخلياً:
"خلي بالك من همسة... همسة يا سيلا... همسة محتاجاني..."
فجأة، تركت يدي مي، ورفعت رأسها بسرعة. نطقت بصوت متهدج، كأن الكلمة خرجت رغماً عنها:
"همسة!"
تراجعت مي ونظرت بدهشة بسبب تركها المفاجئ: "اهدي، همسة في أوضتها وماما معاها، ما سبتهاش."
وقفت سيلا ومسحت دمـ.ـو.عها المتبقية: "ط... طيب، أنا رايحة أشوفها."
ثم خرجت إلى الخارج.
في الغرفة المجاورة، استيقظت همسة باكرًا. نظرت بجانبها واستجمعت ذاكرتها حتى تذكرت هوية النائمة بجانبها. كانت بالأمس قد غفت لعالمها الخاص، تتمنى أن تجد ما تبحث عنه في منامها، لكن دون فائدة.
نهضت بهدوء حتى لا توقظها، وجلست أمام المرآة، وأمسكت المشط لتسرح شعرها كما تفعل والدتها حين تراها تفعل ذلك. ظلت تبتسم بين الحين والآخر للمرآة، تتذكر والدتها وهي تمشط شعرها وتقول:
"همستي حبيبتي، يلا نحضر الفطار."
فتجيب همسة بابتسامة: "حاضر يا ماما، أسرح شعري وجاية على طول."
تدخل الأم بابتسامة حنونة، تأخذ المشط منها وتبدأ بتمشيط شعرها:
"أنا بحب أسرحلك شعرك أوي، بحس إنك لسه في عيوني الطفلة الصغيرة اللي مش بتعرف تسرح. عارفة نفسي في إيه؟ نفسي ألبسك طرحتك، طرحة فستانك الأبيض بإيدي كمان. ياااه، إمتى ييجي اليوم ده؟"
خجلت همسة من كلمـ.ـا.ت والدتها وابتسمت دون أن ترد.
ضحكت الأم ضحكة صافية وأمسكت وجنتيها بحب، قبل أن تقبلها وتقول:
"الله على الطماطم اللي على الصبح. يلا يا هانم، تعالي حضري الفطار معايا. بابا مستني بره، وسيلا هروح أصحيها حالاً."
تركتها الأم وخرجت. ابتسمت همسة على مداعبتها، لكنها سرعان ما عادت لتحدق في المرآة ودمـ.ـو.عها لم تتوقف. انتبهت فجأة ليد أحدهم تمشط شعرها بحنان، نظرت إلى صاحبة اليد فوجدتها أختها سيلا.
كانت سيلا قد دخلت الغرفة ووجدتها تجلس أمام المرآة، تبتسم وتدمع، ممسكة فرشاة الشعر دون أن تمشط شعرها، فقط تائهة في عالم آخر.
أخذت سيلا المشط من يدها وبدأت تمشط شعرها من أعلى لأسفل في صمت.
تركتها همسة تمشط شعرها، لكن ابتسامتها لم تصل لعينيها، إذ كانت مليئة بوجع وألم العالم أجمع. أما سيلا، فكانت تمشط وتنظر مباشرة إلى عيني همسة، متجاهلة انعكاسهما في المرآة.
توقفت سيلا فجأة، وضعت المشط جانبًا، ثم جثت على ركبتيها حتى تكون على نفس مستواها. أمسكت وجنتي همسة بيديها الاثنتين ونظرت في عينيها قائلة:
"همستي حبيبتي، أنا مليش غيرك دلوقتي. انتي أختي، وصديقتي، وحبيبتي، وكل حاجة. ملناش غير بعض."
صمتت للحظة ثم أكملت همسة بصوت مبحوح:
"عاوزاكي تخرجي كل اللي جواكي أنتِ عارفة...
توقفت لبرهة وهي تبتلع ريقها بصعوبة، ثم تابعت بصوت خافت ممتزج بالدمـ.ـو.ع التي حاولت جاهدة كتمانها:
"عارفة إن بابا وماما مبسوطين أوي."
قالت الكلمـ.ـا.ت وهمسها يحمل شجنًا عميقًا، لكنها تابعت محاولة كسر الصمت الذي يغلف المكان:
"آه والله، بجد مبسوطين... وهما معانا وحوالينا، بس بروحهم. حاسين بينا وبِكِ... وزعلانين مننا، شوفتي؟"
حاولت رسم ابتسامة رغم الوجع الذي يعتصرها، ثم أضافت:
"مش عاوزاهم يزعلوا مننا. أنا شوفتهم... رجعوا صغيرين، وكانوا في مكان زي الجنة. حواليهم أطفال وضحكتهم كانت مليا المكان."
نظرت لعينَي أختها، وحاولت جذبها للخروج من قوقعة الألم، فأمسكت بيديها وضغطت عليهما بحنان، قائلة:
"آه والله، بجد... وسألوني عنك، كانوا زعلانين أوي."
كانت همسة تستمع بصمت، ملامحها مزيج من الإنكار والتأثر. فجأة، انزلقت من على الكرسي وجلست على الأرض، ثم احتضنت سيلا وبكت بانهيار، بأنات مؤلمة:
"آآآآآآآه... يعني مش هشوفهم تاني؟ أنا تعبانة أوي... أوي!"
شهقت شهقات متتالية، ثم أضافت بصوت متقطع:
"كان نفسي أشوفهم... أوي."
قطعت سيلا كلمـ.ـا.تها وهمست إليها بحنان وهي تمسح على شعرها:
"راحوا للأحن منا يا حبيبتي. أنا شوفتهم والله... مبسوطين وفرحانين، بس زعلانين مننا. عاوزين نعمل حاجة تفرحهم... إيه رأيك؟ نعمل صدقة جارية ليهم."
هزت همسة رأسها بالموافقة وهي تبكي:
"موافقة... طبعًا موافقة."
في هذه اللحظة، انتبهتا لصوت غلق الباب. التفتتا نحو الصوت بنظرات مدهوشة، ثم بادرت همسة بقولها وكأنها تذكرت شيئًا:
"دي طنط نبيلة! كانت نايمة جنبي!"
نظرت إلى سيلا بقلق وأضافت:
"يا خبر! أكيد ازعجناها. طيب... يلا بينا نخرج لهم بره. عيب يفضلوا لوحدهم."
نهضت همسة بتردد، بينما أسندتها سيلا بحنان وخرجتا معًا لملاقاة من في الخارج.
خرجوا إلى غرفة الطعام ليجدوا مي ووالدتها قد أعدتا الفطور. تقدمت نبيلة نحوهم بابتسامة حنونة، ثم أمسكت وجنتيهما بحنان وقالت:
"حبايبي الحلوين، آسفة لو كنت أزعجتكم. أنا خرجت عشان أسيبكم براحتكم. وإن شاء الله تكون آخر الأحزان يا رب."
سيلا: "يا رب يا طنط."
وجهت نبيلة حديثها لهمسة:
"وانتي يا حبيبتي، عاملة إيه دلوقتي؟"
همسة بخفوت: "الحمد لله على كل حال."
مي بصوت شبابي مليء بالمرح:
"تعالوا! حضرت لكم الفطار من صنع إيديا يا بشر، يا رب يعجبكم!"
قالتها مي محاولة التخفيف من أجواء الحزن، وأيضًا لأنها لاحظت أنهم لم يأكلوا شيئًا منذ الأمس، خاصة سيلا التي تعاني من الأنيميا، وكان موعد جلستها العلاجية اليوم، لكنها لم تكن تعرف كيف تتصرف في الأمر.
هتفت نبيلة بلطف:
"يلا يا بنات، قربوا نفطر سوا."
توجهت نبيلة نحو همسة وأمسكت بيدها بلطف:
"تعالي يا حبيبتي."
همسة برفض: "يا طنط، مليش نفس بجد."
نبيلة: "كُلي على قد نفسك، مش شايفة وشك أصفر إزاي؟ هزعل منك والله."
ذهبت همسة معها على مضض، وجلست بجانبها.
أما مي، فتوجهت لإحضار سيلا، لكنها وجدتها تسبقها قائلة:
"اعفوني أنا."
أمسكت مي بذراعها قبل أن تذهب وقالت:
"تعالي هنا، رايحة فين؟ تعالي وسطي عشان خاطر همسة... وعشانك."
ثم همست في أذنها:
"إنتي بتاخدي علاج ولا نسيتي؟ والجلسة كمان!"
رفعت مي صوتها قليلًا عند كلمة "كمان"، مما دفع سيلا إلى إسكاتها بسرعة:
"هشش! جايه خلاص. متجيبيش سيرة الموضوع ده تاني هنا، فاهمة؟"
قالتها بنبرة تحذير، ثم أضافت همسًا:
"أنا غلطانة إني قولتلك من الأول."
جلس الجميع على المائدة، والصمت خيم على المكان، إلى أن قطعته مي بمحاولتها إدخال بعض المرح:
"أحم! مل قولتليش... إيه رأيكم في الفطار اللي أنا عملاه كله بنفسي؟" قالتها بتفاخر.
رفعت سيلا رأسها ونظرت لها بنصف عين، ثم صمتت وبدأت تفتت الجبن بالشوكة دون اهتمام.
همسة بابتسامة رقيقة: "تسلم إيدك يا حبيبتي، جميل."
لكن مي لم تستسلم، فنظرت إلى سيلا وقالت بمرح:
"ها يا سيلا؟ ما قولتيش رأيك!"
نبيلة بنبرة محاولة تهدئتها: "بس يا بت، سيبيهم يأكلوا."
سيلا برفع حاجبها:
"رأيي في إيه بالظبط؟ ده جبنة وعيش وشاي وخيار! عملتي إيه بالظبط عشان الفرح ده كله؟"
مي بتفاخر مدعية المرح: "الله! ما تكسفنيش بقى... ده اللي بعرف أعمله! كفاية إحساسي ولمساتي."
نبيلة وهي تضحك: "يخيبك! قال لمسات قال! هتتجوزي إزاي بلمساتك دي؟"
سيلا بابتسامة ساخرة وهي تنهض: "يبقى نسكت أحسن ولا إيه؟"
اقتربت سيلا منها بخطوات وكأنها ستضـ.ـر.بها، مما جعل مي تدعي الخوف وتختبئ خلف والدتها:
"خلاص! خلاص! يا ماما دي هتضـ.ـر.بني!"
عادت سيلا إلى مكانها وجلست وهي تبتسم، مما أضفى جوًا من المرح على الجلسة وجعل الجميع يضحك. لكن قبل أن ينهوا الفطور، دق جرس الباب، ليعلن عن حضور شخص غير متوقع.
نهضت مي لتفتح الباب، لكنها توقفت فجأة عنـ.ـد.ما وجدت رجلًا متقدمًا في العمر، اكتسى رأسه بالشيب. تطلعت إليه بتوجس، إذ لم ترتح لنظراته التي تفحصتها من أعلى رأسها حتى أسفل قدميها. ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة قبل أن يتحدث بلهجة ثقيلة:
"إيه؟ مش هتخليني أدخل يا بنت أخويا؟ ولا هقف كتير على الباب؟"
لم ينتظر إذنها، بل تخطاها ودخل إلى الشقة وكأنه في بيته. وقف يتأمل المكان بنظرات مريبة، وكأن كل تفصيلة تشـ.ـده وتثير فضوله، حتى انتبه على صوت سيلا الذي ناداه باندهاش:
"عمي؟!"
توقف مكانه، متفاجئًا بردة فعلها، ثم نظر إليها بتأنٍ قبل أن يرد ببطء:
"انتي مين بقى؟ سيلا ولا همسة؟"
تقدمت سيلا نحوه بحذر، تاركة بينهما مسافة آمنة، وقالت بجمود:
"أنا سيلا." وأشارت نحو أختها: "ودي همسة أختي."
هز رأسه وكأنه يحاول استيعاب الموقف، ثم أضاف بفضول:
"أمممم، أمال مين ال..."
لكن سيلا قاطعته بإشارة إلى مي ووالدتها قائلة:
"دي صاحبتي مي، ودي مامتها."
صمت الرجل للحظة، ثم عادت نظراته تتجول في المكان قبل أن تتوقف عند سيلا التي بدت متعجبة من طريقة حديثه. لم تستطع كتمان غضبها وسألته مباشرة:
"إيه يا عمي؟ مش هتعزينا ولا لسه في أسئلة كمان؟"
تدارك الرجل نفسه بسرعة، وأخذ يعيد ترتيب ملامحه إلى مظهر أكثر لطفًا وقال بصوت مفتعل الحنان:
"لا طبعًا، تعالوا في حـ.ـضـ.ـني يا حبايبي، يا ولاد الغالي."
اقتربت سيلا ببطء منه، تمنت داخليًا أن تجد في حـ.ـضـ.ـنه شيئًا من دفء والدها، أن تشتم رائحته أو تشعر بالنـ.ـد.م في عينيه عن أخطاء الماضي. لكنها لم تجد سوى برود غريب وجفاء يخلو من أي أمان، وكأن حـ.ـضـ.ـنه كان مليئًا بالشوك لا بالدفء. ابتعدت عنه دون أن تنبس بكلمة.
نبيلة التي شعرت بالتـ.ـو.تر في الجو، استأذنت بلطف وقالت:
"بعد إذنكم، يلا يا مي تعالي معايا نحضر الغداء."
ثم أمسكت بيد ابنتها وسحبتها معها إلى المطبخ، تاركة سيلا وهمسة مع عمهم.
مي وهي تهمس لوالدتها: "ماما، أنا مش مطمنة للراجـ.ـل ده."
نبيلة بموافقة: "وأنا قلبي اتقبض أول ما حـ.ـضـ.ـنهم. ما شوفتيش نظرته كانت عاملة إزاي؟ زي اللي لقى كنز وفرحان. بس اللي مستغرباله... عرف إزاي؟"
مي وهي تفكر: "يا ماما، دي حادثة كبيرة. أكيد عرف من التلفزيون أو الراديو. بيذيعوا في النشرات عن أسماء المتـ.ـو.فين."
نبيلة بعد تفكير: "آه، صحيح. فاتتني دي."
بينما كانت مي تساعد والدتها في المطبخ، بدأت تروي لها ما سمعته من صديقتها سيلا مسبقًا:
"ماما، سيلا كانت حكت لي قبل كده إن عمها ده نصب على أبوها زمان، وطرده من البلد. بصراحة، أنا مش مرتاحة لوجوده هنا. ربنا يستر ويبعد عنهم كل شر."
نبيلة تنهدت وقالت: "يا رب، الله يحميهم."
في تلك الأثناء، كانت سيلا تدعو عمها للجلوس في غرفة الصالون. أشارت له بلطف إلى أحد المقاعد وقالت:
"اتفضل يا عمي."
دخلت همسة وجلست بجانب أختها، لكنها بقيت صامتة، إذ لم تكن تتذكر عمها جيدًا بسبب صغر سنها عنـ.ـد.ما انتقلت العائلة إلى القاهرة.
ابتسم الرجل وحاول أن يفتعل الحنان ليكسر الحاجز بينه وبينهن. بدأ حديثه قائلاً:
"عارفين يا بنات، أبوكم الله يرحمه، كنا دايمًا مع بعض زي التوأم. ما كناش بنفارق بعض أبدًا، لولا يوم ما قرر فجأة يسيب البلد وينقل للقاهرة. كان شايف إن الشغل هناك مع أصحابه أفضل. أنا اتحايلت عليه يفضل ويشاركني في شغلنا، لكنه أصر يا ربنا يرحمه بقى... في الجنة إن شاء الله."
قالت سيلا وهمسة بصوت واحد: "إن شاء الله."
هز رأسه موافقًا ثم أكمل قائلاً:
"بصراحة، مراتي كانت نفسها تيجي معايا النهارده، بس هي تعبانة شوية. وبتقولي كل يوم إنها نفسها تشوفكم. وقالت لي إنكم لازم تيجوا تعيشوا معانا هناك. أنتم عارفين... القعدة هنا لوحدكم، وأنتم بنات في السن ده، مش أمان. والطمع في البنات كبير اليومين دول. فما رأيكم؟ تعالوا، هتنبسطوا أوي عندنا."
نظرت سيلا إليه بحذر وردت بحزم:
"الصراحة، يا عمي، إحنا منقدرش نسيب البيت هنا. ده مكاننا، وإحنا متعودين عليه. وبصراحة ما نعرفش حد هناك."
ابتسم ابتسامة مصطنعة وقال:
"إيه الكلام ده يا بنتي؟ أمال أنا فين؟ مرات عمك فين؟ ومحمود، ابني، ما شاء الله عليه، شاب ناجح وكسيب. بيدور على بنت الحلال، وبصراحة شايف إن بنت عمه أحق من أي واحدة تانية!"
تجمدت سيلا وهمسة في أماكنهما، مذهولتين من كلمـ.ـا.ته. تبادلتا النظرات بصمت، بينما أكمل الرجل حديثه بفرحة داخلية عنـ.ـد.ما لم يبديا اعتراضًا مباشرًا:
"بصوا، بما إنكم هتعيشوا معايا أنا ومرات عمكم وابني محمود، عندي كمان اقتراح. البيت ده كبير أوي، وفي حي راقٍ، وما شاء الله ديكوراته تحفة. رأيي نبيع البيت، وكل واحد ياخد نصيبه، ويحط فلوسه في البنك أو يشغلها معايا لو حبيتوا."
ظل ينظر حوله في أرجاء المنزل بنظرات طامعة، وكأنه يقيّم قيمته المادية.
سيلا، التي كانت تراقبه بنظرات حادة وغير مفهومة، أدركت نواياه الخبيثة. لكنها لم تتحدث، بل فضلت الانتظار لترى كيف سيتصرف لاحقًا.
لم يتمكن الرجل من إكمال كلامه، إذ فجأة وقفت سيلا أمامه بغضب وعينان تشتعلان بالنار:
"نبيع إيه يا راجـ.ـل؟ كبرت وخرفت ولا إيه؟ عيد اللي قولته تاني!"
وضعت يديها على خصرها ونظرت له بحنق شـ.ـديد قبل أن تضيف بحدة:
"قول بصراحة إنك جاي وراسم على الكبير، بلا أخويا، بلا توأمك، وبلا جو الحنية اللي نزل عليك فجأة ده. ما كفكش زمان لما أكلت حقه؟ دلوقتي جاي تاكل حق اليتامى كمان؟! يكش تخجل على سنك يا راجـ.ـل، هتقابل ربنا بأي وش؟! واه لو بابا سابلك زمان نصيبه، دلوقتي نجوم السما أقربلك. أنا لحمي مرّ، ما تعرفنيش، ومش هتاخد حقنا، فهمت؟"
↚
رد عليها بغضب وصوت عالٍ، وقد احمر وجهه من شـ.ـدة الانفعال:
"إنتي قليلة الأدب! أخويا للأسف معرفش يربيك. احترمي نفسك، وشوفي بتكلمي مين!"
زاد غضب سيلا وارتفع صوتها أكثر، لتخرج تمامًا عن سيطرتها:
"هكون بكلم مين؟ واحد نصاب! نصب على أبويا زمان وجاي ينصب علينا تاني. فاكرنا لسه عيال ولا إيه؟!"
ثم هدأت قليلًا لكنها واصلت بنبرة أكثر ثباتًا وحزمًا:
"ده أنت حتى ما افتكرتش أخوك غير لما مـ.ـا.ت. وجاي تورثه دلوقتي كمان؟ نصيب مين يا أبو نصيب؟ بجاحتك؟!"
ابتسم ابتسامة مليئة بالحقد والخداع، ثم قال بنبرة تحذيرية:
"إنتي ما ت عـ.ـر.فيش إن ليّا نصيب في الورث يا شاطرة ولا إيه؟ أخويا مـ.ـا.ت، وما فيش غيري أخوه الوحيد، وأنتم مجرد بنتين. يبقى ليّا ورث كمان. أنا قلت تعيشوا معانا عشان أسهل الأمور، لكن لو مش عاوزين، براحتكم. بس نصيبي أنا مش هسيبه، بالرضا أو بالغصب، هآخده، فاهمة؟"
بينما كانت الأجواء متـ.ـو.ترة وصوت النقاش يتصاعد بين سيلا وعمها إبراهيم، دلف عاصم ووليد إلى الغرفة. كانا قد وصلا قبل بضع دقائق، وجلست مي معهما في غرفة مجاورة، لكنهما لم يستطيعا البقاء صامتين أكثر عنـ.ـد.ما بدأت الأصوات تعلو.
دخل الاثنان الغرفة في محاولة لتهدئة الوضع، إلا أن وجودهما زاد الطين بلة. تقدم عاصم بخطوات ثابتة ومعه وليد، وألقى التحية:
"السلام عليكم."
انتبه إبراهيم إليهما، وبدت على وجهه علامـ.ـا.ت الغضب والاستهزاء. نظر إليهما نظرة ساخرة وقال بحدة:
"آه، قولولي كده! عجباكم القعدة هنا ورجّالة داخلة وطلعة! ما أنتم مش لاقيين اللي يلمكم بقى!"
ثم أشار إليهما بإصبعه وهو يسأل بسخرية:
"وإنت مين وإنت مين بقى إن شاء الله؟"
لم ينتظر ردًا، بل التفت مجددًا نحو الفتيات ونظر لسيلا وهمسة بنظرات متسلطة وهو يشير إليهما بسبابته:
"ما يهمنيش مين، اسمعوا كلامي. تلمّوا حاجتكم اللي هنا وتيجوا معايا. ده آخر كلام. وانتي..."
وأشار لهمسة التي كانت ترتعد من صوته المرتفع:
"ابني هيكتب كتابه عليكي أول ما نوصل إسكندرية."
هب وليد فجأة وأمسك إبراهيم من ياقة قميصه بغضب هادر:
"كتب كتاب مين على مين يا راجـ.ـل يا خرفان؟! همسة دي مراتي! فوق واعرف بتقول إيه! البيت ده محترم، والناس اللي فيه محترمة، ومحدش هيخرج من هنا غيرك!"
ثم دفعه بقوة باتجاه الباب.
تدخلت سيلا، وقد اشتعل الغضب في صوتها:
"ملكش حاجة عندنا! ده شقا بابا لوحده! وانت زمان أخذت حقه بالكامل. انسى إن ليك حاجة هنا. خلص الكلام! يلا برا!"
نظر إبراهيم إليهم بنظرات مليئة بالخبث والوعيد، ثم قال وهو يتجه نحو الباب:
"مش أنا اللي يتقاله يلا، وحقّي مش هسيبه!"
رد عليه عاصم بصوت بـ.ـارد، لكنه يفيض بالتهديد:
"اعلى ما في خيلك اركبه."
ثم خطا عاصم للأمام واضعًا يده داخل جيب بنطاله، ونظر لإبراهيم بنظرات مميتة أشبه بنظرات وحش يوشك على الانقضاض.
تساءل إبراهيم بغضب وهو يشير إليه:
"وأنت مين تاني؟! شكلها فتحتها سبيل هنا! اللي داخل واللي خارج!"
ابتسم عاصم بسخرية وهدوء قـ.ـا.تل قبل أن يقول بصوت عميق:
"أنا مين؟ هقولك أنا مين... عملك الأسود."
ثم أضاف بلهجة حازمة مليئة بالوعيد:
"وأنت ما تعرفش أنا ممكن أعمل إيه. اللي لازم تعرفه، إنك وقعت مع اللي هيخلّيك تنـ.ـد.م إنك جيت هنا أصلاً."
ثم أشار عاصم للفتيات بيده وقال بصوت حاد وهو يشـ.ـدد على كلمـ.ـا.ته:
"البيت ده ومَن فيه... من ممتلكاتي. وحط تحت الكلمة دي ميت خط أحمر. فاااهم؟"
صدمت سيلا من كلمـ.ـا.ته، ورفعت عينيها نحوه بنظرات متسائلة وغير مفهومة، وهمست لنفسها:
"ممتلكاته؟! ده اتجنّن ولا إيه؟!"
أما إبراهيم، فقد توعدهم بنبرة مليئة بالكراهية والغضب:
"وأنا هعرف أتعامل مع أشكالكم دي! وهعرف أجيب حقي، فاكرني هخاف من شوية عيال زيكم؟! هتشوفوا هعمل إيه!"
ثم غادر الغرفة بعصبية، وأغلق الباب خلفه بقوة جعلت الجدران تهتز.
جلست سيلا على أقرب مقعد، غير قادرة على استيعاب ما حدث للتو. أهذا هو عمها؟ الرجل الذي من المفترض أن يكون مكان والدها، يحميهم من غدر البشر؟ بدلاً من ذلك، بدا وكأنه يريد أن ينهش حقوقهم مثل غيره.
استسلمت سيلا لذكرياتها، وعادت إلى الوراء، إلى أيام طفولتها عنـ.ـد.ما كانت في المرحلة الإعدادية. كانت على دراية بما حدث لعائلتها قبل انتقالهم إلى القاهرة، تلك اللحظات التي طبعت في ذاكرتها رغم صغر سنها.
تذكرت والدها محسن محمد أحمد، الرجل الذي عاش سنوات صعبة في ظل شقيقه إبراهيم. كانا يعيشان في الإسكندرية، في منزل ورثاه عن والدهما. كان المنزل مكوّنًا من طابقين، كل طابق عبـ.ـارة عن شقة واحدة، بنظام البناء القديم. عاش إبراهيم في الطابق الأول مع عائلته، بينما احتل محسن الطابق الثاني مع زوجته نرمين وابنتيه الصغيرتين، سيلا وهمسة.
لم يكن محسن مرتاحًا للبقاء في هذا الحي، خاصة بعد أن أنجب البنات. كان يخشى عليهن بسبب الأجواء المحيطة؛ تجمعات الشباب التي تحدث ليلاً عند مدخل المنزل، وتعاطيهم للمواد المخدرة، والمشاكل التي كانت تفتعلها زوجة شقيقه، إضافة إلى تصرفات ابن شقيقه السيئة ومرافقة أصدقاء السوء.
وفوق ذلك، جاءت فرصة ذهبية لوالدها للعمل مع أصدقائه المقربين في شركة حراسة. كانت هذه الفرصة بداية حياة جديدة، لكنه كان بحاجة إلى المال لبدء هذه الخطوة.
سرحت سيلا أكثر، وتذكرت ذلك اليوم الذي عاد فيه والدها إلى المنزل، مكتسيًا بالحزن والهم.
لاحظت نرمين زوجته ملامحه الكئيبة، فسألته بقلق:
"مالك يا محسن؟ في إيه؟ مرضاش ولا إيه؟"
جلس بجانبها بتعب، وظهرت في صوته نبرة منكسرة:
"شوفتي يا نرمين... أخويا، اللي من أمي وأبويا، عمل فيا إيه. روحت له وقلت له إني جالي شغل كويس في القاهرة، وعاوز أبيع الطابق بتاعي، على أساس إنه أولى من الغريب. هبّ فيا، وعلا صوته، وقالي: مالكش حاجة عندي. أبويا كاتبلي البيت كله بيع وشراء. ووراني عقد كده!"
صمت قليلًا، ثم أغمض عينيه وقد فرت دمعة على وجنته. مسحتها نرمين بحنو، لكنه تابع بصوت يملؤه الوجع:
"قالي لو كنت قاعد فيها لحد دلوقتي، يبقى ده ذوق مني. بس طالما عاوز تنقل، يبقى في سلامة من دلوقتي!"
توقف مرة أخرى، ثم تابع:
"أخويا يطردني من بيته؟ ومش عاوز يديني حقي؟! أخويا أنا! أنا..."
ظل يردد الكلمـ.ـا.ت دون استيعاب، حتى حاولت نرمين تهدئته:
"متزعلش نفسك يا محسن. يغور البيت والمكان كله. خليه يشبع بيه. يعني حد هياخد حاجة معاه؟ إحنا منقدرش نستغنى عنك. ربك كريم، ومش بيسيب حق حد. كلنا ماشين ببركته."
نظر محسن إليها بحزن:
"اللي وجعني مش البيت ولا الفلوس. الفلوس إحنا اللي بنعملها. اللي وجعني إنه باعني كده، على طول. ما سألنيش حتى محتاج إيه. عارفة؟ لو كان قالي إنه عاوز البيت ومش معاه فلوس دلوقتي، كنت والله سيبتهوله. بس ده ما أعطانيش فرصة حتى. دانا لو الغريب طلب مساعدة، ما بفكرش ثانية إلا وأساعده. ما بالك بأخويا؟ ليه الطمع والجشع ده عند الناس؟"
أنهى كلمـ.ـا.ته بوجع:
"إحنا خلاص... ملناش قعاد هنا. هو جاب الخلاصة، وحقّي عند ربنا. هو العادل، وهيجيب لي حقي حتى لو في سابع أرض."
ابتسمت نرمين بحنو وهي تمسك وجنتيه:
"اسمعني يا محسن. أنا عندي ذهب كتير مش بلبسه. نبيعه ونفك زنقتنا، لحد ما..."
قاطعها وهو يهز رأسه بحزم:
"مفيش داعي يا نرمين. ما تزعليش مني، لكن ذهبك أنا مش حمدّ إيدي عليه."
ابتسمت له بمكر:
"طيب اسمعني. أنا وإنت إيه؟ إحنا واحد. وأهو أنت قولت: ذهبي. وأنا عاوزة أدخل شريكة معاك. ولا مش عاوز شريكة زيي بقى؟"
ضحك رغم ألمه، وربّت على يديها بحب:
"حبيبتي... أحلى شريكة!"
وسط هذا الحوار الدافئ، سمعوا صوت شهقات خارج الغرفة. التفتوا ليجدوا سيلا الصغيرة واقفة عند الباب، وعيناها تلمعان بالدمـ.ـو.ع.
نادت نرمين عليها بقلق:
"سيلا؟ حبيبتي! أنت هنا من إمتى؟"
لم تجد سيلا كلمـ.ـا.ت ترد بها. كانت حزينة مما سمعته، وغير قادرة على استيعاب أن عمها سبب حزن والدها.
فجأة، انتبهت إلى صوت وليد يناديها بقلق:
"سيلا؟ أنت هنا؟"
لوّح بيده أمام عينيها حتى أفاقت من شرودها وقالت بصوت مرتبك:
"هاه؟ آسفة... كنت سارحة شوية."
جلست سيلا على الكرسي، تحاول استجماع شتات أفكارها بعد كل ما مرّ بهم. أمامها، كان عاصم يراقبها بصمت، ينظر إليها بنظرات ثاقبة وكأنه يحلل كل ما يدور في ذهنها.
التفتت فجأة عنـ.ـد.ما تحدث وليد:
"سيلا، كنت بقولك... هنعمل إيه في عمك؟"
ردت بثبات:
"ولا حاجة طبعًا. سيبك منه. ده احنا اللي عاوزين منه حق بابا زمان، اللي نصب عليه فيه، وبابا سابه وجينا هنا. لكن أنا مش هسيب له حاجة. واللي عنده يعمله."
ثم تابعت بنبرة جدية وهي تنظر مباشرة إلى وليد:
"المهم دلوقتي الكلام اللي هقوله لك. يمكن مش الوقت المناسب، لكن لازم يتعمل. ده لو أنت لسه على كلمتك."
نظر وليد إليها متسائلًا:
"قصدي إيه على كلمتي؟ وضحي."
تنهدت سيلا، وقالت مباشرة:
"عاوزين تكتب كتابك على همسة."
تفاجأت همسة التي كانت جالسة صامتة بجانبهم، ونطقت لأول مرة وهي ترفع رأسها:
"إيه!؟ إنتي اتجننتي يا سيلا؟"
نظرت إليها سيلا بحزم:
"أنا كنت هتكلم مع وليد في الموضوع ده قبل ظهور عمي، لكن كله جه مع بعضه."
هزت همسة رأسها نافية بشـ.ـدة، ودمـ.ـو.عها بدأت تتساقط:
"لا... لا... مستحيل."
أمسكت سيلا بيديها وربتت على وجنتها برفق:
"أسمعيني يا همسة. إحنا بنات لوحدنا في الدنيا دي، والناس معظمها ضمائرها مش حلوة زي عمك كده. لازم يكون لك ظهر قوي وأمان تحتمي فيه. وليد هو أمانك. وبعدين، أنا مش بقولك إنك تحتفلي أو تفرحي دلوقتي. إحنا هنكتب الكتاب هنا في البيت بس، وبعد الأربعين إن شاء الله، يعني لسه في وقت."
أخذت نفسًا عميقًا وأكملت:
"وبعدين، عمك لو رجع تاني، يلاقي راجـ.ـل موجود معانا يصده. فاهمة يا حبيبتي؟"
نظرت همسة إلى أختها الكبرى، ورغم الخجل والحيرة التي تملكتها، هزّت رأسها موافقة، ثم خفضت رأسها بخجل.
التفتت سيلا إلى وليد الذي كان يتابع المشهد بصمت، ثم قالت بحزم:
"اتفقنا يا وليد؟"
ابتسم وليد ابتسامة جذابة، ونظر إلى همسة التي لم ترفع رأسها:
"اتفقنا."
نهض عاصم واقفًا بجانب وليد، وقال بصوته الرخيم:
"نستأذن إحنا."
وبعد لحظات، غادر كلاهما المنزل، تاركين سيلا وهمسة وحدهما.
نظرت سيلا إلى أختها الصغيرة بحنان، ثم احتضنتها وربتت على كتفها قائلة:
"كله هيعدي إن شاء الله. أنا هدخل أرتاح شوية."
تركتها وهرولت إلى غرفتها، حيث أغلقت الباب خلفها. شعرت بتعب شـ.ـديد بعد كل ما تحمّلته أمام الجميع، وزاد الألم عند مغادرتهم. تناولت بعض المسكنات، ثم استلقت على السرير حتى غفت في نوم عميق.
---
في الخارج، غادر عاصم ووليد المنزل متجهين إلى الشركة لمتابعة أعمالهم.
مرّت الأربعون يومًا بسرعة، لكن الحياة داخل المنزل كانت تسير ببطء وكأن الوقت توقف. سيلا وهَمسة انعزلتا كل في غرفتها، بالكاد تتقابلان على مائدة الطعام. سيلا أصبحت حبيسة غرفتها، متكئة على المسكنات للتخفيف من آلامها، بينما همسة وجدت ملاذها في غرفتها الخاصة بالرسم، تغرق في لوحاتها وتخفي دمـ.ـو.عها خلف الريشة.
مي، صديقة سيلا المخلصة، بقيت بجانبهم منذ وفاة والدتهاما، ولم تترك المنزل، رافضة ترك سيلا تغرق في استسلامها. لكن سيلا كانت عنيدة، تواجه صديقتها ببرود متعب ونفاذ صبر.
"سيلا، انتي بتعملي كده ليه؟ ليه ضعيفة كده؟ أنا تعبت منك. مش شايفة حالتك وصلت لفين؟ انتي عايشة على السوائل، وأقل أكلة بتوجعك. طيب، لو مش عشانك، عشان همسة!"
سيلا رفعت صوتها قليلاً، وقد نفد صبرها:
"والله، يا مي، أنا تعبت منك ومن كلامك. أنا كده مرتاحة أكتر. سيبيني على حريتي شوية. آه، أنا بتألم، لكن باخد مسكن وخلاص. تعب الكيماوي ده فوق طاقتي، والله تعبت."
قالتها بصوت محمّل بالحسرة، وانهارت دمـ.ـو.عها على وجنتيها. أكملت بصعوبة:
"عارفة إحساس إنك تلمسي نار غصب عنك؟ مؤلم، صح؟ الكيماوي ده نفس الإحساس... نار جواكي بتحرقك، بتكويكي من الداخل. بصي شعري."
أشارت إلى خصلات شعرها التي أصبحت ضعيفة ومتساقطة، صمتت قليلاً قبل أن تضيف بصوت متقطع:
"يعني، أنا هعيش لحد إمتى؟! كلها أيام بنعيشها وخلاص. اللي كنت عايشة عشانهم راحوا وسابوني. مفيش دافع أتمسك به. دوافعي كلها انهارت."
نظرت إلى مي بعينين متعبتين وقالت:
"ولو على همسة، أنا مش هسيبها غير وهي متسندة على ظهر قوي يحميها ويحافظ عليها."
ردت مي بنبرة تحمل مزيجًا من الألم والرجاء:
"طيب، وأنا يا سيلا؟ مليش غلاوة عندك؟ عايزة تسيبيني وتمشي؟ طيب، اتعالجي عشاني أنا! ما تضعفيش!"
سيلا نظرت إلى صديقتها بعينين مليئتين بالحزن والاعتذار:
"أنا حاولت يا مي، بجد حاولت. بس مش قادرة. والله مش قادرة. محدش حاسس بالنار اللي جوايا. طاقتي خلصت، خلصت خلاص."
انهارت في حـ.ـضـ.ـن صديقتها، تبكي بحرقة. لم تستطع مي السيطرة على دمـ.ـو.عها هي الأخرى، واحتضنتها بشـ.ـدة، تبكي معها حتى غفت سيلا بين ذراعيها.
بعد أن تأكدت مي من نومها، أسندتها برفق على السرير، غطتها جيدًا، وأطفأت الأنوار بهدوء. غادرت الغرفة، وأغلقت الباب خلفها بحرص.
توجهت مي إلى غرفة همسة لتطمئن عليها. عنـ.ـد.ما فتحت الباب، وجدت همسة جالسة أمام لوحتها في غرفة الرسم. كانت عيونها مثبتة على اللوحة، ترسم وجهًا حزينًا مليئًا بالدمـ.ـو.ع. لم تكن بحاجة إلى كلمـ.ـا.ت، فقد رأت مي في الرسم انعكاسًا صادقًا للحزن العميق الذي يعتصر قلبها.
تركتها مي بسلام، أغلقت الباب بهدوء، وتوجهت إلى غرفة الجلوس حيث أجرت مكالمة هاتفية، صوتها منخفض، لكن حزمها كان واضحًا في الكلمـ.ـا.ت القليلة التي قالتها.
تلقي عاصم المكالمة، لكن سرعان ما ارتسمت علامـ.ـا.ت الغضب على وجهه بعد سماعه ما قيل له في المكالمة. كان جوابه مقتضبًا:
"تمام، أنا هتصرف، سلام."
بينما كانت الأحداث تتوالى، جاء دور رودينا التي جاءت لتؤدي واجب العزاء والاعتذار عما صدر منها في وقت سابق. تم قبول اعتذارها، لكن سيلا لم تعد كما كانت من قبل، ولم تعد تعود مع رودينا كما كان الحال في السابق.
انتهت الأربعون يومًا سريعًا، لتأتي اللحظة المنتظرة، يوم كتب الكتاب. كان الجو مشحونًا بالتـ.ـو.تر والترقب. حضر الجميع، عاصم، معتز، وليد، رودينا، ووالدة مي، وهيثم، ليشهدوا هذه اللحظة المهمة.
في الجهة الأخرى، كانت سيلا ومي داخل الغرفة، تحضران همسة وتجهيزنها لهذا اليوم الخاص. كانت همسة ترتدي فستانًا أبيض بأكمام طويلة، مع شريط وردي عند الوسط، والفستان كان واسعًا وجميلاً. والأمر المفاجئ الذي أسعد الجميع كان ارتداء همسة للحجاب، حيث اختارت الحجاب الوردي الذي يتناسب مع شريط الوسط في فستانها، وقررت عدم وضع أي مستحضرات تجميل.
بعد أن تم تجهيزها، خرجت همسة إلى المكان حيث كان الجميع ينتظر. تم استدعاؤها لتوقع على كتب الكتاب، وبالفعل قامت بالتوقيع، ليعلن المأذون رسمياً:
"بـ.ـارك الله عليكما، وجمع بينكما في خير."
بدأ الجميع في تهنئتهما، لكن قبل أن يغادر المأذون، توقف عاصم فجأة ومنع المأذون من الرحيل.
قال له:
"استنى يا شيخنا، في كتب كتاب تاني هيتعمل دلوقتي؟"
↚
عمّ الصمت المكان، وصُدم الحاضرون بشـ.ـدة، إذ تسمرت أنظارهم عليه في دهشة عارمة. استعاد الشيخ هدوءه وعاد إلى مجلسه قائلاً بصوت رزين:
على خيرٍ بإذن الله... أين العروس؟
وقف عاصم قبالة سيلا، ينظر إليها بثبات كأنه يبحث عن ردّ فعلها، ثم أطلق ابتسامة خفيفة قبل أن يقول بنبرة واضحة:
سيلا!
انصبت الأنظار جميعها على سيلا، التي جلست متجمدة في مكانها، غارقة في أفكارها، عاقدة العزم على إزالة كل العقبات التي تحول دون إتمام مخططها. لكنها سرعان ما انتبهت لصوت الشيخ وهو يكرر سؤاله: "أين العروس؟"، ولتلك النظرات والابتسامة الغامضة التي أطلقها عاصم نحوها.
تملكتها موجة من الغضب، فهبت واقفة كعاصفة هوجاء، وقد تملكتها الصدمة، ثم صاحت بنبرة حادة وشرر الغضب يتطاير من عينيها:
سيلا مين؟! أنا؟ ومع مين؟! أنت اتجننـ؟!
همّت بإكمال عبـ.ـارتها، لكن عاصم قاطعها سريعًا بصوت حازم موجّهًا حديثه للحضور:
بعد إذنكم يا جماعة... هستأذنكم آخذ سيلا ونتكلم لوحدنا.
ثم أمسك بيدها بحزم، وسحبها نحو الغرفة المجاورة دون أن يترك لها مجالًا للاعتراض.
ما إن أغلق الباب خلفه، حتى أفلتت يدها من قبضته بعنف، وقالت بغضب عارم وصوت مرتفع:
إنت إزاي تقول حاجة زي كده قدامهم؟! مين عطاك الحق في ده؟!
نظرت إليه بنظرات تتقد غضبًا وأكملت بصوت يقطر احتقارًا:
أنا وأنت؟! مستحيل يجمعنا أي شيء... فاهم؟!
توقفت للحظة، ثم أردفت بحزم لا يخلو من تحدٍّ:
إنت بتحلم! أنا مستحيل أوافق عليك، ولو كنت...
لم تتم عبـ.ـارتها، إذ تقدم نحوها بخطوات ثابتة، وكمّم فمها بيده، ثم دفعها بخفة إلى الحائط، واقترب منها متحدثًا بنبرة هادئة لكنها لا تخلو من الصرامة:
سيلا، صوتك مايعلاش، اسمعي الكلام مرة واحدة من غير عِند.
توقف لبرهة ينظر في عينيها، ثم أردف بثقة وهدوء قـ.ـا.تل:
إنتِ فاكرة إنك تقدري تلعبي اللعبة دي لوحدك؟ لا... أنا فاهم كل حاجة.
حاولت دفعه بيديها، ولكن بالنسبة لها كان أشبه بحائط صلب لا يتحرك، ولم يُبدِ أي اهتمام لمحاولاتها. اقترب أكثر، وصوته جاء هادئًا لكنه ممتلئ بالعاطفة:
صدقيني، اللي عملته ده هو الصح. أنا عملت كده عشانك... قبل أي حاجة تانية.
توقف لبرهة، ينظر في عينيها كأنه يحاول أن يخترق صمتها، ثم تابع بنبرة أكثر دفئًا:
مش هقولك "ادي فرصة لعلاقتنا يمكن يحصل وفاق"... لا. أنا عايز أبقى في ظهرك، عايز أرجعلك سيلا القوية اللي عرفتها زمان. إنما سيلا اللي قدامي دي... ضعيفة، مهزومة...
(رفع حاجبه قليلًا، وكأن كلامه أصابها مباشرة، ثم أكمل بصوت منخفض مليء بالعتاب):
عاوزة تستسلمي... للموت؟! لوحدك؟ وتسيبي المرض ينتصر عليك؟ ده اللي كنتي بتفكري فيه... مش كده؟
(لم تنتبه سيلا للدمعة الخفية في صوته، لكنه أكمل بحزم أكثر):
جوزتي أختك بسرعة عشان تبقي لوحدك؟ عشان محدش يحس بيكي وأنتِ بتستسلمي؟ صح؟!
(توقف لحظة ينتظر ردها، ثم اقترب أكثر، وقال بهدوء):
ردي عليا... أنا شفت ده في عنيكي... حسيته.
(نظر إلى وجهها بثبات، ثم تابع بصوت مملوء بالصدق):
سيلا، أنا اتغيرت كتير. مش عاوز منك حاجة غير إنك تثقي فيا... بس كده. وأنا هكون أمانك، وظهرك، وكل حاجة.
كانت كلمـ.ـا.ته مليئة بالحب والعشق، ليس مجرد حبٍ عابر، بل عشق يريد أن ينتشلها من ضعفها، أن يعيدها قوية كما عرفها. يريدها أن تواجه مرضها وتنتصر عليه، لكنه أدرك أن ذلك لن يحدث إلا إذا كان بجانبها، سندًا لها.
حاولت التملص منه مرة أخرى، تهز رأسها يمينًا ويسارًا رفضًا لكلمـ.ـا.ته، ولكن هذه المرة لم يقاومها. حرر يده من على فمها، وكأنه يريد أن يسمع منها الجواب الذي سيحسم كل شيء بينهما.
سيلا (بنبرة مشحونة بالرفض والوجع):
إنت... إنت فاكر إنك هتعرف تساعدني؟ إنت مين عشان تشيل اللي أنا فيه؟! ده أنا حتى مش عارفة أشيل نفسي!
(توقفت للحظة، ثم أكملت بنبرة مختنقة):
متحاولش معايا... أنا خلاص... تعبت. مش ناقصة حد يحسسني إني ضعيفة أكتر من كده.
(عينيها لمعت بالدمـ.ـو.ع، لكنها لم تسقط. حاولت أن تبدو قوية رغم انكسارها، لكن عاصم لم يتحرك خطوة. فقط نظر إليها بعينيه الممتلئتين بالحزن والحب، ثم قال بهدوء):
عاصم:
أنا مش هسيبك، حتى لو رفضتِ. مش هسيبك تدمري نفسك، ولا تستسلمي. أنا هنا، وهفضل هنا، غصب عنك وعن أي حاجة.
تراجعت سيلا خطوة للخلف، لكن كلمـ.ـا.ته اخترقت قلبها رغمًا عنها. شعرت وكأنها تواجه حربًا داخلية، لكنها أدركت أنه لن يتراجع بسهولة.
في الخارج جلس وليد بجانب همسة التي لم تصدق حتى الآن أن عقد قرانها قد كُتب. ظلت تنظر خجلًا إلى الأرض، وقد اختلطت في عينيها مشاعر الفرح والألم.
أخذ وليد ينظر إليها بابتسامة دافئة، سعيدًا برؤيتها ترتدي الحجاب، الذي لم يضف إليها إلا نورًا وجمالًا. كسر الصمت بينهما قائلًا بنبرة مفعمة بالإعجاب:
مبروك... الحجاب جميل أوي عليكي، ياريت تلبسيه على طول.
رفعت همسة رأسها قليلًا لتنظر إليه بابتسامة خجولة وقالت:
حلو بجد؟
أجابها، وعيناه تتلألآن بشـ.ـدة عشقه لها:
إنتِ اللي محلياه أكيد.
نظرت للأرض خجلًا من غزله الصريح، بينما امتلأت عيناها بالدمـ.ـو.ع التي حاولت أن تخفيها. شعر وليد بوجعها الداخلي، فاقترب منها وقال برفق:
همستي... هما أكيد حاسين بيكي وفرحانين ليكي. أنا واخدك بُكرة نزورهم... أنا وإنتِ، إيه رأيك؟
رفعت همسة رأسها بسرعة، وقد اشتعلت السعادة في عينيها:
بجد؟! نفسي أزورهم أوي... ربنا يخليك ليا يا وليد.
ابتسم وليد ابتسامة واسعة وقال:
ويخليكي ليا يا حبيبتي. قريب جدًا تنوري بيتك... كلها أسبوع، وتيجي تنورينا وتكملي حياتي. ساعتها نعمل عيلة صغيرة... أنا وإنتِ... قد كده!
ابتسمت له بخجل، ولم تستطع الرد.
---
على الجانب الآخر، جلس معتز وقد أخذت العصبية مأخذها منه، يهزّ ساقه بعنف في حركة لا تهدأ، وعيناه معلقتان بمي بنظرات ملؤها الغضب والوعيد. كلما جالت بخاطره أحداث ما جرى، أحس بغصة تخـ.ـنـ.ـق صدره وغيظ يعتصر قلبه. أما مي، فقد جلست بوقار يخفي في طياته انتصارًا واضحًا، نظراتها الموجهة نحوه كانت أشبه بتحدٍّ صامت، وكأنها تقول له دون أن تنطق: لا سبيل للحديث معها مرة أخرى.
متذكرًا ذلك الموقف السخيف، حاول معتز أن يقترب منها ويتحدث إليها، لكنه لم يجد الفرصة المناسبة. كانت مي دائمًا تتجاهله ببرود متعمد، وكأنما تسد كل أبواب الحوار بينهما. إلا أنه في تلك المرة الأخيرة، لمحها تسير على الرصيف أمامه. دون تردد، أوقف سيارته على الفور ونزل منها، متجهاً نحوها بخطوات ثابتة.
وقف في طريقها واضعًا يده في جيب بنطاله محاولًا أن يبدو متماسكًا، على الرغم من الغليان الذي كان يعصف بداخله. عنـ.ـد.ما اقتربت منه، استوقفه شيء في ابتسامتها، تلك الابتسامة الغامضة التي لا تخلو من تحدٍّ خفي. أخذ نفسًا عميقًا وقال بصوت هادئ، محاولًا أن يتحكم في نبرة حديثه:
"مي، لو سمحتي، خلينا نتكلم. تعالي نقعد في أي مكان ونتفاهم زي الكبـ.ـار. بلاش شغل أطفال."
كان يأمل أن تجد كلمـ.ـا.ته صدىً لديها، لكن ما حدث بعد ذلك تركه في حالة من الصدمة. تراجعت مي خطوة إلى الوراء، وبدون سابق إنذار رفعت صوتها عاليًا بشكل مباغت، قائلة:
"الحقوني!"
التفت الشباب الذين كانوا يجلسون على مقربة منهم بسرعة، وأشارت مي إلى معتز وهي تصيح بصوت واثق:
"بيتحرش بيا!"
ركضت مي بعيدًا بخفة، تاركة معتز في مواجهة موقف لم يكن يتخيله حتى في أسوأ كوابيسه. وقف في مكانه مذهولاً، وعيناه تتبعانها وهي تبتعد. غص حلقه بالكلمـ.ـا.ت، ولم يجد سوى جملة خرجت بصوت مبحوح:
آه يا بنت اللـ...!
لكن الأمر لم ينتهِ عند ذلك. الشباب الأربعة تقدموا نحوه والتفوا حوله بوجوه غاضبة. أحدهم قال بلهجة حادة:
مش جدعنة منك على فكرة.
لم يمنحوه فرصة للدفاع عن نفسه، وانهالوا عليه بالضـ.ـر.ب. أربعة شباب ضد واحد، حتى أن مي، التي ابتعدت قليلًا، التفتت لترى ما يحدث. شهقت بصوت مكتوم عنـ.ـد.ما رأت المشهد. وضعت يدها على فمها، لكنها لم تستطع منع نفسها من الابتسام داخليًا.
تركتهم يكملون ما بدأوه، واتجهت سريعًا نحو الصيدلية. اشترت المسكن وعادت إلى المنزل مهرولة، قلبها ينبض بالخوف من أن يراها مرة أخرى.
عاد للواقع وما زالت عيناه مليئتين بالتوعد، وكأنها رسالة خفية لا تحتاج إلى ترجمة. ظل يكرر الوعيد داخل عقله، منتظرًا الفرصة المناسبة للتحرك.
لاحظت مي الكدمة الزرقاء التي تلطخ أسفل عينه اليسرى، تلك العين التي لم تتوقف عن إرسال تهديدات صامتة نحوها. شعرت بضيق غريب في صدرها لا تعرف سببه، لكنها لم تستطع تجاهل شعور الخوف الذي تملكها. تسللت لتختبئ خلف شقيقها، وكأن وجوده يمنحها بعض الأمان من تلك النظرات التي بدت كأنها تخترق دفاعاتها.
قطع الصمت صوت معتز، موجّهًا كلامه نحو والدتها، وشقيقها الجالسين أمامه:
"أستاذ هيثم، مش كده؟"
ابتسم هيثم ردًا:
"صح، وأنت معتز، ابن عم وليد؟"
هز معتز رأسه بالإيجاب وأردف قائلاً:
"بالضبط... كنت حابب أكمل نص ديني أنا كمان. طنط نبيلة أكيد عرفتني الفترة اللي فاتت."
ونظر نحوها بنظرة تحمل الكثير من المعاني.
ردت نبيلة بابتسامة ودودة:
"أكيد يا ابني، الصراحة تتقال، أنت وقفت معانا وما سبتناش خالص. ربنا يبـ.ـارك فيك."
ابتسم معتز بخفة، ثم وجه حديثه لهيثم مباشرة:
"يشرفني إني أطلب إيد أختك على سنة الله ورسوله."
كانت الصدمة واضحة على وجه مي، حدقت فيه بدهشة وكأنها فقدت القدرة على النطق. حاولت التحدث، لكن شقيقها كان الأسرع:
"ده شرف كبير لينا، لكن الأصول إنك تطلبها من بيتها."
رد معتز بسرعة، وكأنه كان يتوقع الرد:
"ما عنديش أي مانع... شوفوا الميعاد اللي يناسبكم، وأنا أجي فيه."
نظرت له مي بضيق واضح، لكنه قابل نظرتها بنظرة تحدٍّ تحمل الكثير من الإصرار.
تحدث هيثم مع والدته بصوت منخفض، ثم التفت إلى معتز وقال:
"إيه رأيك على آخر الأسبوع الجاي؟ أنا أكون إجازة وقتها."
بدت الفكرة بعيدة جدًا بالنسبة لمعتز، فرد قائلاً:
"بعيد أوي... طيب خليها يوم الاثنين اللي بعد بُكرة."
ابتسمت نبيلة وقالت بلطف:
"اللي تشوفه يا بني."
ارتسمت على وجه معتز ابتسامة نصر واضحة، ثم نظر إلى مي نظرة سريعة، رفع خلالها إحدى حاجبيه في إشارة مليئة بالمعاني الخفية.
بعد ذلك، تبادلوا أرقام الهواتف للترتيب، بينما بقيت مي تنظر له بضيق لم تستطع إخفاءه.
ترك يده عن فمها لكي يسمع ردها، ولكن فجأة ثنت نفسها للأمام، وتلوّت من الألم، ثم سقطت على الأرض. همست بصوت ضعيف: "آه، هموت، مش قادرة... مسكن... مسكن بسرعة... مي... آه." بالكاد نطقت بها.
هرع خارجًا ينادي على صديقتها:
"مي، لو سمحتي، دقيقة واحدة."
جاءت إليه، وكان الاستفهام واضحًا على وجهها، ثم تحدث إليها بصوت منخفض:
"المسكن بسرعة."
ذهبت لجلب الدواء، ثم أحضرته ودخلت معه.
هرول إليها بعينين مليئتين بالقلق والخوف أثناء تناولها للدواء.
أعطتها مي الدواء، ثم ناولتها بعض المياه، لكنها ظلّت متألمة قليلاً، ثم هدأت تدريجيًا.
عاصم، بقلق ظاهر في صوته:
"حاسّة بإيه دلوقتي؟ أحسن؟"
تحاملت على نفسها قليلاً، ثم قامت لتحاول إنهاء هذا اليوم العجيب. نظرت إليه بنفاد صبر، وقالت:
"هكون أحسن فعلاً لو بعدت عني وسبتني في حالي، وانسيت كل الفيلم اللي قولته من شويه... مش عاوزة لا سند ولا ظهر، سندي مـ.ـا.ت، معنديش بديل، ابعدوا عني بس، وأنا هكون مرتاحة، مش عاوزة حد جنبي، أنا كده كويسة أوي."
أمسكها من يدها، لكنها دفعته بكلتا يديها، وبدأت تفقد السيطرة على نفسها. ظلّت تضـ.ـر.ب صدره ضـ.ـر.بات متتالية:
"مش بتفهم؟ ليه؟ ابعد عني بقى، مش عاوزة شفقة من حد، وخاصة منك أنت، مش عاوزة حاجة، سبوني لوحدي بقى."
↚
قالتها وهي تنهار، وقلبها ينبض بشـ.ـدة.
حزنت مي عليها، لكنها لم تعرف ماذا تفعل مع استسلامها هذا، فاستنجدت بعاصم وأخبرته بما تنوي فعله.
استفاقت من شرودها بعد مشاورة عاصم لها. تقدمت إليه وهمس في أذنها بشيء ما، ثم انصرفت بعد ذلك.
أطاعت ما قاله، وتركتهم، وانصرفت للخارج لتنفيذ ما طلبه منها.
أمسك يدها مرة أخرى محاولًا تهدئتها، لكنها دفعته بعيدًا قائلة بغضب:
"ابعد عني! ابعدوا عني! سيبوني لوحدي، جاي ليه دلوقتي؟ مش كنت بتبعديني عن حياتك وعن أختك؟ إيه حصل دلوقتي؟ أنا بكره شفقتك عليا، ملكوش دعوة بحياتي! أنا حرة أعيش ولا أموت!"
صمتت قليلاً تأخذ نفسًا عميقًا، ثم تابعت بغضب شـ.ـديد:
"ولو آخر راجـ.ـل، مش هكون ليك، سامع؟"
تركها تفرغ كل ما بداخلها، ثم تحدث أخيرًا بصوت هادئ:
"خلصتي؟"
نظرت له بدهشة من لا مبالاته بما قالته، وهزت رأسها بصمت إلى أعلى وأسفل.
عاصم، محاولًا الحفاظ على بروده:
"طيب، بصي بقى... خلاصة الكلام، طالما هنمشيها بعند، أنا مشيت الناس اللي بره تمام، لكن بطريقتك دي هتضطريني أعمل حاجات عقلك ده مش هيقدر يتوقعها!"
قال هذه الكلمـ.ـا.ت بجفاء، وتركها في حالة من التخبط والحيرة. ثم خرج بعد ذلك، وأغلق الباب خلفه بقوة.
انتفضت جراء غلق الباب المفاجئ، ثم جلست على أقرب كرسي لها، تحاول تهدئة نفسها قليلاً.
بعد لحظات، خرجت، لكنها لم تجد أحدًا في المكان سوى شقيقتها. يبدو أن الجميع قد غادروا، حتى مي!
جلست بجانبها، فانتبهت الأخيرة لها، ثم قامت سيلا بحـ.ـضـ.ـنها بحرارة وقالت:
"مبروك يا حبيبتي، ألف مبروك! كنتِ زي القمر النهاردة."
خرجت سيلا من أحضانها وهمست في أذنها:
"ت عـ.ـر.في هتوحشيني أوي... البيت هيبقى وحش أوي من بعدك."
خرجت همسة من أحضانها وقالت بصوت هادئ:
"طيب، ليه يا سيلا، ترفضي عاصم؟ هو هيصونك بجد، راجـ.ـل يعتمد عليه، شكله بجد بيحبك. ما شوفتش شكله لما خرج من عندك؟ كان عامل إزاي."
ابتسمت سيلا لها بحب وكأنها لم تستمع لكلمـ.ـا.تها، ثم أجابت:
"سيبك مني أنا دلوقتي، المهم عندي إنتي. كلها أسبوع وها تسيبيني. عاوزين نجيبلك الحاجات اللي ناقصاك، من أول بكره ننزل أنا وإنتي. إيه رأيك؟"
أجابتها همسة بابتسامة صغيرة.
عند مي كانت لا ترغب في الذهاب مع والدتها وأخيها، كانت تفضل البقاء معهم لتبيت عند رفيقتها. لكنها لم تفهم ما كان ينوي عاصم فعله.
فلاش باك
عادت مي بذاكرتها إلى ما حدث قبل رحيلها من منزل صديقتها.
بعد أن أمرها عاصم بشيء ما وانصرفت لتنفيذه، خرجت وقدمت اعتذارًا للمأذون وطلبت تأجيل كتب الكتاب، موضحة أنه سيتواصل معه لاحقًا.
استأذن المأذون وغادر.
بعد قليل، خرج عاصم من المنزل بوجهٍ لا يبشر بالخير.
نبيلة: "طيب يلا يا هيثم، نمشي، الوقت تأخر علينا."
هيثم: "يلا يا أمي، هتيجي معانا يا مي ولا حتقعدي؟"
همّت مي بالرد بأنها ستظل، لكنها بالكاد قالت: "أه، حف..." قبل أن يقاطعها عاصم بنبرة صارمة، قائلاً وهو ينظر إليها: "روحي معاهم يا مي، انتي."
نظرت له مي باستفهام وقالت: "بس... أأ...!"
قابل نظرتها بحركة رأسٍ إلى الأسفل، في إشارة منها إلى أن توافق دون نقاش.
ورغم عدم فهمها لما يجري، إلا أنها وافقت وذهبت معهم.
عودة من الفلاش باك
تنهدت مي داخل غرفتها، تدعو الله بتيسير أمورها، وهمست: "ربنا يستر من اللي جاي."
وفجأة خطر ببالها معتز، فتذكرت ما فعلته معه ونظراته المليئة بالتوعد. بدأت تضـ.ـر.ب كفًا بكف وتلطم على وجهها: "آآآاااع، شكله يخوف! يمامي ده هيموتني لما يجي! آآآاااع، لسه بدري عليا! يعني كان لازم أطلع فيها سبع رجـ.ـا.لة فبعض! لا، وجاي بعد بكره... اهئ اهئ!"
استمرت في لعن حظها الأسود من هذه المواجهة المنتظرة حتى استسلمت أخيرًا للنوم.
أما سيلا، فقد دلفت إلى الحمام لتأخذ حمامًا دافئًا يريح أعصابها بعد يوم طويل ومرهق. أنهت استحمامها ثم توجهت إلى غرفتها لترتاح قليلًا.
تمدّدت على السرير وهي تنظر إلى السقف، غارقة في التفكير بما حدث منذ قليل، مسترجعة كلمـ.ـا.ته الغامضة عن "أشياء غير متوقعة". رفعت يدها إلى أعلى رأسها وأطلقت تنهيدة عميقة: "آآآآه."
بينما كانت مستغرقة في التفكير، شعرت بحكة في رأسها. رفعت يدها لتتفقد ما هناك، فوجدت السوار الذي نسيته تمامًا. نفخت بضيق قائلة: "هف! نقصاك انت كمان! نسيتك خالص أصلاً، ومش حاسة بيك! ونسيت كمان أقوله يفكه. قال عاوز يتجوزني! يتجوز واحدة مريـ.ـضة؟ يعمل إيه بيها؟ أنا خلاص... مش حانفع لحد، لا ليه ولا لغيره."
همست بهذه الكلمـ.ـا.ت في حزن، ثم غفت للنوم مباشرة، منهكة من كل شيء.
صباح اليوم التالي
خرجت كل من همس وسيلا للتسوق وشراء ما ينقصهما. وبعد ساعات من التجول بين المحلات، تمكّنتا من إنجاز الكثير، لكن التعب بدأ يظهر عليهما، خاصة على سيلا.
قالت سيلا، وهي تشعر بالإرهاق: "آخر محل ونروح يا همسة، مش قادرة بجد."
ردت همس، التي بدا عليها التعب أيضًا: "خلاص، أنا كمان تعبت والله."
قالت سيلا: "طيب، أنا هدخل الأكياس اللي معايا العربية، وأبقى حصليني."
ردت همس: "خلاص، وأنا مش هتأخر."
حملت سيلا جميع الحقائب واتجهت نحو السيارة، لكنها تفاجأت بـ...
صباحًا، داخل إحدى شركات AM
ظل عاصم غارقًا في العمل، لكن عقله وقلبه لم يتركاها لحظة. تلك اللمسة الصغيرة منها، رغم بساطتها، كانت كافية لإعادته إلى الحياة، بعد أن كانت روحه صحراء جرداء بلا حياة. غير أن رفضها له كان كطعنة نافذة، أوجعت قلبه البـ.ـارد الذي لم يعرف يومًا معنى الرجفان، لكنه الآن يرتجف كأنه على وشك فقدان روحه للأبد.
تنهد بعمق، وأخرج نفسًا طويلًا، ثم تناول من جيب بدلته صورًا تخصها، كان يحتفظ بها منذ تلك المهمة التي جمعتهما. حدّق في الصور طويلًا، شارداً بما لا يُرى أمامه. أغلق على نفسه في مكتبه وألغى جميع مواعيده لهذا اليوم. وبينما هو حبيس أفكاره، أمسك هاتفه واتصل بوليد.
عند وليد
في تلك الفترة، كان وليد منشغلاً بتشطيبات الفيلا الجديدة التي يستعد للانتقال إليها مع معشوقته الصغيرة. لم يذهب للعمل، بل قضى وقته مع العمال، يتابع كل التفاصيل الصغيرة. هاتف همسة ليطمئن عليها، واتفق معها على الاتصال به بعد انتهائها وسيلا من التسوق، ليتقابلوا لاحقًا.
بينما كان يضع هاتفه جانبًا، وصله اتصال من عاصم. أجابه مبتسمًا:
"حبيبي! عامل إيه؟"
رد عاصم بنبرة جادة:
"الحمد لله. مش هتيجي الشركة النهارده؟"
وليد، بنبرة اعتذار:
"صعب أوي والله. طول النهار حكون مع العمال بيخلصوا كام حاجة ناقصة. وبالليل هقابل همسة. نزلت مع سيلا يجيبوا شوية حاجات ناقصاهم."
صمت عاصم لبرهة، ثم قال مفكرًا:
"طيب تمام. وانت رايح لهم، كلمّني. جاي معاك، بس متقولش إنّي جاي!"
رد وليد، مستعجلًا لإنهاء المكالمة:
"تمام، ماشي. سلام بقى، عشان حد بينادي عليّ من العمال."
أغلق عاصم الهاتف، بينما في داخله كان القرار قد حُسم. اليوم، سيُغلق كل الحسابات المفتوحة. لم يعد هناك مجال لتأجيل الأمور، خاصة إذا كان كل تأخير قد يعني خسارتها... ربما إلى الأبد.
تنفس عميقًا وأخرج زفيره ببطء، مسندًا رأسه إلى الخلف. عينيه مغمضتان، لكن صورتها لم تفارقه حتى في خياله. أقسم لنفسه أنه لن يتخلى عنها أبدًا، مهما كلفه الأمر، حتى لو استسلمت هي. كانت هي الحياة التي عادت إليه بعدما ظن أنه فقدها، والنور الذي شق عتمته.
تذكر حديث الطبيب المتابع لحالتها عنـ.ـد.ما ذهب إليه في الأيام الماضية. صدمه الطبيب بخطورة وضعها، وأنها إن لم تكمل جلسات العلاج الكيميائي سريعًا قبل الجراحة، فإن الأمور قد تخرج عن السيطرة. كان هذا التحذير كصفعة على وجهه، لكنه أيقظه إلى حقيقة واحدة: لا وقت للانتظار.
...
استمر عاصم في العمل حتى وقت متأخر من الليل، محاولًا شغل نفسه، لكن عقله كان يهرب إليها في كل لحظة.
كانت سيلا تحمل الحقائب الثقيلة، متجهة إلى السيارة المتوقفة في الجراج. الإرهاق كان واضحًا على ملامحها، لكن خطواتها توقفت فجأة.
تجمدت في مكانها حين رأت عاصم هناك، مستندًا إلى مقدمة سيارتها، بذراعيه المعقودتين وصدره المرتفع كأنه يحاول جمع كل شتات نفسه قبل المواجهة.
التقت أعينهما... تلك النظرة الحادة المليئة بالكلمـ.ـا.ت التي لم تُقال بعد، كانت كفيلة بأن تجمد كل كلمـ.ـا.تها على شفتيها.
تقدمت سيلا نحوه بنفاد صبر، رافعة إحدى حاجبيها في تحدٍّ واضح، وقالت بحدة:
"إنت مراقبني بقا ولا إيه؟"
ابتسم عاصم بهدوء، لم يتأثر بحدتها، وردّ بثبات:
"جاي أسمع قرارك لآخر مرة... فكرتِ في اللي قولتُه ليكي؟"
سيلا تجاهلت كلمـ.ـا.ته، وفتحت باب السيارة الخلفي لتضع الحقائب الثقيلة التي كانت تحملها. أغلقت الباب، ثم توجهت إلى الباب الأمامي، عازمة على إنهاء هذا النقاش الذي لم تكن في حالٍ تسمح به. وقفت للحظة، ثم نظرت إليه نظرة صارمة وقالت بكلمة واحدة، مختصرة كل شيء:
"انسى."
كادت تفتح الباب وتدخل، لكنه كان أسرع منها. مدّ يده ليغلق الباب، ثم انتزع المفاتيح من يدها بحركة خاطفة. استدار سريعًا وركب السيارة، مغلقًا الباب بإحكام، وأشار لها بيده أن تركب من الجهة الأخرى.
تجمدت في مكانها، مصدومة من تصرفاته، ثم ضـ.ـر.بت سطح السيارة بقوة وغضب.
خفض زجاج السيارة قليلاً ونظر إليها بثبات، وقال بهدوء لكنه يحمل نفاد صبر:
"اركبي الأول ونتفاهم بعدين."
نظرت إليه بدهشة، غير مصدقة تصرفه الجريء، وقالت بحدّة:
"إنت بجد؟"
ردّ بصوت جاف، يحمل صيغة أمر لا تحتمل الرفض:
"يلا، اركبي بقى."
عقدت ذراعيها أمام صدرها، مظهرة عنادها وتحديها الواضح، وقالت:
"لا! أنا مستنية همسة، ويلا اخرج بقى من عربيتي!"
ابتسم بسخرية، وردّ بثباتٍ قـ.ـا.تل:
"همسة مع وليد. يلا بلاش رغى على الفاضي. اركبي."
قال كلمته الأخيرة بنبرة مرتفعة قليلاً، مما زادها غيظًا. دبّت قدميها على الأرض بحدة، ثم التفتت فجأة، وركبت السيارة أخيرًا. أغلقت الباب بقوة، وأدارت وجهها للجهة الأخرى، وقالت بغضب مكتوم:
"وبعدين بقى؟! مش كنا خلصنا؟"
نظر إليها بنظرة صلبة مليئة بالهيبة، وقال بصوت منخفض لكنه يحمل تهديدًا خفيًا:
"صوتك مايعلاش تاني."
شعرت برهبة من نبرته، فابتلعت غضبها بصعوبة، وأخذت نفسًا عميقًا تهدئ به أعصابها. قالت محاولة السيطرة على نفسها:
"طيب، رايح فين؟ ممكن أفهم؟"
لكنه لم يجبها. أدار السيارة وانطلق بها في صمت مطبق، متجاهلًا كل كلمـ.ـا.تها وثرثرتها، يحاول أن يهدأ من عاصفة مشاعره التي لم يمر بها من قبل.
...
توقف أخيرًا أمام النيل، في مكان هادئ خالٍ من الضوضاء. الليل كان قد أرخى سدوله، وانعكاس الأضواء على المياه جعل المكان أشبه بلوحة سحرية تبعث على السكينة.
التفت إليها، وملامحه هذه المرة كانت هادئة بشكل غريب. تحدث بلين وصوت منخفض:
"هديتي؟ ممكن نتكلم بهدوء بقى؟"
لكن بدلًا من أن تهدأ، استشاطت غضبًا أكثر من إلحاحه. نظرت إليه بحدة، وقالت باندفاع:
"إيه؟ إنت شايفني مـ.ـجـ.ـنو.نة وبشـ.ـد في شعري ولا إيه؟ مش بحب الطريقة دي، وعلى ما أظن إنّي نهيت كل حاجة معاك. وهقولها لك للمرة الأخيرة: ابعد عن طريقي خالص... ممكن؟"
انفجرت في وجهه، كلمـ.ـا.تها كسياط تلهب صدره، ثم أدارت وجهها بعيدًا عنه وكأنها ترفض مجرد وجوده بقربها.
تنهد عاصم بحزن، مدركًا عمق الجرح الذي سببه لها. مد يده برفق وجذب وجهها لينظر في عينيها المليئتين بالوجع، وقال بصوت خافت يحمل رجاءً:
"بصيلي... ليه كل ده؟ أنا خايف عليكي بجد!"
تمنى أن تجد في كلمـ.ـا.ته ما يخفف عنها، أن تتراجع عن قرارها، لكن الرد جاء قاسيًا وغير متوقع. دفعت يده عنها بقوة، صوتها مخـ.ـنـ.ـوق بالمرارة، وقالت بحدة:
"ما تقولش خايف عليا تاني! أنا محدش بيخاف عليا غيرهم... فاهم؟ هما بس اللي كانوا بيخافوا عليا!"
عند ذكرهم، انهمرت دمـ.ـو.عها بغزارة، ولم تستطع السيطرة على نفسها. وكأن سدًا من المشاعر المكبوتة انهار فجأة. تابعت بصوت متهدج، كأنها تخرج كل ما احتبس في قلبها لسنوات:
"فجأة كده بقيت خايف عليا؟ وعَلى حياتي كمان؟ ومتمسك بيا أوي دلوقتي؟ افتكرتني بس دلوقتي؟! إنت طول عمرك كنت بتبعدني عنكم. إيه اللي حصل دلوقتي؟! لو أنا نسيت، أنا مستحيل أنسى! إهانتك... تجريحك ليا... اتهامك لشرفي... لما قلت إني شمال. فاكر؟ فااااااكر؟"
عينيها التمعت بالدمـ.ـو.ع والغضب، وواصلت بانهيار:
"جيتلي وأنا فاقدة النطق من اللي شفته، ومقهورة إني مالحقتش البنت اللي اتقtتلت تحت أيديهم! وبعد ده كله، جيت تكمل عليا بكلامك... قـ.ـتـ.ـلت اللي باقي فيا، وفرقتني عن أقرب صاحبة ليّا. محدش حس باللي حسّيته، ولا حد عاش اللي عشته. زمان كنت بموت بالبطيء... وإنت؟ إنت كنت السبب! إزاي تتوقع إني أنسى؟"
لم تستطع التوقف عن البكاء، وكأنها تفرغ كل الألم الذي حملته لسنوات طويلة. أكملت بصوت منكسر، وهي تشير إلى جرح على كتفها:
"بتقول بتخاف عليا؟ بتخاف عليا من إمتى؟ فاكر يوم عقابك لما هـ.ـر.بت من حمايتك ضrبتني بدم بـ.ـارد هنا؟ وسبتني مرمية بنزف لوحدي يوم كامل؟"
شهقاتها باتت متتابعة، لكنها لم تتوقف عن الحديث، كأنها تُخرج حملًا جثم على صدرها طوال عمرها. قالت بصوت خافت لكنه موجع:
"حتى لما اتهمتني إني السبب في إصابة أخوك... فاكر؟ حتى وقتها ماسبتنيش في حالي! أنا دلوقتي مابقتش عاوزاك جانبي. مش عايزة حد يقرب مني."
ابتسمت بسخرية، لكنها كانت ابتسامة لم تصل إلى عينيها الغارقتين في الدمـ.ـو.ع:
"إنتو بتقولوا إني غلطانة... إني كان لازم أسكت. لكن أنا؟ ذنبي إيه؟ ذنبي إني حاولت أصرخ عشان أجيب حق بنت كانت ممكن تكون أختي أو بنت بلدي؟ ذنبي إني رفضت أكون سلبية زيكم؟ كل اللي عملته إني حاولت أواجههم، عشان أوقفهم، وكنت متأكدة إن الحق لازم ينتصر. لكن إنتو؟ كنتوا واقفين تتفرجوا، وسايبينني لوحدي!"
أخذت نفسًا متقطعًا، لكنها لم تستطع إخفاء الإرهاق الذي بدا واضحًا على ملامحها. أكملت بصوت مثقل بالحزن واليأس:
"كل اللي طلبته منكم إنكم تسيبوني في حالي. أنا خلاص... حالة ميؤوس منها. مش باقي لي في الدنيا غير همسة، واطمنت عليها. الحمد لله... كفاية عليا كده."
توقفت للحظة، والدمـ.ـو.ع تنساب على وجنتيها بلا توقف. نظرت إلى النيل أمامها وكأنها تحادث نفسها، وقالت بصوت مكسور بالكاد يُسمع:
"سيبوني أروح لهم... هما وحشوني أوي."
بقى عاصم في مكانه، عاجزًا عن الرد. صدمته كلمـ.ـا.تها التي ألجمت لسانه، وعينيه المليئتين بالنـ.ـد.م تابعتاها وهي تخرج كل ما كان مختبئًا داخلها. لم يكن في وسعه سوى أن ينظر إليها بصمت، مدركًا أن كل ما قالته كان صحيحًا... ومدركًا أنه السبب الأكبر لكل ما عانته.
ــــــــــــــــــ
كلمـ.ـا.تها خرجت كأنها خناجر مسمومة بنصل حاد، تغزو قلبه بلا هوادة، تمزق داخله مئات المرات. شعر بألمها وكأنه يراه لأول مرة بوضوح. هي السبب، وهو الجاني. رجف قلبه للمرة الثانية، وكأن قسوته التي اعتادها لم تعد تقوى على احتمال هذا الكم من الألم.
لم يدرك نفسه إلا وهو يجذبها إليه بعنفوان كمن يحاول أن يحميها حتى من نفسه. ضمها بين ذراعيه بقوة، يخفيها داخل أحضانه، وكأنها أمانه الذي أضاعه.
انصدمت سيلا من فعلته، وحاولت التملص من قبضته، لكن عاصم أحكم احتضانها أكثر، وكأنها آخر ما يملك في الحياة. لم يستطع السيطرة على ما بداخله. لأول مرة، أسوار بروده العالية التي بناها طيلة حياته انهارت، وأطلق آهة طويلة وموجوعة، كأنها تعبير عن سنوات من الألم المكبوت:
"آآآآه..."
ارتعدت أوصالها داخل أحضانه عند سماعها آهات انكساره، لكنها توقفت عن المقاومة، شعرت بضعفه لأول مرة. شـ.ـدد احتضانه كأنه يخشى أن تفلت من بين يديه، وهمس بصوت متحشرج، يحمل كل وجعه الذي كان يخفيه:
"آه... لو ت عـ.ـر.في أنا شفت إيه في حياتي... آسف، والله آسف على كل دمعة كنت السبب فيها. آسف على كل كلمة جرحتك بها. أنا هافضل طول عمري متأسف... لأنك وجعتي، والوجع ده بسببي."
كانت كلمـ.ـا.ته تشق طريقها إلى قلبها رغم ألمها، وحين تحدث مجددًا، شعرت وكأنها تسمع شخصًا آخر، شخصًا ينزف من أعماقه:
"صدقيني... اللي كان بيتعامل معاكي ده مش أنا. ده كان شخص ميت، واحد مـ.ـا.ت جواه كل إحساس، شاف أمه تخونه مع واحد غريب، وشاف بعينه موتها على إيد أبوه، وشاف أبوه يموت قدامه في نفس اليوم. أنا كنت إنسان مـ.ـا.ت يومها... مـ.ـا.ت ثلاث مرات في نفس اللحظة."
توقف لوهلة، ثم رفع وجهها بيديه لتنظر في عينيه، وأكمل بصوت يحمل رجاءً صادقًا:
"أنا كنت إنسان ميت... وانتي اللي أحييتيني. انتي اللي رجعتيلي روحي، مستحيل أسيبك تسيبيني دلوقتي. أنا عاوزك، محتاجك، ومش عاوز سيلا الضعيفة دي. أنا عاوز سيلا القوية اللي عرفتها. ارجعي لي، سامعاني؟"
خفضت سيلا رأسها وهي تحاول أن تحجب دمـ.ـو.عها. همست بصوت بالكاد يُسمع، لكنه حمل كل انكسارها:
"للأسف... جيت متأخر. أنا خلاص... مش باقي فيا حاجة عشان أديها لأي حد."
قطع حديثها سريعًا بوضع يده على فمها، مانعًا إياها من الاسترسال في كلامها الذي أحرق قلبه:
"هششش... مـ.ـا.تكمليش. أنا جنبك، وهفضل جنبك. انتي مش لوحدك... أنا هنا، وهفضل هنا. مش هسيبك أبدًا."
شـ.ـد على كتفيها، ينقل قوته لها، وتحدث بثقة عميقة:
"انتي أقوى من كده... وصدقيني، احنا نقدر نكمل مع بعض. انتي محتاجاني... وأنا محتاجك أكتر من أي حاجة في الدنيا. مش هطلب منك حاجة دلوقتي غير إنك تسامحيني... وإننا نبدأ من جديد. انتي نور حياتي اللي طفى زمان... والنور ده مش هينطفئ تاني."
سيلا ظلت صامتة، لكن عيناها حملتا أكثر مما تستطيع التعبير عنه بالكلمـ.ـا.ت. تنفست بعمق، وكأنها تحاول استيعاب كل ما قاله. أخيرًا، همست بصوت خافت:
"أنا... أنا خايفة."
ابتسم ابتسامة صغيرة مليئة بالحزن والرجاء، وأمسك يدها برفق:
"أنا كمان خايف... بس هفضل جنبك. مش هطلب منك إنك تحبيني دلوقتي، بس خلينا ندعم بعض. أنا هكون كل حاجة ليكي... أخوكي، وأبوكِ، وسندك، وأمانك. بس أوعديني إنك مش هتستسلمي."
شعرت بقوة يده تحتضن يدها، وكأنها رسالة طمأنينة. لم تجد الكلمـ.ـا.ت، فقط أومأت برأسها بخفوت، وكأنها توافق على ما يقول.
فجأة، جذبها إلى أحضانه مرة أخرى، هذه المرة بلهفة امتنان. همس بقلب ينبض عشقًا:
"بحبك... بحبك، سيلا."
كانت كلمـ.ـا.ته بمثابة وعد... وعد بأن الحياة لن تكون كالسابق، وبأنهما معًا سيصنعان طريقًا جديدًا، مليئًا بالأمل والقوة.
أدرك عاصم نفسه سريعًا بعد انجراف مشاعره، فابتعد على الفور قائلاً بصوت مرتبك:
"أحم... آسف، بس... بصراحة، مش مصدق اللي بيحصل."
اكتسى وجه سيلا بحمرة الخجل، ولم تستطع التفوه بشيء، فآثرت أن تدير وجهها بعيدًا عنه، قبل أن تهمس بخفوت يكشف عن إرهاقها:
"ممكن نروح... أنا عايزة أنام."
قهقه عاصم للمرة الأولى بصوت عالٍ خرج من أعماقه، وكأن شيئًا بداخله قد تحرر:
"والله كنت فاكر إنك هتنامي في حـ.ـضـ.ـني، بس ما حصلش!"
ارتبكت سيلا وتاهت للحظة وهي ترى ابتسامته الحقيقية للمرة الأولى. ظلت تحدّق به بصمت، بينما تهمس في داخلها: "عرف منين؟ أنا بنام وأنا واقفة أصلاً... يلا، مش مهم."
ابتسم عاصم وهو يراقب شرودها، ثم علق بتلقائية:
"عادتك بقى، هنقول إيه؟"
انتبهت فجأة وسألته بدهشة:
"وإنت عرفت إزاي إن دي عادتي؟ سمعتني وأنا بتكلم مع نفسي ولا إيه؟... بسم الله، شكله ملبوس."
همست بالجملة الأخيرة بصوت خافت، لكنها لم تغب عن أذنه.
ضحك عاصم وهو يلتفت إليها:
"آه، سمعتك على فكرة، بس هعدّيها."
رمقته بنظرة حادة وقالت:
"إنت بايخ أوي، تعرف؟"
رد بلامبالاة ظاهرة:
"مقبولة منك برضه."
تغيرت ملامحه فجأة ليعود إلى الجد، وسألها بنبرة هادئة:
"بكرة هتكوني مع مي في قراءة الفاتحة، صح؟"
أومأت برأسها:
"آه، طبعًا."
بقلم شروق مصطفى
صمت للحظة قبل أن ينطق ببطء، وكأنه يختبر رد فعلها:
"طيب... إيه رأيك بكرة نخلي المأذون يكتب كتابنا؟"
لم يجد ردًا منها، فاقترب قليلًا وهتف بصوت خافت يحمل رجاءً:
"سيلا... يا حبيبتي."
اهتز صوته عند نطق الكلمة، وكأنها مسته غصة في داخله. أما هي، فارتجفت لوهلة دون أن تعرف سبب ذلك الشعور الغريب الذي اجتاحها. أكمل حديثه:
"أنا حابب أكون جنبك... نبدأ حياة جديدة سوا، وأول حاجة نكمل علاجك اللي سبتِه."
رفعت سيلا عينيها إليه، وأجابته بنبرة واهنة تحمل ألمًا دفينًا:
"لا... بلاش. أنا مش عايزة. العلاج ده بيقتtلني... بيألمني أوي. تعبت منه بجد."
شـ.ـدد عاصم على يدها بنبرة تحمل صلابة وثقة:
"سيلا، أنا معاكِ. الأول كنتِ لوحدك، لكن المرة دي أنا جنبك. مش هسيبك، وفاهم إنك أقوى من ده. ما ينفعش تضعفي دلوقتي. إحنا هننتصر على أي حاجة سوا. وبعدين، أنا هسفّرك برّه تعملي العملية، وهفضل معاكي في كل خطوة. فاهمة؟"
أومأت برأسها بخفوت، وقالت بصوت يكاد لا يُسمع:
"فاهمة."
ابتسم عاصم بسعادة مفاجئة وقال بمزاح:
"يااااه، أول مرة ما تعانديش. حبيبتي أخيرًا بتسمع الكلام!"
رفعت رأسها ونظرت إليه بعناد مصطنع:
"طيب... مش فاهمة."
ضحك عليها وقال:
"لأ، كلمة الحق طلعت الأول بس."
تذكرت فجأة السوار الذي ترتديه ومدت يدها نحوه:
"طيب ممكن تفك البتاعة دي؟ مضايقاني أوي. مش خلصت مهمتك خلاص؟"
نظر إلى السوار بملامح متحيرة، ثم قال بأسف:
"للأسف... مش هينفع."
حدّقت فيه بدهشة وسألت:
"ليه؟"
تنهد عاصم وأجاب بصدق غافل:
"عشان... لما كنتِ بتوحشيني، كنت بسمعك منه."
اتسعت عيناها من الصدمة، وهتفت:
"إنت بتقول إيه؟! قصدك إيه بإنك كنت بتسمعني؟"
أدرك عاصم زلة لسانه، فحاول التهرب متـ.ـو.ترًا:
"هاه؟ لا... مين قال إني بسمع؟!"
لكن سيلا لم تتركه، وواصلت بنبرة مندهشة:
"يعني مش ده مجرد تتبع؟! كنت بتتصنت عليا؟!"
حاول أن يخفف التـ.ـو.تر بابتسامة صغيرة وقال:
"آه، في خاصية تصنت بس مش بفتح كتير، يعني مش حاجة تخوّف!"
حدّقت فيه بغضب مكتوم:
"إنت بجد... مش طبيعي!"
أردفت بنبرة صارمة:
"فكه دلوقتي... مش طايقاه."
لكنه بدلاً من الرد، أمسك يدها وقبّلها بحنان. سحبت يدها بسرعة وغطت وجهها خجلًا وهي تهتف:
"إنت... إنت بتعمل إيه؟!"
قهقه عاصم على ملامحها الطفولية، وقال مبتسمًا:
"ماشي... بكرة نفكّر في موضوعه."
ردت بنبرة محذّرة:
"ما تسمعش حاجة تاني، ماشي؟"
قال وهو يحاول كتم ضحكته:
"هحاول."
صمت للحظة، ثم نطق اسمها بهدوء:
"سيلا."
التفتت إليه بصمت، فقال:
"افتحيلي قلبك... ممكن ندّي نفسنا فرصة؟"
تنهدت بعمق وأجابته بصدق مؤلم:
"مقدرش أوعدك... قلبي مـ.ـا.ت من زمان. الحادثة دي... والماضي اللي مريت بيه، خلاني مش عارفة أدي حاجة لحد. أنا خايفة أظلمك."
أمسك يدها وضغط عليها بثبات وقال:
"سيلا... أنا مش هجبّرك على حاجة. بس سيبيها للوقت. إحنا نقدر نبدأ من جديد، مع بعض."
شعرت سيلا ببعض الطمأنينة بين كلمـ.ـا.ته. أومأت برأسها وقالت:
"هحاول."
ابتسم عاصم داخليًا، وتمنى أن يكون هذا بداية جديدة لهما.
↚
سيلا... أنا مش هجبّرك على حاجة. بس سيبيها للوقت. إحنا نقدر نبدأ من جديد، مع بعض."
شعرت سيلا ببعض الطمأنينة بين كلمـ.ـا.ته. أومأت برأسها وقالت:
"هحاول."
ابتسم عاصم داخليًا، وتمنى أن يكون هذا بداية جديدة لهما.
بينما كان وليد يتقدم نحوها في المول، توقف قليلاً، متأملاً همسة وهي تقف حائرة بين الإكسسوارات النسائية. كانت ابتسامته الدائمة حاضرة، مشعّة بالثقة التي اعتاد أن يحيط بها كل من حوله. اقترب بخطوات هادئة، حتى صار بجوارها، ومد ذراعه ليشير إلى قطعة محددة قائلاً بنبرة واثقة:
"دي أجمل حاجة هنا على فكرة."
شهقت همسة فجأة، مرتدة للخلف بخوف واضح، ثم رفعت رأسها نحوه وهي تقول بحدة مليئة بالدهشة:
"إنت! كده برضه يا وليد! تخضني؟"
ارتسم على وجهها الضيق وهي تكمل بلهجة عاتبة:
"زعلانة منك، امشي بقى!"
ضحك وليد، محاولاً تلطيف الموقف:
"أسف والله، مقصدش أخضك. ما أنا لسه قافل معاكي ع التليفون وعارفة إني هنا."
ردت همسة بنبرة تحمل بعض العتاب:
"ما كنتش عارفة إنك جاي على طول.
ابتسم وليد بخفة:
"حقك عليا حبيبتي، ما تتضايقيش."
وضعت همسة يدها على قلبها، قائلة بخفوت:
"خلاص، بس ما تعملهاش تاني."
رد وليد بحنان:
"حاضر، وعد! ها، خلصتي ولا لسه؟"
نظرت همسة إلى ما أشار إليه قائلة:
"خلاص، هاخد ده."
تقدمت نحو الكاشير لتدفع، لكن وليد أوقفها بنظرة صارمة لم تعهدها من قبل. تجاهل اعتراضها تماماً، دفع الحساب بنفسه، ثم التقط الحقيبة من العاملة وسار أمامها نحو الكافيه القريب، وهي تلحق به في صمت.
حين جلسا معاً، نظرت همسة إليه بحذر، قائلة بصوت منخفض:
"مالك يا وليد؟ في حاجة مزعلاك؟"
نظر إليها وليد بغضب مكبوت، وهو يتحدث بحزم:
"همسة، آخر مرة تعملي كده. انتي دلوقتي مسؤولة مني، أي حاجة تخصك أنا اللي أتكفل بيها. فلوسك؟ هفتحلك حساب في البنك تشيليها فيه، لكن أي حاجة تانية أنا اللي لازم أتصرف. ما تحطينيش في الموقف ده تاني، مفهوم؟"
ارتبكت همسة، وانخفضت بنظراتها نحو الطاولة، قائلة بخجل:
"آسفة والله ما كان قصدي. لسه... لسه مش متعودة على كده."
رأى وليد الحُمرة التي غمرت وجهها، فابتسم بلطف، مغيراً نبرته إلى الهدوء:
"خلاص، ارفعي رأسك، الناس هيقولوا إني مزعل القمر اللي قدامي ده. ها، هتطلبي إيه تشربي؟"
انتفضت همسة فجأة، وكأنها تذكرت شيئاً هاماً:
"سيلا! نسيتها. لازم أكلمها تيجي تقعد معانا."
ضحك وليد وهو يطمئنها:
"سيلا مع عاصم دلوقتي، بينهم شوية أمور بيصفّوها. ادعيلهم يتفاهموا."
هزت رأسها بابتسامة خفيفة:
"إن شاء الله."
بدأ حديثهما يتخذ منحى أعمق، يتبادلان فيه أحلامهما وطموحاتهما، ويضعان أسساً لمنزل زوجيّة مشترك، قائم على المودة والتفاهم. ولتتويج هذه اللحظات، أخبرها وليد بفكرة أداء عمرة معاً كبديل لحفل الزفاف التقليدي.
شهقت همسة بسعادة لم تستطع إخفاءها:
"بجد! ده أحلى خبر سمعته. كنت بحلم بيها."
ابتسم وليد، مكملاً:
"قلت بما إننا مش هنعمل فرح كبير، ندخل بيتنا على طاعة ربنا. لما لبستِ الحجاب، حسيت إني أكتر واحد محظوظ. ربنا يبـ.ـارك لنا في حياتنا."
نظرت إليه بامتنان، قائلة بحب:
"ربنا يبـ.ـاركلي فيك. أنا فعلاً محظوظة إنك في حياتي."
حين عادت همسة إلى المنزل، وجدت سيلا عند الباب، محاطة بحقائبها. سألتها همسة بدهشة:
"إنتِ لسه واصلة؟"
أجابت سيلا بصوت خافت:
"أيوة، عاصم هو اللي وصلني."
تابعت همسة بشيء من الارتباك:
"والله ما كنت عارفة إنه جاي. وليد كلمني وأنا في المول، وكنت مشغولة."
لكن نظرات سيلا لم تكن تحمل أي فرحة تُذكر. وحين سألتها همسة عما حدث، أجابتها سيلا بجملة قصيرة، لكنها مفاجئة:
"بكرة كتب كتابي."
شهقت همسة، واحتضنتها بشـ.ـدة قائلة:
"بجد! مبروك يا حبيبتي!"
لكن سيلا، برغم عناقها، لم تُظهر الحماس المتوقع، وانسحبت سريعاً لتقول بصوت منهك:
"أنا بس تعبانة شوية. هدخل أستريح."
دلفت سيلا إلى غرفتها، حيث أخذتها أفكارها إلى صراعات داخلية، قائلة لنفسها:
"هل قراري كان صحيحاً؟ أم أنني تسرعت؟ يمكن أن يكون هذا أملي الأخير... لكن لماذا لا أشعر بالفرحة؟"
تنهدت بإرهاق:
"ربما قدري أن لا أفرح أبداً."
...
جلس كل منهما مع أفكاره، يتأمل المستقبل الذي ينتظرهما، والمصاعب التي قد تواجههما. كان عاصم غارقًا في حيرة وقلق، يحاول إقناع نفسه أن الأمور ستسير كما هو مخطط لها. أما سيلا، فكانت تحاول الهروب من مواجهة الواقع بتجاهل كل شيء، إلا أن قلبها المثقل بالهموم لم يكن ليهدأ.
في تلك الأثناء، كان معتز يعيش يومه بطريقته الخاصة. لم يذهب إلى الشركة كعادته، بل ظل في المنزل يرتب نفسه بعناية، يختار ما سيرتديه للقاء الغد، والبسمة لم تفارقه. كان يرى اليوم المنتظر كبداية جديدة، وأخيرًا سيجتمع بملاكه البريء.
صباح اليوم التالي
الجميع كان مستعدًا للمقابلة مساءً. دلف عاصم إلى غرفة أخيه ليحدد موعد الذهاب، وأخبره بأن كتب الكتاب سيتم اليوم. بـ.ـارك له معتز وغادر، تاركًا عاصم غارقًا في أفكاره المتضاربة.
حاول عاصم مرارًا الاتصال بسيلا للاطمئنان عليها وإخبـ.ـارها بأنه سيمر لأخذها، لكنها تجاهلت مكالمـ.ـا.ته.
سيلا، التي كانت مستيقظة بالفعل، نظرت إلى هاتفها الذي لم يتوقف عن الرنين وأغلقته بتردد، محاولة إبعاد كل ما يربطها بالواقع. ذهبت إلى همسة لمساعدتها في تجهيز أغراضها قبل انتقالها إلى منزل زوجها بعد يومين.
دخلت سيلا غرفة همسة لتجدها منشغلة بمكالمة هاتفية، فأشارت إليها أن تعود لاحقًا. لكن همسة رفعت يدها مشيرة لها بالبقاء.
همسة: " موجودة، في حاجة ؟"
ثم أضافت بابتسامة: "تمام هقولها؟ ، ونكون جاهزين في الميعاد."
أنهت المكالمة ونظرت إلى سيلا بنبرة مازحة: "عاصم كلمك كتير مش بتردي عليه ليه؟"
سيلا، مرتبكة: "آه، لا، كان صامت مخدش بالي... في حاجة؟"
همسة بابتسامة خفيفة: "هيعدوا علينا الساعة الثامنة، جهزي نفسك.
هزت سيلا رأسها موافقة: " هساعدك في تجهيز حاجتك الأول."
أمضت الأختان الوقت في تجهيز حقائب همسة. اختارت سيلا لها فستانًا زيتوني اللون، مغلقًا بأزرار وحزام جملي عند الخصر، ونسقت معه حجابًا وحقيبة وحذاءً بنفس اللون.
ابتسمت همسة واحتضنت سيلا بامتنان: "بجد مش عارفه من غيرك كنت عملت ايه، ربنا يبـ.ـاركلي فيكي يارب."
ثم أضافت بسعادة: "و انتي هتلبسي ايه تعالي نختار لك حاجه مناسبه ؟
ابتسمت سيلا بمجاملة: " انا هخد الاول شاور سريع و نشوف."
بعد قليل خرجت سيلا من غرفتها مرتدية بنطالًا أسود، بلوزة برقبة مرتفعة سوداء، وشال بيربيري، مع جاكيت طويل أسود.
عنـ.ـد.ما رأتها همسة، صاحت بدهشة: "أية دا يا سيلا! ال لابساه ده! و لسه ساعتين على الميعاد كمان.
سيلا بتـ.ـو.تر واضح: "ماله لبسي انا مرتاحه كده سيبيني براحتي.
همسة، محاولة التهدئة: "بس انهاردة عندنا مناسبة مهمة انتي وعاصـ...
قاطعتها سيلا بحدة، وقد بدأت تفقد أعصابها: "يوه بقى كل شويه عاصم سيبوني في حالي بقا. !"
توقفت فجأة، مدركة عصبيتها المفرطة، وزفرت بخفوت: "أنا آسفة يا حبيبتي، مش قصدي... بس متـ.ـو.ترة شوية."
اقتربت منها همسة ووضعت يدها على خدها بحنان: "ولا يهمك يا حبيبتي، التـ.ـو.تر ده طبيعي."
بينما كانت همسة تراقبها بقلق، أمسكت سيلا بحقيبة يدها واستعدت للخروج.
همسة بتعجب: "رايحة فين؟ لسه بدري!"
سيلا بتردد: "هروح عند مي أقعد معاها شوية لحد ما تيجوا."
همسة باستغراب: "بس هما جايين ياخدونا مع بعض!"
سيلا بحسم: "عادي، قوليلهم عند مي. سلام بقى عشان متأخرش."
غادرت بسرعة، لكنها في الحقيقة كانت تهرب. تهرب مِن مَن؟ من الجميع؟ أم من نفسها؟ قضت الليلة تتقلب على سريرها، عينها معلقة في السقف وكأنها تبحث عن إجابة، ولم يغفُ لها جفن من شـ.ـدة التفكير.
اتصلت بصديقتها مي، وقد أثقلها التردد، لتبلغها بأعذار بدت واهية وغير مقنعة عن عدم قدرتها على الحضور في هذا اليوم الذي يفترض أن يكون مميزًا. تجنبت الحديث عن الاتفاق الذي دار بينهما بالأمس، كأنها تخشى مواجهة ما يثقل صدرها.
مي، على الرغم من شعورها بالضيق وخيبة الأمل، تفهمت أن سيلا تعاني من صراع داخلي يخص علاقتها بعاصم. ولم تشأ أن تضغط عليها أكثر.
أغلقت المكالمة ثم نظرت إلى معصمها بضيق وهمست:
"مافضلش غير السوار بس!..."
كانت تشير إلى السوار المعدني الذي يطوق يدها، وكأنه قيد يمنعها من التنفس.
استقلت سيارتها متجهة إلى أحد محلات المجوهرات، وعنـ.ـد.ما دخلت طلبت من البائع أن يزيل السوار. الرجل تأمله قليلًا، ثم رد باعتذار:
"للأسف يا آنسة، السوار ده تصميم خاص، مينفعش يتفتح إلا بالمفتاح الأصلي."
شعرت بالإحباط وخرجت مسرعة تبحث عن مكان آخر. في المحل الثاني، كان الجواب نفسه. لكنها لم تيأس، وأصرت أن تجد حلاً.
في المحل الثالث، سألها البائع:
"هياخد شوية وقت، تستني؟"
نظرت إلى ساعتها بتردد:
"اد إيه؟"
رد البائع:
"حوالي نص ساعة لساعة."
شعرت بالضغط، فالوقت كان يداهمها، لكنها وافقت في النهاية:
"ماشي، بس خلص بسرعة."
ابتسم البائع بطمأنينة:
"ما تقلقيش، بس الشغل ده محتاج هدوء."
ثم أشار إلى كرسي بجانبه:
"اقعدي هنا وثبتي أيديك."
جلسَت وهي تمسك أنفاسها، تُراقب خطواته بحذر. جلب البائع جهازًا صغيرًا يشبه المسدس، ومن فوهته خرجت شعلة نار دقيقة. قال لها بلهجة جادة:
"إيدك مـ.ـا.تتحركش خالص، ممكن تتحرقي."
هتفت سيلا بلهفة:
"متقلقش، بس خلص بسرعة."
لكنه رد بهدوء:
"لأ، مش عاوز استعجال. دي إيدك اللي بنتعامل معاها، لو السوار بره كان الموضوع سهل."
لفّ معصمها بقفاز حراري لحمايتها، ثم بدأ بتوجيه النار على السوار. كان يعمل بحذر، يشغل الجهاز ويطفئه على فترات، حتى انصهر المعدن قليلًا فبدأ يتفكك تدريجيًا. العملية استغرقت ساعة كاملة، لكنها انتهت أخيرًا.
سيلا بابتسامة مليئة بالراحة:
"أخيرًا! شكرًا جدًا."
دفعت له الحساب وخرجت مسرعة، دون أن تعرف وجهتها، لكنها لم تدرك بعد حجم العاصفة التي ستواجهها.
...
في منزل همسة، كانت قد انتهت من تجهيز نفسها تمامًا، تنتظر وليد في هدوء وابتسامة تملأ وجهها.
على الجانب الآخر، كان عاصم ووليد يستعدان أيضًا. عاصم ارتدى بدلة سوداء أنيقة مع قميص أبيض وربطة عنق سوداء، بينما وليد كان بنفس المظهر. أما معتز، فقد اختار بدلة كحلية أظهرت أناقته بشكل مميز، مع عطر فاخر يملأ المكان برائحته.
خرج الثلاثة سويًا، لكن معتز استأذن ليذهب بسيارته منفردًا، قائلاً:
"هروح أجيب شوية حاجات قبل ما أجيلكم."
رد عاصم، وهو يغلق باب السيارة:
"تمام، أنا ووليد هنجيب البنات ونحصلك."
تحرك وليد وعاصم بالسيارة، متجهين إلى منزل البنات في الطريق، شعر عاصم بانقباض غريب في قلبه. لم يعرف سببه، لكنه حاول تجاهله.
عنـ.ـد.ما وصلوا، اتصل وليد بهمسة ليخبرها بأنهم بالخارج. وبعد دقائق، نزلت همسة وحدها، ووجهها يفيض بالفرح والخجل.
وليد، وهو يقترب منها:
"إيه القمر ده؟! لا، أنا مش هستنى اليومين دول، إحنا النهارده نروح بيتنا!"
ابتسمت بخجل وهي تهمس:
"بس كده عيب، عاصم هنا!"
أمسك يدها بحنان وفتح لها باب السيارة لتجلس. لكنه تفاجأ عنـ.ـد.ما وجدها وحدها في الداخل. سأل بقلق:
"هي سيلا فين؟!"
توقف عاصم فجأة، وكأن الزمن قد تجمد معه، عيناه تحدقان في باب العمارة بنظرة مثقلة بالشوق والتوجس. ببطء، نزل من السيارة، خطواته تئن تحت وطأة الترقب، وكأن قلبه يسبق جسده نحو الباب. وقف هناك، مسمّرًا كتمثالٍ حي، لا يحرك ساكنًا سوى أنفاسه المتلاحقة التي فضحت اضطرابه. عيناه لم تفارق الباب، وكأنه يراه نافذة لأملٍ طال انتظاره قطع تأمله حديث همسة:
"سيلا نزلت بدري... راحت عند مي."
التفت عاصم بغضب مكبوت:
"إيه؟ ومقولتيش ليه؟!"
حاولت التبرير:
"هي قالتلي إنها متـ.ـو.ترة شوية، ومي محتاجاها."
تجاهل كلامها وأشار لهم بالدخول إلى السيارة:
"يلا اركبوا."
ركب بعدها، ووجهه محتقن بالغضب. قبض على قبضته بشـ.ـدة."
انطلقوا في الطريق، وعاصم يجاهد ليخفي البركان الذي يغلي داخله.
ـــــــــــ
عاد معتز بعد شراء بعض الحلوى واتصل بهم لينتظر وصولهم. لم يمض وقت طويل حتى وصل وليد بالسيارة، وتجمعوا جميعًا أسفل البناية.
توجه معتز بنظره نحو همسة قائلاً بابتسامة:
إزايك يا همسة؟
أجابته بابتسامة رقيقة:
الحمد لله، مبروك، إن شاء الله يتمملك على خير.
رفع معتز يده بطريقة مسرحية وقال:
يا رب.
ثم أخذ يهنـ.ـد.م ملابسه وهو يسأل بابتسامة خفيفة:
ها، شكلي مظبوط كده قبل ما نطلع؟
وليد اعتدل في وضع كرافته وأجاب:
تمام، مظبوط.
التفت معتز إلى أخيه وغمز له بمرح:
مش عايزني أساعدك في حاجة يا عريسنا؟
كان عاصم شارد الذهن، منشغلاً بأفكاره، ولم يلتفت إلا بعد أن وكزه معتز، فرد بنبرة حادة:
انزل من فوق دماغي، مش فايق لك.
شعر وليد بتـ.ـو.تر الجو، فتدخل ليخفف حدة الموقف، قائلاً وهو يلكز معتز مازحًا:
لما نشوفك فوق هتبقى عامل إيه يا خيبتها!
التفت نحوه بنظرة حادة:
لم نفسك وعدي اليوم، مش ناقصين استظرافك.
واصل وليد المزاح وهمس لهمسة وهو يكتم ضحكاته:
شوفِ، أول مرة يتـ.ـو.تر بالشكل ده، هيعمل إيه فوق؟
وكزته همسة بخجل وقالت:
بطل هزار، الموقف مش مستحمل.
رفع وليد يده بمرح:
خلاص، سكتنا.
ثم استأنف الحديث موجهاً كلامه لعاصم:
بقولك، كلمت المأذون، جاي إمتى؟
رد عاصم وهو يستعد للمصعد:
كلمته، هيجي على الساعة تسعة. معتز يخلص الأول ونبدأ بعدهم.
وليد بابتسامة:
على بركة الله كان نفسي عامر يكون معانا.
أجاب عاصم بينما يتحرك نحو المصعد:
عامر عنده ضغط شغل في الغردقة.
غابت الكلمـ.ـا.ت بينهم للحظة، وتقدموا جميعًا نحو لحظتهم المنتظرة.
وصلوا أخيرًا أمام المنزل، حيث استقبلهم هيثم بحرارة وأدخلهم إلى غرفة الصالون ذات الأثاث الراقي المكون من قطعتين. جلست المجموعة، بينما حضرت والدة هيثم للترحيب بهم.
استأذنت همسة بلباقة:
طيب، أنا هدخل أشوف مي جوه.
نبيلة بابتسامة مشجعة:
أه، طبعاً، اتفضلي يا حبيبتي.
دخلت همسة الغرفة، متوقعة وجود شقيقتها، لكنها فوجئت بغيابها.
هبت مي واقفة بعصبية، وما إن رأت همسة حتى انفجرت معاتبة:
كده تسيبيني لوحدي؟ محدش عبرني، لا إنتِ ولا أختك النادلة دي!
ارتبكت همسة وسألت بصدمة:
إيه؟ سيلا مجتش؟
أجابت مي بصوت خافت:
كلمتني من ساعتين واعتذرت. قلت أكيد مش عايزة تواجه عاصم، وسكت.
اتسعت عينا همسة وهي تضع يدها على وجهها:
دي قالتلي إنها جاية لك من ساعتين! يا خبر! النهارده كتب كتابهم، عاصم أتصالح معاها من امبـ.ـارح. إزاي تعمل كده؟
نظرت مي إليها بذهول وصوت مختنق تعلم سبب فعلتها:
نعم؟! إنتِ بتهزري؟ طيب هي فين؟ عاصم عارف إنها هنا؟
ردت همسة بقلق واضح:
هو ده اللي محيرني... إيه اللي حصل؟
قاطعت حديثهما نبيلة التي دخلت فجأة:
في إيه يا بنتي؟ الناس قاعدة بره، يلا تعالي!
خرجت نبيلة مسرعة، بينما استدارت مي نحو همسة وقالت بلهفة:
روحي لوليد بسرعة، خليّه يحاول يهدي عاصم، أكيد هو هيعرف يلاقيها.
هزّت همسة رأسها موافقة والخوف يسيطر عليها:
حاضر، يا رب يستر.
↚
عادت مي وجلست بجانب والدتها، تحاول إخفاء تـ.ـو.ترها بينما كان معتز يجلس مبتسمًا، يتطلع إلى لحظة الحديث مع العروس. في هذه الأثناء، اقتربت همسة من وليد وهمست له بضع كلمـ.ـا.ت جعلته يومئ برأسه بتفهم.
التفت وليد إلى عاصم، الذي كان يجلس بجواره، وعيناه معلقتان بالباب الذي خرجت منه الفتيات، ينتظر خروج سيلا بتلهف لا يستطيع إخفاءه. كسر وليد صمته بهمسة مقتضبة ألقاها في أذن عاصم، فتجمد الأخير في مكانه.
كانت الكلمـ.ـا.ت كصاعقة سقطت على رأسه. شعر وكأن الغرفة قد اختفت، والوجوه من حوله باتت بلا ملامح. صوت الضحكات والأحاديث تحول إلى ضجيج بعيد، كأنه يعبر من عالم آخر. لم يعد يسمع شيئًا سوى صدى أفكاره المتخبطة: "تركتني؟ تخلت عني؟".
جلس عاصم وسط الجميع، لكنه كان في عالمه الخاص، يغرق في بحر من الأسئلة التي لا إجابة لها. كيف يمكن أن تفعل ذلك؟ ألم نتفق؟ ألم نتجاوز كل شيء معًا؟ شعور بالخيانة يضيق صدره، لكنه يكتمه بصمت قـ.ـا.تل.
رفع وليد يده وربّت على كتفه بهدوء محاولاً أن يخرجه من شروده، لكنه لم يلق أي استجابة. كان عاصم غارقًا في دوامة الذكريات، يتذكر لحظات تصالحهما، وابتسامتها التي كانت كفيلة بإذابة أي غضب. كيف تحولت تلك الابتسامة إلى غياب؟
وسط هذا العدم، حاول وليد أن يتصرف بحكمة. اقترب منه وهمس من جديد:
متقلقش، هنلاقيها. بس خلي بالك من نفسك قدام الناس ومعتز.
هزّ عاصم رأسه ببطء، محاولاً استعادة توازنه، لكنه شعر وكأن ثقل العالم بأسره قد انصب على كتفيه. عاد إلى واقعه الظاهري، لكنه لم يعد هو. شعر أن المكان يضيق عليه، وكأن الهواء بات أثقل من أن يتنفسه. نهض فجأة، مستأذنًا بصوت هادئ متحججا: بعد اذنكم بس هطلع اعمل مكالمة مهمة.
تحرك هيثم برفق إلى جانبه، يرشـ.ـده إلى الشرفة بخطوات ثابتة رغم الاضطراب الذي بدا جليًا عليه، تقدم نحو السور واستند إليه، ممسكًا بهاتفه كذريعة لا أكثر...
...
عنـ.ـد.ما دخلت مي، وقف لها معتز مرحبًا بابتسامة جذابة.
نبيلة بابتسامة رسمية:
اتكلموا هنا قدامنا.
تركتهما نبيلة وجلست بعيدًا مع البقية، بينما مد معتز يده مصافحًا مي بابتسامة:
مش عاوزة تسلمي عليا ولا إيه؟
ترددت مي لثانية وكادت أن تسحب يدها، لكنه شـ.ـدها قائلاً بمرح:
حـ.ـر.ام عليك، للدرجة دي بخوف؟
ردت بتـ.ـو.تر:
لا، عادي.
جلست في صمت، بينما تابع معتز الحديث بابتسامة:
أنا مش مصدق إني قابلتك أخيرًا. ده إنتي نشّفتي ريقي يا شيخة!
عنـ.ـد.ما لم ترد، مال نحوها قائلاً بمزاح:
هتفضلي ساكتة كده كتير؟ ولا إيه؟ أمال فين "الحقوني بيتحرش بيا"؟
ارتجفت مي ولم ترفع عينيها له. شعر معتز بنـ.ـد.م كبير على ما سببه لها من خوف، فربّت على يدها بحنان قائلاً:
ما تخافيش، مش هعضك. صدقيني، أنا اتغيرت.
بعد لحظات من الصمت، رفع وجهها برفق قائلاً بصوت صادق:
انتي هنا... مكانك هنا.
وأكمل بابتسامة:
ممكن نفتح صفحة جديدة؟
أومأت مي برأسها بخجل موافقة، فوقف معتز فجأة بحماس صارخًا:
أيوه بقى!
نظر حوله معتذرًا:
أحّم... آسف.
ضحك الجميع، بينما كانت مي تخفي وجهها بحرج.
جلس معتز مرة أخرى بجانبها وهو يهمس بسعادة:
آسف آسف، بس من الفرحة مقدرتش أمسك نفسي. ت عـ.ـر.في إن دي أول مرة أفرح بجد من قلبي؟
نظرت له مي باندهاش:
بجد؟
ابتسم معتز وأكد:
أيوه والله.
بينما هم في هذا الحديث، اقترب هيثم وربّت على كتف معتز ممازحًا:
ها، إيه الأخبـ.ـار يا عريس؟
خفضت مي رأسها في خجل، بينما أجاب معتز بنبرة مليئة بالثقة والفرح:
السكوت علامة الرضا أهي!
ضحك هيثم، ثم قال ممازحًا:
يا مي، طيب أين صوتك؟ هزي رأسك أو اعملي أي حركة!
بالفعل، هزت مي رأسها برفق واندفعت مبتعدة إلى جانب والدتها، ووجنتاها قد احمرّتا خجلًا.
نهض معتز بعد ذلك، واتجه مع هيثم للجلوس مع باقي العائلة. بدأت الأم حديثها بلطف، ودارت المناقشة حول تجهيزات الفرح، واتفقوا على قراءة الفاتحة.
في هذه الأثناء، كان عاصم يقف في الشرفة، ممسكًا بالسور بقوة، يحاول تهدئة نفسه من الغضب. جاء وليد يناديه بلطف:
عاصم!
التفت عاصم بعيون مشتعلة كالجمر، فسأله وليد بهدوء:
عرفت هي فين؟
أجاب عاصم بنبرة حازمة وهو يشـ.ـد قبضته على السور:
هعرف، بس نمشي من هنا الأول.
اقترب وليد منه وربت على كتفه محاولًا تهدئته:
طيب اهدى كده عشان أخوك. وكلّم المأذون ألغيه مؤقتًا. تعال نقرأ الفاتحة.
هدأ عاصم قليلًا، وتوجه مع وليد ليشاركوا في قراءة الفاتحة.
بعد الانتهاء، أخرج معتز علبة بها خاتم كان قد اشتراه خصيصًا لمي، وألبسها الخاتم بنفسه بابتسامة واسعة لم تفارق وجهه. نظرت له مي بخجل، وابتسمت ابتسامة خفيفة لأول مرة.
استأذن عاصم سريعًا، وقال بعذر دبلوماسي:
عندي مشوار مهم لازم أخلصه.
نبيلة، مستغربة:
ما لسه بدري يا ولاد، اقعدوا شوية كمان!
رد عاصم متمالكًا نفسه:
معلش، أعذرينا المرة دي. مشوار مهم.
ثم وجه كلامه لمعتز:
هتيجي معانا ولا هتقعد ؟
معتز بابتسامة هادئة:
هقعد شوية واحصلكم.
همست مي وهمسة لبعضهما أثناء وداع الأخيرة:
طمنيني وكلميني أول ما توصلي، ماشي؟
هزت همسة رأسها موافقة، وودعتهم جميعًا.
ركب عاصم السيارة بجوار وليد وهمسة، وما أن أُغلقت الأبواب، ثبت نظره بحِدة على الطريق أمامه. أمسك بالمقود بقوة، حتى برزت عروق يده، كاشفة عن الغليان الذي يحاول جاهداً كتمانه.
لاحظ وليد تـ.ـو.تره، فاختلس نظرة قلق نحوه، ثم قال بحذر، محاولاً تهدئة الأجواء:
عاصم، هدِّي أعصابك... عشان نقدر نفكر صح.
لم يُجب عاصم على كلمـ.ـا.ت وليد، واستمر في القيادة بعصبية، وكأن عجلة القيادة هي المنفذ الوحيد لغضبه المكبوت. ارتسم على وجهه قناع من الجمود، يخفي خلفه عاصفة من المشاعر المضطربة. قبضته المشـ.ـدودة على المقود وبرزو عروقه كانت شاهدة على صراع داخلي لا يُحتمل.
في المقعد الخلفي، جلست همسة صامتة، تنظر عبر النافذة، وكأنها تهرب بعينيها من ثقل اللحظة. كانت دعواتها الخافتة في سرها هي كل ما تملكه، تناجي الله أن يُهدي الأمور قبل أن تتفاقم.
كان ذهنه غارقًا في دوامة من التشوش، تتصارع داخله الأسئلة دون إجابة. كيف لها أن تفعل به هذا؟ كيف تجرأت على أن تهدم كل ما بناه في لحظة؟ لأول مرة، كسر صمته وأخرج ما في داخله، منحها ثقته كاملة، ووعدها بأن يكون سندًا لها، وأن يظل بجانبها مهما كان.
ولكنها، برغم ذلك، تخلت عنه... وبسهولة. وكأن وعوده لم تعنِ شيئًا.
وصلوا إلى المنزل بخطوات متسارعة يسبقهم القلق الذي كان ينهش قلوبهم. صعدوا متلهفين، آملين أن يجدوا إجابة تطمئن أرواحهم، لكن ما وجدوه كان الصمت، صمتًا أثقل من أي كلمـ.ـا.ت.
لا أثر يشير إلى وجودها، وكأن المكان يعلن غيابها بصمت مريب. وقفت همسة في منتصف الصالة، تنقل نظراتها بين أرجاء المنزل في حيرة وقلق. أشار وليد إليها بهدوء قائلاً:
شوفي أوضتها... يمكن نلاقي حاجة تطمنا.
تحركت همسة بخطوات بطيئة نحو الغرفة، مشـ.ـدوهة بمزيج من الخوف والأمل. لم تمضِ سوى لحظات حتى لحق بها وليد، وقد التقط أذناه صوت بكاء مكتوم بدا كأنه يتغلغل في الجدران، ينبض برائحة الحزن.
أما عاصم، فقد بقي عند الباب، جسده متسمّر، ونظره مثبت على الأرض. لم يقوَ على الدخول، وكأن قدميه رفضتا حمله إلى مواجهة الحقيقة التي يخشاها.
داخل الغرفة، كان كل شيء يبدو طبيعيًا للوهلة الأولى، كانت تبحث بعينيها ويديها عن أي خيط، وأثناء ذلك توقفت فجأة. عيناها وقعتا على ورقة مطوية على الطاولة، وبدت كأنها تركت عمدًا لتُكتشف.
مدت يدها بتردد، التقطتها بـ.ـارتعاش واضح. فتحت الورقة، وما إن قرأت السطور الأولى حتى اختنقت بعبراتها، وبدأت دمـ.ـو.عها تنساب بلا صوت. كانت الصدمة تفوق قدرتها على التعبير، وكأن الكلمـ.ـا.ت المكتوبة أثقل من أن يتحملها قلبها.
اقترب وليد منها بخطوات سريعة. أخذ الورقة من يديها المرتعشتين، وتفحصها بعينين غارقتين في الحذر والقلق. مرت لحظات ثقيلة وهو يقرأ، ملامحه تتبدل بين الذهول والأسى
ثم بدأ يقرأ بصوت منخفض:
"همستي حبيبتي، ما تزعليش مني إني سبتك فجأة، عندي أسباب خاصة بيا. وده لأن عندي عقدة في لحظة الوداع. ابدأي حياتك الجديدة مع وليد، بيحبك وهيحافظ عليكي. وعيشي حياتك، أنا اطمنت عليكي الحمد لله مع اللي يستاهلك. وبلغي عاصم إني آسفة بجد. فكرت كتير في حياتنا، لقيت إني هظلمه. عارفة إني خذلته. قولي له إني بجد بجد حاولت، لكن مقدرتش. مش هينفع إني أعلقه بيا، مش هقدر أكون له الزوجة اللي يتمناها. خليه يبدأ حياته مع الشخص الصح، ويعيش حياته وينساني. طمني مي كمان، قولي لها إنك أحسن صديقة عندي، وخليها تدعيلي. بحبكم كلكم، أنا سافرت. بلاش تدورا ورايا، أنا مرتاحة وأنا لوحدي. ادعيلي يا همسة، متنسونيش بالدعاء، محتاجاها أوي."
نظر وليد إلى عاصم بدهشة وقال: "يعني إيه الكلام ده؟ في حاجة غلط، مش مفهوم وداع إيه اللي خلاها تسافر فجأة كده؟ دي اختها هتتجوز! انت فاهم حاجة؟"
همست بصوت مملوء بالألم: "أنا بابا وماما سابوني، وهي كمان! ليه تسيبني وأنا محتاجها؟ ليه تعمل كده؟ أنا عاوزه اختي، قلبي بيقولي إن في حاجة مش كويسة، إزاي تسيبني كدة فجأة؟"
ثم تقدمت إلى عاصم، الذي وقف صامتًا، لا يجيب ولا يواسي، كانت عيونها تمتلئ بالدمـ.ـو.ع، بينما لسانها يردد كلمـ.ـا.تها الأخيرة بألم، دون أن تجد منه ردًا. حاولت مرارًا أن تقرأ تعابير وجهه، لكن صمته، جعلها تنكسر داخليًا، فدارت قدماها سريعًا إلى وليد.
لكن عاصم ظل في مكانه، تجمد، وكأن وقع كلمـ.ـا.تها لم يؤثر فيه. تركهم أخيرًا، ومضى بعيدًا عنهم...
اقترب منها وليد، بعينين مليئتين بالشفقة، وقال بلطف: "معلش، هو مصدوم شويه، إن شاء الله هنلاقيها."
ثم ربت على كتف همسة التي لم تكف عن البكاء، وقال لها برفق: يلا هتيجي معايا."
ساعدها في تحضير حقائبها. نزلوا إلى السيارة، ولم يجدوا عاصم. حاول وليد الاتصال به لكنه كان مغلقًا. فانطلق عائداً إلى منزلهم الجديد.
بينما كانوا في الطريق، هاتفت همسة مي لتخبرها بما فعلته صديقتها، كانت الكلمـ.ـا.ت تتساقط من شفتيها بصعوبة.
...
ظل يسير بلا هوادة، كأن الطرقات بلا نهاية، حتى توقّف أمام النيل. أطلق أنفاسًا حارة، تحمل احتراق روحه، وعيناه تحدقان في المياه الساكنة بملامح جـ.ـا.مدة تخفي عاصفة مشتعلة بداخله.
تمتم بصوت بالكاد يُسمع، الكلمـ.ـا.ت تنساب من شفتيه بلا وعي. قبضت يداه على عجلة القيادة، وكأنها ملاذه الوحيد. الطريق بدا طويلًا بلا نهاية، وأضواء السيارات المارة لا تُضيء عتمة أفكاره. الهواء البـ.ـارد تسلل من النافذة، يعبث بخصلات شعره، لكنه لم يُبدِ أي اهتمام، غارقًا في بحر من التساؤلات التي تزيده حيرة.
فجأة، رفع صوته كمن يخاطب فراغ الطريق، لكن الكلمـ.ـا.ت سرعان ما تلاشت، ذابت وسط أنفاسه الثقيلة وصمت الليل. لم يكن واثقًا إن كان يهرب من أفكاره أم يطاردها.
"لما نشوف اختيارك هيوصلك فين يا غـ.ـبـ.ـية..."
أطلق نفسًا مشبعًا بسخرية مريرة، وكأنه يضحك على لعبة القدر:
"فاكرة لو رميتي الجهاز هت عـ.ـر.في تهربي مني؟"
.....
عند معتز كان جالسًا وسط أهلها، والفرحة تعلو وجهه؛ فاليوم أصبحت "مي" أخيرًا ملكه. ظلَّ معتز يتأملها وهي شاردة تنظر إلى الخاتم الذي ارتدته للتو. ابتسم وسألها بلطف:
"عجبك الخاتم؟"
انتبهت له، وقد بدا عليها التـ.ـو.تر:
"ها؟ آه، جميل جدًا ورقيق أوي... ميرسي بجد."
ابتسم لها بابتسامة جذابة تُظهر اهتمامه:
"أصلِك نسيتي تردي وسرحتي بيه... أنا كده هغار منه بقى!"
لكن بالها كان مشغولًا على رفيقتها، فردَّت بـ.ـارتباك:
"لا أبدًا... أصلي في حاجة كده..."
قبل أن تُكمل حديثها، رنَّ هاتفها، فأجابت على المكالمة بلهفة، على أمل أن تطمئنها. ولكن كلمـ.ـا.ت الطرف الآخر كانت صادمة؛ شهقت وقطعت المكالمة على الفور.
لاحظ معتز تغيُّر حالتها المفاجئ، فسأل بقلق:
"مي، إيه اللي حصل؟! حد حصل له حاجة؟ مالِك، فيه إيه؟ انطقي!"
لكنها لم ترد؛ فقط بدأت بالبكاء. حاول معتز تهدئتها، فأمسك بيدها ليُبعدها عن وجهها:
"إيه اللي حصل؟! طيب اهدي وفهميني عشان أقدر أساعدك."
أخيرًا نطقت بصوت متقطع:
"س... سيلا... سافرت وسابتنا... كـ... كلنا... ومحدِّش عارف هي راحت فين!"
كان وقع كلمـ.ـا.تها كالصاعقة عليه. تذكَّر فجأةً "عاصم" وما كان من المفترض أن يحدث اليوم. كيف نسي أمرهما؟ وكيف غاب عن باله أنه لم يرَها منذ فترة؟ تحوَّلت أفكاره لملامح "عاصم" الغريبة يوم قراءة الفاتحة.
شـ.ـدَّ على شعره بعنف، وكأنه يلوم نفسه، ثم نظر إليها في حيرة وسأل:
"طيب ليه تعمل كده؟!"
أجابته وهي تبكي بحرقة:
"إنت مش فاهم حاجة... محدِّش فاهم حاجة."
ازدادت نبرة صوته حدَّة:
"ممكن تبطلي عـ.ـيا.ط وفهميني عشان أقدر أتصرف؟!"
دون مقدمـ.ـا.ت، أفلت لسانها بالحقيقة:
"سيلا... عندها كانسر."
كانت الكلمة كالصاعقة. في تلك اللحظة، مرَّت والدتها بجانبهما، فشهقت ولطـ.ـمـ.ـت صدرها وجلست بجوار مي في صدمة:
"يا حبيبتي! بتقولي إيه؟! سيلا عندها إيه؟!"
تجمَّد معتز مكانه، غير قادر على تصديق ما سمعه، لكنه تمتم بذهول:
"عاصم كان عارف؟!"
هزَّت مي رأسها بالإيجاب، وهي تغالب دمـ.ـو.عها:
"أيوة، هو اللي اكتشف مرضها. محدش كان يعرف غيري أنا وهو. حتى همسة ما تعرفش حاجة... بدأت علاج الكيماوي من فترة، بس لما مـ.ـا.توا أهلها وسابوها... استسلمت تمامًا. كلمت عاصم وقلتله إني مش قادرة عليها، وكانت مستسلمة خالص. قالي إنه هيتصرف. بس دلوقتي... دلوقتي همسة قالت إنها سافرت ومحدش يعرف مكانها!"
انهارت مجددًا في البكاء، واحتضنتها والدتها وهي تُربِّت عليها، داعية لصديقتها بالشفاء.
نهض معتز فجأةً، وقد بدا عليه التصميم:
"متقلقوش، أنا عندي معارف كتير. وعاصم مش ممكن يسيبها، أكيد عارف مكانها. هتصرف وهكلمكم لو في أي جديد."
خرج سريعًا من المنزل، متجهًا للبحث عن أخيه، لعلَّه يصل إلى حل. هاتفه أثناء القيادة، لكن هاتف عاصم كان مغلقًا. حاول الاتصال بوليد، الذي أخبره بفحوى الرسالة التي تركتها سيلا، وربط الأمر بمرضها.
"وهو فين دلوقتي؟!" سأل معتز بلهفة.
"مشيت من عنده. أنا مش هقدر أسيب همسة لوحدها، حالتها صعبة أوي."
أصرَّ معتز:
"خليك جنبها أنت... أنا هتصرف."
أغلق المكالمة، وقاد بسرعة حتى وصل المنزل، لكنه تفاجأ بعاصم الذي كان قد وصل قبله بقليل. كان عاصم يقف في الصالة بلا روح، ينظر إلى الفراغ بعينين جـ.ـا.مدتين.
تقدَّم معتز نحوه، وهزَّه من كتفيه بعنف:
"عاصم! انت واقف كده ليه؟! عرفت مكانها، صح؟!"
لكن عاصم لم ينظر له، ولم ينبس ببنت شفة.
صرخ معتز بغضب:
"رد عليا! إنت مش هتتخلى عنها، قولي إنك هتلاقيها وتلحقها قبل ما..."
قاطعه عاصم بجمود:
"هي اللي اختارت طريقها."
تركه وبدأ بالمغادرة، لكن معتز لحق به وأمسكه من ذراعيه:
"هتسيبها لوحدها؟! إزاي تتخلى عنها في عز مرضها؟ ده اللي قولتهولي؟ إنك هتبدأ صفحة جديدة؟! فوق يا عاصم!"
دفعه عاصم بعيدًا بحدَّة، وقال بصوت بـ.ـارد:
"هي اللي اتخلت عني. لو هي مش خايفة على نفسها، مش هقدر أعمل حاجة. مش عايز أسمع سيرتها تاني هنا."
وقبل أن يذهب، التفت مرة أخرى:
"أنا مسافر بكرة الصبح، عندي مأمورية، ومش عارف هرجع إمتى."
تركه وذهب إلى غرفته، بينما بقي معتز واقفًا في حيرة، لا يدري ما الذي يجب عليه فعله الآن.
....
دلفا معًا إلى المنزل، ووليد أمسك يدها بقوة كأنه يرسل إليها طمأنينة عبر أنامله. التفتت إليه بعيون متوسلة، وشـ.ـدت على يده بخوف: "ما تسبنيش."
تردد صوتها في أذنه، فأحس بالوجع الذي يثقل كاهلها. ابتسم محاولًا التخفيف عنها وقال بلطف: "ما تقلقيش... قاعد على قلبك. مش متحرك غير لما أنتِ اللي تقوليلي: امشي."
ثم أغلق الباب خلفهما بهدوء.
همسة حاولت رسم ابتسامة على وجهها، وقالت بصوت خجول: "شكراً... بجد."
لكن وليد هز رأسه معترضًا وهو يرد عليها بابتسامة مطمئنة: "لا لا، بيننا مفيش شكر ولا كلام مجاملات. إحنا دخلنا الليفل التاني."
تجمدت ملامحها لوهلة، وسألته بحيرة: "ليفل تاني إيه؟ مش فاهمة."
ضحك وهو يمد يده نحوها: "تعالي، تعالي يا شابة... هفهمك بعدين. المهم نطمن على أختك الأول."
قادها إلى غرفة صغيرة، فتح الباب وأشار بيده: "الأوضة دي هتنامي فيها مؤقتًا، لحد ما تتعودي على المكان. وأنا هنام في الأوضة اللي جنبك."
شعرت بالحرج من لطفه، وردت بخجل: "مش عارفة أقولك إيه... شكراً على كل حاجة."
تركته وأغلقت الباب خلفها.
نظرت إلى غرفتها الجديدة بصمت، ولكن قلبها كان يصـ.ـر.خ ألمًا. ألقت بنفسها على السرير، وبدأت في البكاء بانهيار. لم تصدق أن أختها قد تركتها بهذه السهولة، بدون تفسير أو كلمة وداع. ظلت تبكي حتى أرهقها البكاء وغطت في نوم عميق.
في الغرفة المجاورة، دخل وليد متعبًا. كانت الغرفة بسيطة، فيها سرير متوسط الحجم ومكتب صغير. فرد جسده المنهك على السرير، وأغمض عينيه من شـ.ـدة الإرهاق.
بعد عدة ساعات، استيقظ فجأة على صوت فتح باب غرفته. وقفز من السرير ليجد همسة واقفة أمامه، وشعرها منكوش من أثر النوم.
بدهشة وخوف، قال بسرعة: "همسة! مالك؟ في حاجة؟"
ردت وهي تبدأ في النحيب: "مش عارفة أنام لوحدي... خليك جنبي، ما تسبنيش."
اقترب منها واحتواها في حـ.ـضـ.ـنه، يمسح على رأسها بحنان: "اهدي... أنا جنبك. مش هسيبك. تعالي."
قادها إلى السرير، جعلها تستلقي، ثم تمدد بجانبها ليطمئنها. أدارت له ظهرها، وبكت وهي تهمس: "كلهم سابوني ومشيو... حتى هي."
شعر بـ.ـارتجافها، فلف ذراعيه حول خصرها ليمنحها الأمان، وبدأ يمسد شعرها بحنان. همس بجوار أذنها: "مش هسيبك. أنا جنبك... حياتي كلها."
شعر بانتظام أنفاسها وهي تغفو بين ذراعيه، فقبل وجنتها بلطف ونام بجانبها.
---
في الصباح
أشرقت شمس يوم جديد على الجميع، لكنها لم تحمل سوى الحزن والمجهول.
في مكان آخر، كان معتز يبحث عن أخيه ليعرف مستجدات سيلا، لكنه لم يجده. زفر بضيق وعاد إلى غرفته ليبدل ثيابه. هاتف وليد واتفقا على اللقاء في الشركة.
في مكتبه، انتظر معتز حتى دخل وليد بوجه شاحب وقلق: "ها... فيه جديد؟ عاصم عمل حاجة؟"
معتز زفر بسخرية وقال ببرود: "عاصم؟ انساه. إحنا لوحدنا دلوقتي."
نظر وليد إليه بصدمة: "إزاي مجاش؟ هنمشي إزاي كده؟"
رد معتز بفتور: "عاصم سافر في مأمورية شغل، ومش عارف يرجع إمتى. والموضوع ده مش أولويته دلوقتي."
وليد لم يصدق: "إزاي مش أولويته؟ سيلا حالتها صعبة، دي أختها بتنهار! هو ناوي يسيبها كده؟"
معتز أشار له أن يهدأ وقال بحزم: "عاصم رجع لبروده القديم. مش فارق معاه حاجة للأسف. والأسوأ من كده... سيلا حالتها الصحية متدهورة جدًا. لو ملحقناهاش، ممكن نفقدها."
وليد بصدمة: "إيه؟ يعني إيه حالتها متدهورة؟ مالها سيلا؟ انطق!"
معتز أخذ نفسًا عميقًا وقال: "سيلا عندها سرطان في المعدة، ورافضة تتعالج. حالتها خطيرة جدًا هي هـ.ـر.بت."
وليد أغلق عينيه من الصدمة، يحاول استيعاب الكلام. مسح على وجهه وقال بعد لحظة: "طيب... والعمل؟ إحنا لازم نتصرف بسرعة. بس همسة... لو عرفت حاجة زي دي، هتنهار!"
معتز رفع يده محذرًا: "إياك تقول لها حاجة دلوقتي. مش وقتها. الأول لازم نلاقي سيلا. أنا هكلم صديق لعاصم عشان يساعدنا، وإنت جهز صورة لسيلا ننشرها في الكمائن، ونتابع خط سير تليفونها."
وليد أومأ برأسه: "تمام. لو في جديد كلمني. أنا راجع البيت. مش هينفع أسيب همسة لوحدها أكتر من كده."
ترك المكتب بسرعة، وقاد سيارته عائدًا إلى المنزل، قلبه معلق بهمسة التي تركها نائمة. كان قد قبّل جبينها قبل أن يخرج، وأخبرها بهمس أنه سيعود سريعًا.
وصل المنزل وفتح الباب بحذر، لكنه لم يجدها في مكانها. دارت في ذهنه أسوأ الاحتمالات، لكنه هدأ عنـ.ـد.ما سمع صوت المياه من الحمام. انتظر حتى خرجت، تقف أمامه متفاجئة، تحتضن نفسها بالمنشفة. شهقت عنـ.ـد.ما رأته والتفتت عائدة إلى الداخل، مغلقة الباب خلفها.
وليد، محاولًا كسر الإحراج، حمحم وقال: "همسة، أنا خارج. خدي راحتك."
خرج من الغرفة وأغلق الباب بصوت مسموع ليطمئنها.
بعد قليل، خرجت مرتدية سالوبيت وردي عليه رسمة أرنوب، وشعرها يتدلى بحرية. تقدمت نحوه بخجل وقالت بصوت ناعم: "صباح الخير."
نظر إليها، وارتبكت عيناه بجمالها الطبيعي. ابتسم وقال بسرحان: "صباح الخير، حبيبتي. نمتي كويس؟"
خفضت رأسها بخجل ولم ترد، فاقترب منها، ورفع وجهها برفق: "إنتِ مراتي. متتكسفيش مني. أنا أول مرة أنام مرتاح كده."
وجهها احمر خجلًا، فأمسك وجنتيها وضحك قائلاً: "والله نفسي أكلهم!"
تراجعت للخلف بابتسامة صغيرة وقالت: "بطل هزار بقى. امشي، سيبني أحضر الفطار."
وليد هتف بمرح: "مين قال عيب؟ مش هيجرى حاجة لو أنا اللي حضّرت الفطار لطفلتي وأكلتها كمان!"
ضحكت، ثم اتفقا أن يحضرا الفطور معًا. جلسا على الطاولة، يتناولان الطعام في جو مليء بالمرح.
خلال الفطور، تحدث وليد بهدوء: "همستي، محتاج صور سيلا عشان ننشرها في الدوريات والكمائن."
تغير وجهها فجأة، وامتلأت عيناها بالدمـ.ـو.ع. ردت بصوت مكسور: "حاضر... بس أول مرة تبعد عني كده. وحـ.ـشـ.ـتني جدًا."
وليد وضع يده على يدها، محاولًا طمأنتها: "متقلقيش. هنلاقيها قريب، وعد مني."
---
في مكان آخر تلقى اتصالًا الذي أعطاه رقم سيارة سيلا وهاتفها. بدأوا بتعقب الإشارات للوصول إليها. ورغم كل المحاولات، ما زالت الأمور غامضة...
لو خلصتي الرواية دي وعايزة تقرأيي رواية تانية بنرشحلك الرواية دي جدا ومتأكدين انها هتعجبك 👇