رواية قيد القمر رؤوف وقمر كاملة جميع الفصول

رواية قيد القمر هي رواية رومانسية تقع احداثها بين رؤوف وقمر والرواية من تأليف نهي طلبة في عالم مليء بالتناقضات والأسرار تتشابك مصائر شخصيات رواية قيد القمر لتجد نفسها في مواجهة قرارات صعبة تُغير مجرى حياتهم إلى الأبد ان رواية قيد القمر هي قصة عن الحب الذي يتحدى الزمن والمصير الذي يفرض نفسه والأرواح التي تسعى خلف الحرية والسعادة بين الأمل واليأس وبين القوة والضعف ينسج رواية قيد القمر تفاصيل حياتهم في معركة غير متكافئة مع القدر لتكشف كل صفحة عن لغز جديد يقود القارئ نحو نهاية غير متوقعة

رواية قيد القمر رؤوف وقمر كاملة جميع الفصول

رواية قيد القمر من الفصل الاول للاخير بقلم نهي طلبة

انطلق بوق السيارة أكثر من مرة وبإلحاح دفع صميده البواب إلى الهرولة رغم سنواته الستون حتى يفتح البوابة الضخمة التي تفصل قصر عبد الرءوف الجيزاوي عن الخارج.
فتح صميده بوابة القصر ليجد سيارة رؤوف تدلف داخل القصر بسرعة شـ.ـديدة.

رؤوف هو الحفيد الذكر الوحيد ل عبد الرؤوف الجيزاوي، والذي سُمي تيمناً باسم الجد ولكن تحول الاسم مع الأيام إلى رؤوف. هو شاب غاية في النشاط والإلتزام، من يعرفه لا يصدق أنه على أبواب الحادية والعشرين فهو شـ.ـديد الجدية والصرامة لا تكاد التقطيبة تفارق جبهته. حاجباه متعاقدان دائماً وكأن مطلوب منه حل مشاكل الشرق كلها. ولكن من يعرف الجد معرفة وثيقة لا يتعجب من ذلك. فرؤوف تم تنشئته وتوجيهه بين يدي الجد حتى أصبح نسخة مصغرة منه تقريباً. يعتنق نفس أرائه وينتهج نفس أسلوبه الحازم.

اسم العائلة ومصلحتها لها الأولوية دائماً حتى على مصلحة بعض أفراد تلك العائلة أو سعادتهم!
ولكن هذا لا يمنع من الاعتراف أن رؤوف شاب غاية في الوسامة والجاذبية فبطوله الفارع وكتفيه العريضين مع ملامحه الداكنة شـ.ـديدة الرجولة هو حلم لنصف مراهقات البلدة وفتياتها، ولكنه بحكم تربيته وتفكيره لا يلتفت لتلك التفاهات كما يسميها.

فهو وُلِدَ رجل كما لقنه جده والرجل الحق لا يلتفت لتفاهات الغرام والنساء بل تلك الأمور تكون فقط للصبية والمراهقين.

ترجع قوة تأثير الجد في نفس حفيده بسبب قيامه برعايته بعد وفاة والده عبد الله ووالدته زينب في حادث سيارة منذ خمسة عشر عاماً. وكان رؤوف تخطى عامه الخامس حين وجد نفسه يتيم الأبوين وحل جده مكانهما في حياته وقلبه. لذا وبعكس اندفاعه المحموم للولوج إلى القصر تحرك بتثاقل نحو غرفة جده وهو لا يعلم كيف يمكنه نقل الخبر الأسود إليه.

طرق باب غرفة جده ثم فتح الباب ليجد جده غارق في خشوعه وهو يتلو بعض آيات الذكر الحكيم. فوقف رؤوف بهدوء ظاهري عكس ما يعتمل داخله وهو في انتظار أن ينتبه جده لوجوده، وهو ما حدث بعد عدة دقائق، حيث التفت الجد إلى حفيده:
ماذا وراءك يا رؤوف؟ لما أتيت في هذا الوقت من النهار؟
تقدم رؤوف من جده وجثى بجانبه وهو يقبل ظاهر يده:
صباح الخير يا جدي. كيف حالك؟
تعجب الجد ورمق حفيده بنظرة متفحصة وهو يقول بحدة:.

ماذا بك يا رؤوف؟ هل تركت الشركة في ذلك الوقت من النهار لتسألني عن أحوالي؟
ازدرد رؤوف ريقه بعصبية فهو غير معتاد على تقريع الجد له:
جدي. أمممم. جدي...
صاح الجد بغضب وهو ينهض من كرسيه:
رؤوف. هات ما عندك. فلا وقت لدي أو لديك لهذا التردد.
وجد رؤوف أن المواجهه هي أفضل حل. فنظر في عيني جده وهو يقول:
جدي إنك رجلٌ مؤمن. ولم تعترض يوماً على قضاء الله.
قاطعه جده:
هل الأمر يتعلق بعمك عبد الرحمن؟ هل هو مريـ.ـض؟ أم.

ترك سؤاله معلق فلسانه لم يطاوعه لينطق الكلمة.
تعجب رؤوف من فراسة جده، وروحه الشفافة التي استشفت الكارثة رغم عدم وجود مقدمـ.ـا.ت لها، فنكس رأسه ليخفي بضع دمعات ترقرقت في عينيه: البقاء لله.
ترنح الجد في وقفته فتحرك رؤوف مسرعاً ليدعمه وهو يرافقه ليعود إلى مجلسه. سأله الجد بصوت خفيض مكسور يسمعه للمرة الأولى: ماذا؟ كيف؟
أدرك أن جده يطالبه بالتفاصيل فحاول أن يراوغه: جدي يجب أن ترتاح. دعني اتصل بالطبيب ثم.

قاطعه الجد بشراسة: أخبرني يا رؤوف. كيف؟ هل كان حادث سيارة آخر؟
تنهد رؤوف وهو يجيب جده: كلا يا جدي. لقد كنا معاً في المصنع عنـ.ـد.ما شعر عمي بألم شـ.ـديد في كتفه الأيسر. حاولت أن أقنعه بأخذه إلى المشفى لكنه رفض. ثم طلب الذهاب إلى المنزل. و، و. قبل أن نصل...
صمت ولم يجد ما يضيفه...

ساد الصمت لعدة دقائق ورؤوف يتأمل جده يحاول تبين تلك القوة التي يتمتع بها الرجل. فقد علم للتو بأنه فقد ابن ثانٍ ومع ذلك يبدو في غاية الثبات...
ثم سمع جده يهمس في صمت وكأنه كان بداخل عقله يقرأ أفكاره: إنما الصبر عند الصدمة الأولى.
فأجابه رؤوف: صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم تنحنح ليجلي صوته: جدي.

عاد جده لمقاطعته: رؤوف يا بني. إنني أعتمد عليك اليوم. حاول أن تنهي جميع الإجراءات قبل غروب الشمس، أنت تعلم أن عمك عبد السلام لا قِبل له بمواجهة المصائب.
تقدم رؤوف منه وهو يجيبه: حسناً، يا جدي. لا تقلق، سأُنهي كافة الأمور. ولكن هل أنت متأكد أنك لا تحتاج إلى طبيب؟
أجاب الرجل المسن: كلا يا رؤوف. فقط استدعي عمتك قمر.
بالطبع يا جدي.

أنهى رؤوف كافة الإجراءات المطلوبة لدفن عمه. وكلف رجاله بإقامة سرادق ضخم للعزاء، يليق بعائلة الجيزاوي أكبر عائلات تلك المحافظة في جنوب مصر.
أذهل عبد الرؤوف الجميع كالعادة بصلابته وقوة إيمانه وهو يرفع التابوت الذي يحتوي على جثمان ابنه مع الرجال ويصر على ذلك، رغم محاولة رؤوف لمنعه. ولكن الرجل المسن تمسك بالتابوت وكأنه يريد أن يحتفظ بآخر لحظاته مع ابنه قبل أن يواريه التراب.

عاد الجميع إلى قصر الجيزاوي. وذلك لتناول الغذاء كما تقتضي العادات. وكانت مأدبة كبيرة تولت قمر الإعداد لها بمساعدة العديد من النساء اللذين قام رؤوف باستئجارهن لمساعدة عمته، كما حضرت لتقديم المساعدة شموس زوجة عبد السلام الابن الأصغر لعبد الرؤوف هي وبناتها الثلاث. سهير، وقمر، ونادية. اللاتي كن في حالة ذهول وخوف مما يرينه حولهن من مظاهر البكاء والنحيب.
فقالت قمر لزوجة أخيها:.

شموس. فلتصعد الفتيات إلى الطابق العلوي الآن حتى لا تصبن بالهلع.
أجابتها شموس:
أنتِ تعلمين أن نعمـ.ـا.ت زوجة المرحوم عبد الرحمن نائمة في الطابق العلوي بعد أن حقنها الطبيب بذلك العقار المهدئ بعد انهيارها في المقابر، وأخشى أن يزعجنها.
ترقرقت الدمـ.ـو.ع في عيني قمر وهي تقول:
نعم. لقد انهارت المسكينة تماماً.
ثم عادت تقول لشموس:
ولكنكِ أيضاً بحاجة إلى الراحة. فأنتِ حامل والاجهاد ليس في صالحك.

وأردفت وهي تقول بلهجة ذات معنى:
إن شاء الله يكون ولد هذه المرة. فبناتكِ بحاجة إلى أخ ليكون سند لهن.
تمتمت شموس:
إن شاء الله.
أخذت شموس بناتها الثلاثة وخرجت من المطبخ حتى لا تسمع المزيد. فهي تعلم أنها لم تنجب لزوجها إلا البنات وجميع من في العائلة ينتظر جنينها بلهفة هذه المرة عله يكون الولد المنتظر...

لا تدري لم يُركز الجميع عليها وخاصة قمر التي دائماً ما ترمي بمثل هذه التعليقات. لما لا تجدها تُسمع نعمـ.ـا.ت مثل تلك التعليقات فهي لم تنجب من الأساس لا بنات ولا بنين. لقد مـ.ـا.ت عبد الرحمن رحمه الله بدون أن يترك أي ذرية...
انتبهت شموس تلك اللحظة أن عائلة الجيزاوي كبرى عائلات وجه قبلي وأكثرها ثراء، لا وريث لها إلا رؤوف و، الطفل الذي يقبع في أحشائها، إذا كان ذكراً.

وقف رؤوف بجانب جده وعمه بداخل سرادق العزاء المهول، ورغم أنه أقيم على عجل إلا أن ذلك لم يمنع من ظهور إمارات ثراء ونفوذ عائلة الجيزاوي، بدء من المقرئ الذي يتردد اسمه في القنوات الفضائية والذي تم استدعائه من القاهرة إلى المعزيين أنفسهم وهم من كبـ.ـار رجال المحافظة والمسئولين واللذين قدموا لتقديم واجب العزاء في الفقيد الشاب، فعبد الرحمن مـ.ـا.ت قبل أن يبلغ الأربعين.

كانت تلك المعلومة هي ما يتهامس به الجميع. رجالاً كانوا أم نساءً. ولكن عند النساء كانت الحوارات تزيد عن الهمس. فمنهن من كانت تتحسر على شبابه، ومنهن من كانت تهمس بموته دون وريث أو ذرية. ومنهن من كانت تتحسر على عائلة الجيزاوي نفسها. فيبدو أن أبنائها يموتون في شرخ شبابهم. فكما مـ.ـا.ت عبد الله الابن الأكبر منذ خمسة عشر عاماً وكان شاباً في عشريناته. ها هو أخاه عبد الرحمن يلحق به.

بدأت بعض النسوة في التساؤل إذا ما كان مصير عبد السلام آخر الأبناء وأصغرهم سيكون مماثلاً!

كانت الصغيرة قمر كعادتها الفضولية تتسلل لتكون بجانب عمتها قمر. فالصغيرة قمر. أو نور القمر وهذا اسمها. هي المفضلة عند العمة. ودائماً تخبرها أنها تشبهها، ليس في الشكل ولكن في الطباع والقوة. ولكن نور القمر بسنواتها الثمانية لم تكن تفهم تماماً ما الذي تقصده عمتها، بقولها. إن قلبها يحدثها أن مصير عائلة الجيزاوي مرهون بنور القمر.

بينما كانت تتحرك الصغيرة قمر بين النساء باحثةً عن عمتها بدأت تلك الهمسات تصل إلى أذنيها، وبدأ عقلها الصغير يستوعب أنهن يتنبأن بوفاة والدها، فتوجهت قمر بكل قوتها نحو تلك السيدة التي تتنبأ بوفاة عبد السلام، لتنهال عليها بقبضتها الصغيرة:
أنتِ كاذبة. أبي لن يموت، هو لن يتركني. أنتِ شريرة.
استمرت قمر بضـ.ـر.ب السيدة التي حاولت تفادي القبضة الصغيرة وهي تقول:
توقفي يا فتاة، توقفي يا بنت شموس. صحيح قليلة أدب.

صاحت الصغيرة:
لست قليلة أدب، ولا تناديني بنت شموس، أنا ابنة عبد السلام وحفيدة عبد الرؤوف الجيزاوي.
ثم داست على قدم السيدة المذهولة وانطلقت مسرعة إلى حديقة القصر تبحث عن والدها قبل أن يختطفه الموت منها...

في تلك الأثناء كان الجد شعر بتوعك خفيف فعرض رؤوف عليه أن يقوم بايصاله لغرفته ولكنه رفض بصلابة وطلب من حفيده أن يذهب لإحضار دوائه من غرفته. وبالفعل كان رؤوف في طريقه ليلبي طلب جده عنـ.ـد.ما اصطدم بتلك الفتاة المسرعة كالسهم...
فأوقف قمر وثبتها من كتفيها وهي تتلوى تحت يديه القويتين:
ماذا بكِ يا فتاة؟ إلى أين أنتِ ذاهبة يا قمر؟
دعني. دعني. أريد الذهاب إلى والدي.
صاح بها في غضب:.

هل جُننتِ يا فتاة؟ كيف تريدين الذهاب إلى مجلس الرجال؟ اذهبي إلى الداخل فوراً.
انفجرت قمر بالبكاء مما صدم رؤوف الذي نظر إلى وجهها وقد أغرقته الدمـ.ـو.ع، فعاد يسألها:
ماذا بكِ؟ لم تبكين؟..
ارتمت الصغيرة على ساقي رءوف فقد كانت صغيرة الحجم وتبدو أقل من عمرها، وزاد بكائها وهي تسأله:
رءوف. هل صحيح أن والدي سيموت هو الآخر مثل عمي عبد الرحمن؟

رفعها رءوف على كتفه فهي كانت خفيفة الوزن للغاية وهو يسألها بانزعاج:
من أخبركِ بتلك السخافات؟
أخبرته من وسط دمـ.ـو.عها:
النساء في الداخل يقلن ذلك. لم يقلن مثل ذلك الكلام البشع؟
ربت على شعرها وهو يقول:
إنها سخافات مثل ما أخبرتكِ. لا ترددي مثل ذلك الحديث مرة أخرى، وإلا سيغضب منكِ الجد. هل تريدين إغضابه؟
هزت رأسها بالنفي. فقال لها:
حسناً. سأصطحبكِ الآن للعمة قمر. فكُفي عن البكاء.

مسحت قمر دمـ.ـو.عها بظاهر يدها، وحاولت أن تمسك دمـ.ـو.عها وهي تنفذ كلام رؤوف الذي سلمها لعمته قمر التي أتت مهرولة بحثاً عن الصغيرة بعد أن أعلمتها النساء بالداخل عن تصرف قمر، فأخبرها رؤوف بما سمعته الصغيرة حتى تبعدها هي وأخواتها عن مثل تلك السخافات.

وصل رؤوف إلى جده وناوله دواءه وطلب منه الجلوس ليرتاح قليلاً. فاستجاب له الجد وجلس ليستعيد ذكريات يوم مماثل مر عليه أكثر من خمسة عشر عاماً. وذلك حين أبلغوه بوفاة ولده الأكبر عبد الله هو وزوجته في حادث سيارة تاركين خلفهما حفيده الوحيد رؤوف الذي تولى رعايته وتربيته ليكون الرجل القادر على تولي أمور العائلة من بعده هو وعبد الرحمن...

لكن عبد الرحمن الآن توفى. ولم يبقَ سوى رؤوف حفيده وعبد السلام ولده والذي لا يمكنه الاعتماد عليه في تولي أبسط الأمور. حمداً لله على وجود رؤوف فهو الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه في الوقت الراهن.

عادت تداهمه ذكريات دفن ولديه مرة ثانية. فمن كان يصدق أنه من سيقوم بدفن أبنائه وليس العكس. هل كتب عليه أن يتمتع بالثروة الطائلة والنفوذ ويُحرم من وجود أبنائه حوله. يا الله. إن الفطرة الطبيعية تحتم أن يكون الولد هو من يقوم بدفن أبيه وتلقي العزاء فيه، وليس العكس...

عاد ليستغفر الله، فتفكيره هذا اعتراض على قضائه. واستمر في التسبيح والاستغفار عله يتغلب على لحظة الضعف التي أصابته ولكنه بدأ يشعر بالآلام تهاجمه. وتزداد عليه وصعب عليه إلتقاط أنفاسه وفكر أنه أخيراً سيلحق بولديه...
لمح رءوف حبات العرق تتلألأ على جبين جده فتحرك نحوه مسرعاً:
جدي. جدي.

نقل الحاج عبد الرؤوف إلى المشفى إثر أزمة قلبية طفيفة ورافقه ابنه عبد السلام وظل رؤوف في سرادق العزاء. فهذا واجبه، وبرغم القلق الذي يعصف به على وضع جده الصحي إلا أنه ظل ينتقل بين المعزيين ثم أشرف على تقديم العشاء لمن لم يلحق مأدبة الغذاء فتلك تقاليد لابد من اتباعها وتنفيذها وذلك ما يريده جده منه بالتأكيد. وظل يؤدي واجبه المفترض حتى رحل آخر المُعزيين.
انتفض عبد السلام عند سماعه طلب أبيه بالزواج من أرملة أخيه:
كيف يا أبي؟ إنها أرملة أخي؟! كما أنني متزوج بالفعل. ماذا سأقول لشموس والبنات؟
رد الأب بصرامة:
هذا واجبك يا عبد السلام. فيجب أن تحافظ على أرملة أخيك، كذلك لا يمكن أن أسمح بتفتت أملاك العائلة، ونعمـ.ـا.ت مازالت شابة وستجد العشرات ممن يطلبون زواجها، فهل فكرت في مصير ممتلكات العائلة لو حدث هذا؟
عاد عبد السلام يجادل والده:.

إنني أعلم كل ذلك يا أبي، ولكن كيف يمكنني؟ كيف؟ وشموس والبنات و...
قاطعه والده بعنف:
ألن تكُف عن ضعفك هذا؟ متى ستكون على مستوى المسئولية؟ أنا أخبرك بالكارثة التي ستحيق بالعائلة، وأنت تخشى على مشاعر زوجتك! إن تلك الزيجة ضرورة وليست رفاهية. لقد مـ.ـا.ت أخواك، ولم يبقَ سواك لتحمل مسئولية العائلة. أنا لا أطلب منك، ولكني آمرك بالزواج من نعمـ.ـا.ت وعليك طاعتي.

بُهت عبد السلام من العنف الواضح في كلام والده، وأدرك عمق المشكلة المُلقاة على عاتقه. فأمر الزواج حُسم بالفعل في عقل والده وهو عليه التنفيذ. لكن شموس لن توافق أبداً على زواجه من أخرى، كيف سيخبرها؟ فشموس ليست مجرد زوجة إنها حبيبته وابنة عمه، وهي تغار بشـ.ـدة. كيف تهون عليه عِشرة السنين، ويخبرها بأنه على وشك الارتباط بأخرى تشاركها حقها فيه؟ لن يكون الأمر سهلاً أبداً.
فليحاول مع أبيه مرة أخرى...

قال بهدوء:
إنني بالطبع مدرك لحجم تلك الكارثة، لكن هل زواجي من نعمـ.ـا.ت هو الحل الوحيد؟ والأهم هل ستوافق نعمـ.ـا.ت على تلك الزيجة؟
عاد الأب يرمقه بتلك النظرات المتفحصة وكأنه يريد أن يتأكد من غرضه من السؤال عن موافقة نعمـ.ـا.ت، وأجابه:
أترك أمر نعمـ.ـا.ت الآن، إنها شابة وبالتأكيد تطمح للأمومة وهذا كفيل بموافقتها.
فغر عبد السلام فاه وقال بتعجب:
الأمومة! أي أمومة؟ لقد ظننت أن نعمـ.ـا.ت لا تنجب.
صاح به الأب:.

ومن قال لك هذا؟
تعجب عبد السلام من غضب والده، فتلعثم وهو يقول:
حسناً يا أبي. لا داعي لكل ذلك الغضب. لقد كان مجرد ظن، فقط.
قاطعه الأب:
إن نعمـ.ـا.ت امرأة أصيلة ورائعة. فهي تحملت اللمزات والظنون حول عقمها لسنوات. ولكن أخاك- رحمه الله- أخبرني أنه صاحب المشكلة وكان يخضع للعلاج، لكن...
وصمت قليلاً. ثم أردف:
حسناً يا بني. أنت تفهم الآن ضرورة زواجك من نعمـ.ـا.ت، عسى الله أن يرزقك منها بالولد الذي طال شوقك له.

أجاب عبد السلام بقوة:
إن الله أنعم على بثلاث بنات والحمد لله، وشموس حامل يا أبي، ولعل الله يكرمنا بالولد الذي تشتاقون إليه ولكني أحمد الله على بناتي ولا أستبدلهن بكل ذكور الدنيا.
نهره الأب بقوة:.

هل تراددني يا ولد؟! أنت تعلم أني أحب حفيداتي جداً، ولم أفرق في المعاملة يوماً بين أولادي الذكور وبين قمر ابنتي، وأنت خير من يعلم بمكانة قمر في قلبي، لكني أتكلم عن الولد كحامل لاسمك واسم العائلة من بعدك، فهل تفهم ما أقول؟
أجابه عبد السلام وهو مُنكس الرأس:
أعتذر عن إغضابك يا والدي، لكن كما سبق وقلت أن شموس حامل و.
عاد والده يقاطعه بقوة:.

لقد أخبرتك أن موضوع الزواج نهائي ولا يوجد مجال للتراجع حتى لو أنجبت لك شموس ابناً، فلابد لنا من السيطرة على أملاكنا، إنني أتكلم عن مصلحة العائلة الآن، هل فهمت؟
ثم أردف:
اذهب وأبلغ زوجتك بقراري، ودعني لأستريح قليلاً.
تحرك عبد السلام متوجهاً خارج الغرفة وهو يتمتم:
أمرك يا والدي.
ولكنه كان يعلم صعوبة ما هو مقدم عليه.

مشكلة. أزمة. صعوبة. استحالة. كارثة.
كلمـ.ـا.ت لا تفي موقف عبد السلام أمام شموس وما أثارته من عاصفة من البكاء والصراخ في مواجهة خبر زواجه من نعمـ.ـا.ت. حاول أن يجعلها تدرك صعوبة الموقف المالي الذي تواجهه العائلة بعد وفاة عبد الرحمن، ولكن كان ردها الوحيد هو المزيد من الصراخ والنحيب وهي تقول:
تريد. الزواج. مرة أخرى؟ أنا أعلم. أنك. تريد الولد. الوريث الذكر. الذي سيحمل الشعلة. من بعدك. أليس كذلك؟

ربت على كتفها يريدها أن تهدئ، فما تفعله خطر عليها وعلى جنينها:
اذكري الله يا شموس، لقد أخبرتك بالسبب الحقيقي وراء تلك الزيجة، ثم أي ولد؟ وأي وريث؟ فأنتِ حامل بالفعل.
قاطعته وكأنها اكتشفت للتو أنها حامل:
حامل! أنا حامل هذا صحيح، ونعمـ.ـا.ت لم تنجب لأخيك أي ذرية. إذاً ما سبب زواجك منها؟
وارتفع صوتها ونحيبها يزداد:.

إنك تحبها، أليس كذلك؟ بالطبع تحبها فهي جميلة للغاية. ولم يتشوه جسدها بالحمل والإنجاب، أليس كذلك؟
ربت عبد السلام على كتفها مهدئاً:
ما هذا الكلام؟ أنتِ تعلمين مقدار معزتكِ وحبكِ في قلبي، فما الداعي لتلك الترهات؟ لقد أخبرتكِ أكثر من مرة السبب وراء تلك الزيجة. إنه في أحسن الأحوال زواج مصلحة.
رفعت كلمـ.ـا.ته من مؤشر غضبها بدلاً من أن تخفضه فارتفع صوتها:.

مصلحة! أي مصلحة؟ وهل من مصلحتي أنا وبناتي وجود امرأة أخرى في حياتك؟
شعر عبد السلام أنه يتعرض للضغط من كل الأطراف، فصاح بنفاذ صبر:
ماذا أفعل؟ كيف أتصرف؟ أخبريني. هل تريدينني أن أعصى والدي؟ هل تبغين ضياع ممتلكات العائلة وتشتتها في كل صوب؟ أخبريني بالحل الصحيح؟ أشيري عليّ بمخرج يحل المشكلة يا أم البنات؟
بدا أن شموس لم تستمع سوى لكلمته الأخيرة فتجاهلت كل أسئلته وهي تقول:.

هل تعايرني بإنجاب البنات يا عبد السلام؟!
مسح عبد السلام وجهه بكفيه ثم ضـ.ـر.بهما ببعض وهو يقول بيأس:.

لا حول ولا قوة إلا بالله. ألم تسمعي حرف مما أخبرتكِ به يا شموس؟ هل هذا هو ما تظنينه بي بعد سنين العِشرة؟ هل تعتقدين أنه سهل عليّ وقوفي أمامكِ الآن لأستمع كل تلك الاتهامـ.ـا.ت، والتي تدركين مثلي تماماً عدم صحتها؟ ولكنكِ تحتاجين لتفريغ غضبكِ وحزنكِ، وأنا مدرك لذلك. لكن لكل إنسان قدرة على الاحتمال، وأنا نلت ما يكفيني منكِ ومن أبي.
تهدج صوتها وهي تجاوبه:.

لا تتوقع أن تسمع مني موافقة صريحة يا عبد السلام، ولكن افعل ما شئت.
انطلقت إلى غرفتها لتفرغ كل دمـ.ـو.عها، وبداخلها أمل ضئيل أن يقف عبد السلام في وجه والده ويرفض تلك الزيجة، أو يظهر أي حل سحري لتعود أملاك العائلة بدون أن تضطر لمشاركة زوجها مع امرأة أخرى، وأي امرأة...

إن نعمـ.ـا.ت امرأة خلابة الأنوثة والجمال فنعمـ.ـا.ت رغم أعوامها الخمس والثلاثون إلا أنها لا تبدو إلا في الخامسة والعشرين، فكرت شموس بحنق يقترب من الحسد في جمال نعمـ.ـا.ت ذات العيون البندقية الواسعة والشعر البني ذو اللمعة الحمراء الطبيعية بالإضافة لقوام رشيق أهيف لم تشوهه علامـ.ـا.ت حمل أو انجاب. وعبد السلام رجل، مثله مثل كل الرجال. صحيح هي موقنة من حبه، ولكنه بالطبع سيخضع لسلطان الجمال بخاصة لو كان هذ الجمال ملكه وحلاله، ولحظتها ستموت شموس، ستموت من حسرتها.

توجهت قمر نحو والدها وعلى وجهها ابتسامة حب وتناولت يده لتقبلها وهي تحييه:
صباح الخير يا حاج؟ كيف حالك؟
ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه عبد الرؤوف لمرأى ابنته الوحيدة، فأشار إلى المقعد الخالي بجواره وهو يقول:
الآن أصبحت في خير حال بعد أن رأيتكِ يا قرة عين أبيكِ. ستتناولين الغذاء معي اليوم.
ضحكت قمر بسعادة:.

أنا تحت تصرفك يا والدي، ولكن هل يرضيك أن يتضور أولادي ووالدهم جوعاً؟!، فكما تعلم أن أنور لا يأكل إلا من طعامي، وكذلك الأولاد.
ضحك الأب وهو يقول بغضب مصطنع:
تباً له ذلك الأنور الذي سلبني ابنتي الوحيدة وقرة عيني ونور منزلي الوضاء. من يكون ذلك الرجل الطيب الذي قام بتزويجك له؟
ضحكت قمر بدورها وهي تجاوبه:
من زوجني له هو قرة عيني أنا، وكلامه سيف فوق رقبتي. لذلك لم أستطع رفض الزواج من ذلك الأنور.

ارتسمت ابتسامة حزينة على وجه عبد الرؤوف عند سماعه لكلمـ.ـا.ت ابنته وقال لها:
كم أتمنى أن أسمع تلك الكلمـ.ـا.ت بلسان أخيكِ.
ترددت قمر قليلاً ثم قالت بتلعثم:
إممممم. لقد. إممم.
قاطعها والدها وهو يقول بفراسة:
لما تترددين يا قمر؟ لم أعهدكِ هكذا يا ابنتي، من اتصل بكِ منهما وطلب منكِ الوساطة؟ عبد السلام أم شموس؟
أجابت قمر بسرعة:.

شموس. إنها شبه منهارة يا أبي، وهي حامل كما تعلم وكل تلك الانفعالات ليست في صالحها. هل نستطيع تأجيل الموضوع لفترة، حتى تنهي حملها على خير و...
قاطعها والدها للمرة الثانية:
وماذا يا قمر؟ هل سيتغير رأيها؟ لا أعتقد. ثم أن عدة نعمـ.ـا.ت أوشكت على الانتهاء، وأخشى أن تطلب الرحيل عن القصر.
قمر بصدمة:
الرحيل؟! إلى أين؟
أجابها والدها بغموض:.

إلى القاهرة. فلها خالة تعيش هناك، ولكنها لم تكن على علاقة وثيقة بها. أنا أعلم أن نعمـ.ـا.ت أصيلة وعلى دراية تامة بتقاليدنا ولكني لا أضمن الظروف فقد تقرر الرحيل وعدم المكوث في منزل يعيش به والد زوجها المتـ.ـو.في وأيضاً ابن أخيه الشاب، فأنتِ تدركين جيداً أنني لن أتركها تعيش في بيت عبد الرحمن بمفردها.
صمت قليلاً. ثم أردف:
دعي لي شموس. فهي ابنة أخي وأنا أدري كيف أتعامل معها.

كان الصمت هو سيد الموقف في منزل عبد السلام. فهو صامت ينتظر من شموس أي ردة فعل ليجيب طلب أو بالأحرى أمر أبيه، وهي صامتة تبتهل في صمت أن تأتي آخر محاولاتها بنتيجة. فهي قد توسلت لقمر أخت زوجها أن تتدخل لإيقاف تلك الزيجة، وقد بدت قمر غير مقتنعة بالتدخل فهي قبل كل شيء ابنة أبيها، وتعلم حتمية تلك الزيجة. لكن بعد توسلات وافقت قمر على التدخل خوفاً على صحة شموس وما تحمله في أحشائها فقد يكون الصبي المُنتظر. وشموس الآن تعيش على الأمل في انتظار أن تأتي تلك المحاولة بنتيجة لصالحها.

لكن ذلك الأمل مـ.ـا.ت في مهده عنـ.ـد.ما لمحت من نافذة المطبخ سيارة عمها الفارهة تدلف إلى فناء منزلها وهو يترجل منها ويتحرك بتثاقل نحو بابها. فعلمت أن محاولة قمر قد مُنيت بالفشل الأكيد.
هرولت نحو غرفة الضيوف منزلها لترحب بعمها- بعد أن نادها زوجها- فهو لا يخرج من قصره ليزورهم كل يوم، فوجدته جالساً في صدر المجلس وانحنت على يده لتقبلها:
مرحباً بك ياعمي، لقد حلت البركة على بيتي بتشريفك له.

ربت عبد الرؤوف على رأسها:
بـ.ـارك الله فيكِ يا ابنة أخي وزوجة ابني. تعالي واجلسي بجانبي هنا، هيه ماذا لديكم على الغذاء؟ فقد قررت أن أتناول غذائي معكم اليوم.
قالت شموس بلهفة:
سوف أذهب الآن لأطهو لك جميع ما تحبه من أطعمة شهية. وحلويات أيضاً.
ضحك الرجل العجوز وهو يمنعها من النهوض:
حسناً. انتظري قليلاً.
ثم التفت إلى ابنه:
وأنت يا عبد السلام، ألا ترغب في إحضار حفيداتي حتى يسلمنَ على جدهن؟

أجابه عبد السلام بتلعثم:
نعم، بالطبع. أكيد يا أبي، سأذهب الآن لأحضرهن.
ذهب عبد السلام بالرغم من التضرع الواضح في عيني زوجته بأن يبقى ولا يتركها وحيدة في مواجهة كبير عائلة الجيزاوي، الذي التفت ناحيتها وهو يقول بتمهل:
شموس. أنتِ تدركين مكانتكِ عندي ومعزتكِ في قلبي، فأنتِ مثل قمر ابنتي تماماً.
أجابته بتلعثم:
نعم يا عمي. أنا.
قاطعها عبد الرؤوف قائلاً:
وما دُمتِ تعلمين ذلك، فلماذا تسوقين الوسطاء بيننا؟

زاد تلعثمها ولم تستطع الرد. فأردف:.

أعلم أن عبد السلام أوضح لكِ السبب الذي من أجله طالبته بالزواج من نعمـ.ـا.ت، وأعلم أن معارضتكِ هي شيء طبيعي ولا يمكنكِ التحكم فيه، لكني أريدكِ أن تفكري بعقلكِ قليلاً. وتضعي مصلحة العائلة أمام عينيكِ، هل تريدين ضياع أملاككِ أنتِ وأولادكِ؟ هل تريدين أن تتشتت أملاكنا ونفاجئ بشركاء الله أعلم بهويتهم؟ أنا أدرك أن ما أطلبه صعب على أي امرأة، ولكنكِ لست أي واحدة، فأنا من ربيتكِ وكبرتِ تحت ناظري، وأدرك مدى قوتكِ وثقتكِ بنفسكِ التي لن تهتز بسبب زيجة تتم من أجل العائلة أولاً وأخيراً.

ساد صمت رهيب بعد أن انتهى عبد الرؤوف من كلامه، وشموس لا تدري بما تجيبه!، وما هو التصرف السليم؟
تشعر بآلام رهيبة تهاجم قلبها وتسيطر عليه، هل أتى عمها ليضع مصير عائلتهم بين يديها؟، هل يريد أن يسمع موافقتها على تلك المهزلة؟ ماذا يريد منها؟ ولما هذا العذاب؟

إذا أراد أن يزوج ابنه بأخرى، فليفعل ولا داعي لتلك التمثيلية التي تقام من أجل التظاهر بأن ما حدث كان بموافقتها وإرادتها، إنه يخبرها بأن معزتها تماثل معزة قمر! فهل كان يقبل أن يتزوج أنور على قمر؟، أبداً. إنها متأكدة إنه كان ليدفنه حياً، لمجرد التفكير في ذلك. فلم.
قاطع عبد الرؤوف سريان أفكارها:.

صدقيني يا ابنتي لو كانت قمر من في يدها حل المشكلة، لكانت وافقت على أي حل في مصلحة العائلة، حتى بدون ذهابي إليها لأقنعها، فهي ابنتي وأنا أدرى الناس بتفكيرها. كما أنني أعلم أنكِ ستتخذين القرار الصائب.

بدأت شموس تشعر بالآلام تهاجم كل خلية في جسدها وحاولت الرد على عمها ولكنها لم تستطع إصدار أي صوت، فأدارت وجهها عنه تخفي دمـ.ـو.عها التي هطلت لتُغرق وجهها وهي تحاول الوصول لقرار صائب أو خاطيء. أي قرار، ولكنها شعرت بأن الغرفة بدأت بالدوران ببطء أولاً ثم زاد دورانها مع ازدياد دقات قلب شموس وهي تشعر بآلام رهيبة في أسفل ظهرها مما سبب لها الفزع وحاولت التقاط أنفاسها بلا جدوى.

تحركت تحاول التمسك بأي شيء ثابت فهي تشعر بأن العالم كله يدور الآن وهي تدور معه. وتدور. ليختفي ويتلاشى ببطء، جعلها تظن أنها تحلم أو تهذي. لكن ما أكد لها واقعية ما يحدث هو السائل الدافئ الذي أخذ ينساب ببطء بين فخذيها لينبأها بضياع حلمها في إنجاب الصبي...

رحلة سريعة إلى المشفى لمحاولة إنقاذ شموس وطفلها. حركة سريعة من الأطباء وطاقم التمريـ.ـض. الحالة خطيرة. نحتاج توقيعك للتدخل الجراحي السريع. كلمة تتردد بكثرة. تسمم حمل. تسمم حمل. الوضع لا يسمح بانقاذ الجنين. خروج الطبيب سريعاً يريد موافقته لإجراء ما يلزم في سبيل إنقاذ شموس.

كل تلك الأحداث كانت تمر أمام عيني عبد السلام كشريط سينمائي أداره أحدهم ونسي أن يوقفه. فظل يتأمل غرفة العمليات التي اختفى الطبيب بها منذ. منذ. هو لا يدري منذ متى! ولكنه يشعر بالوقت لا يكاد يمر. وفجأة فُتح باب الغرفة ليخرج الطبيب وملامحه متجمدة ليخبره بأن العملية تمت بنجاح، وإن كانت مرحلة الخطر لم تمر بعد.
تردد عبد السلام في السؤال وانعقد لسانه ليجد والده الذي لا يعلم متى وصل بجانبه يسأل الطبيب:.

والطفل يا بني هل نجا؟
نكس الطبيب رأسه ليخبرهم:
آسف، الجنين لم يتمكن من النجاة.
ولكن كان هناك الأسوأ شعر عبد السلام بذلك من نبرة الطبيب فنظر إليه ليحثه على إكمال حديثه، فتنحنح الطبيب محاولاً إجلاء صوته:
برغم تمكننا من إخراج الجنين بسرعة لكن النزيف استمر واستمر ولم نتمكن من إيقافه نهائياً فكان لابد من، استئصال الرحم...
استئصال الرحم. استئصال الرحم. استئصال الرحم!

تلك الجملة ظلت تتردد في ذهن عبد السلام آلاف المرات، وهو يحاول استجماع شتات نفسه ويرمق والده بنظرات كلها لوم، يتمنى لو كان يملك ما يكفي من القوة ليقف في وجهه ويرفض موضوع الزواج من البداية.

كان رؤوف يتبادل حديثاً هامساً مع الطبيب حين لمح نظرات عمه اللائمة وهو يوجهها نحو جده فأيقن أن العم في صدمة وقد يتفوه بما هو جارح أو حتى مدمر لصحة الجد الهشة، فتحرك مسرعاً نحو عمه واقترب منه بهدوء ليشـ.ـد على كتفه بمؤازرة خفية:
عمي يجب أن تتماسك، فبالتأكيد ستحتاجك زوجتك عنـ.ـد.ما تستفيق، وأنا سأتولى كافة الأمور لا تقلق.
نظر العم بعدم فهم إليه ليسأله:
أية أمور تلك؟

ازدرد رؤوف لعابه بضيق، فيبدو أن عمه واقع تحت تأثير الصدمة بقوة ولن يستفيق بسهولة:
عمي أنت تعلم أن الطفل ولد بعد الشهر السادس لذلك يجب...
سكت رؤوف ولم يعرف كيف يكمل جملته التي استوعبها عمه فأكمل عنه:
يجب دفنه. نعم لقد فهمت الآن طبيعة تلك الأمور، اذهب يا رؤوف. بـ.ـارك الله فيك يا بني.
تحرك رؤوف بسرعة من أمام عمه ولكن صوت جده استوقفه من جديد:
رؤوف.
نعم يا جدي.
سأل الجد بتردد وهو ينظر إلى ابنه:.

هل أخبرك الطبيب بنوع المولود؟
تردد رؤوف بوضوح وهو يقول لجده:
جدي. ليس هناك من داعٍ لذلك الآن.
لكن الجد عاود النداء بصرامة:
رؤوف.
نظر رؤوف إلى عمه بأسف:
لقد كان صبياً. أنا آسف يا عمي.
ورحل مسرعاً في حين التفت عبد السلام لأبيه وهو يقول بجمود قـ.ـا.تل:
أبي إنني لن أتزوج من نعمـ.ـا.ت أبداً، حتى ولو أفرغت جميع ما تملك من أسلحة في رأسي.

بعد عدة أسابيع...
دخلت قمر إلى قصر الجيزاوي بهدوء لتصادف رؤوف الذي كان يتوجه خارجاً.
كيف حال أبي الآن يا رؤوف؟
أجابها رؤوف بأسى:
صحياً إنه بخير، تبعاً لكلام الطبيب. لكني أرى أنه مدمر نفسياً، حتى بعد حضور عمي عبد السلام للاعتذار له بل وتوسله السماح أيضاً، لكني أعتقد أن جدي يحمل على عاتقه ما حدث لخالتي شموس، ولا يستطيع مسامحة نفسه حتى أنه غير قادر على مفاتحة عمي مرة أخرى في موضوع الزواج.

ربتت قمر على كتفه وهي ترمقه بإحدى نظراتها المتفحصة والتي تجعلها أقرب شبهاً بجده وهي تقول:
حسناً. لا تقلق يا رؤوف، إن عمتك قمر وصلت وسوف تجد حلاً لجميع تلك المشاكل.

تركته لتتوجه إلى غرفة والدها وقد ارتسم على وجهها نظرة عجيبة تترجم ما كان يدور في عقلها من مخطط رهيب لحل مشكلة العائلة وأملاكها، تلك الخطة التي ما أن سمعها عبد الرؤوف حتى انتفض رافضاً بشـ.ـدة. ولكن قمر استطاعت- بكل دهاء الأنثى الطبيعي والذكاء المتوارث في جينات الجيزاوي والذي نالت منه قمر نصيباً وافراً- أن تقنع والدها بذلك الحل الشيطاني للحفاظ على اسم العائلة وممتلكاتها. واضطر كبير العائلة للموافقة على الحل وهو يشعر بمرارته في جوفه!
ربتت قمر على كتف والدها برقة: أرجوك يا أبي. لا داعي لكل ذلك الحزن، أنت تعلم أنه الحل الوحيد المُتاح أمامنا الآن، هل تظن أنني سعيدة أو مرتاحة لذلك؟ ولكن لا مفر.
نكس الرجل المسن رأسه بأسى وهو يهمس: نعم. لا مفر، لقد أجبرتنا الظروف على ذلك. ولكنني تمنيت أن يختار ذلك اليتيم زوجته بنفسه، فقد ظلمته الحياة كثيراً. وها هي الظروف تضطرنا لإجبـ.ـاره على الزواج ومن امرأة تكبره بخمسة عشر سنة!

ثم وضع وجهه بين كفيه وهو يقول: رحماك يا الله.
ركعت قمر بجوار كرسي والدها وهي تتوسله: أرجوك يا أبي. ارحم نفسك قليلاً، فرؤوف شاب عاقل ومُدرك تماماً لأهمية ذلك الموضوع، كما أن نعمـ.ـا.ت مازالت في ريعان شبابها ولا يبدو عليها سنها الحقيقي أبداً، فهي كانت دائمة الاعتناء بنفسها.
تمتم والدها بشرود: فليفعل الله ما فيه الخير.

توجهت قمر من فورها إلى غرفة نعمـ.ـا.ت ودخلت إليها بعد أن طرقت الباب:
صباح الخير يا نعمـ.ـا.ت. هيه، ماذا تفعلين؟
أجابتها نعمـ.ـا.ت برقة فقد كانت تكن لقمر معزة خاصة:
أهلاً بقمر الزمان. أنا كما ترين لا أفعل شيء سوى المكوث بحجرتي طوال اليوم، من الجيد أنكِ هنا، فلتبقِ معي اليوم. أرجوكِ يا قمر فأنا أشعر بملل رهيب.
جلست قمر بجوارها على الفراش وهي ترمقها بتفحص وتقول:.

إذاً يجب علينا أن نجد حلاً لذلك الملل، حل نهائي!
ضحكت نعمـ.ـا.ت وهي تسألها:
آه. قمر تتحدث بالألغاز، كعادتها عنـ.ـد.ما تريد شيئاً ما.
بادلتها قمر الضحك وهي تقول:
لكن هذه المرة أنتِ من تريدين، ولست أنا.
قطبت نعمـ.ـا.ت حاجبيها وهي تقول:
أنا التي تريد!، أنا لا أفهمكِ يا قمر.
أجابتها قمر بخبث:
لا تخبريني أنكِ لم تبتهلي ليلاً ونهاراً ليكون لكِ طفلاً يناديكِ بأمي، ومازلتِ تحلمين بذلك. هل أنا مخطئة؟

بهتت نعمـ.ـا.ت وتغير وجهها وهي تلوم قمر بقولها:
ما الداعي لهذا الحديث الآن يا قمر؟ لقد احترمت فيكِ دائماً بعدكِ عن تلك اللمزات والتعليقات بشأن إنجابي أنا وعبد الرحمن رحمه الله، فكيف تسأليني الآن بعد وفاته مثل تلك الأسئلة؟
عاد المكر ليرتسم فوق ملامح قمر وهي تمسح بعض دمعات تساقطت على وجنتي نعمـ.ـا.ت الناعمتين:
لما البكاء يا نعمـ.ـا.ت؟ أنا لم أكن أريد جرحكِ. فأنا أعلم جيداً أن عدم الإنجاب كان مشكلة عبد الرحمن.

تفاجأت نعمـ.ـا.ت وهي تسمع ذلك الاعتراف من قمر وسألتها:
كي. كيف تعلمين؟
نهضت قمر من الفراش فقد شعرت أنها لا تستطيع المكوث في بقعة واحدة بدون أن تتحرك وقالت لنعمـ.ـا.ت:
دعكِ من هذا الآن، وأجيبي سؤالي أولاً هل تتوقين لابن أو ابنة؟
نظرت إليها نعمـ.ـا.ت بأسى وهي تقول:
وهل تحتاجين لإجابة يا قمر؟ هل توجد امرأة طبيعية لا تتوق للأمومة! لكن يجب على أن أنسى ذلك الحُلم وأواريه التراب مع عبد الرحمن رحمه الله.

قالت قمر وهي ترسم خطتها بذكاء:
رحمك الله يا أخي، لكن يا نعمـ.ـا.ت حرمانكِ من الإنجاب ظلمٌ بيّن، والله لا يرضى بذلك، ولا أعتقد أن المرحوم أخي كان سيرغب في ترككِ وحيدة في الحياة بدون ابن أو ابنة يكن لكِ ونيس وسند.
سألتها نعمـ.ـا.ت بحيرة:
ما معنى كلامكِ هذا يا قمر؟ هل تحاولين إخبـ.ـاري بشىء ما، رسالة ربما، من الحاج عبد الرؤوف؟ هل معنى كلامكِ هذا أنه لن يعارض إذا ما فكرت في الزواج مرة أخرى؟
عاجلتها قمر بالسؤال:.

وهل تفكرين؟ هل ترغـ.ـبـ.ـين بالزواج ثانية؟
زادت حيرة نعمـ.ـا.ت ولم تفهم هدف قمر من كل تلك الأسئلة، ونفذت قدرتها على تحمل تلاعب قمر بها فصاحت:
قمر، أتوسل إليكِ أنا لا أحتمل تلك الألغاز. لما لا تخبريني مباشرة إلى ماذا تهدفين؟
عادت قمر للجلوس على الفراش بمواجهة نعمـ.ـا.ت ونظرت في عينيها مباشرة:.

حسناً يا نعمـ.ـا.ت. لنتكلم بصراحة، أنتِ مازالتِ صغيرة وشابة ومن حقكِ أن تكوني أم مثل كل امرأة، هذا حق لا يستطيع أحد أن ينكره عليكِ، لكنكِ تدركين جيداً عاداتنا وتقاليدنا وتفكير الناس هنا في البلدة الذي سيُحرم عليكِ فكرة الزواج من خارج العائلة، لذا لقد أتيت لأعرض عليكِ الحل المناسب، ولا أخفي عليكِ سراً إن شبابكِ وجمالكِ لن يكونا في صالحكِ إذا قررتِ البقاء بدون زواج، في حين إذا وافقتِ على.

قاطعتها نعمـ.ـا.ت بغضب:
قمر. أقسم بالله أنني لا أفهم إلى ماذا تهدفين؟ أنتِ تتكلمين عن زواجي ثانية وكأنه أمر واقع لا محالة، فمتى أخبرتكِ أنني أرغب في الزواج أو حتى أفكر به؟ إن زوجي والذي هو شقيقكِ، تـ.ـو.في منذ أربعة أشهر فقط. إنني لا أزال في عدتي ولم أخرج منها، عن أي زواج تتحدثين؟!..
أخذت قمر تتفحصها لعدة دقائق وكأنها تفكر في طريقة لابلاغها بما تريد:.

نعمـ.ـا.ت. أنا أتكلم عن سُنة الحياة، عن فِطرة الخلق. أنا أعلم أنكِ مازلتِ في أيام عدتكِ، كما أعلم أيضاً أنكِ على مشارف الخامسة والثلاثين، الوقت يجري وفرصكِ في الإنجاب تتضاءل. وزواجكِ لابد منه، فامرأة في جمالكِ لن يتركها الناس وشأنها خاصة في مجتمعنا الضيق بأفكاره العتيقة. لذا المصلحة تحتم زواجكِ فور انتهاء عدتكِ، مصلحتكِ ومصلحتنا.

شعرت نعمـ.ـا.ت بأنها تغرق. تغرق وسط دوامة من الأفكار زرعتها قمر في رأسها، فعادت تسأل بحيرة:
ماذا تعنين يا قمر؟ أنا لا أفهم مصلحتي؟ ومصلحتكم؟، هل يريد عمي الحاج إخراجي من المنزل؟ هل أرسلكِ لتبلغيني بهذا؟
صاحت قمر بتعجب:
إخراجكِ من المنزل؟ من قال هذا؟ هل تعتقدين أن الحاج عبد الرؤوف يمكن أن يفكر بتلك الطريقة؟!
سألتها نعمـ.ـا.ت وقد عجزت كلياً عن فهم ما تريده قمر:
أخبريني بصراحة يا قمر. ما هو الموضوع إذاً؟

ردت قمر بتأني:
الموضوع ببساطة. أن الحاج لا يرغب في أن يراكِ خارج العائلة، فهو يقدركِ كثيراً لذا اختاركِ لتكوني زوجة لأفضل رجال العائلة.
نعمـ.ـا.ت بصدمة:
ماذا؟!
ردت قمر بهدوء مستفز:
لما كل هذه الصدمة؟ أنتِ تدركين معزتكِ في قلب والدي، وهو لم يرغب أن يراكِ زوجة لأحد من خارج العائلة.
أجابتها نعمـ.ـا.ت وهي تحاول استيعاب ما تخبرها به قمر:.

هل تعنين أن والدكِ يرغب في تزويجي من عبد السلام؟ يا إلهي! هل يريدني أن أرتبط بأخ زوجي المتزوج؟! وشموس؟ هل وافقت على تلك المهزلة؟
ثم اتسعت عيناها برعـ.ـب وهي تقول:
لهذا حدث ما حدث لشموس؟ هل أنا السبب؟ يا إلهي! يا إلهي!
أُسقط في يد قمر، فهي لم تفكر في أن نعمـ.ـا.ت يمكن أن تربط الأحداث ببعضها. لذلك سارعت بمصارحتها بدون مرواغة قائلة:.

وما شأن عبد السلام بموضوع زواجكِ؟ أنا لم أقل أن أبي يرغب بتزويجكِ منه. إن والدي يريدكِ زوجة لرؤوف ابن أخي عبد الله.
صرخت نعمـ.ـا.ت بذهول:
ماذا؟ ما هذا الجنون؟!
رمقتها قمر بغضب مستعر:
من تقصدين بالمـ.ـجـ.ـنو.ن؟ أبي؟ أم أنا؟
تلعثمت نعمـ.ـا.ت في ردها:
أنا. لم. أقصد. أنا.
قاطعتها قمر بحزم:.

إن رؤوف رجل يُعتمد عليه، ووالدي يعده منذ زمن ليحل محله في كل شيء، وأنتِ ترغـ.ـبـ.ـين في الأطفال، ولن يُسمح لكِ بالزواج من خارج العائلة، وأنتِ تدركين ذلك جيداً. إذاً. ما المشكلة؟ في إتمام الزيجة؟ إن رؤوف بلا شك سيرغب في المحافظة على بيت عمه وزوجته من ذئاب البشر، فهو رجل بحق كما أخبرتكِ. فكري جيداً. ولا تضيعي فرصتكِ الوحيدة لتكوني أم، فالعمر يجري كما تعلمين.

تأملتها نعمـ.ـا.ت بصدمة، وقد أدركت جدية الأمر، ولم تعلم بما تجبها إلا بما هو واضح وضوح الشمس ولكن قمر تتجاهله ببراعة:
قمر إن رؤوف في العشرين من عمره. إنني أكبره بحوالي خمسة عشر عاماً. هل تدركين ما معنى ذلك؟
أجابتها قمر بثبات:
وإذا كان هو لن يهتم، فلما تثيرين أنتِ الموضوع؟، ثم إن رؤوف سيبلغ الحادية والعشرين بعد أيام قليلة.

صُعقت نعمـ.ـا.ت من منطق قمر، ففغرت فاهها غير قادرة على مواصلة ذلك الحديث المـ.ـجـ.ـنو.ن. ولكنها يجب أن تحاول إيصال وجهة نظرها إلى قمر، بل إلى والد قمر الذي أرسل ابنته لاتمام تلك المهمة العجيبة والمستحيلة...
فأخذت نفس عميق ثم حاولت مرة أخرى:.

إن رؤوف بالنسبة لي. ابن أخ زوجي، أراه كشاب صغير. لن أبالغ وأقول طفل، ولكني بالفعل عاصرت أيام من طفولته، كيف بالله عليكِ أفكر في الزواج منه؟ حتى لو كان فرصتي الوحيدة كما تقولين!
نظرت قمر في عينيها وسألتها بتمعن:
هل ترغـ.ـبـ.ـين أن تكوني زوجة ثانية لعبد السلام؟
حاولت نعمـ.ـا.ت الحديث، لكن قمر منعتها بإشارة من يدها وأردفت:.

أنا أعلم أنكِ لن ترغـ.ـبـ.ـي في ذلك. فكري جيداً في رؤوف، فهو لم يكن أبداً طفل حتى وهو طفل، إن والدي يعامله كرجل منذ أن تولى رعايته ورؤوف اعتاد على ذلك فهو يتصرف ويتعامل كرجل مسئول، فلا تجعلي فارق تلك السنين عقبة في تحقيق أمنيتك.
حاولت نعمـ.ـا.ت الكلام مرة أخرى ولكن للمرة الثانية تقوم قمر بإيقافها، وتنهض من على الفراش لتقبلها مودعة وتهمس لها:
أبي في انتظار موافقتكِ.

رغم اعتراض عبد الرؤوف الخفي على تلك الزيجة العجيبة، إلا أنه يتفق مع ابنته قمر بأنها السبيل الوحيد المُتاح للحفاظ على أملاك وهيبة العائلة. وكان يدرك أن طريقه مع رؤوف أيسر بكثير من طريق قمر مع نعمـ.ـا.ت، فرؤوف سيكفيه توضيح سريع للموقف وطلب حازم من جده ليفهم أن تلك الزيجة واجبة التنفيذ، ولا مجال للاعتراض فمصلحة العائلة لها الأولوية على كل شيء وأي شخص.

لذا بعد أن تناولا العشاء على غير العادة، حاول أكثر من مرة مفاتحته في الموضوع، لكنه كان في كل مرة يجد غُصة في حلقه فرؤوف ليس حفيده فحسب بل هو كابن رابع له، وعلى الرغم من أنه لا ينـ.ـد.م على طريقته الصارمة في تنشئته إلا أنه يلوم نفسه أحياناً عنـ.ـد.ما يدرك أنه لم يعش طفولته وصباه مثل أي طفل آخر.

وها هو الآن يوشك أن يسلبه شبابه بسؤاله الزواج من أرملة عمه، لكن ليس أمامه سبيل آخر فلا مجال لطلب ذلك من عبد السلام فهو لا يستطيع حتى تلك اللحظة مواجهة عينيه بعدما خسر ابنه من قبل حتى أن يراه، ومن أدرى منك يا عبد الرؤوف بخسارة الضنى؟
قاطع أفكاره صوت رؤوف وهو يسأله:
جدي هل أنت بخير؟ إني آراك شارد الليلة؟ إلى أين ذهبت بأفكارك يا جدي؟
رمقه جده للحظات ثم قال:.

رؤوف. ساعدني لنذهب إلى المكتب، فأنا أريدك في أمر هام.
ساعد رؤوف جده حتى وصلا إلى المكتب الذي طلب الجد من حفيده إغلاقه خلفهما، ثم اضطجع على مقعد وثير وأمر رؤوف بالجلوس أمامه على الأريكة، وتنحنح ليجلي صوته ثم قال:.

رؤوف. الموضوع يخص ثروة عمك التي آلت بطرفة عين إلى زوجته. أنت أدرى الناس بصعوبة فصل الأملاك ومحاولة إعادة كل شيء إلى أصله قبل أن يقوم عمك بطلب القرض، وحتى إن حاولنا فلن أسمح بخروج ما ستتملكه نعمـ.ـا.ت خارج حدود العائلة، لن أرواغ معك يا بني، فذلك ليس أسلوبي، لن يتمكن عمك عبد السلام من الزواج منها، لذا فليس أمامي سواك الآن، رؤوف. يجب عليك الزواج بنعمـ.ـا.ت.

لن ينسى عبد الرؤوف ذلك التعبير الذي ارتسم على وجه حفيده، خليط من ذهول وتعجب ورفض واستنكار لما يسمعه ولكن ما ذبحه حقاً تلك النظرة الكسيرة التي ظهرت في عينيه للحظات. ثم أخفض بصره أرضاً وهو يخفي عينيه عن جده ويقول بصعوبة:
أمرك يا جدي. أنا موافق على ما تريد.
ربت الجد على كتف حفيده وهو يقول له:
بـ.ـارك الله فيك يا ولدي، لقد صحت تربيتي لك.
نهض رؤوف من على الأريكة وتوجه إلى جده وانحنى على يده ليقبلها قائلاً:.

أنت الخير والبركة يا جدي، وكل ما تريده أمر واجب عليّ تنفيذه.
ازدرد الجد لعابه بقوة وقال:
سيكون زواج متكامل الأركان يا ولدي، فعائلة الجيزاوي بحاجة إلى وريث من بعدك. أنت تفهمني جيداً وتفهم واجبك، لن أسمح أن يختفي اسم الجيزاوي من بعدي كأنه لم يكن. أريد أحفاد يا رؤوف، أريد أن أرى هؤلاء الأحفاد قبل وفاتي.

أشاح رؤوف بوجهه بعيداً عن جده، فبرغم كل شيء كان كلام جده محرجاً له، فهو لم يصل بتفكيره لما يعنيه الزواج حتى ذكر له جده الأحفاد، وقال بهمس:
أطال الله عمرك يا جدي.
وسكت قليلاً ثم أردف:
معذرة يا جدي سأصعد إلى غرفتي لأستريح قليلاً، هل تأمر بشيء آخر؟ هل أساعدك للذهاب إلى غرفتك؟
ربت الجد على كتفه مرة أخرى وقال:
كلا يا بني. اذهب أنت لتستريح الآن، وبالمناسية سيكون الزواج في نهاية الشهر.

توقف رؤوف عن الحركة وهو يقول:
وهل وافقت خال. أقصد هل وافقت بالفعل؟
رمقه الجد بنظرة متفحصة، وهو يفكر أنه حتى عاجز عن تسميتها فكيف بحق الله سيتمكن من.
أعاد رؤوف سؤاله:
هل وافقت؟
أجاب الجد بهدوئه المعتاد:
لا تقلق، وأعد كل شيء لاتمام الزواج.
أعلنت نعمـ.ـا.ت بتردد عن موافقتها. وكان ذلك بعد أن كادت تصاب بالجنون من التفكير، فإنذار قمر كان واضحاً.
إذا أرادت أطفال، أو حتى حياة عائلية هادئة فستكون عبر العائلة. عبر رؤوف فقط.

ومن هي حتى تعاند وتعارض أمر أصدره عبد الرؤوف الجيزاوي! ولكنها رغم ذلك لم ترضخ بسهولة، بل حاولت محاولة أخيرة للهرب من فخ تلك الزيجة، فراسلت خالتها في القاهرة تسألها العون، ولكن بالطبع وقفت سطوة عائلة الجيزاوي كحائل قوي دون تلك المعونة.

وبالرغم من علمها بالموقف المالي الذي نشأ عنه وفاة عبد الرحمن، إلا أن ذلك لن يفيدها في شيء. فكما يقولون أحبال المحاكم طويلة وهي ستكون خاسرة مثل عائلة الجيزاوي تماماً، إذا فكرت في اللجوء إليها. ستخسر سنيناً لم تعد تملكها، عمراً يتسرب من بين أصابعها.

تباً لكِ يا قمر، لقد أشعلتِ حنيناً دُفن منذ زمن وأحييتِ أملاً أنطفأ منذ دهور، لما داعبتِ حلم الأمومة بداخلي؟، آه، آه. كم أريد ذلك الطفل الذي وعدتني به كلمـ.ـا.تكِ. سأبتذل نفسي وأهين كرامتي قرباناً لتلك الكلمة السحرية. أمي،
ذلك ما كانت تحادث به نعمـ.ـا.ت نفسها وهي تفكر في زواجها من رؤوف، والذي لم يتبقَ عليه سوى أيام.

حاولت تصور رؤوف كزوج لها، ولكنها فشلت بقوة، ففارق السن غير مستساغ فهي عاصرت رؤوف كطفل. هنا. توقفت بتفكيرها. كلا هي لا تتذكره كطفل أبداً، حاولت. وحاولت. ولكنه كان دائماً صارم الملامح وجاد القسمـ.ـا.ت.

لا. لم تفكر به كطفل أبداً، أو حتى كرجل في ريعان شبابه. يا إلهي، كم هو جاد وحازم، كيف ستتعامل معه؟، كيف؟، تحمد الله في داخلها على موافقته على الإقامة في بيتها القديم، بيت عمه. ورغم دهشتها من تلك الموافقة إلا أنها لم تتوقف أمام أسبابها.

بعكس عبد الرؤوف الذي صدمه موافقة رؤوف على الإقامة في بيت عمه. وللمرة الأولى ترتسم الدهشة على معالم وجه كبير العائلة عنـ.ـد.ما سمع تلك الموافقة، تلك الدهشة التي رسمت على شفتي رؤوف ابتسامة ساخرة نجح في إخفائها سريعاً وهو يحادث نفسه: تتعجب يا جدي من موافقتي على الإقامة في بيت عمي، ولم تدهشك موافقتي على أخذ زوجته! .
هز رأسه بعجب ليقول بصوت عالٍ: نعم يا جدي. دع خال، دعها تقيم في بيتها، فالمسألة لا تهم.

فكان أن أمر كبير العائلة ببعض التصلحيات والتجديدات به، وكان على رأسها بالطبع تغيير غرفة النوم تغيير شامل، لتخفي معالمها القديمة وتستعد لإستقبال الزوج الشاب الذي عقدت عليه الآمال لتـ.ـو.فير وريث لعائلة الجيزاوي...

بالفعل كُتب الكتاب بعد انتهاء عدة نعمـ.ـا.ت بأسبوع. ولم يكن ضمن الحضور سوى عبد الرؤوف وعبد السلام اللذان شهدا على العقد وأنور زوج قمر...
لم تحضر شموس ولا بناتها وتعذرت بحالتها الصحية. ولكنها كانت مجروحة منهم جميعاً، كما أنها كانت غاضبة بشـ.ـدة لتوريطهم رؤوف في تلك الزيجة المشوهة.

تباً لكل الأموال والأملاك التي ستتسبب في دفن شباب رؤوف بين أحضان زوجة عمه، التي لا تدري كيف وافقت على استبدال العم بابن أخيه!

دخل رؤوف إلى البهو وهو يتقدم نعمـ.ـا.ت التي كانت تنظر إلى الأسفل ولم ترفع رأسها حتى بعد أن سمعته يقول: تفضلي.
ثم أغلق الباب بعد أن دخلت هي، لتنظر إلى الباب بفزع وكأنها لم تستوعب بعد أنها ستكون معه. وحيدة. في بيتها القديم.
حاول رؤوف الكلام أو حتى افتعال أي حوار مهذب، ولكنه لم يجد ما يتفوه به. فما كان منه إلا أن توجه إلى غرفة المكتب وهو يتمتم بكلام لم يعلم إن كانت فهمته أم لا...

سأراجع بعض الأوراق المتعلقة بالعمل قبل أن آوي إلى الفراش.
ثم تحرك مسرعاً داخل غرفة المكتب ليغلق بابها خلفه، ويستند عليه وهو يلهث وكأن كلمة فراش قد ذكرته بما هو مطالب به في تلك الزيجة. حاول تهدئة أنفاسه وهو يتمتم:
اهدأ يا رؤوف. اهدأ. ما بك؟ ألست رجلاً بما يكفي أم ماذا؟ .

وضع وجهه بين كفيه يحاول استرجاع هدوءه، ليخرج إلى زوجته ويحاول اصطناع ثقة لا يشعر بها ولكنه عليه أن يتقنها، بدلاً من هروبه من أمامها كطفل صغير، أوقف أفكاره ومحاولاته الواهية صوت باب يغلق فأدرك أنها صعدت لغرفتها لتنام وتعفيه من حرج الموقف.

أما نعمـ.ـا.ت فقد فوجئت باختفاء رؤوف من أمامها وهو يتمتم بكلمـ.ـا.ت عن العمل، ثم يتركها وحيدة في بهو منزلها. تلفتت حولها قليلاً، لتدرك أن زوجها الشاب فضل اللجوء إلى عمله عوضاً عن أحضانها، فتحركت ببطء لتصل إلى غرفتها الجديدة وتغلق بابها بصوتٍ مسموع وبداخلها هي شاكرة لهروب رؤوف منها.

استيقظ رءوف مع أول ضوء للشمس وهو يشعر بتصلب في جميع أنحاء جسده ليكتشف أنه قضى الليلة على الأريكة في غرفة المكتب مثل كل ليلة من االشهر الذي مضى منذ زفافه، حرك جسده قليلاً ليتمكن من النهوض. ليأخذ حماماً سريعاً ينشط به نفسه ثم يخرج متوجهاً إلى الشركة.

بينما وقفت نعمـ.ـا.ت تراقبه من خلف نافذتها كعادتها يومياً، فكان هذا روتينها اليومي منذ أن تزوجا، واستيقظت في اليوم التالي لزفافهما لتفاجئ باختفاء زوجها من منزلهما، وظلت في حيرة تتساءل عن مكان وجوده حتى سمعت صوت سيارته يعلن عن وصوله إلى الفيلا وكان ذلك قرب نهاية المساء.
دخل بهدوء ليفاجئ بها في انتظاره، جفل قليلاً وقال: مساء الخير.
أجابته بهدوء:
مساء الخير.

ظلا يتبادلان النظرات لفترة وكلا منهما حائر. ما هي الخطوة التالية!، وأخيراً تحرك رؤوف نحو الدرج وهو يقول:
أنا مرهق للغاية. وأشعر بالحاجة إلى حمام دافيء.
أما نعمـ.ـا.ت وجدت نفسها تسأله بحدة لامت نفسها عليها لاحقاً:
لم تشعر بالتعب؟ أين كنت طوال اليوم؟
تنحنح ليجلي صوته وهو يجيبها ويخفي تعجبه من سؤالها:
في الشركة.
أجابته بدهشة:
ذهبت للعمل!

ذكرته ملامح التعجب المرتسمة على وجهها بملامح عمه وزوج عمته وكل من قابله اليوم في الشركة، وهم يناظرونه كما لو كان نبت له رأس آخر، أو ظهرت له عين ثالثة. وذلك لحضوره إلى العمل في الصباح التالي للزفافه. ولكنهم كتموا أسئلتهم داخلصدروهم ولم يذكر أي منهم ما يدور في ذهنه، فالجميع يعلم الطبيعة الشائكة لهذا الزفاف. ولكن هذا لم يمنع من صدور بعض التعليقات من غالبية العاملين بالشركة والتي بالطبع وصل معظمها إلى أذنيه إما عن عمد أو لا.

هو لا يهتم. فهو لم ولن يبرر تصرفاته لأحد، أما الآن وهي تلقي إليه بتلك النظرات العاتبة انتابته رغبة غريبة في الإعتذار لها فقد أدرك الآن فقط أنه أساء إليها بتصرفه ذاك. خاصة وأن الأقاويل تتناثر بالفعل حول زواجهما.
أتاه صوتها وهي تسأله لتحبط أي محاولة منه للإعتذار:
هل أعد لك الطعام؟
أجابها بتلعثم:
أنا جائع بالفعل، فلم يدخل معدتي سوى القهوة والشاي طوال اليوم.
أجابته برقة:.

يا إلهي! لابد أنك تتضور جوعاً، سأعد الطعام فوراً.
أكل في صمت وسرعة غير مبال بما سيكون عليه رأيها في طريقته لتناول الطعام، فهو كان يريد أن ينفرد بنفسه قليلاً حتى يرتب أفكاره، فهو تعمد إغراق نفسه بالعمل طوال اليوم هرباً من الأفكار التي تراوده بخصوص زواجه. وما هو منتظر منه. والذي تبين صعوبة تقبله له. فما بالك بالتنفيذ!..

دلف مباشرة إلى مكتبه بعد انتهائه من تناول طعامه بعد أن اعتذر منها بكلمـ.ـا.ت مبهمة. وظل هذا روتينهما اليومي طوال الشهر المنصرم. يختفي صباحاً في عمله ويعود ليأكل ويتبادل معها بضع كلمـ.ـا.ت وهو يتهرب من عينيها، ثم يختفي في مكتبه حتى الصباح التالي لتراقب هي انصرافه لعمله من وراء نافذتها.

رنين الهاتف هو ما جعل نعمـ.ـا.ت تتحرك من خلف نافذتها لتلتقط السماعة وتجيب على المتصل الذي تبين أنه قمر، التي تخبرها بحضورها إليها ومعها بعض جاراتها اللاتي يردن تقديم التهنئة لها. حاولت نعمـ.ـا.ت التملص من تلك الزيارة بكل الطرق، إلا أن قمر كانت حددت الموعد بالفعل وكان اتصالها لإبلاغ نعمـ.ـا.ت فقط.

كانت الزيارة كما توقعت نعمـ.ـا.ت تماماً. بضعة من النساء اللاتي أتين لمشاهدة المرأة التي تزوجت بابن أخي زوجها والذي يصغرها في السن وأتخذن التهنئة كذريعة ليغتلنها بهمزاتهن ولمزاتهن. وتنوعت الكلمـ.ـا.ت ولكن كان المعنى كله واحد. فبادرتها السيدة الأولى:
نعمـ.ـا.ت. تبدين جميلة. يبدو أن صحتك تحسنت بعد الزواج.
وترد عليها أخرى:
نعم فهذه ميزة الزوج الشاب القادر. يعيد للمرأة أنوثتها.
وتسألها أخرى بوقاحة:.

هاه؟ هل تنتظرين حادث سعيد يا عزيزتي؟ أم ما زال الوقت مبكر على ذلك؟
لتهمس لها السيدة الجالسة بجوارها:
أي سؤال هذا! إنها لا تنجب. هل نسيتِ؟
ثم يرتفع صوت إحدى السيدات بسخرية واضحة:
لقد سمعت أن رؤوف يذهب إلى عمله يومياً، هل سأم الزواج بتلك السرعة؟

وظلت الأحاديث تتوالى وتدور حول نفس الموضوع طوال مدة الزيارة. حتى أستأذنّ للخروج. وعندها تنفست نعمـ.ـا.ت الصعداء. فأخيراً ستعتق من جلد سياط ألسنتهن. فإذا كانت تلك حوارتهن في وجودها، فما هي الأحاديث التي يتداولنها من خلف ظهرها...
أغلقت خلفهن باب الفيلا والتفتت لتجد قمر مازالت جالسة ولم تخرج معهن وأخذت تنظر لها بتمعن. ثم فاجأتها بسؤال عجيب:
هل تستقبلين رؤوف كل يوم بهذه الهيئة؟

تعجبت نعمـ.ـا.ت من السؤال وتأملت ملابسها المتمثلة في جلباب فضفاض أنيق لونه أزرق داكن مطرز بخيوط فضية وذهبية وحجاب متماثل معه.
سألتها نعمـ.ـا.ت بدهشة:
ما بها ملابسي؟
ردت قمر بلهجة ساخرة نوعاً ما:
ليس بها شيء، وتلك هي المشكلة!
ازداد تعجب نعمـ.ـا.ت وهي تسألها:
ماذا تعنين يا قمر؟
أجابتها قمر بحدة:
نعمـ.ـا.ت. أنتِ كنتِ زوجة من قبل، وتعلمين ما الذي يجذب عين الرجل.
شهقت نعمـ.ـا.ت بقوة، ولكن قمر أكملت:.

لما كل هذه الدهشة؟! هل ضايقتكِ كلمـ.ـا.ت تلك النساء منذ قليل؟
قاطعتها نعمـ.ـا.ت بذهول:
قمر. هل تعمدتِ إحضار هؤلاء النسوة لكي تجرحيني؟!
أجابتها قمر بسرعة:.

كلا بالطبع، لم يكن هذا هدفي. لقد أتيت بهن حتى تسمعي بأذنيك الأقاويل والشائعات المتداولة عنكِ وعن رؤوف. لا تظني أنني سعيدة بما حدث. فذلك اللغو يمس العائلة قبل كل شيء، ولكني أردت أن أفهمكِ أن الشائعات وكلام الناس لم ولن ينتهي. فسيظل زواجكما هو حديث مجتمعنا الصغير لفترة، ولكن ليس معنى هذا أن نعلق تلك الزيجة أو نوقفها.
حاولت نعمـ.ـا.ت مقاطعتها، فأسكتتها قمر بإشارة من يدها وهي تقول:.

أعلم أنهن سببن لكِ الضيق، وأنكِ ترغـ.ـبـ.ـين في إسكاتهن وقطع ألسنتهن. ولكن هذا لن يحدث إلا بعد أن تنجبي الولد فيبلع الجميع كلمـ.ـا.ته. وهذا لن يحدث بالطبع إذا كان رؤوف يأتي كل مساء ليجد زوجة عمه هي التي تستقبله.
ارتفع صوت قمر قليلاً وهي تقول بنبرة خاصة:.

يجب أن يجد زوجة في انتظاره، امرأة جميلة مستعدة له. هل تفهميني يا نعمـ.ـا.ت؟ إن كلام الناس لن ينتهي، ولكن أسرار البيوت وغرف النوم لا يجب أن تخرج عن الزوجين. وتذكري المثل الذي يقول من يخجل من ابنة عمه، لا يستطيع الإنجاب منها.
أجابتها نعمـ.ـا.ت ساخرة:
لكن المثل يقول ابنه عمه، وليست زوجة عمه!
ردت قمر بسرعة:
فلتنجب هي منه إذاً.
سألتها نعمـ.ـا.ت بذهول:
قمر. ماذا. هل، ماذا تقولين؟
رفعت قمر حاجب واحد وهي تقول:.

أقول أنه لا خجل بين الزوجين.
نهضت قمر من جلستها وربتت على كتف نعمـ.ـا.ت المذهولة لدرجة انعقاد لسانها عن الرد على قمر. فانحنت قمر لتهمس في أذنها:
سأتركك لتستعدي لزوجك. واخلعي هذا الوشاح عن رأسك.
وخرجت قمر من الفيلا تاركة نعمـ.ـا.ت غارقة في دهشتها، وكلمـ.ـا.ت قمر تدور في عقلها. وهي تتخيل نفسها تتزين كزوجة لرؤوف.

أخرجت الأفكار من رأسها على الفور فهي لن تقوم بإغراء زوجها. زوجها. ترددت الكلمة في عقلها عدة مرات. هل أصبحت تنظر لرؤوف كزوج الآن؟ هي لا تنكر أنها أصبحت تجده جذاب نوعاً ما كرجل، وليس كشاب عاصرت مراحل نموه.

ابتسمت بخفة وهي تتذكر ملامحه المذهولة من تصرفها في صباح أحد الأيام عنـ.ـد.ما وجدت نفسها تعدل وضع رابطة عنقه، وكيف سكن جسده عن الحركة وحتى التنفس تحت تحركات أناملها وهي تنتهي من ظبط الرابطة وتمسد على كتفي بذلته بصورة عفوية.

أغمضت عينيها بألم لتبعد تلك الصورة عن ذهنها لكنها فوجئت بصورة ذهنية لها اخترعها خيالها الخصب وهي تتزين وتتغنج لرؤوف. نفضت رأسها بقوة لتمحي تلك الصورة لكنها وجدت كلمـ.ـا.ت قمر تعاد في ذهنها مرة أخرى مختلطة بلمزات النساء اللاتي كن في زيارتها.

كاد التفكير في التصرف الصحيح أن يفتت لها عقلها من الصداع. هل تتزين وتغير من ملابسها؟ أو تظل كما هي؟ طال بها الوقت وأخيراً اكتفت بملابسها التي ترتديها ولم تقم بتغييرها، فهي لم تخبر قمر أنها تستقبل رؤوف بملابس أقل أناقة من التي كانت ترتديها. فهي كانت ترتدي أمامه دائماً ملابس عادية وغير متكلفة. وعبائتها المزركشة تلك تعد تغيير ولو بسيط، وقررت أنها ستتخذ قرارها في تعديل سلوكها نحوه بناء على ردة فعله حول ذلك التغيير...

وحان المساء وقت عودة رؤوف، فأعدت المائدة كالعادة، وانتظرته في البهو. وبعد عدة دقائق سمعت صوت الباب يغلق معلناً عن وصوله، ليدخل ويلقي تحية المساء ويتجه نحو المائدة قائلاً:
أنا جائع للغاية، سآكل أولاً. ثم سأغتسل بعد ذلك.

وجلس يتناول طعامه في سرعة كعادته. حتى انتهى وتوجه مسرعاً إلى الأعلى ليغتسل بدون أن يبدي أي ملاحظة على مظهر نعمـ.ـا.ت التي كانت تتميز غيظاً منه ومن تجاهله لمظهرها. فنزعت الوشاح من فوق رأسها بحركة عنيفة. وحركت رأسها بقوة لتنفض خصلاتها الحمراء وتحررها لتنسدل على كتيفيها، وتحركت نحو الطابق الأعلى ودقات قلبها تكاد تصم أذنيها.

خرج رؤوف من حمام الغرفة بعد أن أخذ حمام سريع، ليفاجيء بدخول نعمـ.ـا.ت في نفس اللحظة. فتوقف عن تجفيف شعره بالمنشفة وهو يحدق بها وهي واقفة على العتبة لا تتحرك. ولكنها تتنفس بسرعة شـ.ـديدة ولكن ما لفت نظره هو شعرها. فخرجت الكلمـ.ـا.ت من فمه قبل أن يفكر:
شعرك!
سألته وهي تتحسس خصلاتها:
ماذا به؟
فأجاب ببلاهة:
أحمر!
حدقت فيه بتعجب وبادرته بالسؤال:
نعم. إنه أحمر كما كان طوال حياتي. ألا تحب الشعر الأحمر؟!

حدق بها بتعجب ولم يعرف بما يرد عليها. فهل لون الشعر قابل للحب؟ ما هذا الهراء. كيف للرجل أن يحب لون الشعر؟! ما الذي يفرق لون عن غيره؟! نظر إليها فوجد أنها ما زالت تنتظر اجابته. فنطق بكلمـ.ـا.ت لم يتبين غبائها إلا بعد أن سمعها:
هاه. لا أعرف. لم أفكر في ذلك. فأنا لم أر إلا شعر أمي وكان لونه أسود.
شهقت بدهشة:
ماذا؟! والدتك!
شعر بغرابة الموقف، وأراد تلطيف الجو قليلاً، فقال بسرعة:.

ولكن اللون الأحمر جيد. إنه جيد.
تمتمت بخيبة أمل:
جيد!
تحرك رؤوف سريعاً منهياً الموقف المحرج الذي وجد نفسه عالقاً به، واعتذر متعللاً بعمله للمرة الألف.

أما نعمـ.ـا.ت فكانت تعصف بها مشاعر شتى. من الإحراج والغضب والخجل. وسعادة خفية لأنها استطاعت أن تخطو خطوة نحو زوجها، حتى وإن لم تلاقِ النجاح الذي آملته، ولكنها تعتقد أنها البداية لشيء ما، فإذا كان التفت إلى لون شعرها فهي يجب أن تطرق الحديد وهو ساخن وتستغل دفقة الشجاعة التي تسري في عروقها الآن. فبدلت عباءتها الفضفاضة بفستان ذو مظهر خادع فهو يبدو أنيق ومحتشم ولكنه يرسم ملامحها الأنثوية بوضوح، واتجهت إلى غرفة المكتب حيث وجدت رؤوف يضغط على رأسه بقوة محاولاً التحكم في ألم رأسه.

وصله صوتها هامساً:
ماذا بك؟ يبدو على ملامحك الألم.
سؤال بسيط. يحتاج لإجابة بسيطة، ولكنه عاجز عن الرد. ظل يحدق فيها بدون أن يصدر أي استجابة تدل على أنه يفهم ما تقول، فعقله كله انتقل إلى عينيه اللاتين كانتا تحدقان فيها بذهول. فهو لأول مرة منذ زواجهما يراها بتلك الثياب التي تفسر ولا تخفي. ولم يعجبه الإحساس الذي سرى في جسده. إحساس غريزي بحت. من رجل نحو امرأة. امرأة تحاول لفت نظره إليها.

أعادت نعمـ.ـا.ت سؤالها مرة أخرى:
رؤوف. هل تشعر بالألم؟
حدق بها ببلاهة عدة لحظات. ثم وجد صوته بعد لحظات:
أشعر بصداع شـ.ـديد.
وجاء ردها:
بالطبع تشعر بالصداع، فأنت تعمل بلا إنقطاع. ونومك على الأريكة كل ليلة يزيد من تشنج عضلاتك.
وتحركت لتقف خلف كرسي مكتبه وهي تقول:
هيا. سوف أقوم بعمل تدليك لعضلات عنقك سيساعدك على الاسترخاء.

وأقرنت قولها بتحريك يديها على كتفيه وهي تمسد له عضلات كتفيه وعنقه. وأخذت أصابعها تتحرك في حركة دائرية رتيبة. وعنـ.ـد.ما بدأ يشعر بقليل من الراحة سمعها تهمس:
إن عضلاتك متشنجة جداً، الأفضل أن تصعد إلى الغرفة حتى تتمدد جيداً، وأتمكن من تدليك عضلاتك كما يجب.
تمسكت بيده فوقف معها وصعدا معاً إلى غرفة نومهما.
وهناك أشارت للفراش قائلة:
هيا تمدد حتى أستطيع منحك تدليك كما يجب.

استلقى رؤوف على بطنه وشعر بحركة أناملها تتجول على ظهره لفترة، ولكن سرعان ما جاء صوتها هامساً بحرج:
أعتقد أنه سيكون من الأسهل لو خلعت قميصك!
نفذ رؤوف ما طلبته منه في صمت وهو مدرك أن الأمر يتخطى التدليك البسيط. وعادت نعمـ.ـا.ت لتجلس بجوار رؤوف وبدأت في تمسيد ظهره بنعومة ورقة.

شعر رؤوف بحركة أناملها البطيئة تتجول على ظهره لتمنح عضلاته المرهقة الراحة المنشودة. وبدأت عضلاته تسترخي رويداً رويدا تحت ضغط أناملها.
فأطلق تنهيدة راحة من أعماق صدره، وسمعها تسأله:
هل آلمتك؟
رد عليها بسرعة:
لا. لا. لا تتوقفي. فأنا أشعر براحة كبيرة.

ابتسمت ولم تجبه وهي تتأمل عضلاته البـ.ـارزة التي توحي بقوة ورجولة بدأت تشعر بتأثيرها عليها فتغيرت لمساتها لتصبح أكثر رقة. وإغواء. شعر هو بتغيير لمساتها وبدأت قطرات خفيفة من العرق تنضح على جسده فتوقفت نعمـ.ـا.ت عن تمسيد عضلاته عنـ.ـد.ما أدركت أنه شعر بما انتابها، فسألها بصوت مكتوم:
لم توقفتِ؟

لم يسمع ردها ولكنه شعر بعد لحظات بشفتيها تلامس ضهره برقة. فانتفض بقوة وانقلب على ظهره وعينيه تواجه عينيها التي ظهر بها رغبتها في إتمام زواجهما. وتأكد من ذلك عنما شعر بأصابعها تداعب خصلات شعره برقه وهي تميل برأسها لتقبله على شفتيه قبلة رقيقة. شعر بها كهمسة خفيفة. فتحركت يده خلف عنقها ليجذب رأسها إليه ويعمق من قبلتهما. وهي تزيد في احتضانه تخبره بلمساتها أنها مستعدة لتبدأ حياتها الجديدة معه...

فتح رؤوف عينيه متململاً من آشعة شمس الصباح، ولكنه وجد محيطاً مختلفاً عما يقابله كل صباح. فأخذ يرمش بجفنيه محاولاً استيعاب مكان تواجده، ورفع رأسه قليلاً ليتبين أنه كان يتوسد صدر نعمـ.ـا.ت التي كانت نائمة بين ذراعيه في هدوء. فتوجهت أنظاره إلى جسده الذي كان عارياً تماماً، فأصابه الذعر مما رآه وقفز من الفراش بسرعة وهو يبحث عن ملابسه ويرتديها كيفما كان.

كان انتهى من ارتداء سرواله، عنـ.ـد.ما واجهته عيني نعمـ.ـا.ت وابتسامة محرجة على وجهها. وهي تقول بهمس:
صباح الخير.
جلس رؤوف على حافة الفراش بتهالك وهو ينظر إليها ويهمس لها معتذراً:
أنا. أنا. آسف. أنا.
تحركت نعمـ.ـا.ت على الفراش وهي تلف مفرش السرير حولها لتضع أصابعها على شفتيه:
لا تعتذر. أنت زوجي الآن. وهذه حياتنا معاً ويجب أن نبدأها كما يجب...

واقتربت أكثر وهي تضمه إليها. وتطبع شفتيها على شفتيه في قبلة طويلة. استجاب لها جسده على الفور...
دخلت شموس إلى الغرفة بهدوء ظاهري لا يعكس الانفعالات التي تموج بداخلها. ففي النهاية هما ضيفتان في بيتها، ومن الواجب عليها الترحيب بهما...
قالت بهدوء وهي تحيي قمر رغم الغصة في حلقها:
مرحباً. أهلاً بكِ يا قمر.
وتوجهت لنعمـ.ـا.ت لترحب بها بالمثل:
أهلاً بكِ.
كانت تعرف أنه ترحيب فاتر ولكنها لم تستطع أن تفعل أكثر من ذلك. فكيف يمكنها الترحيب بها وهي ستكون...

ابتلعت غصتها بضيق وهي تدعوهما إلى الجلوس وتسألهما عما تودان تناوله وتلقي كلمـ.ـا.ت الترحيب المعتادة. ولكن كان ذلك يتطلب منها مجهوداً فوق طاقتها ويبدو أن قمر استشعرت ذلك فبادرت بالسؤال: كيف حالك يا شموس؟ وما هي أخبـ.ـار البنات؟
أجابت شموس باقتضاب: بخير.
عادت قمر تحاول صبغ بعض الودية على الحديث: وكيف حال أخي، هل تواجهه أي مشاكل في العمل؟
أجابت شموس باختصار: كل الأمور على خير ما يرام.

ارتأت قمر الدخول في الموضوع مباشرة بعد ردود شموس المقتضبة: أين العروس؟
أجابتها شموس بغضب مكتوم: موجودة. ستأتي حالاً.
قالت جملتها وهي ترمق نعمـ.ـا.ت بقهر عجزت عن اخفائه، فهي رفضت أن تكون نعمـ.ـا.ت زوجة ثانية لعبد السلام لتدور عقارب الزمن خمسة عشر عاماً وتصبح نور القمر ابنتها زوجة ثانية لرؤوف زوج نعمـ.ـا.ت. آه. إن الغيظ والقهر يقـ.ـتـ.ـلانها قـ.ـتـ.ـلاً.

كانت لتكون أسعد أم على وجه الأرض لو جاء رؤوف خاطباً لابنتها. ولكن بدون تلك الزوجة التي تكبره بخمسة عشر عاماً وتكبر ابنتها هي بخمسة وعشرين عاماً أو أكثر.
إن نعمـ.ـا.ت في عمر يكفي لتكون أم لنور القمر وليس ضرة لها. أي منطق هذا؟ وكيف ستتعامل ابنتها مع ذلك الوضع الغير طبيعي بالمرة.
لكِ الله يا نورا يا ابنتي.

هذا كان تفكير شموس بينما كانت نعمـ.ـا.ت صامتة في وجوم. فما المفترض بها قوله وهي ذاهبة لكي تخطب لزوجها!، ولكنها وجدت أن سكوتها هذا سيؤخذ عليها خاصة مع نظرات شموس المسمومة نحوها.
فتنحنحت كي تجلي صوتها وهي تخاطب شموس:
أعتقد أنكِ تملكين فكرة جيدة عن سبب وجودنا الآن. فلا داعي للمقدمـ.ـا.ت. فنحن يسعدنا التقدم بطلب يد الآنسة نور القمر ابنتك. لرؤوف...
صمتت قليلاً ثم أردفت:
زوجي.
قاطعتها قمر بحسم:.

ابن عمها، نحن نطلب يد قمر الصغيرة. لرؤوف ابن عمها...
صمتت شموس بقهر وهي تستعيد في ذاكرتها ما حدث منذ عدة أيام ودخول عبد السلام عليها وملامحه ترتسم عليها تعبيرات ذكرتها بأحداث مضى عليها خمسة عشر عاماً.
وهو يطلب منها في خفوت أن تصطحبه لحجرتهما ويزف إليها خبر كان من الممكن أن يسعدها لو اختلفت الظروف والأحداث. وهو طلب رؤوف الزواج من نور القمر ابنته الوسطى.

كان وقع الخبر صاعق على شموس التي عقدت الدهشة لسانها عن التفوه بأي كلمة. فأردف عبد السلام:
لقد فاتحني أبي اليوم في الموضوع. وأبلغني برغبة رؤوف في الزواج من نور القمر. صمت قليلاً يتأمل وقع الخبر على شموس التي لم تتفوه بكلمة حتى هذه اللحظة. فاستطرد بخفوت: ستأتي أختي قمر مع نعمـ.ـا.ت لمقابلتك بعد يومين.
هنا انطلقت صرخة شموس بلا إرادة منها: ماذا؟!، نعمـ.ـا.ت!، هل سيبقيها على ذمته؟

رمقها عبد السلام بعتاب وهو يقول: وهل نطالبه بطـ.ـلا.قها بعد كل تلك السنوات؟! هل عهدتِ الخسة في تصرفات رجال الجيزاوي؟
تهالكت شموس على أقرب مقعد وهي تقول بحيرة: أنا لا أفهم، لا أفهم. ماذا يحدث يا عبد السلام؟ لماذا يطلب رؤوف الزواج من نور القمر ابنتي؟..

صمت عبد السلام للحظات سمح فيها لشموس بتأمل ملامحه التي تعشقها والتي أخبرتها بوضوح ما يعجز لسانه عن البوح به. فقالت بلهجة تقريرية: إن عمي ما زال يبحث عن وريث لعائلة الجيزاوي. والمطلوب من ابنتي الآن تقديم ذلك الوريث، بل القبول برجل متزوج لتنجب منه ذلك الوريث.
زفرت بضيق شاركها إياه عبد السلام وهي تضيف: أي ظالم أنت يا عمي! ألن تكف عن التلاعب بمصائر الجميع؟

نهرها عبد السلام بتخاذل: شموس! لا تتجرأي على والدي. لن أسمح بهذا أبداً. كما أن رؤوف رجل لا غبـ.ـار عليه. وزوج تتمناه أي فتاة.
ردت عليه شموس بسرعة: تقصد رجل متزوج لا غبـ.ـار عليه.
تجاهل عبد السلام كلامها وهو يقول: استدعي نور القمر حتى أبلغها بخطبتها لابن عمها.
رمقته شموس بدهشة، فكرر طلبه بلهجة حازمة لم تعتدها منه: استدعها الآن...
عادت من زحمة ذكرياتها على صوت نعمـ.ـا.ت وهي تسأل بتململ: لقد تأخرت العروس حقاً.

ثم أردفت بأمل: هل هي معترضة على الزواج؟
فأجابتها قمر بسرعة بدون أن تترك فرصة لشموس للرد:
كلا بالطبع. ما هذا الكلام يا نعمـ.ـا.ت؟! وهل ترد إحدى بنات الجيزاوي ابن عمها؟!
ابتلعت نعمـ.ـا.ت غصتها وهي ترمق قمر بقهر. قمر التي أقنعتها منذ خمسة عشر عاماً بالزواج من رؤوف. وطاوعتها نعمـ.ـا.ت جرياً وراء حلم تبين فيما بعد أنه سراب.

خضعت وامتهنت كرامتها حتى تشبع رغبتها في الأمومة وتنجب الابن الذي تنتظره عائلة الجيزاوي بأكملها، ولكن الحلم لم يتحقق. أو بمعنى أشمل لم يتحقق لنعمـ.ـا.ت سوى جزء بسيط من حلمها. فهي أشبعت رغبتها الدفينة بالأمومة. ولكن وجهت أمومتها لرؤوف. فمنحته حنانها كزوجة وأسبغت عليه عاطفتها كأم.

أغرقته بحنانها وحبها وعطفها حتى تعلق بها بشـ.ـدة. وتكاد تجزم أن لها مكاناً في قلبه. رغم أنه لم يصرح بذلك. وهي لا تعتقد أنه ممكن أن يصرح بعواطفه لأياً كان، فهو ربيب عبد الرؤوف الجيزاوي الذي لا يؤمن بتلك النوعية من العواطف. ورؤوف هو نسخة مصغرة من جده. في الأفكار والتصرفات والمعتقدات وكل شيء. إنه ابنه أكثر من كونه حفيده.

عادت تتأمل قمر. تلك الداهية العبقرية التي أقنعتها بالقدوم معها لتطلبا يد نور القمر الصغيرة للزواج من رؤوف. مخبرة إياها أن ذلك يحسن العلاقات ويكسر التـ.ـو.تر مستقبلاً. وهي اقتنعت بكلامها. أو أوهمت نفسها بذلك. فهي أتت في المقام الأول لتتأمل غريمتها الصغيرة. لتنظر في عينيها وتخبرها بالنظرات قبل الكلمـ.ـا.ت.

أن رؤوف مِلكاً لها ولن تتنازل عنه أبداً. حتى لابنة عمه الصغيرة. وحتى لو أنجبت تلك الصغيرة الحفيد المنتظر. فمن ينتظره هو عبد الرؤوف كبير العائلة. لكن رؤوف سيتزوج من نور القمر استجابة لطلب جده فقط. هي فهمت منه ذلك، رغم عدم تصريحه بكلمـ.ـا.ت كثيرة. فرؤوف قليل الكلام دائماً وأبداً لا يصرح إلا بالقليل الذي يدور في عقله وبما يكفي لاقناع من أمامه بما يريد...

آه يا رؤوف. هي لا تدري لما اختار نور القمر، رغم أنها الوسطى وليست كبرى بنات عبد السلام. ولكنها تحمد الله على ذلك فهي لا تحتمل اختياره لسهير. تلك الشقراء رائعة القوام. هي لن تستطيع منافستها أبداً. أما نور القمر فهي أقل جمالاً من شقيقتها.

فهي سمراء صغيرة الجـ.ـسم. بالإضافة إلى لسانها الذي لا يسكت أبداً وقد يطول في أحيان كثيرة، وتلك صفة يمقتها رؤوف بشـ.ـدة ولكنه طبعاً لا يعرفها عن ابنة عمه الصغيرة. وهي حرصت على ألا يعرفها حتى تظل لها هي الأفضلية التي تمنحها لها رقتها وحلاوة لسانها وهدوئها معه وعدم مجادلته في أي شيء. لا تتذكر أنهما اختلفا أو تشاجرا على مدار سنوات زواجهما الخمسة عشر. فقد حرصت على تـ.ـو.فير بيئة هادئة ناعمة له. تشعر في أعماقها أنها تعوضه عن زواجه منها والذي لم يثمر الوريث الذي ضحى من أجله باختيار الزوجة التي تناسبه على الأقل عمرياً...

أفاقت نعمـ.ـا.ت من شرودها على تحرك شموس وهي تتمتم أنها ستذهب لكي تأتي بنور القمر...
طرقت شموس باب غرفة نور القمر أو نورا كما تحب أن يدعونها:
نورا. حبيبتي. افتحي الباب. هذا لا يصح. أنتِ تحبسين نفسكِ في غرفتكِ منذ يومين. يجب أن تخرجي الآن لعمتكِ و...
فتحت نورا الباب بقوة وهي تقول:
ومن يا أمي؟ وخالتي نعمـ.ـا.ت. أو هل أقول ضرتي؟

فجأة ظهر من خلفها عبد السلام ودفع ابنته لداخل غرفتها وهو يحاول التحكم في غضبه منها فهي وعلى غير عادتها لم تنبس بكلمة منذ أن أخبرها بطلب رؤوف، بل حبست نفسها في غرفتها رافضة التحدث في الموضوع مع أي شخص أو إبداء رأيها حول الموضوع وحتى عمتها قمر التي تعشقها لم تستطع الدخول إليها أو إجراء أي حوار معها.
ماذا تنوين أن تفعلي يا ابنة شموس؟
صرخت بحنق:
أبي.
قاطعها:.

نعم. ابنة شموس. فابنة عبد السلام لا تحرجه ولا تخفض رأسه في التراب أمام أبيه.
قالت بغيظ:
وهل قبولي بأن أكون الزوجة الثانية يرفع من رأسك يا أبي؟
بل تفضيلكِ لمصلحة العائلة يا نور القمر. وقبولكِ طلب ابن عمكِ.
علمت نورا أن والدها غاضب بشـ.ـدة فهو يناديها نور القمر فقط عنـ.ـد.ما يغضب منها. فحاولت استرضائه قليلاً:
أبي. إن جدي هو من أمر رؤوف بذلك. أنت تعلم ذلك كما أعلمه أنا.

أمسك عبد السلام بيدي ابنته وجذبها لتجلس على الأريكة بجانبه:
حبيبتي. لقد فات الوقت الذي كان يستجيب فيه رؤوف لأوامر جده بلا نقاش. إن كنتِ تخشين أن يكون الزواج منكِ مفروض على رؤوف. فلا تفكري بذلك. لأنه لو كان صحيح لكان طلب سهير لأنها الكبرى. أليس كذلك؟ سأترككِ لتستعدي وتخرجي لضيوفكِ.

وجدت نورا نفسها تستعد مثلما طلب منها والدها الذي لا تستطيع كسر هيبته ووقاره في بيته وترفض مقابلة ضيوفه ولكنها ظلت تفكر في كلامه والذي كان يشغل بالها على مدار اليومين الاخريين. لماذا طلب رؤوف الزواج منها وليس من سهير؟

هل يعقل أنه يعلم بالحب المتبادل بين سهير ومنذر ابن عمتها قمر؟ ولهذا ابتعد عن سهير. ربما. رغم أنها تشك في أن يكون على معرفة بتلك الأمور الأرضية السخيفة، فهو يبدو دائماً متباعداً عن الجميع، مشغولاً بأعمال العائلة على الدوام فلا يجد وقتاً للإطلاع على شئون أفرادها. لكن لعل منذر أسر إليه بحبه لسهير. لكن كيف ومتى؟ كل شيء ممكن.

أكملت استعدادها ومازال تفكيرها معلق به. إنهم يلتقون برؤوف بالطبع في التجمعات العائلية. ولكن لا يختلطون معه كثيراً. فهو يدور في دائرة الأعمال مع جدها ووالدها أكثر من اختلاطه بباقي شباب العائلة. لذا لم يكن احتكاكها به عميقاً. فهو كان دائماً حلم بعيد المنال ولكنها لا تستطيع نسيان ذكرى عينين خضراوين اظلمتا بشـ.ـدة للحظة واحدة وهما تتأملانها عن قرب. هل يمكن؟ هل.؟

دخلت عليها أمها تستعجلها. فوجدتها ارتدت ثوباً بسيطاً ومحتشماً للغاية. ولم تضع أي مساحيق تجميل على وجهها كما أنها جمعت شعرها الأسود الغجري الطويل في كعكة كبيرة خلف رأسها...
فصاحت بها شموس:
ما هذا؟ لماذا لم تتزيني؟ أو.
قالت نورا بصوت مكتوم:
أمي. أرجوكِ. هيا لننتهِ من تلك المسرحية.
رمقتها أمها بتفهم وهي تسأل نفسها:
ماذا تدبرين يا ابنة الجيزاوي؟، تلك النظرة المـ.ـجـ.ـنو.نة في عينيكِ لا تريحني على الإطـ.ـلا.ق.

دخلت شموس الغرفة وهي تسحب نورا خلفها. فرفعت نعمـ.ـا.ت عينيها على الفور لتتأمل غريمتها في هدوء. فتاة صغيرة الحجم أشبه بالدمية الصغيرة، شعرها الأسود الطويل والذي تعلم نعمـ.ـا.ت إنه يصل إلى نهاية ظهرها جمعته في صرامة خلف رأسها. وجهها صغير ككل شيء فيها. تتمتع بشرتها بلون برونزي جذاب وعينيها -وهما أكبر ملامحها- عينين ذهبيتين أو لهما لون العسل لم تستطع التحديد. لكنهما تشعان بالتحدي والتمرد. كانت نور القمر مثل الروح المتمردة. الروح الشابة.

فكرت نعمـ.ـا.ت للحظة. إنها كانت تخدع نفسها بظنها أنها أقل جمالاً من شقيقتها الشقراء. إنها جميلة بطريقة أخرى. جمال شرقي متفرد.
قطع تأملها صيحة قمر المبتهجة وهي تسحب نورا لأحضانها وتعاتبها بلطف:
هل تتغلين علينا يا نورا؟، أم هو حياء العروس؟
ضحكت نورا بخفة وهي تحتضن عمتها:
لقد افتقدتكِ كثيراً يا عمتي.
ثم مالت لتهمس في أذنها:.

آسفة لأنني لم أستقبلكِ بالأمس، ولكن كان ينبغي عليّ التفكير بدون تدخل قدراتكِ الفائقة على الاقناع.
ربتت قمر على كتف بنت أخيها بحب وهي تقول:
أتمنى أن تكوني وصلتِ للقرار السليم.
ارتفع صوت نعمـ.ـا.ت وهي تقول:
مرحباً بالعروس. ألن تسلمي عليّ؟

تحركت رأس نورا ببطء لتلتقي عينيها بعيني نعمـ.ـا.ت. تبادلتا النظرات لفترة. قد تكون ثوانٍ. أو دقائق ولكنهما شعرتا بها سنوات. ظهر التحدي في نظرات نعمـ.ـا.ت. ربما رغماً عنها ولكنها كانت طريقتها في مهاجمة غريمتها لتخبرها بصمت أنها لن تتنازل أو تترك لها الساحة لتتنعم بالسعادة مع رؤوف. وبدورها استقبلت نورا تلك النظرات باستخفاف أجادت تزييفه وكأنها تصرح بعدم اهتمامها الخوض في تلك الحرب التي تدعوها لها نظرات نعمـ.ـا.ت أو ربما تترفع عن خوضها لثقتها في الفوز. وخاصة إذا كانت ستحمل الوريث بين أحشائها.

برغم أن نعمـ.ـا.ت هي من بدأت تحدي النظرات إلا إنها كانت البادئة في خفض نظرها وكأنها أدركت فجأة ضعف موقفها أمام نظرات غريمتها الشابة والتي تضج بالحياة والتمرد.

بعد أن كسرت نعمـ.ـا.ت حبل النظرات الممتد. حيتها نورا في هدوء ثم اختارت أقرب كرسي للباب وجلست عليه وهي تحاول التركيز على الحوار الدائر بين النسوة الثلاثة، وكان المجهود المبذول للحفاظ على ودية الحوار ملحوظاً وبشـ.ـدة. حتى بدأت عمتها قمر تصل للموضوع الرئيسي والغرض من تلك الزيارة فقالت لشموس بلهجة تقريرية:
سيأتي أبي ورؤوف لمقابلة عبد السلام رسمياً ليحددوا موعد الزفاف.

فانتفضت نورا في مكانها وكأنما لدغها ثعبان سام، لتخرج الكلمـ.ـا.ت منها بسرعة وبدون تفكير:
ولكنني لم أوافق بعد.
سقطت العبـ.ـارة عليهن جميعاً كالصاعقة ولكنها كانت صاعقة مبهجة لنعمـ.ـا.ت التي ظنت أنها تخلصت من تلك السمراء الصغيرة صاحبة العيون بلون العسل الذائب والتي يتراقص التمرد والتحدي فيهما. لكنها شعرت بالروح تنسحب منها عنـ.ـد.ما أكملت نورا بثقة:.

أعني. أنني أريد الحديث مع رؤوف حتى نسوي بعض الأمور، قبل أن أعلن عن رأيي.

كان رؤوف ينفث دخان سيجارته بعصبية وهو ينظر في ساعته للمرة المليون بتلك الليلة منتظراً عودة نعمـ.ـا.ت مع عمته. ما الذي يؤخرهما هكذا؟ إنها زيارة ودية فحسب. فكل الأمور سيسويها هو مع عمه وجده.

لا يعلم لماذا رافقت نعمـ.ـا.ت عمته قمر في تلك الزيارة. لكنها أخبرته أنها تفعل ذلك حتى تكسر حدة التـ.ـو.تر وتظهر لنور القمر الترحيب بها داخل أسرتهما الصغيرة. وأنها لا تمانع على الإطـ.ـلا.ق في كونها ستشاركها زوجها لأنها تتفهم حتمية زواج رؤوف مرة أخرى. ورغم كل كلامها ذاك. إلا أنه شعر بجرحها العميق الذي تحاول اخفائه تحت ستار قوة واهية.

إنه لا يريد جرحها أو ايذائها. وقد حاول حمايتها كثيراً على مدى السنين الماضية من التعرض لنفس المعاناة التي مرت بها سابقاً مع عمه. فجده يسعى لاقناعه بالزواج مرة أخرى منذ سنوات.

فبرغم كل شيء لم يرزق رؤوف بأطفال منها، مع أن التحاليل الطبية أثبت قدرتهما على الإنجاب إلا أنه لم يحدث. ورغم كل محاولات العلاج المستمرة. والأدوية التي تناولتها نعمـ.ـا.ت مع علمها بعدم وجود أي عيب بها ولكنها لم تمانع في المرور بسلسلة طويلة من العلاجات والنظم الغذائية أملاً في انجاب الوريث. وعنـ.ـد.ما قررا أخيراً اللجوء للوسائل الصناعية كان الآوان قد فات.

والآن. بعد خمسة عشر عاماً وبعد ان استحال على نعمـ.ـا.ت تـ.ـو.فير الوريث، دارت الدوائر لتعود القصة من البداية. ورحلة البحث عن وريث يحمل الشعلة من بعده ويكون وجوده كفيلاً باستمرار اسم الجيزاوي. تلك الرحلة الذي أخذ يؤجلها لسنوات رغم تأكده من حتميتها فهو لا يختلف مع جده في تلك النقطة، إلا أنه قاومه على مدى السنين الماضية محاولاً تأجيل المحتوم.

لكنه خضع أخيراً بعد أن داعب جده هاجس خفي داخله. شيطان يوسوس له في بعض الأحيان. بأن الموت قد يكون قريباً. متربصاً به. لتنتهي سيرته في الحياة شاباً مثل أبيه وعمه. هذا الهاجس الذي كان يهاجمه كثيراً في الآونة الأخيرة لقرب بلوغه الخامسة والثلاثين.
تحرك ليقف قرب النافذة بتململ وهو يتناول لفافة أخرى ليشعلها ويتأمل دخانها. ليعود بتفكيره لحواره مع جده:.

رؤوف. يا بني. إلى متى ستتهرب من ذلك الموضوع؟ لقد سأمت مراوغتك.
إنني لا أراوغ يا جدي. ولكني أفضل أن أؤخر تلك الخطوة قليلاً.
رمقه جده بتفحص فهو يعلم طريقه تفكير حفيده الذي نضج ونضج معه تفكيره وقدرته على التلاعب بجده كما يظن. وهو متأكد من أنه سيراوغه كالعادة ولن يحسم الأمر أو يتخذ قرار، فقرر أن يقسو عليه وليكن ما يكون. ورغم بغضه لما سيقول ولكن هذا لمصلحته:.

تؤخرها إلى متى؟ ألا ترغب أن ترى أبنائك حولك؟ وهل تضمن الحياة وتقلباتها؟ أم تفضل أن يأتي ابنك ولا يجدك حوله؟
كانت جملة الجد كلكمة قاسية وغادرة في نفس الوقت. صوبها بدقة إلى أقسى مخاوف رؤوف. فرمق جده بعتاب وهو يقول:
الأعمار بيد الله يا جدي.
ونعم بالله يا بني. ولكن لماذا تحارب المحتوم. زواجك مرة أخرى موضوع محسوم. لماذا التأجيل؟
لم يجد رؤوف إجابة مقنعة يرد بها على جده. فرد عليه بمراوغة:.

حتى لو وافقت. فمن تلك التي ستوافق على رجل متزوج؟ يجب أن يكون سبق لها الزواج من قبل.
ثار جده في وجه بقوة:
ما هذا الكلام الفارغ؟ لماذا تبخس نفسك حقها؟ أنت رؤوف الجيزاوي. أي فتاة في مدينتنا تتمناك زوجاً لها. أم أنت تهدف من ذلك المحافظة على مشاعر زوجتك؟ حتى لا تكون للزوجة الجديدة ميزة إضافية عليها؟
تململ رؤوف بضيق من الاتجاه الذي بدأ يتخذه الحوار فنهض يتحرك بعصبية في الغرفة وهو يقول:.

كلا يا جدي. ولكني. سأعرض من سأتزوجها للظلم والمعاناة. فليس من العدل أن تبدأ أي فتاة صغيرة حياتها بصراع مع زوجة أخرى، لا أشعر بالرضا عن ذلك.
قاطعه جده بحزم:
رؤوف. توقف عن المراوغة. إننا لن نخدع أي فتاة ونزيف وضعك. فمن ستوافق ستكون على دراية تامة بكل شيء. في الواقع. أنا أفكر في إحدى بنات عمك. فهن أحق بك. أنت بكل تأكيد ستحافظ على من تختارها منهن.

بنات عمه!، كانت الفكرة صادمة لرؤوف. هل اختار جده بالفعل؟! ورغم كل اعتراضاته على الزواج من فتاة في مقتبل العمر يقرر جده عنه مرة أخرى. ومن؟! واحدة من بنات عمه!
وجد لسانه يردد بلا وعي:
بنات عمي!
نعم. فكر. وقرر. أيهن تريد. سهير أم نور القمر؟

نور القمر. ومضت في عقله ذكرى خاطفة لعاصفة منطلقة من الشعر الأسود الغجري تحتوي جسداً ضئيلاً كاد أن يتهاوى على درجات السلم الداخلي لبيت عمه لولا سرعة بديهته بالإمساك بها قبل أن تسقط. لتلتقي عينيه بعيون ذهبية. نارية النظرات وتفلت من بين ذراعيه في لحظة ملتفة حول نفسها مما جعل عاصفة الشعر المعطرة برائحة التوت البري ترتطم بوجهه بعنف محبب. جعله يغمض عينيه لثانية واحدة اختفت فيها تلك النارية المتوهجة من أمامه ولم يسمع سوى صوت صياحها من بعيد وهي تخاطب إحدى شقيقاتها بحدة.

نور القمر!
سمع صوت جده يسأله:
هل هذا سؤال أم قرار؟
انتبه إلى جده فقال:
ماذا؟!
لقد قلت نور القمر ولكن بنبرة غريبة. فلم أتبين إن كنت قررت أن تتخذها زوجة أم تسألني رأيي؟
عادت ذكرى تلك العيون المتلألئة والشعر الغجري تداعبه فقال بثقة:
بل نور القمر من أريدها زوجة.

انتشل رؤوف نفسه من ذكرياته بصعوبة بعد أن سقط رماد لفافة السجائر على أصابعه فأحرقها. نفض الرماد بسرعة وهو يسخر من نفسه متسائلاً إذا كان قد أشعل حرباً بقراره الزوج من نور القمر!، وهل سيعرف منزله الهدوء بوجود تلك النارية بين جنباته؟، وهل يستطيع التفسير إذا ما سُئل لما اختار الوسطى بينما الكبرى لم تتزوج بعد؟! إنه يحمد ربه أن جده اكتفى بموافقته على الزواج ولم يسأله لم وقع اختياره عليها. فهو لا يستطيع التفسير لنفسه، فكيف بحق الله يمكنه أن يفسر لجده؟

أنقذه من التفكير دخول نعمـ.ـا.ت عليه المكتب، وتعجب من عدم ملاحظته لوصولها رغم وقوفه بالنافذة المطلة على مدخل المنزل. فبادرها متسائلاً:
مساء الخير يا عزيزتي. لما كل هذا التأخير؟
رمقته بقهر وهي ترد:
وهل قلقت عليّ؟ أم تريد الرد على طلبك؟
اقترب منها في هدوء ليحتضنها برقة ممسداً بأصابعه على وجنتها:
هل هذه غيرة؟
راوغته بإجابتها فهي لن تصرح بغيرتها أو عواطفها مادام هو يخفي مشاعره ويحيطها بسياج صلب:.

وهل يجب أن أغار؟
زاد من احتضانها وهو يطبع قبلة رقيقة على شفتيها:
لا داعي للغيرة. فأنتِ ت عـ.ـر.فين معزتكِ وقدركِ لدي.
ابتعدت عنه قليلاً وهي تفكر بحزن. آه يا رؤوف. هل أنت لا تعترف بالحب فعلاً فلا تصرح به. أم أنت ببساطة لا تستشعره تجاهي؟..
ردت نعمـ.ـا.ت وهي تداري حزنها:
نعم أعلم.
إذاً. لما كان التأخير؟
أجابته بغيظ لم تستطع إخفائه:
تأخرنا بسبب انتظارنا ل ست الحسن حتى تتكرم علينا وتخرج من غرفتها.

نظر إليها مصدوماً. فتداركت نفسها وهي تغتصب ضحكة مفتعلة وتقول:
إنني أمزح فحسب. لا تهتم. ولكنك تدرك. عروس وتتدلل.
ثم استطردت بحنق:
من حقها. وإذا كنت تنتظر رداً حاسماً. فآسفة.
قاطعها ببرود وهو يهمس من بين أسنانه:
هل رفضت؟
رمقته للحظة وهي تحاول أن تستكشف ما الذي يدور في ذهنه خلف ذلك القناع البـ.ـارد. ثم سألته:
وهل تغضب إن رفضت؟
صرخ بها بغضب فقد سأم مراوغتها:
نعماااات...
أجفلت من صوته العالي فقالت بسرعة:.

لقد طلبت محادثتك أولاً. قبل أن تعلن عن رأيها.
نظر إليها بقلق. فهو يخشى أن تطلب منه الانفصال عن نعمـ.ـا.ت. وسمع نعمـ.ـا.ت تردف بسخرية كأنها تردد مخاوفه:
يبدو أن العروس الصغيرة لديها بعض الشروط...
اتكئت نورا على سريرها وهي تحتضن وسادتها الصغيرة وعقلها مغيب تماماً عن هذر شقيقتيها من حولها تفكر في القرار الذي اتخذته ومدى صحته. واللقاء القادم مع رؤوف وإذا كان سيستجيب لطلبها أم لا...

انتابها القلق والتـ.ـو.تر. ماذا إن رفض؟ هل ستستطيع المضي قدماً في ذلك الارتباط؟ وهل تجرؤ على الرفض ومواجهة غضب جدها وأبيها؟ وهل من الممكن أن تتهرب من تلك الزيجة بدون أن تثير زوبعة داخل العائلة؟ والسؤال الأهم هل تريد أن تتهرب فعلاً من الزواج برؤوف؟..
كم تود أن تسأله لم اختارها هي؟ ولكن بأي منطق تذهب وتسأله لم اخترتني ولم تختر شقيقتي الشقراء الأكبر والأجمل مني؟ لابد أن تكون مـ.ـجـ.ـنو.نة لتفعل ذلك!

أفاقت من شرودها على صوت صفير، فالتفتت بعنف لتجد سهير تبتسم بسخرية وهي تقول:
إلى أين ذهبتِ بأفكاركِ؟ هل تفكرين في زوجكِ المحترم الذي أرسل زوجته لتطلب يدكِ؟
تمثلت إجابة نورا في وسادة طائرة ارتطمت بوجه سهير بعنف:
توقفي عن السخافات يا سهير. فمزاجي لا يحتمل المزاح.
تحركت سهير لتقف أمام المرآة وأخذت تمشط شعرها الأشقر الطويل وتخاطب صورة شقيقتها المنعكسة أمامها:.

لا تقلقي. لا أعتقد أن رؤوف ممكن أن يسيء إليكِ. ولا حتى خالتي نعمـ.ـا.ت. فنحن نعرفها منذ طفولتنا. وهي كانت دائماً طيبة معنا.
صمتت قليلاً وهي تضع حرف المشط قرب أسنانها. ثم أردفت:
صحيح. هل ستناديها خالتي نعمـ.ـا.ت. أم نعمـ.ـا.ت فقط. أم.؟
قاطعتها نورا بحنق:
أرى أنكِ تسلين نفسك على حسابي. طبعاً. فأنتِ سعيدة أنكِ فلتِ من الفخ. ولكن يجب على حبيب القلب أن يتحرك سريعاً. فلن تفلتي المرة القادمة.
أجابتها سهير بغيظ:.

من منا التي تسلي نفسها الآن؟! ولكني بلا شك أحمد الله أن رؤوف طلبكِ أنتِ. إن هذا غريب فعلاً. هل تظنين أنه يعلم بأمري أنا ومنذر؟
ابتسمت نورا بسخرية:
نعم. صحيح!
ارتسمت الحيرة على ملامح سهير وهي تسألها:
إذاً لماذا أنتِ؟
أجابتها نورا بغضب:
وكيف لي أن أعرف؟!
اقتربت منها سهير لتربت على كتفيها وهي تسألها بتردد:
لماذا تريدين مقابلته؟
جاء صوت والدهما ليباغتهما معاً وهو يقول:.

نعم. يا نورا. لماذا تريدين مقابلة رؤوف؟ ولماذا لم تخبريني بذلك عنـ.ـد.ما تكلمنا سوياً؟
رفعت نورا رأسها لوالدها ثم وقفت على الفور احتراماً لوجوده داخل غرفتها وأخذت تفرك يديها معاً. وهي تخاطبه بتردد. فهو طالما كان هادئاً وليناً معهن. ما عدا في موضوع رؤوف. فهو يظهر عصبية شـ.ـديدة:
أبي. أنا آسفة. أعلم أنه كان ينبغي على أن أخبرك. بطلبي. ولكن.
صمتت قليلاً. ثم قالت:
أنت تثق بي يا أبي. أليس كذلك؟

تكلمي يا نور القمر...
أبي...
وقالت نور القمر كل ما عندها...

هيا يا نورا. أسرعي. رؤوف منتظر منذ نصف ساعة.
حالاً يا أمي.
نزلت نورا السلم بتمهل. فها هو الزوج المنتظر وافق وجاء ليستمع إلى وجهة نظرها. وبقي فقط. أن تستطيع هي أن تركب بعض الجمل المفيدة التي تعبر بها عن نفسها.

اصطحبها والدها إلى غرفة الضيوف لتفاجئ بوجود جدها يجلس في صدر المجلس ولم تكن دهشتها بأقل من دهشة رؤوف عنـ.ـد.ما وجد جده يدخل من باب الغرفة منذ دقائق وهو يحييه ببساطة ويتصدر المجلس. فابتلع دهشته وغضبه وهو يسلم على جده ويجلس بجواره. أما نورا فكانت ردة فعلها مختلفة حيث تراقصت السخرية في عينيها رغماً عنها وهي تنظر لرؤوف بجانب عينيها وكأنها تسأله:
هل أتيت بجدي لتحتمي خلفه؟!

وكأن رؤوف فهم ما ترمي إليه نظراتها فاضطجع في مقعده بثقة وكاد أن يضع ساقاً فوق الأخرى لولا أنه تذكر وجود جده وعمه.
قطع جدهما سيل التحدي المتبادل والذي التقطه بسهولة:
حسناً يا عبد السلام، ها قد أتيت بالعروس. فهل تأمر لنا بالقهوة؟
أجاب عبد السلام بهدوء وقد فهم إشارة والده:
حسناً يا أبي.
التفت الجد نحو نورا بعد أن خرج والدها ليسألها:
وأنتِ يا صغيرتي. ألا تريدين تحية جدكِ؟

تحركت نورا بتردد لتتوجه نحو جدها وتقبل يده وتحيه هامسة:
مرحباً يا جدي. شرفت البيت بوجودك.
ربت الجد على رأسها وهو يقول:
بـ.ـارك الله فيكِ. ها نحن هنا لنستمع لشروطكِ. ماذا تريدين يا ابنة شموس؟
رفعت نورا رأسها بغضب وهي تقول:
جدي!
ضحك الجد وقد أفلحت جملته في إخراج نورا من خجلها وتـ.ـو.ترها فقال بهدوء:
حسناً. حسناً. لا داعي لإطـ.ـلا.ق طبعكِ الناري الآن. لا نريد أن إخافة رؤوف.

جاء الدور على رؤوف لينظر لجده بحنق. فما الذي يمكن أن يخيفه من تلك الدمية الصغيرة. ألا يكفي حضور جده المفاجيء الذي أعطاها إيحاء بأنه يهاب تلك المقابلة، حتى يُلقي بمثل تلك الملاحظة!
قاطع صوت جده الصمت وهو يقول:
أخبرينا بشروطكِ يا، حفيدة الجيزاوي.
ابتسمت نورا برقة لعلمها بأن جدها يراضيها بتلك الجملة:
إنها ليست شروط بالمعنى المفهوم يا جدي. هي.
قاطع الجد جملتها كعادته مع أولاده وأحفاده:.

أظن أن السؤال المطروح هو. هل تتضمن تلك الشروط طـ.ـلا.ق نعمـ.ـا.ت من ابن عمكِ رؤوف؟
ارتفعت رأس نورا بحدة أكبر وهي ترد على جدها بقوة وقد لمع التمرد والشراسة في عينيها وهي تواجه رؤوف بجوابها:
أعتقد يا جدي أن ابن عمي طلبني للزواج لأنه يعلم أن تربيتي وأخلاقي تمنعني من مجرد التفكير في طلب كهذا. ولو كان هو الرجل الذي يستجيب لي لو طلبت ذلك. ما وافقت على تلك الزيجة.

ارتفعت رأس رؤوف بسرعة ليتأمل تلك القذيفة المنطلقة. وقد أخذ وقته في تأمل العينين اللامعتين باللون الذهب. والأنف الصغير والمرتفع بكبرياء والشفتين اللاتين ترتعشان برغم الثقة التي تبدو عليها. وارتسم في عينيه التقدير الكامل لما يرى ويسمع من تلك الصغيرة. وسمع جده يعبر عن ذلك التقدير:
لقد أحسنت شموس التربية.
وجاء ردها صاعقاً:
نعم يا جدي. لقد أحسنت شموس تربية بناتها رغم عدم تمكنها من إنجاب الولد.

تكهرب الجو واشتد التـ.ـو.تر بعد جملتها تلك واستشعر رؤوف ضيق جده. فقد صمت تماماً وكأنه مازال يحمل نفسه ذنب ما حدث لابن شموس وعبد السلام، فقرر رؤوف الدخول في الموضوع مباشرة وأجل أمر تأديب تلك الدمية لما بعد. حين يمتلك الحق بذلك، فبرغم كل شيء لا يصح أن تجابه جدها بمثل تلك الصفاقة حتى لو كانت محقة...
عدل جلسته حتى يواجهها وهو يسألها:
حسناً. أخبريني ما هي طلباتكِ؟ أنا هنا لأسمعكِ.

رفعت نورا عينيها لتواجه عينيه للحظات قليلة ثم أخفضتهما وقد تلونت وجنتيها بلون وردي محبب وأخذت تفرك يديها بشـ.ـدة وهي تضغط على شفتيها بقوة مع محاولتها لابتلاع لعابها وهي حركة مصاحبة لها دائماً عند شعورها بالتـ.ـو.تر الشـ.ـديد. لكنها لم تدرك أنها تعطيها لمحة حسية مميزة.
حاولت تحريك شفتيها أكثر من مرة لتجيب على سؤاله ولكنها لم تفلح في إخراج كلمـ.ـا.ت ذات معنى. حتى سمعته يستعجلها بنبرة ظهر فيها نفاذ صبره:
حسناً.

أجابت بتلعثم وبكلمـ.ـا.ت مبعثرة:
أنا. أنا.
عادت لتصمت وقد عقد لسانها عن الكلام على غير عادتها. أخذت تحث نفسها على إخراج الكلمـ.ـا.ت ولكنها كانت محرجة وخجلة جداً وكأن مواجهتها مع جدها قد استنفذت كل مخزونها من القوة والشجاعة.
عاد صوته يستحثها بنرفزة:
أنتِ ماذا؟
أغاظتها نبرته وكأنه يحادث طفلاً صغيراً فانطلقت كلمـ.ـا.تها بدون حساب:
أنا لا أريد أن أقيم في منزلكِ الحالي. أعني أنه ليس لك حقاً. أعني.
قاطعها بإشارة من يده:.

حسناً لقد فهمت. يجب أن تعلمي أنني انتهيت بالفعل من تأثيث بيت آخر خاص بي. إنه قريب نسبياً من بيت عمتي قمر. ماذا أيضاً؟
تنفست الصعداء، فكان مجرد تفكيرها في الإقامة في منزل الخالة نعمـ.ـا.ت يسبب لها قلقاً عميقاً. فهي بذلك تسلب كل حقوق سيدة المنزل. و.
انتبهت إلى نظراته المتسائلة فهي لم تجب على سؤاله ولكن استجابته لطلبها الأول منحها بعض الثقة فقالت بخفوت:
آه. أنا. أريد حفل زفاف كبير.
صاح بها في دهشة:
ماذا؟

أجابته بهدوء:
أنا لا أريد أن يقال أنني. أنني أخذت رجل من زوجته. وأنني خجلة من نفسي. لذا أريد حفل زفاف لائق.
تعجب رؤوف من تفكيرها ولم يدري إذا كان طلبها ينم عن ذكاء أم عن تفكير سطحي. ولكنها أضافت:
كما لا أريد لأبي أو أمي أن يسمعا كلمة تؤذيهما. خاصة وأنا أول من ستتزوج من بناتهما ومن حقهما أن يستشعرا الفرح لذلك وليس الحرج.
حسناً. لقد حسمت الموضوع بتلك الإضافة. فقال لها:
ليكن. لن اعترض على هذا.

ربت جده على كتفه وهو يقول:
بـ.ـارك الله فيك يا بني. فابنة عبد السلام وشموس تستحق أكثر من ذلك.
أجابه رؤوف بثقة:
بالطبع يا جدي.
ثم توجه لنورا بالسؤال:
لكني أتساءل. فقط لماذا لم تطلبي من عمي أن يسألني عن تلك الأمور، فهذا هو المتعارف عليه؟!
تأملته للحظات لمح فيها التماع نظرات نارية من بين أجفانها وهي تنظر لجدها بتردد وتقول:
لأن طلبي الأخير وهو الأهم. وهو ما كان أبي سيرفضه. ولكني مصرة عليه.
سأل بقلق:.

وماذا يكون؟
عادت تتردد وتتلعثم في كلمـ.ـا.تها وهي تقوم بتلك الحركة بشفتيها والتي فتنته وشتت ذهنه للحظة:
حسناً. أنني لن، لن أقبل أن تتزوج أخرى، إذا لم أستطع الإنجاب فسيكون عليك تطليقي إذا رغبت الزواج للمرة الثالثة.

كان دخول والدها إلى الغرفة في تلك اللحظة هو ما أنقذها من صفعة قوية على مؤخرتها. وهو الرد الذي تستحقه على طلبها الأحمق. كان هذا تفكير رؤوف وهو يرمقها بغضب شـ.ـديد عجز عن احتوائه للحظات. ماذا تظنه؟ رجل يجري وراء رغباته مطارداً النساء. وهل تطالبه بالطـ.ـلا.ق قبل أن يتزوجا؟ صبراً أيتها المتبجحة الصغيرة. سوف أقص هذا اللسان وأجعلكِ تعتذرين على كلمـ.ـا.تكِ الحمقاء.

جالت نظرات عبد السلام بين وجوه الثلاثة من رؤوف المتحفز وابنته ذات الوجه الممتقع وأخيراً ويا للغرابة والده والذي كان يبدو متسلياً للغاية وبادره بالسؤال:
أين قهوتي يا عبد السلام؟ ألا تريد زوجتك تقديم واجب الضيافة؟
بوغت عبد السلام بكلام والده وانشغل بالرد عليه عن متابعة المشهد أمامه:
هاه. لا. كلا بالطبع يا أبي. ولكنها فكرت أن تقوم نورا بإعدادها، فهي تعرف حبك للقهوة من يد نورا.
ضحك الجد بقوة وهو يقول:.

نعم. فنورا تعد قهوة مثالية. حتى عمتها قمر لا تستطيع إعدادها مثلها.
ثم توجه لنورا وهو يسألها:
هل انتهت طلباتكِ يا حفيدتي الصغيرة؟ أعتقد أن رؤوف وافق عليها جميعاً. أليس كذلك يا رؤوف؟
ثم نظر لرؤوف ولمحت نورا لمحة تفاهم خفية بينهما. كأنما يتكلمان لغة لا يفهمها سواهما. فأجاب رؤوف بلهجة ساخرة قليلاً أو هذا ما بدا لها:
وهل أستطيع الرفض؟ طلباتكِ أوامر يا ابنة عمي.

إحساس قوي بداخلها أخبرها أنه يسخر منها. وتيقنت من ذلك عنـ.ـد.ما سأله جدها:
وأنت يا رؤوف هل توجد لديكِ أي طلبات أو شروط؟
وكان رده:
إن طلباتي كلها سأعلمها بها بعد الزواج.
هنا انطلقت ضحكات الجد مما جعل اللون الوردي يصبغ وجنتيها بوضوح وهمست بخفوت:
الوقح!
سألها جدها بتسلية:
ألن تعدي القهوة يا نورا؟
وتوجه لرؤوف قائلاً:
يجب عليك أن تتذوق قهوتها يا رؤوف.
قال رؤوف بهدوء:.

حسناً يا جدي لنتذوق تلك القهوة الشهيرة لعلها تنال إعجابي. إني أشربها بسكر خفيف جداً...
قبل أن تبدي أي اعتراض على تنفيذ ما يريد. سمعت صوت والدها يأمرها بإعداد القهوة. فتحركت بخطوات تشبه الركض الخفيف هرباً من ذلك الوقح المتعجرف الذي سيصبح زوجها عما قريب وهي تشعر أن طلبها الأخير هو ما أثار استفزازه لتلك الدرجة.

عادت بالقهوة وهي مازالت متأثرة بغضبه اللامرئي. ولكنها تمسكت بواجهة رزينة وهي تقدم القهوة لجدها ثم لأبيها ولكن عنـ.ـد.ما جاء دوره وناولته قدحه سمعته يهمس لها:
كلامكِ الأخير لم يكن مقبولاً على الإطـ.ـلا.ق. أظنكِ فهمتِ ذلك. وسنتفاهم لاحقاً.

تحدد موعد الزفاف بالفعل. ودخلت نورا في دوامة من الاستعدادات المتلاحقة والتي لم تترك لها لحظة للانفراد بنفسها والتفكير في جملته الأخيرة والتي بدت في أذنيها كتهديد خفي.

كانت عمتها قمر تلازمها على مدار اليوم متغنية بمميزات رؤوف وفضائله. وطيبة نعمـ.ـا.ت التي لم ترها نورا مرة أخرى وحمدت الله على ذلك فهي لم تجد طريقة ملائمة للتعاطي معها بعد. فبعد أن كانت تراها كسيدة راقية وطيبة الخلق أصبحت تخافها وتخشى من تأثيرها على حياتها المقبلة. فهي لم تنسَ نظراتها المهاجمة في تلك الليلة.

لقد منحتها بعض العذر في ذلك. لكنها لن تكون ضحية أو شهيدة في تلك الزيجة. ولن تسكت عن أي إهانة تلحقها، وكانت تدعو ربها أن يخمد تلك المشاعر الشبيهة بالغيرة التي بدأت تشتعل بداخلها وخاصة مع تعدد زيارات رؤوف لمنزلهم ورغم أن زياراته لم تحمل معنى شخصي فكان يجلس مع والدها معظم الوقت يتناقشا أمور العمل، وكان حواره معها مقتضباً لا يتعدى السؤال الرسمي عن أحوالها.

تعجبت هي لذلك وكأن الوجه الوقح المستفز الذي أظهره لها في حوارهما الأول اختفى للأبد. فكانت مع نهاية كل زيارة ومعرفتها إنه سيذهب إلى بيته حيث توجد نعمـ.ـا.ت تجد تلك الغيرة بدأت تموج بداخلها وكانت تحاول مغالبتها بشـ.ـدة فهي لا تريد البدء في صراع الزوجات وتمنت أن تكون حياتها مع رؤوف هادئة برغم نظرات نعمـ.ـا.ت المقلقة.

لقد تيقنت من نية نعمـ.ـا.ت على إثارة المتاعب عنـ.ـد.ما علمت أن المنزل الذي حدثها عنه رؤوف لن يكون لهما فقط بل ستشاركهما نعمـ.ـا.ت فيه وستغلق منزلها القديم إلى الأبد.

ثارت ثائرتها يوم علمت بذلك وتعالى صراخها في المنزل بأنها لا تريد إتمام الزواج أبداً. وأن ابن عمها العزيز خدعها بمنزله الجديد والذي ستشاركها فيه زوجته الأولى. ورفضت حتى الذهاب لرؤية المنزل وتأثيث جناحها الجديد فيه ولم يهتم رؤوف بذلك وأخبرها أنه أعد المنزل بالفعل ولا داعي لتغيير الأثاث فهو جديد لم يمسسه أحد. وتعالى صياحها مرة أخرى أمام أمها وأبيها الذي أسكتها بجملة واحدة:.

أنتِ طلبتِ منزلاً جديداً. وليس منزلاً منفصلاً عن زوجته.
عارضته بقوة:
ولكن...
قاطعها:
لا يوجد لكن. انتهى الموضوع.
لم تملك سوى أن تصمت فهي ظنت إنه فهمها جيداً بل كانت متأكدة من أنه فهم إنها تريد منزلاً مستقلاً ولكنه تعمد سوء الفهم. لتقطن هي في النهاية مع ضرتها في منزل واحد. منزل قد يكون غاية في الاتساع ولكنه لا يحتمل زوجتين متناحرتين على رجل واحد.

كانت نورا في غرفتها تنهي استعداتها حين دخلت عليها شقيقتيها اللتان شهقتا بسعادة. وهما تتأملان أختهما في ثوبهاالأبيض الذي التصق نصفه الأعلى بجسدها ليظهر بوضوح خصرها الرقيق ووركيها الدقيقين، ثم يتسع في سحابة متماوجة من القماش الأبيض الناعم والمطرز برقة بماسات صغيرة براقة وينتهي بتخريمـ.ـا.ت مميزة ومزينة بدورها بلآلئ صغيرة.

زين صدر الثوب بخرزات ماسية رقيقة توزعت بدقة على كسرات القماش الذي احتضن صدرها برقة وكانت تلك الماسات تتماثل مع الموجودة على طرحتها والتي غطت خصلات شعرها الكثيفة والذي صفف في تسريحة رقيقة تاركة بعض خصلاته حرة خلف ظهرها. كانت تبدو مثل الملاك الناعم وهذا ما عبرت عنه شقيقتها نادية:
أنتِ تبدين كالملاك.
كانت نورا في أقصى حالات تـ.ـو.ترها وهي تفرك يديها ببعضهما وترد على شقيقتها:
شكراً لكِ يا صغيرتي.

اقتربت منها سهير لتحتضنها بقوة وتقول له:
إنها محقة. أنتِ رائعة.
ثم همست لها بصوت خافت:
لقد وصل رؤوف بالفعل. ولقد أرسلنا والدي لنستعجلكِ.
همست نورا:
وهل أتت معه؟
فهمت سهير من تقصد، فقالت:
كلا، هي لن تأتِ. لقد أخبرتنا عمتي قمر بذلك.

تنفست نورا الصعداء فهي في غاية التـ.ـو.تر ولن تحتمل أن تأتي نعمـ.ـا.ت إلى حفل زفافها، فيكفي حضورها الأسبوع الماضي كله إلى الحنة. مما وضع نورا تحت ضغط كبير. وكان ما يثير حنقها تلك النسوة اللاتي يبتسمن في وجهها ويخبرنها أنها التعويض الذي أرسله الله إلى رؤوف. ثم ما أن توليهن ظهرها حتى يذهبن لنعمـ.ـا.ت ليواسينها على الابتلاء الذي أصابها بزواج رؤوف من تلك الصغيرة خاطفة الرجال والتي لا حياء عندها.

تلك الأقاويل التي تكررت في حفل الزفاف الكبير والذي أقامه رؤوف بناء على طلبها والذي استمر إلى ساعات الصباح الأولى وحضره كبـ.ـار المسئولين بمدينتهم كما حضره معارف رؤوف من كبـ.ـار رجال الأعمال. لم تهتم نورا بكل الأسماء الكبيرة التي حضرت زفافها، فكل ما كان يهمها هي تلك الفرحة المرتسمة في عيون والديها وهما يريانها متعلقة بذراع زوجها والذي أقام لها زفاف الأحلام.

وقفت نعمـ.ـا.ت في شرفة غرفتها في الطابق الثاني بمنزل رؤوف تراقب وصول العروسين وسط جمع صاخب من سيارات العائلة، التي ترجلت شموس وسهير من إحداهما ليساعدا نورا على الترجل بدورها من السيارة، لكن رؤوف اعترض طريقهما ليفتح لها الباب ماداً لها يده يساعدها على الخروج بنفسه من سيارته، وما أن خرجت ولمحت أمها حتى ارتمت في أحضانها تودعها وسط سيل من دمـ.ـو.ع شموس الغزيرة.

سلمت نورا على والدها وجدها وتوالت كلمـ.ـا.ت التهنئة والتمنيات بالسعادة. راقبت نعمـ.ـا.ت كل ذلك بمشاعر مجمدة تقريباً فهي لا تعلم ماذا ستكون ردة فعل رؤوف إذا علم بوجودها الليلة هنا، فهو اتفق معها أن تؤجل انتقالها لأسبوع حتى تكون العروس الصغيرة استقرت، ولكنها لم تطق تنفيذ ذلك فيكفيها إنه قرر عنها عدم حضور الزفاف، فخالفت ما اتفقا عليه ولأول مرة منذ زواجهما قررت أن تنتقل لمنزله الجديد مع دخول العروس الجديدة، بل وسبقتها أيضاً.

لمحت رؤوف يتأبط ذراع عروسه ويتجه بها نحو باب المنزل وحاولت شموس اللحاق بهما استجابة لإشارة خفية من نورا إلا أن ذراع عبد السلام أوقفتها بينما استمر رؤوف يتحرك بنورا حتى دخل بها إلى المنزل ولوحا مودعين للجميع وأغلق الباب من خلفهما.
ظلت نورا واقفة في مكانها تنظر للأسفل وتفرك يديها بقوة محاولة تجنب النظر إلى وجهه مباشرة حتى سمعته يقول وهو يمسك يديها ويفك اشتباكهما:
مبروك يا عروسي. نورتِ منزلكِ.

أجابته بخفوت وصوتها يكاد يسمع بينما كانت يديها ترتعش بين يديه:
شكراً.
عاد ليسألها:
هل أعجبكِ المنزل؟
حاولت استعادة يديها ولكنه شـ.ـد عليهما وشبك أصابعه بأصابعها مما جعل رعشة يديها تنتقل إلى جسدها وأجابته بصوت أشـ.ـد خفوتاً:
إنه جميل.
أجفلت عنـ.ـد.ما ضحك وقال:
وكيف ت عـ.ـر.فين وأنتِ لم تأتِ لتريه؟ ولم ترفعي رأسكِ حتى الآن؟ هل أعجبتكِ بلاطات الأرض؟

تباً إنه يسخر منها. وهي حتى غير قادرة على رفع رأسها ومواجهته، تخشى مواجهة تلك النظرة في عينيه والتي لمحتها عنـ.ـد.ما رآها في ثوبها للمرة الأولى تلك الليلة. كانت نظرته وكأنها تتلمسها. تتحسس كل جزء فيها وتقدر الجمال السخي الذي يبرزه الثوب الخيالي.

لقد أسكرتها تلك النظرة وسمرتها في مكانها وهو يقترب بهدوء طابعاً قبلة رقيقة على جبينها. حينها فقط خرجت من ثمالتها بنظرته ليرتعش جسدها خوفاً مع تغيير النظرة في عينيه التي تغير لونهما ليتحول إلى الأسود تقريباً. وهي كانت واثقة من وجود تلك النظرة الآن.
ازداد ضغط أصابعه وهو يسألها:
لن تجيبي؟ حسناً. فلنذهب إلى غرفتنا. لعلها تعجبكِ أكثر.
يا إلهي. هل تستطيع الالتفاف والهرب الآن أم فات الآوان؟!

شعرت به يتحرك ويسحبها خلفه حتى وصلا إلى باب مغلق في نفس الطابق السفلي فتحه وادخلها قائلاً:
حسناً. هذه هي غرفتكِ. إنه جناح كما ترين و...
لم تكن تستمع إليه فقد صدمتها فكرة أن تكون غرفتها في الطابق السفلي. إن المنزل مكون من طابقين. فلماذا لم تكن غرفتها بالأعلى. آه يا نورا. إنكِ تدفعين ثمن غبائكِ، فأنتِ من رفضتِ الحضور لرؤية المنزل واختيار غرفتكِ. أنى لكِ الاعتراض الآن؟

حسناً. إن كان يظن أنها ستسكت على تلك الإهانة فهو واهم. لن تكون نورا بنت الجيزاوي إن لم تجعله هو بنفسه يطلب منها الانتقال إلى الطابق العلوي والذي بكل تأكيد انفردت به نعمـ.ـا.ت كنوع من التأكيد على أنها سيدة المنزل.
حسناً لقد كانت تملك كل النوايا الطيبة للتعامل معها ولكنها تصر على استفزازها ودفعها نحو زواية تدافع فيها عن وجودها داخل هذا المنزل.

انتبهت فجأة لتجده قريباً منها جداً فتراجعت للخلف تلقائياً. بينما ابتسم هو قليلاً وهو يطمئنها:
لا تقلقي. فأنا لا آكل الفتيات الصغيرات!
ضيقت عينيها بغيظ وهي ترمقه بصمت. بينما أكمل هو:
في البداية أريد أن أطلب منكِ بعض الأشياء. هي لن تكلفكِ شيئاً ولكنها ستجعل الحياة في البيت أسهل على الجميع.
ظلت صامتة تنتظره أن ينتهي من كلامه فأردف بهدوء:.

أنا أريد منكِ معاملة نعمـ.ـا.ت كأخت كبرى لكِ. فتحترمي رأيها. ووجودها في ذلك المنزل. كما لا أريد حروب أو صراعات من أي نوع. إنها سيدة طيبة وذات قلب كبير...

أخذت نورا تسمعه يعدد مميزات نعمـ.ـا.ت والغيظ يتآكلها. هل هذا ما يريد أن يبدأ به حياتهما قصائد من الشعر في مدح زوجته الأولى! جالت بعينيها في الغرفة محاولة كظم غيظها حتى لا تنطلق منها كلمـ.ـا.ت تنـ.ـد.م عليها لاحقاً. فلمحت مزهرية كبيرة في ركن الغرفة فظلت تتخيل نفسها تنهال بها على رأسه ضـ.ـر.باً حتى يكف عن مدح تلك السيدة التي سيضعها في مصاف القديسين قريباً.
هل سمعتِ كلمة مما قلته؟

التفتت إليه وقد انتبهت أنه ينتظر جوابها بنفاذ صبر:
نعم لقد كنت تعدد مميزات القديسة.
رأت الغضب في عينيه فأدركت أن لسانها تحرك بدون تفكير كعادتها ليوقع بها في مشكلة جديدة، فتحركت للخلف خوفاً من الغضب الظاهر على ملامحه لكنه أمسكها من ذراعيها يجذبها نحوه:
هذا بالضبط ما كنت أتكلم عنه. تلك الكلمـ.ـا.ت التي تنطلق منكِ بدون تفكير والتي قد تسبب العديد من المشاكل في هذا المنزل.
أجابته بحدة:
أنا لا أفعل هذا.

بل تفعلين. فلقد رأيت كيف صدمتِ جدي بكلامكِ في تلك المرة. هل تذكرين؟
جذبت ذراعيها بحدة من بين يديه وهي تقول بلهجة مبطنة:
حسناً. لا يوجد شخص كامل. وأنا لست قديسة.
تنفس بعنف وهو يقول:
يا إلهي!
ابتعد عنها يتحرك في الغرفة بدون هدف فقط يحاول أن ينفض عنه ذلك الغضب. ما بها؟ لماذا لا تطعه فحسب؟ هل يجب أن تناقش في كل شيء؟! لماذا لا تدع الأمور تمر ببساطة وهدوء؟!

كانت نورا تراقبه وهو يتحرك في الغرفة وتلوم نفسها على إثارة غضبه. وتعود للومه هو لاختياره ذلك الوقت حتى يعدد مزايا زوجته. لقد أفسد ليلة زفافها. وأفسد أي ذكرى حلوة قد تراودها حول تلك الليلة...
عاد رؤوف لعمله بعد زفافه بأسبوع. أسبوع ازدحم فيه منزله بالمهنئين وأفراد عائلته وعائلة نورا، التي لم يستطع الانفراد بها للحظة واحدة طوال ذلك الأسبوع. فهو كان ينتقل من دوامة المهنئين إلى هيستيريا نعمـ.ـا.ت التي تظهر في أي لحظة تشعر به يتحرك ليذهب إلى عروسه.

لقد أصبح موقناً أنها تفتعل تلك النوبات مؤخراً. لكنه لم يستطع إدارة ظهره لها بعد كل تلك السنوات. وفي نفس الوقت يدرك بأن نورا عروس صغيرة ولا ينبغي عليه إهمالها أكثر من ذلك. فهو لم ينسَ نظراتها له وهي تستقبل أهلها في اليوم الثاني لزفافها. وخاصة حين ظهرت نعمـ.ـا.ت متقمصة دور سيدة المنزل ترحب بالضيوف والمهنئين وبعائلة عمه. وتقدم لهم واجب الضيافة وكأنهم أتوا في زيارة عادية وليس ليزوروا ابنتهم العروس ويهنئونها.

التمعت حينها عينيّ نورا بنظرة عجز عن تفسيرها فهي بدت كنظرة ضياع وتشتت ثم عادت لتلتمع بنظرة مشاكسة وانتقامية وظل يدعو الله ألا تنطق بإحدى عبـ.ـاراتها المستفزة وتسبب أزمة هو في غنى عنها حالياً.

يدرك أنه بدأ معها بطريقة خاطئة، وهو نادم على ذلك بالفعل فلقد أعماه غضبه من تعليقها المستفز. وتركها بمفردها في ليلة زفافها ليذهب مع زوجته الأولى، ولا يحتاج لكثير من الذكاء ليدرك أن نورا تظنه نام بأحضان نعمـ.ـا.ت، بينما ما حدث عكس ذلك تماماً. فنعمـ.ـا.ت ظلت تبكي بهيسترية طوال ساعات الليل تقريباً. واستطاع تهدئتها بعد وقت وجهد طويل. ليسقط نائماً من الإرهاق والتعب.

ظل بالطبع مذنباً في عينيّ عروسه. والتي -والحق يقال- لم تقم بأي تصرف مستفز. كما كان يتوقع منها. بل التزمت الصمت تجاه استفزازات نعمـ.ـا.ت لها وكان آخرها منذ قليل عنـ.ـد.ما جلسوا جميعاً على مائدة الغذاء لأول مرة وكان ذلك بناء على إصراره. والذي نـ.ـد.م عليه لاحقاً بعد محاولة فاشلة من نعمـ.ـا.ت لاستفزاز نورا حين حاولت التغنج مع رؤوف وإطعامه بيدها: حبيبي. تذوق الدجاج، لقد طهوته كما تحبه تماماً يا بودي!

بينما صُدم بشـ.ـدة من طريقة نعمـ.ـا.ت في تصغير اسمه، غصت نورا بطعامها، مما سبب سعادة وقتية لنعمـ.ـا.ت سرعان ما انمحت عنـ.ـد.ما تبين أن نورا غصت لمحاولتها كتم ضحكاتها التي تعالت لأول مرة، وبدا أن رؤوف قد فُتن بتلك الضحكة. وما أن لمحت نعمـ.ـا.ت نظرته حتى اشتعلت نارها ولكن قيام نورا من على المائدة هو ما أنقذ الموقف.

توجهت نورا إلى غرفتها وهي تتظاهر بضحكات ساخرة في حين أنها كانت تكاد تشتعل ذاتياً من ضرتها المتصابية. إنها تلتزم الصمت فقط لأنها تدرك أن إطـ.ـلا.ق العنان للسانها سيكلفها الكثير. كما لاحظت أن صمتها أمام استفزازات نعمـ.ـا.ت المستمرة يزيد من غضبها لذلك اتقنت رسم ابتسامة ساخرة على وجهها تواجه بها تصرفات نعمـ.ـا.ت المصممة على إخراجها عن طورها.

كانت تلك نصيحة عمتها قمر صبيحة زفافها. وهي قررت إتباعها بعد ما كلفها لسانها رحيل رؤوف عنها وذهابه مع نعمـ.ـا.ت في ليلة الزفاف، أسوأ ليلة قضتها في عمرها كله. وهي تتخيل الرجل الذي زُفت إليه تواً يقضي ليلته بين أحضان امرأة غيرها. وارتسم ذلك الشعور في عينيها بوضوح وهي تلتقي بعينيه عند استقبالهما لأهلها في اليوم التالي، ولكن نظرة الشفقة التي رأتها في عينيه جعلتها تعود لطبيعتها المشاكسة سريعاً. إلا وأنها رغم كل شيء لم تستطع خداع أمها التي شكت في صحة كل ما أخبرتها به نورا بأن الأمور على خير ما يرام بينها وبين رؤوف.

قاطع أفكار نورا صوت رنين هاتفها وكانت سهير شقيقتها تهتف بسعادة:
هنئيني يا أحلى نورا. لقد وافق أبي على خطوبتي أنا ومنذر.
صاحت نورا بفرحة:
ألف مبروك يا حبيبتي. أنا سعيدة جداً من أجلكِ.
ثم أردفت بلهجة مازحة:
ولكن. متى تقدم فارسكِ الهمام لطلب يدكِ؟ أنتِ لم تخبريني...
ضحكت سهير بخجل وقالت:
يبدو أنه فعل ذلك في ليلة زفافكِ. واليوم أعطينا الموافقة لعمتي. آه يا نورا كم أتمنى وجودكِ معي الآن.
أجابتها نورا:.

وأنا أيضاً. ولكن ماذا نفعل في تقاليدنا العريقة يا عزيزتي؟ ما رأيكِ لو تأتين أنتِ ونادية غداً حتى نستطيع أن نتكلم ونحتفل سوياً.
أجابتها سهير بتردد:
ولكن...
ليس هناك لكن. سأنتظركما غداً لنتناول الغذاء سوياً.
أغلقت نورا الهاتف وقد أدخلت أخبـ.ـار شقيقتها بعض السعادة إلى نفسها وتمتمت بهدوء.
أرجو أن تعثر إحدانا على السعادة يا شقيقتي.

وقف رؤوف أمام نافذته ينفث دخان سيجارته وهو يراقب النافذة المقابلة لنافذة مكتبه، وكانت تظهر منها نورا وهي تتحرك بخفة ونعومة. ابتسم قليلاً. فهي كانت ترقص ولا تدري عن مراقبته لها. قطع عليه تأمله لحركاتها الرشيقة دخول نعمـ.ـا.ت عليه فجذب ستارة النافذة بهدوء والتفت اليها:
ماذا هناك؟ هل أعد الطعام؟
اقتربت منه بهدوء وهي تحاول التحكم في نبرة صوتها حتى لا تبدو كمن أتى ليفتعل مشكلة:.

هاه. بالطبع الطعام جاهز. ولكن على ما يبدو أننا سنتناوله أنا وأنت فقط. فقد طلبت نورا طعام الغذاء من أحد مطاعم الوجبات السريعة.
سألها بدهشة:
ولماذا؟
أجابته بتردد:
ربما غضبت من كلامي لك أمس على الغذاء.
هتف بحزم:
اطلبي من الخدم وضع الغذاء لنا جميعاً.

قال كلمته وتوجه نحو جناح نورا ودخل بسرعة بدون أن يطرق الباب، فانتفضت سهير ونادية بقوة مما سبب له قليلاً من الارتباك ولكنه تغلب عليه سريعاً وهو يرحب بهما ويلتفت لنورا التي كانت ترقص لحظة دخوله ولكنها تجمدت تماماً تحت نظراته التي تخبرها بأنه على وشك قـ.ـتـ.ـلها ولا تدري لماذا. لذا فسارعت بالقول:
ألن تهنئ سهير. لقد وافق أبي على خطبتها لمنذر.
التفت لسهير وقال وهو يبتسم:
تهانئتي. إن منذر رجلٌ محظوظ.

أجابته بخجل:
شكراً لك.
ثم سحبت شقيقتها نادية المتسمرة في مكانها وقالت:
سنذهب لنلقي التحية على خالتي نعمـ.ـا.ت. فهي كانت نائمة عنـ.ـد.ما وصلنا.
بعد أن خرجتا. التفت رؤوف لنورا وسألها مباشرة:
ألم أخبرك أننا سنتناول الطعام سوياً.
أجابته بهدوء:
نعم...
سألها بغيظ:
إذاً لماذا طلبتِ طعاماً جاهزاً؟
لم تصدق نورا أنه قد يكون غاضباً لهذا السبب التافه، فأجابته بصبر:.

لقد فعلت ذلك لوجود شقيقتاي، حتى آتناول طعامي معهما. الموضوع لا يستحق كل هذا الغضب!
كان يعلم ذلك. الموضوع بسيط بالفعل. ولكنه كان غاضباً بالفعل. كان غاضباً منها ومن نفسه ومن نعمـ.ـا.ت. لا يدري ما به، فقط يشعر بالغضب وترجم هذا عنـ.ـد.ما قبض على ذراعها وهو يتهمها:
أنت تتعمدين مخالفة ما أطلبه منكِ.
سحبت ذراعها منه وهي تقول:
كلا. أنا لا أفعل. لما أنت غاضب هكذا؟!
خرج منه الكلام بدون إرادة:
لما كنتِ ترقصين؟

تلون خداها باللون الوردي وهي تتمتم:
لقد أخبرتك. كنا نحتفل بخطبة سهير.
قربها منه قليلاً وهو يقول:
لكني لا أحب أن يراكِ أحداً وأنتِ ترقصين.
ردت بعفوية:
إنهما سهير ونادية فقط. لقد رأتاني وأنا أرقص مراراً.
ابتسم بهدوء وهو يسألها:
هل يجب أن تجادلي في كل شيء؟ ألم تسمعي بكلمة. حاضر.
أجابته بخفوت وهي تشعر بيديه تقربانها إليه أكثر:
حاضر.

كانت متـ.ـو.ترة بشـ.ـدة من حركة يديه حول جسدها فابتلعت ريقها بتـ.ـو.تر وهي تضغط على شفتيها، تلك الحركة التي فتنت رؤوف من قبل. فاقترب أكثر ليطبع قبلة رقيقة على جبينها، حاولت الابتعاد إلا أنه منعها لتشعر بشفتيه تتحركان على وجهها الساخن فأغمضت عينيها لتحط شفتاه على جفونها المغلقة. وأنفاسه السريعة تضـ.ـر.ب وجهها وشفتيه تواصلا طريقهما عبر صدغها ووجنتها. ارتعد جسدها بقوة استجابة لحركته البطيئة وهو يقترب من شفتيها يداعبهما برقة ويمنحها قبلتها الأولى. بدت قبلته رقيقة وهو يحاول السيطرة على مشاعره حتى لا يخيفها. ولكن ما أن تلامست شفاهما حتى خرجت سيطرته عن عقالها فألصقها به وهو يغرز إحدى يديه بشعرها يبعثره في عبث ويعمق قبلته التي سحبتهما من عالم الواقع فلم يشعرا بسهير وهي تفتح باب الغرفة، ولكن شهقتها الخجولة أبعدتهما عن بعض وهي تقول بخجل شـ.ـديد:.

آسفة. أن. ا، آس. ف. ة، إررر، لقد كنت أبحث عن حقيبتي، عفواً سأذهب.
تحرك رؤوف بعيداً عن نورا بعد أن طبع قبلة رقيقة على مقدمة رأسها وخرج من الغرفة وهو يتمتم:
كلا. ابقي مع نورا، ومرة أخرى تهنئتي.
التفتت سهير إلى شقيقتها بعد خروجه من الغرفة فبادرتها نورا وأنفاسها مازالت متسارعة:
ولا كلمة. لا أريد أن أسمع أي كلمة.

توجه رؤوف إلى مكتبه مباشرة بعد أن اعتذر لنعمـ.ـا.ت عن تناول الطعام مما جعلها تتعجب ولكنها التزمت الصمت. أما هو فحاول أن يدفن اضطرابه وأحاسيسه التي أشعلتها قبلته لنورا بالانغماس في العمل وتجاهل الصوت الذي يهتف به أن يذهب ويلقي بشقيقتيها خارج جناحهما ليبدأ معها حياتهما كما ينبغي.

بعد عدة محاولات فاشلة منه لقراءة إحدى الملفات ألقاه بعيداً وتوجه نحو أحد الأدراج الموصدة في مكتبه ليفتحه ويخرج دفتراً كبيراً مخصصاً للرسم لينغمس في هوايته التي يلجأ لها كلما تشتت عقله وتبعثرت أفكاره. فهو كان يجد في هوايته لفن الكاريكاتير والقصص الهزلية متنفساً لضيقه كلما زادت حوله المشاكل.

كان يسخر من نفسه بنفسه. يشكي حاله للورق والألوان، يحاول معرفة ما الخطأ وكيف يوازن أموره ويصحح أخطائه. انغمس في رسمه لساعات وهو يخط ما يمر به من مواقف وأزمـ.ـا.ت بصور هزلية مضحكة. يهرب بها من مشاكل الواقع الذي يحيط به ليعيش مع هوايته التي تمنى يوماً أن يحترفها وتكون مهنته، ولكن الواقع عانده عنـ.ـد.ما ظهرت مهاراته في حقل الأعمال والتجارة وكان من المحتم أن يتناسى أمنيته ويتفرغ لأعمال العائلة. فهو يتذكر جيداً كلام جده له عنـ.ـد.ما لمح دفتر رسومه.

شخبطات جيدة يا رؤوف. هواية مسلية. ما دامت ستظل في إطار الهواية والتسلية. لكنك تعلم أن مكانك الحقيقي موجود في شركات الجيزاوي.
كان تحذير وتنبيه فهمه رؤوف جيداً رغم أنه كان في الثانية عشر فقط.
انتبه على جواله يدق ويظهر رقم نعمـ.ـا.ت على شاشته. وكعادة كل ليلة كانت تبكي وتنوح وتطلب منه ألا يبتعد عنها. فأغلق الخط وتوجه إلى غرفتها. عله يستطيع أن يصل لحل معها.

أما نورا فبعد ذهاب شقيقتيها اللاتين لاحظتا غياب ذهنها الكلي ظلت تترقب خطوات رؤوف وتنتظر عودته إليها خاصة بعد ما حدث بينهما عصر اليوم، ولكن لمفاجأتها سمعت خطواته تتجه بسرعة إلى الأعلى نحو غرفة نعمـ.ـا.ت. كادت تنفجر من الغيظ والغضب. إلى متى ستتحمل تلك الأوضاع المقلوبة؟

إنها هي العروس. هي من يجب عليه الإسراع ليكون معها. استبد بها الغضب وهي تذرع غرفتها ذهاباً وإياباً. ولم تتمالك نفسها وهي تتجه نحو باب غرفتها لتفتحه وتتجه نحو الطابق العلوي هي الأخرى.
لم تعلم ماذا تهدف من تصرفها ذاك؟ أو ما الذي ستفعله؟ لكنها تحركت بدون تفكير حتى وصلت إلى باب غرفة نعمـ.ـا.ت. وقبل أن تمسك بمقبض الباب سمعت صوت نحيب نعمـ.ـا.ت وبكائها الهيستيري وهي تتوسل رؤوف ألا يتركها. أو يغدر بها.

تجمدت نورا لوهلة وهي تستمع لهذيان نعمـ.ـا.ت. وعادت أدراجها إلى جناحها في الطابق السفلي مرة أخرى وهي تحاول تحليل ما سمعته. للحظة بسيطة شعرت بالأسى عليها. لكنها سرعان ما نفضت ذلك الشعور. فلا يوجد مبرر لإصابة نعمـ.ـا.ت بتلك الهيستريا في ساعات الليل فقط. بينما تكون في قمة هدوءها بل وغنجها أثناء النهار! إلا أنها طريقة للاستحواذ على اهتمام رؤوف. أشعرها ذلك بالنفور من تفكير المرأة الأكبر سناً والتي تصر على إعلان حرب غير مرئية بينهما.

غلبها النوم أخيراً وهي ما زالت تفكر في وضعها وحياتها الجديدة وتتساءل إذا ما كانت أخطأت في الموافقة على تلك الزيجة وإقحام نفسها في علاقة ثلاثية الأطراف. أما أحلامها فكانت كلها تدور حول مشاعر جديدة عليها شعرت بها اليوم فقط وهي بين ذراعي رؤوف.

استلقت سهير على فراشها وهي تستمع لكلمـ.ـا.ت منذر المسكرة لحواسها وهو يحادثها هاتفياً:
أخيراً يا سهير. سيجمعنا بيتاً واحداً.
ظلت سهير صامتة ولم يجاوبه إلا صوت أنفاسها. فأردف:
أنتِ تعلمين يا حبيبتي أنني كنت أتمنى أن أقدم لكِ بيتكِ الخاص، ولكن بعد زواج شقيقتكِ. خشيت أن يسبقني إليكِ شخصاً آخر.
همست له:
أعلم. أنت لا تحتاج أن تبرر نفسك لي. وأنا موافقة على السكن مع عمتي قمر. صدقني. لست منزعجة أبداً.

فاجأها بقوله:
أحبك.
نهرته بضعف:
منذر.
همس مرة أخرى:
أحبك. أحبك. ألن أسمعها منكِ؟
همست:
تصبح على خير.
ضحك بسعادة وهو يقول:
تهربين؟ حسناً. لم يبقَ سوى شهر واحد ولن تجدي لكِ مهرباً مني.
عادت تهمس والخجل يذبحها:
ليلة سعيدة.
أجابها بنفس همسها:
ليلة سعيدة يا عمري.

أغلقت سهير الهاتف وظلت تحتضنه لفترة. تكاد تطير من سعادتها. فأخيراً سيضمها بيت واحد مع حلم طفولتها وفارس صباها. منذر. تنهدت بحرارة وهي تسترجع صورته في خيالها. بوسامته الخشنة التي تعشقها.
أخذت تعبث بخصلاتها الشقراء وهي تتذكر كلمـ.ـا.ته الرقيقة وغزله الناعم. وتعد الساعات حتى تكون معه رغم المشاعر الغامضة التي تنتابها وتسبب انقباضة قلبها.

اشتعلت حيرة نورا بعد مكالمة هاتفية سريعة مع سهير والتي توسلتها أن تجد طريقة حتى تصطحبها في جولاتها الشرائية. فعمتها وأمها أصابتاها بالجنون وهي أصابتهما بالانزعاج من شـ.ـدة تذمرها. وكانت سهير تستغيث فعلياً بنورا كعامل مهدئ بين الجميع.

وأخيراً قررت نورا استئذان رؤوف لترافق سهير. فلابد أنه سيقدر رغبتها في مساعدة أختها ويتغاضى عن تلك العادات والتقاليد التي تلزمها بالمكوث في منزل زوجها لتقابل المهنئين خاصة ونعمـ.ـا.ت لم تقصر في إظهار نفسها كصاحبة البيت وسيدته. وبرغم أنها لم تكن تود أن تكون البادئة في الذهاب إليه، ولكن ليس أمامها خيار آخر. فسهير بدت في حالة يائسة.

اتجهت نورا إلى المطبخ لتعد له القهوة التي يعشقها. وهناك فوجئت بوجود نعمـ.ـا.ت فحاولت تجاهلها قدر ما تستطيع وأخذت تعد القهوة. ثم خطر في بالها طريقة ترد بها على استفزازات نعمـ.ـا.ت لها. فبدأت بالغناء كما اعتادت في منزل أبيها. وكان اختيارها للأغنية هو ما اشعل نيران نعمـ.ـا.ت التي انعقد لسانها وهي تستمع لصوت نورا الرقيق:.

جالت لي بريدك يا ولد عمي. تعا دوج العسل سايل على فمي. على مهلك على ما بحمل الضمة. على مهلك علي. ده أنا حيلة أبوووي وأمي.
أرفقت نورا غنائها بحركات راقصة خفيفة وهي ترمق نعمـ.ـا.ت بنظرات ذات مغزى. ثم أخذت قدح القهوة وتوجهت نحو مكتب رؤوف الذي فوجئ بدخولها عليه وهي تحيه ببساطة:
مساء الخير. لقد أعددت لك القهوة كما تحبها.
لم يستطع إخفاء دهشته. وطار عقله ليظن أنها اشتاقت إليه. ولكنه نهر نفسه بسخرية:.

لتكف عن جنونك، لابد أنها تحتاج منك شيئاً وجاءت مقدمة القهوة كعربون سلام. ابتلع سؤاله عن سبب مجيئها إليه. فقد توقع أن تختفي من أمام ناظريه كعقاب له على بقائه كل ليلة بجوار نعمـ.ـا.ت وخاصة ليلة أمس بعد قبلتهما. عنـ.ـد.ما وصل به تفكيره إلى تلك القبلة اتجهت نظراته إلى شفتيها بدون إرادة منه. ولاحظت هي ذلك فازداد تـ.ـو.ترها وأخذت تفرك بيديها وهي تضغط شفتيها معاً. لاحظ رؤوف تـ.ـو.ترها ذاك. فحاول أن يرد بهدوء:.

شكراً على القهوة.
لاحظ ترددها في الخروج من المكتب. فأيقن أن تفكيره كان صائباً وأنها تريد شيئاً، فأردف:
هل أردتِ شيئاً؟
أجابته بتردد:
نعم. أنا أريد الخروج مع سهير لشراء بعض احتياجاتها.

وأخذت تقص عليه مكالمة سهير. لم يدري لما أصيب بالإحباط. فهو عنـ.ـد.ما لمحها تدخل عليه تمنى أن تكون قد جاءت لرؤيته لأنها اشتاقت إليه. أو أن تكون قبلتهما قد أثرت فيها. لذا عنـ.ـد.ما أخبرته بسبب حضورها وإعدادها لقهوته أصيب بالإحباط بل بالغضب. ووجد نفسه يعبر عن ذلك برفضه لطلبها:
كلا. أنتِ تعلمين أنه لا يصح أن تخرجي الآن ولم يمر على زواجنا عشرة أيام.
صاحت بنزق:
أنت لا تؤمن حقاً بهذه الخزعبلات!
أجابها بهدوء:.

يجب احترام تقاليد مجتمعنا. وحتى لو مدينتنا لا تقع داخل الصعيد فعلياً بكل عاداته. إلا أننا دائماً ما اتبعنا التقاليد. لن يضير سهير الانتظار لعدة أيام أخرى. كما أن معها عمتي وخالتي شموس.
وصمت قليلاً. ثم قال:
ونعمـ.ـا.ت موجودة أيضاً. لو احتاجت إليها.
لم تتمالك نورا نفسها وقالت بسخرية:
وهل أجلس أنا في البيت وأترك مساعدة أختي للسيدة نعمـ.ـا.ت!
تعجب من قولها:
السيدة نعمـ.ـا.ت! هل تدعينها بالسيدة نعمـ.ـا.ت؟!
سألته بسرعة:.

وكيف تريدني أن أدعوها؟
تدعينها كما اعتدت دائماً.
صاحت بتعجب:
هل تريدني أن أدعوها. خالتي نعمـ.ـا.ت؟!
نعم. إذا كنتِ اعتدتِ على ذلك. فلم يتغير شيء.
رمقته بنظرة ذات مغزى ولم تقاوم نفسها وهي تقول:
نعم. لا شيء تغير.
فهم إلى ماذا تشير بكلامها فتقدم منها بغضب لمحته يظهر في عينيه فتراجعت فوراً. ولكن دخول نعمـ.ـا.ت قطع ثورة الغضب المتوقعة. حيث دخلت لتقول:.

هل أعجبتك قهوة نورا؟ فأنت اعتدت على تناول القهوة التي أعدها. إذا لم تعجبك. سأعد غيرها.
انطلقت الكلمـ.ـا.ت من نورا على الفور بدون أن تتمعن فيها:
لقد أعجبته قهوتي جداً. فلقد آن الآوان ليتذوق القهوة بنكهة جديدة. لا تقلقي نفسك يا خالتي...
واتجهت للباب لتخرج وهي تلقي بنظرات قـ.ـا.تلة لرؤوف. بينما جمدت نعمـ.ـا.ت في مكانها وظهر الغضب على وجهها وهي تتمتم بحرقة:
خالتي!

بينما التمعت المشاكسة في عيني نورا وهي تلقي بنظرة أخيرة إلى رؤوف كأنها تخبره:
ألم أقل لك؟! .

رغم السعادة التي شعرت بها نورا لمرافقة شقيقتها لاختيار ثوب زفافها، إلا إن القلق كان يعصف بها من ردة فعل رؤوف على خروجها بالرغم من اعتراضه السابق، ولكنها لم تستطع أن تصل معه لنقطة تفاهم خاصة بعد أن تعمد تغيير الموضوع ببراعة ليبعدها عن طلبها الأساسي. ويشغلها بقضية فرعية لا تهمها في شيء.

وما أشعل غيظها هو دخول نعمـ.ـا.ت عليهما مما اضطرها للخروج بدون الحصول على إجابة شافية. ثم خروجه بعد ذلك بدون أن تستطيع إكمال نقاشهما. جعلها تتخذ قرارها بالخروج مع سهير مع اكتفائها بإرسال رسالة له تخبره فيها بذلك. لأنها عنـ.ـد.ما اتصلت به على هاتفه وجدته مغلقاً.

بعد انتهاء جولتها الشرائية برفقة سهير وصلتا إلى منزل والدهما لتفاجئ نورا بوجود رؤوف بانتظارها برفقة والدها. ونظرة واحدة إلى عينيه أدركت مدى الغضب الذي يعصف به ومدى تحكمه في نفسه حتى لا يظهره أمام والدها الذي أصر على بقائهما لتناول العشاء مع الأسرة. واضطر رؤوف للموافقة أمام إصرار عمه وتوسل شموس لتجلس مع ابنتها قليلاً.

كان العشاء مسلياً بخلاف توقع رؤوف. فاكتشف أن نادية الشقيقة الصغرى لنورا تمتلك حس فكاهي نادر وسرعان ما ظهر ذلك على مائدة العشاء وهي تتذمر من ترك أختيها لها وهما تختاران ثوب الزفاف وكأنه سر حربي. ومع تذمرات نادية لاحظ لمعان نظرة حالمة في عيني سهير وكأنها لا تشاركهما الواقع، بل تطفو على سحابتها الوردية مما جعله يظن أن ارتباطها بمنذر يحمل أكثر من ارتباط عائلي.

حاول على قدر استطاعته تجنب النظر إلى حمقائه الصغيرة حتى لا يظهر غضبه منها على الملأ، لكن رغماً عنه كانت عيناه تتجه إليها وهو يلاحظ تـ.ـو.ترها وقلقها. كما لمح نظرة تشبه خيبة الأمل عنـ.ـد.ما رن صوت سهير الرقيق وهي تتحدث عن تجهيزات زواجها وموعد زفافها المتوقع. مما دفع بالشياطين لتوسوس له ليظن بأن نورا كانت معجبة بمنذر أو الأسوأ تحبه. دفعه ذلك الظن إلى إنهاء العشاء بسرعة والاستئذان لينطلقا إلى منزلهما.

ساد صمت تام بينهما في السيارة، حاولت نورا كسر ذلك الصمت أكثر من مرة والحديث معه بهدوء إلا أنه كان يقابل محاولاتها بنظرة نارية تسكتها على الفور...
وصلا أخيراً إلى المنزل. فنزلت مسرعة من السيارة إلا إنه لحقها ليمسك بذراعها ويدخل معها إلى البهو ووجد نعمـ.ـا.ت ساهرة بانتظاره ولمح كالعادة قطرات الدمـ.ـو.ع تتلألأ في مقلتيها. لكنه كان في حالة من الغضب الشـ.ـديد فتجاهل النداء الصامت بعينيها وهو يقول لها:.

ليلة سعيدة يا نعمـ.ـا.ت.
ثم استمر في سحب نورا خلفه ليدخلها إلى جناحها ويغلق الباب خلفهما. فقررت أن تبدأ بمهاجمته:
كيف تجرؤ...
قاطعها بهدوء يخفي غضب عاصف من خلفه:
هل كان منذر معكما وأنتما تختاران الثوب؟
فوجئت نورا بسؤاله لكنها أجابته بتعجب:
كلا بالطبع. كانت معنا عمتي قمر والسائق الخاص بجدي.
ثم أردفت:
لماذا تسأل؟
رد بسرعة:
لا شيء. لماذا خالفت طلبي وخرجت بدون إذن؟
تلعثمت وهي تجاوبه:.

إننا لم ننهه نقاشنا. كما أنك أغلقت هاتفك، لم يكن أمامي إلا إرسال رسالة لك.
صاح بغضب:
وقررتِ من نفسكِ رمي كل ما تكلمنا فيه. وخرجت من المنزل بدون إذن. وحتى بدون إخبـ.ـار نعمـ.ـا.ت عن وجهتكِ. لقد اتصلت بي قلقة لأنها لم تجدكِ في غرفتكِ.
صاحت مشـ.ـدوهة:
هي اتصلت بك؟
نعم. ألم أخبركِ أن تعامليها باحترام؟ لماذا لم تبلغيها بخروجكِ؟
أجابته بنزق:
ولماذا أخبرها؟ هل تزوجت منها بدون أن أدري؟
صاح بغضب:
نورا!

أجابته وقد خرجت عن طورها:
ماذا؟! نعمـ.ـا.ت! نعمـ.ـا.ت!، اسأليها. بلغيها. هل أنجب منها الوريث اللعين أيضاً؟
عرفت أنها تخطت الخطوط الحمراء عنـ.ـد.ما رأت شرارات الغضب تتطاير من عينيه وهو يخطو نحوها بسرعة ويجذبها من ذراعها ليلصقها به وهو يهمس بغضب:
ألن تتعلمي التحكم في كلمـ.ـا.تكِ؟ حسناً. سأعلمكِ ممن ستنجبين الوريث.

انقض على شفتيها بقوة ينفس عن غضبه ويخرج كل الشياطين التي استوطنت أفكاره وهو يظنها كانت تتمنى غيره. فزاد من ضغطه على شفتيها حتى أجبرها أن تفرقهما ليعمق قبلته بينما إحدى يديه تتحسس جسدها وتستكشفه بجنون والأخرى تجذب شعرها بقوة لتثبت رأسها وتجبرها على تلقي قبلاته العنيفة.

حاولت نورا الابتعاد عنه إلا أنه كان يحبط جميع محاولاتها بفاعلية تامة وهو مستمر في تقبيلها ولكنها تمكنت أخيراً أن تبعده عنها قليلاً لتستنشق بعض الهواء وتهمس له:
هل هكذا تريد بدء حياتنا يا رؤوف؟ بالإجبـ.ـار يا ابن عمي!
هدأت كلمـ.ـا.تها من غضبه وحدت من اندفاعه فقربها منه برقة وهو يهمس أمام شفتيها:
هل اذهب يا بنت عمي؟ هل اذهب يا قمري؟
اغمضت عينيها وهي تجاوبه بهمس مماثل:
كلا...

فأخفض رأسه يلتقط شفتيها ويعاود تقبيلها ولكن برقة أذابتهما معاً...
نار. نار حارقة تكوي جوف نعمـ.ـا.ت، فما كانت تحاول جاهدة لتأجيله في الأيام السابقة. قد وقع. كل محاولاتها لإبعاد رؤوف عن نورا فشلت فشلاً ذريعاً. حتى مكالمتها التليفونية له وهي تدعي قلقها على العروس الصغيرة التي لم تجدها بغرفتها.

رمت كذبتها وأتقنت إدعاء القلق في صوتها وهي تعرف أي جنون سينتاب رؤوف لخروج نورا بدون إخبـ.ـاره. كانت تظن أنها بذلك تزيد من اتساع الهوة بين نورا ورؤوف. ولكن يبدو أن العكس هو ما حدث. وكانت فعلتها تلك. سبباً للتقريب بينهما.

زفرت بقوة وهي تشعر بالإشمئزاز من نفسها ومن تصرفاتها في الفترة الأخيرة. تشعر بأنها تحولت إلى امرأة أخرى. امرأة حاقدة وشريرة. مليئة بالمرارة والخوف. نعم الخوف من هجران رؤوف لها. الخوف من فقدها الزوج الذي عاملها بحنان ورقة لم تشعر بهما مع عمه. رغم حب ذلك الأخير لها. لكن رؤوف كان يعاملها بنوع من القدسية. منحها هالة من الملائكية تشعر بالرعـ.ـب الآن من أنها فقدتها في عينيه. لكن أكثر ما يخيفها أن تفقد الإحساس الرائع الذي يمنحه وجود رؤوف في حياتها. الإحساس بأن هناك من يحتاجها. بأن وجودها هام وحيوي لشخص ما.

إحساس قريب من الأمومة لحد ما. نعم. فوجود رؤوف في حياتها عوضها عن إحساس أمومتها المفقود. وخاصة مع انعدام فرصها في الإنجاب ومع الفارق العمري بينهما والذي حولته لفيض غامر من الحنان والعناية والرعاية الموجهه نحوه. إن نعمـ.ـا.ت لا تخاف فقط فقدان الزوج، بل تخاف فقدان الابن الذي منحته كل حنانها ومشاعرها...

إحساس رائع بالدفء والأمان، إحساس بالسكينة والحماية هو ما شعرت به نورا وهي تستيقظ بين ذراعي زوجها. زوجها! ومضت أحداث الليلة الماضية في عقلها مما جلب ابتسامة خجولة على شفتيها عنـ.ـد.ما تذكرت العاطفة المحمومة التي غمرها بها رؤوف الذي لم تتصوره أبداً بتلك الحرارة والشغف. فبعد اندفاعه العنيف نحوها أمس. رقت لمساته نتيجة همسها له وتحولت قبلاته الغازية إلى قبلات حارة مغوية. أذابت كل مقاومتها وأضاعت عقلها تماماً فاستجابت له بعفوية بريئة. زادت من جنونه بها وهو ينثر قبلاته على كل خلية بجسدها. ويصحبها معه إلى عالم العشق، والجنون. وهو يهمس في كل لحظة. ب قمري. اسمها الذي يخصه هو فقط.

شعرت بأنفاسه تتسارع ودقات قلبه تزيد تحت وجنتها فأدركت أنه استيقظ من نومه وأنه يتأمل ملامحها، فاحمرت وجنتاها على الفور واستمرت في إغلاق عينيها بشـ.ـدة. مما دفعه للابتسام وهو يهمس بجوار أذنها:
هل ستفتحين عينيكِ الآن؟ أم ستستمرين في إدعاء النوم؟
أجابته وهي ما زالت مستمرة في إغلاق عينيها:
أنا لا أدعي شيئاً. أنا نائمة بالفعل!
ضحك بقوة وهو يزيد من ضمها ويده تعبث بخصلاتها المنتشرة على وسادته:.

حسناً أيتها النائمة بالفعل. أنا أملك فكرة جيدة عن كيفية إيقاظكِ!
وأعقب قوله بقبلة قوية على شفتيها وهو يلفها بذراعيه أكثر، فوجئت نورا بحركته السريعة ولم تستطع الابتعاد عنه بالسرعة الكافية فأحكم ذراعيه حولها وهو يهمس أمام شفتيها:
مبروك يا قمري.
أجابته بنفس الهمس:
لماذا تانديني بقمر؟

لم تسمع إجابته حيث أنه دفن رأسه في عنقها الناعم وبدأ يغمره بالقبلات اللاهبة التي أشعلت جسدها بأكمله فحركت ذراعيها لتلتف حوله ليضمها إليه أكثر وهو يلتهم شفتيها في قبلة حارة أذابتهما سوياً...

مرت الأيام التالية على نورا وهي تعيش فوق سحابتها الوردية. فعلاقتها مع رؤوف في قمة تناغمها، لم تتوقع أن تجد نفسها قريبة منه إلى تلك الدرجة. تشعر به قد تغلغل بداخل روحها. كما تحب أن تعتقد أنها لمست شيئاً بداخله.

أسعدها بشـ.ـدة أنها وجدته إنسان رقيق. حنون وشغوف. بطريقة لم تتوقعها، فكان يغمرها دائماً بعاطفة حارة تدخلها إلى عوالم جديدة عليها كليةً. وكان هو دليلها إلى تلك العوالم الرائعة. لكن سعادتها كانت ناقصة على الدوام. فكانت الليالي التي يقضيها رؤوف مع نعمـ.ـا.ت بمثابة حرائق لاهبة تندلع في كيانها.

لم تدرك أنها يمكن أن تشعر بتلك الكمية الرهيبة من الغضب إلا عنـ.ـد.ما رأت رؤوف بعد أن قضي الليلة برفقة نعمـ.ـا.ت. لم تعرف أنها تملك القدرة على القـ.ـتـ.ـل إلا بعدما رأت نعمـ.ـا.ت تتهادى على الدرج وعلى وجهها ترتسم ابتسامة قطة قد التهمت طنجرة كاملة من اللبن كامل الدسم.

وقتها شعرت أنها تريد مسح الابتسامة من على وجه نعمـ.ـا.ت، وأن تعيد تشكيل ملامح وجهها المبتسم. فآثرت السلامة وتحركت متجهة إلى غرفتها قبل أن تطاوع شيطانها. وتمزق عيني نعمـ.ـا.ت.
يومها لحقها رؤوف إلى غرفتها. ووجدها واقفة بنافذتها تنظر إلى الفراغ. تأملها لعدة دقائق ولكنه ظل صامتاً عالماً بأنها أدركت وجوده بالغرفة معها. ولكنها ببساطة تتجاهله.
أجلى صوته وهو يقول بهدوء:
صباح الخير.

ظلت نورا صامتة. ولم تستطع أن ترد تحيته. فقد كانت دمـ.ـو.عها تنهمر بغزارة.
اقترب منها بهدوء حتى وقف خلفها تماماً. يكاد يكون ملتصقاً بها، ووضع يديه على كتفيها يديرها إليه. ففوجئ. بالدمـ.ـو.ع تغرق وجهها. ضمها إليه بهدوء، وضغط رأسها إلى صدره وهو يملس خصلاتها بنعومة. حتى هدأت قليلاً...

ظلا على هذا الوضع لفترة لم يشعر بها كلاهما، وأخيراً أبعدها عنه قليلاً. ومسح دمـ.ـو.عها بأصابعه ثم طبع قبلة دافئة على جبهتها. وخرج بهدوء مثلما دخل.
ظلت نورا مسمرة في مكانها لفترة بعد خروجه، ثم ألقت بنفسها على الفراش وهي تجهش بالبكاء...

بعد تلك المرة تعلمت نورا أن تتحكم في أعصابها وتعبيرات وجهها، فلا تفضح غيرتها الشـ.ـديدة على رؤوف وخاصة أمام نعمـ.ـا.ت. ولكن ذلك لم يمنعها من إظهار غضبها أمامه في نوبات عصبية. ولكنه كان يمتص غضبها بقبلاته ولمساته المذيبة لها فيسحبها إلى عالمه الذي يفتح ذراعيه مرحباً بها.

كان أكثر ما يغيظها هو اهتمام رؤوف الزائد بنعمـ.ـا.ت بعد كل ليلة يقضيها معها هي حتى أنها بدأت تعتقد إنه يشعر بالذنب لمشاركتها عواطفه الحارة. لكنها حاولت تجاهل ذلك حتى تستطيع المضي في حياتها التي تريدها أن تستقر بعيداً عن الضغائن والمنغصات. وكان لاقتراب زفاف سهير أثره الكبير في رفع روحها المعنوية وخاصة بعد موافقة رؤوف على مرافقتها لسهير في رحلاتها الشرائية. ومساعدتها في تجهيزات الزفاف وتأثيث الجناح الخاص بسهير في منزل عمتها قمر، ولكن أثار تعجبها تأكيده المستمر على عدم تواجد منذر في تلك الرحلات. وحاولت سؤاله أكثر من مرة عن السبب ولكنه لم يمنحها إجابة واضحة كعادته كلما أراد المراوغة حول شيء ما...

كانت تلك الليلة التي تسبق الزفاف. وكانت الاحتفالات في بيت عبد السلام على أشـ.ـدها. حين وصلت سيارة رؤوف وهو يقل نعمـ.ـا.ت التي تعمدت الجلوس بجواره، ونورا الجالسة في الخلف تبرم شفتيها في حنق. حيث أن الليلة هي ليلة الحنة لشقيقتها ورغم ذلك لم تتنازل نعمـ.ـا.ت وتمكث في المنزل، بل قررت الحضور لمشاركتهم الاحتفال، والأدهى من ذلك أنها احتلت المقعد الأمامي فوصلت نورا إلى منزل والدها وقد وصل غضبها لآخره وكادت أعصابها أن تخونها وتفلت منها. لتوجه إلى نعمـ.ـا.ت كل ما بداخلها من قهر وحنق.

حين وصل رؤوف إلى باب المنزل الأمامي. ترجلت نعمـ.ـا.ت وهي ترسل التحية لرؤوف، وحين حاولت نورا الترجل بدورها فوجئت بأن رؤوف قد أوصد الباب بجوارها، فسألته وهي تحاول فتح الباب:
رؤوف ما به باب السيارة؟ أريد النزول.
التفت ليواجهها وهو يمسكها من ذراعها حتى تكف عن محاولة فتح الباب:
اتركي الباب. سأفتحه حالاً. فقط أريد منكِ شيئاً.
أجابته بقلق:
ماذا هناك يا رؤوف؟
أجابها في سرعة:
أريدك أن تعديني ألا ترقصي.
قاطعته بأمل:.

لكن.
ليس هناك. لكن. أعتقد أن ذلك حقي. فأنا لا أرغب أن يراكِ الجميع وأنتِ ترقصين. أعتقد أنني أخبرتكِ بذلك من قبل.
أجابته في حزن:
حسناً.
ترك ذراعها ليرفع ذقنها بأصابعه:
أنا أخاف عليكِ. أعتقد أن هذا شيء لا يسبب الحزن.
ابتسمت قليلاً وهي تردد مرة أخرى:
حسناً.
تحركت أصابعه ببطء ليتحسس شفتيها المكتنزتين ويضغطهما برفق:
لا تغضبي. وابتسمي ابتسامة حقيقية. وعنـ.ـد.ما نرجع إلى المنزل. سأخبركِ بمفاجأة سوف تسعدكِ كثيراً.

اتسعت ابتسامتها وهي تقول:
هل تحاول رشوتي الآن؟
ضحك بدوره عنـ.ـد.ما لمس تحسن مزاجها ونظر إلى شفتيها بخبث وهو يقول:
لا أعتقد أنني أحتاج لذلك!
أزاحت أصابعه وهي تقول بغضب مصطنع:
مغرور.
ضحك مرة أخرى وهي يفتح أبوب السيارة:
هيا انزلي يا طويلة اللسان وأبلغي تحياتي وتهنئتي لخالتي شموس ولسهير.

تحركت نورا لتنزل من السيارة بينما كانت نعمـ.ـا.ت ترمقهما بنظرات نارية وهي تراقب الحوار المتبادل بينهما والذي لم تتمكن من سماعه ولكنها استطاعت ملاحظة تبدل ملامح وجهيهما. وكادت عينيها أن تخرجا من محجريهما وهي ترى أصابع رؤوف تتحسس شفتي نورا وهو يرمقها بتلك النظرات المشتاقة. وهتفت في داخلها:
لقد جُن ولا شك. هذا ليس رؤوف المتحفظ البـ.ـارد، الذي لا يظهر انفعالاته أبداً أمام الناس. لقد أفقدته عقله ابنة شموس.

تحركت نورا لتصطحب نعمـ.ـا.ت ليدخلا معاً إلى منزل والدها، وكان مشهد دخولهما معاً. لا ينسى حقاً. فكان كتلاقي ربيع العمر مع خريفه. كانت الروعة ونضارة الشباب جنباً إلى جنب مع الوقار والكهولة. كانتا كابنة وأمها. وذلك ما تردد بقوة من النساء الحاضرات ووصل إلى مسامع نعمـ.ـا.ت كخناجر سامة تزيد من جروح كبريائها...

لاحظت نورا تلك الهمسات السامة وتأثيرها على نعمـ.ـا.ت التي ارتعش جسدها وهي تستمع إلى المقارنات التي تعقدها النساء بينها وبين شباب وجمال نورا. مما أشعر نورا بالشفقة عليها فطلبت منها الصعود إلى غرفة العروس. لكن نعمـ.ـا.ت ترددت في إبداء موافقتها. وفضلت أن تتواجد بالأسفل حيث كانت النساء متجمعات معاً يغنين الأغاني الخاصة بالأفراح.

كان بعضهن يتبادلن الأحاديث والأخبـ.ـار. بينما كانت صواني الشربات الأحمر تلف على الموجودات تنبأ عن الفرحة والسعادة. بينما امتدت الموائد تحمل كل ما لذ وطاب من أجود أنواع الأطعمة. في انتظار جموع السيدات لتتقدمن وتتناولن عشائهن، ولكن ذلك لم يمنع تراشق النظرات حول نعمـ.ـا.ت ونورا.

لذلك بعد أن جلستا قليلا مع الموجودات في البهو تحركتا للذهاب إلى غرفة سهير التي كانت تمتلأ بحشـ.ـد من الفتيات اللاتي كن يرددن الأغاني وكانت بعضهن يتمايلن راقصات. بينما كانت في ركن الغرفة مائدة صغيرة وضعت عليها صينية دائرية بها مجموعة من الشموع وضعن في شكل دائري حول طنجرة كبيرة امتلأت بالحنة. وكانت الورود منثورة بروعة على المائدة تحيط بالصينية في مشهد رومانسي هادئ...

أخذت نورا تبحث بعينيها عن سهير التي ما أن لمحت شقيقتها حتى ارتمت بين ذراعيها وهي تلومها على التأخير ولكنها ابتلعت كلمـ.ـا.تها وهي تلمح نعمـ.ـا.ت خلف نورا، فنظرت إلى شقيقتها بعجب. فكانت إجابة نورا ضغطة خفيفة على يد سهير حتى تنبهها لتسلم على نعمـ.ـا.ت كما يجب.
اصطحبتها سهير إلى أحد أركان الغرفة وهي تسألها:
لماذا صعدت معكِ إلى هنا؟
أجابتها نورا:.

السيدات في الأسفل يرمين بكلام كالسهام السامة، تلك العادة المقيتة لا يتخلين عنها أبداً سواء كان التجمع فرح أو عزاء. هل تذكرين عزاء عمي عبد الرحمن؟
نظرت إليها سهير بعجب وهي تقول بنبرة ذات مغزى:
وهل هذا وقت مناسب لتتذكري ذلك؟ أم لأنه يحمل لديكِ ذكرى خاصة. أيتها العاشقة. ماذا حدث لكِ؟ أرى عينيكِ تلمعان بشـ.ـدة. بل ماذا فعلتِ برؤوف؟ إن منذر يقول أنه تغير قليلاً، بل لقد أمسك به مرة وهو يغني في خفوت!

ضحكت نورا بسعادة وهي تضع يديها في خصرها:
آه. ومادام منذر قال ذلك فهو صحيح مائة بالمائة. أليس كذلك؟
احمرت وجنتا سهير وهي تبتسم في خجل وتمسك بيدي نورا:
توقفي عن السخرية. وبالطبع كل كلام منذر صحيح.
ثم تغيرت نبرتها وقد شحب وجهها قليلاً وهي تقول:
نورا. أنا أشعر برعـ.ـب شـ.ـديد. لا أستطيع أن أتخيل...

قطع كلامها هجوم مجموعة من الفتيات عليهما وهن يحثهن على الانـ.ـد.ماج في الرقص والاحتفال معهن، وبدأن بالفعل في جذب سهير التي استجابت لهن وأخذت تتمايل وكأنها تحاول تناسي مخاوفها عبر انـ.ـد.ماجها مع الموسيقى. وسرعان ما حاولن جذب نورا حتى تشاركها، ولكن نورا تمنعت وهي تتذكر وعدها لرؤوف. إلا أن سهير زادت من جذبها لها. فنهضت نورا بجوار سهير ولم تنتبه لهاتف نعمـ.ـا.ت الحديث الذي كان يلتقط بعدسة كاميرته ما يدور.

بحثت شموس عن نورا بين المدعوات فهي تريد الحديث معها قليلاً حتى تطمئن عليها وتحاول إسدائها بعض النصح. وأخيراً وجدتها واقفة ثابتة بجوار سهير التي تتمايل راقصة بسعادة ومعها الصغيرة نادية بينما اكتفت نورا بالتصفيق لهما بحماسة.
أشارت شموس لابنتها فخرجت لها نورا على الفور:
ماذا هناك يا أمي؟ هل وصل رؤوف؟
ابتسمت شموس وهي تربت على وجنة ابنتها:.

كلا يا حبيبتي. ولكني أردت الاطمئنان عليكِ قليلاً. هل تمانعين؟
ابتسمت نورا برقة وهي تمشي في الرواق بجوار أمها حتى دخلتا إلى غرفة شموس وأغلقتها شموس خلفهما. وعادت لنورا تسألها:
نورا. حبيبتي. أريد الاطمئنان عليكِ. صحيح أنني أرى لمعة في عينيكِ. ولكني أشعر أن سعادتكِ غير كاملة.
تنهدت نورا وهي تقول لأمها:.

وهل توجد سعادة كاملة وخالصة تماماً يا أمي. أنا راضية والحمد لله. سعيدة تقريباً. فرؤوف إنسان رائع بحق، ووالدي كان على حق. هو رجل تتمناه أي فتاة.
ثم صمتت قليلاً وارتعش صوتها بعض الشيء:
ولكنكِ كنتِ على حق أيضاً. هو رجل متزوج.
احتضنتها شموس بحنان:
هل تزعجكِ كثيراً؟
أجابتها نورا:
كما هو متوقع. لقد تزوجت زوجها. يا أمي. أنا ألتمس لها العذر نوعاً ما. وخاصة.

قطعت نورا كلامها وقد أدركت أنها كانت على وشك شرح مشاعرها لأمها في الليالي التي يتركها فيها رؤوف ليكون مع نعمـ.ـا.ت. فاحمر وجهها خجلاً. وأردفت:
لقد تمت الزيجة. وأخيراً منح جدي أبي رضاه الكامل. والكل فائز. فلما التساؤل الآن؟
رفعت شموس ذقن نورا بحزم:.

نعم زواجك برؤوف أعاد علاقة الود بين أبيكِ وجدكِ. ورؤوف فاز بزوجة جميلة وصغيرة. ستنجب له بمشيئة الرحمن الذرية التي يبتغيها. كما أن نعمـ.ـا.ت لم تطرد من حياة زوجها وحتى لو لم تر ذلك فهي ليست بخاسرة. فضرتها على الرغم من شبابها وحيويتها إلا أنها لم تحاول أذيتها أو إقصائها من حياة رؤوف، بل تلتمس لها العذر في تصرفاتها الأنانية المزعجة! ولكن ماذا ربحتِ أنتِ يا نورا؟ لا تكذبي على نفسكِ يا ابنة شموس!

أخفضت نورا عينيها عن والدتها وأغلقت أهدابها الطويلة وهي تسأل أمها:
ماذا تعنين يا أمي؟
أجابتها شموس بنبرة ذات مغزى:.

أعني أن رؤوف رجل رائع. ولكنه ليس الوحيد. ولو كنتِ رفضتيه لوقف والدكِ بجواركِ ولم يكن ليجبركِ على الزواج منه. حبيبتي. صارحي نفسكِ بسبب موافقتكِ عليه. حتى لا تحصري نفسكِ في دور الضحية فتتحول سعادتكِ الناقصة إلى تعاسة تامة. وافهمي طبيعة زوجكِ. فهو لم يعرف الحب. حتى يتعرف على مشاعره ويدركها الآن. سوف أسألكِ سؤالاً واحداً ولا أريد سماع جوابه، لكني أريد منكِ أن تجاوبي نفسكِ عليه وبصراحة. هل تحبين زوجكِ؟ هل تحبين رؤوف؟

نظرت لها نورا ودمـ.ـو.عها تترقرق في عينيها. ورأسها تتحرك بالموافقة بدون إرادة منها. فعاودت شموس احتضانها وهي تهمس:
لا عيب في ذلك يا حبيبتي. ولا حاجة للبكاء. فأنا موقنة أن رؤوف يشعر بالمثل. صدقيني. صدقي أمكِ. وامنحيه الفرصة ليتعرف على مشاعر لم يعرفها من قبل، بل لم يكن يعترف بوجودها من الأساس.
صمتت قليلاً لتردف:.

أنتِ ت عـ.ـر.فين أسلوب جدكِ الصارم في الحياة، وهذا هو كل ما عرفه رؤوف. فقط امنحيه المساحة ليعيش سنوات سلبت منه، وهو سيكون طوع بنانك.

كانت كلمـ.ـا.ت أمها تتردد في عقلها وهي جالسة في سيارة رؤوف في المقعد الأمامي تلك المرة. ولكنها كانت تشعر بنظرات نعمـ.ـا.ت تأتيها من المقعد الخلفي كالرصاصات فعلى ما يبدو أن رؤوف هو صاحب فكرة جلوسها بجواره تلك المرة وإبعاد نعمـ.ـا.ت إلى المقعد الخلفي. كانت تصلها كلمـ.ـا.ت متناثرة عن الاحتفال بالحنة وفرحة العروس وصديقاتها. إلا أن ما جذب انتباهها كلمـ.ـا.ت نعمـ.ـا.ت حول مقطع فيديو التقطته لسهير وهي ترقص برفقة نورا، وأنها كانت تتمنى عرضه على رؤوف وأضافت ضاحكة. إنها لا تظن أن منذر سيرضى بذلك.

كانت السيارة قد وصلت للحديقة الأمامية لبيت رؤوف مع نهاية كلمـ.ـا.ت نعمـ.ـا.ت، فأوقف السيارة بغتة مما جعل نورا تصطدم بالزجاج الأمامي، ولكنها تحركت بسرعة لتترجل من السيارة قبل أن تقـ.ـتـ.ـل تلك السيدة في الخلف. فهي تكذب وبصفاقة منتهزة فرصة استحالة عرض الفيديو على رؤوف.
لذلك تحركت بخطوات غاضبة نحو غرفتها ولكنها ما أن دلفت إليها حتى فوجئت برؤوف خلفها يجذبها من ذراعها ليلفها إليه وهو يصـ.ـر.خ بها:.

لا أدري ماذا أفعل حتى تنفذي ما أقول؟ هل امتثالكِ لطلب بسيط يمثل لكِ تلك الصعوبة؟ لماذا تعاندين وتتمردين على أبسط الأمور؟
صاحت به بدورها وهي تلمح نعمـ.ـا.ت واقفة تراقب المشهد:
أنا أخبركِ الآن. أنا لم أرقص. لقد نفذت ما طلبته مني. وكف عن الصراخ بوجهي.
وتهدج صوتها وهي ترمي نعمـ.ـا.ت بنظرة تحاول أن تفهمه ألا يصـ.ـر.خ بها أمام نعمـ.ـا.ت:
لماذا يجب أن تصيح؟ ألا تستطيع أن تتفاهم بصوت هادئ؟

فهم تلميحها. وأزعجه أنه فقد أعصابه عليها أمام نعمـ.ـا.ت. ولام نفسه على عصبيته واندفاعه. لمحت نظراته التي بدأ يخف غضبها قليلاً مع رؤيته لدمـ.ـو.عها تلتمع في حدقتيها وهمس:
لا تبكِ. أرجوكِ يا قمر لا تبكِ.

عنـ.ـد.ما سمعته يناديها بقمر شعرت بأنه يرغب في تصديقها وإنهاء الموضوع، ولكنها لم ترغب في ذلك فلقد ركبتها كل شياطينها وقررت تلقينه درساً. حتى يتوقف عن اندفاعه الأعمى في تصديق كل ما تخبره به نعمـ.ـا.ت. فنزعت ذراعها من يده وأزاحته جانباً. وتحركت بسرعة نحو نعمـ.ـا.ت وجذبت منها حقيبتها الصغيرة لتسحب الهاتف بسرعة وتعود إلى غرفتها وقبل أن تغلق الباب قالت لنعمـ.ـا.ت:.

عفواً. سوف أستعير هاتفكِ قليلاً. وسأعيده لكِ في الصباح، تصبحين على خير. يا خالتي.
ثم أغلقت الباب بقوة والتفت لرؤوف الذي كان يتأملها بقلق:
نورا. ماذا يحدث؟
كانت أصابعها تعبث بالهاتف في سرعة حتى وصلت إلى الفيديو الذي تدعي نعمـ.ـا.ت برقصها فيه وكان حين جذبتها سهير فوقفت بجوارها لتصفق فقط بينما سهير هي من كانت ترقص.
مدت يدها إليه بالهاتف، فنظر إليها بعدم فهم:
نورا. تعلمين أن شقيقتكِ. إن منذر.

كانت جملته متقطعة ولكنها فهمت ما أراده فأجابته بسخرية:
هل تظن أنني سأعرض عليك رقص شقيقتي. تفضل وانظر بنفسك فأنا سأغطي صورتها بأصابعي.
أشار لها بيده وهو يقول لها:
كفى يا نورا. انتهى الموضوع.
وضعت يدها في خصرها وهي تشير له بالهاتف:
وهل انتهى الموضوع لأن سموك أعلنت ذلك؟ أم أنك تعطفت وتكرمت وصدقت ما أخبرتك به؟ أم يا ترى أعملت عقلك وقررت أن تتروى قليلاً قبل أن تهاجم مثل الدب الشرس؟
صرخ بها:.

نورا! انتبهي لألفاظك. لقد أخبرتكِ أن الموضوع انتهى واعتذرت بالفعل.
صرخت بسخرية:
اعتذرت! متى أيها السيد؟ ثم أن الموضوع لم ينتهِ. أنا مصرة أن ترى مقطع الفيديو الموجود في هاتف نعمـ.ـا.ت.
جذب منها الهاتف بقوة وألقاه نحو الحائط فسقط متحطماً لعدة قطع. والتفت لها:
لقد انتهى الموضوع الآن.
ثم أردف بلهجة أقل عنفاً:
أنا آسف. أرجو فقط أن تقدري أنني، أخاف عليكِ.

نظرت إليه قليلاً ومازال الغضب يتملكها، كانت نظراته تتجاوب مع تأملها له وكانت تلتمع عينيه بنظرة أدركتها. وبدأت تفهم أنه يرغبها الآن. لذلك يحاول التغاضي عن الموضوع. فقررت تلقينه الدرس لنهايته، خلعت الشال الذي تلف به كتفيها. فظهر فستانها الرائع ذو اللون الخمري. فستان ناعم من الحرير مزموم عند صدرها بفراشة ماسية رائعة ثم ينسدل بروعة ليلامس جسدها بنعومة. فيظهر روعة وجمال قدها الرقيق الذي أشعل جسد رؤوف وهو يراها تمسك شالها وتلفه حول خصرها بهدوء ثم تتحرك لتذهب إلى مشغل الاسطوانات. وتضع أغنية أم كلثوم ألف ليلة. ثم تتمايل بجسدها على نغمـ.ـا.ت الموسيقى، حتى وصلت إليه فدفعته على صدره ليسقط على الأريكة خلفه وهي تهمس:.

بما أنك حطمت الهاتف. فسأريك كيف يكون الرقص! حقاً.
استمرت في تمايلها مع نغمـ.ـا.ت العبقري بليغ حمدي حتى اقتربت من باب غرفة النوم فتحرك هو سريعاً ليمسك بها وقد أدرك نيتها، لكنها كانت أسرع منه وهي تغلق باب الغرفة بينهما بقوة قبل أن توصده بالمفتاح وهي تقول:
ليلة سعيدة. انتهى العرض.
حاول فتح مقبض الباب أكثر من مرة وهو يناديها:
نورا. افتحي الباب. لقد اعتذرت بالفعل. صدقيني إن غضبي ينبع من. من. خوفي عليكِ.

للمرة الثانية تشعر به يتردد أمام كلمة خوفي. هل يقصد أنه يغار؟..
عاد صوته يدوي مرة أخرى:
افتحي الباب يا قمري.
أدركت أنه يستخدم اسمها الذي يناديها به في لحظاتهما الحميمة حتى يؤثر عليها، وللعجب زاد ذلك من عنادها. فقالت له بجرأة:
اذهب لنعمـ.ـا.ت. وحاول إيجاد تفسير مقنع لتحطيمك هاتفها.
سمعت صوت أنفاسه الغاضبة من خلف الباب وهو يهتف بغضب:
نورا. ما تفعلينه هو خطأ.
ثم تردد قليلاً وهو يردف:.

أنتِ هكذا تمنعينني عن حقي. وستلعنكِ الملائكة. و.
توقف عن الكلام وهو يضـ.ـر.ب رأسه بباب الغرفة بقوة. حتى أن نورا سمعت صوت ارتطام رأسه بالباب. ولكن كلامه كان أطار ما تبقى من هدوئها. ففتحت الباب بعنف وهي تحملق فيه وعينيها متسعتين من الغضب.

تأملها قليلاً بوجهها المحمر من الغضب والشرارات النارية تتطاير من عينيها اللاتين أصبحتا في لون الذهب السائل واختفى لون العسل منهما. وشفتيها اللاتين كانت تبرمهما في حنق من كلامه.

كانت صورتها مدمرة لمشاعره التي أشعلتها برقصتها المغوية. وكانت واقفة أمامه بمنتهى التحدي بأن يتقدم ويأخذ ما هو حقه. اقترب قليلاً منها فغمرته رائحة عطرها والتي دمرت ما تبقى من سيطرته على نفسه، مد يده ليلفها بذراعه ويطبق على شفتيها بقبلة قوية لم تستجب لها في البداية، ولكن سرعان ما بدأ يشعر ببداية استجابتها. وهي تبادله قبلته. كانت بين ذراعيه. دافئة. ومغرية. وراغبة في مجاراته وتنفيذ رغباته. لكنه أدرك أنه لو استمر. فإنها قد تكرهه وتكره نفسها بعد ذلك.

ابتعد عنها قليلاً وهو يتنفس بصعوبة وهمس لها:
أنتِ لا تدركين مدى روعتكِ الآن. ولكني لن أفرض نفسي عليكِ أبداً.
تركها وخرج من جناحهما وهي واقفة مذهولة مما حدث، ففي ثانية كانت تحترق غضباً منه ولكنه سرعان ما أذاب غضبها كالعادة بعاطفته ثم. ثم تركها وخرج عنـ.ـد.ما بدأت تتجاوب معه!..
هل ذهب إلى نعمـ.ـا.ت كما طلبت منه من قبل؟ ستقـ.ـتـ.ـله. ستقـ.ـتـ.ـله إن فعل. ظلت تجوب الغرفة ذهابا. وإياباً. وهي تفكر فيما حدث.

أعادت في رأسها ما حدث منذ بداية الليلة. وحاولت أن تفهم ما الذي دهاه ليكون بمثل تلك العصبية التي ظنت أنها شفته منها. لتعود جملته لتتكرر في ذهنها.
أخاف عليكِ. خوفي عليكِ.
هل يقصد بخوفه. غيرته؟ هل يغار عليها بالفعل؟ هل يحاول إفهامها أنه فقد أعصابه نتيجة للغيرة؟! هل ما قالته أمها صحيح. وهو يكن لها مشاعر بالفعل، ولكنه غير قادر على التصريح بما يشعر به؟ أو غير قادر على إدراك تلك المشاعر وتفسيرها.

أرهقها التفكير. وأتعبتها حيرتها، وكادت تبكي كلما تصورته وهو يصعد ليقضي ليلته مع نعمـ.ـا.ت. وظلت تلوم نفسها بشـ.ـدة لإتاحة الفرصة للعجوز لتشمت بها. وتفسد وقتها مع رؤوف.
كانت تصيح بنفسها:
غـ.ـبـ.ـية. أنتِ غـ.ـبـ.ـية. غـ.ـبـ.ـية.

في أثناء انغماسها في تقريع نفسها لمحت ضوء خافت من نافذة مكتبه المواجهة لنافذتها. كان ذلك الضوء الخافت بمثابة منارة في وسط ظلمـ.ـا.ت حيراتها. لإدراكها أنه ذهب إلى مكتبه ولم يذهب لنعمـ.ـا.ت. لذلك قررت أن لا تدعه يبيت الليلة وهما على خصام...

أسرعت وارتدت قميص نوم لونه يشبه الشيكولاتة الذائبة. كان قصيراً يصل إلى ركبتيها بالكاد. وله فتحة صدر واسعة. تكشف عن بشرتها السمراء الجذابة. ثم ارتدت الروب الذي يتناغم مع القميص واتجهت إلى مكتبه في إصرار.

أما نعمـ.ـا.ت فكانت تراقب باب جناح نورا بإصرار وما أن لمحت رؤوف يخرج من الجناح ويتجه إلى مكتبه حتى أسرعت لغرفتها. وبدأت في البحث وسط خزانتها حتى وجدت إحدى الغلالات التي كان يفضلها رؤوف فسارعت بـ.ـارتدائها وأعادت زينة وجهها استعداداً لتذهب إليه وتقدم مواستها ودعمها له.

�غط رؤوف على مفتاح نور المكتب الجانبي فسبحت الغرفة في ظلام لم يكسره إلا ضوء القمر المنبعث من النافذة وأخذ يدور بكرسي مكتبه يمنة ويسرة. يحاول أن يفرغ رأسه من الأفكار التي تدور بها. يشعر أنه دخل بقدميه في دوامة ولا يعرف الطريق للخروج منها. لطالما تجاهل حديث المشاعر والأحاسيس وظنه للمراهقين والصبية أو لمن يريدون التسلية فحسب، لكنه وجد نفسه الآن يتساءل عن صحه تفكيره. وهل ما يربطه بنورا هو عقد زواج تم بناء على تفكير عقلي فحسب؟ سخر من نفسه أي عقل وأي تفكير؟ لقد انطلق اسمها على لسانه بدون أي إرادة من عقله عنـ.ـد.ما عرض جده عليه الأمر؟ هل هذا هو الحب الذي لطالما سخر منه؟ أنه لا يدري. فقط يعلم أن حياته تغيرت من اللحظة التي ارتبط فيها بها. أصبح لحياته نكهة مختلفة. نكهة يكاد يجزم أنه أدمن عليها مثل إدمانه على رائحة التوت البري التي تنبعث من شعرها أو إدمانه لرؤية تـ.ـو.ترها الذي يدفعها لتقوم بتلك الحركة الفاتنة بشفتيها. بل أنه يدفعها للعصبية أحياناً حتى تقوم بتلك الحركة فقط. كما اكتشف أنه يهوى صوت الموسيقى الذي ينبعث مع ضحكاتها. والطريقة التي تغني بها وهي تدور مثل الفراشة في المنزل وخاصة عند اعدادها للقهوة التي أضحى يدمنها من يديها.
مسح وجهه بكفيه. وهو يدرك أنه يغرق أكثر وأكثر. يغرق في بحور لم يعرفها من قبل. ينغمس في أحاسيس كان يظن نفسه لا يمتلكها. فحياته مع جده ومن بعده نعمـ.ـا.ت لم تؤهله ليتعامل مع فيض هذه المشاعر. لقد عاش لسنوات حياة أشبه بمياه هادئة لم تؤثر فيها أي رياح أو أعاصير. باستثناء المحاولات الحثيثة للإنجاب إذا اعتبرت تلك المحاولات أزمـ.ـا.ت من أزمـ.ـا.ت الحياة. أما بخلاف ذلك فكانت حياة روتينية هادئة لم تعترضها أي عواصف.

حاول أن يخرج ما بنفسه في صور هزلية كعادته ولكن لأول مرة تفشل الأوراق والألوان في مساعدته على تصفية أفكاره التي تعصف بشـ.ـدة.

رمق دفتر الرسم الكبير على المكتب وكأنه يناجيه. يتوسله أن يفسر له ماذا يجري معه؟ ما تلك الأحاسيس والمشاعر التي تموج بداخله؟ لأول مرة يشعر أنه فاقد السيطرة على ما يدور حوله. فاقد للسيطرة على أفكاره وأحاسيسه ومشاعره. إنه يفقد أعصابه وينطلق غضبه بسرعة شـ.ـديدة وخاصة عليها. على نورا. كلا ليست نورا. إنها قمر. قمره هو.

نهر نفسه بغضب. ما هذا اللغو الذي تتفوه به؟ إنها فتاة متمردة لا تستطيع تنفيذ ما يطلب منها. تتعمد دائماً إثارة غضبه وفعل كل ما يثير الحنق.
عاد يرمق دفتره مرة أخرى وهو يتساءل عن رأيها في هوايته تلك. لقد رفض جده الإعتراف بها تماماً مبدياً رأيه أنها مجرد شخبطات، أما نعمـ.ـا.ت فثارت ثائرتها عنـ.ـد.ما لمحتها وظنته يسخر منها. ولم تستطع استيعاب أهمية تلك الهواية في حياته فهي تراها سخرية وقحة من البشر...

ترى ماذا يكون رأيك يا قمري؟، هل ستعتبرينها شخبطة أم وقاحة؟ أم ربما يكون رأيك اقسى من ذلك؟

أرجع رأسه للخلف وأغمض عينيه يحاول تجميع شتات نفسه. وظل على هذا الوضع لفترة وهو يسترجع ذوبانها بين يديه منذ قليل. لقد استجابت له ولعاطفته برغم غضبها منه. وهو كان مستعد للإستمرار رغم إدراكه لذلك الغضب. لقد احتاج سيطرة عنيفة على مشاعره حتى يبتعد عنها. فهو لم يصدق لسانه الذي اندفع ليخبرها أنها تحرمه من حقوقه. وأن الملائكة ستلعنها. لم يصدق أنه وصل لهذه الدرجة من اليأس حتى يقنعها بأن تفتح له بابها وذراعيها...

فتح عينيه ورمق الأريكة القابعة أمامه. وابتسم بسخرية من نفسه. يسترجع ليالي طويلة قضاها على أريكة مماثلة في بداية زواجه من نعمـ.ـا.ت.

نعمـ.ـا.ت. إنه في حاجة إلى حوار مطول مع نعمـ.ـا.ت. قد يستوعب الغيرة النسائية العادية بينهما. وليس بخافي عليه محاولات نعمـ.ـا.ت لاستفزاز قمر، ولكن ما حدث اليوم كان أكبر مما يتوقع. فهو لم يتخيل امرأة في عقلها ورصانتها تسجل حفل لفتيات صغيرات ثم طريقتها في إخبـ.ـاره عن ما حدث كانت كفيلة باخراجه عن شعوره. وكاد أن يفعل بالفعل لولا دمـ.ـو.ع نورا التي لمعت في مآقيها ومنحته شعور بالعجز أمامها، تباً إن أفكاره تعود به إليها دائماً. ترى ماذا تفعل الآن؟

لف بصره ناحية نافذة المكتب المواجهة لنافذة جناحها لعله يلمح أي ما تفعله. ولكن وياللعجب لمح طيف يحاول الدخول عبر نافذة مكتبه. أغمض عينيه وفتحها مرة أخرى في محاولة منه لإجلاء نظره، إلا أن الشبح الذي يحاول اقتحام النافذة كان قد أدخل نفسه بالفعل داخل الغرفة.
انتفض رؤوف وهو يصيح:
من؟، من أنت؟
جاءه صوت نورا وهي تهمس:.

من تعتقد؟، أنا نورا. إن الحديقة الداخلية بين نافذتينا مغلقة. فمن تنتظر أن يأتي عبر النافذة؟
قال لها وهو يبتسم:
صحيح. مَن مِن الممكن أن يتصرف بهذه الطريقة المـ.ـجـ.ـنو.نة سواكِ؟!
وضعت يديها في خصرها كعادتها وهي تقول بغضب:
ماذا تقصد بمـ.ـجـ.ـنو.نة؟
أجابها وما زالت الابتسامة معلقة على شفتيه وهو يشير للباب:
لماذا لم تستخدمي الباب؟

أخذت ترمقه بمكر ثم دارت حول نفسها وهي تتمسك بأطراف الروب السفلية وتفردها حولها مثل جناحين:
لقد خشيت أن يلمحني أحد وأنا بمثل ذلك الرداء؟
لم يتمالك نفسه فتعالت ضحكاته. فتوقفت هي عن الدوران وهي تحكم لف نفسها بالرداء. فأبرز تفاصيلها الأنثوية الخلابة. فتوقفت ضحكاته بينما أظلمت نظراته وهي تتأملها، وحين لمحت هي تغيير نظراته ابتسمت ببراءة وهي تسأله:
ما الذي كنت تفعله؟
أجاب بسرعة:.

كنت أراجع بعض أوراق العمل المتأخر
ابتسمت بسخرية:
في الظلام!
أعاد اجابته:
أعني أنني انتهيت من مراجعتهم بالفعل.
عادت تبتسم له ببراءة وهي ترفرف بأهدابها:
وماذا كنت تنوي أن تفعل بعد ذلك؟
تنهد بحرارة وهو يقول:
حسناً يا قمر. فلنكف عن الادعاء. أنا لم أكن أعمل. وأنتِ؟ لم أنتِ هنا؟
علمت أنه متأثر بها مهما حاول ادعاء اللامبالاة فهو يناديها بقمر ثانية. اقتربت منه بهدوء وهي ترفع عينيها متسائلة:
قمر؟..

شـ.ـدها إليه يلصقها به وهمس لها:
نورا. ماذا تريدين؟
أجابته بخفوت:
أنت!
سألها مشـ.ـدوهاً:
أنا!
تملصت من بين ذراعيه برقة وهي تتجول في الغرفة وتقول:
أنت أخبرتني في السيارة أنك تعد لي مفاجأة، ولم تخبرني ما هي؟
نظر إليها مصدوماً بينما ظلت ترمقه ببراءة وهي تكمل جولتها في الغرفة حتى وصلت إلى مصباح المكتب فضغط على مفتاحه لينير الغرفة ضوء خافت عكس ظلاله على ردائها مما زادها روعة وهي تجلس على كرسي مكتبه فتغوص فيه.

فكر في نفسه أنها أكبر من الدمية بقليل. كيف يتركها تتلاعب به هكذا؟
لمحها وهي تمد يدها لدفتره. وبدأت تتصفحه بالفعل. فتحرك ليسترده منها. إلا أن عينيها كانتا لمحتا واحدة من رسومـ.ـا.ته. والتي تمثل ليلة زفافهما بالذات.
حيث رسم نورا بثوب زفافها وهي تركله ككرة القدم خارج جناحهما إلى ذراعي نعمـ.ـا.ت التي عبر عنها كحارس للمرمى وهي تتلقاه وتسحبه خلفها وهي تلقي بالتحية لنورا!

كان يراقبها وهو يشعر بنفسه مثل التلميذ الذي ضبط بالجرم. وكان ذلك يشعره بالغضب. لكنها أخذت تتأمل الرسمة للحظة، ثم تعالت ضحكاتها تلك ذات الجرس الموسيقي الذي يطربه.
وقالت من وسط ضحكاتها:
رؤوف إنك تذهلني!
سألها بقلق:
ماذا تعنين؟
أجابته بصراحة:
أعني. أنني لم أظن أنك تهوى الفن الساخر. إنك حقاً ملئ بالمفاجآت.
ثم تحركت من على الكرسي لتواجهه:.

إنك تمتلك موهبة رائعة. أتعجب كيف لم تحاول دراسة الفنون لتصقل تلك الموهبة!
أمسك كفيها برقة وهو يسألها:
هل هذا ما تظنينه حقاً؟ ألا تشعرين بالغضب من عرضي لذلك الموقف بتلك الطريقة؟
ابتسمت وهي تجاوبه بهدوء:
حسناً. من الممكن أن يغضبني ذلك. ولكن قليلاً فقط. لكني لا أستطيع أن أخدع نفسي. إن الموقف كان مضحكاً فعلاً.
ثم سألته بغضب مصطنع:.

إذاً هذا ما تفعله في مكتبك طوال الوقت، وأنا التي تظن أنك مطحون بأعمال العائلة!
جذبها لصدره بحسم وهو يقول:
قمر. لماذا أتيتِ الآن؟ لقد ابتعدت حتى لا أفرض عليكِ وضعاً لا ترغـ.ـبـ.ـينه. فلما تزيدين من صعوبة الوضع علي؟
رفعت ذراعيها لتعقدهما حول عنقه وهي تهمس:
بالعكس. أنا لا أفعل. أنا لا أزيد الوضع صعوبة. لقد ابتعدت أنت، وأنا جئت إليك. أعتقد أن هذا يوضح كل شيء.

بعد سماعه لكلامها لم يستطع إلا أن يضمها بقوة وهو يرفعها عن الأرض حتى يستطيع بثها قبلاته كما يرغب. همست أمام شفتيه:
أنت تعلم أنني كنت لأقـ.ـتـ.ـلك لو كنت صعدت للطابق الأعلى!
سألها بهمس:
هل تغارين يا قمري؟
أجابته وعينيها تنضح هياماً:
بجنون. أغار بجنون.

عاد ليتناول شفتيها مرة أخرى وهو يضغطها بقوة لجسده ويديه تتحرك بسرعة ليخلصها من الروب الذي يخفي جسدها عنه ولكنها كانت عاقدة لذراعيها خلف عنقه، تسند نفسها إليه فلم يجد بديل عن تمزيق الروب الذي استجاب نسيجه الرقيق لجذب رؤوف له فتمزق إلى قطعتين ألقاهما بعيداً ليرفعها بين ذراعيه ويتجه إلى الأريكة وهي ما زالت بين أحضانه تبادله جنون بجنون. وتوق بتوق. فلم يشعرا بالباب الذي فتحته نعمـ.ـا.ت بهدوء شـ.ـديد وهي تظن أن رؤوف وحيداً في الغرفة، فأرادت أن تفاجئه بدخولها عليه، ولكن كانت المفاجأة من نصيبها هي، وهي ترى نورا بين ذراعي رؤوف على الأريكة يتبادلان القبل وهما غائبان عن ما حولهما.

استدارت نعمـ.ـا.ت لتعود من حيث أتت، فيبدو أن الصغيرة هي من كسبت معركة الليلة على أي حال. ويجب عليها الإعتراف بالهزيمة أمامها. إلا أن شيطانها أبى عليها أن تتركهما بدون أن تترك ظلالا رمادية على سهرتهما، فعادت لتدخل الغرفة وهي ترمق الجسدان الملتحمان بحقد، ثم أغلقت الباب بقوة فأصدر صوتٍ عالٍ انتفض على إثره رؤوف بينما تجمدت نورا بين ذراعيه. وهي تسمعه يصيح بغضب:
ما هذااااااااا!

تظاهرت نعمـ.ـا.ت بالأسف وهي تقول بحرج مفتعل:
آسفة. لقد ظننتك وحيداً. ويبدو أن الباب أفلت من يدي فأُغلق بصوت عالٍ
رمقها رؤوف بعدم تصديق وهو يحرك جسده بسرعة كي تحتمي نورا خلفه ويمد يده ليلتقط ثوب نومها من على الأرض ويعطيه لها. ثم رفع بصره لنعمـ.ـا.ت وهو يسألها بغضب واضح:
حسناً لقد أتيتِ لهنا وتأكدتِ أنني لست وحيداً. فهل تحتاجين شيئاً؟

لاحظت نعمـ.ـا.ت لهجته العدوانية والطريقة الغاضبة التي يحدثها بها للمرة الأولى فهمست بصوت مجروح:
رؤوف!
همسها المجروح أشعل غضب نورا التي كانت ارتدت ثوبها وأخذت ترمقها من تحت أهدابها بغيظ وهي تركتز على كتف رؤوف من الخلف. فهبت واقفة فجأة مما لفت انتباه رؤوف فقال لها بصوت مسموع:
معذرة يا نورا. اذهبي الآن وسوف ألحق بكِ بعد قليل.
رمقته بغضب قـ.ـا.تل، فرفع يده ليمسد وجنتها وهو يقول برقة:.

لن أتأخر. فقط أريد نعمـ.ـا.ت في حديث قصير.
تحركت نورا باتجاه الباب لتعود إلى حجرتها إلا أنها عنـ.ـد.ما وصلت بالقرب من نعمـ.ـا.ت التفتت لرؤوف وهي تقول:
روؤف. لقد نسيت الروب. هل تتذكر أين ألقيت به؟
كتم رؤوف ضحكته بصعوبة وهو يتناول سترة بذلته من على ظهر كرسي المكتب ويقترب منها ليلفها بها وهو يقول:
أعتقد أن هذه ستفي بالغرض. والآن اذهبي.
تحركت نورا بخفة لتذهب إلا أنه استوقفها:.

نورا. أعدي نفسك للسفر إلى الاسكندرية بعد زواج سهير.
رمقته نورا بعدم تصديق وهي تنظر لنعمـ.ـا.ت بتساؤل. ففهم ما تريد قوله وأردف:
نحن الاثنان فقط.
قفزت نورا بسعادة وهي تعود لتلقي نفسها بين ذراعي رؤوف وتصرخ بابتهاج. بينما تجمدت نعمـ.ـا.ت تماماً وهي ترى المشهد أمامها وتتساءل
وماذا بعد يا رؤوف؟، هل تعمدت ذكر ذلك أمامي كي تعاقبني؟ أم حتى أصمت ولا أعترض؟ ...

انتبهت أنها اصبحت بمفردها مع رؤوف الذي كان يغلق أزرار قميصه بتكاسل، فقررت الهجوم مباشرة:
لماذا ستصطحبها إلى الأسكندرية؟
أجاب رؤوف سؤالها بسؤال:
ولماذا لا أصطحبها؟ لقد ذهبتِ معي مراراً.
أجابته بتلعثم:
نعم. ولكن ألن يكون هناك الكثير من الأعمال التي عليك متابعتها في الشركة، وخاصة الآن بعد زواج منذر؟
أجابها في هدوء:
نعم. وهناك بعض الصفقات التي يجب عقدها بالأسكندرية لذا. سأضـ.ـر.ب عصفورين بحجر واحد.
كم ستغيب؟

رد بحزم:
نعمـ.ـا.ت. ليس هذا ما أردت الحديث معكِ بشأنه. وأنتِ تعلمين ذلك.
قاطعته بتوسل:
رؤوف.
أسكتها بإشارة من يده وهو يقول:
أنتِ تعلمين جيداً أنه ما كان يصح أن تسجلي ما يحدث في جلسة كلها فتيات وسيدات على هاتفك، تلك أشياء بديهية ولست في حاجة للفت نظرك إليها.
سألته بذهول:
هل رأيت مقطع الفيديو؟
أجاب بحدة:.

وهل هذا يهم؟، أم أنه كان من الممكن أن يشاهده أي شخص غيري. أوحتى أي واحدة من الخدم. أنتِ أخطأتِ بشـ.ـدة. لقد كنتِ ضيفة في بيتهم وهم استأمنوكِ، وأنتِ صورتِ ما يحدث بدون أن تخبريهم، أين كان عقلك؟
كم تمنت أن تصرخ في وجهه.

كان عقلي معك. أنت وأحوالك التي تبدلت، ومشاعرك التي أصبحت تجرفك نحو ابنه عمك الصغيرة لتجعلك تفقد احساسك بالمكان والزمان لتتبادل معها المشاعر في غرفة مكتبك حيث من الممكن أن يفاجئكما أي شخص. يا إلهي كم تغيرت في غضون أسابيع قليلة. لقد أصبحت أشعر أنك غريب أعرفه للمرة الأولى وليس زوجي للخمسة عشر سنة الماضية
عادت من حديثها لنفسها على صوته وهو ينهي الحوار:.

أرجو أن تنتهي تلك المشاحنات والمشاكسات بينك وبين نورا. أريد أن يعم الهدوء مرة أخرى، تصبحين على خير.
ثم خرج وتركها وحدها. تحترق وسط غيرتها وغضبها من تلك الصغيرة اللعوب الذي استطاعت طويه تحت جناحها في غضون أسابيع قليلة.

دخل إلى جناح نورا التي كانت تذرع الغرفة جيئة وذهاباً. قلقة أن يتسبب احساسه بالذنب الدائم نحو نعمـ.ـا.ت لأن يصعد معها. ويتركها هي. وعند سماعها لصوت باب الجناح الخارجي يغلق. التفتت بسرعة لتواجهه وهي تهمس:
لقد أتيت!
رمقها بدهشة:
بالطبع. لقد أخبرتك أنني سوف ألحق بكِ
كانت تفرك بيديها كعادتها عنـ.ـد.ما تتـ.ـو.تر، فتقدم منها ليمسك بهما ويرفع ذراعيها حول عنقه وهو يضمها:
والآن. ماذا كنا نقول قبل أن يتم مقاطعتنا!

وافقته:
نعم. قوطعنا بوقاحة.
تمتم بقلة حيلة وهو يميل ليقبلها:
لا حل في لسانك أبداً.

لم يكن حفل زفاف سهير أقل روعة وفخامة عن زفاف نورا. وكانت العروس كالملاك الناعم بزينتها الهادئة التي تتناسب مع فتنتها الطبيعية وثوب زفافها المذهل بتنورته الواسعة جداً التي تناثرت عليها اللآلئ والماسات الصغيرة في تناغم فني بديع. وكانت تبدو في أوج سعادتها وهي متعلقة بذراع منذر الذي كان الحب والعشق ينساب مع نظراته لها.

أخذت شموس تتمتم بآيات من القرآن خوفاً عليهما من العين والحسد. وكذلك قمر وهي ترمق ابنها الأصغر وهو يجلس بجوار عروسه الفاتنة. فجاءت نورا من خلفهما وهي تقول:.
جلست نورا بجوار رؤوف في سيارته في طريقهما للأسكندرية ومشهد سهير الأخير لا يبـ.ـارح عقلها. وخاصة جملتها...
أنتِ لا تعلمين شيئاً
ما الذي تقصده وسهير؟ وما هذا الذي لا أعلمه؟ ماذا تخفين عني يا سهير؟ وكيف لي أن اطمئن عليكِ الآن؟
قاطع أفكارها صوت رؤوف:
أنتِ هادئة جداً
أجابته بشرود:
هاه.
سألها بقلق:
أنتِ لست معي على الإطـ.ـلا.ق، ماذا بكِ؟
أجابته بتلعثم وهي تحاول تناسي كلمـ.ـا.ت سهير:
إنني قلقة على سهير فحسب...

رمقها في خبث وهو يسألها:
ألم تمنحيها بعض النصائح عن الحياة الزوجية؟
صرخت به في غضب:
يا الهي! هل هذا ما يشغل بال كل الرجال؟
قهقه ضاحكاً:
ومن أين لكِ أن ت عـ.ـر.فين ما بعقل كل الرجال؟
رمقته بغيظ. وقررت تغيير مجرى الحديث:
لم تخبرني لما قررت السفر فجأة وفي مثل هذا الوقت المتأخر؟
رد عليها بحذر:
حسناً. ما لا تعلمينه أن الرحلة ليست لمجرد النزهة فحسب، فأنا لدي عدة مقابلات عمل. وقد تقدم موعد إحداها لصباح الغد.

صاحت به في غضب:
عمل! هل أتيت بي إلى الأسكندرية لتعمل أنت. وتلقيني جانباً!
مد يده ليمسك بكفها ويرفعه إلى شفتيه ويقبله بخفة وهو يرمقها بنظرات حنونة:
لا تغضبي. سوف تقضين أوقاتاً لن تنسيها. وهذا وعد مني.
توردت وجنتاها تحت وقع نظراته وحاولت سحب يدها منه إلا أنه أمسك بها بإحكام، فسألته بنبرة حانقة تقريباً لقدرته على السيطرة على غضبها بتلك السهولة:
أين سنقيم؟

أخبرها باسم الفندق الذي حجز به بهدوء وقد فهم المغزى خلف سؤالها. فهي لا تريد الإقامة بفندق سبق له الإقامة به برفقة نعمـ.ـا.ت. ولكنه لاحظ ملامح الإمتعاض على وجهها فأردف:
اختاري الفندق الذي تريدينه. وأنا لن أمانع. فنحن الآن بعيداً عن موسم الصيف وسنجد حجزاً بسهولة.
أجابته بتردد:
ولكني لا أرغب في الإقامة بفندق!
التفت لها بدهشة. فسارعت بالقول:.

أرغب أن نقيم في شقة. أرجوك يا رؤوف. سيكون رائعاً أن نكون بمفردنا في مكان خاص بنا. لعدة أيام فقط. أنا أرغب. في. في. أن أشعر بأني سيدة بيتي ولو لفترة مؤقتة.
تنهد بقوة وهو يرفع هاتفه ليتصل بالمسئول عن فرع الشركة بالأسكندرية وما أن سمع الصوت على الطرف الآخر حتى قال بسرعة:.

عامر. اسمعني جيداً، أنا في الطريق إلى الاسكندرية. نعم. أعلم أنك قمت بالحجز. اسمعني. إلغِ هذا الحجز. أنا أريدك أن تجد لي شقة. نعم شقة. بالتأكيد يمكنك تدبير شقة للإيجار!
استمع إلى صوت محدثه على الطرف الآخر ثم اجابه:
نعم. أعلم كم الساعة الآن. وأعلم أيضاً أن ما تتقاضاه من راتب يمنحني الحق لأتصل بك الآن، أمامي ساعتان وأصل إلى الأسكندرية. أريد أن أجد مفتاح الشقة في مكتبي في فرع الشركة، مفهوم؟

رمقته نورا بنظرة مبهورة فهي لأول مرة ترى هذا الوجه الآمر منه:
واااو. ما كل هذه الأوامر. الرجل موظف لديك وليس عبداً
رفع عينيه للسماء بعجز:
ألم أكن أنفذ طلباتك؟ كيف تتوقعين إيجاد شقة الآن؟
قالت بنبرة مهادنة:
شكراً لك. أنت بطلي
أجابها بنفس النبرة العاجزة:
وتسخرين أيضاً؟ سأحادث عامر وأخبره أن يعود لفراشه وينسى أمر الشقة
سارعت بالرد:.

كلا. كلا، لا تحادثه، دعه يتعلم بعض النشاط. من الذي يحتاج النوم في الثانية صباحاً؟!
رمقها بنظرة نارية فأردفت وهي تضع يدها الحرة على فمها:
سأصمت نهائياً
ضحك بهدوء وقال لها:
ستكون تلك معجزة بحق.

جذب صراخ سهير الهيستيري عمتها قمر. فتحركت مسرعة لتذهب إليها. حاول زوجها أنور منعها:
انتظري يا قمر. قد تكون ردة فعل عادية. لا تنسي أنها عروس جديدة
لكنها رفضت الاستماع اليه:
عادية! ألا تسمع صوت صراخها. دعني. دعني حتى أرى ماذا فعل ولدك بابنة أخي.
وخرجت مسرعة. بينما هو يتمتم:
والآن أصبح ولدي!

طرقت قمر الباب الخارجي لجناح منذر ولم تنتظر أن تسمع الإذن بالدخول، فدخلت بسرعة. وخطت داخل البهو الخارجي للجناح وما أن وصلت لغرفة النوم حتى هالها ما رأت فعلى الفراش كانت سهير مكومة على نفسها وهي تحتضن أطراف ثوبها بقوة وتبكي بهيستريا وصوت صراخها يعلو وينخفض. بينما تردد بجنون:
ابتعد عني. ابتعد عني. لا أريد. لا أريد.

وكان منذر واقف بجوار الفراش ينظر لها بذهول ممزوج بحيرة شـ.ـديدة ولا يدري كيف يهدئها أو يسكتها.
صاحت به قمر وهي تجلس بجوار سهير على الفراش وتضمها لصدرها:
لا تقف هكذا. تحرك واحضر كوباً من الماء.

تحرك منذر حتى ينفذ أمر والدته. بينما احتضنت قمر ابنه أخيها وهي تربت على ظهرها وتحاول تهدئتها. ولكن انتفاضة جسد سهير لم تهدئ. وإن استكانت بين أحضان عمتها التي أخذت تتمتم ببعض الآيات القرآنية حتى تطمئن الفتاة وتخرج من حالة الهيستيريا التي انتابتها.
اهدئي يا سهير. اهدئي يا بنتي. ماذا فعل لكِ هذا الثور؟

كان صراخ سهير قد تحول لشهقات متتالية عنـ.ـد.ما جلب منذر كوب الماء واعطاه لوالدته في صمت وهو يرمق سهير بأسى.
أشارت له والدته إشارة خفيفة برأسها حتى يخرج من الغرفة. وعنـ.ـد.ما لمحت التذمر على ملامحة أشارت له بيدها بقوة ليخرج. بينما استمرت في قراءة الأدعية والآيات القرآنية وهي تربت على كتفي سهير حتى هدأت وغابت في النوم.

خرجت قمر من غرفة النوم بعد أن نثرت الغطاء على سهير التي كانت ما زالت تنتفض في شهقات ضعيفة حتى في أثناء نومها.
وجدت منذر يذرع صالة الجناح جيئة وذهاباً. فنهرته بصوت خافت:
ما الذي فعلته بالفتاة؟ لم أظن أبداً أن يكون ابني بمثل تلك الوحشية!
أجابها في ذهول:
ماذا تقولين ياأمي؟! أي وحشية تلك؟! أنا لم أفعل لها شيئاً
بدت قمر حائرة وهي تحاول طمأنة ولدها:.

حسناً. يبدو أن خوفها الشـ.ـديد هو ما سبب ذلك. دعها ترتاح للصباح. ولا تحاول ازعاجها. وسوف تتغلب على خوفها هذا بإذن الله
ربتت على كتفه. وهي تقول قبل أن تخرج:
أنت تحبها. فاصبر عليها. تصبح على خير.
خرجت قمر وتركت ولدها والظنون تتلاعب به. هل ما رآه من سهير مجرد خوف طبيعي من ليلة الزفاف يصيب كل الفتيات؟، لقد كانت في حالة هيستريا تقريباً.

تمدد على الأريكة وهو يستغفر ربه حتى يطرد ما مر بذهنه من ظنون. فهو يثق في سهير ثقة مطلقة. إنها ابنة خاله قبل أن تكون حبيبته وزوجته. عشقها يسري في عروقه. كان حلمه أن تصبح له. أن يؤسس لها البيت الذي وصفته له في إحدى لقاءتهما التي كانت تتم في الإجتماعات العائلية. وكانت نورا تساعدهما على التخفي واللقاء بعيداً عن الأعين.

كانت يومها تغلق عينيها حالمة وهي تصف له البيت الواسع الذي تحلم به بحديقته الواسعة التي ستملأها بكل أنواع الورود التي تحبها. والأرجوحة التي ستعلقها في أحد أركان الحديقة. حتى يلعب بها أولادهما. وانتقلت لتصف له منزلهما بلونه الأبيض ونوافذه التي بلون السماء. وأنها تتمنى أن يحتوي على ستة غرف للنوم. لأنها ترغب في انجاب خمسة أطفال، وتريد منه انشاء غرفة خاصة ليلعب بها الأطفال داخل المنزل في الأيام البـ.ـاردة. وكيف أنها تريد مطبخاً واسعاً. فهو مملكتها التي تعد بها أشهى الأكلات التي يحبها. والتي تعلمتها وأتقنتها خصيصاً من أجله.

زفر بشـ.ـدة وهو يحاول الهروب من ذكرياته معها. فهو أسرع بزواجه منها قبل أن ينتهي من بناء بيت أحلامها حتى لا تضيع من يده ويسبقه إليها زوج آخر. فهو لا يحتمل أن تكون لغيره.
وأخذ يحدث نفسه ويقنعها:
إنها صغيرة. ولابد أنها خائفة. يجب أن أمنحها الوقت الكافي لتعتاد على وجودي بجوارها.

قضت نورا برفقة رؤوف أروع أيام حياتها. فعند وصولهما إلى الأسكندرية وجدا أن المدعو عامر قد وفر لهما بدلاً من الشقة. ثلاث. اختارت نورا منهم أصغرهم. فكانت أشبه بشاليه صغير ولكنه يطل على البحر مباشرة. لكنها كانت في قمة سعادتها، فعلى الرغم من مساحته الصغيرة التي لا تقارن ببيت رؤوف في مدينتهما إلا أنها اعتبرته عشهما الخاص. هي سيدته. تديره كيفما شاءت. وبالطريقة التي تناسبها. ولم يعلق رؤوف على تخليها عن الشقق الفخمة لتتمسك بهذا الشاليه البسيط في أثاثه والصغير في مساحته. فيكفيه أنه رأى عينيها تشع بسعادة صافية. وترتسم على شفتيها أروع ابتسامة وهي تتوسله أن يوافق على الإقامة في هذا الشاليه البسيط. فلم يجد أمامه سوى الموافقة على طلبها. فهو في النهاية لا يهتم بفخامة المكان أو مدى ثرائه. كل ما يهتم به هو تلك الابتسامة التي يراها معلقة على شفتيها باستمرار طوال الأيام الماضية بالرغم أنه كان يتركها في الصباح لينهي الأعمال التي جاء الى الاسكندرية من أجلها، إلا أنها لم تبدِ أي تذمر كالذي أظهرته من قبل حيث كانت تعيش صباحاً في دور سيدة المنزل. فتطهو الطعام. وترتب المكان. وتقوم بأعمال المنزل كأي زوجة وربة منزل. ليصل رؤوف ويجد طعامه معداً. ثم ينطلقا ليجوبا كل شبر في الاسكندرية معاً. فبرغم أن كلاهما قد زار المدينة من قبل ولكن كلٍ بمفرده. فقررا ان يتعرفا عليها معاً وكأنها زيارتهما الأولى. وأن يتركا ذكرى في كل مكان يذهبا إليه.

كانت نورا تصر أن يتركا السيارة ويتجولا على أقدامهما. وعنـ.ـد.ما يعترض رؤوف تخبره بحالمية.
إن الأسكندرية تحتاج منك أن تتذوقها ببطء. أن تشعر بعبقها يخترق روحك. وبعبيرها ينتشر بين جنباتك لتشعر بالدفء والترحاب الذي ينبعث منها.

فكان يبتسم ابتسامة هادئة. ولكنها تجد نفسها في النهاية جالسة بجواره في السيارة ليستكملا جولاتهما. ليستقبل سيل العبـ.ـارات المتذمرة المنطلقة منها بأنه زوج مستبد ولا يتيح لها الفرصة للتعبير عن نفسها بابتسامة لعوب أصبحت تصاحبه في الأيام الأخيرة وهو يخبرها أنها لها مطلق الحرية للتعبير عن نفسها ولكن له هو فقط! فتتورد وجنتاها ويتـ.ـو.تر جسدها وتقوم بحركة شفتيها التي يعشقها. فينطلق بها مباشرة إلى عشهما الصغير كما اسمته هي لينهل من دفئها وحبها.

مرت الأيام سريعاً وأوشك رؤوف على الانتهاء من أعماله. حتى كان ذلك اليوم قبل رحليهما بيومين حين وصل رؤوف متأخراً عن موعده المعتاد فوجد نورا تستقبله بابتسامتها التي لم تختفي من على وجهها طوال إقامتهما في الأسكندرية:
لقد تأخرت اليوم؟
أجابها وقد بدا عليه الإرهاق:
نعم. فلقد طال الاجتماع لأكثر مما هو متوقع.
اقتربت منه بهدوء فطبع قبلة رقيقة على جبينها وهو يقول:.

يبدو أنكِ أعددت الطعام اليوم أيضاً. لقد كنت اعتزم أن اصطحبك للغذاء في الخارج
ألقت برأسها على صدره:
أنت تعلم أن إعداد الطعام والقيام بباقي أعمال البيت تسعدني، كما أنها تشغل وقتي. هيا بدل ملابسك. فلقد أعددت المائدة منذ مدة
بعد أن انتهى من تبديل ملابسه وجدها قد وضعت الطعام في الشرفة الخارجية للشاليه.
سألته وهي جالسة معه على مائدة الغذاء:
هل أعمال الشركة كثيرة جداً هنا؟
أجابها وهو يلتهم طعامه بتلذذ:.

لقد اتسعت أعمالنا هنا مؤخراً. وكان منذر هو من يتابعها.
هزت رأسها بتفهم:
آه. لذلك لا يوجد مكان ثابت للإقامة. حسناً. لقد فهمت الآن.
سكتت قليلاً. تتأمل طريقته السريعة في تناول طعامه. ثم سألته:
هل أنهيت كل أعمالك اليوم؟
أجابها بحذر وهو ينهض بعد أن أنهى طعامه بسرعة كعادته:
نعم. لماذا تسألين؟
تحركت معه وهو يتحرك نحو غرفة النوم:
ألن نخرج اليوم؟
أجابها وهو يقربها منه:
سنخرج بالطبع. ولكن دعينا نستريح قليلاً أولاً.

أجابته بلهجة آمرة وهي تدفعه بقوة لينفذ طلبها:
كلا. أنا أعلم جيداً وجهة نظرك عن الراحة. سنخرج والآن.
قهقه ضاحكاً وهو يقول:
يا الهي! من يعتقد أن هذا التسلط يخرج من فتاة أكبر من الدمية بقليل!
وضعت يدها في خصرها كعادتها وهي تسأله:
ومن هي الدمية؟!
عاد يقربها منه ثانية حتى ألصقها به:
أنتِ. أنتِ دميتي أنا. والآن أنا في مزاج مناسب لل لعب!
ردت عليه بابتسامة لعوب:
ألم يخبرك أحد أن الصِبية لا تلعب بالدمى؟

قهقه ضاحكاً وهو يحملها للفراش:
ولكن الصِبية في مثل عمري. مسموح لهم باللعب بالدمى إذا كُن بمثل روعتك
قفزت نورا من الفراش بسرعة وهي تضحك:
كلا. لن تستدرجني بمعسول الكلام، أنا أريد الخروج. الآن!
حاول الإمساك بها فركضت هاربة منه وهي تكرر طلبها بضحكة رقيقة:
أريد الخروج. الآن
وافقها بهدوء وهو يعود بها إلى داخل الحجرة:
بالطبع سنخرج...
ثم صمت قليلاً، ليستطرد قائلاً:
لاحقاً...

ولكنهما لم يخرجا في ذلك اليوم. فبعد أن غابا معاً في عالم العشق والجنون كورت نورا نفسها بين أحضان رؤوف رافضة أن تسمح له بالنوم كعادتها مؤخراً فربضت على صدره ترتكز بذقنها على يديها اللاتين تشابكت أصابعهما وهي تدرس ملامحه عن قرب وتبدأ في استجواب جديد له عن كل ما مر به في حياته.

كان يتذمر في البداية من تلك الاستجوابات ولكنه خضع لها سعيداً بعد أن أخبرته أنها تريد أن تتعرف على كل كبيرة وصغيرة مرت به وهو بعيد عنها. فكان يراقب السعادة على ملامحها وهي تسمعه يحكي عن طفولته وعن الطرق التي كان يبتكرها للهروب من تحكمـ.ـا.ت جده بدون أن يبدو وكأنه غير مطيع له. ثم يرتسم عليها الأسى عنـ.ـد.ما تسمعه يحكي عن افتقاده لوالده أو عن ما كان يعانيه من تحكمـ.ـا.ت الجد المتزمتة. فيمد يده ببساطة ليمحي تقطيبة جبينها وهو يخبرها أنه راضٍ عن حياته ولا يلوم جده أو أي شخص آخر على أي ما مر به...

مدت يدها تتخلل بأصابعها خصلات شعره وهي تسأله:
هل تعلم أن شعرك ليس أسود تماماً؟
سألها بكسل وهو يلف ذراعه حول جسدها:
حقاً؟!
نعم. وعينيك أيضاً. لهما درجة لون مختلفة عن عيني والدي. أنت تشبه جدي كثيراً
رد يتصنع الغضب:
هل انتهيتِ من مقارنتي برجال العائلة؟
ضحكت وهي تقول:
هل أنت غاضب من مقارنتي لك بأبي؟ لقد كان جدي يلقبه ب أوسم رجال الجيزاوي.
رد بتذمر:.

نعم أنا غاضب، فيبدو أني لست وسيماً بما يكفي. فهل تسمحين لي بالنوم الآن؟
أجابته بابتسامة لعوب:
كلا. لن تنام. أنت خدعتني لتلعب بدميتك. فتحمل عواقب ذلك
قهقه ضاحكاً:
حسناً. ماذا أفعل إذا كنت أدمنت على تلك الدمية؟ ولكني مستعد تماماً لجولة جديدة من الاستجوابات. ماذا تريدين أن ت عـ.ـر.في الليلة؟

كانت نورا طوال فترة وجودهما بالأسكندرية تفكر في كلام والدتها وعمتها. هي شعرت بالفعل أن رؤوف يمتلك مشاعر قوية. ولكنه لا يجيد التعبير عنها. فهو يركزها في الناحية الحسية فقط. فهذا ما يعرفه عن الحب والعشق. جانبه المادي فقط.

لكنه كان جاهلاً تماماً عن نواحي الحب الرومانسية والروحية. لذا قررت أن تكون هي البادئة كما نصحتها عمتها. أن تكون هي دليله لعالم الرومانسية الروحي كما كان هو دليلها إلى عالم العشق الحسي.
تكلمت بنبرة جدية:
كلا. لن يكون هناك استجوبات الليلة. بل سيكون هناك اعترافات. اعترافاتي أنا.
تعجب رؤوف من كلامها فاعتدل جالساً وهو يسحبها معه لترتكز بين ذراعيه وهو يسألها بقلق:
ماذا هناك يا نورا؟
أجابته برقة:.

هل تذكر ليلة وفاة عمي عبد الرحمن؟
تغضن جبين رؤوف بقلق. فتلك الأيام تمثل أسوأ ذكرياته، لكنه أدرك عن مغزى سؤالها:
نعم. تلك الليلة عنـ.ـد.ما خرجتِ تركضين فزعاً من مجلس النساء
سألته بدهشة:
هل تذكر ذلك؟
أجاب بـ.ـارتباك:
نعم. ماذا بها تلك الليلة؟
ترددت قليلاً. ثم حسمت أمرها:
تلك الليلة التي وقعت بها في حبك.
حاول مقاطعتها. لكنها وضعت إصابعها على شفتيه برقة:.

أعلم أنني كنت طفلة حينها. وأن أحداثاً كثيرة مرت. لكني لن أخدع نفسي وأوهمها أنني وافقت على الزواج منك بسبب أبي. أو جدي. أو العائلة. بل وافقت من أجلك. من أجلي. فأنا بعد مصارحة مع نفسي اكتشفت أن الحلم الذي وقعت في حبه كطفلة. لم يتلاشَ كأحلام الطفولة ويختفِ. بل ازداد ذلك الحب ونضج على مر السنين. على الرغم من رفضي الاعتراف به في البداية. بل عدم ادراكي له. حتى تقدمت للزواج مني. فكان أن وافقت تحت زعم أنني ارتبط برجل جيد لا غبـ.ـار عليه. وأنفذ أيضاً أوامر أبي. لكني لن أخدع نفسي أكثر من ذلك. فأنا قررت المصارحة والمواجهة مع نفسي أولاً ومعك أيضاً. فأنت تستحق أن تعلم أنني. أحبك. أحبك يا رؤوف.

كان رؤوف صامتاً بوجوم طوال فترة اعترافتها المذهلة. فهو للمرة الأولى يستمع لتلك الكلمة. أحبك. وبتلك العاطفة الصادقة. فلم يدري كيف يتصرف أو بماذا يجيب عليها. نظر إليها بعجز. غير قادر على الاستجابة فرأى في عينيها عاطفة خالصة. ممزوجة بسحابة من الدمـ.ـو.ع التي تهدد بالانهمار في لحظات.
لاحظت صمته التام أمام كلمـ.ـا.تها فاستطردت لتكمل ما أرادت قوله:.

تأكد أني لا أنتظر اعتراف مقابلاً لاعترافي، لكنني يجب أن بوح بآخر اعترافاتي. أن حبي لك هو ما جعلني أوافق على أن أكون زوجة ثانية. لكني لن أرضى أبداً أن أحل في المرتبة الثانية في قلبك. وحياتك.
تأملت نورا وقع كلمـ.ـا.تها الأخيرة عليه فلاحظت اختلاجه خفيفة في عضلة فكه قبل أن يتحرك بهدوء ويطبع قبلة رقيقة على جبينها. ثم يرتدي ملابسه ويخرج من الغرفة وكأنه يهرب منها ومن نفسه وأفكاره ومشاعره.

لم تفاجئ نورا من ردة فعله. فهي لم تتوقع منه اعتراف متبادل. ولكن هذا لا يمنع من احساس بجرح عميق نتيجه خروجه السريع بدون حتى أن يوجه لها كلمة واحدة.
مسحت دمـ.ـو.عها التي هطلت على وجنتيها بهدوء وهي تحاول مواساة نفسها.

فلأصبر قليلاً. لعله يدرك كم أحبه. ويتعرف على مشاعره الشخصية. أنا لست داخل أحد الأفلام القديمة التي يصرح بها البطل بحبه فجأة. أنها الحياة. الواقع. من الممكن أن يبادلني مشاعري يوماً ما. ومن الممكن أن أنتظر طوال حياتي في انتظار ذلك.

ظلت تراقبه من نافذة غرفة النوم وهو جالس أمام البحر يبدو غائباً عما حوله. ولا يرافقه إلا لفافات السجائر التي أخذ يستهلكها بشراهة على مدار الساعتين الماضيتين منذ أن تركها لينفرد بنفسه. وهي قررت ترك المساحة له ليفكر في كلمـ.ـا.تها ويتيقن من صدقها. ولكن طال الوقت وهو لم يتحرك من جلسته. فتحركت بتردد لتذهب إليه.

وجدته شارداً عما حوله ممسكاً بإحدى سجائره التي قاربت على الانتهاء وحرق يده. فمدت يدها وسحبتها منه، أجفل من حركتها. ثم رفع إليها عينين حائرتين تناشـ.ـداها مساعدته للوصول إلى التصرف الصحيح. كانت عينيه تسألها ألا تطالب برد على اعترافها. فهو غير قادر على تكوين ذلك الرد. أو التعبير عنه في كلمـ.ـا.ت واضحة. جلست على ركبتيه وقد قررت أن تجعله يعبر عن ما يموج بداخله بالطريقة التي يعرفها. فإذا كان الجانب المادي من الحب هو ما يدركه ويفهمه. فليكن. لا يهم. قد يأتي اليوم الذي يمتزج الجانب الحسي للحب بالجانب العاطفي في إدراكه. عليها فقط أن تساعده على ذلك. فرفعت ذراعيها لتعقدهما حول عنقه وهي تسأله بلهجتها اللعوب وإن شابها الكثير من الحزن:.

هل ستظل في هذا المزاج العابس؟ أعتقد أنني يجب أن احوله لمزاج عابث؟
ثم ضحكت برقة وهي تلمس أنفه بأنفها وتسأله:
هل اكتفيت من دميتك؟
وكأنه كان ينتظر كلمـ.ـا.تها فهجم عليها بسرعة يلتهم شفتيها مع آخر كلمـ.ـا.تها ويرفعها بين ذراعيه ليعبر عن مشاعره بالطريقة التي يعرفها. وإن كان حبه عنيفاً في تلك المرة. فهو يختزن الكثير بداخله وغير قادر عن صياغته في كلمـ.ـا.ت. ورغم ذلك كان يردد باستمرار، قمري.

جلسا معاً على مائدة الطعام مع باقي أفراد العائلة ولكن سهير كانت شاردة عن الواقع حولها تتأمل ملامح منذر التي ظهر عليها الإرهاق بوضوح بمشاعر هائلة من الذنب والكره لنفسها. فبعد مرور أكثر من عشرة أيام على زفافهما. إلا أن وضعهما لم يتغير عن الليلة الأولى التي لا تتذكر الكثير من أحداثها. سوى أنها سقطت نائمة لتستيقظ في الصباح وتجد نفسها ما زالت في ثوب زفافها ومنذر نائم على الأريكة الموجودة في صالة الجناح.

يومها أيقظته بعد أن بدلت فستان الزفاف بفستان صباحي بسيط. وسألته عما حدث؟ ولكنه ظل صامتاً، عادت تسأله:
منذر. لم لا تجيبني؟ لم تركتني أنام بثوب الزفاف؟ ولم نمت أنت هنا؟
رمقها بـ.ـارتباك وهو يجيبها بحذر:
يبدو أنك. أنك. أن. خوفك كان شـ.ـديداً. أمس. ف
ترك جملته معلقة ولكنها فهمت ما أراد قوله وقد بدأت لمحات مما حدث أمس تظهر في عقلها فأخفت وجهها بين كفيها:.

يا إلهي. لقد تذكرت. ما الذي تظنه بي عمتي قمر الآن؟ أنا آسفة. أنا آسفة.
وأجهشت في البكاء وهي تردد كلمـ.ـا.ت الأسف.
خشي منذر أن تدخل في نوبة هيستيريا جديدة فاقترب منها بحذر شـ.ـديد وربت على كتفها بخفة:
لا تخشِ شيئاً. ولا تقلقي. إن ما حدث شيء طبيعي بالنسبة لعروس صغيرة وجديدة.

رفعت إليه عينيها الزرقاوين المغرورقتان بالدمـ.ـو.ع وهي تعتذر منه في صمت. أخذ يتأمل ملامحها الناعمة ووجنتيها المتوردتين وشفتيها المرتعشتين بفعل بكائها. فلم يتمالك نفسه وانحنى على شفتيها ليقبلهما برقة. فتجاوبت معه في البداية. ولكن بمجرد أن تحركت يديه على جسدها حتى دفعته بعيداً وقد ظهر الذعر في عينيها مجدداً.
لهث منذر بقوة وهو يحاول التحكم في مشاعره والسيطرة عليها. وأشار لها بيده أن تهدأ وتطمئن:.

اهدئي. اهدئي يا سهير. لا تخافي يا حبيبتي. أنا لن استعجلك. يكفيني وجودي بجوارك.
نظرت له بعذاب لا تستطيع تفسير ما يحدث لها. لا تستطيع إخبـ.ـاره بكلمـ.ـا.ت واضحة. وحتى إن تمكنت من مصارحته هل سيقدر ما تشعر به؟، هل سيتفهمها ويتحملها؟

مرت عليها أيام التهنئة الأولى في عذاب والجميع يتوقع منها ابتسامة السعادة وملامح العروس الخجول، التي لا تعلم كيف ترسمهما. حاولت خداع والدتها وعدم مصارحتها بأي شيء. ولكن شموس بفطرتها أدركت وجود خطأ ما. فحاولت اسداء النصح والارشاد إلى ابنتها. ولكنها لاحظت ملامح الذعر والفزع التي ترتسم على وجهها.
فسألتها شموس بقلق:
سهير. ماذا هناك يا ابنتي. صارحيني. أنا أمك. من أقرب إليكِ مني؟
فأجابتها سهير بـ.ـارتباك:.

لا شيء يا أمي. لا تقلقي. أنا فقط أخجل من تلك الأحاديث. أرجوكِ. اطمئني ولا داعي لإحداث جلبة.
حاولت شموس كثيراً مع ابنتها إلا أنها لم تستطع الوصول لشيء مفيد. فمالت لتفسير قمر. بأن ما يحدث هو خجل طبيعي من العروس وإن كان زائد عن المعتاد.
أفاقت على سؤال منذر:
سهير. ماذا بكِ؟ أنا أكلمك منذ فترة. هل أنتِ بخير؟
كانت ترى نفسها. طفلة صغيرة في العاشرة أو أكبر قليلاً. تلعب في حديقة منزل الجدة الكبرى هكذا يلقبونها فهي تكون جدة أمها. وهي ذات شخصية قوية ومسيطرة على من حولها. كانت سهير تخشاها كثيراً وتطيع أوامرها بلا تردد. حالها كحال الجميع. حتى نورا بكل تمردها كانت تصبح كالحمل الوديع في حضرتها خوفاً من غضبها الذي سيليه عقابها القاسي لكل من يحاول مخالفة أوامرها...

وعن طريق خدم المنزل وزواره الكثر وصلت إلى أذنيها الهمسات والهمهمـ.ـا.ت التي فهمت منها أن أمها فقدت الطفل. الصبي الذي تنتظره عائلة الجيزاوي وجدها عبد الرؤوف بالذات. كانت تشعر بالخوف على أمها. وبالحزن على شقيقها الذي تـ.ـو.في بدون أن تعرفه. ولكن كان الشعور المسيطر عليها هو الرعـ.ـب. الرعـ.ـب من غضب الجدة، إذا خالفت أحد أوامرها، أو أزعجتها بدون قصد.

وما تسبب في زيادة رعـ.ـبها سماعها أن والدتها في حالة حرجة بالمشفى. لذا تقرر إقامتها هي وشقيقتيها بصفة مؤقتة في بيت الجدة الكبرى. حتى يتفرغ الجميع للعناية بوالدتها شموس.
فاعتادت أن تتلمس تلك الهمسات حتى تطمئن على حالة أمها. ولكنها لاحظت اختلاف تلك الهمسات في ذلك اليوم مع ظهور لتلك السيدة صاحبة الوجه القاسي والتي تكاثرت التجاعيد على ملامحه فأضافت لها مظهراً مربكاً ومرعـ.ـباً في نفس الوقت.

كانت ملامح تلك السيدة تسبب لها القشعريرة. بينما نظراتها سببت لها رعـ.ـباً لا حد له وهي ترمقها بإصرار أثناء تهامسها مع جدتها الكبيرة. خاصة عنـ.ـد.ما حمل لها الهواء بعض كلمـ.ـا.تهما والتي كانت تدور حولها وخاصة جمالها اللافت وأنوثتها التي بدأت تتفتح كبراعم الورود.
حاولت أن تتجاهلها وتستمر في لعبها ولكنها فوجئت بإحدى الخادمـ.ـا.ت تطلب منها الذهاب إلى الجدة.

تحركت سهير في تردد حتى وصلت لجدتها التي ربتت على كتفها وهي تخبرها أنها أصبحت فتاة كبيرة وجميلة. ويجب عليها أن تطيع جدتها حتى تمنحها مكافأة كبيرة. وطلبت منها أن تذهب مع الخادمة إلى الطابق الأعلى.

هنا. تتحول الأحداث في ذهنها إلى ضباب. أو هلوسات. فكل ما يرسخ في ذهنها هو وجه تلك السيدة وهي تقترب منها وفي يدها شفرة. مازالت تتذكر انعكاس الأضواء على نصلها الحاد. محاولة يائسة منها للهروب. صوت تلك السيدة الجاف يأمرها بالسكون وأيدي جدتها وخادمتها تثبتانها بإحكام. صوت جدتها يأمرها مرة أخرى بالطاعة. وآلام. آلام حادة. لم تفهم. لم تدرك ماذا يحدث فلقد تعالى صراخها وتعالى. وفجأة اقتحمت نورا التي جلبها صراخ أختها الغرفة وتعالت صراختها هي الأخرى وهي تصيح:.

لماذا تذبحون سهير؟
لم تعرف سهير ماذا حدث بعد ذلك. فهي فقدت وعيها من شـ.ـدة الآلام. ولكنها استيقظت لتجد نفسها على فراشها وفي غرفتها ووالدها بجوارها ودمـ.ـو.عه تسيل وهو يقبل يديها ويمسح على شعرها وهو يتمتم لها بأن تسامحه.
رددت بوهن: أبي. ماذا يحدث؟ لماذا تريدني أن أسامحك؟
لثم يدها ودمـ.ـو.عه استمرت في التساقط وهو يجيب: لأني لم أكن موجوداً لأجلك.
سألته بحيرة: ماذا تقصد يا أبي لست أفهم؟!

فأجابها بانكسار: لا شيء حبيبتي. لقد مررت بكابوس سيء فحسب.
عاد مشهد تلك السيدة القاسية يهاجمها وهي تقترب بشفرتها الحادة. فتعالى صراخها مرة أخرى.

فتحت سهير عينيها ورمشت بقوة تحاول اخراج عقلها من لجته السوداء. وابعاد كابوسها المعتاد عن عينيها. ذلك الكابوس الذي اعتادت عليه وتعايشت معه سنين طويلة، ولكنه ازداد حدة وبشاعة كلما اقترب موعد زفافها. فكان يزيد من مخاوفها ويرفع من حالة الرعـ.ـب التي كانت تعيش فيها من أن يتكرر انتهاك الأنثى بداخلها مرة أخرى. تزايدت هواجسها ومخاوفها حتى انفجرت مرة واحدة في ليلة زفافها وتراءت لها الشفرة الحادة تقترب مع اقتراب منذر منها فكان أن انفجرت في وجهه تلك المخاوف والهواجس وتعالت صراختها وهي تدفعه عنها. لم تستطع أن تفسر أو توضح ما أصابها. وأسباب رعـ.ـبها كلما اقترب منها. حتى بادر هو بتقديم العصير الذي يحتوي على المهدئ. ولكن حبيبها لم يطاوعه قلبه أن يخدعها فصارحها بما فعل، وحاول منعها من شرب العصير، وهنا كان قرارها بتحدي نفسها، فإن كانت غير قادرة على مواجهة مخاوفها ومصارحة منذر بما تشعر به فلتلجأ لحل آخر. وهو تهدئة تلك المخاوف حتى يستطيع حبيبها الاقتراب منها وبثها حبه عله يقضي على تلك المخاوف. وهو تقريباً ما حدث لقد هدأت مخاوفها نوعاً ما. وسمحت لمنذر بالإقتراب منها وجعلها زوجته فعلاً. وكان كلام منذر صحيحاً فلم يخدر المهدئ حواسها ولم يغيب إدراكها. فكانت تستطيع الرفض والابتعاد في أي لحظة، لكنها قررت أن تتناسى مخاوفها قليلاً يساعدها على ذلك قرص المهدئ الذي تجرعته مع العصير لتمنح حبيبها ما يريده علها تعرف ذلك الشعور السرمدي التي كانت تصفه نورا لها بروعة وجودها بين ذراعي حبيبها. تلك السحابة المخملية الناعمة التي سيصحبها لها حبيبها ويمنحها شعوراً بأنهما ينتميان لبعضهما فقط. كانت تتساءل عن ذلك الشعور؟ هل يوجد شيء خاطيء؟ هل هي لا تحب منذر بما يكفي؟ أم أن ذلك الشعور سوف يأتي لاحقاً. فبعد كل شيء كانت تلك مرتها الأولى فحسب. ولابد أن المهدئ قد أثر ولو قليلاً عليها. هذا ما كانت تخبر نفسها وهي مستلقية بين ذراعي منذر تحاول ألا تصدر أقل حركة، حتى أنها حاولت التحكم في تنفسها حتى لا تتسبب في إيقاظه من نومه. فهي لا تريد إعادة التجربة مرة أخرى. ليس حالياً على الأقل. تريد أن تنفرد بنفسها قليلاً قبل أن تواجهه...

انسلت بهدوء من بين ذراعي منذر وسحبت أول شيء وصلت له يديها لتلف جسدها به وتحركت إلى الحمام بسرعة وأغلقت بابه خلفها. وفتحت الماء البـ.ـارد وتركته ينهمر فوق رأسها.

لقد تساءلت كثيراً. عن جدوى ما قامت به جدتها نحوها. تعددت أسئلتها لوالدتها ووالدها وكانا دائماً ما يراوغان في الاجابة. وكان ذلك يثير حيرتها وغضبها. فهي تريد اجابة واضحة ومقنعة للأفكار التي تتصارع في عقلها، حتى أخبرتها أمها مرة أن جدتها فعلت ذلك بهدف حمايتها. وحماية شرفها.

حركت سهير وجهها لتواجه المياه المنهمرة والتي تضـ.ـر.ب وجهها بعنف وتتلألأ قطراتها تحت الضوء الساطع فيذكرها لمعانها بالشفرة الحادة التي اقتطعت جزء منها بدعوى الحماية والوقاية...

ابتسمت سهير بمرارة. فكيف تكون الوحشية والانتهاك هما الحماية والوقاية؟ ولم الافتراض أنها بحاجة لتلك الحماية من الأساس؟ وكأن كل أنثى تولد وتهمة معلقة فوق رأسها. وتهمتها هي أنوثتها. وكأنه كتب على كل فتاة أن تقضي عمرها لتثبت براءتها من تهمة هي لا تعلمها ولم ترتكبها؟ تلك النظرة الضيقة من مجتمع محدود الأفق نحو كل أنثى وهو يترصد ويراقب اللحظة التي ستزل فيها قدمها نحو الخطيئة. فتكون هي المتهمة والجانية. حتى لو كانت ضحية ومجني عليها. إنها نظرة المجتمع وتفكيره الذي يظن أنه باقتطاع جزء من جسدها فهو يحميها من خطر الإنزلاق ويمنحها الشرف والعفة. مجتمع لا يستوعب أن الشرف والعفة والطهارة هي معاني تزرع وتغرس في الروح وتقوى بالإيمان والتقوى.

سهير، سهير. هل أنتِ بالداخل يا حبيبتي؟
صوت منذر انتشلها من وسط تصارع أفكارها. ففكرت أن تتجاهل الرد عليه وتتعذر بصوت المياه الجارية. إلا أنها رجعت في قرارها بعد أن فكرت ان ذلك سيكون سخيف حقاً وأنها يجب أن تواجهه عاجلاً أم آجلاً.
أغلقت المياه ولفت نفسها في روب الحمام الخاص بمنذر. وقد تعمدت ذلك حتى تخفي نفسها وجسدها تماماً عنه وخرجت لتجده ينتظرها أمام باب الحمام وما أن لمحها حتى بادرها:.

صباح الخير يا أجمل عروس في الدنيا
ابتسمت بخجل وهي ملتفة بردائه تشبه الطفلة التي قررت العبث بملابس والدتها.
تأمل احمرار وجنتيها وهو يقربها منه ويدفن رأسه في خصلاتها الشقراء المبللة ويستنشق رائحتها بتلذذ هامساً:
هل سنعود للخجل مجدداً؟، ألن أسمع صباح الخير من أروع شفتين رأيتهما في حياتي؟
أجبرت سهير نفسها على البقاء ساكنة بين أحضانه وهي تهمس بصوت لا يكاد يسمع:
صباح الخير.

طبع منذر قبلات ساخنة على عنقها وهو يسألها:
فقط؟
همست بحيرة وهي تقاوم رغبة دفينة في الهروب من بين ذراعيه:
فقط ماذا؟
ضمها بقوة وهو يسحقها إلى صدره كأنه يبلغها أن اختبائها خلف الروب القطني الفضفاض لن يجدي نفعاً وهمس في أذنها بعبث:
صباح الخير فقط؟ بدون حبيبي؟
ازداد احمرار سهير وهي تهمس بخفوت شـ.ـديد:
صباح الخير يا حبيبي.

رفع منذر ذقنها المنخفضة بخجل بإبهامه ليواجه عينيها الزرقاوتين اللاتين التمع فيهما تشتت مشاعرها وحيرتها الشـ.ـديدة وقبل جبينها برقة، ثم انتقلت شفتاه لتأخذ شفتيها في قبلة بدأت رقيقة ثم ازدادت تطلباً مع ازدياد جرأة يديه على جسدها، تجاوبت سهير مع قبلته العاصفة لثوانٍ إلا أنها حاولت التملص من بين ذراعيه عنـ.ـد.ما شعرت بسقوط رداء الحمام على الأرض، لكنه منعها وهو يهمس:
ألم نتخطى مرحلة الخجل؟

كادت تصرخ به أنه ليس الخجل، ليس الخجل هو ما يكبل مشاعرها. إنها خائفة. خائفة من مشاعرها أو بالأحرى من قلة تلك المشاعر، حاولت تذكر كلمـ.ـا.ت نورا عن روعة الوجود مع الحبيب. ذلك الشعور الذي تريد سهير أن تختبره مع حبيبها، فسكنت بين ذراعيه وهي تحلم بالوصول إلى تلك السحابة الوردية الناعمة.

أخذت نورا تذهب وتجيء في غرفتها بغيظ شـ.ـديد. لا تدري كيف تبخرت السعادة التي عاشتها مع رؤوف في الأيام الماضية وتحولت إلى جمود رهيب. وتجاهل سافر من قبله؟
والمثير للغيظ أنه أصبح يلازم نعمـ.ـا.ت بصورة مبالغ فيها، حتى أنها تظن أنه يستخدمها كدرع يخفيه عنها.

لقد مر على عودتهما من الأسكندرية أكثر من أسبوعين رأته فيهما مرات تعد على أصابع اليد الواحدة، بالإضافة إلى قضائه جميع لياليه في الطابق الأعلى، فلم تجمعهما معاً غرفة واحدة منذ عودتهما من الاسكندرية. وللأمانة هي لا تستطيع لومنعمـ.ـا.ت على تصرفه ذاك. فهي شعرت بتباعده بعد تلك الليلة التي صرحت فيها بحبها له، فكانت تراه بالكاد في اليومين التاليين وكان عذره دائماً أن الأعمال تراكمت ويجب الانتهاء منها قبل العودة. فكان يقضي النهار بالكامل في الخارج ويعود في وقت متأخر من المساء ليأكل وينام مباشرة. وظل هذا روتينه ليومين كامليين عادا بعدهما إلى منزلهما حيث فوجئت نورا باستقبال نعمـ.ـا.ت المرحب بهما، والمثير للدهشة أنها وجدت نفسها بين أحضان نعمـ.ـا.ت تستمع لتمتمـ.ـا.ت الإعتذار عن سوء التفاهم الغير مقصود والذي تسببت به نعمـ.ـا.ت في ليلة الحنة الأخيرة لسهير.

تجمدت نورا تماماً ولم تعرف كيف تتصرف لمواجهه تلك المودة الغير مألوفة من المرأة الأكبر سناً. فغمغمت بكلمـ.ـا.ت نصفها غير مفهوم ولكنها استطاعت أن تخبر نعمـ.ـا.ت أنه لا داعي للاعتذار وأن الموقف مر بسلام.
وتحركت متوجهة لجناحها وهي تتوقع أن يتبعها رؤوف إلا أنها فوجئت به يصطحب نعمـ.ـا.ت للطابق الأعلى ويلقي لها بتحية عابرة.

وكان ذلك الموقف نسخة كربونية عن الأيام التالية. فهو يقضي أغلب وقته في عمله، ويعود ليحبس نفسه في مكتبه. وبالطبع يقضي لياليه في الطابق العلوي.

لم تهتم نورا بنظرة الانتصار والتشفي في عيني نعمـ.ـا.ت بقدر اهتمامها بسبب هذا الإنقلاب في تصرفاته تجاهها فمقدار غضبها كان يساوي مقدار حيرتها. فهو يتجنبها وبوضوح. يتجنب الانفراد بها أو التواجد معها، ولولا أن الواجب والأصول حتمت عليه مرافقتها لمنزل عمتهما قمر حتى يقدما التهنئة لسهير ومنذر لما رافقها إلى هناك أبداً. وما يثير حيرتها بل تعجبها هو إصراره على عدم ذهابها إلى بيت عمتها لزيارة سهير بمفردها أبداً. وكان يشـ.ـدد بقوة على وجود والدتها معها. ولم يسمح لها بالذهاب وحدها إلا بعد عودة منذر إلى العمل. وكان عذره أنه لا يصح إزعاج العروسين بلا داعي.

كانت الحيرة تفتك بها. هل تذهب إليه مرة أخرى؟ هل تتركه لانعزاله عنها؟ إن كبريائها يأبى عليها أن تسعى هي إليه بعد اعترافها بحبه وصده وجموده الذي اتبع تلك الليلة. وقلبها لا يرحمها يصـ.ـر.خ طالباً قربه.

تدعو وتبتهل كل ليلة حتى يأتي لجناحها. لا ليبتعد عن نعمـ.ـا.ت، بل كي تراه فقط وتسأله عن الخطأ الذي ارتكبته ويعاقبها عليه. بل يعاقبهما معاً. فهي ترى التعاسة مرتسمة على ملامحه بوضوح. ترى رؤوف الذي كانت تخشاه وتهابه عنـ.ـد.ما تقدم للزواج منها، وليس رؤوف الذي اقتربت منها وعاشت معه أحلى لحظات عمرها...

لمحت شاشة هاتفها تضيء باسم سهير. تجاهلت نورا الهاتف فحالتها لا تسمح بمحادثة شقيقتها التي تبدو مؤخراً كمن سُلب منه شيء ثمين، أو كمن تبحث عن حلم مفقود. وهذا يزيد من حنق نورا، فهي ترى أن قصة حب منذر وسهير انتهت كما الحكايات الأسطورية وعاشا في سعادة الى الابد. فلماذا ترى انطفاء البريق في عينيها؟ وتلمس ضياع رونقها ومرحها الطبيعي. هل الحب هو أسطورة في الحكايات والكتب فقط؟ هل هو سراب لا يمكن الإمساك به؟ وهل ما تحمله من أحاسيس ومشاعر لرؤوف هو نتيجة وهم أو تعود؟ وماذا عن مشاعر سهير ومنذر؟ هل هي وهم أيضاً؟ إنها تشعر أن شقيقتها تعيسة، ترى ذلك بوضوح على وجهها ولا تجد لذلك مبرر منطقي يقنع عقلها قبل قبلها...

تساقطت دمـ.ـو.عها على وجنتيها بلا شعور منها عنـ.ـد.ما لمحت طيفه يراقبها من خلف نافذة مكتبه كعادته مؤخراً. لا تدري إلى ماذا يهدف؟ أو ماذا يدور بعقله؟ لماذا يراقبها ولكنه يمتنع عن التواصل معها؟ هل رؤوف العابس والمتجهم هو من سيحل محل رؤوف الرقيق الدافئ والعابث أحياناً الذي عرفته منذ زواجهما؟
مسحت دمـ.ـو.عها بظهر يدها وهي تدعو الله أن تصل الى حل أو اجابة شافية
لكل تساؤلاتها...

عادت شاشة هاتفها تضيء باسم سهير فالتقتت الهاتف لتجيبها، في محاولة منها للهروب من واقعها.

أغلق رؤوف ستائر نافذته بقوة بعد أن لمح حركة نورا وهي تمسح دمـ.ـو.عها، وامتدت أصابعه في الهواء وبحركة لا إرادية ليمسح دمـ.ـو.عها ولكنه أخفضها ببطء عنـ.ـد.ما لاحظ عدم جدوى حركته تلك، يعلم أنها حزينة وغاضبة ولكنه عاجز عن التواصل معها، مشاعره مبهمة وغير واضحة، بل وغير مفهومة.

عنـ.ـد.ما صفعه تصريحها البرئ بالحب شعر بأنه أجبر على خوض غمار بحر هائج لا يعرف أبسط مبادئ السباحة به. لم يعرف بم يجبها أو ما الذي تنتظره منه، فهو طوال حياته مع جده استوعب منطقه ومبدأه بألا يأخذ أي شيء من المسلمـ.ـا.ت. كل شيء له ثمن وله مقابل، فتفضيل جده له عن باقي أحفاده حتى على عمه عبد السلام وعطفه عليه كان بسبب طاعة رؤوف له وامتثاله لجميع أوامره. فكان يسعى جاهداً لنيل درجاته العلمية كاملة واتقان الفنون والمهارات التجارية التي يكلفه بها جده كلما تاق لربتة على الكتف أو ضمه بسيطة تشعره بالأمان، وأخيراً كلل طاعته له بزواجه من نعمـ.ـا.ت للحفاظ على أملاك العائلة. وللحفاظ على راحة بال جده. حينها شعر رؤوف بأنه رد جميل جده كاملاً ودفع ثمن تفضيله له بالكامل. وحتى نعمـ.ـا.ت كان مدركاً أن وراء موافقتها على الزواج منه هدف خفي وهو تحقيق حلمها بالأمومة وكان يعلم أنها تغرقه في أنوثتها حتى تصل لحلمها، وعنـ.ـد.ما فشل في تحقيق ذلك الحلم أصبحت تغدق عليه حنانها وأمومتها حتى تحتفظ به هو. الرجل والزوج الذي بقي لها في الحياة كما أخبرته ليلة زفافه على نورا، هذه هي حياته التي ألفها وتآلف معها. يقدم الثمن مقابل ما يحصل عليه من عواطف سواء كانت ربتة على الكتف. أو عواطف أكثر حميمية، لكن هي نورا. ما الذي قدمه لها حتى تمنحه ذلك الاعتراف؟ ماذا يستطيع أن يمنحها مقابل قلبها الذي تزعم أنه سقط في حبه؟ هل يمنحها قلبه بالمقابل؟ هو لا يدري إذا كان يستطيع ذلك أو إذا كان يملك قلباً من الأساس؟ وإذا فعل إلن تكون خيانة لنعمـ.ـا.ت؟ فكيف يسقط معها في الحب ولا يفعل مع نعمـ.ـا.ت؟ أليست نعمـ.ـا.ت هي زوجته الأولى؟ ألم يستمر زواجهما خمسة عشر عاماً؟ ألم تكن هي المرأة الأولى في حياته من حولته من شاب هادئ إلى الرجل الذي تظن نورا أنها سقطت معه في الحب؟ فكيف يحب نورا، ولا يحبها هي؟ أي منطق في هذا؟ أنه يتساءل إذا ما كانت مشاعره نحو نورا هي مشاعر حب! لعله فقط إحساس بالتملك نحوها دعمه إدراكه أنه رجلها الأول والوحيد. لا ينكر أنه شعور وإحساس رائع بأن يكون هو الرجل الوحيد الذي مر بحياتها، ولكنه بالتأكيد ليس حباً فمعرفته بأنه لم يكن الوحيد في حياة نعمـ.ـا.ت لم تؤرقه يوماً. صحيح أنه أحس بشعور غير مريح على الإطـ.ـلا.ق، بل ان كلمة غير مريح هي بسيطة، فلقد كان شعوراً حارقاً بإقصاء منذر من الحياة عنـ.ـد.ما ظن لوهلة أنها كانت متعلقة به، ومعرفته اللاحقة بأن ارتباط سهير بمنذر كان تتويج لقصة حب طويلة هي من أنقذت منذر من نوبات غضبه الغير مفسرة. لكنه لن يتوقف أمام تلك النقاط الصغيرة فهو لطالما آمن بأن الحب ما هو إلا مجموعة من الأشعار وكلمـ.ـا.ت الأغاني التي يخدع بها الصبية الفتيات الغريرات. ولكن في الواقع. في الحياة. في حياته هو كما أعتقد دائماً. الإحترام والمودة هما أساس الزواج المتين. كزواجه من نعمـ.ـا.ت تماماً...

عادت أفكاره مرة أخرى لنورا، فمنذ اعترافها الصاعق تعمد هو البعد عنها واظهار الجفاء لها حتى يعود لسابق عهده. لرؤوف ما قبل قمر، كلا ليست قمر بل نورا. يجب عليه أن يتذكر جيداً. أنها نورا. ابنة عمه التي تزوجها حتى ينجبا معاً وريث عائلة الجيزاوي. يجب عليه نسيان جنون القمر وما جره عليه من فقدان لذاته، بل أنه عنـ.ـد.ما يراجع مواقفه معها في الفترة السابقة يجد أنه كاد أن يفقد عقله. لقد انجرف خلف تجربة جديدة. حياة جديدة معها، حتى ظن أن ما يحدث له هو الحب؟ ولكن تلك هي مجرد أوهام وعبث يفقده عقله وتركيزه، لقد تعرض للتقريع والتأنيب من جده بسبب العقد الأخير الذي أبرمه في الأسكندرية لموافقته على أحد الشروط التي ما كان لينظر له مرتين لو كان في كامل تركيزه، ولكن عقله كان هائماً في سمرائه الصغيرة وتصرفاتها المـ.ـجـ.ـنو.نة فوقع العقد بدون مراجعة متأنية وكانت النتيجة درس طويل من جده في إدارة الأعمال وتوقيع العقود نزل على رأسه ولأول مرة منذ التحق بالشركة. كلا. يجب أن يوقف هذا الجنون. هذا الهوس بها يجب أن ينتهي وتعود حياته هادئة. روتينية. حسناً ومملة قليلاً. لكنها الحياة التي عرفها ويريد أن يستكملها وعلى نورا أن تنضم لها وفقاً لطريقته وشروطه.

تحرك متوجهاً نحو جناحها فقد آن آوان المواجهة فإن أراد أن يسترد شخصيته الضائعة فلابد من المواجهة...

كانت نورا غارقة في ذكرياتها السعيدة معه في الأسكندرية تحاول التغلب على آلام قلبها الذي سببها جفاؤه نحوها. تذكرت ذلك اليوم الذي طاوعها فيه بالتمشية على كورنيش الأسكندرية متشابكي الأيدي عنـ.ـد.ما داهمتهما الأمطار. كانت قطرات بسيطة ولكنه أخذ يتذمر بانزعاج بينما تضحك بسعادة وهي ترفع وجهها ليستقبل قطرات المطر. مما جعله يتوقف عن تذمره لينظر إليها بتعجب انقلب لذهول عنـ.ـد.ما طلبت منه أن يتناولا المثلجات تحت المطر. وهي تعده بأنها تجربة لن ينساها أبداً. ووافقها مجبراً تحت إلحاحها الشـ.ـديد، ابتسمت برقة عنـ.ـد.ما تذكرت احمرار وجنتيه وهو يبتسم بطفولية تقريباً ويعترف بأنها كانت تجربة مثيرة حقاً...

دلف رؤوف بهدوء إلى جناحهما يحاول السيطرة على أفكاره الفوضوية عنما لمحها جالسة بسكون على الأريكة شاردة عما حولها. أخذ يتأملها بشوق وجرت عيناه على جسدها في لهفة وتوق ظهرا في نظراته التي ظهر فيها بوضوح اشتياقه وحنينه لها، لكنه تذكر ما الذي أتى به هنا فتحكم بصعوبة في مشاعره المهتاجة ليسيطر على رغباته التي تحثه على إلقاء كل أمور العقل خلف ظهره ليتقدم ويأخذها بين ذراعيه ويتناسى كل شيء آخر،.

يا الله كم اشتاق لها وإلى الشعور بها بين ذراعيه. لقد ابتعد لفترة طويلة والآن كل خلية بجسده تدعوه إلى ضمها لصدره والارتواء من حبها حتى يكتفي ولا يظن أنه سيفعل يوماً. وكاد أن يفعل حين لمعت في رأسه فكرة أن ما يشعره نحوها ما هي إلا رغبات جسدية بحتة وأنه يجب عليه أن يكون أقوى واصلب من تلك الرغبات الحياتية، ولا يجب أن يخضع لسلطان أنوثتها عليه، بل يجب أن يخضعها هي لما يريد. فقست نظرات عينيه واستدعى الغضب الذي شعر به عنـ.ـد.ما استمع لساعة من الزمن لتقريع ولوم جده له على إهماله في عقد الصفقة الأخيرة. وتحرك ليقترب منها. بينما انتفضت نورا في مكانها عنـ.ـد.ما ظهر رؤوف أمامها فجأة وكأنه خرج من أفكارها ليتجسد أمامها بوسامته الرجولية وطوله المهيب ولكن كان به شيء مختلف. شيء لم تعتده منذ زواجهما ورغم ذلك لم تستطع إلا أن ترمقه بشوق لم تحاول اخفائه، فهو أخيراً تنازل وجاء ليراها.

كادت أن تعبر عن فرحتها بوجوده وتلقي بنفسها بين ذراعيه عنـ.ـد.ما لاحظت جمود عينيه. ذلك ما كان متغير به. فاللمعة التي اعتادتها في عينيه ونظراته الحميمة لها قد اختفت ليحل محلها جمود وغضب اخافاها بشـ.ـدة حتى أنها وقفت بـ.ـارتجاف وهي تسأله:
رؤوف. ماذا بك؟ لما تبدو غاضباً هكذا؟

لمح رؤوف نظرة الخوف والقلق في عينيها وقفز قلبه داخل صدره يريد أن يضمها ويطمئنها بأن كل شيء على ما يرام. ولكن كلا. يجب أن تعتاد على ذلك الوجه منه، ليس القسوة ولكن الحزم الصارم والبعد عن اللهو والعبث.
ليس بي شيئاً. لماذا تعتقدين أنني غاضباً؟
رمقته بحيرة لا تدري بما تجيبه. هل تخبره بأن نظراته غاضبة. وجهه غاضب. كل خلية به تبدو غاضبة.

حسناً. أنت تتجنبني تقريباً منذ أسبوعين. وعنـ.ـد.ما تأتي إليّ الآن أراك مقطباً هكذا. إذاً ماذا تريدني أن أعتقد؟
زفر بحنق وهو يقول:
لست غاضباً. حسناً. لكني أريد محادتثتك في أمر هام.
صمت قليلاً سامحاً لنفسه بتأملها وهو يدرك أنه ليس لديه أدنى فكرة عما سيقوله لها.
استحثته نورا على الاسترسال في الكلام:
حسناً. رؤوف، أنا أسمعك.
ابتلع ريقه وهو يحاول ترتيب أفكاره ليقول:
أنه بشأن ما أخبرتني به مؤخراً.

ضاقت عينا نورا وهي تستوعب أنه يتكلم عن تصريحها بحبه. فابتسمت بمرارة وهي تقول باستفهام:
تقصد عن حبي لك؟
اندفع في الكلام بدون إرادة:
نورا. استمعي إليّ. أنتِ اختلط عليكِ الأمر. لقد رسخ موقفي منكِ يوم وفاة عمي في ذهنك ليجعلك تصوريني في صورة فارسك. ومع الوقت ظننتِ أنكِ سقطتِ في الحب معي، ولكن الحقيقة أنكِ تتوهمين ذلك فحسب. فأنتِ تعشقين خيالاً تصورتيه لسنوات.
أخذت نورا تنظر له بذهول. وكادت أن تصرخ به.

من أنت؟ أين رؤوف؟ وماذا فعلت به؟ .

هل هو جاد؟ هل قال ما سمعته حقاً؟! بعد جفاء أكثر من أسبوعين تنازل وجاء إليها من أجل أن يقنعها أن مشاعرها نحوه وهم. سراب. خيال عاشته وصدقته. لم تعرف بما تجبه! كانت رغبتها قوية في صفعه، بل ضـ.ـر.به هي تريد فعلاً أن تضـ.ـر.به وتركله وتخمش وجهه الوسيم، ثم تبكي. نعم أنها تريد البكاء، بل النحيب على سذاجتها وضعف قلبها الأبله الذي أحب ذلك الرجل، ولكنها بدلاً من ذلك. سألته باستخفاف تقريباً:.

هل أتيت الآن لتخبرني بما يجب عليّ أن أشعر به نحوك؟
أجابها بهدوء وهو يغض النظر عن أسلوبها الساخر:
كلا. ولكني شعرت أنه عليّ توضيح ذلك. حتى تفهمين كلامي عنـ.ـد.ما أخبرك. أنني أقدرك وأحترمك بالطبع فأنتِ ابنة عمي قبل أن تكوني زوجتي.
قاطعته نورا بخوف:
هل تحاول تخبرني أنك تريد الطـ.ـلا.ق؟
كانت الكلمة مثل لكمة قوية أصابته في مقـ.ـتـ.ـل فجذبها من ذراعها بقسوة وهو يصيح بغضب:.

لا أريد أن أسمع تلك الكلمة منكِ مرة أخرى أبداً. هل فهمتِ؟
جذبت ذراعها منه وهي تصيح به بدورها:
كلا. كلا لم أفهم. إذا كنت تريد الإستمرار في تلك الزيجة فما الداعي لكلامك السابق؟
تنفس رؤوف بقوة يحاول الوصول إلى هدوئه المعتاد والذي تسلبه منه بسهولة تامة:.

أنا أريد الوصول إلى بعض التفاهم. بعض الإستقرار. أفهم أنكِ صغيرة تريدين ترديد كلمـ.ـا.ت الحب والغزل. وتريدين أن تسمعيها في المقابل. وقصة حب سهير ومنذر التي عاصرتِ تطوراتها لا ريب أنها جعلتك ترسمين قصتك الخاصة وتعيشينها. هذا شيء أتفهمه.
سألته بسخرية مريرة وهي تفكر جدياً في إعمال أظافرها في وجهه حتى تشوه وسامته الواضحة:.

حقاً! كم أنا سعيدة أنك تتفهم شطحات مراهقتي وأوهامي الخيالية، ماذا أتيت لتخبرني به رؤوف؟ كن صريحاً معي وتوقف عن المراوغة.
اجابها بهدوء:
لا داعي للسخرية. أنا أحاول أن أضع أسس لحياتنا. فلا داعي للسخرية الآن. فقط أنني أريد لحياتنا معاً كزوجين أن تكون هادئة ومستقرة. لا مجال للعواطف المشبوبة وجنون المشاعر، لكن هذا لا ينفي وجود الود والإحترام والتقدير بيننا. هل تفهميني؟
أجابته بغضب:.

نعم. أفهمك. أنك تريد مني أن أتوقف عن حبك.
اوقفته عنـ.ـد.ما حاول مقاطعتها:
أو ادعاء وتوهم حبك كما تظن.
ثم ارتفع صوتها وهي تحاول السيطرة على عبراتها حتى لا تبكي أمامه:
حسناً. أعتقد أن هذا سهل للغاية. سوف أضغط زر الإيقاف فيتوقف قلبي عن حبك. أليس هذا ما تريد؟!
صاح بها في غضب:
قمر. راقبي كلمـ.ـا.تك. وتوقفي عن السخرية.
همست بشراسة:
لا تناديني قمر وأنت تخبرني أنني اتوهم حبك، وأتخيل غرامي بك. لا تناديني قمر.

نورا. أنا صارحتك بذلك من أجلك. حتى لا يتحطم قلبك عنـ.ـد.ما تدركين أنني أختلف عن الفارس الذي تظنينه.

نظرت إليه وهي تحاول استيعاب كلامه. لقد ظنت دائماً أن الرجال يحاولون اقناع النساء بالحب، وليس العكس. لماذا يرفض حبها إذاً ويحاول إقناعها بأنه وهم. وحتى لو كان وهم كما يظن، ماذا يضيره لو تركها مُضَللة في وهمها. أم أنه يخشى التمتع بفكرة حبها له ثم فقدان ذلك الحب بعد ذلك. هل الحرمان هو ما يخشاه؟ لمع في ذهنها كلام أمها امنحيه الفرصة ليتعرف على مشاعر لم يعرفها من قبل، بل لم يكن يعترف بوجودها من الأساس.

فقط امنحيه المساحة ليعيش سنوات سلبت منه، وهو سيكون طوع بنانك.
تنهدت بألم وهي تحاول التغلب على أشجان قلبها والاستماع إلى نصيحة أمها. وقررت منحهما فرصة معاً. حتى يستطيعا الوصول لتفاهم مشترك:
حسناً. لقد فهمت ماذا تريد قوله. ولكن دعنا نتفق على أن نختلف.
وتقدمت لتقترب منه قليلاً وهي تأخذ وجهه بين يديها:
حبي لك ليس وهماً. أو خيال اصطنعته لأعيش فيه. لن أسحب اعترافي بحبك. فأنا أحبك بالفعل.

لمحت نفس التعبير العاجز الذي ارتسم في عينيه عند سماعه لاعترافها أول مرة، ولكنها أجبرت نفسها على الكلام:
أنت لا تريد سماع كلمـ.ـا.ت العشق والغرام. ولا تريد ترديدها. فليكن. لك هذا. ولكن. تأكد أن مشاعري حقيقية. ليست وهماً أو خيالاً أو حلم طفولي سخيف. تقبل تلك الحقيقة ودعنا نستكمل حياتنا في هدوء كما تريد.
قاطعها مردداً:
ولكن...
لكنها قاطعته بحسم:.

بدون لكن. أنت رجل أعمال يا رؤوف، وتلك صفقة رابحة. صدقني. فاقبل بها.
صمت قليلاً لا يعرف ما عليه قوله أو فعله. بقدر ما يحتاج لأن يضمها بين ذراعيه الآن إلا أنه لا يستطيع. لا يستطيع فعل ذلك بها بعد أن ألقى بحبها في وجهها. لذا غمغم بصوت خافت:
سأعود للنوم في جناحنا عند أول الأسبوع.
أومأت له برأسها فهي استنفذت كل قدرتها على التحاور وتريده فقط أن يبتعد عن عينيها الآن حتى لو كان هذا معناه ذهابه إلى نعمـ.ـا.ت.

صعد رؤوف بتثاقل إلى الطابق الأعلى. يشعر أن ليس به قدرة على مواجهة نظرات نعمـ.ـا.ت وتصرفاتها الغريبة مؤخراً. وفي نفس الوقت غير قادر على البقاء في الغرفة مع نورا بدون لمسها. وضمها وتقبيلها. آه. فليتوقف عن تلك الأفكار. ويلتزم بما اتفقا عليه. حياة هادئة ومستقرة...

دخل الغرفة عند نعمـ.ـا.ت التي لم تتوقع صعوده إليها بعدما لمحته وهو يذهب إلى جناح نورا، فكادت أن تصيح به دهشة من وجوده، ولكنها ابتلعت دهشتها. وهي تراه يتحرك في الغرفة بتثاقل ليسحب ملابسه ويتوجه للحمام.

ابتسمت لنفسها بسعادة. فيبدو أن تظاهرها بمداهنة نورا واعتذارها عما بدر منها بشأن مقطع الفيديو قد اتى بثماره وأعاد لها رؤوف القديم ولو جزئياً فهو لم يعد يرى نعمـ.ـا.ت بمظهر الزوجة الشريرة التي ترغب في التنغيص على الزوجة الصغيرة، بل أنه عاد ليراها كامرأة طيبة اخطأت خطأ واعتذرت عنه والدليل على ذلك محاولته تعويضها عن الأيام التي قضاها برفقة نورا. كان هذا ما تظنه نعمـ.ـا.ت أو ما تحاول إيهام نفسها به متناسية أن رؤوف سافر بوجه وعاد بوجه آخر تماماً. فهو حتى لم يعد كما كان قبل زواجه بنورا. فلقد تحول إلى نسخة باهتة وحائرة من الرجل الذي كانه. ولكنها لم تهتم. فجُل اهتمامها أن يفقد رؤوف شغفه بنورا. وهي كفيلة بعد ذلك باسترداد رؤوف القديم زوجها للخمسة عشر عاماً الماضية.

لمحته يخرج من الحمام ليستلقي على الفراش وهو يضع يديه خلف رأسه. ويغمض عينيه بإرهاق. كانت تتحرق شوقاً لتعرف لماذا تخلى عن ليلته برفقة سمرائه الصغيرة ليصعد إليها ولكنها ابتلعت فضولها وهي تسأله حتى تجذب انتباهه اليها:
أريد أن أغير لون شعري إلى الأسود، ما رأيك؟
فتح رؤوف عينيه بدهشة وهو يسألها:
لقد كنت أظن أنكِ فخورة بلونه الأحمر؟!
أجابته بصوت خافت لم يسمعه.
ذلك قبل أن أكتشف عشقك للشعر الأسود.

ثم رفعت صوتها ليسمعه:
آه. نوع من التغيير، ما رأيك؟
أجابها ببرود وهو يغمض عينيه مرة أخرى ويسحب الغطاء ويلتحف به منهياُ المناقشة:
افعلي ما يريحك، نعمـ.ـا.ت. افعلي ما يريحك.
سكتت نعمـ.ـا.ت بعدما أدركت عزوفه عن الكلام وأغمضت عينيها في ألم يائس وهي تدرك فشلها معه تلك الليلة، لتلحقها بمثيلاتها من الليالي السابقة.

مرت ثلاث أسابيع أو أكثر قليلاً بعد محادثة رؤوف لنورا. كانت تنتظره فيها أن يأتي لجناحهما كما صرح، ولكنه استمر في التباعد والجفاء. وكأنه يخشى الاقتراب منها أو لا يعرف كيف يبدأ تلك الحياة الرتيبة التي يريدها معها.

وهي تحملت. وتحملت. حتى فاض كيلها وبلغ بها الحنق ذروته. وكانت مجرد رؤيته وهو يتهرب من التساؤلات في عينيها تثير جنونها. وكاد صبرها أن ينفذ منه وهي تمنحه العذر تلو الآخر. ولكنه مستمر في مسلسل البعاد والجفاء. وكأنه غير قادر على الإلتزام بما أخبرها به من البعد عن جنون العواطف والمشاعر المشبوبة. كان هذا استنتاجها والعذر الذي تمنحه اياه بدلاً من أن تقـ.ـتـ.ـله أو تشوهه تلك الفكرة التي كانت تراودها بشـ.ـدة كلما لمحت ابتسامته لنعمـ.ـا.ت حتى وهي تراها ابتسامة عادية تكاد تكون رسمية، بل وصفراء أيضاً. ولكنها لا تهتم يكفي أنه يبتسم لنعمـ.ـا.ت في حين أنه حتى لا ينظر إليها.

أضاءت شاشة هاتفها باسم سهير. موعد محادثتهما الليلية التي تتبادلان فيها الأخبـ.ـار. لكن نورا تجاهلتها. فهي تشعر أن سهير ترواغها تحاول الوصول لشيء لا تدركه نورا. وهي ليست في مزاج الآن لتبادل الأحاديث.

ألقت سهير الهاتف بحنق عنـ.ـد.ما لم تحصل على اجابة من نورا. كانت تريد الكلام معها. تريد اخراج ما بداخلها. تحاول أن تصل لاجابة لتساؤلاتها العديدة. هتفت في غيظ...
لماذا لا تجيبي على الهاتف يا نورا؟ أين أنتِ؟
ابتسمت لنفسها بسخرية وهي تفكر. وحتى لو اجابت نورا على هاتفها ما الذي كنتِ تنوين قوله لشقيقتك الصغرى؟ كم مرة من قبل حاولتِ مصارحتها والأخذ بمشورتها ولكنكِ جبنتِ؟
صرخت بها أعماقها.

بل خجلت. كيف أصارح شقيقتي بشيء كهذا؟ بل كيف أصارح أي شخص آخر؟ ماذا ينبغي عليّ قوله؟ نورا. أخبريني كيف تُسعِدين زوجك وتَسعَدين معه؟ كيف تصلين الى هذا الشعور الذي طالما صممتِ أذني بشأنه. لماذا أشعر دائماً بالنقص؟ وما هو الشيء الناقص؟ .

لقد أصبحت تتهرب من منذر بشتى الوسائل والأعذار. فما يبدأ بينهما جميلاً ومثيراً ينتهي بها وقد وصلت لقمة عصبيتها وغضبها. وما يثير حنقها أنه كان يبدو سعيداً ومكتفياً. كان هكذا على الأقل في البداية قبل أن تنتقل عدوى نزقها وعصبيتها إليه. فأصبحا يصيحان في وجه بعضهما لأتفه الأسباب. ومن يراهما وهما منغمسان في الشجار لا يصدق أبداً أنه مر شهران بالكاد على زواجهما. خاصة أن تلك الشجارات دائماً تلي الليالي التي تتفنن فيها سهير في الهروب من منذر ورغباته فيستيقظ صباحاً بمزاج أسود عاصف وهي بدورها لا تحاول مهادنته بل تهاجمه بضراوة وكأنها تتبنى أسلوب الهجوم خير وسيلة للدفاع. فهي تدرك تقصيرها نحوه وتشعر به ولكنها لا تريد أن تعترف به. تريد أن تحيا في حلمها العذري. بأن ذلك لا يهم وأن حب منذر سيبقى كما كان قبل زواجهما. راسخاً، قوياً وثابتاً. ولكنها عنـ.ـد.ما ترى عصبيته لتهربها من واجبتها نحوه يثار غضبها وتصب عصبيتها عليه فهو لا يريد إلا سعادته. ولا يبغي إلا اشباع رغباته حتى لو كانت ضد مشيئتها هي. فكانت ترضخ أحياناً لما يريد تجنباً لمشاجرة جديدة. ولكن للأسف هناك دائماً ذلك الشيء الناقص. تلك النكهة المفقودة والتي لا يستطيع كلاهما وضع يده عليها ولكن في أعماقهما كلاهما يحمل اتهام للآخر بسلبه تلك النكهة الغامضة والنتيجة تكون أعصابهما هما الاثنان في الصباح التالي وكأنها وصلت لدرجة الاحتراق فلا يحتمل أحدهما من الآخر حتى كلمة صباح الخير، وهكذا وجدت سهير أن أفضل الحلول هو التهرب من منذر ومن نظراته ورغباته واتهامـ.ـا.ته، فأصبحت بعد حوالي شهرين من زواجها تجيد اصطناع النوم ببراعة تحسدها عليها ممثلات السنيما...

مر الوقت عليها بدون أن تشعر به وهي تتحرك في غرفتها بدون هدف فلمحت الساعة وهي تتجه الى النافذة فأدركت أن الوقت متأخر بالفعل. فغمغمت بحرج لنفسها.
يا الهي. إن الوقت متأخر بالفعل لابد أن نورا كانت برفقة رؤوف. كم هذا محرج.

ادراكها للوقت جاء معه ادراك آخر وهو اقتراب وصول منذر إن لم يكن قد وصل بالفعل ويقضي سهرته مع والدته كما اعتاد في اليومين الآخرين رغبة منه في تجنبها وتجنب الشجار معها، من كان يصدق أن حب السنين يتحول في أيام إلى تلك المشاجرات والمشاحنات. هل من المعقول أن يتحول الحلم إلى كابوس بتلك السرعة، هل ستستمر تلك المسرحية الهزلية بينهما طويلاً. ألا يوجد ولو بصيص أمل في تحسن الأوضاع.

سمعت خطواته تقترب من باب الجناح فأسرعت بالاندساس في الفراش. وتقمص دور النائمة كما اعتادت كل ليلة. شعرت بحركته في الغرفة وهو يبدل ملابسه. ويتحرك هنا. وهناك. ثم صعقها صوته وهو يقول:
إذا ظننت للحظة أنني انخدعت بتمثيلك النوم كل ليلة، تكونين بلهاء. أنا فقط أمرر ذلك بإرادتي. تحركي يا مدام وأعدي الطعام لزوجك المنهك في العمل. ولا يرغب منكِ سوى بطعام محترم يسد رمقه.
دخلت نعمـ.ـا.ت إلى غرفة المكتب الخاصة برؤوف، فهو يحبس نفسه بها معظم الوقت، لكنها وجدته يجمع بعض الأوراق في حقيبته الجلدية الأنيقة. فعلمت أنه في طريقه للخارج وزاد هذا من عصبيتها التي انعكست على كلمـ.ـا.تها وهي تسأله: رؤوف. أريد أن أحادثك في أمر هام.
أجابها وهو ما زال مستمر في تجميع أوراقه: ليس الآن يا نعمـ.ـا.ت. فأنا في طريقي للخارج.

ردت نعمـ.ـا.ت بسخرية: بالطبع. فأنت لا تحتمل المكوث في المنزل وهي غير موجودة به.
رفع عينيه إليها بتساؤل عما وراء كلمـ.ـا.تها. فأردفت: لا تنظر إليّ هكذا. فهذا ما أراه، بمجرد خروجها لزيارة أمها أو شقيقتها تنطلق أنت أيضاً خارج المنزل وكأنك لا تحتمل البيت بدونها!

ترك رؤوف الأوراق من يده وهو يستشعر جدية الموقف وعصبية نعمـ.ـا.ت التي ظهرت في كلمـ.ـا.تها: نعمـ.ـا.ت. اهدئي قليلاً. أنا لدي موعد عمل بالفعل. وما تقولينه هو بلا معنى.
قال آخر كلمـ.ـا.ته بصوت خافت فهو مدرك أنه كاذب. فكلمـ.ـا.تها تحمل بعض الصدق فهو أصبح لا يطيق المكوث في مكان ونورا ليست به، رغم أنه لا يقترب منها أو حتى يتبادل أي حوار معها منذ حوارهما الأخير ولكنه يكتفي بالشعور بها معه في المكان نفسه.

صاحت نعمـ.ـا.ت به بعد أن رمقته بغيظ:
بلا معنى! الآن أصبحت كلمـ.ـا.تي بلا معنى!
أجابها بهدوء:
أنا آسف لم أقصد التقليل منكِ، ولكن.
قاطعته بعصبية:
دعني أقول ما أتيت لقوله. أظن أنه كما شُرِع لك تعدد الزوجات، فقد أُمرت بالعدل. أليس كذلك؟
رمقها رؤوف بحيرة. فقد تشوش عقله. ما الذي تريده؟ هل تلومه على مكوثه الشهر الماضي بغرفتها؟ هل أتت لتحثه على البقاء مع نورا؟
فسألها بحيرة: ماذا تقصدين يا نعمـ.ـا.ت؟ أنا لا أفهم.

أجابته بحدة: ما الذي لا تفهمه؟ أنا أطالبك أن تعدل بيني وبين ابنة عمك.
غمرته الحيرة مرة أخرى فهو غير واثق مما تريده نعمـ.ـا.ت. هل فعلاً تطالبه بالمكوث مع نورا وقت أطول. فسألها بذهول: هل تطالبيني بالبقاء مع نورا لوقت أطول؟
صرخت بفزع: كلا بالطبع.
إذاً ماذا تقولين؟ أنا لم أتركك لليلة واحدة طوال الشهر الماضي، ماذا تريدين بالضبط؟
ابتلعت غصتها بمرارة وهي تقول:
أريدك أن تراعي مشاعري. أن تحافظ على كرامتي.

سألها بحدة:
هل أخطأت نورا في حقك؟
صاحت ودمـ.ـو.عها بدأت تنهمر على وجنتيها:
كلا. أنت من فعلت.
صعق من اجابتها:
أنا!، كيف؟
حاولت تتحكم في دمـ.ـو.عها ولكنها أصرت على معاندتها وهي تتسابق على وجنتيها:
لا أنكر وجودك معي طوال الفترة الماضية. ولكن من كان معي هو خيال رؤوف. وليس رؤوف. فأنت شارد طوال الوقت. أحدثك فلا تستمع إليّ. اقترب منك، فتبتعد أميال، حتى وأنت. ونحن...

لم تستطع اكمال كلمـ.ـا.تها فغصت بشهقات بكائها الذي صدمه. فاقترب منها ليحتضنها ويحاول تهدئتها. كانت على حق. فهو غائب بأفكاره دائماً مع سمرائه. كان يتواجد مع نعمـ.ـا.ت بجسده فقط. ولكن أفكاره وخياله معها هي. لم يدرك أن نعمـ.ـا.ت شعرت بذلك فلقد ظن أنه يخفي ذلك جيداً. ولكن على ما يبدو أنه كان على خطأ. وسبب الأذى لنعمـ.ـا.ت بدون قصد. وهي لا تستحق ذلك أبداً. ليس بعد كل احتوائها له وحنانها الذي لا ينكره يكون جزائها جرحه لها بتلك الطريقة.

زاد من احتضانها وهو يربت على ظهرها برقة. وقال لها وهو يعلم بأنه مسترسل في الكذب: اهدئي يا نعمـ.ـا.ت. ولا تسلمي عقلك للظنون. قد أبدو شارداً في الفترة الأخيرة ولكن ذلك بسبب مشكلات عديدة في العمل. فغيابي أنا ومنذر معاً تسبب في تراكم الأعمال. وظهور مشكلات عدة. كما أن صحة جدي ليست على ما يرام هذه الأيام مما يسبب لي القلق الشـ.ـديد. نورا ليست لها علاقة بأي مما يحدث لي.

صمت قليلاً وهو يتمنى أن تصدق كذبته. ولكنها دفعته عنها بقوة: هل تخدعني أو تخدع نفسك يا رؤوف؟ انظر. أنا لا أعلم ماذا يدور بينك وبين ابنة عمك. ولا أريد أن أعلم. كل ما أطلبه هو أن تحافظ على كرامتي. فلا تشعرني أنك تستخدمني كدرع تختفي خلفه من مشاع. من مشاكلك مع تلك الفتاة.

سكتت قليلاً عنـ.ـد.ما أدركت أنها في غمرة انفعالها كادت أن تنبهه إلى امتلاكه مشاعر بالفعل لفتاته الصغيرة. ولكنها فوجئت بعبـ.ـارته الغاضبة: نعمـ.ـا.ت. تلك الفتاة هي زوجتي. وهي تملك اسم كما تعلمين. وكما أخبرتك من قبل. نورا لا علاقة لها بأي مما أمر به. وأنا لا أكن لها مشاعر حب كما تظنين. فأنتِ تعلمين جيداً رأيي بتلك الأمور.

فوجئت بحدته وغضبه وأدركت أن ما شعرت به هو حقيقة لا جدال فيها. فرؤوف عاشق لابنة عمه، وهي. هي لم يتبق أمامها إلا أن تحتفظ بالبقعة الصغيرة التي تشغلها في حياته. هذا إذا سمح لها بذلك. فأخذت عدة انفاس تهدئ بها انفعالها: رؤوف. أ لن أطالبك بمشاعر أو عواطف. فقط أريد بعض الاحترام. وهذا أقل ما استحق بعد هذه السنوات.

مسح رؤوف وجهه بين كفيه. يشعر بضيق في صدره. أنفاسه لا تريد أن تخرج. كل ما حوله يطبق عليه. يريد ان يصـ.ـر.خ.
ماذا بكم جميعاً؟ ماذا تريدون مني؟ حب؟ مشاعر؟ احاسيس؟ احترام؟ كبرياء وكرامة؟ عمل؟ شهرة؟ محافظة على العائلة؟ وريث؟ ماااااااااذاااااا أفعل. ماذا استطيع أن أفعل
زفر بقوة وهو يقول لنعمـ.ـا.ت:
اعتذر إن كنت اسأت إليكِ. ولكن الأعمال كثيرة بالفعل. وأنا مضطر للخروج الآن.

ألقى كلمـ.ـا.ته وسحب حقيبة أوراقه ليخرج سريعاً. تاركاً نعمـ.ـا.ت خلفه ودمـ.ـو.عها لم تجف. وكرامتها مشوهة بجروح غائرة. فلقد لمست حبه لنورا. لقد شعرت به يحاول الهروب وعدم الاعتراف بمشاعره تلك. ولكنها ليست زوجته فحسب، فهو ابنها الذي لم تنجبه. ومن تشعر بقلب الابن المدله في الحب إلا أمه.

جلست نورا برفقة سهير في غرفتهما القديمة تحاول معرفة ماذا أصاب شقيقتها وسلب الضحكة من عينيها. ولكن سهير كانت مصرة على أنها بخير وأن نورا تتوهم ليس إلا.
صاحت بها نورا بحنق:
لا تخبريني أنني أتوهم. بحق الله هل هذا مظهر عروس تزوجت من حبيب طفولتها؟
اجابتها سهير بسخرية:
وما به مظهري؟ هل يجب أن أحمل لافتة أصرح بها عن سعادتي وامتناني لزواجي من منذر!
سألتها نورا بعجب:.

سهير. لم أعهدك ساخرة. للمرة المائة، ماذا بكِ؟
أجابتها سهير:
للمرة المائة أخبرك. لا شيء.
ثم أردفت قبل أن تقاطعها نورا:
ما رأيك لو نقضي الليلة هنا في غرفتنا القديمة؟ نسهر ونثرثر معاً حتى الفجر، كما الأيام الخوالي.
صاحت بها نورا:
هل أنتِ مـ.ـجـ.ـنو.نة؟!، أنتِ عروس لم يمر على زواجك شهرين، وتريدين أن تقضي الليلة بعيداً عن زوجك! هل...

قطعت نورا كلمـ.ـا.تها وهي تفكر قليلاً ثم التمعت عينيها بشقاوة وهي تسحب هاتفها لتعبث بأزراره قليلاً. ثم أغلقته وهي تبتسم بخبث وتتمتم:
حسناً يا سيد حياة هادئة ومستقرة لنرى ماذا ستفعل الآن!
سألتها سهير بعجب:
نورا! ماذا تفعلين؟ وبم تتمتمين؟
أجابتها نورا بهدوء:
لقد أرسلت رسالة لرؤوف أخبره أنني سأقضي الليلة معكِ.
صاحت سهير:
كيف؟ وكلمـ.ـا.ت التقريع التي اسمعتني اياها منذ قليل و.

قاطع كلامها رنين الهاتف الخاص بنورا، فالتقطته وهي تبتسم ابتسامة غامضة وترفعه على أذنها لتسمع صوته يقول بحزم غاضب:
سآتي لأصطحبك بعد نصف ساعة. كوني مستعدة.
ثم أغلق الخط بدون أن يسمع منها أي رد.

اتسعت ابتسامة نورا وهي تنظر للهاتف بانتصار، فهو كان غاضباً. نعم تستطيع ان تلمس الغضب في صوته برغم محاولته اخفاءه. أخيراً حصلت منه على رد فعل واستطاعت ان تخدش غلاف الهدوء والجفاء الذي غلف نفسه به منذ تلك المحادثة الأخيرة بينهما والتي أراد بها وضع أطر لعلاقتهما. وقد مر عليها أكثر من ثلاث أسابيع ولم يخطو بقدمه داخل جناحها، بل أنه عاد للجفاء والعبوس كما لو أنه يعاقبها لاصرارها على حبه.

وكأنه ينتظرها لتسحب اعترافها. وهي لا تنكر أنها تنتظره أن يصرح بحبه. حسناً. هي لن تتراجع ولكنها تدرك شغفه بها وتعرف كيف تستعيد ذلك الشغف وتشعل نيران رؤوف مرة أخرى...
قاطع صوت سهير أفكارها وهي تسألها:
نورا. ماذا يحدث؟ ومن كان على الهاتف؟
أجابتها نورا وما زالت ابتسامتها على شفتيها:
أنه رؤوف سيأتي لاصطحابي بعد قليل.
ارتسمت خيبة الأمل على ملامح سهير:
إذاً. لن تبيتي هنا الليلة؟

بالطبع. لا. ولا أنتِ أيضاً. هيا اتصلي بزوجك كي يأتي لاصطحابك.
أعفى دخول شموس الغرفة سهير من الاجابة فحمدت ربها على ذلك وهي تسمع صوت أمها تنادي على شقيقتها:
هيا يا نورا. إن زوجك بالأسفل وهو في عجلة من أمره.

قفزت نورا بسرعة وهي تجذب حقيبتها حتى قبل أن تنهي أمها كلامتها. وقبلت أمها وشقيقتها وهي تودعهما بسرعة. وما أن خرجت نورا من الغرفة حتى أغلقت شموس الباب وتحركت لتجلس بجوار ابنتها على الفراش. وأخذت تتأمل ملامحها الفاتنة التي كساها الحزن. وسألتها برقة:
سهير. ماذا بكِ يا ابنتي؟ ماذا يحدث معكِ؟
هبت سهير بقوة قائلة:
لا شيء. لماذا لا تصدقوني! أنا بخير.
عادت شموس تسألها برقة مرة ثانية:
ولم العصبية إذاً؟

أجابت سهير بحنق:
لأنني سئمت من أسئلتكم التي لا أملك اجابة عنها.
لم تيأس شموس ولم تقتنع. فهي أم. وردارها الأمومي. يخبرها أن ابنتها تكذب عليها. وأن الأمور ليست بخير كما تدعي. فعاودت محاصرة ابنتها مرة أخرى:
سهير يا حبيبتي. أنتِ ابنتي الكبرى. أول من رأت العين وأول من أذاقتني معنى الأمومة. هل تعتقدين أنني أصدق كلمـ.ـا.ت لسانك وأكذب عيني التي ترى التعاسة على ملامحك. وقلبي الذي يشعر بالألم بين جنباتك.

لم تحتمل سهير الحنان في صوت أمها ولم تستطع المقاومة أكثر فألقت نفسها بين ذراعي أمها وهي تبكي بحرارة. تفرغ حمولتها من الألم والحيرة والتشوش على صدر أمها الذي احتضنها بحنان واحتواء افتقدته بشـ.ـدة.
ظلت شموس تضم ابنتها بقوة، تنتظر منها أن تهدئ ولكن طالت عبرات سهير ولم تصل حتى إلى بداية الهدوء وزاد ذلك من قلق شموس فسألتها بحذر:
هل يسيء منذر معاملتك؟ هل يضايقكِ بشيء؟

نزلت دمـ.ـو.ع سهير أكثر عند سماعها اسم منذر وهي تتذكر كلامه لها في تلك الليلة وهو يطالبها بإعداد طعامه فذلك كل ما يبتغيه منها. لحظة سماعها لعبـ.ـارته تحركت بدون وعي لتعد له مائدة الطعام التي جلس أمامها يأكل في صمت ثم ما لبث أن رمى ما بيده من لقيمـ.ـا.ت وهو يبدي امتعاضه من الطعام:
ما هذا؟ هذا الطعام ماسخ جداً. لقد ظننت أنكِ تجيدين الطهو على الأقل. من الغد ترافقين أمي في المطبخ حتى تتقنين إعداد الطعام.

اجابته سهير بدهشة:
ولكن عمتي قمر هي من أعدت ذلك الطعام بالفعل.
صاح بحنق:
وأنتِ ماذا تفعلين طوال اليوم؟ ومتى تبدأين في التصرف كزوجة وربة منزل؟
تيقنت سهير أنها واحدة من تلك الليالي التي يحاول فيها افتعال أي شجار معها. وكعادتها بدلاً من محاولة مهادنته انفعلت عليه وصاحت به:
يبدو أنك تتعذر بأي شيء بحثاً عن شجار
رمقها بنظرة خاصة وصمت قليلاً ثم قال:
لست أنا من يبحث عن الأعذار...

فهمت ما يريد قوله فأخفضت وجهها أرضاً وهي تغمغم بحرج:
منذر. أنا.
قاطعها بسؤاله:
ماذا يحدث يا سهير؟ هل آذيتك في شيء؟
سارعت بالنفي:
كلا. كلا.
سألها بألم:
هل كان حلم؟ سراب؟ هل كنا نتوهم؟
شهقت بالبكاء وهي تحرك رأسها نفياً:
منذر. أنا أحبك. أقسم لك
صاح بها:
إذاً. لماذا يا سهير؟ لماذا تعذبينا معاً؟
تلعثمت في كلمـ.ـا.تها وهي تقترب منه. فسارع بضمها لصدره:
منذر. أناااا.

لكنه قطع ما تريد قوله بقبلات ساخنة أغدقها عليها. فهو اشتاق لها بقوة. يحتاجها ويريدها أن تفهم ذلك. وهي استكانت بين ذراعيه كعادتها وهي تأمل بكل قوة أن تكون تلك المرة مختلفة، ولكن. بعد أن هدأ كل شيء. اكتشفت أنه. لا شيء تغير. لا شيء...
تنبهت من شرودها على حركة اصابع امها وهي تملس شعرها برقة وتعاود سؤالها باصرار:
هل يسيء منذر معاملتك يا سهير؟

ابتعدت عن أحضان أمها وهي تتحرك لتخفي عنها وجهها الذي احمر بوضوح معلناً عن كذبها:
كلا. يا أمي. أنا ومنذر في خير حال. في الواقع يجب أن اتصل به الآن حتى يأتي ليصطحبني.
لكن شموس لم تقتنع. ولفت ابنتها لتواجهها:
علي من تكذبين؟ يا سهير؟ وما سبب ذلك البكاء إذاً؟
تلعثمت سهير وهي تقذف بأول اجابة:
لا شيء يا أمي. أنا فقط افتقدكم بشـ.ـدة. وافتقد منزلنا ونورا ونادية وكل شيء.

لم تكن تكذب عنـ.ـد.ما قالت ذلك. فهي تفتقد منزلها بشـ.ـدة. وفي نفس الوقت تشعر أنه لم يعد منزلها. كم هذا غريب أن يتحول المنزل الذي ضمك لأكثر من عشرين عاماً إلى مكان تعامل فيه كضيف. وبرغم شعورك بالإنتماء له إلا أنك تشعر أن ولاؤك يتحول بدون أن تدري إلى منزل آخر. ومكان آخر.
لذا فقد تناولت هاتفها بهدوء واتصلت بمنذر ليأتي ويصطحبها إلى، منزلها، الجديد.

أما في سيارة رؤوف فكانت نورا تكاد تتنفس غضبه الذي يبدو واضحاً في كل حركاته وسكناته. شعرت بالخوف قليلاً من مظهره العابس. إلا أنها أغمضت عينيها تسترجع بعض لحظاتهما الخاصة. تستمد منها بعض القوة حتى تستطيع مواجهة أعاصير غضبه التي تعلم أنها ستنطلق ما أن يصلا إلى المنزل. لا تنكر سعادتها الخفية رغم خوفها، فغضبه هذا ينفي ادعاءه الكاذب باللامبالاة والجفاء طوال تلك الأسابيع الماضية.

تقسم أنه لو كان وافق على قضائها الليلة في بيت والدها لكانت أحالت حياته جحيماً عن حق. لكنه باستجابته السريعة لرسالتها وإصراره على اصطحابها بنفسه أثبت أنه يهتم فعلاً. يهتم بوجودها تحت سقف منزله. وهذه نقطة قد تبدأ منها. فقط لو منحها الفرصة.
حانت منها التفاتة خفية نحوه ولاحظت انقباض ملامحه بشـ.ـدة. هل يعقل أن كل ذلك الغضب بسبب رسالتها؟

لاحظ رؤوف نظراتها المختلسة له وشعر بخوفها من غضبه، حركاتها المتململة وعبثها بكفيها مع سرعة أنفاسها أعلمته بمدى تـ.ـو.ترها.

اراد طمأنتها. اخبـ.ـارها ألا تخاف منه. لكن أفكاره كانت تعصف بشـ.ـدة بين كلمـ.ـا.ت نعمـ.ـا.ت له وتأكيده لها أن نورا لا تأثر عليه اطـ.ـلا.قاً وبين الغضب الجارف الذي شعر به عنـ.ـد.ما وصلته رسالتها لتخبره برغبتها في المكوث مع شقيقتها. عنـ.ـد.ما شعر أنها تريد أن تحرمه منها. من وجودها. من إحساسه أنها معه بنفس المكان...

كانا قد وصلا إلى منزلهما فترجلت بسرعة من السيارة. ولكنه لحقها ليتمسك بذراعها ويدخلا معا تحت بصر نعمـ.ـا.ت التي كانت تنتظره في شرفتها فاغرورقت عينيها بالدمـ.ـو.ع وهي تراه يتمسك بنورا كالطفل الذي عثر على أمه بعد عناء. فشعرت أنها كما خسرت رؤوف الزوج فهي في طريقها لتخسر رؤوف الابن الذي بدأ يخترق شرنقة الحب الأمومي الذي أحاطته به ساعياً لفرض سيطرته على زوجته. لبسط قوامته على امرأته.

دخل رؤوف إلى جناحهما وهو ما زال يتمسك بذراعها بقوة، رغم أنها آلمتها إلا أنها أسعدتها. ولكنها أخفت تلك السعادة بسرعة وهي تستعد لمواجهته:
رؤوف. لماذا تصرفت بتلك الطريقة؟ فأنت لم تدع لي فرصة لمناقشتك عنـ.ـد.ما هاتفتني. لقد أغلقت الخط مباشرة. لقد كنت أرغب حقاً في البقاء مع سهير. كنا على وشك التخطيط لسهرتنا الليلة.
ضغط رؤوف على اسنانه بشـ.ـدة:.

نورا. أرجوكِ. أنا لست أبله. ولا أنتِ. وأنتِ متأكدة تماماً أنني ما كنت أسمح لكِ بقضاء الليلة خارج البيت.
سألته ببراءة كاذبة وهي ترمش بعينيها:
لماذا؟ فأنا كنت سأقضيها وحيدة كالعادة؟
سأل بحدة:
إذاً. ذلك كان عقابك لي؟
استمرت في ادعاء البراءة:
عقاب! لماذا تظن ذلك؟
لقد كانت تلعب لعبة ما. ربما يكون غير مدرك لابعادها. ولكن أي لعبة يمكن لاثنين أن يلعباها. فسألها بنعومة:.

أعتقد أنكِ غاضبة لمكوثي في الطابق العلوي في الفترة الماضية أليس كذلك؟
أغاظها رده فاندفعت تهاجمه:
وماذا يغضبني؟ فأنت على ما يبدو أصبحت تفضل الهياكل العظمية. بدلاً من الدُمى.

اشعلت كلمـ.ـا.تها غضبه بسرعة البرق. فالتمعت عينيه بقسوة وغضب وتكورت قبضتيه معاً وهو يشـ.ـد عليهما بقوة حتى ظنت أنه سوف يضـ.ـر.بها بالفعل عقاباً على كلمـ.ـا.تها الوقحة. بينما تسمرت قدماها في الأرض بانتظار أن يقع عليها عقابه كيفما كان، انطلقت اصوات رنين هاتفه وهاتفها وهاتف المنزل كأنما جميع هواتف العالم قد تواطئت معاً حتى تعفيها مما كان سيلحقه بها.
تجمد رؤوف عنـ.ـد.ما سمع رنين الهواتف وغمغم بخفوت:
جدي!

تجمع جميع افراد العائلة حول الطبيب الذي خرج لتوه من غرفة العناية الفائقة وهو يسحب القناع الطبي للأسفل حتى يمكنه الحديث مع هذا الجمع القلق الذي اخترقه رؤوف بسهولة وهو يواجه الطبيب مستفسراً:
كيف حال الحاج عبد الرؤوف الآن؟
سأله الطبيب بهدوء:
هل أنت ابنه؟
كلا. أنا حفيده
أجاب الطبيب بروتينية:.

المريـ.ـض في حالة خطرة. عنـ.ـد.ما وصل، أظهرت التحاليل وجود جلطة صغيرة في القلب. لقد تمكنا من إذابتها والحمد لله. لكن الأربع والعشرين ساعة القادمة حرجة. فلندعو الله أن تمر بسلام، وبعدها نرى ماذا ستكون الخطوة القادمة.
سأله رؤوف بصوت متحشرج:
هل سيكون بخير؟
إنه رجل عجوز قوي. وأنا أتوقع أن ينجو بإذن الله.
ثم وجه كلمـ.ـا.ته لجميع الموجودين:.

يفضل أن تذهبوا إلى المنزل. أو حتى تنتظروا بالكافيتريا. فوقفوكم هنا لا داعي له.
قال الطبيب كلمـ.ـا.ته وابتعد عنهم. فتصاعدت أصواتهم وهمهمـ.ـا.تهم. فارتفع صوت رؤوف ليسكتهم وهو يشرح لهم ما قاله الطبيب بالتفصيل ويطلب منهم الذهاب للمنزل. ولكنه قوبل باعتراض الجميع وأولهم عمته قمر التي تجمدت دمـ.ـو.عها في عينيها وهي تقول:
لن أبرح مكاني حتى يفيق أبي واطمئن عليه.

تعالت الأصوات توافقها. بينما رؤوف يحاول اسكاتهم ونورا تراقبه عن بعد. وهو يحاول السيطرة على الموقف واحتواء الجميع.
فلمحت عمتها تقترب منه لتتأكد وتطمئن على صحة عبد الرؤوف:
رؤوف. هل سيكون بخير فعلاً؟ هل ننقله إلى القاهرة أو حتى يمكن أن يسافر للخارج؟
طمأنها رؤوف:
لا تقلقي يا عمتي. فلندعو أن تمر الساعات القادمة. ثم نفكر في القادم. كما قال الطبيب
ثم ربت على كتفها:.

لا تقلقي. لو تطلب الأمر أن آتي له بأكبر وأشهر اطباء القلب سآتي له بهم.
اقتربا منذر وقاسم منه وأخذا يتهامسا معه لينسق معهما خطط العمل لليوم التالي:
رؤوف. هل نلغي اجتماع الغد؟ أم نؤجله. أم.
قاطع رؤوف استرسال منذر:
كلا. لن نؤجل شيء. سيتم كل شيء. وسيتم توقيع العقد بأمر الله
ثم رأته يقترب من ابيها المتكئ على جدار غرفة العناية يتأمل في صمت الاجهزة المتصلة بجسد جدها، فيربت على كتفه بهدوء ويخبره بصوت متكسر:.

سينجو. إن شاء الله سينجو.
أومأ والدها بصمت حزين وعيناه مازالت شاخصة نحو الغرفة. فظهر تأثر رؤوف وقلقه رغماً عنه، ثم شعرت بحركة خفيفة بجانبها فانتبهت أن نعمـ.ـا.ت تتحرك متوجهة نحو رؤوف فتبعتها بدون إرادة لتسمعها تحدثه وهي تضغط على كتفع بمؤازرة واضحة:
تجلد يا رؤوف، فالكل يعتمد عليك. فحاول السيطرة على قلقك.
أومأ رؤوف يوافقها. ثم أغمض عينيه للحظات قليلة وهو يخبرهما:.

سأذهب إلى الحسابات لأترك بعض المبالغ المالية.
سارعت نورا تجاوبه:
سآتي معك.
وتحركت بسرعة ترافقه حتى لا تدع له فرصة للاعتراض.
بعد أن أنهى المعاملات المالية مع قسم الحسابات في المستشفى. تعلقت بذراعه وهي تسأله:
أين ستذهب؟
أجابها بسخرية تقريباً:
إلى أين تعتقدين؟ سنعود لنكون بجوار جدي.

كانت طوال الوقت الذي أخذه في انهاء المعاملات المالية تفكر في طريقه لتبعده عن الجمع المتحلق حول جدها. فالكل واحد منهم يطالبه بشيء ما. ولم يهتم أي منهم بالاطمئنان عليه هو. كيف يشعر؟ كيف يفكر؟ وهو يرى الأب الوحيد الذي يعرفه يضيع منه؟ وهو يفقد الأب للمرة الثانية؟
لذا فقد اقترحت عليه بسرعة:
ما رأيك أن تأتي معي لبيت جدي حتى أحضر له بعض الاشياء التي سيحتاجها عنـ.ـد.ما يفيق بإذن الله؟
اجابها بتبرم:.

نورا. ليس هذا الوقت المناسب. يمكنك الذهاب مع عمتي لاحقاً.
أصرت على موقفها:
ولكنك أكثر من يعرف ما الذي يحتاجه جدي، وما يرغب بأن يراه عنـ.ـد.ما يستفيق. هيا. لن نتأخر.
عارضها مرة اخرى:
نورا. لكن. لا أستطيع تركهم والذهاب هكذا
اجابته بلهجة مقنعة:
لن نتأخر. الموضوع لن يستغرق دقائق. كما يمكننا أيضاً تجميع كل التحاليل والآشعة السابقة الخاصة بجدي. قد يحتاجون إليها لاحقاً.

اقتنع بكلامها الذي وافق شعوراً بداخله يحثه على الهرب من المستشفى وما تمثله من خطوة على الطريق لفقدان وحرمان جديد...
وصلا سريعاً إلى قصر الجيزاوي. وتحرك رؤوف متوجهاً نحو غرفة جده بينما سألته نورا:
هل أعد لك قدح من القهوة، حتى تنتهي من جمع أشياء جدي؟
اجابها بامتنان:
سيكون ذلك رائعاً. شكراً لكِ.

توجه إلى غرفة جده بخطوات سريعة سرعان ما تباطئت أمام غرفة جده وهو يفتحها ببطء وتردد كأنه لا يستطيع تصديق أنه لن يجده خلف ذلك الباب. لن يستقبله بتلك النظرة المتفحصة التي تصل لأعماقه وتكشف ما بداخله بسهولة. قد لا يكون أغدق عليه الحنان أو أسرف في بثه عواطفه. ولكنه الأب الوحيد الذي امتلكه يوماً. ربما لم يشعر عند وفاة والده بقسوة تلك اللحظة فلقد كان أصغر سناً من أن يدرك ذلك الحزن. ولكن ان يفقد جده الآن، يشعر أن ذلك يدمره. يفقده توازنه. يدخله في دائرة حرمان جديدة. احساس جديد بالفقد. ودوامة أخرى من المشاعر.

أعدت نورا قدح القهوة كما يحبها رؤوف وتوجهت نحو غرفة جدها لتجده واقفاً في نافذة الغرفة شارداً عما حوله ويقبض بشـ.ـدة على مسبحة الجد وكأنه يستدعيه من خلالها.
وضعت قدح القهوة على إحدى الموائد الجانبية وتوجهت لتقف خلفه وتلف ذراعيها حوله تضمه لها بقوة وهي تهمس:
سيكون بخير. سيكون بخير.
وافقها بإيماءة بسيطة من رأسه وهو يضم نفسه لها فأحكمت ذراعيها حوله وهي تسأله:
هل أنت بخير؟ كيف تشعر؟
أجاب بخفوت:
لا أعلم.

عادت لتسأله:
هل الأمر بتلك الصعوبة؟ أن تعبر عما تشعر به. عما يجول بداخلك؟
لم يجبها فضغطت على صدره تطالبه بمواجهتها. وهي تجيبه عن سؤالها:
شعورك بالخوف والقلق من فقدان جدي لا يقلل من هيبتك. ولا يضعف من شخصيتك.

أدارت جسده وهو مازال بين ذراعيها حتى أصبح في مواجهتها فلمحت ملامح وجهه المنقبضة والقلق العاصف المختلط بشعور بالضياع ولأول مرة تلمحه في عينيه. لم تعرف كيف تتصرف. فخبرتها في الحياة لم تؤهلها للتعامل مع موقف بهذا التعقيد فقررت اتباع غريزتها تلك التي أخبرتها أنها يجب عليها أن تمنحه الراحة والأمان. فضمته بقوة وهي تلف ذراعيها حول عنقه:.

حبيبي. من غير الممكن أن تظل قوياً طوال الوقت. يجب أن تسمح لنفسك بقليل من الخوف والقلق. والحزن. لا تحرم نفسك من الإحساس بتلك المشاعر الإنسانية.
ضمها بقوة وهو يرفعها بين ذراعيه ويهبط بها على الفراش. يضم نفسه اليها ويخفي وجهه في صدرها وبينما هي تمرر أصابعها على خصلات شعره بحنان شعرت بدمـ.ـو.عه تجري ساخنة على صدرها.
فتحت نورا عينيها ببطء لتقابلها ملامح رؤوف وهو ينظر إليها ببرود. وسمعته يأمرها بجفاء: استعدي بسرعة، فيجب علينا العودة سريعاً للمستشفى.
سألته بخوف وهي تتغافل عن جموده: هل جدي بخير؟
رد باختصار قبل أن يغادر مسرعاً: كما هو.

صدمت نورا من تصرفه وانصرافه السريع. ماذا يحدث؟ لقد ظنت الليلة الماضية أنهما عبرا مرحلة البرود والجفاء بعد سقوطه بين ذراعيها يذرف دمـ.ـو.عه على صدرها. وسقطت كل الحواجز التي كان يشيدها ببسالة حول مشاعره لينكشف لها الطفل الخائف من ألم الحرمان واليتم مرة أخرى. لم يفاجئها انهياره بقدر ما صدمها قوة هذا الانهيار وهو ينتفض باكياً بين ذراعيها كطفل صغير يخشى فقدان عائلته.

ألجمتها الصدمة للحظة إلا أن غريزتها سرعان ما دفعتها لتحتضنه بقوة وهي تربت على كتفيه وتملس خصلاته الثائرة كجسده الذي كان ينتفض بفعل شهقاته العنيفة.

لم تحاول أن تتكلم. فكل الكلام لا معنى له أمام انهياره العنيف. فتركته يفرغ كل ما بداخله على صدرها وهي تكاد تحبس أنفاسها تخشى أن يشعر بوجوده بين ذراعيها. يتذكر أنه يضغطها بجسده في الفراش فيمتنع عن إفراغ شحنة حزنه وألمه. تريده أن يتخلص من تلك الشجون فهو لن يتحمل المزيد.

عيناه التائهتان والجميع يلتف حوله في المستشفى يسأله المشورة أخبرتاها بوضوح أنه وصل إلى حافة تحمله، لذلك أصرت على البعد عنهم بأقصى سرعة وليظنوا ما يحلو لهم. هو ما يهمها. وهو فقط. لقد أوشك على الإنهيار بالفعل ولم تكن تسمح لأي شخص أن يشهد ذلك الإنهيار. وهو لم يكن ليسامح نفسه لو سقط منهاراً أمام أي شخص، وما هي متأكدة منه أنه لن يسامحها لأنها شهدت لحظة ضعفه.

بدأت شهقاته تهدأ قليلاً. فعلمت أنه بدأ يعود للواقع ويدرك ما قام به. مرت فترة سكون كادت أن تسمع فيها صوت الهواء وهو يتحرك في الغرفة. فسكنت تماماً تنتظر ثورته، إلا أنها شعرت بذراعيه تشتدان حولها لتضمها إليه ولكن هذه المرة لم تكن ضمة مواساة. لم يكن يبحث عن دعم ذراعيها، بل عن عاطفتها. عن تجاوبها. وتأكدت من ذلك عنـ.ـد.ما تحركت شفتاه على صدرها تنشر قبلات لاهبة وهو يزيد من ضغط ذراعيه حولها حتى كادت أن تشعر بعظامها تتفتت من قوته...

أدركت أنه غير مدرك للقوة التي يستخدمها فبدأت تمسد شعره برقة وهي توزع قبلاتها على وجهه تحاول أن تمنحه الراحة والحنان حتى يخفف من القسوة التي يعاملها بها ولكنها سرعان ما وجدت شفتيه تزحفان لتصلا إلى شفتيها فيضغطهما بعنف غريب عليه. همست بضعف:
رؤوف...
وصلها صوته وهو يقول بشراسة حارقة:
أحتاجكِ يا قمري. أحتاجكِ بشـ.ـدة.

كان صوته يحمل نبرة يائسة وهو ما يزال يتمسك بها بقوة. ولأول مرة يُشعِرها بحاجته إليها، بل ويصرح بذلك أيضاً فلم يكن أمامها إلا الإستسلام له تمنحه ما يحتاج من سكينة وراحة. وحب. حبها الذي همسته له عدة مرات وهو لم يمانع في سماع تلك الهمسات، بل كلما همست له بحبها كان يزداد جنوناً واندفاعاً نحوها. اندفاعه اتسم بالعنف، بل القسوة. لأول مرة تلتمس منه تلك القسوة في علاقتهما الحميمة. وكأن لمساته خرجت عن سيطرته، فبدلاً من الحماية والدلال والشغف الذي تستشعره منه دائماً. تلقت القسوة والألم.

انتهى جنونه سريعاً فاستلقى على ظهره لاهثاً وهو يغطي عينيه بذراعه يخفيهما عنها وكأنه غير قادر على مواجهتها بعد تلك العاصفة التي سحبها إليها. فهو لأول مرة يفكر في نفسه أولاً. ويأخذ كل ما تهبه إياه بدون أن يفكر بالعطاء في المقابل. لقد تصرف مثل وغد أناني وهو يكره نفسه لذلك. لكنه كان بحاجة إليها بشـ.ـدة. حاجة لم يستطع تفسيرها، بل لم يرد ذلك. فهو لم يكن في احتياج لامرأة. لعلاقة. بل لوجودها هي معه ولإحساسه بها بين ذراعيه، وكأنها تقرأ أفكاره. وجدها تحرك رأسها لتضعها على كتفه وشعر بيدها الصغيرة تتسلل بهدوء على عضلات صدره وهي تهمس بخفوت: هل تعلم شيئاً؟

لم تنتظر إجابته واسترسلت: ليلة زفافنا. عنـ.ـد.ما اكتشفت أن جناحنا يقع في الطابق الأرضي. انتابني غضب شـ.ـديد. فقد شعرت بالإهانة وبجرح عميق لكبريائي حتى أنني توعدتك سراً وأقسمت أن أجعلك تطلب مني الانتقال إلى الطابق الأعلى لأتخذ مكاني الملائم كسيدة للمنزل، مثلها تماماً.

نظر إليها باستفهام وهو ما زال متمسكاً بصمته. فحركت رأسها قليلاً لتضعها على صدره قريباً من قلبه فكاد صوت دقاته العالية والسريعة أن يصم أذنيها وأكملت سرد قصتها: لقد فكرت في التراجع عن قسمي لاحقاً وخاصة بعدما لمحت الحديقة الداخلية التي تربط الجناح بغرفة مكتبك. فهي رائعة، بل مذهلة لقد أحببتها على الفور. ولكن ما حسم الأمر بداخلي فعلاً. وجعلني أتمسك بموقع جناحي بالطابق الأرضي. اكتشافي أنني استطيع مراقبتك والإطمئنان عليك من خلال نافذتينا المتواجهتين. فمراقبتي لك وأنت تعمل. وخاصة في الأيام التي بعدت عني فيها، هي ما ساعدني على تخطي بعدك وجفائك. فكان أن فضلت اطمئناني عليك واحساسي بتواجدك معي ولو عن بعد على انتصاري عليها في معركة السيادة على المنزل...

تجمد رؤوف تماماً تحت لمساتها الدافئة وهو لا يصدق ما تحاول إخبـ.ـاره به. هل تقصد ما فهمه من كلامها؟! هل تقصد أنها فضلته عن نفسها. أنها قدمته هو على كبريائها! هل هذا صحيح؟ هل يمثل لها تلك الأهمية!
وللمرة الثانية ترد على أفكاره التي لم ينطق بها وهي تتمتم:
أنت أهم وأغلى عندي من كل شيء، فقط صدق هذا.
تلك المرة عنـ.ـد.ما لفها بذراعيه مقرباً إياها من صدره ومرتشفاً رحيق شفتيها. كانا بالفعل يتبادلان الحب.

حاولت نورا سحب نفسها من ذكريات ليلتها الحافلة فأغمضت عينيها تعتصرهما حتى لا تجري دمـ.ـو.عها على وجنتيها وهي تكمل استعدادها حتى تصطحبه للمشفى محدثة نفسها بألم.
إلى متى؟، إلى متى تمتد حلقة جفائك التي لا تريد كسرها ولا تسمح لي باختراقها؟ .
تحركت بألم تبحث عن رؤوف الذي كان يجوب الطابق السفلي كمن مسه الجنون. ضـ.ـر.ب إحدى الموائد الجانبية بعنف شـ.ـديد مما تسبب في تكسير بعض التحف التي سقطت أرضاً.

كان الغضب يمزقه، بل يحرقه حرقاً. كيف سمح بما حدث الليلة الماضية؟ كيف يسمح لنفسه بهذا الانهيار. وأمامها. بين ذراعيها! هي من دون الجميع تشهد على دمـ.ـو.عه. على لحظة ضعفه وانهياره.

لقد ظن أنه يملك بأس وثبات جده، الذي تلقى خبر وفاة ولده وهو ثابتاً. صامداً ورابط الجأش. ولكن أثبتت الأيام أنه ضعيف، بل أضعف مما تخيل يوماً، فلقد سقط منهاراً عند تفكيره أنه قد يفقد جده، لم يتخيل أبداً أن ينتابه مثل ذلك الشعور. لقد شعر بالهلع، بل الرعـ.ـب حتى أنه لجأ إلى ذراعيها يلتمس الدعم منها والراحة على صدرها.

هل انغماسه بها الليلة الماضية كان هروباً من هلعه. فراراً من ضعفه الذي لمسه لأول مرة الليلة الماضية وهو يواسي الجميع ويحل مشاكلهم، بينما كان في أعماقه يتوق لربته رقيقة تطمئنه وتهدأ من مخاوفه. لضمة من صدر حنون تخبره ألا يخاف ولا يجزع.

حتى نعمـ.ـا.ت. حتى مواستها له جاءت رسمية وهي تحثه على الصمود من أجل الجميع. هل لهذا السبب لم يلجأ لنعمـ.ـا.ت تلك المرأة التي استوعبته لسنوات، كلا. لقد أراد نورا. تاق إليها. كان بحاجتها مهما حاول أن يهرب من تفسير ما شعر به أو يخدع نفسه بأن اندفاعه الغير مسبوق نحوها كان سببه طول فترة بعده عنها. إلا إنه لن يستطيع إنكار السلام الذي وجده بين ذراعيها. والراحة التي منحتها له بدون حساب. وهو ينهل من حبها، يأخذ كل ما تمنحه إياه متغاضياً عن العطاء.

كيف له أن يواجه عينيها بعد ما شعرت بحاجته إليها التي صرح بها بكل وضوح ليلة أمس، وحتى بعد اعترافاتها المتوالية بالحب. يجد نفسه الآن في الموقف الأضعف وهروبه من أمامها منذ قليل هو أكبر دليل على ضعفه ذاك. لقد انكشف أمامها. تعرت روحه تماماً. خرج الطفل الخائف بداخله إلى العلن وكانت هي من أخذت بيده لتخرجه من ظلمـ.ـا.ت الحرمان إلى ضياء الحب والاحتواء. ولكن يبقى السؤال الصعب. كيف يمكن لأي رجل بعنفوانه أن يواجه امرأته بعد أن بكى بين ذراعيها كالطفل الخائف؟ امرأته التي تقف بعيداً الآن مترددة ولا تعرف كيف تتواصل معه. تحاول ألا تشعره بوجودها. تريده أن ينفث عن عصبيته وغضبه قبل أن يذهبا معاً ويواجها الجميع باختفائهما الغير مبرر. والذي لن يمر بسهولة، ولكنها لم تعلم أنه شعر بها منذ أن خطت بقدميها خارج غرفة جدهما.

أجفلت عنـ.ـد.ما وصلها صوته:
مستعدة؟
أجابته بخفوت:
نعم.
ما أن وصلا إلى المشفى حتى اندفع إليه منذر وقاسم يسألانه بلهفة:
رؤوف! أين كنت؟
أجاب بغموض:
ذهبت لإنهاء بعض المهام الخاصة بالعمل. هل جد جديد؟
سأله قاسم بغيظ وهو يرمق نورا بنظرة ذات معنى:
وهل أخذت تلك المهام الليل بأكمله؟
شيئاً ما في نبرة قاسم لم ترق لرؤوف. أو ربما في نظراته نحو نورا التي ألصقت نفسها به. مما دفعه للرد بجفاء:
هذا شأن خاص بي.

عاد قاسم يتأمل نورا مرة أخرى وهو يخاطب رؤوف بطريقة مستفزة:
يبدو أن تلك المهام كانت عاجلة بالفعل. ولم تستطع الانتظار لأدائها.
ضغط رؤوف على أسنانه بغيظ وقد وصله المغزى من كلام قاسم ولكنه قرر تجاهله:
يجب أن يتواجد أحدنا بالشركة اليوم، فلتذهب أنت يا قاسم.
أجاب قاسم بحدة:
ولماذا أنا؟
أنت المسئول عن الشئون القانونية، ويجب أن تراجع العقد الخاص بالصفقة الأخيرة. ماذا بك؟
أجابه قاسم بحدة:.

كلا. سأبقى. سأجري عدة مكالمـ.ـا.ت لأسوي الأمور. ولكني لن أذهب.
كانت نعمـ.ـا.ت تراقب ما يحدث عن بعد. واستطاعت أن تفهم من تعابيرهم أنهم يتجادلون حول أمر ما. لم تهتم بهذا، فما لفت انتباهها هو ملامح رؤوف المبهمة. ولغة جسده الغامضة. فهو يبدو محتداً وعصبياً، ولكن في نفس الوقت مسيطراً وهادئ بل يكاد يكون مسترخياً قليلاً عن ليلة أمس.

نقلت بصرها إلى السمراء الصغيرة بجانبه تلاحظ أن ملامحها تنطق بالاهتمام والقلق وهي ترمقه بنظراتها الجانبية، فأدركت أن نورا هي من سحبته من بينهم جميعاً لتستأثر به لنفسها.
تحركت نحوهما وهي تستشيط غضباً من اختفائه ليلة أمس. وانعكس هذا على لهجتها الحادة:
رؤوف. أين كنت؟
أجاب بحدة:
ماذا بكم جميعاً؟ هل يجب أن أتواجد أمامكم طوال الأربع والعشرين ساعة؟! ألا أستطيع الحصول على بعض الراحة؟

تلعثمت نعمـ.ـا.ت أمام حدة رؤوف:
بالط. ب. ع. ولكني لم أعتد اختفائك في الأوقات العصيبة.
أجاب بغضب وهو يتحرك مبتعداً:
لكل شيء بداية.
ثم ما لبث أن عاد وكأنه تذكر أمراً ما. فسحب نورا من ذراعها. متوجهاً نحو عمه. تاركاً نعمـ.ـا.ت وهي تتميز غيظاً وغلاً.
خاطب نورا بحدة فهو يريدها بعيداً عن قاسم. بعيداً جداً:
انتظريني هنا.
أجابت في خفوت وهي متعجبة من تصرفه:
حسناً.

بعد أن اطمئن من الطبيب المختص بحالة جده أن وضع هذا الأخير مستقر. وأنه على وشك نقله إلى غرفة عادية بدلاً من غرفة العناية المركزة. خرج إلى حديقة المشفى ومشهد قاسم وهو يرمق نورا بتلك النظرات الغريبة. يتكرر في ذهنه مراراً وتكراراً. ماذا وراء تلك النظرات؟ وهل كانت موجهة نحو نورا فقط؟ أم نحوهما معاً، رداً على غيابهما الطويل؟
هل هذا ما طلبته منك يا رؤوف؟

التفت ليجد نعمـ.ـا.ت تواجهه وملامح الغضب تبدو عليها. فسألها بحيرة:
ماذا هناك يا نعمـ.ـا.ت؟
أجابته بغضب:
ألم أطلب منك أن تحافظ على كرامتي وخاصة أمام، زوجتك؟
أجابها بإرهاق وهو يمسح وجهه بكفيه:
نعمـ.ـا.ت. من أجل الله. هل تظنين أن الوقت مناسب لحوار كهذا؟
أجابته بغيظ:
وهل كان الوقت مناسب لتختفي مع، زوجتك. لتفعلا ما يحلو لكما؟

انتفض جسده بصدمة من قولها. وأخذ يتأملها للحظات. يعلم أنها غاضبة لاختفائه ليلة أمس ولكنه لا يدري لما لم يشعر بتعاطف مع غضبها هذا وبدلاً من ذلك أجابها بهدوء:
لا الوقت ولا المكان مناسبين للحوار الذي تريدينه.
قطع كلامه وصول نورا اللاهث:
رؤوف. لقد استفاق جدي، وهو يطلب رؤيتك.
أزاح نعمـ.ـا.ت من طريقه متوجهاً نحو جده، وتبعته نورا ولكن نعمـ.ـا.ت استوقفتها:
لا تظني أنكِ ستمتلكينه، فقط لأنه مهووس بجسدكِ الشاب.

رمقتها نورا باشمئزاز من عبـ.ـاراتها واستمرت في طريقها. لكنها التفتت لتقول من خلف كتفها:
لا تجعليني أفقد آخر ما أكنه لكِ من احترام.

وقف رؤوف على باب غرفة جده متردداً في الدخول إليه. لا يريد أن يراه في تلك الحالة الضعيفة. صحيح أن جده مر ببعض الأزمـ.ـا.ت الصحية من قبل، إلا أن تلك الأزمة الأخيرة كانت أشـ.ـدهم. وأكثرهم خطراً على حياته.
سمع صوت جده يناديه بخفوت:
رؤوف. تعالى يا بني.
تقدم رؤوف بسرعة. وركع بجانب الفراش:
حمداً لله على سلامتك يا جدي. لقد أثرت قلقنا جميعاً.
ربت الجد على كتفه بحنان:.

لا تقلق ولا تحزن يا بني. فأنت لم تعد وحيداً الآن، فلديك زوجة وقريباً سيكون لديك أبناء أيضاً. لقد طلبت رؤيتك الآن لأسألك شيئاً يا رؤوف.
سل ما تشاء يا جدي.
سعل العجوز بجهد:
رؤوف. أريدك أن تسامحني يا ولدي. فأنا أعلم أنني ظلمتك.
قاطع رؤوف كلام جده وهو يقول:
أنت لم تجبرني على شيء يا جدي. أنا كنت موافق على كل شيء.
هل ترى أنني لم أجبرك؟ ولكني لم أتح لك الخيار أيضاً.
أحنى رؤوف رأسه ليقبل يد جده قائلاً:.

دعك من هذا الكلام الآن. فصحتك هي الأهم. وتأكد لو أن الزمن عاد للوراء لم أكن لأغير شيء مما حدث.
تمتم جده بخفوت:
بـ.ـارك الله فيك يا بني. آمل أن تكون شموس بنفس سماحتك. هل هي بالخارج؟
نعم يا جدي.
اطلب منها أن تأتي هي الأخرى.
دخلت شموس إلى غرفة العجوز بخطوات مترددة يرافقها عبد السلام، ولكن ما أن رآه والده حتى طلب منه أن يدعه مع شموس بمفردهما...

تأففت نورا بضيق وهي جالسة بجانب سهير أمام غرفة جدهما:
يا الهي. أصبحت لا أطيق رائحة تلك المطهرات. لقد مر أكثر من شهر. ألن يسمحوا لجدي بالخروج من ذلك المكان؟
ردت عليها سهير بنزق:
لماذا تصرين على الحضور يومياً، إذا كنتِ تنزعجين هكذا من رائحة المشفى؟
أجابتها نورا بغيظ وهي ترمق رؤوف ومنذر وهما يقفان مع إحدى الممرضات والتي توزع ابتسامـ.ـا.تها بسخاء للرجلين:.

وهل أتركه لتلك الحرباء التي تستمر في مغازلته بلا هوادة؟
سألتها سهير بخفوت:
ولم تقلقين؟ إن رؤوف لا يبدي أي اهتمام بها.
بعكس منذر الذي يبدو كالأبله أمام محاولاتها الحقيرة.
كان هذا ما قالته سهير في نفسها. بالطبع لم تسمعه نورا التي هبت فجأة من مكانها، فسألتها سهير:
أين تذهبين؟
أجابتها نورا بغيظ:
ألا ترين تلك الحقيرة؟، سوف أذهب لأقـ.ـتـ.ـلع عينيها.

وجهت سهير نظرها حيث تتجه نورا، فوجدت تلك الممرضة تمسد ذراع رؤوف كما لو كانت تنظف كمه من بعض الأتربة الوهمية. ولكن الحق يقال كان رؤوف يحاول جذب ذراعه منها بشـ.ـدة عنـ.ـد.ما وصلت إليهما نورا والتي كانت تحمل كوباً من الشاي الساخن لا تدري سهير من أين التقطته في طريقها لهما.

أدركت سهير ما تنتويه نورا وتحركت مسرعة لتمنعها. ولكن ما أن اقتربت منهم حتى لاحظت أن نورا ترنحت فجأة وتمايلت نحو الممرضة ليسقط كوب الشاي بمحتوياته الساخنة على زيها الأبيض النظيف، وهي تشهق من الصدمة:
أيتها المـ.ـجـ.ـنو.نة ماذا فعلتِ؟
أجابتها نورا ببراءة مزيفة:
آسفة. أظن أنني أصبت بدوار بسيط. يبدو أن الأجواء هنا تسبب لي الغثيان.
ابتعدت الممرضة في غيظ بعد أن فهمت تلميح نورا المزدوج بينما سألها منذر بعتاب:.

لما فعلت ذلك يا نورا؟ إن وداد طيبة القلب وتولي جدي رعاية خاصة.
استفهمت نورا:
وداد؟! أتقصد تلك الح. تلك الفتاة؟ نعم أرى أنها تولي الجميع رعاية خاصة!
ثم وجهت كلامها إلى رؤوف:
أليس كذلك؟

تأملها رؤوف للحظة. ليدرك أنها تشعر بالغيرة. ولكن لم؟ هل تظن أنه يهتم بتلك الفتاة؟ إنه لا يهتم إلا بها هي. وهي تعلم ذلك جيداً. لحظة. هل تعلم ذلك بالفعل؟ هز رأسه بحيرة. بالطبع تعلم. فلا يعقل ألا تشعر كم هي غالية وأثيرة عنده...
رؤوف!
انتبه من شروده وهو يقول:
أعتقد أنها ممرضة بـ.ـارعة. لقد أوصى الطبيب بها كمرافقة طبية. لجدي في المنزل.
شحب وجه سهير بينما شهقت نورا بحدة:
ماذا؟ كلا هذا مستحيل.

أجاب رؤوف بجفاء:
إنها ممتازة. وكما قال الطبيب هي الأفضل. وسوف يحصل جدي على الأفضل. لا مجال للنقاش.
ثم جذبها من مرفقها مردفاً:
هيا بنا. لقد تأخرت بالفعل، ولدي مواعيد هامة.
تمتمت نورا بحنق:
الآن تأخرت. وعنـ.ـد.ما كنت تضاحك الحرباء كنت تمتلك الوقت.
سألها رؤوف بحيرة:
ماذا تقولين؟
لا شيء. هيا بنا حتى لا تتأخر.

في السيارة كان الصمت يلفهما كالعادة، فلقد اعتصم رؤوف بالصمت منذ دخول جده المشفى. واقتصرت حواراته مع نورا. على كلمـ.ـا.ت معدودة، كانت أغلبها أسئلة منه عما تعرف من معلومـ.ـا.ت عن لقاء شموس بعبد الرؤوف بالمشفى. وهي معلومـ.ـا.ت لم تكن نورا تمتلكها. لذا كف عن السؤال مرغماً. ولكنه استمر في التباعد والانزواء. بعيداً عن الجميع ومتعللاً بانغماسه في العمل.

هذا أشعر نورا أنهما يدوران في دائرة مغلقة من الجفاء، فهو عاد لسابق عهده قبل دخول جدهما المشفى. ولكن الفارق أنه لم يمتنع تلك الفترة عن الدخول إلى جناحهما. بل العكس هو الصحيح. فما يظهره من جفاء وبرود طوال النهار. يتبدل في عتمة الليل إلى جنون، بل هذيان. فهو يغرقها بعاطفته ليلاً. يبسط سطوته عليها ويتلذذ باستشعار تأثيره بها ولا يتركها كل ليلة إلا بعد أن يسمع اعترافاتها بحبه. وترديدها لاسمه مع كل نفس تتنفسه.

كانت تتعجب من ذلك في البداية ولم تفهم ماذا أصابه، حتى أدركت أن تلك هي طريقته لينسيها انهياره ودمـ.ـو.عه بين ذراعيها. يريد أن يفرض تأثيره الرجولي عليها ويرسخه مزيحاً من ذهنها أي أفكار قد تروادها عن ضعفه أو هشاشة نفسيته نتيجة مرض جدهما.

لقد كان يستغلها، بل يستغل حبها له، يستعمله ضدها. صدمها ذلك الاكتشاف في بدايته، ولكنها تفهمت حاجته كرجل لأن يظهر الأقوى وأمامها هي بالذات. هي الزوجة التي تصغره بعدد من السنوات. والتي كانت تراه دائماً كرجل صلب ومسئول. فقررت أن تمنحه قليلاً من الوقت حتى يظن أنها نسيت لحظة ضعفه، وبعدها لن تسمح له باستغلال ما تكنه له من حب وعشق. لن تجعله يبتذل ذلك الحب أو يتجاهله.

أفاقت على هزة من يده لتنتبه أنهما وصلا بالفعل أمام باب الفيلا وعلى ما يبدو أنه جالس يتأملها منذ فترة. أجلت صوتها وهي تقول:
سوف أذهب. إلى اللقاء.
أجابها بهزة من رأسه وهو يراقبها تترجل ببطء، يبدو أنها مجهدة بالفعل ولم تكن تتظاهر في المشفى. راقب خطواتها المتعثرة ليفاجئ بها تتمايل بشـ.ـدة غير قادرة على الوقوف فقفز مسرعاً من السيارة ليتلقفها بين ذراعيه قبل أن تسقط أرضاً.

حملها برفق حتى وضعها على فراشهما. وهو يتأمل ملامحها الهادئة بوداعة. تختلف عن شراستها منذ قليل مع وداد.

يا الهي. لقد سقط قلبه بين ضلوعه مع سقوطها أرضاً. هل هي مريـ.ـضة فعلاً؟ إنها لم تكن على ما يرام في الفترة الأخيرة. كما أنها تبدو شاحبة جداً. ولكنها أيضاً جميلة جداً. فهي تبدو ناعمة ووديعة، بل رائعة. شعرها الغجري الذي فتنه من أول لحظة وهو يستنشق رائحته، لحظتها عرف كيف ممكن للرجل أن يعشق شعر امرأة، أنفها الصغير المتكبر. وشفتيها.
آه.

همسة صغيرة منها أفاقته قبل أن تشطح به أفكاره بعيداً، فتحرك ليتناول إحدى العطور ويرشها برفق أمام أنفها حتى تستفيق...
رمشت بعينيها ببطء وهي مازالت تتأوه وتحرك رأسها برفق:
آه. ماذا حدث؟ أين أنا؟
أجابها بقلق:
لقد فقدتِ وعيكِ؟ ماذا بكِ؟ هل أنتِ مريـ.ـضة فعلاً؟
أجابته بإرهاق:
لا أعلم. يبدو أن رائحة المشفى أصبحت تزعجني بشـ.ـدة. لقد شعرت ببداية الدوار في اللحظة التي وصلت بها للمشفى.
رفع حاجبه وهو يسألها:.

إذاً مشهد سكب الشاي لم يكن متعمداً!
أجابته بغيظ:
طبعاً. أنا شعرت بالدوار بالفعل، وإلا كنت قذفت بمحتويات الكوب في وجهها وليس على ردائها.
كتم ضحكته بصعوبة. إنها دائماً تنجح في استخراج البسمة منه. وربت على شعرها يهدئها:
حسناً. اهدئي. اهدئي. لا داعي للانفعال.
أجابت بغيظ:
لا داعي للانفعال! ألم ترى كيف كانت تلك الحرباء تتمسح فيك؟ وأنت سمحت لها بذلك.
أمسك ذقنها بأصابعه وهو يضغط عليها برقة:.

لا تدعي غيرتكِ تعميكِ عن الحقيقة. أنتِ تعلمين جيداً أنني لم أسمح بذلك.
من السهل عليك قول ذلك. فأنت لا تعرف الشعور بالغيرة.
ثم تحركت لتنام على جانبها:
أنا أشعر بالنعاس. أعتقد أنني سأخلد للنوم قليلاً.
فوجئت به يلفها بذراعيه وهو يعدل وضعها حتى تصبح رأسها على ذراعه وذراعه الأخرى يمسد على شعرها بحنان وهو يقول لها:
نامي يا نورا. ارتاحي يا طفلتي.
وهمس لنفسه.

وما أدراكِ أني لم أعرف الشعور بالغيرة؟ أنا لم أعرف ذلك الشعور إلا معكِ أنتِ يا قمري.
في مرحلة ما بين النوم واليقظة تعجبت نورا من احتضانه الحنون لها حتى أنها ظنت أنها تتخيل ذلك. وأن حلمها الذي يصاحبها في الفترة الأخيرة يتحقق ورؤوف يضمها لصدره فقط كي يشعرها بالراحة بدون محاولته لفرض سيطرته الرجولية عليها.

أخذت شموس ترتشف الشاي بهدوء وهي مدركة لنظرات عبد السلام المركزة عليها. فهو على مدار الشهر الماضي وهو يواصل ضغوطه عليها لتخبره بما تم بينها وبين والده، وهي تراوغ وتتهرب منه. حتى نورا ابنتها ظلت تلح عليها لتعرف ولكنها أسكتتها تماماً عنـ.ـد.ما اتهمتها أنها أصبحت تعمل كجاسوسة لصالح رؤوف زوجها. لكن عبد السلام لا يكل ولا يمل يرغب في المعرفة وهي تثابر على التملص من أسئلته.
ابتسمت لدى تذكرها كلمة عمها.

لطالما ظننت أنكِ الأقوى والأذكى يا شموس. أذكى حتى من قمر ابنتي. ولم تخيبي ظني قط.
كانت تلك إحدى جمل الحوار الذي دار بين الاثنين والذي يتوق الجميع لمعرفة تفاصيله، فبعد أن تركها عبد السلام بمفردها مع والده. تحركت حتى وصلت للمقعد الموجود بجانب الفراش وتمتمت بصوت خافت وبنبرة تكاد تكون رسمية:
حمداً لله على سلامتك يا عمي.
أجاب العجوز وقد بدأ يستعيد شيئاً من قوته:
سلمك الله يا شموس.

ثم سكت قليلاً. ليتكلم بصعوبة وكأن ما سيقوله في غاية الصعوبة:
شموس. يا ابنتي. كنت أريد أن، أط...
قاطعته شموس بحسم:
كلا يا عمي. كلا. أرجوك لا تطلب الصفح والغفران.
سألها بألم:
أتستكثرين الراحة على عمكِ في أيامه الأخيرة؟
أجابت بحدة:.

وهل منحي لك الغفران والصفح هو ما سيوفر لك الراحة يا عمي. لا أعتقد، بل هذا سيزيد من ألمك. أن تشعر بأنك تسببت لي بالألم والجرح العميق ورغم ذلك كنت أنا من السماحة أن أمنحك صك غفراني. كلا يا عمي. سيزيد ذلك من همك، بل من ذنبك. هل هذا ما طلبته من رؤوف؟ السماح! أراهن أنه أخبرك أن لا داعي لذلك، وأنه يوافقك على كل قراراتك، أليس كذلك؟
قال العجوز بإعجاب:.

لطالما ظننت أنكِ الأقوى والأذكى يا شموس. أذكى حتى من قمر ابنتي. ولم تخيبي ظني قط.
سألته شموس بابتسامة:
لماذا تظن ذلك يا عمي؟ بسبب رفض عبد السلام الخضوع لأوامرك قديماً؟ هل تعتقد أن ذلك بسببي؟
رد العجوز ابتسامتها وبدا وأن تلك المناوشة بينهما تزيد من قوته شيئاً فشيء:
أنا لا أظن ذلك. أنا أعلم ذلك. وأنتِ كذلك.

أنت تتحدث عن محاولتك الأخيرة لإقناع عبد السلام بالزواج من نعمـ.ـا.ت. ذلك الكلام الذي قاله. لمن قام بالواسطة بينكما.
سأل الرجل بدهشة:
أنتِ تعلمين عن ذلك؟!
ضحكت بمرارة شموس:.

عن إرسالك رؤوف حتى يفكر عبد السلام مرة ثانية في أمر تلك الزيجة، خاصة وأن زوجته أصبحت غير قادرة على إنجاب أطفال؟، عن عدم قدرتك على طلب ذلك منه شخصياً، فلجأت لحفيدك ليكون رسولاً بينكما؟ عن رفض عبد السلام القاطع لذلك وإخبـ.ـاره لرؤوف أنه لن يستبدلني بنساء الدنيا كلها؟ نعم. نعم يا عمي أعلم بشأن ذلك. وأكاد أكون متأكدة أن ذلك هو سبب موافقة رؤوف على زواجه من نعمـ.ـا.ت قديماً، فالمسكين شعر أنه خذلك مرة بعدما فشل في إقناع عمه بتلك الزيجة.

قال عبد الرؤوف بلهجة تقريرية:
قمر من أخبرتكِ.
نعم. هي من أخبرتني. فقد كانت تحاول رفع معنوياتي بعدما فقدت ابني.
وتهدج صوتها وهي تقول:
لقد فقدت ابني يا عمي. وذلك قضاء الله وقدره. اللهم لا اعتراض.
تعثرت الكلمـ.ـا.ت على شفتي العجوز:
شموس. يا ابنتي.
مسحت شموس بعض الدمعات التي بدأت تسيل على وجنتيها وهي تقاطعه:.

لقد أخبرتك يا عمي من قبل. بالله عليك لا تسأل عن الغفران. كما أنني متأكدة أن ذلك ليس السبب الوحيد لاستدعائي. أنت تريد الإطمئنان. على أحفادك. الذكور أعني. منذر ورؤوف. أليس كذلك؟
أنتِ تفهمينني جيداً يا شموس. لا يعجبني حال الأولاد. فهم جميعاً يبدون وكأن التعاسة تعشش فوق رؤوسهم، حتى منذر وسهير.
وسكت قليلاً ليضيف بنبرة ذات معنى:
العاشقان.
ضحكت شموس:.

بالطبع. أنت على علم عن ارتباطهما ببعضهما. فأنت على معرفة بكل شيء. لكني أطلب منك يا عمي، بل أتوسلك. أن تتركهما يدبران حياتهما. جميعاً بلا أي تدخل. أرجوك، لا تتدخل...
أومأ العجوز:.

لا تقلقي يا شموس. فأنا متأكد أن أحفادي بين أيدٍ أمينة. فبناتك ورثن منك قوتك وضعفك. نورا تجيد استخدام الوجهين، ولكني أطلب منكِ أن تعلمي سهير كيف تستخدم وتستغل قوة تأثيرها على زوجها. بدلاً من إظهار ضعف مستمر. صدقيني. لن يحتمل زواجها طويلاً. اعتبريها نصيحة من رجل عجوز.
سكتت شموس على مضض فهو محق، سهير تحتاج إلى جلسة مصارحة طويلة. فأحوالها لا تعجبها بتاتاً.
انتبهت على صوت عبد السلام يسألها:.

ألن تخبريني بما قاله لكِ والدي؟
فاجأته بقولها:
عبد السلام. أعتقد أنه يجب أن تحاول محادثة منذر. وأنا سأتولى الكلام مع سهير. فوضعهما لا يعجبني...

استيقظت نورا بعدما افتقدت ذراعيه من حولها، فتحركت بتكاسل في فراشها. وهي تتساءل أين هو. مر بذهنها قوله أنه مرتبط بمواعيد عمل مهمة. فتأكدت أنه ذهب إلى عمله، وتركها...
أحبطت بشـ.ـدة من تصرفه. ألا يستطيع البقاء معها ويبتعد عن عمله الغالي حتى وهي مريـ.ـضة!..
حسناً. إنها فرصة لتتأكد من ذلك الهاجس الذي يزعجها مؤخراً...

تحركت بخفة تفتح أحد أدراج المنضدة المجاورة لفراشها. وهي تسحب منها تلك العلبة وتخرج منها محتوياتها وتتوجه نحو حمام غرفتها وهي تبتهل إلى الله في صمت...
أمسكت نورا العصا البلاستيكية تتأمل الإشارة الإيجابية التي تظهر أمامها بوضوح. حسناً. إنها حامل. لقد تأكدت الآن. رغم أن شكها كاد أن يصل لليقين. ولكن رؤية العلامة الإيجابية أمامها جعل الأمر يبدو حقيقياً أكثر.

تهالكت على الأرض بجوار باب الحمام تحتضن العصا البلاستيكية بشـ.ـدة إلى صدرها ودمـ.ـو.عها تتساقط على وجنتيها بدون إرادة منها. وتحركت يدها لتمسد بطنها بحنان وهي تفكر في طفلها القادم، بل طفلهما. لو صدقت حساباتها فيكون ابنهما تكون في تلك الأيام التي قضياها خارج نطاق الزمن في الإسكندرية.

تلك الأيام التي شعرت فيها أنهما زوجان طبيعيان يقضيان أجازتهما في عروس الثغر. استمرت في تمسيد بطنها وكأنها تريد التواصل مع طفلها. مشاعر قوية تنتابها نحوه. حب لم تتخيل وجوده وهي تشعر بوجود ثمرة حبها لرؤوف تنمو في أحشائها، فجزء من حبها لذلك الطفل يرجع إلى أن رؤوف هو والده. هو من شاركها تكوينه.

أغمضت عينيها تحلم بطفلهما. رأته يشبه رؤوف. في كل شيء بدءً من عينيه الخضراوين حتى التقطيبة بين حاجبيه. حنانه. ورقته. حتى قسوته التي اختبرتها مؤخراً. هي تعشق كل تفاصيله. لا تستطيع وصف مدى سعادتها وهي تحمل بداخلها جزء منه. الرجل الذي أحبته بكل قوة ومنحته بلا حدود من حبها وروحها ونفسها.

ترى ماذا ستكون ردة فعله على خبر حملها؟ هل سيسعد به لأنه الوريث الذي تلهث خلفه العائلة بأكملها؟ أم لأن زواجهما سيتكلل بوجوده ليجمعهما معاً. يدخلهما مرحلة جديدة في الحياة كأسرة صغيرة.
ترغب بشـ.ـدة أن يفكر فيه كهدية رائعة تتوج بها حبها له، لا كنتيجة حتمية لزواجهما.
دخل رؤوف إلى جناحهما يحمل صينية طعام وكوب من العصير الطازج. ولكنه فوجئ بها متهالكة على أرض الغرفة، فترك ما يحمله بيده وهرع نحوها.

نورا. نورا، ماذا بكِ؟
رفعت إليه عينين مغرورقتين بدمـ.ـو.عها وكل ما يتردد في ذهنها.
إنه هنا. هو لم يتركها ويذهب إلى عمله. إنه هنا..
تأمل رؤوف دمـ.ـو.عها المنسابة بغزارة. ووجهها المحتقن بشـ.ـدة وهي تشهق محاولة السيطرة على دمـ.ـو.عها. ونزل على ركبتيه ليمد يده ويرفع ذقنها وهو يسألها بقلق: نورا. ماذا بكِ؟ هل أنتِ مريـ.ـضة؟

لم تجبه سوى دمـ.ـو.عها التي استجابت للحنان والقلق في صوته فازدادت انهماراً. عصف به القلق وهو يراقب تلك الدمعات ولا يجد أي استجابة منها على سؤاله. فقال بتوسل: نورا. قمري. هل تشعرين بأي ألم؟ هل أنتِ على ما يرام؟

اكتفت بهز رأسها كإجابة على أسئلته، فلم تجد داخلها القدرة على تكوين أي كلمـ.ـا.ت تصف له ما تشعر به حالياً. احتار رؤوف في تحديد ما بها وخاصة مع صمتها التام ودمـ.ـو.عها المنهمرة فقرر أن يحملها للفراش حتى تستريح من جلستها المتعبة على أرض الغرفة، ولكن ما أن اقترب منها حتى لاحظ يدها القابضة بشـ.ـدة على شيء ما. باعد أصابعها برفق ليجد العصا البلاستيكية بيدها، تناولها بدهشة: ما هذا؟ نورا!

أخيراً استطاعت إيجاد صوتها فأجابته وسط شهقاتها: أنه. اخ. ت. ب، ار. ح. م. ل.

نتيجة لغزارة دمـ.ـو.عها. ظن أن نتيجة الاختبـ.ـار سلبية، فضمها لصدره بقوة. لا يريدها أن تغرق في دوامة اختبـ.ـارات الحمل السلبية واللهاث خلف طفل يظنه الجميع هو الأمل المنتظر. من غير المعقول أنها مازالت تعتقد أن كل ما يريده منها هو الطفل: ولماذا البكاء؟ فإذا كانت النتيجة سلبية تلك المرة. فالأيام أمامنا كثيرة. والمستقبل بيد الله. لا تحزني. ولا تقلقي أبداً. لا شيء يستحق نزول دمعاتكِ.

شعرت بالراحة والأمان وهو يضمها لصدره ويخبرها بتلك الكلمـ.ـا.ت. التي أكدت لها عمق اهتمامه بها فأجابته ورأسها مدفون في صدره: ولكن النتيجة إيجابية. أنا حامل. سيكون لنا طفل.
إيجابية! سيكون لنا طفل.

لم يعرف ما أصابه عنـ.ـد.ما سمع تلك الكلمـ.ـا.ت. شعر أنها تتغلغل بداخله. سيكون أب. ستمنحه قمره طفلاً. أخيراً سيكون هناك من ينتمي له هو. طفله. طفلهما. أسرتهما الصغيرة. أخيراً سيمد جذوره عميقاً. لن يكون وحيداً بعد الآن. إنه سعيد. بل السعادة لا تصف ذرة مما يشعر به، ولكن. ولكنها تبكي. لم تبكي؟ هل حمل طفله يبكيها؟ هي لا تريد طفله! هل راجعت أفكارها بشأن زواجهما أم ماذا؟..

ترجم أفكاره إلى كلمـ.ـا.ت وهو يبعدها قليلاً عن صدره ويسألها بخوف: إيجابية! لما تبكين إذاً؟ ألا ترغـ.ـبـ.ـين في الطفل؟ هل تبكين لأنكِ لا تريدين حمل طفلي؟

عنـ.ـد.ما سمعت نورا تلك الكلمـ.ـا.ت منه لم تدري بنفسها إلا وهي تنقض على صدره بقبضتيها الصغيرتين تضـ.ـر.به بشـ.ـدة وهي تصرخ به وسط دمـ.ـو.عها: أنت. أنت أحمق. أنت غـ.ـبـ.ـي. أبله. كيف تقول هذا الكلام؟ بل كيف تفكر فيه! ثلاثة شهور. ثلاثة شهور وأكثر وأنا لم أكف عن ترديد حبي لك. ماذا أفعل لك حتى تصدق؟ ماذا؟!

فوجئ رؤوف بهجومها المباغت وقذائف قبضتيها المتتالية تهوى على صدره بسرعة فاختل توازنه وكاد أن يسقط على ظهره لولا أنه تدارك نفسه في اللحظة الأخيرة ليستند بكفيه على الأرض ويوازن جسده بينما نورا مستمرة في ضـ.ـر.به بعنف على صدره وهي تلقبه بالغـ.ـبـ.ـي والأبله ودمـ.ـو.عها تنهمر بلا توقف.
طوقها بذراعيه بقوة محاولاً السيطرة على حركة ذراعيها الطائشة وهو يحملها ليجلسها فوق فخذيه بينما أسند ظهره إلى جانب الفراش.

همس في أذنها وهو يضم رأسها إلى صدره: هششششش. اهدئي. اهدئي يا طفلتي.
توقفت قبضتاها عن ضـ.ـر.ب صدره وقبضتا على قميصه بشـ.ـدة وهي تغرز رأسها في تجويف عنقه وتتعالى شهقاتها مما دفعه لسؤالها بحيرة وقد أصابه الهلع من دمـ.ـو.عها: نورا. بالله عليكِ. اشرحي لي ماذا يحدث. إن دمـ.ـو.عكِ لا تتوقف لأنكِ اكتشفتِ أنكِ تحملين طفلي؟ فكيف تريدينني أفكر؟ إنكِ سعيدة!
أجابته من وسط دمـ.ـو.عها:
ولكنني سعيدة. سعيدة جداً.

سأل بطريقة حادة نوعاً ما:
إذاً لم الدمـ.ـو.ع؟ أنتِ لا تكفين عن البكاء!
أبعدت رأسها عن صدره وهو تقول بطفولية:
لست أدري. إنها لا تكف عن الانهمار. اجعلها تتوقف رؤوف. أوقفها...

زاد من ضمها لصدره وهو يربت على ظهرها بحنان مداعباً شعرها وأخذ يقبل دمـ.ـو.عها برقة يريد أن يمنحها الراحة. يخشى أن يكون سبب بكائها هو معاملته لها في الفترة الماضية وأن يكون تسبب بدون قصد في أن تكره حمل طفله، بل يخشى أن، تكرهه هو. لذا عاود سؤالها وكأنه يحتاج للتأكيد:
إذاً أنتِ تريدين طفلي؟ أنتِ سعيدة؟
شعرت أنه بحاجة إلى تأكيدها في رغبتها بطفلهما فأجابته بوضوح:.

طفلنا. إنه طفلنا. واطمئن أنا أريده أكثر من أي شيء في العالم. وسعادتي لا توصف. فقط لا أجد كلمـ.ـا.ت تكفي للتعبير عنها.
ثم سألته بحذر:
وأنت؟ هل أنت سعيد؟

ضمها إلى صدره بقوة فقد أراحته كلمتها. طفلنا. جعلته يشعر بانتمائها له هي ومن تحمله بأحشائها. ضاع منه كل ما كان يتظاهر به في الشهر الأخير من جفاء وبرود. ولم يستطع الإدعاء بهما أكثر من ذلك، فصغيرته تحتاج للأمان والراحة والاطمئنان. فتخللت أصابعه في شعرها، بينما تمتد أصابع يده الأخرى لتمسح دمـ.ـو.عها:
ماذا تظنين؟ ألا تعتقدين أنني أحلم بأن تمنحيني فتاة صغيرة. فاتنة مثل أمها؟!
سألته بتعجب:.

هل تريدها أن تكون فتاة! ألا تريد الصبي. الذي يريده جميع أفراد العائلة؟
رفعها بين ذراعيه وتحرك بها نحو الفراش ليمددهاعليه برفق وهو يسوي شعرها الذي تناثر حولها:
لا شأن لي بأحد. أنا أريد فتاة صغيرة.
صمتا معاً وهما يتأملان بعضهما بحنان. هي لا تصدق ما تسمعه هل فعلاً يريد فتاة صغيرة!، أما هو فمد يده بتردد ورهبة ليضعها على بطنها وكأنه يخشى أن يؤذيها وسألها بأمل:
هل حدث ذلك في الإسكندرية؟

أسعدها أن تتطابق أفكارهما فوضعت يدها على يده وهي تحرك إبهامها عليها برقة:
هذا ما أتمناه. لقد كانت أياماً جميلة.
وافقها قائلاً:
بالفعل.
صمت قليلاً ثم قال فجأة وكأنه تذكر شيئاً:
هل تعلمين. أظن أن منذر وسهير بحاجة إلى الإسكندرية!
هبت من رقدتها فجأة، مما دفعه للصياح بها:
مهلاً. ماذا بكِ؟ هل تحتاجين شيئاً؟
هزت رأسها بصمت، ثم قالت بعجب:
يا الهي. لابد أن حالهما أسوأ مما تصورت حتى أنك لاحظت ذلك!

ضحك بخفوت وهو يداعب خدها:
ألا يوجد أمل أن يقصر الحمل من هذا اللسان!
أزاحت يده وهي تتصنع الغضب وتخبره بطفولية:
كلا. وابنتي ستكون مثلي تماماً.
تمتم بداخله. وهذا ما أتمناه يا صغيرتي.
ولكنه أخبرها:
بلا شك. وأنا لا أمانع أبداً، ولكني جاد بشأن منذر وسهير. إنهما بحاجة للابتعاد عن الجميع.

كانت تعلم إنه محق. وأن شقيقتها في محنة. ولكن رغم ذلك كانت أعماقها تموج بالسعادة. فهو يثرثر معها كأي زوجين طبيعيين. لقد عاد لمعاملتها بطريقة عادية وطبيعية و، فجأة برق في ذهنها إنه تغير بسبب حملها. وأن معرفته بوجود الطفل المنتظر هو ما جعله يهجر بروده وينسى جفائه، وانعكس تفكيرها على نبرتها وهي ترد بجفاء:
لقد أخبرتني أمي أنها ستحادثها. ولكن سهير ترفض تدخلنا في حياتها.

شعر أنها لا تود الحديث عن شقيقتها وزواجها المتزعزع. فقرر تغيير الموضوع بعدما لمح صينية الطعام وتحرك ليأتي بها ويضعها على الفراش قائلاً لنورا:
هيا. لقد أتيت إليكِ ببعض الطعام. وعصير طازج أيضاً.
انطلق غضبها فجأة وكأن اهتمامه بطعامها أكد لها أن تغيره بسبب الطفل:
وما سر هذا الاهتمام؟ هاه. هل أنت قلق على ابنك؟ تريد حشوي بالطعام من أجل الطفل صحيح؟

يا الهي! ماذا أصابها؟ لم انطلق طبعها الناري فجأة؟ إن ملامحها تبدو غاضبة بشـ.ـدة. غاضبة وفاتنة بتلك العينان الذهبيتين والوجه المحتقن غضباً على ما يبدو منه. شعر بأن يديه لها إرادة منفصلة. لا تستجيب لأوامر عقله الذي يخبره بأن احتواء وجهها بيديه وتقبيلها هو غاية في الحماقة، خاصة وهي تشتعل غضباً لسبب غير مفهوم. ولكنه استمر في تقبيلها برقة وهي تحاول معاندته ومقاومته وتبعده عنها بغضب:.

كل هذا من أجل الطفل أليس كذلك؟
فهم الآن فقط سبب غضبها. إنها تظن أنه يتودد إليها بسبب حملها.
همس أمام شفتيها:
كلا أيتها المـ.ـجـ.ـنو.نة الصغيرة. أنا مهتم بكِ أنتِ. وقلق على صحتكِ أنتِ. وإذا لم تلاحظي. فلقد أتيت بصينية الطعام قبل أن أعرف بالطفل. فلقد تهاويتِ بين ذراعي وسقطت نائمة على غير عادتكِ، هل اطمئن عقلكِ الصغير المزعج الآن؟
ابتسمت بخجل من انفجارها الغاضب في وجهه:
إن عقلي ليس صغيراً.

أبعدها قليلاً وهو يشير للطعام:
لكنكِ تعترفين إنه مزعج. هيا أريدك أن تنهي طعامكِ.
همت بتناول طعامها ولكن مر بذهنها هاجس أقلقها، فتوقفت عن الأكل وأخذت تفرك يديها بتـ.ـو.تر. خائفة ومترددة مما ستطلبه منه، ولكنها لن تستطيع يجب أن تخبره. يجب أن...
شعرت بيديه تغطي يديه معاً وهو يسألها بقلق:
ماذا الآن؟ لماذا التـ.ـو.تر؟
اندفعت كلمـ.ـا.تها بسرعة:
لا أريدك أن تخبرها. لا أريدها أن تعلم الآن.

كان يعلم بالطبع أن ال. ها. هذه تعود إلى نعمـ.ـا.ت. وهي طريقة نورا في الإشارة إليها مؤخراً. ولكن طلبها هذا. مستحيل. كيف يخفي أمراً كهذا؟ إنه يريد أن يركض في أنحاء البلدة ويخبر أهلها فرداً فردً. إنه سيصبح أبً.
شعرت نورا بتردده فنهضت لترتكز على ركبتيها وتلف عنقه بذراعيها وهي تتوسله:
أرجوك. أرجوك يا رؤوف. لا تخبرها. وأنا لن أخبر سهير، بل لن أخبر أمي حتى. فقط لا تخبرها.
ضمها رؤوف بقوة وهو يطمئنها:.

حسناً يا قمري. لكِ ما تريدين. ولكن أخبري والديكِ، فلا يعقل أن تخفي عنهما أنهما سيصبحان جديّن.
امتزجت ضحكاتها بدمـ.ـو.عها التي عادت لتسيل مرة أخرى وهي تزيد من ضمه لها:
شكراً لك. شكراً لك يا حبيبي.

ظل الرنين المنبعث من هاتف منذر يزعج رؤوف الذي يترأس اجتماع يضم معظم رؤساء الأقسام في شركة الجيزاوي. فالتفت له بحدة:
منذر. من فضلك. قم بإغلاق هاتفك. فكما ترى الاجتماع هام. ونحتاج لتركيزك معنا.
غمغم منذر بحرج. وهم بإغلاق هاتفه عنـ.ـد.ما ارتفع رنينه مرة أخرى. فخاطبه رؤوف بملل:
من الأفضل أن ترى من على الهاتف. ربما كان أمراً هاماً.

لمح منذر الاسم الذي يضيء به شاشة هاتفه فاحمرت أذناه كمن قبض عليه بالجرم المشهود بينما تعالت ضحكات قاسم وهو يقول بخبث:
يبدو. أن الأمر هام بالفعل. ولا يحتمل التأجيل.
تحرك منذر خارج غرفة الاجتماعات وهو يرفع الهاتف لأذنه هامساً:
ماذا الآن؟ ألم أخبركِ ألا تتصلي بي أثناء ساعات العمل!
جاءه الصوت من الطرف الآخر يتغنج بدلال:
وماذا أفعل إذا اشتقت لسماع صوتك؟! فأنت لا تسمح لي بمحادثتك وأنت في المنزل؟!

همس بغضب:
وداد! لقد أخبرتك من قبل. أنا من سيتصل بكِ. وأنا لا أحب أن أعيد كلامي مرتين.
تصنعت وداد الحزن والأسى وهي تظهر الخضوع في صوتها:
كما تحب. ولكن ما رأيك أن تأتي اليوم لمنزل جدك، سأنتظرك لنتناول الغذاء سوياً.
أجابها باستسلام فهو لن يتحمل غضبها:
حسناً. سآتي. هل تناسبك الساعة الخامسة؟
صاحت بفرح:
أي ساعة هي مناسبة مادمت سأكون معك.

أغلق هاتفه وهو يرمقه بحنق. لا يدري إذا كان ما يفعله خطأ أم صواب. كلا هو يدري. يدري أنه مخطئ. يدرك أنه يجب أن يتراجع ولكنه لا يستطيع مقاومة نفسه. فما تمنحه له وداد من اهتمام وعناية يفتقده بشـ.ـدة مع سهير. سهير التي أصبحت تتفنن في الابتعاد والهروب منه. وكأن سنين الحب والعشق كانت سراباً أو وهماً تحطم على صخرة الواقع.

زفر بضيق. وهو يستمع إلى نفسه. وكأن حبهما قد ضاع وسحق نتيجة صراعات يومية مع الحياة وليس بسبب تعنت سهير وحجبها لمشاعرها وأحاسيسها عنه. بل لتكتمها لكل ما تشعر به وما تريد التعبير عنه. فأصبح لا يدري ماذا يضايقها من تصرفاته وما يسعدها. هذا إذا كان هناك شيء يسعدها. فهو لا يجد منها غير الصد والنفور. حتى لحظاتهما الحميمة تشعره وكأنها واجب ثقيل على قلبها وكأنه يجبرها على نفسه. وإذا ما أبدى أي اعتراض أو ملحوظة يفاجئ بسيول من الدمـ.ـو.ع لا يعرف سبباً لها. أما وداد. وداد شيء آخر. وداد الأنوثة والدلال. هي من تمنحه كل ما يفتقده في زواجه.

أغمض عينيه بألم. من يخدع. وداد هي أكبر خطأ ارتكبه في حق نفسه وفي حق زواجه. ولكنه كمن وقف على قمة المنحدر ولا خيار له إلا استكمال الطريق لأسفل فهو أدمن الإحساس بالاهتمام. ونظرة الشغف. والدلال الذي تمنحه له وداد. تشعره عن حق بأنه رجل. وليس حـ.ـيو.ان لا يرغب إلا بإشباع رغباته كما رددت عليه سهير مرة تلك الجملة التي صدمته. ورغم اعتذارها أكثر من مرة. إلا أنه لم يستطع الاقتراب منها مرة أخرى. وعلاقتهما تقريباً أصبحت رسمية. يحاولان الحفاظ على مظهر زواجهما أمام الجميع. وبخلاف ذلك كلا منهما في إنعزال كامل عن الآخر.

حالة من الجفاف الأسري يعيشها منذ شهر كامل. ولولا وجود وداد التي انتقلت لفيلا جده بعد خروجه من المشفى منذ حوالي شهر. لفقد عقله من التفكير في حياته وفي زواجه.
حرك قدميه بتكاسل ليعود إلى الاجتماع حيث قابلته نظرات رؤوف المتفحصة. وقد بدا الرفض في عينيه الغاضبتين. وابتسامة خبيثة تتعلق على شفتي شقيقه وهو يسأله:
هل كان الأمر هام إلى تلك الدرجة؟
رد رؤوف قبل أن ينبس منذر بكلمة:.

لا. لا أعتقد أن الأمر يستحق حقاً. فلنعد إلى اجتماعنا.
ثم توجه بنظراته إلى منذر الذي أخفض عينيه هرباً من مواجهة رؤوف. ذلك الرؤوف الجديد الذي أصبح يمتلك بجوار مهاراته التجارية الفذة، نظرات ثاقبة تكشف دواخل النفس وكأنه قد اصطبغ بطبائع زوجته الصغيرة التي ترمق منذر بنظرات نارية كلما التقيا. يشعر أن رؤوف هو ما يمنعها من إطـ.ـلا.ق لسانها عليه. فهو بنظرها سبب تعاسة شقيقتها.

انتهى الاجتماع بدون أن يفقه منذر شيئاً مما دار به. وتحرك ليخرج من الغرفة عنـ.ـد.ما سمره صوت رؤوف:
منذر. نصيحة مني. قلل من زياراتك لفيلا جدي. فالكل لاحظ ذلك. وأنا أعني الكل.
رد عليه منذر بدون أن يلتفت له:
رؤوف لا تتدخل. الأمر لا يعنيك.
صاح به رؤوف:
كيف لا يعنيني؟ أن...
قاطعه قاسم الذي كان مازال يتلكأ في جمع أروراقه:
أنت فقط تهتم من أجل زوجتك الصغيرة. وإلا منذ متى تهتم بحياة أي منا!
أجابه رؤوف من بين أسنانه:.

هل هذا كل ما لديك؟! ألا تريد نصح أخيك حتى لا يدمر زواجه الذي لم يبدأ بعد. من أجل حماقة. أو نزوة عابرة!
سأله قاسم باستفزاز وخياله يصور له نورا بجسدها الشهي وشعرها الغجري:
ولماذا يدمر زواجه؟ وهل دمر زواجك الثاني، زواجك الأول؟ على العكس أراك تحيا كما هارون الرشيد.
انطلقت شرارات الغضب من عيني رؤوف وهو يصيح بقاسم:
قاسم. سأحذرك للمرة الأخيرة أن تراعي كلمـ.ـا.تك جيداً. وإلا.
صاح به قاسم بحقد:.

وإلا ماذا يا ابن الخال؟ هل نسيت من منا الأكبر سناً حتى تصيح بي هكذا؟
زفر رؤوف بضيق. فقاسم ما يلبث أن يعود إلى تلك النغمة القديمة. بأنه الأكبر سناً. وأن إدارة الشركات كانت يجب أن تكون له بدلاً من رؤوف الذي لا يتميز عنه في شيء إلا أنه يحمل لقب الجيزاوي. بعكس قاسم.

ولكن قاسم يتناسى نزواته ومغامـ.ـر.اته الطائشة التي كانت سبباً في إبعاده عن العائلة لفترة طويلة. ولم يعد لها إلا مؤخراً بعدما تزوج ووضح بعض التغير في تصرفاته، إلا أنه لا يتوقف أبداً عن إبداء تلك الملاحظات المزعجة برغم أنه موقن إن تسلمه الإدارة في أي وقت سيتسبب في خسائر وكوارث مالية هائلة.

فالقانون التجاري هو مجال قاسم وما يبرع به حقاً. ولذلك قرر رؤوف إسناد قسم الشئون القانونية له وجعله مسئول عن إبرام العقود. رغبة من رؤوف في دفن أحقاد الماضي وجمع شمل العائلة. واتقاءً لشره. وكل ما يرجوه ألا يكون قد أساء اتخاذ القرار.
قاطع أفكاره صوت قاسم يخاطبه:
أنت ترفل في النعيم منذ سنوات وأخيراً يكافئك جدي بمكافأة إضافية بزواجك من.
قاطعه منذر بصرخة وكأنه يعلم أن أخاه سيزل لسانه بما لا تحمد عقباه:.

قاسم. كفى. كلاكما كُفا عن ذلك اللغو. فلا أحد له سلطة الحكم على تصرفاتي. أراكما لاحقاً.
خرج منذر بسرعة يلحقه قاسم وكأنه لا يقدر على مواجهة رؤوف بمفرده. أما رؤوف فزفر بغضب وهو يضـ.ـر.ب طاولة الاجتماعات بقبضته:
أنت غـ.ـبـ.ـي يا منذر. غـ.ـبـ.ـي. لم تزد في تعقيد حياتك بدون داعي؟..

تراءت له سهير في آخر زيارة لمنزله بملامحها الحزينة. وعيونها الكسيرة. وشحوب وجهها الواضح. والفرحة الضائعة من روحها. أين تلك الفتاة التي كانت تهيم فرحاً عند شرائها لفستان الزفاف!

وما زاده حنقاً انخراط نورا في البكاء الشـ.ـديد بعد ذهاب سهير. وهي تغمغم بكلمـ.ـا.ت لم يفهم نصفها. ولكنها تلخص ذهولها من حالة منذر وسهير. وإمكانية زوال الحب بتلك السرعة والسهولة. لقد آلمه قلبه حقاً عنـ.ـد.ما ظن أن نورا ممكن أن تتخطى حبه بسهولة. كانت لحظة حارقة سببت له أرقاً لليالٍ طوال. ولكن كثرة انفعالات نورا وتأثرها بما يحدث حولها نتيجة لحملها وجنون هرموناتها كما أخبره الطبيب طمأنته قليلاً بأن ذلك كان انفعالاً مؤقتاً. وأنها باقية على حبه كما يتمنى. لم يفهم لما يهتم بذلك وهو الذي أفهمها أن ما تشعر به مجرد وهم. أو افتتان. ولكنه يشعر بالسعادة بل بالزهو. لأن تلك الفاتنة السمراء تظن أنها تحبه. وتصر على ذلك أيضاً.

أزعجته نوباتها الجنونية من البكاء. والتي قد يتسبب بها أي شيء من مشهد مؤثر في أحد الأفلام. إلى خلاف مع نعمـ.ـا.ت على أمر من أمور إدارة المنزل. وبقدر انزعاجه في البداية، بقدر ما ازداد استمتاعه وهو يهدئ نورا من تلك النوبات وهي تتشبث به وتتعلق بعنقه تطالبه بحل مشاكل الكون أجمع. لكن ما يقلقه حقاً أنه إلى الآن لم يخبر نعمـ.ـا.ت بحمل نورا. ولا يعلم إلى متى سيكتم الخبر. فنورا قاربت على الانتهاء من شهرها الرابع. ولن يمر كثير من الوقت حتى تظهر معالم حملها بوضوح. وإن كانت لم تعد تغيب عن عينيه الخبيرة بمعالم جسدها الخلاب.

حاول أن يبعد بأفكاره عن نورا وجسدها وما تشعله فيه من أحاسيس بالعودة إلى فرحة جده الطاغية عنـ.ـد.ما أخبره بأن الحفيد الذي ينتظره من سنين أوشك على الوصول. حيث اغرورقت عيني العجوز بالدمـ.ـو.ع وهو يخبره:
أخيراً. يا رؤوف. الآن يمكنني أن أموت وقد ارتاح قلبي.
قاطعه رؤوف:
أطال الله عمرك يا جدي. أنت تهتم بمسألة الوريث تلك بشـ.ـدة.
أجابه جده وهو يربت على كتفه:.

عنـ.ـد.ما تصل لعمري ستتفهم أهمية استمرار العائلة. مبـ.ـارك لك يا ولدي. أخيراً. ستمتلك عائلتك الخاصة.

كان رد فعل عمه مماثلاً تماماً من حيث الفرحة الطاغية وتهنئته بالابن القادم. ولكنه زاد وشـ.ـدد على الإهتمام بنورا. وصحتها وراحتها النفسية. وقد فهم رؤوف تلميح عمه المبطن بمطالبته بحماية نورا من إزعاجات نعمـ.ـا.ت. بينما كان رد فعل شموس نوبة من البكاء وهي تطالب رؤوف بالسماح لنورا أن تقيم في منزل والدها باقي شهور حملها وهو ما رفضه رؤوف بشـ.ـدة. مخبراً شموس أن نورا لن تترك منزلها أبداً وقد أيدته نورا في موقفه وهي تخبر أمها بخجل برغبتها في البقاء بجانب زوجها.

تقبلت أمها ذلك على مضض وهي تؤكد على أنها ستصطحبها فوراً معها إذا ما شعرت بأي إهمال منه في رعايتها. وهو ما يتفانى فيه منذ علم بحملها. ليس من أجل طفله القادم فقط. ولكن لأنها تستحق كل عناية ورعاية ودلال.
نظر إلى ساعته وهو يلملم أوراقه بسرعة فلقد تأخر اليوم عليها بما فيه الكفاية.

دلف منذر إلى منزله بسرعة ففوجئ بوالدته وسهير جالستين في البهو تتبادلان أطراف الحديث. فألقى تحية سريعة وهو يتوجه للدرج الداخلي. لمح بطرف عينه والدته تلكز سهير في جنبها لتنهض خلفه.

تحركت سهير خلفه بتثاقل حتى وصلت إلى جناحهما ووجدته يخلع قميصه وقد ظهر صدره العضلي أمام عينيها فخفضتهما أرضاً، نظر إليها في فستانها الطويل الذي يغطي جسدها وتخفي به معالم أنوثتها ببراعة ربما حتى لا تثير رغبته بها، دفع ذلك بسمة ساخرة على شفتيه ما لبثت أن تحولت إلى ضحكة مليئة بالمرارة وهو يقول:
لا تقلقي. لن أزعجكِ برغباتي الحـ.ـيو.انية الآن.
أجابته بألم:.

منذر. لقد اعتذرت عشرات المرات عن تلك الغلطة. لقد كانت زلة لسان لا أكثر.
أجابها بمرارة:
زلة لسان تكشف كثير من مكنونات النفس.
ثم تحرك مبتعداً نحو باب الجناح. وأوقفه صوتها المتعجب:
هل ستخرج ثانية؟ ألن تتناول الغذاء؟
أجابها بتردد:
سأتناول الغذاء برفقة جدي.

لمح صدمتها وشحوب لونها وهي ترمقه بانكسار ونظرات اللوم تلمع في عينيها جنباً إلى جنب مع دمـ.ـو.عها التي سجنتهم تحت أجفانها وهي تطبقهم للحظات. ثم تعود لتفتح عينيها وترسم ابتسامة هادئة:
طعاماً هنيئاً. أوصل سلامي لجدي.
استمر يرمقها بمرارة ظاهرة وهو لا يصدق ردة فعلها. إنها تبـ.ـارك خيانته. خطر له بسخرية.
خيانة الزوج بمبـ.ـاركة الزوجة.

هل هو عديم القيمة بالنسبة لها إلى هذه الدرجة. هو متأكد من يقينها بذهابه لرؤية وداد وليس جده. ألا يستفزها ذلك؟ ألن توجه له كلمة لوم أو عتاب؟ ألن تصرخ به وتتهمه بالخيانة وتذهب لتطرد وداد من منزل جدهما؟..
كلا بالطبع. إنها تتمسك بدور الزوجة ذات الكبرياء والتي تتعالى على رغبات زوجها وخيانته. أين كلمـ.ـا.ت الحب وقصائد العشق. وانتظارها بفارغ الصبر لتكون في بيته كما كانت تخبره! يبدو أنه كان وهماً بالفعل.

هز رأسه بيأس وتوجه خارج الجناح. والتقى في طريقه بوالدته التي رمقته بنظرات نارية وهي تراه يتوجه للخارج ولكنه لم يهتم. إذا كانت صاحبة الحق الوحيد في محاسبته لم يعنها الأمر، فماذا يهمه بعد ذلك.

استقل سيارته في طريقه إلى منزل جده، أو بالأحرى إلى وداد. وهو يتذكر بداية تورطه معها. وكان ذلك في اليوم الذي قذفتها به نورا بكوب الشاي مما تسبب في إحراجها أمامهم. وقد عاد إليها في مساء ذلك اليوم لاسترضائها حتى لا ترفض مرافقة جده كما أوصى الطبيب.

وجدها في الكافيتريا مع مجموعة من زميلاتها. يتجاذبن أطراف الحديث وهن يتناولن طعامهن. ولكنها ما أن رأته حتى توجهت نحوه وهي ترسم ابتسامة دافئة على شفتيها وتحييه بحرارة:
مرحباً. منذر.
ثم تحركت لتسير معه باتجاه الحديقة الخاصة بالمشفى. حتى وصلا إلى ركن منعزل نسبياً. فسألته بحياء مصطنع:
هل تسمح لي بمنادتك منذر بدون ألقاب؟
أجابها بود:
بالطبع. فأنتِ ستصبحين واحدة من أفراد المنزل قريباً. أليس كذلك؟

أجابته وهي ترسم ملامح الحزن على وجهها:
لا أظن ذلك. فيبدو أن زوجتك تكرهني. لقد تعمدت سكب الشاي الساخن على ملابسي.
أجابها بحرج:
أنا آسف جداً لما حدث. ولكن نورا ليست زوجتي.
سألته بفرح:
حقاً؟
نعم. إنها شقيقة زوجتي.
اقتربت منه قائلة وهي تدعي التعجب:
هل تعني أن زوجتك هي الشقراء؟
نعم...
اقتربت منه أكثر وهي تمط شفتيها بإجابتها:
غريب. جداً.
سألها باندهاش:
لماذا؟

حركت أناملها على طول ذراعه وهي تتحسس عضلاته البـ.ـارزة تحت قميصه:
اعتقد أن رجلاً مثلك. يحتاج إلى زوجة دافئة. حارة. وليست شقراء بـ.ـاردة.
ابتلع ريقه بـ.ـارتباك وهو يسألها:
ماذا تعنين برجل مثلي؟
أجابته بغمزة من عينيها:
أحب أن أعتقد أنك ذو دماء حارة.
أسبلت رموشها ثم عادت لترفعهم وهي تنظر لعينيه بجرأة وتردف بصوتٍ أجش:
دماء حارة جداً.

تجمد منذر أمام هجومها الحسي على مشاعره. فهو العريس الجديد لم يمر أبداً بتلك التجربة مع عروسه. محبوبته. التي يذوب عشقاً وحباً بها، والتي تتهمه بالحـ.ـيو.انية. فقط لأنه يرغب في قربها.

وجد نفسه يهيم في عيني وداد البنيتين ويتأمل ملامحها التي تكاد أن تكون عادية بشعرها البني القصير جداً والذي يصل بالكاد إلى أذنيها وزينة وجهها المبالغ فيها فلم يستطع حتى تحديد لون بشرتها التي تختفي تحت طبقات من مستحضرات التجميل. ولكن رغم كل هذا وجد دفء غريب واهتمام واضح في عينيها التي ظلت ترمقه بنظرات شغوفة. إلى أن سمع صوتها:
يبدو أنني سأقبل بمرافقة جدك بعد كل شيء.

ثم أردفت وهي ترفع أناملها لتتحسس ملامحه بعبث:
من أجلك أنت فقط.
كان يجب عليه نهرها وإيقاف ما يحدث، ولكنه وجد نفسه ينجرف وينجذب نحوها أكثر وأكثر. وأصبحت لقاءاته اليومية بها هي بلسم حياته ومكالمتهما التليفونية والتي تزخر بعبـ.ـارات الغزل المثيرة هي دافعه للاستمرار، فينتظرها كالأرض المتشققة التي تصبو إلى قطرة ماء واحدة.

وها هو يتجه إلى لقاء جديد وموعد جديد. مع من شغلت أفكاره وألهته عن مآساة زواجه، يرجو فقط أن يجد جده نائماً حتى لا يُحشر في موقف حرج.
وصل بسيارته إلى فناء الفيلا حيث وجدها تنتظره أمام البوابة وقد ارتدت فستاناً قصيراً جداً يصل إلى ركبتيها بالكاد. ويتعلق بجسدها بحمالتين رفيعتين. وقد ظهرت بشرتها اللامعة تتحدى الطقس البـ.ـارد وكأنها لا تشعر به، فسألها بتعجب:
ألا تشعرين بالبرد حتى ترتدي مثل ذلك الفستان؟

فأجابته وهي تتحسس عضلات صدره الذي انتفخ إثر كلمـ.ـا.تها:
تفكيري بك يكفي لتدفئتي أيها النمر.
امتدت يد منذر لتمسك أناملها المتجولة على صدره:
وداد. نحن في مدخل المنزل الخارجي. عملياً نحن في الطريق. سترصدنا أعين الناس.
تمسكت بيده لتسحبه معها إلى أحد أركان الحديقة والذي تظلله مجموعة من الأشجار فتحجبه عن الأعين. وما أن ارتكزت بظهرها إلى إحدى الأشجار حتى سألته:
هل ابتعدنا عن الناس بما يكفي؟

ورفعت ذراعيها تحيط بهما عنقه وهي تتوسله:
إلى متى ستعذبني ببعادك يا منذر؟ لماذا لا تريحيني من شقائي في بعدك. أرجوك. ابقى معي.
فك ذراعيها من حول عنقه وهو ينهرها:
وداد. لقد تحدثنا في نفس الموضوع مراراً. وأخبرتكِ. أنني لست مستعداً لاتخاذ تلك الخطوة حالياً. لم تزعجيني؟
عادت لتحيطه بذراعيها وهي تمسح رأسها في صدره:.

لا تغضب يا حبيبي. أنا أريد سعادتك وراحتك. ألا تأتي إليّ من أجل الراحة؟، فلم لا تدعني أمنحك إياها. أنا على أتم الاستعداد. فقط لو تسمح لي.
أغمض منذر عينيه بألم. وهو يفكر:
يا الهي إنها تتوسل وصالي. ترجوني لتمنحني الراحة. وزوجتي. سهير حبيبة عمري تعتقد أن رغبتي في قربها وتعبيري عن حبي واشتياقي لها هو حـ.ـيو.انية، بل إنها لا تتحمل حتى رؤيتي. ولكني مستعد لبذل الغالي والنفيس لأسمع تلك الكلمـ.ـا.ت بلسان سهير.

أفاق من أفكاره على شفتيها تتحركان على وجهه بهيام وهي تغرقه بكلمـ.ـا.ت تنم عن احتياجها له وتداعب خصلات شعره بأناملها وتجذبه لها كأنها تطالبه بالاقتراب أكثر. وهو في ظل دوامة المشاعر التي تتقاذفه. لم يدفعها عنه. ولم يمانع. لم يمانع على الإطـ.ـلا.ق.

وقفت نورا بصعوبة تعد قدح القهوة الذي طلبه منها رؤوف، فهو أصبح لا يستمتع بالقهوة إلا من صنع يديها. ولكن منذ بداية حملها ورائحة القهوة تزعجها بشـ.ـدة.

أخذت تحرك رأسها يمنة ويسرى رغبة منها في استنشاق بعض نسمـ.ـا.ت الهواء الخالية من الرائحة المزعجة ولكن بدون جدوى. فوضعت يدها على فمها وأنفها تحاول حجب الرائحة النفاذة عنها وكانت على هذا الوضع حين دلف رؤوف إلى المطبخ ليأخذ منها قدح القهوة خشية منه أن يصيبها الدوار المعتاد وهي تحمله إليه.
أحاط خصرها الذي امتلأ قليلاً بذراعيه وهو يقف خلفها ويسألها:
ماذا بكِ يا نورا؟ يبدو على وجهكِ إمارات التعب.

التفت نورا لتخفي وجهها في صدره محاولة استنشاق رائحة عطره الذي أصبحت تهواها مؤخراً.
ضغطها لوجهها في صدره بتلك الطريقة أثار قلقه، فهمس بأذنها:
ما الأمر؟ ما الذي أزعجكِ؟
أجابته بضيق:
لا تهتم. رائحة القهوة تزعجني قليلاً.
حقاً! لما لم تخبريني؟!
لحظات واتحسن. لا تنزعج.

حملها بين ذراعيه لينقلها إلى غرفتها ولكنه كان غافلاً عن نظرات نعمـ.ـا.ت التي لمحته وهو يحملها برقة. تلك النظرات التي ظهر فيها انكسار وألم شـ.ـديد. تعبيرات وجهها أظهرت شعورها الحاد بالهجران واشتياقها لزوجها الذي يزداد ابتعاده عنها شيء فشيء.

غمرها إحساس قوي بالعجز عن استرداده أو حتى استرداد جزء من اهتمامه الذي ينصب بالكامل هذه الأيام على زوجته الجديدة. السمراء الصغيرة التي تسللت تحت جلده وامتلكت قلبه وأحرقت قلبها.

نعم هذا ما تشعر به حرقة القلب وانكساره، لكنها لن تكون ضحية لعائلة الجيزاوي. تلك العائلة التي دمرت شبابها وهدمت حياتها. مرة بالزواج من رجل عقيم تلاه زواج آخر من طفل حولته هي لرجل. ليحطم قلبها بتفضيله من هي أصغر وأكثر شباباً منها. وبين الرجلين ضاع شبابها وظلت حياتها جدباء بدون حتى طفل صغير. يناديها أمي كما تمنت. ولكن كما احترق قلبها. ستحرق قلوبهم جميعاً. ولن تستثني أحداً. أبداً!..
أغمضت سهير عينيها بألم وهي جالسة في نافذتها تتأمل الطريق الذي اتخذه منذر منذ قليل ليذهب إلى جدهما كما أخبرها. أو إلى تلك الفتاة التي سكنت قصر الجيزاوي بدعوة مراعاة صاحبه بينما هي تخطط للاستيلاء على من تطاله يدها من أحفاده، فبعد صد رؤوف الواضح لها حولت اهتمامها إلى منذر الذي تلقى ذلك الاهتمام بشغف وتقبله بسعادة...

تستطيع سهير تحديد اللحظة الذي بدأ فيها منذر علاقته بتلك الحرباء. كما تستطيع التأكيد على أنه لم يتمادى معها بعد. فهي تفهم منذر جيداً وتحفظ ردود أفعاله كراحة يدها كيف لا وهو توأم روحها وحبيبها الوحيد، ولكنها للعجب تمنحه العذر فيما يفعل. فهي من تدفعه دفعاً لذلك، بل هي من منعت عمتها قمر من التدخل ومحادثة منذر ورده عن تصرفاته. فهي طالما آمنت أن ما بين الزوجين يجب أن يظل بينهما. وأن تدخل أي طرف ثالث ولو بحسن نية سيتسبب بأذى قد لا يمكن احتوائه. ولكنها أيضاً تدرك وجوب مصارحة منذر بوضعها وأحاسيسها، ولكنها لا تضمن ردة فعله. فما تملكه من تبريرات لسلوكها نحوه قد يعتبره هو إهانة لرجولته. وكيانه كرجل وزوج.

ظنت دوماً أن حبهما صلباً كالصخر وثابتاً كالجبال ولكنها تخشى ألا يحتمل مواجهة كتلك. تعلم أنه خطأها من البداية. فقلة خبرتها وخجلها منعاها من مصارحته بما ينتابها وهي بين ذراعيه. تدرك بتقصيرها نحوه. وخطأها الذي قد يتسبب في دمار زواجهما. لذلك هي تسمح له بالتمادي مع تلك الحرباء ربما كتعويض عن حرمانه من مشاعرها واهتمامها. ولكنها أحياناً تتساءل إن كان ذلك تصرف ماكر منها تركه ليخطأ ويخطأ ثم تواجهه بما لديها فيتساوى الطرفين في الخطأ.

تدرك أن المواجهة آتية وحتمية ولكنها تخشى، بل وترتعب من تبعاتها، هل ستنتهي حياتها معه تماماً؟ أم ترضخ وتقبل بوجود امرأة اخرى في حياته لتمنحه ما تعجز هي منحه إياه؟ ولكن هل ستتحمل مشاركته مع أخرى؟ لا تعتقد. هي ليست بقوة نورا، ولا تمتلك سعة حيلتها التي مكنتها من السيطرة على قلب وعقل رؤوف الذي أصبح لا يرى غيرها والأعمى وحده من يتغافل عن ذلك. ولكن رغم هذا تظل نورا زوجة لنصف زوج. وهو وضع لن تحتمله سهير ولن تطيقه فرغم كل الأفكار المنطقية وكل الأعذار التي تمنحها لمنذر فهي تشعر بنيران حارقة تكوي قلبها وتحرق روحها حرقاً لمجرد تخيله برفقة تلك الفتاة. فكيف ستتحمل أن يكون زوجاً لأخرى؟!..

هل تلك الحرقة بداخلها تشبه ما تشعر به نورا عنـ.ـد.ما يقضي رؤوف أوقاته مع زوجته الأخرى. وكيف تتحمل نورا تلك الآلام المبرحة وتلك الغيرة الحارقة؟ إلا أن هاجساً شريراً همس لها، بل نورا هي الدخيلة ومن تشعر بحرقة القلب وظلم الأيام هي نعمـ.ـا.ت. الزوجة الأولى التي هجرها رؤوف ليتنعم بالسعادة مع نورا شقيقتها.

نفضت رأسها بعنف وهي ترمي عنها تلك الأفكار السوداء. كيف تفكر بهذه الطريقة؟ وكيف تظن بشقيقتها هذا الظن؟ هل فقدت عقلها؟ أم أنها تحاول أن ترمي مشاكلها على من حولها.
بينما تشرد بأفكارها لمحت منذر يدلف من بوابة البيت بسيارته بسرعة كبيرة.
حدثت نفسها.
لم يبقَ مع الأخرى إذاً. لقد عاد إلى البيت. عاد إليها.
تنهدت براحة وانتابها شعور خفي بالأمان فهو مازال صامداً. ولكن إلى متى؟!

دلف منذر إلى المنزل وهو يجر قدميه جراً. لا يدري كيف أوقف وداد وسحب نفسه من بين أحضانها. لا يستطيع فهم نفسه فهو غير قادر على الابتعاد عنها وفي نفس الوقت لا يرغب بأن يتطور الأمر ويصل إلى مرحلة اللاعودة. مازال يجاهد نفسه محاولاً إيقاف الأمر أو حتى تجميده عند حد معين. فهو لن يتمادى إلا في إطار شرعي، ولكن هل هو مستعد لتلك الخطوة وهل يرغب فعلاً في الإقدام عليها؟ وهل يستطيع مواجهة العائلة بقرار كهذا؟ والأهم. هل يمكنه مواجهة سهير؟

جذبه من لجة أفكاره أصوات عالية آتية من بهو المنزل وما أن اقترب حتى تبين أن قاسم يتشاحن مع أمهما. فجائه صوته منفعلاً وهو يتهم أمهما كعادته:
أنتِ طالما فضلتِ رؤوف على الكل. حتى على ابنكِ. عليّ أنا. الجميع فعل. وفي نهاية الأمر أصبح هو الرئيس والمتحكم في كل شيء.
قاطعته قمر بصوت متهدج:
يكفي يا قاسم. يكفي يا بني. أنت تعلم أن هذا ليس صحيحاً. فجدك يُعد رؤوف منذ طفولته حتى يخلفه في كل شيء.

زعق قاسم بغضب وكأنه لا يصدق ما تقوله أمه:
هاه. وزواجه الأول الذي منحه رضا جدي الكامل. وعطف وشفقة الجميع. ألم أكن أنا أولى منه بذلك. فأنا أكبر الأحفاد، أم تناسيتم ذلك أيضاً؟
واجهته أمه بعنف عله يستفيق من ضلالاته:.

بل أنت من نسيت. هل تريد فعلاً الخوض في ذلك. تلك الأيام السوداء التي أتى فيها أخي عبد الرحمن رحمه الله ليخبرني. أن ابني. ابني الكبير الذي كنت أعقد عليه كل آمالي، اختلس من أموال شركة الجيزاوي، ولولا سرعة تصرف عبد الرحمن وأبيك وتغطيتهما للعجز لوصل الأمر للشرطة. هل تظن أن جدك غفل عن ذلك؟
وتعالى صراخها:.

هل تظن أنه لم يعلم؟ كلا يا أكبر الأحفاد. لقد علم وأراد إبلاغ الشرطة لولا توسلاتي له ولولا خالك عبد الرحمن رحمه الله لكنت تقبع في زنزانة مظلمة، واكتفى والدي فقط بطردك من الشركة وإبعادك عن العائلة في ذلك الوقت. هل تظن أنه كان يثق بك ليأتمنك على الثروة، بل وعلى أرملة عمك؟ هاه. أجبني يا أكبر الأحفاد؟
أجابها بصفاقة:.

أنا أعلم قدرك في قلب جدي ولو كنتِ عرضتِ عليه أمر زواجي من نعمـ.ـا.ت لكنت أنا من يتحكم في الجميع الآن؟ ولا تتعذري بأنكِ عرضتِ عليه رؤوف خوفاً عليّ من زواجي بتلك العجوز فذلك محض هراء.
أجابته بصوتٍ باكٍ:.

بل أشفقت عليك من ثقل الأمانة يا ولدي. فأنا أعلم الناس بك، فأنت قطعة مني. أنت أضعف من أن تتحمل تلك الأمانة. كنت ستفرط فيها وتبوء بإثمها وأتحمل أنا معك ذلك الإثم. لقد كان الحمل ثقيل ورؤوف هو الوحيد المؤهل لحمله بدون أن يفرط فيه. حِمل الثروة، وحِمل المرأة التي اقترن بها وحافظ على عشرته معها طوال سنوات رغم فارق السن بينهما.
أجابها بحقد:
بالفعل حافظ على العشرة بزواجه عليها من ابنة الخال!

أجابته باستفزاز:
أليس ذلك حقاً من حقوقه؟ بعد عشرته لنعمـ.ـا.ت طوال تلك السنوات التي لم تسفر عن ابن أو ابنة.
أجابها من بين أسنانه:
الآن تقولين أن ذلك حقه! وماذا عني؟ لماذا لم تساعديني للزواج منها. فأنتِ تعلمين أنني أريد نورا منذ سنوات. لماذا رفضتِ التوسط لي عند خالي ليوافق على زواجي منها؟
صرخت به:.

هل أنت مـ.ـجـ.ـنو.ن؟ كنت قد تزوجت لتوك وكانت أحوالك على وشك التحسن وكان ذلك بفضل زوجتك. تلك الفتاة الطيبة التي أصلحت من أحوالك. فهل كنت تريد مكافأتها بالزواج عليها؟ وهل من الممكن أن يوافق خالك أو نورا على تلك المهزلة؟ أفق لنفسك حتى لا تضيع الحياة التي عدت إليها بمعجزة. وانسى أي أحلام مـ.ـجـ.ـنو.نة عن نورا أو رؤوف أو ثروة جدك. وأحمد ربك على ما وصلت إليه.
كان صوته يقطر حقداً وهو يجيبها:.

أنساها! بالطبع سوف أفعل. وهل أملك حلاً آخر غير ذلك؟ ولكني لن أيأس أبداً.
دخل منذر ليقطع ذلك النقاش الذي أصبح يتكرر بصورة يومية وقطع كلام قاسم بقوله:
إن نورا تعشق رؤوف. وهو أحق الناس بها. فلا تفكر بزوجة ابن خالك فهذا تصرف أقل ما يقال عنه أنه دنئ، ولا تنسَ أن رؤوف تحدى جدي كي يعيدك للشركة مرة أخرى وأخذ تلك المخاطرة على مسئوليته الشخصية، فلا ترد له الجميل بتلك التصرفات الرعناء.
أجابه قاسم بسخرية:.

انظروا من يتكلم عن التصرفات الرعناء! أين كنت الآن يا أخي الصغير؟
ثم أخرج من أحد جيوبه زجاجة عطر صغيرة وأخذ يرش على منذر بكثافة، بينما منذر يبتعد عنه قائلاً:
ماذا تفعل؟ هل جننت؟
قهقه قاسم ساخراً:
أحاول أن أغطي على رائحة العطر النسائي الرخيص الذي ينبعث منك يا أخي الصغير، حتى لا تهجرك ابنة الخال الأخرى.
حدجتهما قمر بنظرات يائسة وهي تتمتمم:.

يا الهي. ماذا فعلت حتى ابتلي في أولادي هكذا؟ لماذا يا منذر؟ لماذا يا ولدي؟
أجابهما منذر بغضب موجه لنفسه أولاً:
لا شأن لأحد بي أو بحياتي.
صاحت به قمر:
ماذا تعني ب لا شأن لأحد بحياتك؟ هل نسيت أن سهير تكون ابنة أخي؟ هل تعتقد أنني راضية عن تصرفاتك نحوها. أقسم بالله لولا توسلاتها لكان لي معك شأناً آخر. ولكني لن أصمت طويلاً. انتبه لنفسك ولزواجك وإلا سأتدخل أنا ولن ترى سهير مرة أخرى في حياتك.

رمقها منذر باستخفاف بينما ابتسم قاسم بتشفي وهو يرى دفة الهجوم توجهت نحو منذر بدلاً منه. وحيا والدته بسرعة وهو ينطلق من المنزل. بينما اكتفى منذر بالصمت التام ليصعد إلى جناحه تتابعه نظرات أمه القلقة والخائفة من القادم.
دلف منذر إلى جناحه فوجد سهير جالسة على نافذتها تتأمل السماء بشرود، فحياها بهدوء:
مساء الخير.
التفتت سهير إليه وهي ترد تحيته وتسأله:.

مساء الخير. هل أعد لك الطعام؟ أم تناولت طعامك مع جدي كما قلت؟
كانت تخاطبه بلهجة رقيقة وهادئة يظهر فيها أملها جلياً بأن يعود لها منذر الحبيب العاشق، فأدرك شعور الأمان الذي غمرها عند رؤيته يعود لجناحهما فوجهها الملائكي يعبر عما تشعر به بوضوح.
رد لها ابتسامتها وهو يسألها:
وهل تبقى أي طعام لي؟
أجابته برقة:
بالطبع. أنا أعد ما تحب من أطعمة دائماً. حتى ولو لم تأكلها معي.

أدركا كلاهما أنهما لا يتحدثان عن الطعام وأن ثمة حديث مبطن وخفي يدور خلف الكلمـ.ـا.ت الواضحة. فسألها منذر بصراحة:
هل هذا صحيح؟ هل تفكرين بي دائماً يا سهير؟ هل.
وضعت أناملها على شفتيه لتمنعه من الاسترسال وهي تعترف له:
سهير لم ولن تعشق إلا منذر. أقسم لك أنني لم أقصد يوماً جرحك أو إيلامك. أقسم لك. أنني تألمت أكثر منك عنـ.ـد.ما تفوهت بتلك الملاحظة الحمقاء. أنا فقط حمقاء غـ.ـبـ.ـية وتحبك بقوة.

اقترب منها وجذبها نحوه وأخذ يتأمل ملامحها التي يعشقها وهو يمرر أنامله عليها برقة وعينيه تغرق في عينيها المغرورقة بالدمـ.ـو.ع يتبادلان حديثاً صامتاً. تعبر عنه نظراته ودمـ.ـو.عها.
لماذا إذاً؟ لماذا؟ وهل يمكن أن أكتفي بالأقوال التي تناقضها الأفعال؟ حاولي أكثر. انقذيني. انقذينا. لا تدعي حبنا يموت.

كانت نظراته تصرخ بذلك بينما هو صامتاً يتأمل ردها الذي تمثل في دمـ.ـو.عها العاجزة فاقترب منها بهدوء ليقبل شفتيها برقة أراد بها تطهير نفسه مما أوشك على السقوط فيه منذ قليل. مرغ وجهه في عنقها وكأنه يمسح بطهارتها إثم ما كان يقوم به مع وداد. احتضنها قريباً من قلبه يريد أن يزيح عن ضميره عبئ الخيانة. يريدها أن تدفعه كعادتها. فترفع عن كاهله ما ينوء به من ذنب. ولكنها استسلمت لقبلته بخضوع يدفعها شعور خفي للتأكد أنه مازال منذرها وهي مازالت سيدته الوحيدة...

في الصباح التالي جلس رؤوف بغرفته في شركة الجيزاوي وهو يرتكز بكلا مرفقيه على مكتبه واضعاً وجهه بين كفيه. وهو غائب عن كل ما يحيط به. يبدو كمن يحمل هموم العالم فوق كتفيه. وهذا هو شعوره بالضبط بعدما حدث في الليلة الماضية. فلم يكن يتصور في أقسى كوابيسه أن يصدر منه ذلك التصرف. لا يدري تفسيراً لما حدث. ولا يستطيع أن يخترع واحداً لنعمـ.ـا.ت. جميع التعويضات والاعتذارات في العالم لا تكفي للتكفير عما قام به. فكر بسخرية.

تصحيح، بل ما لم يقم به! .
أغمض عينيه بألم وهو يتذكر نظرات نعمـ.ـا.ت الجريحة والمذهولة. وهو يفشل لأول مرة منذ زواجهما الذي تعدى عمره الخمسة عشر عاماً في أداء واجباته الزوجية نحوها. والأكثر إيلاماً وذلاً لها. أنها هي من جاءت له في مكتبه تطالبه بتلك الحقوق. برغم ما قد يسببه لها ذلك من إحراج ومهانة، إلا أنها أتت إليه تنبهه إلى تأخره في زيارة غرفتها وتشـ.ـدد على العدل بين الزوجات.

ارتبك وقتها رؤوف من حديثها خاصة وأنها كررته من قبل أكثر من مرة، ولكنها كانت المرة الأولى التي تطلب منه صراحة منحها حقها الشرعي كزوجة. انهال سيل من الاعتذارات والأعذار على لسانه وهو يحاول استرضائها وتهدئة غضبها وهو يقنعها أنه كان ينوي قضاء تلك الليلة في غرفتها، فهو على أي حال يرغب في الحفاظ على كرامتها وكبريائها أمامه وهذا على أقل ما يستطيع منحه لها بعد عجزه عن منحها أي مشاعر تتعدى الاحترام. ولكن محاولته تلك ضاعت هباءً بعد فشله كرجل في منحها حقوقها.

ساق كمية هائلة من الأعذار والتبريرات لنعمـ.ـا.ت. وألقى اللوم على الارهاق وتكدس العمل وانشغال باله بالصفقات المتعثرة وتصرفات قاسم المزعجة. وظلت هي تستمع إليه في صمت وهي تحبس دمـ.ـو.عها حتى لا تسيل أمامه ولم تجبه بشيء، فقط سحبت الغطاء عليها لتختفي تحته عن عينيه.
علم أنها تبكي على وسادتها في صمت، كما علم أنها لم تصدق أيً مما قاله، هو نفسه لم يقتنع بأي من أسبابه وهو يدرك كم هي واهية وغير مقنعة.

يعلم الله كم حاول. وحاول. ولكنه ببساطة لم يستطع. هو لم ينفر منها أو شيء من هذا. ولكنه فقط عجز عن الاقتراب منها. حتى إنه عجز عن التظاهر بالحماس الفاتر كما اعتاد معها مؤخراً.
تمرد جسده على أوامر عقله. وخضع باستسلام كامل لأوامر القلب الذي أخبره أنه ملكاً لسمراء ذهبية العينين وأبى أن يكون ملكاً لامرأة سواها. وانتهت الليلة بجرح هائل لا ينـ.ـد.مل بقلب نعمـ.ـا.ت.

كم هاله رد فعلها وهي تتكوم على نفسها وتخفي نفسها عن عينيه وهي تنظر له بعينيها الدامعتين اللتين بعثتا له نظرات اللوم والاتهام والعتاب ثم تخفضهما باستسلام وكأنها تلقت منه ما تتوقع وما انتظرته منذ زواجه الثاني، ولكن رغم ذلك لم تدكا أعماقه كما فعلتا عينيها الذهبيتين وهو يخبرها بأنه سيقضي ليلته في الطابق العلوي. تلك الدمعات التي تساقطت على وجنتيها اللامعتين هم ما أعجزوه عن منح نفسه لغيرها.

برغم قسوة ما حدث وصدمته به. إلا أن عذابه الأكبر هو إخلاله بمبدأ العدل بين زوجتيه. وهذا ما يجب أن يفكر به بتمعن. يجب أن يصل إلى حل لتلك المعضلة فهو طالما اعتقد أن شغفه ومشاعره الغامضة نحو نورا يعادلها كم هائل من مشاعر الود والاحترام نحو نعمـ.ـا.ت. ولكن بعد ليلة الأمس واكتشافه بعجزه عن منح نعمـ.ـا.ت ما تستحق كزوجة اختلت كفتي الميزان. واهتز قانون العدل في نظره ويجب عليه التفكير ملياً كي لا يظلم أي منهما وعلى الأخص نعمـ.ـا.ت.

نعم. هو يجب أن يهيئ نفسه لاتخاذ قرار حاسم. ولكنه يبتهل إلى الله أن يكون عادلاً بقدر ما هو حاسم...

شعرت نعمـ.ـا.ت وكأنها ذرفت دمـ.ـو.عها كلها فلم يتبق لديها المزيد. تشعر بجفاف في مآقيها لا يعادله إلا جفاف روحها. جرح عميق سببه لها رؤوف. جرح لا براء منه. لاتصدق عزوفه عنها أمس وعجزه عن التواصل معها. وهي من حاولت دفن الحقد في قلبها ومنحه فرصة أخيرة ليصلح الوضع ويساوي كفتي الميزان. ويعيد إليها جزء من كبريائها الذي مرغه في التراب وهو يزداد التصاقاً بابنة عمه في الفترة الماضية. ابنة عمه التي أصبحت عالمه ومداره الذي يدور حوله.

رؤوف من كان لا يعترف بالحب وقصص العشق، سقط بقوة في غرام السمراء الصغيرة. في غرام ابنة العم الشابة. تلك الفتاة التي سعدت في البداية لاختياره لها وظنتها فتاة متوسطة الجمال وذات لسان سليط سينفر رؤوف على الفور. ولكن ما حدث هو العكس فجمال نورا تفتح وازدهر بزواجها من رؤوف الذي تبين أن لسانها السليط جزء من التعويذة التي ألقتها عليه. ليتحول رؤوف إلى رجل آخر. رجل لم تعد تتعرف عليه. أو تعرف طريقاً للتفاهم معه. تشعر برفضه لتصرفاتها. وإن لزم الصمت ولم يعلق. كانت تظن أن ذلك من باب الحفاظ على حسن العشرة. ولكنها تدرك الآن أن ذلك نوع من الشفقة أو العطف على امرأة هو غير قادر على منحها أكثر من الاحترام. وكل ذلك نتيجة لدخول تلك الفتاة في حياته.

ازداد الغضب والحقد داخل قلب نعمـ.ـا.ت. كلما تذكرت تبريراته الواهية لما حدث في الليلة الماضية. وهي تدرك كذبها جميعاً. فهي واثقة إنه لا يعاني من تلك الضغوط مع سمرائه الصغيرة. فأخذت تردد بجنون:.

تلك الساقطة الصغيرة التي سيطرت عليه بجسدها الشاب واستحوذت على كل اهتمامه ومشاعره ولم تترك لي أي شيء وهذا ما تأكدت منه الليلة الماضية. ليلة الجرح الدامي لي كامرأة وزوجة. ليلة إهانة وإذلال أنوثتي على يد زوجي. نعم أنوثتي. وهل معنى أنني وصلت لسن الخمسين أن أعتزل الحياة؟ أن أتنازل عن كياني وكبريائي كأنثى؟ وهل لأنني أكبره في السن فيجب عليّ أن أرضى بما ألتقطه من فتات اهتمامه؟ وأليس من حقي التنعم بقربه؟ هل يجب عليّ أن أقدم تنازلي عنه وأتقاعد عن الحياة لمجرد بلوغي الخمسين؟ وأتركه لتلك الفاسقة التي تستغل شبابها لتهيمن عليه وتستعبد حواسه وتبعده عني. أنا من علمته كيف يكون رجلاً.

عند تلك النقطة شعرت نعمـ.ـا.ت بالدماء تجري حارة إلى رأسها وفقدت كل منطقها وتعقلها وهي تتوجه نحو غرفة نورا تتقافز في مخيلتها مشاهد تجمع بين رؤوف ونورا وهو يمنحها ما ضن به عليها هي.
اقتحمت نعمـ.ـا.ت جناح نورا وهي تدفع الباب بقوة أجفلت نورا التي كانت جالسة على الأريكة ومنـ.ـد.مجة في قراءة أحد الكتب الذي يتكلم عن الحمل ومراحله، فدست الكتاب خلف إحدى الوسائد تخفيه عن عيون نعمـ.ـا.ت وهبت واقفة وهي تصيح بها:.

ما هذا؟ كيف تقتحمين الغرفة بدون استئذان؟ ماذا تريدين؟
أجابتها نعمـ.ـا.ت بغضب:
أنا لم اقتحم أي مكان. أنا في بيتي ومن حقي دخول أي غرفة وقتما شئت وكيفما شئت. أم تراكِ نسيتِ ذلك؟ أما الذي أريده. فهو توضيح بعض النقاط التي قد تكون غائبة عنكِ.
شحب وجه نورا عند سماعها تلميح نعمـ.ـا.ت بأنها سيدة المنزل مما يعني أن نورا ليست بأكثر من ضيفة مؤقتة، بينما نعمـ.ـا.ت تكمل هجومها.

ماذا! ألم يعجبكِ كلامي؟ ألم تدركي أنكِ مؤقتة في حياته مثل مكان جناحكِ المنعزل في منزله؟ ألم تفهمي أنني اخترت مكان جناحكِ بعيداً جداً عنه حتى تدركي بنفسكِ مكانتكِ في أسرتي الصغيرة. ركن صغير منعزل.

عنـ.ـد.ما تفوهت نعمـ.ـا.ت بتلك الكلمـ.ـا.ت التي تقصد بها جرح نورا، أدركت تلك الأخيرة. أنها لا تعرف كيف أن مكتب رؤوف يرتبط بذلك الجناح عبر الحديقة الداخلية وأدركت كذب كلمـ.ـا.تها التي تتشـ.ـدق بها فارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيها وهي تخبرها:
ولكن رؤوف هو من اختار لي جناحي. هل تعلمين لماذا؟

شحب وجه نعمـ.ـا.ت وهي تدرك انكشاف كذبتها، فسحبتها نورا أمام النافذة. لتريها منها مكتب رؤوف المكشوف أمامها، فازداد شحوب نعمـ.ـا.ت بينما نورا تواصل:
يبدو لي أنكِ لم تت عـ.ـر.في جيداً على منزلكِ كما تدعين. ويبدو لي أيضاً أنكِ لا تقضين ما يكفي من الوقت مع رؤوف لتكتشفي ما الذي تطل عليه نافذة مكتبه.
ألقت نورا كلمـ.ـا.تها وهي تكتف ذراعيها على صدرها وترمق نعمـ.ـا.ت باستخفاف لتكمل:.

والآن. إن كنتِ انتهيتِ من لغوكِ المريـ.ـض. أرجو أن تخرجي بهدوء.
ازداد غيظ نعمـ.ـا.ت أمام ثبات نورا فصاحت بها:
يبدو أنكِ أنتِ من نسيتِ أن زواجكما كان بهدف إنجاب الذرية لعائلة الجيزاوي؟ حتى يرضى كبير العائلة وينال رؤوف منه ما يريد، من ثروة ونفوذ.
صمتت قليلاً لتردف بنبرة ذات مغزى:
كما كان زواجه مني بالضبط. أولى محطاته للاستيلاء على عقل وثروة العجوز.

صعقت نورا من كلمـ.ـا.ت نعمـ.ـا.ت. ما الذي تقصده تلك العجوز؟ هل تظنها فتاة ساذجة حمقاء فأتت لتتلاعب بها وبأفكارها وتشوه صورة رؤوف أمامها. ألا تعرف أنه ابن عمها قبل أن يكون زوجها. وهي أكثر الناس دراية برفعة أخلاقه ونبل تصرفاته.
فصرخت بها حتى تخرسها عن هذا اللغو:
اصمتِ. هل تستمعين لنفسكِ؟ كيف تفكرين هكذا؟ ألم تدركي طبيعة رؤوف وإنسانيته ومروءته طوال سنوات زواجكِ منه؟! كيف تتطاولين عليه هكذا؟

سخرت منها نعمـ.ـا.ت بقسوة تريد جرحها وقـ.ـتـ.ـل ثقتها برؤوف:
بالطبع أنا أعرف كل شيء عن رؤوف.
ثم وضعت يدها في خصرها وهي تنظر لها نظرة ذات معنى:.

كل شيء. ألم أكن زوجة له لخمسة عشر عاماً؟ وشهدت تطوره من شاب غرير خجول إلى رجل الأعمال والزوج الناجح. كم عمر زواجكِ يا صغيرة؟ هاه. خمسة شهور. خمسة شهور جعلوكِ تفهمين رؤوف وتدركين مميزاته؟ تظنين أنكِ استوعبتيه وملكتيه بعد خمسة شهور. تعشمين نفسكِباللحظة التي تكونين فيها أولى اهتمامـ.ـا.ته. والمرأة الوحيدة التي يهتم بها. هذا لن يحدث.

كانت نعمـ.ـا.ت تهمس بكلمـ.ـا.تها الأخيرة بألم وكأنها تحدث نفسها وتحاول إفاقتها من حلم عاشت به لسنوات.
وعادت لترفع صوتها:
رؤوف لا يهتم سوى برؤوف. وعائلة الجيزاوي. وأعمال عائلة الجيزاوي. وكل ما عدا ذلك هي كماليات. وإضافات لا معنى لها.
وضعت نورا يديها على أذنيها وهي تحرك رأسها يمنة ويسرة تحاول منع سموم نعمـ.ـا.ت من التسلل داخلها وتقاوم البداية المألوفة لنوبة غثيان قوية:.

اصمتِ. يا إلهي. اصمتِ. كيف تشوهينه بتلك الطريقة؟! كيف عشتِ معه وأنتِ تظنين ذلك به؟
صرخت نعمـ.ـا.ت:
لأني أردت طفلاً. كل ما كنت أريده هو طفل. بينما هو أراد كل شيء آخر بدءً من رضا جده وحتى ابنة عمه الصغيرة. وأخيراً نال كل ما أراد. بينما أنا...
وتعالى صراخها:.

أنا. أنا حصلت على زوج طفل. حولته إلى الرجل الذي يسعد لياليكِ في الفراش. لينتقل بكليته إلى الفتاة الشابة ذات الجسد الممشوق والمفاتن الظاهرة. ولكني سأظل دائماً موجودة بداخله حتى ولو بعيداً جداً في أعمق أعماقه. لن يستطيع أن يتناساني أو يتخطى أولى ذكرياته كرجل بين ذراعي.
واقتربت من نورا تجذب ذراعها بشـ.ـدة وتهمس لها بحقد بالغ:.

أريدكِ أن تتذكري في كل لحظة يضمك فيها إلى صدره. إنني أنا. المرأة العجوز التي تنظرين إليها باشمئزاز الآن قد عشتها معه من قبل، بل أنني من لقنته فنون العشق التي يغمرك بها.
اتسعت عينا نورا باشمئزاز وزاد إحساسها بالغثيان وبداية دوار يهاجمها بقوة وتلك الصور تتوالى أمام عينيها وحاولت جذب يدها من نعمـ.ـا.ت وإحساس الغثيان يزداد بداخلها:.

يا لكِ من عجوز حاقدة وشريرة. لو لم تكوني في سن أمي، بل أنتِ أكبر منها سناً حتى. لكنت أجبت على كل كلمـ.ـا.تكِ الحقيرة. اتركيني. فأنتِ تثيرين اشمئزازي.
نورا!
التفتت المرأتان معاً لتريا رؤوف واقفاً بباب الجناح وقد شحب وجهه بينما تلتمع عيناه بنظرات غاضبة بل حارقة. وقد تغلف جسده بهالة واضحة من الغضب الصارخ الذي يهدد بحرق كل شيء.

شحب وجه نورا وهي تظن أنه سمع جملتها الأخيرة فقط وخشيت أن يعتقد إنها تهين نعمـ.ـا.ت بدون سبب، وتتطاول عليها متعمدة. وازداد شعورها بالغثيان والدوار وهي تلمح بريق الانتصار في عيني نعمـ.ـا.ت فعلمت أنها ستستغل تلك الفرصة بدناءة فهتفت بضعف:
رؤوف. لا. لا تتسرع. أنا.
ولم تستطع إكمال جملتها فقد تهاوت أرضاً وهي تشعر أن الغرفة تميد بها.

سارع رؤوف نحوها ليلتقطها قبل أن يمس جسدها الأرض بسنتيمترات بسيطة. فالتفت عباءتها الفضفاضة حولها لتظهر بروز بطنها الصغير بوضوح أمام عيني نعمـ.ـا.ت المذهولتين وهي تدرك الحقيقة الغائبة عنها. الحقيقة التي ستقلب جميع موازينها.
الساقطة الصغيرة حامل! .
التقط منذر هاتفه من على سطح مكتبه بعدما أصدر صوتاً ينبئ بورود رسالة إليه. أخذ يتأمله للحظة. يتمنى أن تكون الرسالة من سهير. يريد أن يطمئن أن حياتهما من الممكن أن تتحسن وتتطور للأفضل، فبعد ليلة أمس وذوبانها بين يديه الأمر- الذي فاجئه- عادت في الصباح لتتقوقع على نفسها وتتجنب النظر في عينيه، ومواجهة تساؤلاته عما حدث ليجعلها تتباعد عنه مرة ثانية...

تصاعد صوت الهاتف يعلن عن وصول رسالة ثانية. فأدرك على الفور هوية المرسل، بالتأكيد وداد.
كانت الرسالة الأولى اعتذار رقيق من وداد:
آسفة جداً. لا تغضب مني. أنا أعتذر منك رغم أنك أنت من أهنتني بهروبك السريع.
ابتسم رغماً عنه وهو يستشعر اهتمامها به. وفتح الرسالة الثانية والتي كانت تتوسله فيها للحضور حتى تراه.

ارتفع رنين الهاتف ليعلن عن اتصال منها فرفعه سريعاً إلى أذنه وقبل أن ينبس بأي كلمة سمع صوتها اللاهث يتوسله:
منذر. أرجوك. أنا آسفة لا تكن قاسياً هكذا. لقد أغلقت هاتفك منذ الأمس. لا تحرمني من رؤيتك. عاقبني بأي شيء غير هذا. على الأقل مر بالسيارة أمام منزل جدك حتى أراك.
قاطعها منذر بهدوء:
- ما كل هذا يا وداد؟ لقد أغلقت الهاتف لليلة واحدة فقط!

أجابته وقد بدأ صوتها يكتسب غنجه المعتاد وقد أدركت أنها تغلبت على غضبه منها:
-وهل تعتبر مرور ليلة كاملة بدون أن أسمع صوتك شيئاً بسيطاً! يا لك من قاسي القلب.
ضحك بقوة وهو يقول لها:
- حسناً. لا تغضبي. لقد سمعتِ صوتي. سأغلق الخط الآن.
صاحت بنزق:
- منذر!

ذكرته صيحتها. بصيحة مماثلة لمعشوقته وهي تنهره بخجل عنـ.ـد.ما كان يصارحها بحبه. رغم أن اسمه هو ما تردد في كل مرة على لسان كلتا المرأتين، إلا أن الفارق كان رهيب بين خجل سهير الطبيعي الذي اخترق قلبه وجعله ينتفض بين ضلوعه. وغنج وداد الوقح الذي يثير حواسه وغرائزه. ابتسم لنفسه بسخرية وهو يتساءل في نفسه بعجب:
وقح؟! .
ليجيب تساؤله بصراحة:
نعم. وقح.

إنه يدرك أن وداد امرأة وقحة، إلا أنه معجب بهذه الوقاحة. لابد أنه مريـ.ـض. أو منحرف ليعجب بشيء كهذا. وكلما تعمق في تلك العلاقة زاد احتقاره لنفسه.

يجب عليه تحجيم تلك العلاقة تمهيداً لإنهائها وإلا فقد تفعلها أمه وتحرمه من سهير بالفعل. وهو لا يستطيع تحمل ذلك. حتى وهما على تلك الحال من الخلاف الغير مفهوم. لا يريد البعد عنها. فهو يعيش على أمل أن تتحسن حياته الزوجية، ووجود وداد سيدمر ذلك الأمل. يجب أن يتخلص منها بسرعة. فأجابها بفتور:
- حسناً يا وداد. صدقاً لابد أن أذهب الآن. سوف أحادثكِ لاحقاً.
سارعت بسؤاله:
- هل سآراك اليوم؟

- لا أدري. سأهاتفكِ فور أن أرتب أموري.
وأغلق الخط سريعاً قبل أن يتراجع عن قراره.

أراح رؤوف جسد نورا المتهالك بين ذراعيه برقة على فراشها تحت نظرات نعمـ.ـا.ت الحارقة والتي مازالت تحت صدمة اكتشافها لحمل نورا. وغيظها من حالة الإغماء التي أصابتها وأعفتها من غضب رؤوف بعد أن سمع بأذنيه إهانة نعمـ.ـا.ت على لسانها. وفوجئت به يصيح بها وهو يتحرك بسرعة ليلتقط زجاجة عطره ويرش القليل منها أمام أنف نورا:
- نعمـ.ـا.ت. اذهبي إلى غرفتكِ الآن.
صاحت به بغيظ:
- ماذا؟ ألن نتحدث عن هذا؟

أعاد رؤوف محاولة إفاقة نورا بلا جدوى. مما سبب له قلقاً عاصفاً فعاد يصـ.ـر.خ ثانية:
-نتحدث! عن ماذا؟ ألا ترين أنها مريـ.ـضة!
أجابته بحقد:
- بل أرى أنها حامل. إلى متى ظننت أن بإمكانك إخفاء الأمر؟
تفاجئ رؤوف بإدراك نعمـ.ـا.ت لحمل نورا، ولكن أراحه ذلك فهو يريد كشف الأوراق كاملة. فقد أُنهك تماماً وهو يحاول المحافظة على مشاعرها. بينما هي...
قاطعت أفكاره بصوتها الصارخ:
- رؤوف. أجبني.

أجابها وهو يبحث عن هاتفه ويعبث بأزراره بجنون
- نعمـ.ـا.ت. اخرجي من الغرفة الآن، حتىأتمكن من مهاتفة الطبيب.
سألته بغيظ:
- ألن نت...
قاطعها صارخاً:
- الآن.

شكر رؤوف الطبيب بعدما طمئنه على صحة نورا. ولكنه حذره من تعرضها لأي ضغوط إضافية لأنه لاحظ بداية طفيفة لارتفاع في ضغط الدم، وإن سيطر عليها حالياً، لكنه لا يضمن ألا تشكل خطورة على صحتها وصحة الجنين إذا تكرر الأمر...
وما أفزع رؤوف أن الأمر تكرر وبصورة أقوى من المرة الأولى فهي ما أن سمعت تلك الكلمـ.ـا.ت حتى دخلت في نوبة بكاء.

فاقترب من فراشها بهدوء ليجلس مقابلاً لها وسحبها بين ذراعيه وهو يمسد على شعرها بحنان:
- ماذا هناك؟ لماذا تبكين الآن؟
أجابته وسط شهقاتها:
-ألم تسمع كلمـ.ـا.ت الطبيب؟ إنه يقول قد توجد خطورة على حياة الجنين.
ضمها بقوة:
- هششش. توقفي عن البكاء. ألم يخبركِ أن تتوقفي عن الانفعالات الحادة.
ابتعدت عن أحضانه وهي ترمش بأهدابها تحاول نفض الدمـ.ـو.ع عنها:
-لهذا لم تصرخ عليّ؟ خوفاً على الطفل؟
سألها بتعجب:.

- لماذا تظنين أنني أريد الصراخ عليكِ؟
تسارعت الكلمـ.ـا.ت على لسانها:
-أعلم أنك غاضب. لقد رأيت وجهك عنـ.ـد.ما دخلت الغرفة. ولكني أقسم لك أنني لم أُهنها أو أتطاول عليها بدون سبب. إنها هي من.
وضع أصابعه على شفيها يسكتها عن الكلام:
- هششششش. لستِ بحاجة للقسم. لقد سمعت كل شيء.
رفعت عيونها المغرورقة بالدمـ.ـو.ع لتنظر في عينيه:
- كل شيء؟
أومأ بحزن وهو يبتعد بعينيه عن عينيها ويتحرك بعيداً عن الفراش:
- نعم.
سألته بريبة:.

- لهذا لم تصرخ عليّ؟ أم لخوفك على الطفل؟ أم لأنك توافق على كلمـ.ـا.تها؟، أم.
زفر بضيق مقاطعاً استرسالها في الكلام:
- نورا. أرجوكِ لا تحاولي تفسير شيء أنتِ غير مدركة لكل أبعاده.

بعد سماعها جملته عادت دمـ.ـو.عها تنهمر بغزارة وهي تسترجع كل كلمة قالتها لها نعمـ.ـا.ت. وخاصة عن مكانة كلا منهما في حياة رؤوف. فما قالته نعمـ.ـا.ت صحيح. إنها ستظل في أعماق رؤوف دائماً، فنعمـ.ـا.ت بالفعل هي أول امرأة في حياته وتجمعهما ذكريات مشتركة عديدة حاولت بشـ.ـدة عدم التفكير بها وإزاحتها من عقلها من قبل حتى تستطيع إكمال حياتها كزوجة ثانية لرؤوف، ولكن كلمـ.ـا.ت نعمـ.ـا.ت أيقظت عقلها من سباته وبدأ يصور لها شريط من صور متوالية لرؤوف ونعمـ.ـا.ت معاً وكلما توالت الصور في عقلها كلما تعالت شهقاتها وتحولت إلى هيستريا حقيقية أفزعت رؤوف بشـ.ـدة فهي عادت تجهش في البكاء وهو غير قادر على إيقافها أو ادراك سبب انفجارها مرة ثانية وأخذت تردد من بين شهقاتها:.

-غير مدركة! غير مدركة لماذا بالضبط؟
شعرت في لحظة أن كل ما تحاوله معه هي محاولات هشة وعقيمة ولن تثمر أبداً، فهو لن يدرك عمق حبها أبداً. ولن تصل معه إلى نقطة تفاهم حتى وليس حب متبادل أو مشاعر عميقة كالتي تجمعه بنعمـ.ـا.ت. فهو استمع لإهانات نعمـ.ـا.ت لها ولم يحاول التدخل لحمايتها وإيقاف نعمـ.ـا.ت.
نهضت من الفراش لتواجهه وأخذت تردد بذهول وهي تشير إليه بسبابتها:.

-أن. ت سم. عت. سمعت كلمـ.ـا.تها الحقيرة لي. وإهانتها المتعمدة ولم تتدخل لتمنعها. كيف؟ كيف؟ هل أنا لا شيء بالنسبة لك حتى تتركها تجرحني هكذا؟
قاطعها بحدة وهو يقترب منها:
- نورا. اسمعيني لحظة، أن...
صاحت بغيظ:
- لا أريد أن أسمع شيء. يكفي ما سمعته اليوم.
صرخ بغضب:
- يا إلهي! ما هذا الجنون! لا تدعي هرموناتكِ المـ.ـجـ.ـنو.نة تتحكم في عقلكِ.
صرخت به ودمـ.ـو.عها تنهمر بغزارة:
- هرموناتي جُنت بسبب طفلك.

وأخذت تخبط على بطنها بجنون:
- ذلك الذي تريده أكثر من أي شيء آخر أليس كذلك؟
اقترب منها ليبعد يديها عن بطنها وهو يحاول منعها من أذية نفسها:
- اهدئي أيتها المـ.ـجـ.ـنو.نة. اهدئي. ستؤذين نفسكِ.
شل حركة يديها المـ.ـجـ.ـنو.نة بينما أخذت تردد:
- أريد أمي. أريد أمي.
حاول تهدئتها بلا فائدة. وظلت تردد. أريد أمي. بلا انقطاع. وأخيراً رضخ لطلبها هامساً في أذنها بحرقة:.

- حسناً سآتي لكِ بأمكِ، ولكن لن تخرجي من هذا المنزل يا قمر، هل سمعتِ؟ لن تبتعدي عني أبداً.
واتصل بعمه وأخبره أن نورا تحتاج والدتها في بعض الشئون النسائية.

صعدت نعمـ.ـا.ت إلى غرفتها بعدما خرجت كالعاصفة من الغرفة التي دخلتها لتنتقم من رؤوف في شخص زوجته الصغيرة وتحاول خلخلة ثقتها فيه وتحطم حبها له وخرجت وقد تلقت هزيمة أقوى من هزيمة البـ.ـارحة. فالصغيرة حامل. لقد قُضيّ الأمر إذاً. فهي على الرغم من كل التحاليل التي تثبت سلامة رؤوف وقدرته على الإنجاب، إلا أن أملاً خفياً كان يداعبها بأن لا تحمل الصغيرة، وأن يكون رؤوف كعمه غير قادراً على الإنجاب، ومع مرور الشهور وعدم ظهور بوادر الحمل على نورا قويّ هذا الأمل في قلبها. وشطح خيالها أحياناً بأن تتمرد الفتاة وتهجره طلباً لطفل من رجلٍ آخر ويعود هو لها مطأطئ الرأس طالباً غفرانها على تفكيره في امرأة غيرها وإن كانت زوجته.

كم تخيلت مشاهد عتابها ومسامحتها له وكيف سيعودان لحياتهما القديمة قبل دخول نورا إليها ويطويان صفحة الإنجاب تماماً فيُحرم هو من وجود ابن له كما حرمت هي. ويزداد تقاربهما فوجعهما سيكون واحد، ولكن مرة أخرى تهزمها الصغيرة وتثبت أنها الأحق برؤوف، بل إنها تلك المرة ختمت على صفقة زواجهما بختم أبدي وحملت طفله. وريث الجيزاوي. الآن بالفعل أصبح لا مكان لها في بيت رؤوف.

ما أن رأت نورا والدتها حتى ارتمت بين أحضانها وهي تجهش بالبكاء. تحت نظرات رؤوف المذهولة ونظرات والدها القلقة، همست شموس لها بفزع:
- ماذا بكِ يا نورا؟ لقد اطمأنيت على صحتكِ من رؤوف. ما سبب تلك الدمـ.ـو.ع؟
أخذت نورا تشهق بحدة:.
ما أن خرج رؤوف برفقة نعمـ.ـا.ت من الغرفة حتى توجهت نورا إلى خزانة ملابسها محاولة اخراج ثيابها. بينما تبادل والديها نظرات حائرة. وارتفع صوت شموس تسأل ابنتها: - نورا. ماذا تفعلين؟
أجابتها نورا بغيظ: -أجمع ملابسي. أليس هذا واضحاً؟!
سألتها شموس ببرود بعدما تبادلت نظرة ذات مغزى مع عبد السلام: - لماذا؟
صاحت نورا بغضب: - لماذا ماذا يا أمي؟ لأنني سوف آتِ معكما بالطبع.

سألتها شموس بصبر: - لماذا تريدين ترك بيتكِ؟ ماذا حدث؟
لم تجبها نورا وأخفضت بصرها أرضاً.
كان الدور على عبد السلام ليسألها بنبرة تعرفها جيداً:
- ألم تعطي وعداً لزوجكِ ألا تتركي البيت؟ وحتى بدون الوعد يا نور القمر، منذ متى تترك بنات الجيزاوي بيوت أزواجهن؟
صرخت نورا بغيظ:
- وهل تريدني أن أنتظره بعدما يفرغ من الحديث مع جلالتها و.
صرخ بها أبيها:.

- نور القمر! انتبهي للسانك. فأنتِ تحدثين والدكِ، وإذا كنتِ لا تنوين الالتزام بوعدكِ فلماذا منحتيه له؟
لم تعرف نورا بم تجب والدها. فهي غير قادرة على المكوث في بيته لحظة واحدة وخاصة بعد إدراكها أنها كانت تعيش كضيفة في بيتها. وأن نعمـ.ـا.ت كانت تمارس دور سيدة المنزل بكل صلف وغرور. و، هي الآن مع رؤوف. معه وحدهما. في غرفة المكتب. تحركت بسرعة لتزيح الستائر وتكشف النافذة لتفاجئ بأن نافذته مغلقة.

فصرخت بغيظ وهي تلقي بثيابها بعبث: - أريد الذهاب الآن.
هم والدها بالصياح بها مرة أخرى إلا أن شموس أشارت له وتولت هي سؤالها تلك المرة وهي تتجه نحو الخزانة مدعية أنها تساعدها في جمع ملابسها التي بعثرتها ولكنها في الواقع كانت تعيد ترتيبها وتعيدها إلى الخزانة مرة أخرى: - هل تريدين ترك المنزل للأبد؟ أم لفترة مؤقتة؟ أخبريني حتى أعد لكِ ما يكفي من الثياب؟

والتفتت نحوها تسألها باستفزاز: - هل ستكتفين بالثياب أم ستجمعين كل أشيائكِ؟
أجابتها نورا بتحدي: - اجمعي كل شيء.
تصنعت شموس الاستسلام والحزن: - حسناً. سأصطحبكِ معي الآن، وسأترك والدكِ ليتفاهم مع رؤوف على طلباتكِ. فأنتِ لكِ حقوق ولن.
صرخت نورا: - أمي! أي تفاهم؟ وأي حقوق تلك؟ لماذا تتحدثين وكأنني أريد.

قاطعتها شموس بحسم: - نعم يا نور القمر. ماذا تريدين؟ ماذا حدث الآن لتهدمي المعبد فوق رؤوس الجميع. لقد مر بكما الكثير ومع ذلك تحملتِ بصبر أثار تعجبي وإعجابي معاً.
سألتها نورا مشـ.ـدوهة: - أمي. كيف.؟

قاطعتها شموس بعدما أشارت لعبد السلام فترك الغرفة لتستطيع الأم التفاهم مع ابنتها: - كيف عرفتِ؟ لأنني أمكِ؟ أم أن هذه إجابة لا تكفي؟ لأنني كنت أراه يجركِ خلفه في كل مكان وفي عينيه تلك النظرة الجـ.ـا.مدة، وفي عينيكِ نظرة عاشقة وراضية. وأنتِ كنتِ مستسلمة وخاضعة لم تعترضي على ذلك، بل كأنكِ كنتِ تريدين إثبات شيئاً ما. فماذا حدث اليوم ليثير ذلك الانقلاب الخطير في نفسيتكِ؟

ثم ضمتها بحنان وهي تسألها مباشرة: - لماذا كنتِ تبكين يا حبيبتي؟ عنـ.ـد.ما وصلنا كنتِ منهارة، ماذا حدث؟
سالت دمـ.ـو.ع نورا بصمت: -إنني لن أحتمل أن أتواجد تحت سقف بيته لوقتٍ أطول.

لم تستطع أن تخبر والدتها بأن ما حدث اليوم كان القشة التي قسمت ظهرها. التي أظهرت لها عدم جدوى ما تقوم به وما تحاول إيصاله له من مشاعر. فهو حتى لم يدافع عنها عنـ.ـد.ما سمع تهجمـ.ـا.ت نعمـ.ـا.ت بأذنيه، فكيف تستطيع البقاء معه وهو لا يحترمها. ولكن رغم كل غضبها منه لم تستطع أن تشوه صورته أمام والدتها التي أبعدتها عن صدرها وهي تسألها: - هل تريدين تركه؟ أم تلقينه درس فحسب؟

فوجئت نورا بفهم أمها لها وحاولت تتكلم عنـ.ـد.ما قاطعتها شموس: - لأنكِ في كلتا الحالتين أخطأتِ الوقت. دعيني أكمل كلامي. وأسألكِ لماذا الآن؟ لماذا بعد ما تحولت نظراته الجـ.ـا.مدة إلى أخرى تذوب عشقاً. لماذا بعدما لم يخجل من وجودي ووجود والدكِ وتوسلكِ البقاء؟ هل أخطأ بالفعل؟ أم أنكِ تبحثين عن استسلام كامل؟
غمغمت نورا بحرج: - أنا.

قاطعتها شموس بحسم: - أنتِ ستبقين حتى تتحدثي مع زوجك. وبعد ذلك إذا أردتِ تركه سأنفذ لكِ رغبتكِ.
أومأت نورا موافقة أمها فهي لا تريد ترك رؤوف. وهل جنت لتترك رؤوفها الجديد. إنها فقط تريد تلقينه درساً كما فهمتها أمها بفراسة.

ما أن وطأت نعمـ.ـا.ت بقدمها غرفة مكتب رؤوف حتى تحركت نحو نافذته تشير نحوها بسخرية: - لهذا كنت تقضي كل أوقاتك في مكتبك؟ بجانب النافذة.
تجاهلها رؤوف وهو يغلق النافذة ويلف ليجلس على كرسي مكتبه ويتأملها للحظات طويلة وأجابها أخيراً: -نعمـ.ـا.ت. اجلسي من فضلكِ.
- كلا. أفضل أن أكون واقفة. وأنا أتلقى الحكم بإعدامي!
- لا داعي للدراما المبالغ فيها.
صرخت بغضب:.

- مبالغ فيها! ألا ترى أنك أخطأت في حقي. ليس مرة واحدة، بل ثلاث مرات.
وأخذت تعدد على أصابعها:
- أولاً. أخفيت عني خبر حمل زوجتك. وثانياً. اكتشفت أن المنزل الذي أقيم به ملك لضرتي. وأنا من كنت أظن أنني ملكته المتوجة. و.
قاطعها رؤوف:.

- لقد كنتِ ملكة متوجة في منزلكِ الأول. ذلك المنزل الذي رفضتِ الإقامة به مخبرة إياي بكل قسوة. أنه حان الوقت لأنتقل من منزل عمي وأعدُ لكِ منزلكِ الخاص. كما أعددت واحد لعروسي الجديدة. هل نسيتِ كلمـ.ـا.تكِ؟
حاولت مقاطعته لكنه لم يسمح لها:
- لقد كنتِ محقة. بالفعل إنه حقكِ أن أعد لكِ منزل خاص. ولكننا أقمنا في منزل عمي كما تدعين بناء على رغبتكِ التي استجبت لها في ذلك الوقت. أليس هذا صحيحاً؟

أجابته بقوة رافضة الموافقة على كلمـ.ـا.ته:
أنت اعترفت الآن بحقي في منزل منفصل.

- نعم. وعند زواجي من نورا طلبت منكِ اختيار أي منزل لأشتريه لكِ. لكنكِ أصررت على أن أشيد منزل من الصفر. وطلبتِ البقاء في منزلي الجديد. كنتِ تضغطين عليّ بقوة وتضعيني في موقف حرج أمام عمي وعائلته بأكملها وقبل كل شيء أمام نورا التي ظنت أنني خدعتها، واحتملت أن أظهر في مظهر الرجل الوغد حتى لا تقوم حرب في ذلك المنزل. وإلى الآن أنتِ ترفضين رؤية الأرض التي سيقام عليها منزلكِ. فأين أخطأت في حقكِ؟

أجابته بغضب:
- لقد سجلت المنزل باسمها!
أجابها ببرود:
- ليس لكِ أن تحاسبيني على ذلك ما دمت سأفعل لكِ المثل. هل هناك شيء آخر؟
فوجئت نعمـ.ـا.ت بكمية البرود التي يتعامل بها. إنه يعاملها كموظف لديه، فقالت بغيظ:
- وخبر حملها؟
أجاب بنفس البرود:
- كنت سأخبركِ في الوقت المناسب.
كانت تريد أن تصرخ به وليلة أمس. وإهدار كرامتي وبعثرة كبريائي في الوحل. ولكنها بدلاً من ذلك قالت بغضب:.

- لقد سمعت إهانتي بأذنيك ولم ترفع ساكناً لتدافع عن كرامتي!
أجابها بسخرية:
- يبدو أنكِ غفلتِ عن تعليم الزوج الطفل الذي لقنتيه فنون العشق، كيفية الدفاع عن كرامة زوجته.
تراجعت نعمـ.ـا.ت خطوتين للخلف وقد شحب وجهها بعد إدراكها لسماعه حوارها مع نورا بالكامل، بينما تحرك هو من خلف مكتبه ليتقدم نحوها هامساً بقسوة:.

- فقط. أحب أن أصحح لكِ معلومـ.ـا.تكِ، فرؤوف الذي تظنين أنكِ ساهمت في تكوينه. لم يكن رجلاً تفتخرين به كما تظنين، كان مسخاً. مسخ حولته فتاة عاشقة إلى إنسان. إنسان حي.
غمغمت بضعف:
- رؤوف. أنا.
عاد لمقاطعتها:.

- أنا من سيتحدث. أنا لن أدخل في لغو النساء. فكلانا يعلم سبب تهجمكِ على نورا. وأنا اعتذرت عن ما حدث ليلة امس، ولكن لن أدع نورا تدفع ثمنه. ما أريد معرفته حقاً. هل تظنين أن زواجي منكِ كان خطوة لتحقيق طموحاتي؟ هل تظنين أنني ذلك الرجل الانتهازي الذي لا يعبأ بشيء إلا تحقيق طموحه والاستيلاء على ثروة جده على حساب كل شيء؟
واجهته بقوة:.

- هل تريد إخبـ.ـاري أنك تزوجتني لأنك أحببتني؟ أنت تزوجتني لتنفيذ أوامر جدك.
وافقها رؤوف بهزة من رأسه:
- هذا صحيح. ولكني استمريت معكِ لخمسة عشر سنة، ولم يكن ذلك بناء على أوامر جدي. لقد حملت لكِ كثير من مشاعر المودة والرحمة والاحترام.
- ولكن ليس الحب.
هز رأسه:
- ولكن ليس الحب. آسف على ذلك.
سألته بألم:
- وهي. هل.
قاطعها بهدوء:
- هذا شيء يخصني أنا وهي فقط.
همست:
- ولكني أحب.

أوقفها بإشارة من يده. فبعد سماعه لكلمة الحب على لسان نورا. بل من قلبها الصادق لم يستطع ترك نعمـ.ـا.ت تشوه الكلمة بإدعائها حبه. ليس بعدما تغلغت داخله بنبرتها الدافئة الصادقة.

- كلا يا نعمـ.ـا.ت. قد تحملين لي مشاعر عدة. أشكركِ على الطيب منها. وآسف إذا كنت السبب في وجود أي مشاعر سيئة داخلكِ. لكن أي منها ليس الحب. فما تعلمته مؤخراً. أن الحبيب لا يلوث سيرة من يحب حتى بالكلمـ.ـا.ت. لا يقلل من قيمته. أو يشوه سمعته. فلا داعي لترديد كلمة. تحمل مشاعر سامية. لكنكِ تطلقينها في وجهي الآن بغرض الضغط عليّ مرة أخرى.
رفعت نعمـ.ـا.ت رأسها بكبرياء:
- والآن؟
أجابها بهدوء:.

- الآن. أعتقد أنه من الأفضل. أن تذهبي إلى قصر الجيزاوي. حتى يتم تنظيف. منزلكِ القديم. أقصد منزل عمي.
سألته بألم:
- هل تطردني من منزلك. أم من حياتك؟
أجابها بواقعية:
- إن المنزل ملك لنورا كما أدركتِ. ووجودكِ في حياتي شيء يعود لكِ. آسف مرة أخرى على ليلة أمس، صدقاً لم أرغب في إهانتكِ. ولكن الآن بعد سماعي. لكلمـ.ـا.تكِ عني.
بسط يديه أمامه بعجز وكرر:.

- كما أخبرتكِ. وجودكِ في حياتي شيء يعود لكِ. وأنا سأنفذ لكِ ما تريدين.
- سأذهب لأعد حقيبتي لأذهب لقصر الجيزاوي. وسأبلغك بقراري.

تحركت نعمـ.ـا.ت لتخرج من المكتب بكبرياء وأغلقت الباب خلفها. وتركته غارقاً في أفكاره. يتعجب من نفسه وكيف استطاع التحكم في غضبه وخيبة أمله بتلك الطريقة. كاد أن يواجهها أكثر من مرة أنها كما أضاعت عمرها مثلما تظن معه بدون طفل، هو أيضاً فقد خمسة عشر عاماً من حياته بدون أن يعيشهم فعلاً. والآن تعصف به تلك السنوات بما تحمله من العديد من المشاعر التي لم يعرفها إلا مع نورا. ولكنه لم يرد أن تكون مواجهتهما الأخيرة جارحة ومؤذية لهما على السواء. فكتم مشاعره بداخله وأغلق عليها وهذا ما تعلمه من رؤوف القديم. أم أنهاعتاد إظهار انفعالاته أمام نورا فقط.

هل يختزن ألمه حتى تريحه هي بابتسامتها الدافئة؟ وروحها المرحة وأحضانها الحانية؟ هل آن أوان اعترافه؟ على الأقل أمام نفسه. أنه لا يحبها فقط، بل يعشقها. فأذناه لم تحتملا سماع كلمـ.ـا.ت الحب من امرأة سواها. ولم يعد يستطيع إنكار ما يشعر به نحوها، حتى وإن برر لنفسه تغير معاملته لنورا وتحول قسوته السابقة عليها إلى شغف وحنان جارف بسبب حملها ورغبته في تـ.ـو.فير مناخ هادئ حولها حتى لا يتأثر الطفل القادم، ولكن تلك ستكون كذبة كبرى، فمعرفته بخبر حملها كانت إشراقة شمس حبه لها. ليس بسبب الحمل ولكن لإدراكه أن ما يجيش به صدره من مشاعر لم يتأثر بمعرفته للخبر، بل لو زادت مشاعره أكثر من ذلك لأنفجر قلبه حباً وعشقاً لها. إنه فقط غير قادر على التصريح بهذا. فهو لم يعرف بعد كيفية التعبير عما يشعر به في كلمـ.ـا.ت بليغة.

دخل رؤوف إلى جناح نورا التي وجدها راقدة على الأريكة بين أحضان والدتها التي تملس على شعرها برقة وكأنها تمنحها دعمها وحنانها في نفس الوقت. تعلقت عينيه بعيني نورا، فوجد آثار الدمـ.ـو.ع مازالت ظاهرة عليها. استمر تبادل النظرات بينهما لفترة ألقى بعدها التحية عليهما بهدوء:
-مساء الخير.

ردت شموس تحيته بخفوت بينما ظلت نورا ترمقه بنظراتها وهو يتحرك في الغرفة بتململ فهو لا يعلم ماذا يدور برأسها من أفكار. لاحظ اختفاء عمه ولكن خالته شموس مازالت متواجدة. فهل معنى ذلك أنها مازالت مصرة على ترك المنزل. ارتسمت حيرته في عينيه وهو يسأل شموس:
- هل ذهب عمي؟
- كلا أعتقد أنه في الحديقة. سأذهب لأرى إذا كان يحتاج لشيء.

وتركتهما معاً في الغرفة بعدما أطلقت نظرة تحذيرية نحو نورا. كأنها تحذرها ألا تطاوع جنونها وتهد المعبد، وتهدم كل شيء.
بعد أن خرجت شموس تحرك رؤوف نحو نورا ليركع على ركبة واحدة أمامها ويهمس برقة:
- آسف.
هزتها الرقة التي تغلف نبرته كعادته كلما حادثها بتلك الطريقة، سحب يدها ليطبع قبلة رقيقة عليها ويهمس مرة أخرى:
- آسف.
ثم قلب يدها ليطبع قبلة ثالثة في باطن يدها ويعود لهمسه:.

- آسف. آسف. لأنني سببت لكِ الحزن وتسببت في نزول دمـ.ـو.عكِ.
حاولت نورا جذب يدها من يدها لكنه شـ.ـد عليها فسألته:
- هل أنهيت كلامك معها؟
أومأ برأسه قائلاً:
- إنها الآن تعد أشيائها استعداداً للذهاب إلى قصر الجيزاوي.
لم تستطع نورا إخفاء دهشتها وهي تسأله:
- هل ستذهب؟ هكذا؟
أجابها بإيماءة من رأسه. ثم مد أنامله ليرفع ذقنها ويواجه عينيها متسائلاً:
- هل مازلتِ مصرة على ترك المنزل؟
سالت دمـ.ـو.عها وهي تسأله:.

- كيف تركتني أعيش غريبة في بيتي؟
- وهل أشعرتك يوماً بالغربة؟
رمقتة بنظرة لائمة. فأخفض بصره وهو يخفي عينيه عنها:
- أدري أنني آلمتكِ كثيراً، وأنكِ تفهمتني واحتويتِ هواجسي وأشباحي. وأنني رددت ذلك بمزيد من الألم لكِ. فهل أطمع بقليل من التفهم منكِ الآن.
ازدادت دمـ.ـو.عها انهماراً وهي تتذكر ما مرت به معه فنزل على ركبتيه معاً ليستطيع ضمها لصدره فهمست له:
- لقد آلمتني كثيراً. وابتعدت وقسوت و.
قاطعها بحنان:.

-واقتربتِ أنتِ أكثر وأغرقتني بحنانكِ ورقتكِ. وأربكتِ سنواتي الخمسة والثلاثون. وقلبتِ حياتي رأساً على عقب.
ونظر في عينيها:
- ومازلتِ تفعلين.
لم يجاوبه سوى دمـ.ـو.عها التي مازالت تنهمر. يدرك أنها قدمت كل ما لديها والآن تنتظر منه ما يقابل عطائها له. وهو يحاول جاهداً. ولكن يبدو أنه لم يحقق أي نجاح. فقرر تفسير الأمور العالقة أولاً. على الأقل حتى تهدأ قليلاً وتتوقف عن البكاء وبدأ بأمر المنزل:.

- نورا. أنا لم أستطع إخبـ.ـاركِ بأمر المنزل. فهي طلبت منزلاً خاص بها أيضاً. ولم يكن من العدل أن أعلن عن ملكيتكِ لهذا المنزل قبل أن أخصص لها منزلها. تلك كانت قناعاتي. ولم أرغب يوماً في تعريضكِ للأذى.
لم تعرف كيف تعارضه وهو يحدثها بمنطقه هذا، لكنها لم تستسلم:
-إن أبي كان على علم بأمر المنزل. أخبرته ولم تخبرني.

- لقد علم عمي لأنه كان موجوداً لتسجيل العقد باسمكِ بموجب التوكيل الذي منحته له أنتِ وشقيقاتك. ولم يخبركِ لأنني أردت أن أقدم لكِ مفتاح المنزل كهدية زواج. ولكن كما أخبرتكِ. ما حدث من نعمـ.ـا.ت تسبب في تأجيل ذلك قليلاً...
أدركت أنها لا تستطيع هزيمة منطقه فيما يختص بأمر المنزل. والذي حسم الآن بخروج نعمـ.ـا.ت منه. للأبد. فعادت تهاجمه حول ما يؤرقها بالفعل:
- وسكوتك عنـ.ـد.ما أهانتني بتلك الكلمـ.ـا.ت الرهيبة؟

صمت رؤوف قليلاً ثم تحرك مبتعداً عنها لينهض على قدميه ويتجه نحو النافذة يتأمل الفراغ بشرود ثم التفت إليها قائلاً:
- نورا. كوني منصفة لقد كانت الإهانات كلها موجهة لشخصي. هي فقط قررت استخدامكِ في الهجوم عليّ. وأنا آسف لذلك فأنا أعلم كم كانت كلمـ.ـا.تها مؤلمة وجارحة. لقد أردت إيقافها عن مهاجمتك. صدقاً. أردت التدخل. ولكني عجزت قدمي عن الحركة أمام كمية الإهانات والاتهامـ.ـا.ت التي كانت تلقيها على رأسي.

شعرت نورا بمقدار الألم الذي يقطر من حروفه. يا الهي إنه يتألم بشـ.ـدة. لأول مرة تلحظ الألم الحزين في عينيه منذ دخل الغرفة وهي من فسرت نظراته على أنها غضب. ولكنه لم يكن غاضباً. كان مصدوماً ومتألماً. وهي غير قادرة على تقديم الراحة له. كيف يمكنها وهو يتألم بسبب كلمـ.ـا.ت امرأة اخرى.
سألته وهي تحاول التحكم في الغيرة التي تعصف بها:
-هل أزعجتك كلمـ.ـا.تها؟
ضحك بمرارة:.

- أزعجتني! نورا. بالله عليكِ هل تظنين أنه من السهل عليّ سماع تلك الكلمـ.ـا.ت بعد خمسة عشر عاماً من الزواج؟!
لاحظ ترقرق الدمـ.ـو.ع في عينيها فاقترب منها بسرعة:
- يا إلهي. أنا لا أتسبب إلا في زيادة آلامكِ. بالله عليكِ لا تبكي، فأنا لا أتحمل أن أراكِ تبكين.
سألته من بين دمـ.ـو.عها:
- هي محقة إذاً. ما بينكما عميقٌ جداً. لن يمكنني أن أصل إليه يوماً.
أمسك كتفيها بيديه وهو يريح جبهته فوق جبهتها. وهو يهمس بحرقة:.

-أتعلمين. ربما استغرق الأمر خمسة عشر عاماً من الزواج لأصبح ذلك الزوج الذي كانت تتشـ.ـدق بأنها من ساهمت في إيجاده. ولكن. بفضل امرأة استثنائية تحول ذلك الزوج إلى رجلٌ عاشق. وذلك ما حدث فقط في خمسة شهور.
ساد صمتٌ تام بعد اعترافه ذاك. هل هو اعتراف بالفعل؟ ماذا يعني؟ هل هو عاشق لها؟ لماذا لا يصارحها بكلمـ.ـا.ت واضحة بدلاً من تلك الكلمـ.ـا.ت المراوغة؟ ارتسمت حيرتها في عينيها وهي ترفعهما إليه. فأجابها بهمس:.

- رفقاً برجل مازال يتحسس طريقه في عالم المشاعر وأبجديات الغرام.
همست برقة وهي تحيط عنقه بذراعيها:
- يا إلهي...
كان جوابه عليها قبلة رقيقة على شفتيها وهو يقربها من صدره بقوة ويرفعها بين ذراعيه ليعمق قبلته أكثر. وأكثر. وهي تبادله قبلته التي شعرت بها مختلفة عن كل قبلاتهما السابقة. كانت أكثر رقة. أكثر عذوبة. أكثر حناناً وروعة.
ألقى منذر هاتفه بغضب على فراشه. يريد التخلص منه بأي شكل، بل احراقه لو تطلب الأمر حتى يتخلص مما به من سخافات أو بالأحرى بذاءات، فمطاردة وداد له أصبحت لا تحتمل. فهي تكثف من اتصالاتها ورسائلها في اليوميين الماضيين بشـ.ـدة وكأنها أدركت بغريزتها الأنثوية قراره بانهاء علاقته بها. وهي تحاول بشتى الطرق مقاومة ذلك القرار، وكان آخر وسائلها لدك حصونه ومهاجمة دفاعته ارسالها لعدة صور لها في أوضاع قد تكون مثيرة للبعض ولكنها أثارت اشمئزازه وغضبه في نفس الوقت.

وما يثير أعصابه حقاً أنها تواظب على ارسال تلك الصور المصحوبة بعبـ.ـارات الغزل الفج. والكلمـ.ـا.ت الموحية. بالوعود المغرية بالسعادة. والمتعة.

لقد شعر في لحظة ما أنه مُطَارد ومحاصر، شعر وكأنه فريسة في مطاردة ما وهذا أصابه بالحنق والغيظ الشـ.ـديد. لا يعلم إذا كان شعوره ذاك يرجع لاقترابه من سهير في اليوميين الماضيين. أو أنه بدأ يسئم من تلك اللعبة، فهو أدرك أولوياته وسهير وزواجه منها مهما كانت المشاكل التي تواجه ذلك الزواج على قائمة تلك الأولويات فهو مُصر على مواجهتها والتغلب عليها وإنقاذ حياته وحب حياته.

أكمل ارتداء ملابسه في سرعة فهو تأخر بالفعل هذا الصباح. ولكن لا بأس. فالوقت الذي يقضيه مع سهير على الافطار. وحدهما في جناحهما يثرثران معاً حول أي شيء. كان أثمن من أن يختصره حتى يصل إلى العمل في موعده المعتاد.

تلفت حوله ليبحث عنها فلمحها وهي تحادث أمها في الهاتف وتبدو على ملامحها معالم الاستياء والرفض لما يصلها من الجهة الأخرى، فأدرك انها محادثة أخرى من أمها تحاول فيها معرفة ما يحزن ابنتها ويسبب لها التعاسة. كم يتمنى لو تبوح بما يشقيها بدلاً من تلك السرية التي تغلفها ولكنه يدرك طبيعة سهير الكتومة والتي تسبب له صعوبة شـ.ـديدة في التواصل معها.

فوجئ بسهير تنهي المكالمة وهي تلقي بهاتفها غاضبة وبسيل من الكلمـ.ـا.ت الغير مفهومة ينهمر شفتيها:
إن أمي في غاية الارتياح لترك نعمـ.ـا.ت منزل رؤوف. إنها تكاد تطير من السعادة. لا أدري كيف تفكر! ألم تستمع للشائعات المنتشرة في البلدة. إن النساء لا سيرة لهن إلا ما حدث. يتشـ.ـدقن بأن رؤوف ألقى نعمـ.ـا.ت في الطريق حتى يرضي زوجته الصغيرة. كيف فعلت نورا ذلك؟ كيف؟
سألها بتعجب:
هل تلقين باللوم على شقيقتك فيما حدث؟

بدا وكأنها بوغتت بسؤاله. فأجابت بغموض:
ليس بالضبط. ولكن لابد أن تعترف أنه غير عادل ما تم بحق نعمـ.ـا.ت! فهي قبل كل شيء زوجته الأولى ولم تقصر معه بشيء، كما أن عقمها ليس خطأها حتى تُلقى عند أول محطة بعد أن ضمن حصوله على الذرية من نورا.
همس بذهول:
يا الهي! أنتِ تلومين شقيقتك بالفعل!
أجابته بحرج:
كلا. ولكني لست معجبة بما حدث.

لماذا؟! أنني لم أر رؤوف بمثل تلك السعادة وراحة البال من قبل. أنه يضج بالحياة. وذلك بفضل نورا.
سألته باتهام: يبدو أنك معجب بنورا للغاية!
أنا معجب بما قامت به لرؤوف.
وهل أنت معجب أيضاً بطرده لزوجته الأولى من حياته، فقط لأن نورا منحته حياة عجزت عن منحها له نعمـ.ـا.ت علماً بأن هذا رغماً عنها! يبدو أن الرجال يلهثون خلف كل ما هو مبهرج ومزركش. فهذا ما يلفت أنظارهم هذه الأيام.

تعجب بشـ.ـدة من حماسها في الدفاع عن نعمـ.ـا.ت. فسألها بحيرة: ما الأمر يا سهير هل تدافعين عن نعمـ.ـا.ت بالفعل؟ أم أننا نتحدث عن شيء آخر؟
تلعثمت وهي تجيبه: أي أمر آخر؟! أنا أخبرك بما أفكر. أليس هذا ما تطالبني به دائماً؟!

هز رأسه بأسى وهو يراها عادت لقوقعتها المعتادة منسحبة من النقاش كلما تطرق ولو من بعيد لحياتهما معاً، لكنه رفض ذلك الإنسحاب من المواجهة فتحرك ليواجهها وهو يجذبها نحوه: كفى هروباً. أنتِ تعلمين عم أتحدث. اخرجي ما بداخلك وصارحيني.
رفعت إليه عينين مغرورقتين بدمـ.ـو.عها التي تحاول حبسها: ليس الآن. ليس الآن يا منذر. لا تذر الملح على الجرح الآن. فهو مازال مؤلماً...

سهير. يجب أن تدعيني أدخل لعقلك. أرجوكِ. كفى كتمان وسرية.
همست بخفوت:
قريباً. قريباً يا حبيبي أعدك.
حسناً لن أضغط عليكِ. ولكن لن أؤجل الأمر طويلاً.
أومأت برأسها موافقة. فطبع قبلة رقيقة على جبهتها. وهو يودعها منصرفاً إلى عمله.

فذهبت إلى نافذتها المعتادة حتى تلمح خروجه من البيت. وتابعته بنظراتها وهو يتجه إلى سيارته ولكنها فوجئت به يلتفت لها ويلوح لها بيده. ثم أرسل لها قبلة طائرة أعقبها بغمزة من عينه وهو يتخيل تورد خديها من جرأته معها.

تحركت بعدها بسعادة وهي ترتب جناحها وخيال قبلة منذر الطائرة يسيطر على عقلها فيرسم على شفتيها ابتسامة رقيقة. كانت تشعر بجهوده ليقترب منها وهو يحاول موازنة معاملته لها بين منذر الحبيب العاشق الذي سقطت في غرامه ومنذر الزوج الذي تمثل احتياجاته ورغباته كرجل شبح يزعج أحلامها العذرية. وهي بالمقابل كانت تتقبل جهوده بسعادة وتقترب منه أكثر، تعود شيئاُ فشيء إلى شخصية سهير العاشقة الحالمة. خاصة وهي تراه ملتصقاً بها وامتناعه عن زيارة قصر الجيزاوي تماماً. ولكن تبقى الخطوة الهامة التي تخشى عواقبها. المصارحة.

سوف أصارحه بكل شيء. هذا ما يجب أن يكون
قطع تسلسل أفكارها وهي ترتب أغطية الفراش. رنين هاتف صدر من بينها. أخذت تبحث عن مصدره وهي تظن أن أمها تهاتفها مرة اخرى، وأخيراً عثرت عليه وسحبته من بين الأغطية وتزامن محاولتها الرد عليه مع صدور صوت آخر ينبأ بوصول رسالة والتي ظهرت لعيني سهير المذهولتين.
لتتبين أنها تمسك بهاتف منذر في يدها وليس هاتفها هي.

جلس رؤوف على مائدة الإفطار التي أعدتها نورا. وهو يتأمل وجنتيها المتوردتين من تأثير تحديقه بها وملاحظته لكل تحركاتها حتى أنهت إعداد المائدة وابتسمت له قائلة:
صباح الخير. لقد انتهيت من إعداد الإفطار. هل تريد قهوتك الآن؟
سحبها من يدها ليجلسها على المقعد المجاور له:
فقط اجلسي واستريحي قليلاً. أنا لا أريد تلك القهوة التي تسبب لكِ الغثيان. أستطيع الإستغناء عنها.
ثم غمز لها:
آه وصباحك سكر.

عادت وجنتيها للتورد فهي غير معتادة على مزاجه العابث هذا في اليومين الماضيين. واصراره على تلك التحية. صباحك سكر.
لاحظ هو احراجها وتورد وجنتيها. فحاول تغيير الموضوع:
هل ترغـ.ـبـ.ـين بالاستمرار في الإقامة بجناحك؟ أم ترغـ.ـبـ.ـين في الإنتقال إلى الطابق العلوي؟
تفاجئت من سؤاله فأخفضت بصرها وهي تغمغم بخفوت:
الطابق العلوي! إنني لن أضع قدماً فيه قبل أن أطهره أولاً!
سأل بذهول:
ماذا؟!
أجابته بصوت واضح:.

أنا لن أضع قدماً فيه قبل أن أغيره كلياً. وحالياً جناحي مناسب لظروف الحمل. ولا أريد تركه.
كما تريدين. عنـ.ـد.ما تكونين مستعدة اخبريني لنبدأ التغييرات التي تريدينها.
ثم أكمل طعامه تحت نظراتها المراقبة. تريد أن تطلب منه شيئاً ولكنها تخشى رد فعله، فأخذت تفرك بيديها كعادتها عنـ.ـد.ما تتـ.ـو.تر.
ترك طعامه والتفت اليها:
كًفي عن فرك يديكِ واخبريني ماذا تريدين.
سألته بسرعة:
لما لا تطرد تلك الحرباء؟

تأملها للحظات ولم يرد فعادت تلح عليه ويدها تمتد لتتمسك بيده:
اطردها. اطردها يا رؤوف. أنت تعلم تماماً ماذا يحدث. اطردها من فضلك.
كان يعلم عمن تتحدث لذا اجابها بهدوء:
وهل طردها هو الحل؟
سألته بحيرة:
ماذا تعني؟
أعني بطردها أمنحها ميزة أن تكون الطرف المظلوم. وهذا سيزيد من تعاطف منذر معها. طردها ليس هو الحل.
سألته وهي تخشى سماع الاجابة:
الى اي حد هو متورط معها؟
أخفى عينيه عنها وهو يجاوبها:.

لا تقلقي. سوف نصل لحل بإذن الله.
أدركت أنه لم يمنحها اجابة لسؤالها ولكنها لم تلح عليه، فهي تخشى معرفة الاجابة. لذا ابتلعت مراوغته ومررتها له تلك المرة.
حسناً. وما هو الحل الذي تقترحه؟
شـ.ـد على يدها الممسكة بقبضته:
نورا. لا تخوضي حرباً أنتِ لستِ طرفاً فيها.
سألته بحيرة:
ماذا تعني؟
الحل لن يأتي من أي شخص إلا سهير. تدخل أي منا لن يحل المشكلة. سيؤجلها فقط.
غمغمت بحنق:.

أنت تتحدث مثل أمي بالضبط. فهي أمرتني بعدم التدخل.
جذبها من يدها وهو يتحرك نحو الباب:
إن خالتي شموس سيدة في غاية الحكمة. استمعي لها.
ثم غمز لها وهو يقول بعبث لم تعتده منه من مدة طويلة:
ولكن هذا لا يعني أن نكف أيدينا تماماً. من الممكن تحريك بضع خيوط دون تدخل فعلي في حياتهما.
صاحت بنزق:
لماذا تتحدث بغموض؟
ضحك من غضبها الطفولي:
أعني الأسكندرية.
صاحت بفرح:.

حقاً! هل ستنقل منذر إلى فرع الأسكندرية. هذا رائع. بهذه الطريقة سيبتعد عن الحرباء تماماً.
ابتسم بداخله لاصرارها على تسمية تلك الممرضة بالحرباء. سحقاً. لقد نسى اسمها بالفعل. لكنه اجاب نورا بهدوء:
كلا لن أنقله إلى فرع الاسكندرية فالوقت مبكر على هذا. لكني أستطيع افتعال بعض المشكلات التي تطلب وجوده لاصلاحها.
رمت ذراعيها حول عنقه بسعادة وهي تصيح:
أنت رائع. كم أحبك يا زوجي العزيز!
ابتسم بخبث وهو يسألها:.

كيف ستكافئني على تلك الحركة الذكية؟
ابتسمت بحب:
أنا كلي ملكٌ لك.
ضمها لصدره بقوة ثم طبع قبلة على مقدمة رأسها وهو يهمس لها:
أعلم. وأنتِ عرفتِ كيف تمتلكين كل جوارحي.
ابتسمت برقة لكلمـ.ـا.ته التي لا يزال يحاول اختيارها بعناية. فهو يلمح فقط بدون مصارحة بحبه. ولكنها تستشعر ذلك الحب في كل همسة. في كل لمسة وحتى أصبحت تعرف كيف تقرأه في نظرات عينيه.
انتبهت على صوته:
سأذهب الآن. انتبهي على نفسك، وعلى ابنتي الصغيرة.

لاحظ ابتسامتها الماكرة. والتي ترتسم في عينيها كلما ذكر موضوع طفلتهما القادمة في الطريق فسألها بفضول:
لا أعلم معنى تلك الابتسامة ولكنها تقلقني للغاية.
ضحكت بصوت عالٍ:
ستتأخر على عملك.
غمغم بقلة حيلة:
أعلم أنني لن أصل إلى اجابة شافية. حسناً. سأذهب الآن.
تحرك ليفتح الباب ولكنه وقف متردداً. فسألته بقلق:
ماذا هناك؟
تردد في اخبـ.ـارها. ثم حسم أمره هو لن يخفي عنها أي شيء:.

أردت اخبـ.ـارك أنني سأمر على نعمـ.ـا.ت في منزل جدي قبل أن أذهب إلى العمل.
خرجت الكلمة على لسانها قبل أن تستطع منعها:
لماذا؟
كانت لهجتها حادة وغاضبة. وكرهت نفسها لأنه شعر بذلك ولكنها لم تستطع الادعاء بالامبالاة وهو يخبرها أنه سيذهب ليرى نعمـ.ـا.ت.
اجاب رؤوف بهدوء حازم:
نورا. أنها مازالت زوجتي. ومن واجبي الاطمئنان عليها و.
قاطعته بحنق:.

أعلم. أنا آسفة. لا. لست كذلك. أنا أعلم أنه يجب عليك ترتيب أمورها. فقط. لا أدري. انتبه على نفسك.
أمسك ذقنها برقة وطبع قبلة طويلة على وجنتها:
لا تقلقي. ولا حاجة لتلك الغيرة التي تلتمع في عينيكِ.
حاولت تحرير ذقنها من يده لكنه لم يمكنها فهمست أخيراً بغيرة واضحة:
لا تقترب من الحرباء التي تعتني بجدي. يكفي أنك سترى نعمـ.ـا.ت.
قهقه بسعادة وهو يقبلها مودعاً:
لا تتغيري أبداً يا صغيرتي الغيورة.

ما أن وصل منذر إلى مكتبه حتى لحق به شقيقه قاسم الذي بادره قائلاً:
لقد تأخرت اليوم. واحتاج إلى توقيعك لانهاء بعض الأعمال.
حسناً. أنا هنا. هات الأوراق التي تحتاج لتوقيعها
ناوله بعض الأوراق فأخذ منذر يراجعها بدقة تحت ناظري شقيقه الذي تمتم في نفسه.

لقد وصل بي الحال لأن انتظر توقيع شقيقي الأصغر على بعض الأوراق التافهة. آه من تلك الزلة القديمة التي لا يريد أحد أن ينساها أو حتى يتظاهر بنسيانها. بسببها سأبقى موظفاً للأبد. بينما أخي الأصغر وابن خالي يتوليان إدارة الشركات
تنحنح ليجلي صوته وهو يسأل:
لم يصل صاحب الفخامة إلى الآن. هل تعلم لماذا تأخر؟
ضيق منذر عينيه متسائلاً:.

صاحب الفخامة! هل تعني رؤوف؟! لا أدري لما تأخر اليوم! لابد أنه على وصول فليس من عادته التأخير.
رد قاسم ساخراً:
يجب أن تعتاد على تأخره، فهو تخلص من العجوز الشمطاء. وغرق في أحضان ابنة الخال الفاتنة.
رمى منذر القلم بغيظ وهو يصيح به:
يا إلهي! ألن ننتهي من تلك الحكاية؟! دع الأمور على حالها يا قاسم ولا داعي لإثارة المشاكل. إن نورا تنتمي كلياً لرؤوف فتوقف عن الأحلام المستحيلة.
صاح قاسم بنزق:.

مستحيلة! هاه. لو كنت أعلم أنها لا تمانع في أن تصبح زوجة ثانية لكنت تحركت من مدة طويلة. ولكنت تمتعت بها الآن وبجسدها.
قاطعه منذر بحدة:
توقف. ألا تملك أي حياء. يا الهي. أنك تتحدث عن امرأة متزوجة. وزوجها هو ابن خالك. فقط توقف.
عاد قاسم يتحدث وكأنه يحادث نفسه:
نعم امرأة. ويالها من امرأة فاتنة! و.

لم يستطع اكمال جملته بسبب قبضة رؤوف التي طارت في وجهه وهو يجذبه من ملابسه ويكيل له اللكمـ.ـا.ت. رؤوف الذي وصل قبل لحظات ليستمع إلى بذاءات قاسم المقززة فاقتحم الغرفة بسرعة ليلكمه وينطلق فيه صارخاً:
أنت حـ.ـيو.ان. بل أقل من حـ.ـيو.ان. كيف تتجرأ على التفكير بها؟ كيف؟
وعاد يكيل له اللكمـ.ـا.ت التي تفاداها قاسم تلك المرة وهو يسدد لرؤوف لكمة قوية لم يستطع رؤوف تفاديها. وصرخ قاسم بغضب:.

ولماذا لا أفكر بها؟ أنا أريدها! لقد أردت الزواج منها من مدة ولم يمنعني عنها إلا زلتي القديمة والزوجة المعلقة برقبتي. لقد لهثت خلف أمي حتى تزوجني اياها ولم أنجح. بينما أنت. أنت. اكتفيت بإشارة من اصبعك الأصغر فجعلوها ملكاً لك.
لم يحتمل رؤوف سماع كلمـ.ـا.ته فعاد لتسديد اللكمـ.ـا.ت له بينما قفز منذر بينهما يحاول فض اشتباكهما دون جدوى.

جذبت أصواتهم العالية عدد من الموظفين في الشركة فتدافعوا لمعرفة ماذا يحدث بين أحفاد الجيزاوي. فمشاجرة بين الأحفاد الذكور حدث لا يتم يومياً في شركة الجيزاوي المعروفة بالتزام جميع من يعمل بها.
تحرك عبد السلام بصعوبة وهو يفض الجمع المتحلق من الموظفين وكانت الأصوات العالية قد لفتت انتباهه هو أيضاً.
فدخل الغرفة ليجد رؤوف يكيل اللكمـ.ـا.ت لقاسم ومنذر يحاول إبعاده عنه وهو يصيح به:
يكفي يا رؤوف. يكفي. سوف تقـ.ـتـ.ـله.

ولكن غضب رؤوف كان أكبر من أن يصغي لمنذر أو حتى لعمه عبد السلام الذي شارك منذر في الإمساك برؤوف وإبعاده عن قاسم الذي تهالك أرضاً بعدما ترك رؤوف ملابسه. وظل رؤوف يصارع للإفلات ممن يمسكان به. وهو يصيح:
اتركاني. اتركاني حتى أؤدب هذا الحـ.ـيو.ان. إنه انسان مريـ.ـض. مريـ.ـض.
تمكن منذر بمساعده خاله أخيراً من السيطرة على رؤوف الذي جلس على أحد المقاعد وهو يتنفس بصعوبة جراء المجهود الذي بذله. وهنا صاح عبد السلام بغضب:.

هل جننتم جميعاً؟! تتبادلان اللكمـ.ـا.ت في الشركة! ماذا حدث؟
همس له منذر بكلمـ.ـا.ت موجزة تلخص ما حدث فتغير وجه عبد السلام وهو يرمق قاسم بغضب بينما هو يحاول النهوض من الأرض فتحرك رؤوف نحوه يحاول لكمه مرة أخرى ولكن منذر انتبه له فقيد حركته بينما صاح في خاله متوسلاً:
أرجوك. يا خالي. أرجوك اخرج قاسم من هنا قبل أن يقـ.ـتـ.ـله رؤوف ونخسرهما معاً.

بدا على عبد السلام الرغبة في ضـ.ـر.ب قاسم ولكنه تمالك نفسه وهو يرى رؤوف في حالة غضب عارمة، فجذب قاسم يرفعه من الأرض ليخرجه من الغرفة يتبعه صوت رؤوف الغاضب:
لا تدعه يطأ بقدمه أرض الشركة ثانية. لا أطيق رؤويته. ابعده عن عينيّ حتى لا اقـ.ـتـ.ـله.
ساد صمت حرج بعد خروج عبد السلام وقاسم من الغرفة. فعاد رؤوف يجلس متهالكاً على مقعده وهو يتأمل قبضته المدماة إثر شجاره مع قاسم
وسأل منذر بغضب مكبوت:
كنت تعلم. أليس كذلك؟

كان تقريراً أكثر منه سؤال فغمغم منذر بحرج:
رؤوف. لا تعول على كلمـ.ـا.ته القذرة. إن قاسم يتطلع دائماً إلى ما يملكه الآخرون. هو لا يقصد شيئاً معيناً. لا تفكر كثيراً فيما سمعته!
رمقه رؤوف بذهول. كيف لا يفكر فيما سمعه! إن كلمـ.ـا.ت قاسم كانت كطعنات الخناجر لقلبه وعقله معاً وهو يتصور خيال قاسم المريـ.ـض حول نورا. لقد أراد قـ.ـتـ.ـله. وكاد أن يفعل. عاد الغضب يتملكه مرة أخرى فاعتصر قبضتيه بقوة.

ولمح منذر سلسلة الانفعالات على وجهه فعاد يحدثه بهدوء:
يمكنك نقله إلى فرع القاهرة و.
غمغم رؤوف بغضب:
أريد قـ.ـتـ.ـله.
صاح به منذر في هلع:
رؤوف! تعقل. أنت.
عاد رؤوف يتحدث كما لو لم يسمع منذر:
كان يجب أن أثق بحدسي. لم يكن على أن أدعه يقترب من أي مكان هي متواجدة فيه.
عاد منذر يحدثه بهدوء:.

أرجوك يا رؤوف. حكم عقلك قليلاً. ابعده عن هنا. هذا الحل الأمثل. أنت لا تستطيع التحكم في عقول البشر. وصدقني ما يدور في عقل قاسم مجموعة من الخيالات لا أكثر. تلك طبيعته. لكنه لن يضرك أو يضر زوجتك. أنه ذو خيال مريـ.ـض فحسب. أشعر أحياناً أنه لولا رابطة الأخوة بيننا لضم سهير لخيالاته أيضاً.

ساد الصمت مرة أخرى بعد كلام منذر المحير وحاول رؤوف السيطرة على الغضب الذي يعصف به. فمازالت الرغبة في محو قاسم من الحياة تنتابه بقوة. ولكن ما يمنعه عنه هو عمته قمر. فهي لا تستحق ذلك الألم.
قاطع الصمت صوت هاتف رؤوف فالتقطه بسرعة ليجده يضيء باسم نورا، فرفعه إلى أذنه بلهفة:
نورا! ماذا حدث هل أنتِ بخير؟ هل تعرض لكِ...
قاطعته نورا:
مهلاً يا رؤوف. لا تقلق. أنا بخير. ولكن.
عاد لمقاطعتها:
ولكن ماذا؟

اجابته بصوتٍ باكٍ:
أنها سهير، هل تستطيع احضار منذر والقدوم سريعاً. إن سهير هنا وهي تبكي بهيستريا.
قطب رؤوف بقلق:
حسناً. نحن في طريقنا إليكِ. لا تقلقي.
اجابته بصوت مخـ.ـنـ.ـوق:
لا تتأخر.
أغلق الهاتف والتفت إلى منذر يسأله بغضب:
هل آذيت سهير؟ هل أخبرتها عن تلك الفاسقة التي تعرفت عليها مؤخراً؟
تفاجئ منذر من سؤال رؤوف فسأله بحيرة:
ماذا؟ ماذا تعني؟

قاطعها صوت هاتف رؤوف مرة أخرى وكانت تلك المرة هي عمته قمر والتي صاحت به فور أن أجاب الهاتف:
أين ذلك المـ.ـجـ.ـنو.ن؟ أين منذر؟ ما الذي فعله للفتاة؟ لقد خرجت كالمـ.ـجـ.ـنو.نة من المنزل!
اجابها رؤوف بخفوت:
اهدئي، عمتي. ولا تقلقي على سهير. إنها في منزلي مع نورا. ونحن في طريقنا إيهما الآن.
ولكن. ماذا.
قاطعها بسرعة:
سوف أخبرك بالتفاصيل فور أن أعلمها.
وما أن أغلق الخط حتى صاح به منذر:
ماذا بها سهير؟ ماذا يحدث؟

اجابه رؤوف وهو يصحبه للخارج:
سوف نعلم عنـ.ـد.ما نصل إلى منزلي. بالمناسبة. أين هاتفك؟ لماذا اتصلت عمتي على هاتفي؟ هل أضعته ام ماذا؟
صدم منذر وقد تذكر القاءه لهاتفه على الفراش. بعدما ضاق ذرعاً بما ترسله وداد من صور فاضحة وربط ذلك بانهيار سهير. وصرخ برؤوف:
أسرع يا رؤوف. يا الهي. يا الهي. لماذا لم أمحِ تلك الصور؟ لماذا؟

رمقه رؤوف بحيرة ولكنه لم يسأله فهو بدا في حالة مزرية. فتحرك نحو السيارة حتى يذهبا إلى منزله بأقصى سرعة.

وصل رؤوف سريعاً إلى منزله ودلف هو أولاً إليه وهو ينادي على نورا بلهفة. فخرجت له من جناحها مسرعة:
رؤوف، حمداً لله أنك وصلت. سهير. أنا لا أعلم ما بها. أنها تبكي بلا توقف. لقد فكرت في استدعاء أمي. ولكني انتظرت حتى تأتي أولاً
ربت رؤوف على وجنتها برفق:
لا تقلقي. لقد أتيت بمنذر معي. ومن الأفضل عدم استدعاء والدتك حتى نعلم ما الأمر.
والتفت منادياً منذر الذي دخل بحرج وما أن شاهدته نورا حتى صاحت به:.

ماذا فعلت لها؟ سوف أ.
قاطعها رؤوف:
اهدئي يا نورا. لا داعي لكل هذا. نحن لا نعلم ما المشكلة.
صاحت به بغضب وهي تشير إلى منذر:
أنه هو المشكلة. أنها تقبض على هاتفه بشـ.ـدة وتبكي بلا توقف. لقد كانت في حالة هيستيريا عند وصولها ولكن الآن دمـ.ـو.عها تنزل فقط بدون أن تصدر أي صوت.
همس منذر بألم:
يا الهي. أين هي يا نورا؟ أين هي؟
سكتت ولم ترد عليه بل اكتفت برمقه بنظراتها القـ.ـا.تلة، فحثها رؤوف بهدوء:
هل هي في جناحنا؟

هزت رأسها في موافقة صامتة. فأشار له رؤوف إلى مكان الجناح حيث تتواجد سهير فأسرع منذر متجهاً نحو بابه وحاولت نورا أن تلحق به ولكن رؤوف أوقفها:
دعيه يا نورا.
عارضته بقوة:
ولكن.
اجابها بحسم:
أنها زوجته.
اقتربت منه وهي تضع رأسها على صدره وتهمس بضعف:
أخشى ان يؤذيها. أن سهير هشة جداً و...
قطعت كلمـ.ـا.تها بصيحة دهشة وهي تلمح قبضته المدماة:
رؤوف! ماذا حدث ليدك؟ كيف أصبت هكذا؟
نظر إلى يده المصابة وهو يطمئنها:.

لا تقلقي. أنه لا شيء
أمسكت يده تتأمل عقد أصابعه المدماة وصاحت بعجب:
رؤوف. هل كنت تتشاجر؟ مع من تشاجرت؟
نورا. أرجوكِ. دعي هذا الآن. أنا أمامك وبخير. ليس بي شيئاً. فاطمئني.
استفهمت منه بخوف:
هل ذلك له علاقة بنعمـ.ـا.ت؟
سألها بتكهم:
هل تعتقدين أنني تبادلت اللكمـ.ـا.ت مع نعمـ.ـا.ت؟!
اجابت بحرج:
بالطبع لا. لم أقصد هذا. أقصد. هل لكمت جدار أو ما شابه؟
اجاب بغموض:
ما شابه. لا تقلقي. أنا بخير الآن.

رمقته بقلق. أنه يخفي شيئاً ما. وبالتأكيد لن تدع الأمر وتسكت عنه. سوف تعرف كل شيء. سوف تدفعه إلى الكلام بطريقتها. ولكن لتؤجل ذلك قليلاً. حتى تطمئن على شقيقتها. فيكفيها أنه بخير وهو هنا معها.
اجابته مذعنة:
فلتأتِ معي إلى المطبخ حتى أضع بعض الثلج على يدك.
وعنـ.ـد.ما وصلا إلى المطبخ سألته بفضول:
إذاً. ماذا حدث مع نعمـ.ـا.ت؟

رمقها بنظرة متأملة. يدرك أنها تشتعل من الغيرة. وهي لا تخفي ذلك. أنها واضحة في كل مشاعرها. ومع ذلك يشعر أنها رمز الغموض. استحثته بحركة خفيفة من يدها. فأجابها بهدوء:
لا شيء. لقد رفضت مقابلتي. وطلبت من جدي أن يبلغني. أنها تحتاج إلى وقت حتى ترتاح أعصابها وتتغلب على خيبة أملها.
ضغطت كتفه في مؤازرة قوية وهي تهمس:
لا تغضب. جدي متفهم لموقفك. لقد أخبرني أبي بذلك، وهي سوف تهدأ بإذن الله.

قبل أن يجيبها ارتفع صراخ سهير على منذر. كانت كلمـ.ـا.تها غير واضحة في البداية. ولكنها بدأت تتضح شيئاً فشيء. وشحب وجه نورا على إثرها ثم امتقع حرجاً. وبدا أنها تجمدت وهي تتبادل النظرات مع رؤوف الذي سحبها من يدها بسرعة وأغلق باب المطبخ عليهما:
فلنمنحهما بعض الخصوصية. أين ذلك الثلج الذي أخبرتني عنه؟
تحركت معه في صمت وهي مذهولة من الكلمـ.ـا.ت التي تناثرت إلى آذانها. فعاد هو يخبرها بخفوت:.

أعتقد أنه من الأفضل أن تستدعي والدتك.
جمعت بعض قطع الثلج في قطعة قماش نظيفة ووضعتها على يده المكدومة وهي تومئ له بالموافقة:
انت محق. يجب أن تأتي أمي.

دلف منذر إلى جناح نورا حيث تتواجد سهير التي لمحها على الفور جالسة على الأريكة. منكمشة على نفسها. دمـ.ـو.عها تهطل بغزارة. ويديها قابضة بشـ.ـدة على هاتفه.

كاد البؤس البادي عليها أن يتسبب في إيقاف قلبه من الالم. فهو آذاها. وبقوة. ولا يدري كيف يصلح ما تسبب بكسره في لحظات طيش غـ.ـبـ.ـية. لعن غبائه الذي منعه من محو تلك الصور القذرة. والتي بالتأكيد صدمت عينيّ سهير البريئتين. ووضعت في عقلها خيالات جامحة عن المدى الذي وصلت فيه علاقته بوداد.
همس بصوت خافت:
سهير.
رفعت عينيها الغارقتين بدمـ.ـو.ع حارقة. وهي ترفع يدها بهاتفه:.

إنه. هاتفك. أنا. أنا لم أقصد. لم أقصد تصفح ما. ما به. لم أتعمد البحث عن الصور. لم أتعمد. لقد. لقد قفزت في وجهي، أنا لم أقصد.
وخفت صوتها وهي تضغط على الهاتف بقبضتيها وتهز رأسها بضياع:
لم أقصد.
اقترب منها سريعاً ومد يده ليمسح دمـ.ـو.عها التي تنساب بلا إرادة منها. فانتفضت بقوة عند ملامسة يده لوجنتها وابتعدت إلى آخر الأريكة وهي تصرخ:
لا تقترب مني. لا تلمسني.
صاح بعذاب:
سهير. اسمعيني. أنتِ فهمتِ الموضوع خطأ.

همست بصوتها الجريح:
فهمت! أنا لم أفهم شيئاً. أنا أحاول اخماد عقلي حتى لا أستوعب معنى ما رأيت على هاتفك.
سهير. لا تفعلي هذا بنفسك. فقط اعطيني فرصة لأشرح. أنتِ اخطأتِ الفهم.
فرصة! خطأ.
ثم ارتفع صوتها قليلاً:
إلى أي مدى وصلت علاقتك بها؟
حاول أن يحرك شفتيه، ولكنها أشارت له ليصمت:
لا. لا تجب عن ذلك.
عاد يهتف بها:
سهير. ما يحدث هو سوء تفاهم كبير. الموضوع أبسط من هذا.
نهضت فجأة لتقف على قدميها:.

بسيط! جرحك لي. وخيانتك. هي سوء تفاهم وموضوع بسيط.
صمتت وسألته بهمس:
هل أحببتها؟
هتف بسرعة:
كلا بالطبع. أنتِ تعلمين أنكِ حبي الوحيد.
اجابته بسخرية:
واضح. وهل مطلوب مني أن أسامحك وأغفر لك بعد أن تخبرني بذلك؟!
اقترب منها بهدوء ليواجهها ولكنه امتنع عن لمسها بعدما لمح التحذير في عينيها:
هل تسخرين الآن مما جمعنا معاً؟
هتفت به:
ما جمعنا لم يمنعك من خيانتي. من خيانة ذلك الحب الذي تدعي أنك تحمله لي.

أمسك بذراعيها صارخاً:
لم أخنك. اقسم أنني.
تملصت من بين يديه:
النظرة خيانة.
صرخ بها في غضب:
توقفي. توقفي يا سهير عن تلك المثالية الحمقاء. توقفي عن لعب دور الضحية والانـ.ـد.ماج به. ولا تدعي مفاجئتك بما حدث
بهتت من هجومه المفاجئ. وقد تبينت أنه يكشف جميع الأوراق، فصاحت به:
ولكنني فوجئت. فوجئت بمدى الابتذال الذي يمكن أن تصل إليه.
صرخ بها:
ابتذال! سهير. توقفي. أنتِ. فهمتِ الموضوع كله خطأ. أنا.
صرخت به:.

أنت ماذا؟ أنت كنت تذهب يومياً إليها. كنت تراها وتتحدث معها. تتبادل معها الرسائل الهاتفية. نعم. لقد رأيتها. فأنا لم أتعمد البحث في هاتفك في البداية. ولكنني لم أستطع مقاومة نفسي بعدما رأيت تلك الصور المقززة. أنت كنت تحيا معها تقريباً حياة كاملة.
أمسك بذراعها بعنف:
نعم. اعترف بكل هذا. ولا أدري لماذا تلقين باللوم عليّ فقط. فكما يبدو أنكِ كنتِ تتابعين تطور علاقتي بها. ولم ترفعي إصبعاً لايقاف ما يحدث.

صرخت به:
أنا!، تلومني أنا على خيانتك؟!
صرخ بقوة:
لقد أخبرتك. أنا لم أخنك.
أكملت له جملته:
بعد. أنت لم تخونني بعد. فأنت كما يبدو تنتظر أن استمر في تجاهلي لتصرفاتك. ووقتها ستمنح نفسك العذر في خيانة كاملة. أليس كذلك؟
إذا كان هذا ما تظنينه. أن خيانتي لك ستحدث لا محالة. وأن الأمر مسألة وقت. فلم استمريتِ مع زوج هو في نظرك مشروع لرجل خائن؟
همست بضعف:
لأني أحبك.
صاح بها بقسوة:.

ولم عليّ أن أقبل بتلك الاجابة. بينما أنتِ سخرتِ من حبي لكِ منذ قليل؟ وماذا فعلتِ لتحافظي على ذلك الحب؟
تساقطت دمـ.ـو.عها وهي تهمس:
يالك من قاسٍ. مما صنعت؟ هل تهاجمني الآن؟ وأنا التي كنت أتعامل معك بكل الحذر حتى لا أتسبب بجرحك. أو اهانتك.
وارتفع صوتها قليلاً:
أنت تلومني. لا بأس. فأنا أيضاً ألومك. ألومك على ضياع حبيبي. على ضياع حلمي.
صرخ بها وهو يجذب ذراعها بعنف:.

تلوميني! أفيقي يا سهير. أفيقي. إن سبب ما نحن فيه الآن هو خيالاتك الرومانسية، والتي تجعلك تنفرين مني. أو من أي علاقة تربطنا معاً. لأنكِ برومانسيتك الحمقاء تعتقدين أن علاقتنا الزوجية تلوث مشاعرك الرومانسية والعذرية السخيفة.
زادت دمـ.ـو.عها انهماراً وهي تستمع إلى اتهمـ.ـا.ته له. هل يعتقد أنها بمثل تلك السخافة والسطحية!

أنت مخطئ. مخطئ. أنا لا أعتقد ذلك. لا أعتقد أن العلاقة الزوجية تلوث مشاعري العذرية السخيفة كما دعوتها. أنا أعتقد أن تلك العلاقة هي صلة روحية بين الزوجيين قبل أن تكون صلة جسدية. وسيلة منحها الله لكل زوجين حتى يزدادا تقارباً. هذا هو ما أعتقده. لكن للأسف في كل مرة نكون فيها معاً. كنت أشعر أنني ازداد تباعداً عنك. هل تعلم لماذا. لأنني عاجزة عن الشعور بك. عاجزة عن منحك مشاعر الزوجة العاشقة لزوجها. عاجزة عن حبك بالطريقة التي تريدها أنت.

سألها وقد بهت من تصريحها الأخير:
ماذا تعنين؟ ما معنى تلك الكلمـ.ـا.ت الغامضة؟ كوني صريحة وتوقفي عن المرواغة واللعب بالكلمـ.ـا.ت.
صرخت به وكأنها ترمي بكل همومها وأحزانها دفعة واحدة:
أنا لا اشعر بأي شيء. وأنا معك. وأنا بين ذراعيك. هناك شيء ناقص. هناك دائماً شيء ناقص.

وضعت يدها على شفتيها بجزع وقد أدركت أنها صرحت بالكثير. الكثير الذي لم يحتمله منذر فتقهقر إلى الخلف مصدوماً مما سمعه وأدركه من خلال كلمـ.ـا.تها. وهو يرمقها بنظرات تشتعل من الغضب. الغضب على كرامته. على رجولته الجريحة. عليها هي. وعلى كل ما أخبرته به الآن.
كيف حالها الآن؟
كان هذا أول ما سألته شموس لنورا عند وصولها الى منزلها.
أشارت نورا إلى باب جناحها: أنها في جناحي. وحالتها سيئة للغاية. مازالت تبكي باستمرار، لقد تشاجرت مع منذر مشاجرة عنيفة. وتعالت أصواتهما. و.
استحثتها شموس: وماذا؟
ردت نورا بحرج: أمي. من الأفضل أن تسألي سهير.
وأين منذر الآن؟
لا أدري. لقد استقل سيارة رؤوف وانطلق بها بسرعة كبيرة ولم يستطع رؤوف اللحاق به. ولكنه ذهب ليبحث عنه.

أغمضت شموس عينيها بقوة. فهي تدرك أن معركتها مع سهير قاسية وما تواجهه في زواجها أكثر صعوبة مما واجهته نورا يوماً. فتنهدت بقوة وهي تسحب نفس عميق. وقالت لنورا: اتركيني وحدنا. واعدي لها شراباً بـ.ـارداً
أومأت نورا بصمت بينما اتجهت شموس إلى حيث توجد سهير والتي وجدتها متقوقعة على الأريكة شاردة في الفضاء وهي تضم ركبتيها إلى صدرها وتحيطهما بذراعيها. ودمـ.ـو.عها تهطل بلا توقف.

اقتربت منها بهدوء وجلست خلفها لتلفها نحوها وتضمها إلى صدرها بقوة.
ماذا هناك يا سهير؟ ماذا حدث؟
أجهشت سهير في البكاء وهي تغمغم بكلمـ.ـا.ت غير مترابطة:
انتهى. كل. شيء. أنا. آذيته. حطمته. دمرت. كل شيء.
زادت شموس من ضمها وهي تهدئها:
اهدئي يا سهير. اهدئي حتى أستطيع أن أفهم. ماذا حدث؟
أخبرتها سهير من وسط شهقاتها:
ضاع كل شيء. انتهى. منذر. وأنا. انتهينا. انتهى زواجنا.
مسحت شموس على رأسها بهدوء:.

لماذا تقولين ذلك؟ إن منذر يحبك.
ابتعدت سهير عن أحضان أمها وأخذت تهز رأسها:
لا. لا أعتقد أنه من الممكن أن يستمر في حبي بعد الآن.
ثم عادت تجهش في البكاء وهي تهمس:
لقد أضعته. انتهى كل شيء.
سألتها شموس بحزم:
ماذا حدث يا سهير؟
رفعت عينيها لأمها وهي تخبرها بألم:.

لقد أخبرته. ألقيت الحقيقة في وجهه. لم أستطع تجميلها أو تخفيف وقعها. لقد سأمت من التظاهر وأرهقت من الإدعاء. فصارحته. و، و. انتهى كل شيء. سيتركني الآن. سيبتعد. ويتركني.
سألتها شموس بـ.ـارتياب:
وما هي تلك الحقيقة التي أنهت كل شيء؟
هزت سهير رأسها وهي تختنق بشهقاتها:
الحقيقة. أنني عاجزة عن الاقتراب منه كما يجب. أنني عاجزة عن حبه كما يريد. أنني زوجة فاشلة. وأقل من أي امرأة. أن هناك دائماً ما هو ناقص بيننا.

شهقة قوية من شموس أوقفت سهير عن الاسترسال في الكلام. فرفعت عينيها لأمها بحيرة:
لقد خرجت الكلمـ.ـا.ت بدون أن أسيطر عليها. أردت أن أخبره انني امرأة غير مكتملة. فاشلة وبـ.ـاردة. أردت أن أوضح له أنني لست تلك الفتاة الساذجة والسطحية التي يظنها. ولكن. لكن خرجت الكلمـ.ـا.ت بأبشع صورة ممكنة.

تنفست شموس بعمق. وهي تحاول التحكم في غضبها، فابنتها منهارة بالفعل وحياتها بأكملها على المحك. وما أخبرته لزوجها أقسى من أن يتحمله أي رجل.
رمقت دمـ.ـو.ع ابنتها في شيء من الحزن وهي تسألها: ولم أخبرته ذلك الكلام؟ لم تعتقدين أنكِ عاجزة عن منح زوجك ما يستحق من حبك؟

عادت سهير تجيب بأسلوبها الشارد وكأنها غائبة عما حولها: لأن تلك الحقيقة. أنا غير قادرة على حبه كزوجة عاشقة! أو كأي امرأة أخرى طبيعية. كيف أفعل؟ وجدتي قامت بما قامت به نحوي كي لا أشعر هكذا. أنتِ لم تكوني موجودة بجانبي، وكذلك والدي. كنت وحيدة ولم أدرك لم فعلت ذلك. حتى تفسيرك لي كان مبتوراً مشوهاً. فلم أفهم. لم أفهم. أحياناً أشعر أن عقلي سينفجر. فهو مشطور إلى أجزاء. جزء يحثني أن أصبح تلك الزوجة العاشقة لزوجي. وجزء آخر يمنعني ويكبح تلك المشاعر. وهناك ذلك الجزء الآخر الذي يقف حائراً غير قادر على اتخاذ أي رد فعل.

تهالكت شموس على أقرب مقعد وهي تهمس بألم: يا الهي! إن المشكلة أكبر مما ظننت. لقد كنت أعتقد أنكِ تعانين من خوف غير عادي أو ما شابه. و
قاطعتها سهير: ولكني خائفة. أنا خائفة على الدوام.
نهضت شموس وهي تمسك بذراعي ابنتها: سهير يا بنتي. إن عقلك صور لكِ ما حدث قديماً بتلك البشاعة التي تتصورينها لأن جدتك اتبعت أسلوباً عتيقاً، بل يكاد يكون بدائياً. وكونك طفلة صغيرة في ذلك الوقت هو ما ضخم تلك المشاعر بداخلك.

رمقتها سهير بضياع: أمي. أنا لا أفهم. لا أعرف كيف اتصرف.
ضمتها شموس بقوة لصدرها وهي تهمس بحزم: أتمنى لو كنتِ صارحتني من مدة لكنت استطعت مساعدتك. ولكن الآن. لا مفر من البحث عن مساعدة مناسبة ومحترفة.
ابتعدت سهير عنها بخوف:
ماذا تعنين يا أمي؟
رفعت شموس ذقنها بحزم وهي تخبرها:.

أعني أنه يجب علينا الذهاب إلى طبيبة. على الأقل في البداية تكون طبيبة نسائية. ثم. طبيبة نفسية متخصصة ومأتمنة، وأعتقد أنني أعرف واحدة.
تملصت سهير من أمها بقوة وهي تصيح بها:
ماذا! هل تعتقدين أنني مـ.ـجـ.ـنو.نة؟!
خبطت شموس كف بكف متعجبة:.

من يسمعك يعتقد أنكِ أُمية جاهلة! أنتِ تعلمين أنكِ بحاجة إلى مساعدة. أتمنى لو كنت أستطيع تقديمها لكِ. ولكني أخشى أن تزداد الحالة سوءً. واللجوء إلى الطب النفسي لا يعني بالضرورة وجود مرض عقلي. لقد لجأت إلى مساعدة طبيبة نفسية بعد فقداني لأخيكِ وفقداني لرحمي.
برقت عينا سهير بذهول:
ماذا؟!
أخذتها شموس من يدها وجذبتها ليجلسا على الأريكة معاً:.

نعم. لقد حدث هذا. لقد عارضت في البداية ولكن أبيكِ أقنعني بضرورة الذهاب، فحياتنا كانت على المحك.
هزت سهير رأسها بذهول:
كلا. كلا.
فصاحت بها شموس:.

بل نعم. هل تعتقدين أن ما مررت به كان سهلاً. أو هل كان من الممكن أن أتغلب عليه بمفردي. وحتى مع دعم أبيكِ مررت بوقت عصيب جداً ولولا تلك الطبيبة التي أخبرتك عنها. والتي أصر طبيبي في ذلك الوقت على مقابلتي لها وأضيف له اصرار أبيكِ، لما كنت تغلبت على حسرتي. وأنتِ يا حبيبتي في أمس الحاجة لها.
حاولت سهير الرفض:
ولكن ماذا عن منذر؟
أجابتها أمها بحسم:
يجب أن تستعيدي ثقتك بنفسك أولاً. حتى تستطيعين استعادة زوجك.

سألتها سهير مرة أخرى:
هل من الممكن أن يغفر لي؟
طمأنتها شموس:
لا تقلقي. سأجعل والدك يتكلم معه.
صرخت سهير:
كلا.
تكلمت شموس بحزم وجدية:
سهير، سوف نحاول إصلاح المشكلة. والبداية عندكِ أنتِ. يجب أن تقتنعي بالتخلي عن تلك السرية والكتمان. ودعي والدك يصلح الوضع مع منذر. ولا تقلقي. إن والدك لن يتسبب بأي جرح أو إحراج لكِ.

بدت سهير غير مقتنعة ومترددة في الموافقة على ما اقترحته والدتها. وعادت تلتمع عينيها بنظرات الحيرة والضياع. فهي تخشى ذهابها لتلك الطبيبة. وفي نفس الوقت لم تعد قادرة على التعايش مع طوفان الأفكار والمشاعر المختلطة التي تجيش بها. شعرت أمها بها فربتت على كتفها برقة:
ارتاحي قليلاً. وسأطلب من نورا أن تأتيكِ بشيء لتتناوليه. ثم نقرر ما سيحدث. ولكني سأتصل بأبيكِ حتى يتحدث مع منذر. لا. لا أريد أي اعتراض.

طأطأت سهير رأسها في صمت. وهي تراقب أمها تهاتف أبيها وتشرح له ما حدث باختصار وأخذ صوتها يخفت وهي تبتعد وتفتح باب الجناح متوجهة إلى الخارج حتى تكمل محادثتها. فدخلت نورا حاملة صينية مأكولات. ووضعتها أمام سهير وأخذت في اطعامها بهدوء. وسهير ساهمة وكأنها في عالم آخر.

انطلق منذر بالسيارة على غير هدى.
غضب. صدمة. ألم. مرارة. ضياع. ذهول. حيرة. قهر
كل تلك الأحاسيس لا تستطيع وصف هامش بسيط مما يعتمل بداخله. لم يفهم. كيف يمكنها أن تكون بتلك القسوة؟ كيف يمكنها نطق تلك الكلمـ.ـا.ت؟ والأدهى أن هذا ما كانت تفكر فيه وتشعر به لشهور. وهو من كان يظن أن كل مشكلتها نفور من العلاقة الزوجية. لكنه لم يتخيل للحظة أنه هو السبب!

يا الله! كيف لم يلحظ ذلك؟ كيف؟ ولكن. لكن حتى لو لاحظ إن أبشع كوابيسه لم يكن ليتصور فيها أن تصفعه سهير بتلك الكلمـ.ـا.ت...
سهير الرقيقة جداً. الخجلة على الدوام. لا ترضى به رجلاً.

ترقرت دمـ.ـو.ع القهر في عينيه وكاد أن يذرفها بالفعل. ولكنه رفض أن يمنح نفسه الراحة بتلك القطرات الدامعة. فهو يحتاج لكل ما بداخله من غضب. لا يمكن أن يسقط منهاراً فيثبت لها فعلاً أنه ليس رجلاً. لم يعرف ماذا يفعل. أو أين يذهب. فقط ظل يجوب الشوارع لساعات بدون هدف وجملتها القاسية تتردد في اذنيه.
أنا لا اشعر بأي شيء. وأنا معك. وأنا بين ذراعيك. هناك شيء ناقص. هناك دائماً شيء ناقص.

ضغط على دواسة الوقود بقوة وكأنه يفرغ غضبه فيها. فازدادت سرعة السيارة بخطورة. ولفحت نسمـ.ـا.ت الهواء وجه منذر لتهدأ من حرارة الدماء المتصاعدة بغضب إلى رأسه. وبدأت الأفكار تتوارد الى رأسه.
هل معنى كلامها ما فهمته؟، هل لا تشعر بأي شيء بالفعل؟ هل هي لا تراني رجلٌ كفاية لإسعادها؟ وما الذي ينقصني لإسعادها؟ هل يمكن إن تجد ذلك الشيء الناقص مع رجلٌ آخر؟،.

زاد من سرعة السيارة وهو يرغب في الهروب من صورتها مع أي رجل سواه. وأخذ يلوم نفسه.
كيف له أن يتألم هكذا من مجرد خيال لها مع غيره. بينما هي لم تتردد في إلقاء الحقيقة في وجهه بكل قسوة؟
ثم يعود ليراجع نفسه.
كلا. لقد حاولت الهروب من المواجهة طويلاً. وكانت تعود لقوقعتها وترضى بتلقي نظرات اللوم مني. دون أن تصرح بشيء. أنا من ضغطت عليها وسببت ذلك الانفجار
ضحك من نفسه بسخرية.

أيها الغـ.ـبـ.ـي هل تلتمس لها الأعذار. تلك القاسية. جـ.ـا.مدة القلب. عديمة المشاعر. نعم. نعم. أنها معدومة المشاعر وسأثبت لها أنه توجد الآلاف غيرها يرغبن في حبي الناقص الذي لا يشعرها بشيء
أوقف السيارة وأخذ يبحث عن هاتفه في جيوبه ولكنه تذكر أنه ترك بين يدي سهير. فزفر بضيق. ثم لمح هاتف رؤوف ملقى على حاجز السيارة الأمامي. فأمسك به بلهفة. وهو يضغط الأزرار التي حفظها عن ظهر قلب طوال الشهر الماضي.

وما أن جاءه صوت وداد، حتى هتف بها:
وداد. أنا في طريقي إليكِ. الآن. الآن يا وداد.
أغلق الهاتف وارتسمت على ملامحه علامـ.ـا.ت التصميم وهو يوجه السيارة للطريق المؤدي إلى قصر الجيزاوي. بينما على الجهة الأخرى ارتسمت على وجه وداد ابتسامة انتصار واسعة.

تمددت نعمـ.ـا.ت على فراشها في غرفتها القديمة بقصر الجيززاوي، والتي مكثت فيها بعد وفاة عبد الرحمن.
دارت عيناها على معالم الغرفة وهي تبتسم بسخرية.

لقد عدت إلى نقطة البداية. فهنا. بين جدران تلك الحجرة بدأ كل شيء. بدءً من حالة الضياع التي مرت بها بعد وفاة عبد الرحمن ووصولاً إلى تلاعب قمر بها لتقنعها بالزواج من رؤوف. تلاعب سمحت هي به في ذلك الوقت. فهي لم تكن تعرف ماذا تفعل بحياتها. كانت في حالة ضياع استغلتها قمر ببراعة. لتزج بها في ذلك الارتباط مع رؤوف. والذي لم يثمر عن أي شيء.
أغمضت عينيها للحظة. وهي تخاطب نفسها.

لا تغالطي نفسك يا نعمـ.ـا.ت. كيف لم يثمر عن شيء. إن رصيدك المصرفي الآن مكون من رقم ذو ستة أصفار.

وهذا هو الفارق عن حالتها بعد موت عبد الرحمن. فهي بالفعل امتلكت الكثير كميراث شرعي لها. إلا أنه كان أسهم. وأنصبة مختلفة في أملاك وعقارات الجيزاوي. ولم تكن تمتلك الخبرة. أو القوة على التصرف في أي شيء. أما الآن فهي معها ثروة لا بأس بها. فعلى ما يبدو أنه لم يكتب لها الذرية. ولكنها تستطيع تأمين سنين عمرها القادمة بتلك الثروة الصغيرة. بالإضافة إلى أسهمها البسيطة في شركة الجيزاوي.

تعجبت من نفسها ومن أفكارها السلسة في تدبير حياتها القادمة. هل معنى هذا أنها قررت بالفعل ترك رؤوف؟ هي تعلم أنه حضر صباحاً لرؤويتها ولكنها تعللت بتعب أعصابها حتى لا تراه. ظنت لوهلة أنه سيصر على رؤويتها ولكنه لم يفعل. وهي لم تتعجب لذلك فيبدو أنه قال ما عنده في مواجهتهما الأخيرة وأنهى تلك المرحلة من حياته والآن سيتفرغ لأسرته الصغيرة وابنه القادم في الطريق.

كم كانت تتمنى لو أنها قاسية بما يكفي لتحرمه فرحته بذلك الطفل، ولكنها ليست بتلك القسوة أو الحقارة فمهما بلغ حقدها على نورا إلا أنها غير قادرة على ايذاء الروح الصغيرة بداخلها. لكن هذا لا يعني أنها لا تريد العثور على أي وسيلة فقط لتعكر سعادتها. وسعادة الجميع أو تسلبهم تلك السعادة. فقط هي غير قادرة على سلب روح بريئة. كل ذنبها أنها نبتت في الرحم الخطأ.

صوت سيارة تندفع بسرعة بالغة داخل الطريق الداخلي لقصر الجيزاوي هو ما أخرجها من تأملاتها فتحركت بفضول لترى من الذي اقتحم القصر بتلك الطريقة، ولكنها فوجئت بسيارة رؤوف تصتف في الممر وبتلك الفتاة التي تعتني بالرجل العجوز وهي تركض حتى وصلت إلى جانب الباب الأمامي الذي خرج منه قائد السيارة وانقض على الفتاة بقبلة عاصفة.

جحظت عينيّ نعمـ.ـا.ت وهي تتابع المشهد. وشلت الصدمة حركتها للحظات. لم تستطع تصديق عينيها. هل من المعقول أن يكون يخدعها هي وفتاته الصغيرة معاً ليقيم علاقة مع تلك الممرضة. حاولت الرؤية من زاوية أوضح ولكنها لم تتبين سوى خيال لشبح رجل لم تستطع تبين ملامحه. وأخيراً استعادت قدرتها على الحركة فالتقطت هاتفها وتحركت بسرعة نحو الشرفة الخارجية للفيلا لتستطيع الرؤوية من زواية أفضل وبدأت تسجل بعدسة الكاميرا الخاصة بهاتفها كل ما يدور. بين الفتاة والرجل الذي يرافقها. والتي تبينت ملامحه الآن وعرفته على الفور. وعرفت أيضاً كيف يمكنها تعكر سعادة غريمتها. ولكن بطريق غير مباشر.

تهالك رؤوف بتعب على أول مقعد قابله في بهو منزله. وزفر بحنق وهو يخبر نورا:
لم أجده في أي مكان. وكأن الأرض ابتلعته!
سألته نورا:
هل ذهبت إلى منزل جدي؟
بالطبع. لقد كان أول مكان أذهب إليه. ولكنني لم أجده هناك. أو في الشركة. أو في منزله. لا أعلم أين ذهب! لعله يجوب الطرقات. أو سافر خارج البلدة بأكملها.
وهمس بصوت منخفض لم تسمعه نورا:
أنا لا ألومه.
ورفع صوته ليسألها:
هل خالتي شموس هنا؟

نعم. لقد تحدثت مع سهير وبعدها قامت بعدة مكالمـ.ـا.ت أخرى والآن تعد لسهير شيئاً لتأكله، أعلم أنك تحتاج للراحة. لم لا تصعد إلى الطابق العلوي وترتاح قليلاً. فيبدو أن سهير باقية في جناحنا الليلة.
سألها بدهشة:
حقاً؟!
اجابته وقد عادت غيرتها تغلبها:
نعم. ولكن اختر أي غرفة غير غرفتك القديمة!

قبل أن يرد عليها سمعا صرخة مكتومة. صدرت من جناح نورا التي اندفعت على الفور لتتفقد ما يحدث مع شقيقتها، فوجدتها ترمق هاتفها بذهول وهي تضع يدها على فمها حتى تكتم مزيد من الصرخات والدمـ.ـو.ع قد تجمدت في مآقيها. ولكن لم تكن فقط دمـ.ـو.عها ما تجمدت. كانت كل ملامحها متجمدة وهي تتابع ما يعرض على شاشة هاتفها.
تحركت نورا نحوها وضمتها بقوة لصدرها. وهي تنصحها:
سهير توقفي عن مشاهدة تلك الصور. لا تعذبي نفسك أكثر.

لم تجبها سهير بأي كلمة. ووظلت عينيها تتحرك تتابع شاشة هاتفها. ثم غمغمت بصوت خافت مجروح:
لقد ذهب إليها.
ثم رمت هاتفها وهي تلتفت لنورا:
أريد أن اذهب إلى منزلي!
سألتها بدهشة:
ماذا؟!
تحركت سهير بسرعة لتخرج من الجناح فاصطدمت برؤوف الذي كان يقف خارج الباب قلقاً مما يحدث بالداخل. نظرت لرؤوف للحظة قصيرة وكأنها تتعرف على ملامحه، ثم أخبرته بلهجة آمرة:
اصطحبني إلى المنزل. الآن!
سألها بتوجس:
إلى بيت عمي عبد السلام؟

أخبرته بحزم:
بل منزلي.
جاءت شموس مهرولة من المطبخ لتستمع إلى كلمـ.ـا.ت سهير الأخيرة. فحاولت إثنائها:
سهير. من الأفضل أن تبتعدي عن منزلك ليومين فقط. ثم.
قاطعتها سهير وهي تدفع بذراع رؤوف:
سأذهب الآن. رؤوف. هل ستصطحبني؟ أو أذهب بمفردي؟
صاحت شموس مرة أخرى:
سهير. انتظري.
تحركت سهير بالفعل في طريقها للباب وكأنها لم تسمع شيئاً، وخاطبت أمها:.

لن أنتظر يا أمي. ومن فضلك. أنا أحتاج أن أكون مع منذر بمفردنا عند عودته. سأتصل بكِ قريباً.
ثم سألت رؤوف بجدية:
رؤوف. هل ستأتي؟
تحرك رؤوف ليصطحبها في السيارة التي عاد بها من الشركة:
حسناً. سآتِ.
ما أن خرج رؤوف مصطحباً سهير حتى سمعت شموس صوت نورا وهي تصيح بصوت مذهول:
لا أصدق. لا أصدق. كيف وصلت بها الدناءة لتلك الدرجة؟!

دلفت الى جناح ابنتها لتراها ممسكة بهاتف سهير وهي تتمتمم بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة. فجذبت الهاتف منها لتصدمها صور لمنذر وهو يقبل وداد بحرارة وهي تبدو ذائبة بين ذراعيه. تصفحت الهاتف بسرعة لترى مزيداً من الصور لوداد مع منذر. وفي النهاية ظهرت لها بضع كلمـ.ـا.ت لم تصدق عينيها لرؤيتهم.
كما اكتويت بنار شقيقتك. سأحرق حب زوجك في قلبك.

بالطبع لم تحتج شموس أن تبحث عن الرقم الذي جاءت منه الرسائل فقد كان واضحاً أن نعمـ.ـا.ت هي من أرسلتهم. فتمتمت بذهول:
لقد جنت المرأة بلا شك.
سألتها نورا بقلق:
ماذا سنفعل؟ هل سنترك سهير بمفردها مع منذر؟
اجابتها شموس بحيرة:
لست أدري. لست أدري. كيف يمكنني أتواجد معها وهي تواجه زوجها بخيانته؟ لست أدري ما العمل؟ أنا في غاية الحيرة. لكني يجب أن أحادث أبيكِ. يجب أن يعثر على منذر بأقصى سرعة.

ترددت نورا وهي تقول بخوف:
وهل سنخبر رؤوف؟
اجابتها شموس:
بالطبع سوف نخبر رؤوف. لقد تعدت نعمـ.ـا.ت كل الحدود. لم يكن عليها ادخال زواج سهير في انتقام ليس لها أي علاقة به. تلك السيدة يجب ايقافها. وزوجك هو الوحيد القادر على ذلك. الآن. دعيني أحادث والدك لأرى إذا كان وصل لمنذر أو لا.

جلس منذر في كرسي القيادة بسيارة رؤوف خارج قصر الجيزاوي وهو غائب عما حوله. لقد كاد أن يسقط في الفخ. فخ الخيانة. حمداً لله على نعمة العقل الذي نبهه في آخر لحظة أنه على وشك خسارة كل شيء. زوجته. ونفسه والأهم. إيمانه. بل حمداً لله على نعمة الإيمان.

فهو لم يستطع أن يصدق ما كاد أن يفعله منذ دقائق. لقد انقض على وداد ما أن رآها محاولاً تضميد جراح رجولته والتي أدمتها سهير بشـ.ـدة. وهي استجابت له بطريقة لم يتوقعها. طريقة انبأته بما لا يدع مجالاً للشك أنها أكثر من جاهزة لتلبية رغباته. بل أنها أكثر رغبة وربما أكثر خبرة أيضاً.

ضحك من نفسه بسخرية. فهو اتبع طريقة رجال الكهوف ليثبت أنه رجل. وهذا بالضبط ما أوقفه عن اكمال ما بدأ مع وداد. فهو للحظة لم يدرك ماذا يحاول اثباته؟ ولمن؟ لنفسه. أم لسهير؟
أنه لا يسعى اثبات أي شيء لنفسه فهو أدرى الناس بحاله، فهل يسعى لإثبات أنه رجل لسهير عن طريق خيانتها؟!
أي منطق أعوج استحوذ عليه حتى يأتي إلى منزل جده ويجر وداد إلى المقعد الخلفي لسيارة رؤوف ليحاول اغراق ألمه في وقاحة أنوثتها.

انطلق فجأة في ضحك هيستيري. قهقهات عالية انطلقت منه ودمعت لها عيناه. مما أثار تعجب وداد فسألته بحيرة:
منذر. ماذا بك؟
استمر بالضحك وهو غير قادر على تفسير سبب قهقهاته. فهل يخبرها أنه جاء لها في محاولة لإثبات رجولته لزوجته. وتخيل نفسه يخبر سهير.

سهير حبيبتي. أنتِ مخطئة. أنا رجل بكامل عنفواني. ودليلي على ذلك أنني قمت بخيانتك في المقعد الخلفي لسيارة رؤوف الذي سوف يقـ.ـتـ.ـلني ما أن يسمع بذلك. أو سيتركني لشقيقتك لتسلخني حياً. هذا إذا لم تسبقيها إنتِ. فلقد قـ.ـتـ.ـلتني حياً بكلمـ.ـا.تك بالفعل.
لم يستطع كبح جماح نفسه. واستمر في ضحكاته العالية مما تسبب في اغضاب وداد التي صاحت به:
منذر. توقف. توقف عن تلك الضحكات.
اعتدل في جلسته. وهو يحاول التحكم في ضحكاته:.

وداد. اخرجي من السيارة واجمعي أشيائك واتركي قصر الجيزاوي الليلة.
بهتت وداد وهي تسأله:
ماذا؟
أجابها بجدية:
ما سمعتِ. الليلة. لن تمكثي ليلة اضافية في القصر.
سألته بلهفة:
هل تعني أنك ستستأجر لي مكاناً بعيداً عن عائلتك؟
اجابها بقوة:
اعني أنني لا أريد أن أرى وجهك مرة أخرى. اغربي عن وجهي.
شهقت بقوة وهي تخبره بوقاحة:
حسناً. لنكف عن اللعب. أنت تريدني خارج القصر وخارج حياتك. كم ستدفع لي مقابل ابقاء فمي مغلقاً؟!

ردد بذهول:
ماذا؟
أجابته وهي تكتف ذراعيها:
ما سمعت يا حبيبي. كم ستدفع حتى لا أذهب إلى زوجتك الحلوة الرقيقة وأخبرها عن مغامرتنا معاً. وأطلعها على رسائلنا ومكالمتنا أيضاً؟
خرج منذر من السيارة كالعاصفة وفتح الباب الآخر المجاور لوداد وهو يصـ.ـر.خ بها:
اخرجي.
عادت لتسأله:
كم ستدفع؟

جذبها من ذراعها بشـ.ـدة ليخرجها من السيارة وهو يجرها عبر الممر الخارجي للقصر وصولاً إلى درجات السلم الخارجي فكانت تتعثر بشـ.ـدة بفعل جذبه لها حتى أنها سقطت أكثر من مرة. فارتفعت صراختها بشـ.ـدة وهي تصيح به:
دعني. دعني أيها المتوحش. سوف أخبر زوجتك أي حـ.ـيو.ان أنت.
ضحك بسخرية:
لا داعي لخدمـ.ـا.تك العظيمة. فهي بالفعل تعرف كل شيء.
وجد منذر نفسه فجأة وجهاً لوجه مع جده. الذي سأله:.

هل قررت أخيراً تطهير قصر الجيزاوي من العقربة التي سكنته؟
تلعثم منذر بشـ.ـدة. ولم يعرف بم يرد على جده الذي أوضحت كلمـ.ـا.ته بأنه كان على دراية بما يدور حوله. فعاد جده يخبره وهو يشير إلى وداد التي تهالكت أرضاً:
اتركها لي. واذهب إلى زوجتك.
والتفت الجد إلى المرأة الملقاة أرضاً وهو يسألها:
والآن هل ستجمعين أشيائك وترحلين. أم استدعي الشرطة. فقد تبين لي أنني فقدت عدة آلاف من الجنيهات.
صرخت وداد:.

لكنني لم أسرق أموالك.
جذبها العجوز بقوة لم تظن أنه يملكها وأخبرها بصوت مرعـ.ـب:
لقد كنتِ على وشك سرقة أحد أحفادي. فإذا كان العقاب لسرقة أموالي هو السجن، فإن العقاب على سرقة أحد أحفادي هو الموت.
جذبت وداد ذراعها منه وهي تقول بخوف:
سأذهب. أنا سأذهب...

أما منذر فقد استقل السيارة ليخرج بها خارج القصر. ويصفها بعيداً عنه بمسافة معقولة. ليجلس ويحدق في الفراغ. محاولاً التفكير فيما عليه فعله. فالذهاب إلى زوجته ليس بالبساطة التي أطلق بها جده الأمر. أنه يحتاج إلى تفكير عميق ولكنه مرهق بشـ.ـدة. لكنه يجب أن يصل لحل. وهو غير قادر على التفكير على الإطـ.ـلا.ق. أرهقه ما حدث للتو مع وداد، لقد كان غـ.ـبـ.ـياً ليتورط معها في المقام الأول. ترى هل سيبلغ جده سهير؟!

كلا. كلا. من المستحيل أن يقوم الجد بأمر كهذا. ولكنه سقط من عيني جده. وربما للأبد. وهذا ثمن كبير ليدفعه مقابل نزوة حمقاء. لكنه يستحق. لايستطيع أن ينكر. لقد حذره رؤوف مراراً وهو لم يصغِ.
أخذ يلكم عجلة قيادة السيارة بقبضته. وهو يصـ.ـر.خ بنفسه.
غـ.ـبـ.ـي. غـ.ـبـ.ـي.
انتفض جسده فجأة وهو يسمع صوت خاله عبد السلام وهو يفتح باب السيارة ويستقر في الكرسي المجاور له ويسأله:
لماذا تنعت نفسك بالغباء يا منذر؟

همس بصوت خافت بعد أن اطمئن قليلاً:
خالي!
أجابه خاله:
نعم خالك يا منذر؟ أين أنت يا ولدي؟ لقد أرهقتنا بحثاً عنك!
أجابه منذر محاولاً تغيير الموضوع:
كنت أجوب الطرقات قليلاً. ماذا فعلت بقاسم اليوم يا خالي؟
سأله عبد السلام قائلاً:
ماذا تعتقد؟ هل تظن أنني قـ.ـتـ.ـلته! لقد سلمته لوالدتك. وهي ستعرف كيف تقنعه بالرحيل. وإلا سيتدخل جدك. ويقنعه بطريقته. لا تقلق على شقيقك.
ساد الصمت لفترة. ثم سأل منذر خاله:.

هل كنت ترغب في الحديث مع جدي؟
كلا يا ولدي. لقد كنت أتمشى قليلاً. فهواء الليل ينقي الأفكار. ويجلي العقل.
عاد منذر يسأله:
هل ترغب أن اصطحبك إلى المنزل؟
اجابه خاله وهو يصطنع التبرم:
كلا. فالمنزل أصبح خالياً بعد زواج البنات. ولم أعد أجد من أتسامر معه. ولكن الله بعثك لي الليلة. فهي فرصة لاسترجاع بعض ذكريات الماضي التي أصبحت شموس تتبرم من سماعها.
سكت عبد السلام لحظات ثم رمق زوج ابنته بجدية متسائلاً:.

هل توافق على مشاركتي بعض ذكرياتي القديمة؟
تلعثم منذر لثوانٍ ثم اجاب:
نعم. نعم بالطبع يا خالي.
أرجع عبد السلام رأسه الى الخلف. وأغمض عينيه وهو يسترسل في الكلام:
إن أكثر ذكرياتي ألماً وقسوة. تلك المتعلقة بالفترة التي خسرنا فيها أنا وخالتك شموس. ابننا. الطفل الذي مـ.ـا.ت قبل أن يولد. لذلك لا أستطيع ذكرها كثيراً أمامها. فهي ذكريات مؤلمة كما تعلم.

أومأ منذر برأسه ولم يتحدث فهو لا يعلم إلى ما يهدف خاله. ولكن عبد السلام لم يرَ حركة رأسه فهو استمر باغماض عينيه وأكمل:
هل تعلم أن في ذلك الوقت أرسل لي جدك رؤوف ليعرض عليّ مرة أخرى الزواج من نعمـ.ـا.ت. وقد عزز عرضه بأن شموس فقدت رحمها وبالتالي فرصتها في الإنجاب. بالطبع تستطيع الاستنتاج أنني رفضت ذلك العرض.
ثم فتح عينيه فجأة وهو يسأل منذر:
هل تعلم لماذا رفضته؟ وجلبت على رأسي غضب جدك. الذي لم يتوقف.

أجاب منذر بواقعية:
من أجل خالتي شموس بالطبع
أومأ عبد السلام موافقاً:.

نعم من أجل خالتك شموس. ولكن لم يكن ذلك لضعف أو تخاذل مني كما اتهمني جدك. فلو تغيرت الأوضاع وفقدت شموس الولد فقط واحتفظت برحمها، ربما طاوعت جدك حتى لا أكون عاصياً لأمره وعاقاً له. فالذرية هبه من الخالق. ولقد ذاقت شموس حلاوة تلك الهبة، ولكن فقدانها لرحمها غير قواعد اللعبة فأنا لم أرد لها أن تشعر بأي نقص. لم أرغب أن أعرض المرأة التي أحببتها لاحساس أنها امرأة أقل من غيرها. فقط لأن القدر شاء أن تفقد رحمها. قد لا تعلم احساس الأنثى بأنها أقل من غيرها. أو بأنها لا تمنح رجلها ما يحتاجه. ولكنه احساس قـ.ـا.تل. لم أعشه أنا بالطبع ولكني رأيته بوضوح في عيون زوجتي. رأيته بوضوح شـ.ـديد حتى خُيل إليّ انني عشته، فرفضت عرض جدك على الفور.

سأله منذر بغضب:
خالي. هل تلمح لعلاقتي بسهير؟
سأله خاله بهدوء:
لماذا تظن ذلك يا منذر؟ هل تعتقد أن سهير ترى أنها امرأة أقل من غيرها؟
رفع منذر رأسه فجأة وقد برقت في عقله إحدى جمل سهير والتي تغاضى هو عن تفسيرها لشـ.ـدة غضبه. واخذت تلك الجملة تتردد بقوة.
لأنني عاجزة عن الشعور بك. عاجزة عن منحك مشاعر الزوجة العاشقة لزوجها. عاجزة عن حبك بالطريقة التي تريدها أنت.
ثم عاد صوت خاله يعلو على صوت أفكاره مرة أخرى:.

بمناسبة الذكريات التي صاحبت تلك الفترة. هل تعلم أن سهير قد مرت بتجربة سيئة للغاية في تلك الفترة؟
نظر منذر إلى خاله باستفهام فأضاف الأخير:.

لقد قررت جدة أمها أنه حان الوقت لاجراء عملية ختان لها، وللأسف استخدمت سيدة بدائية وجاهلة للقيام بتلك العملية. بدلاً من اللجوء لطبيب مختص حتى لاستشارته إذا ما كانت الفتاة بحاجة إلى تلك العملية. لقد تعرضت سهير لصدمة رهيبة، وآلام مبرحة. حتى أنها تعرضت للنزف. ولكن بفضل الله كان نزيفاً بسيطاً.
همس منذر بصدمة:
يا الهي! لماذا لم تخبرني؟
اجابه خاله:.

لقد عانت سهير لفترة طويلة من الكوابيس. ربما ما زاد الموقف سوءً عدم وجود والدتها بجوارها لفترة طويلة بسبب ظروفها الصحية في تلك الفترة. ولكن سهير دفنت تلك الحادثة في عقلها وقررت تناسيها تماماً. ربما لذلك لم تخبرك. أو.
سأله منذر باستفهام:
أو ماذا يا خالي؟
أو هي استشعرت عدم رغبتك في سماعها.
حاول منذر معارضة خاله، لكن عبد السلام قاطعه:.

شيء أخير أريد اخبـ.ـارك به. أعرف أن موافقتي على زواج رؤوف بنورا عرضتني للكثير من الشائعات. حتى أن البعض اخبرني صراحة أنني قدمت ابنتي قرباناً للصلح مع أبي.
قال منذر بحرج:
خالي.
قاطع عبد السلام كلمـ.ـا.ته وكأنه لم يتحدث على الإطـ.ـلا.ق واستمر في حديثه:.

لم يكن هذا صحيحاً على الإطـ.ـلا.ق. فأغلى ما أملك هن بناتي. ولا يمكن أن أقامر على سعادتهن أبداً. لقد وافقت لأن رؤوف طلب نور القمر بالاسم. لم يتصرف كما هو معتاد منه وطلب الزواج من سهير لأنها الكبرى وهو بالمناسبة لم يكن يعلم على الإطـ.ـلا.ق بحبك لسهير. ولكنه طلب الزواج من نور القمر لأنه أرادها هي. لم يطلب رؤوف لنفسه أي شيء طوال خمسة وثلاثون عاماً. وعنـ.ـد.ما طلب ابنتي، علمت أنه سيحافظ عليها وسيسعدها. وحمداً لله لم يخب ظني.

ثم ضغط على كتف منذر بجدية:
منذر يا بني. لا تجعلني أتمنى لو أن رؤوف كان أتبع الطرق التقليدية.
اتسعت عينا منذر من قسوة الكلمة. ولكن خاله عاد ليربت على كتفه بحنان:
اعذرني يا ولدي. فأنا أب يحاول حماية سعادة ابنته. ومما آراه أن سعادتها معلقة بك. فلا تخذلني. ولا تخذلها. هيا. أدر تلك السيارة حتى تصطجبني لمنزلي.

وهذا ما فعله منذر. فقد قام بايصال خاله إلى منزله ثم ترك سيارة رؤوف بجوار المنزل وأخبر خاله أنه سيذهب إلى منزله مشياً على قدميه. ولكنه لم يتوجه إلى منزله، بل ذهب إلى مكتبه بالشركة ليجلس أمام حاسوبه ويتصفح كل ما أمكنه من مواقع تتحدث عن الختان وآثاره المختلفة. تابع بنهم جميع المعلومـ.ـا.ت التي تظهر أمامه من آراء فقهية وآراء علمية وتجارب مختلفة لإناث تعرضن لتلك التجربة. وتجارب أخرى لأزواج عانوا في علاقتهم مع زوجاتهن وخاصة ممن تعرضن للتجربة بطريقة بدائية ووحشية مثلما تعرضت سهير.

التهم بحثه معظم ساعات الليل. بعض الأبحاث جعلته يظن أن الحل سهلاً. والبعض الآخر ضخم من حجم المشكلة. حتى أنه لم يعد يعرف ماذا يفعل!
وضعت نورا سماعة الهاتف بعد ان اطمأنت من والدتها على أخبـ.ـار منذر. فعلى الأقل استطاع والدها الوصول إليه والحديث معه. ولكنها كانت في غاية القلق على شقيقتها والتي تركت هاتفها في غرفة نورا. ولم تجد طريقة للاطمئنان عليها بعدما قام رؤوف بايصالها إلا بمحادثة عمتها. وهي لم تجد لديها رغبة في ذلك.
ناداها رؤوف برقة وهو يشير إلى الأريكة بجانبه:
تعالي لتستريحي قليلاً. فاليوم كان مرهقاً بالنسبة لكِ.

تحركت لتجلس بجانبه وهي تضع رأسها على كتفه:
أنت محق. لا أصدق أن كل تلك الأحداث مرت في يوم واحد فقط.
قبل خصلات شعرها الثائرة بخفة. وأدارها ليكون ظهرها مستريحاً على صدره وأخذ يمسد لها كتفيها برقة وهي استكانت على وضعها ذلك ومددت قدميها على الأريكة أمامها. تشعر أنها آمنة ومحمية بين ذراعيه. فأغمضت عينيها بوداعة عنـ.ـد.ما سمعت سؤاله:
نورا. هل تلوميني على ما فعلته نعمـ.ـا.ت؟
صمتت لحظات شعر فيها بالقلق. فعاد يسألها:.

قمر. هل استغرقتِ في النوم؟
اجابته وهي تتهرب الرد الصريح:
يجب أن تجد حلاً لمنادتي ب قمر. قد تسمعك عمتي يوماً. وتظن أنك تقصدها هي فتشك في قواك العقلية!
وضع رأسه على كتفها ورفع ذقنها بيده وهو يهمس بجوار اذنها:
لا ترواغي. ولا تتهربي من الاجابة.
لفت له وجهها وهي تعبس في وجهه وتبرم شفتيها:
ولماذا يسمح لك أنت دائماً بالمراوغة!
همس بحزم:
نورا!

حاولت نورا التملص من قبضته التي تتمسك بذقنها بقوة، لكنه لم يفلتها. فاستسلمت لتخبره:
نعم. نوعاً ما. أنا ألومك. كما ألوم نفسي. لقد جرحت سهير بشـ.ـدة بفعل تلك المشاهد. وازدادت مشكلتها تعقيداً. وكل ذلك بسبب انتقام سخيف من امرأة مـ.ـجـ.ـنو.نة.
سمعت صوته منبهاً:
نورا. لا تفعلي.
جذبت ذقنها بعنف من قبضته وهي تعتدل في جلستها على الأريكة هاتفة:.

لا أفعل ماذا؟ تلك السيدة حاولت هدم زواج شقيقتي. وأنت غاضب لأنني دعوتها بالمـ.ـجـ.ـنو.نة.
قطعت نورا كلامها. وهي تضع يدها على بطنها. وتطلق تأوهاً خفيفاً.
جعله يتحرك بسرعة وهو ينزل أمامها على ركبتيه ويضع يده فوق يدها المستريحة على بطنها ويسألها بقلق: ماذا بكِ؟ ما الذي يـ.ـؤ.لمك؟

قبل أن تجيبه شعر بيدها تتحرك بخفة تحت يده. فجذب يده بخوف وهو غير مدرك لوصف ما حدث. فما كان من نورا إلا انها سحبت يده لتضعها على بطنها مباشرة. فشعر برجفة خفيفة تحت يده. حركة تشبه رمشة الجفن عنـ.ـد.ما تستشعرها بباطن يدك. ارتعد جسده بالكامل متجاوباً مع تلك الحركة.
وهمس بتأثر:
هل هذا...
لم يستطع اكمال جملته. فأكملتها له نورا:
نعم. أنه الطفل. إنها ركلة بسيطة.
سألها بخوف:
هل تؤلمك؟
هزت رأسها نفياً:.

كلا. أنني اعتبرها وسيلة اتصال بيننا. ولكن أحياناً تؤلم قليلاً.
ابتسم لها:
وماذا أخبرتك ابنتي الآن؟
عاندته بقوة:
ابني يتحالف معي. فهو شعر بصياحك عليّ لأنني دعوتها بالمـ.ـجـ.ـنو.نة. أنا لا أفهم. إذا كانت مشكلتها تنحصر بييننا نحن. لم تحاول ايذاء سهير. فزواجها لا يحتمل تلك التدخلات.
عاد ليجلس على الأريكة وهو يسحبها بين ذراعيه ويريحها في نفس وضعها الأول وهمس لها:.

وهذا ما أقصده. أقصد لا تفعلي. أي لا تلومي نفسك. فأنتِ لم تجبري منذر على الذهاب إلى تلك الممرضة. وأيضاً لم تكوني السبب في ايذاء سهير له بالكلمـ.ـا.ت. ما يحدث بينهما هو مسئوليتها. وما قامت به نعمـ.ـا.ت، غلطتها وستتحمل مسئوليتها...
أراحت راسها على كتفه وهي تخبره بهمس:
هل تعتقد ذلك؟ أتمنى أن تفكر سهير بتلك الطريقة.

ساد الصمت لفترة ظل رؤوف فيها يمسد بطن نورا برقة وكأنه يبحث ركلة أخرى. عن وسيلة الاتصال تلك التي أخبرته عنها.
قالت نورا بهدوء: لقد أخبرتني أمي أن تلك الحرباء قد رحلت. ولكني لا أعلم هل رحيلها هذا دليل على خسارتها. أم خسارة سهير. جدي لم يوضح ما حدث لأمي. كما أنه منعها هي وعمتي قمر من الحضور إلى القصر ليتفاهما مع نعمـ.ـا.ت.

واطلقت ضحكة صغيرة: يتفاهما معها! تلك ما أخبرتني به أمي. جعلت الأمر يشبه تدابير عصابات المافيا.
صمتت مرة أخرى ثم عادت تسأله: هل تعتقد أنه فعلها؟
زاد من ضمها وهو يقبل قمة رأسها: كلا. لا أعتقد أنه فعلها!
همست بذهول: حقاً! لقد رأيت الصور والمقاطع المسجلة.
أجابها بثقة: أنتِ أخبرتني بقصة عشقهما الطويلة. لو كان ما أخبرتني به صحيحاً فهو لم يفعلها.
سألته: أمممم، تبدو واثقاً جداً.

حملها ليضعها في الفراش وهو يهمس لها: جداً. جداً.
وتمتم لنفسه. أنا أعرف تماماً ما أتحدث عنه
ورفع صوته قليلاً:
وشقيقتك أيضاً واثقة. وإلا ما كانت عادت إلى بيته. هيا. لتنامي فأنتِ يبدو عليكِ الارهاق جداً. وأنا سأنهي بعض الأوراق في المكتب. ثم أنام.
غمغمت برقة:
كلا. احتضنني حتى أنام. ثم أذهب لأوراقك.
لف إلى الجهة الأخرى من الفراش وصعد إليه ليضمها بين ذراعيه. ويحتضنها بقوة. وهو يخبرها:.

حسناً. كما تريدين يا طفلتي.

جلست سهير في نافذتها كالعادة تتأمل اختفاء الخيوط السوداء من الأفق وظهور آشعة الشمس على استحياء وكأنها تشعر بمدى الألم الأسود الذي تراكم بداخل سهير حتى ظنت أن خيوط الشمس نفسها والتي تغمر الكون بضيائها عاجزة عن كشف ولو جزء صغير من ذلك الحزن القاتم والذي سكن روحها وقلبها. عنـ.ـد.ما لفت انتباها صوت الباب الخارجي للجناح فرفعت عينيها لتلمح منذر يدخل الغرفة وهو يجرجر قدميه وقد بدا الإرهاق على ملامح وجهه. وما أن رآها حتى ظهرت الدهشة على وجهه. فيبدو أنه لم يتوقع وجودها في المنزل. أربكه مظهرها لوهلة. ثم حاول الحفاظ على هدوئه وهو يتجاهل وجودها تماماً. فبدأ بخلع ملابسه بهدوء.

ألقى قميصه على الفراش بإهمال. وفتح خزانته ليلتقط ملابس نظيفة. ثم دخل إلى الحمام في صمت تام.
ظلت سهير ترقبه حتى أغلق باب الحمام خلفه. وهنا سقطت دمـ.ـو.عها بغزارة. لقد تجاهل وجودها تماماً، صحيح أنه لم يستطع اخفاء دهشته لرؤيتها في البداية إلا أنه تصرف بعد ذلك وكأنها غير موجودة. كأنها طيف غير مرئي. أو شبح خفي لامرأة اعتاد على وجودها.
تحركت لتقف أمام مرآتها، فصدمت من تلك التي تطالعها في المرآة.

متى قامت بتحويل مظهرها إلى تلك المرأة التي تطل عليها من المرآة. أنها لا تتذكر. مهلاً. إن آخر ما تتذكره هو إصرارها على دخول منزلها بمفردها ومنعت رؤوف من اصطحابها للداخل. لا تدري من أين اتت بتلك الإرادة الحازمة. ولكنها وجدت نفسها تأمره بحزم بأن ينصرف وأن يمنع والدتها من اللحاق بها. ثم دخلت منزلها وحيت عمتها قمر بشرود لتصعد إلى غرفتها بعد ذلك. وماذا بعد؟ أنها لا تتذكر.

أغمضت عينيها وهي تضغط على خلايا عقلها وتجبرها على التذكر. فرأت نفسها تملأ مغطسها بالماء والكثير. الكثير من العطور القوية لتغرق نفسها بداخل تلك المياه ذات الرائحة النفاذة والخانقة حتى أوشكت بالفعل على الاختناق. ثم أنهت حمامها لتذهب وتقلب بين غلالات نومها لترتدي أكثرهم كشفاً لجسدها. التفتت نحو منضدة الزينة وبدأت تضع زينة لوجهها ولكنها وجدت أصابعها ترسم ملامح امرأة مختلفة. فبدلاً من أحمر الشفاه الوردي الهادئ استخدمت الأحمر الداكن. وبدلاً من ظلال جفونها بلون السماء الصافية. استخدمت آخر له لون رمادي يكاد يقترب من الأسود. ووجدت يدها تقترب من الكحل الأسود لأول مرة لتحدد عينيها ببراعة لم تعتقد أنها تمتلكها. وأخيراً بعدما انتهت رمقت تلك التي تقابلها في المرآة وقد تحولت إلى امرأة ذات أنوثة متوحشة.

لم تدري لما قامت بذلك. من الممكن أنها أرادت دعم ثقتها بنفسها. أو أنها رغبت في أن تكون سهير مختلفة عن تلك المتخاذلة التي لم تعرف كيف تدافع عن بيتها. بل دفعت بزوجها إلى أحضان امرأة أخرى. أم أنها أرادت أن تبهر عينيّ منذر فيدرك ما فاته بترك نفسه يسقط بين أحضان الخيانة.

كل ما أدركته وأرادته أنها أرادت أن تخرج من عباءة المرأة الطفلة. لتصبح أنثى تدافع عن كرامتها التي أضاعها زوجها بخيانته لها. هي لا تنكر أنها ضغطت عليه وأهانته بشـ.ـدة برغم أنها لم تتعمد ذلك، ولكن هل رده عليها يكون بالخيانة. لقد أباح لنفسه الخيانة حتى يسترد رجولته التي جرحتها بغبائها. ولكنه لم يفكر في كيفية جبر كسر أنوثتها المهدرة وهي تصارحه بأنها زوجة عاجزة وفاشلة. لم استمع فقط إلى كلمـ.ـا.تها التي انتقصت من عنفوانه ولكنه اختار صم أذنيه عن ما قالته في حق نفسها.

لقد ازداد الموقف تعقيداً. ولم تعد تعرف ما الحل. هل تتغاضى عن خيانته، مقابل أن يسامحها على زلتها في حق رجولته؟ هل هذا هو الحل؟
تشعر أنه حل مشوه وملوث. ولن يغير في الوضع الحالي شيئاً. سيستمران في اداء تمثيلية سخيفة أمام الجميع حتى يسأم أحدهما من لعب دوره فيهدم كل شيء مثلما حدث اليوم.
أخرجها من أفكارها انقطاع صوت المياه بداخل الحمام. مما يعني قرب المواجهة.

مسحت دمـ.ـو.عها بهدوء. وتحركت ناحية الفراش لترفع ملابس منذر الذي ألقاها بإهمال، فلفت انتباهها لطخة حمراءعلى ياقة قميصه. تأملتها قليلاً، ثم أدركت ماهيتها. فجعدت القميص وألقت به بقوة نحو باب الحمام في نفس اللحظة التي خرج بها منذر من الحمام. فالتقط القميص الطائر بإحدى يديه وهو يحاول اخفاء ارتباكه بعودتها والتغلب على ما يعتريه لرؤويتها بذلك المظهر المهلك. لقد فوجيء بعودتها. لم يظن أبداً أنه سيعود ليجدها في انتظاره. كان يتمنى أن يمدد جسده فقط ليحصل على قسط بسيط من الراحة. ويرتب أفكاره جيداً. ثم يذهب ليراها ليحاولا معاً تحديد مصير زواجهما ومقدار التنازل المطلوب من كلاهما ليستطيعا النجاة بحياتهما معاً بعد أن جنحت علاقتهما وكادت أن تتحطم على صخور الواقع. الواقع الذي ظلت تهرب منه سهير لشهور. ولابد من مواجهته الآن.

حسناً فعلت بعودتها إلى المنزل فالمواجهة ستتم حتماً. والأفضل أن تكون عاجلاً وليس آجلاً. ولكن هل يجب عليها أن تبدو بتلك الروعة! همس لنفسه بغيظ.
يا الهي. هل تحاول قـ.ـتـ.ـلي بمظهرها ذاك. هل من الممكن أن تكون تلك الأنوثة الصارخة غير قادرة على الشعور بشيء. أنها تبدو مهلكة. برغم زينة وجهها المبالغ فيها والتي حاولت بها الظهور بمظهر مبتذل إلا أنها لم تنجح. فهي تبدو كما ينبغي أن تكون الأنثى الكاملة.

ابتلع لعابه بصعوبة محاولاً السيطرة على انفعلاته فتبنى أسلوباً ساخراً من قذفها لقميصه:
حسناً فعلتِ. ذلك القميص قذر بالفعل ويجب غسله.
أجابته بقوة وهي تحاول التمسك بقناع المرأة الواثقة:
بل يجب حرقه.
ألقى القميص من يده بإهمال وهو يلتفت إليها متسائلاً وهو يحرك سبابته لأعلى وأسفل مشيراً إليها محاولاً ألا يبدو متأثراً بها:
ماذا فعلتِ بنفسك؟
أجابت بثقة واهية:.

تغيير لا أكثر. فهذا القناع هو ما يعجب الرجال على ما يبدو.
تخلى منذر عن هدوئه وهو يصيح بها:
لا تقلبي الأدوار يا سهير. مازالت كلمـ.ـا.تك تدوي في أذني ولم يخف تأثيرها بعد.
قررت مصارحته. فتحركت حتى وصلت إلى القميص الملقى أرضاً. وتناولته لترفعه في وجهه وهي تشير إلى بقعة أحمر الشفاه:
أعرف أين قضيت ليلتك. فلا داعي للعب دور الضحية.

فوجئ بمعرفتها، بل صدم. هل علمت أنه ذهب لخيانتها. خيانتها فعلاً. ورغم ذلك عادت إلى بيته. عادت إليه. هل من الممكن إنه يوجد بصيص من الإمل لتلك العلاقة بعد كل شيء.
سألها بحيرة:
ت عـ.ـر.فين. ولكنكِ هنا.
همست بألم:
نعم. أنا هنا.
ذاهلاً سألها:
هل تستطيعين الغفران؟
سقطت يديها إلى جانبها فسقط معها القميص أرضاً وجرت دمـ.ـو.عها على وجنتيها:
لا أعلم.
سألها ثانية:
وإلى أين يؤدي بنا ذلك؟
همست ثانية:
لا أعلم.
أجابها بنفس همسها:.

ولكنكِ هنا.
أومأت بعجز:
ولكنني هنا.
تحرك مقترباً منها يختصر المسافة التي بينهما فخطى فوق قميصه الملقى أرضاً. وحاول أن يتمسك بيديها إلا أنها أبعدتهما وهي تخبره:
لا تقترب. لا تلمسني.
لم يستمع لها وهو يمسك بيديها ليخبرها:
ت عـ.ـر.فين أنني لم أفعلها.
اندفعت العبرات من عينيها وشعرت أنها ستختنق بشهقاتها وهي تجهش بالبكاء:
أعرف.
ارتفعت يديه إلى ذراعيها ليقربها منه وهو يهمس بعذاب:.

لكنكِ لا تعلمين أن وجودك هكذا قريبة مني أكاد أشعر بدقات قلبك تعانق دقات قلبي. وأنافسي تداعب جبهتك فتطاير خصلاتك لتداعب وجنتي. هذا القرب. هذه النظرات الحائرة التي تصرخ بحبك لي. تؤثر بي. اكثر من الآلاف من قبلاتها.
آآآآآآآآآه
صرخة انطلقت من اعماقها وهي تتهاوى ارضاً على ركبتيها. دافنة رأسها بينهما. جسدها ينتفض من عنف بكائها. تسأله وهي تكاد تختنق من شهقاتها:
قبلتها!

هبط منذر أمامها وهو يحاول ضم جسدها المنتفض لصدره وأراح رأسه فوق خصلاتها المنتشرة:
سهير. لا تفعلي ذلك بنا. دعينا نبدأ من جديد. وننسى كل ما فات.
رفعت رأسها فكانت جالسة على ركبتيها في مواجهته:
كلا. يجب توضيح كل شيء. لا يمكن أن نبدأ من جديد وهناك خيوط قوية تشـ.ـدنا للخلف. لن يستقيم الأمر.
أمسك منذر بوجهها بين يديه وهو يمسح دمـ.ـو.عها بإبهاميه:
أنا أعلم.
شهقت متفاجأة:
تعلم! كل شيء؟
أومأ برأسه موافقاً:.

كل شيء. كل ما أردتِ اخبـ.ـاري به. ولكن غروري. منعني من الاستماع. فزعك ليلة زفافنا. نظراتك الضائعة ونحن معاً. لقد فهمت. كل شيء. وهذا ليس خطأك.
دفعته عنها بقوة وهي تتماسك وتحاول النهوض:
كيف ليس خطأي. لقد دفعتك بعيداً. ألقيتك بيدي إلى امرأة أخرى لتمنحك ما عجزت أنا عنه. وبعد كل ذلك. تخبرني أنه ليس خطأي. خطأ من اذاً؟
نهض هو الآخر ليواجهها:.

حسناً. كلانا أخطأنا. ولكننا نستطيع تعديل الأمور وإصلاحها. نحن من نتحكم بحياتنا وليس أحداً آخر.
هزت رأسها بعجز:
أنك تجعل الأمر غاية في السهولة.
أمسك وجهها بين كفيه ثانية ليرفعه له:
كلا. إن الأمر لن يكون بتلك السهولة. وسنواجه عقبات ومصاعب عدة. ولكنه يستحق. زواجنا يستحق. فأنا لن أرغب بامرأة غيرك. ولن أسمح لكِ أن تكوني مع رجل سواي. لذلك لا حل أمامنا إلا أن نصلح من حياتنا ونعمل على انجاح زواجنا.

سألته بحيرة:
ماذا تعني؟
اجابها بحماس:
لقد قضيت الساعات الماضية اتصفح على شبكات النت كل ما يتعلق بموضوع الختان.
قاطعته وهي تبتسم وسط دمـ.ـو.عها الغزيرة:
قضيت ليلتك بالمكتب.
سألها بلوم:
أين تظنين أنني قضيتها؟ لقد أخبرتك. لا امرأة لي سواكِ.
أومأت برأسها في سعادة:
كم أحبك. أنت وحدك من تملك سعادتي وشقائي. أحبك. ومستعدة أن أبتعد عنك. أن أضحي بوجودي إلى جوارك، لو كان في ذلك سعادتك.

ضمها لصدره بقوة فشعرت كأنه يريد زرعها بين دقات قلبه. وهمس لها بحب جارف:
لن أتركك تبتعدين عني أبداً. اصلاح ما أفسدناه في حياتنا سهل جداً. ولكن التزامنا بخطواته هو التحدي.
أبعدها قليلاً وهو يسألها بتردد:
حبيبتي. تعلمين أن الخطوة الأولى هي اللجوء لطبيب نفسي.
أومأت موافقة:
أعلم. وأمي منتظرة إشارة مني حتى تحدد لي موعد مع طبيبة مؤتمنة وهي على علاقة طيبة بها.

زفر بـ.ـارتياح. فقد هونت عليه نصف المسافة. شكر بينه وبين نفسه خالته شموس. أنها سيدة رائعة بالفعل.
ابتسم بسعادة:
لقد ارحتني بشـ.ـدة. ولكن الخطوة الأخرى هي التحدي الفعلي.
اخفضت رأسها بحرج وهي تغمغم:
أعلم. لقد بحثت أنا أيضاً طويلاً في الموضوع. وأعلم مدى التضحية التي ستقوم بها لنخطو تلك الخطوة.
رفع ذقنها بأصابعه:.

هل تعلمين. وأنا جالس في مكتبي أفكر في الأمر وكيف أنني سأدع شخصاً آخر. حتى ولو كان مختصاً يخبرني كيف أعامل زوجتي. انتابتني الهواجس وترددت كثيراً. ولكن ما أن دخلت إلى جناحنا لأجدك بتلك الروعة. في كامل زينتك وروعتك. ولكنكِ قمتِ بذلك لكل الأسباب الخاطئة. حتى تبخر كل ترددي واختفت كل هواجسي. فأنا أريدك بكل تلك الروعة. ولكن لتكوني. سهير وليس أي شخصاً آخر تختفين خلف قناعه.

رمت نفسها على صدره وهي تبكي قائلة:
ماذا فعلت لأستحق رجلاً بمثل روعتك؟
اجابها ببساطة:
لقد أحببتني لدرجة أنكِ سمحتِ لي بجرحك. حتى لا تكوني أنتِ البادئة بجرحي. كيف تريدين مني الاستغناء عنك!
ثم رفع رأسها عن صدره وهو يتناول إحدى المناشف النظيفة. ليمسح زينتها الكثيفة. ويخبرها بهدوء:
هكذا. أريد استعادة سهير خاصتي.

ابتسمت له بحب وهي تساعده بإزالة القناع المخادع الذي حاولت الإختفاء خلفه. فهي لم تعد بحاجة إلى الإختباء بعد الآن. فقط تحتاج للدعم والحماية الأمان والحب. الكثير من الحب. وهو ما يمنحه لها منذر بلا حدود.

بعد مرور أربعة أشهر...
كانت سهير تسير بجانب منذر وهما متشابكي الأيدي. على كورنيش الأسكندرية. وهي تشعر براحة لا حد لها. راحة لم تتصور يوماً أن تعرفها.
أغمضت عينيها بـ.ـارتياح وهي تسأل منذر:
هل سنسافر إلى بلدتنا في نهاية هذا الأسبوع؟
ترك يدها ليحيط كتفها بذراعه:
كما ترغـ.ـبـ.ـين يا حبيبتي.
اجابته بابتسامة:
نعم. فأنا أفتقد نورا بشـ.ـدة.
قهقه ضاحكاً:
نورا فقط!

كلا بالطبع، ولكنك تعلم كم أنا مرتبطة بها. ولا تنسَ أن لها الفضل الأول في نقلك إلى فرع الأسكندرية.
ضحك وهو يشاكسها:
أنتِ مخطئة. فانتقالنا إلى هنا كان بفضل رؤوف وأفكاره.
هتفت بذهول:
حقاً.
اجابها بموافقة من رأسه. فعادت تعانده:
ولكنه فعل ذلك من أجل نورا. إذاً هي صاحبة الفضل.
رفع يديه باستسلام:
حسناً ومن أنا لأعارض. كما تشائين.

ابتسمت له بسعادة لم تظن أنها ستجدها يوماً. حتى بعد مصارحتهما، بل مواجهتهما الأخيرة. لم تكن تعتقد أنها من الممكن أن تعود لتبتسم بسعادة حقيقية وليست ادعاء أو تظاهر.

استرجعت في ذهنها أول لقاء مع طبيبتها النفسية. تلك المرأة الهادئة صاحبة الابتسامة الدافئة والنظارة ذات الإطار الفضي الأنيق. والنظرات التي تمنحك إحساس بأنك في بيتك. لقد فهمت لحظتها لما أصرت والدتها على مقابلة تلك الطبيبة. فهي تدعى حنان وهي بالفعل ينبوع من الحنان والاطمئنان. بالإضافة لمهارتها الطبية. ففي لقاءها الأول أدخلتها الطبيبة وطلبت من منذر الانتظار بالخارج.

كانت سهير خجلة ومحرجة للغاية. لكن الطبيبة. امتصت كل ذلك في سرعة وسهولة غير عادية. حتى وجدت سهير نفسها تبوح بكل ما في نفسها. حتى ما خجلت عن الإفصاح عنه لإمها أو منذر.
تذكرت معها تجربتها المؤلمة في الختان. وأخبرتها الطبيبة بحزم:.

أولاً يجب أن تعلمي. أنه لا عيب أن تكوني انثى جميلة. بل ذلك يدعو إلى الفخر. مرتان وليس مرة واحدة. مرة لكونك أنثى ومرة لكونك جميلة. لا تجعلي ملاحظة جدتك حول جمالك وربطك لما قامت به بذلك الجمال. لا تخشي جمالك. اتركي زوجك يتمتع به. حتى بمتعة النظر له. لا تخفيه. أو تداري أنوثتك خلف ملابس فضفاضة. وأنا اتكلم عن وجودك في منزلك ومع زوجك بالطبع.
ثم التقطت. أنفاسها. وهي تخبرها بجدية:.

نأتي للنقطة الأهم. حادثة الختان. وما سببته لكِ من آلام. لكن ذلك كان بسبب اتباع جدتك لذلك الأسلوب البدائي. بينما لو لجأت لطبيبة أو جراحة. لمر الأمر بدون أي ذكريات تذكر من جانبك. إن تخطيكِ لتلك الذكرى بالذات يعتمد على قوة إرادتك. ورغبتك الحقيقية في وضعها في الحجم البسيط الذي تستحقه. مجرد تجربة وإن كانت صعبة. ولكنكِ أقوى من تدعيها تتحكم بحياتك. أو تفسد علاقتك مع زوجك.

لقد تكلما معاً لساعات. حتى انتبهت الطبيبة فجأة. وهي تخبرها بمزاح:
لقد خصصت اليوم لكِ بالكامل. وذلك من أجل عيون والدتك فقط. لكنني في المرة القادمة سأعاملك كسائر مرضاي. فلا يمكنني اهمالهم جميعاً. أليس كذلك؟
ضحكت سهير بحرج وهي تغمغم:
أنا آسفة.
ابتسمت لها الطبيبة وهي تخبرها بمودة:
ماذا بكِ يا فتاة أنني أمازحك فحسب!
أنا اعلم. ولكن لماذا تقولين أن هناك مرة أخرى؟
سألتها الطبيبة بطريقتها المرحة:.

هل سئمتِ مني بتلك السرعة!
ثم تحولت لجدية دافئة ولكن حازمة:
سهير لقد بدأنا اليوم أول خطوة في طريق العلاج. مازال أمامنا طريق طويل. يجب الالتزام بمواعيد الجلسات. وعلى زوجك أيضاً أن يكون في مثل التزامك. فسأطلب منه أحياناً. الإنضمام إلينا. هل هذا واضح؟
أومأت سهير بموافقة صامتة. لتكمل الطبيبة:.

هناك أيضاً مستشارة العلاقات الزوجية. وهي طبيبة صديقة لي. ومن حسن حظك أنها تقيم بالاسكندرية. أنتِ أخبرتني أنكِ على وشك الإنتقال الى هناك. ستبدآن تلك الجلسات بعد فترة بسيطة. فأنا أفضل أن نمر بعدة جلسات نفسية أولاً. حتى تكوني في وضع أفضل لتقبل نصائح تلك الطبيبة.
أومأت سهير مرة أخرى. فربتت على كتفها الطبيبة برقة:
حسناً. أراكِ الأسبوع القادم.

عادت سهير من ذكريات ذلك اللقاء لتمسك بيد زوجها بقوة. ذلك الرجل الذي أثبت لها قوة حبه بكل طريقة ممكنة. لقد تعاهدا على أن يبدآ من جديد. وهو مازال بجوارها إلى الآن. يتحمل خجلها الذي لم تستطع التخلص منه بالكامل. حتى بعد مرور شهرين على وصولهما للأسكنرية ومقابلة الطبيبة التي رشحتها الدكتورة حنان.

لقد ترددا يومها في الذهاب. حتى أنها اتصلت بالعيادة حوالي خمس مرات لتلغي الموعد ثم تعود وتتصل لتأكيده. كان منذر أيضاً متوجساً. يراقبها وهي تلغي الموعد تارة وتأكده تارة أخرى وهو صامت. متخوف من الذهاب، ولكنه في المرة الأخيرة التي حاولت فيها إلغاء الموعد. منعها. وطلب منها بحزم أن تستعد للذهاب.

وكان الموعد الأول نقطة تحول. في حياتها. فالطبيبة كانت تحاورهما بسلاسة. وكانت في غاية الإحتراف. وهي تضع معهما بضع قواعد لتجعلهما يتبعانها بحزم. يومها ابتسمت باحترافية وهي تنظر لمنذر:
أنا لن أفرض عليك. طريقة تعاملك مع زوجتك. أو أضع لك لائحة بما عليك القيام به.
لحظتها اصطبغ وجه سهير باللون القرمزي. فنظرت لها الطبيبة. ثم عاودت النظر لهما معاً:.

يجب أن اتأكد في رغبتكما القوية في التمسك بزواجكما. وتخطي أي عقبات تقابله.
اندفعا معاً في الاجابة:
بالطبع.
ابتسمت الطبيبة بدفء:
حسناً. لقد درست ما أرسلته لي الطبيبة حنان بكل دقة. واستطيع أن أخبركما الآن. أن المشكلة. ليست عويصة كما تتخيلان. والحل منحه لنا الله سبحان وتعالى في كتابه الحكيم. وقدموا لأنفسكم.
رمقت منذر بنظرة فاحصة:.

أعتقد أنك بدأت تفهمني يا سيد منذر. إن تلك الآية الصغيرة. تعددت تفسيراتها. ولكن ما يهمنا الآن هو ما يختص بحالتكما. هل تفهما ما أتكلم عنه؟
أومأ منذر برأسه. بينما التفتت الطبيبة إلى سهير:.

والآن يا سهير. إن تقرير الطبيبة النسائية مبشر جداً. لكنني أريد منكِ بعض التعاون مع منذر. حاولي أن تسترخي. لا تراقبي ما يحدث بينكما. تذكري دائماً أنكِ طرف فاعل. وليس متفرجة على ما يقوم به زوجك. والأهم. انسِ أن لتلك التجربة القديمة أي أثر على مشاعرك الحالية. ولا تجعلي من خجلك حاجز منيع بينكِ وبين زوجك. تذكري أن الحياء أمر مرغوب في الرجل والمرأة. ولكن الإفراط فيه غير مطلوب كأي شيء آخر. و.

كانت سهير تشعر بلونها يتحول إلى الأحمر القاني. ولكنها كانت منتبهة لحديث الطبيبة ومشـ.ـدودة له بقوة. فهي أخذتهما في رحلة بسيطة ولكنها مفيدة لتساعدهما على تكوين علاقة زوجية ترضيهما معاً.

وهذا ما حدث تقريباً. لقد توطدت علاقتهما الروحية قبل الزوجية. واتبعا تعليمـ.ـا.ت الطبيبة بدقة. وتستطيع الآن أن تقول أنها حقاً سعيدة. هذا لا يعني أن حياتهما كاملة. فهما مازالا يتابعان مع كلتا الطبيبتين ولكن عدد مرات ترددهما أصبح أقل بكثير عن البداية.

لا تنكر أنه تمر بينهما بعض الأوقات يشعران فيها بالقلق. والخوف من العودة إلى الوراء. إلا أن الصلة الروحية التي زادت بينهما بشـ.ـدة نتيجة تشاركهما تلك المشكلة. كانت ما ينقذهما من الوقوع في براثن الفشل. فهما مصران على إنجاح زواجهما. وتقوية علاقتهما مهما كلفهما الأمر من مجهود. ووجودهما هنا في الأسكندرية وحدهما وبعيداً عن الجميع. ساعدهما على ذلك كثيراً.
التفتت لمنذر بسعادة:
منذر. أنني أريد بعض الترمس!..
اندفعت سهير تركض بسرعة بين طرقات المستشفى. حتى وصلت إلى طابق الولادة. فوجدت. الجميع متواجد. والدها ووالدتها. ورؤوف وعمتها قمر بالطبع. ولكن رؤوف كانت تبدو على وجهه ملامح الرعـ.ـب الشـ.ـديد.
وهو يذرع ممر المستشفى ذهاباً وإياباً متمتماً ببعض الآيات القرآنية.
فاقتربت سهير من إمها التي هللت لرؤيتها وهي تحتضنها وتسألها:
متى وصلتما؟
أجابتها سهير:
الآن. كيف حالها؟
طمأنتها شموس:
لا تقلقي. كل شيء على ما يرام.

التفتت إلى رؤوف الذي كان يحادث منذر. وعادت لأمها:
إن رؤوف يبدو على وشك قـ.ـتـ.ـل أحدهم.
مطت شموس شفتيها:
فلندعو ألا يقـ.ـتـ.ـل الطبيب. فنورا ما زالت تحتاجه.
كادت تفلت قهقه من سهير ولكنها تحكمت في نفسها. وهي تعاود السؤال:
منذ متى هي بالداخل؟
أخبرتك ألا تقلقي. لقد قضينا الليلة بالمشفى في انتظار اللحظة التي يقرر فيها ابن أختك الخروج إلى النور. وهي بالداخل منذ نصف ساعة فقط.
ضحكت سهير وهي تسأل:.

ابن! لماذا يصر رؤوف على إنها فتاة إذاً.
تأملت شموس التغيير الذي أصاب ابنتها. فهي أصبحت أكثر انفتاحاً. أكثر ارتياحاً. وبالطبع تبدو سعيدة.
أجابتها:
لا تهتمي. إنه يريد فتاة. وهي عنـ.ـد.ما علمت أن الطفل صبي. كانت تجاريه فحسب. أظن أنه متأكد أنها تحمل ولده وليست ابنته ولكنه يشاكسها فحسب.

ابتسمت سهير بمرح وهي تتبادل نظرات دافئة مع منذر الذي كان يلوح لها خفية. وعندها انطلق صوت صراخ طفل صغير لينبأ باشراقة حياة جديدة.
تحرك رؤوف بسرعة. نحو غرفة العمليات. فخرجت إحدى الممرضات وهي تبتسم له:
ألف مبروك. لقد رزقك الله بصبي وسيم كوالده.

خر رؤوف ساجداً ليشكر ربه على المنحة الرائعة وكذلك عبد السلام الذي حمد ربه أولاً على سلامة ابنته فهو كتم رعـ.ـبه منذ أن علم أن نورا داهمتها آلام المخاض. لا يريد تذكر ذلك اليوم الذي دفن فيه ابنه. بدون حتى أن يرى عينيه مفتوحتين حتى ليعرف ما كان لونهما.
ضحكت الممرضة بسعادة وهي تبـ.ـارك لهما ثانية:
ألف مبروك مرة ثانية
وتوجهت لرؤوف وهي تسأله:
ألا تريد أن تهنئ زوجتك بنفسك؟

اندفع رؤف نحو حجرة الولادة. ليجد نورا تحتضن ابنهما. قريباً من قلبها. وتبدو على ملامحها معالم الإرهاق الممتزجة بسعادة صافية.
تحرك ليجلس بجوارها. ولفها بذراعه. ليضمها هي وابنهما تحت جناحه. ويطبع قبلة طويلة على جبهتها. وهو يهمس:
شكراً لكِ. شكراً لكِ. وآسف بشـ.ـدة.
همست بعجب وهي تريح رأسها على كتفه:
لماذا الأسف؟
اجابها بحب:
لقد أرهقكِ ابني حتى يخرج إلى الدنيا.
ابتسمت وهي تجيب ببساطة:
أحبك.

دخل والديها عليهما وشموس تصيح:
لن أستطيع الانتظار حتى تنقلوها إلى غرفة خاصة. سأراها الآن. وماذا في ذلك. أنها غرفة ولادة. وليست مكتب رئيس الجمهورية.
ابتسمت نورا لوالديها واندفعت والدتها لتحتضنها:
ألف مبروك يا حبيبتي. وحمداً لله على سلامتك.
سلمكِ الله يا أمي.
والتفتت لوالدها:
ألا تريد أن ترى حفيدك يا أبي؟
اقترب أبوها ليحمل الطفل الصغير ويتجه نحو رؤوف الذي نهض ليقف بجانب الفراش عند دخولهما.

مد عبد السلام الطفل لرؤوف:
هيا يا رؤوف. احمل ابنك حتى يتعرف الصبي على والده.
حمل رؤوف الطفل برعـ.ـب شـ.ـديد. كان خائفاً أن يسقطه. ولكن ما أن حمله حتى فتح الصغير فمه الوردي كأنه يتثائب ثم ظهرت بسمة خفيفة على وجهه.
فصاح رؤوف:
إنه يبتسم لي.
هتفت نورا بغيرة:
لا أصدق بعد كل ما عانيته في حمله وولادته يبتسم لك. وأنت من كنت تدعوه بالفتاة طوال فترة الحمل.
اجابها رؤوف:.

هذا يعلمك أن تستمعي لكلامي المرة القادمة. وأنا أخبرك من الآن أنني أريد فتاة صغيرة.
ارتفع ضحكات الموجودين من حولهما. وتنحنحت الممرضة تطالب الجميع بالخروج حتى يمكن للأم الصغيرة أن ترتاح.
قبل أن يخرج أذن رؤوف في أذن ابنه اليمنى. وأقام الصلاة في أذنه اليسرى. ثم سلمه لنورا كي تبدأ أولى مهامها في اطعامه.

وقف منذر وسهير يراقبان الطفل الصغير والذي بدا هادئاً كملاك صغير.
داعبت سهير وجنته الناعمة بدفء وهي تسأل منذر:
هل ترى كم هو جميل وناعم!
أسكتها:
هشششش. ابتعدي عنه. إن شقيقتك في الغرفة المجاورة وقد نامت للتو. ولو علمت أنكِ السبب في ايقاظه. قد تفتك بكِ.
ضحكت سهير وهي تسأله:
ألن تدافع عني؟
بحلق عينيه بذعر مصطنع:.

أنا! أواجه أختك المتوحشة. إن الجميع يمشي على أطراف أصابعه منذ ولادتها. خوفاً منها. ألن تعود الى بيتها؟
ابتسمت سهير وهي تتأمل الرضيع الصغير الذي بلغ أمس شهره الأول.
ستعود غداً إن شاء الله. إن رؤوف في غاية السعادة لعودتها
أجاب بوقاحة:
بالطبع. فأنا أدرك شعوره. أنتِ تلازمين شقيقتك منذ شهر كامل. وأنا في غاية الشوق.
صاحت به بحرج:
منذر. أيها المحتال. لقد كنت معك منذ ثلاثة أيام.
ضمها لصدره بقوة:.

حقاً. لماذا إذاً شعرت بهم وكأنهم ثلاثون يوماً!
تملصت منه:
دع عبثك الآن. فوالدتي ممكن أن تدخل في أي لحظة.
ثم أردفت بشقاوة:
آه. أعتقد إنك يجب أن تعتاد على الشوق قليلاً. فالطبيبة أخبرتني اليوم أنني حامل في الأسبوع الخامس.
صرخ منذر بقوة:
حقاً!
ارتفع صراخ الطفل مفزوعاً من صوت منذر المرتفع. فهتفت سهير:
ستقـ.ـتـ.ـلك نورا.
اجابها بجدية:
كلا من المستحيل أن تقـ.ـتـ.ـل والد زوجة ابنها!
حملقت به بحيرة. فأخبرها بحزم:.

نعم. أنني أريد فتاة صغيرة!
جاء من خلفه صوت نورا وهي تخبره بنزق:
ألم تعلمكم التجربة يا أحفاد الجيزاوي ألا تتحدوا بنات شموس!

كانت الوليمة المعدة. للاحتفال بعقيقة.
نور الدين عبد الرؤوف عبد الله الجيزاوي
يوماً مشهوداً بحق. وقف فيه الجيزاوي الكبير بنفسه ليشرف على الذبائح. والموائد التي امتدت في حديقه قصره. وجاءت جموع الناس لتهنئ العجوز وحفيده الشاب بوريث عائلة الجيزاوي الصغير.

ابتسم عبد الرؤف. لقد أطلق رؤوف على ابنه اسم نور الدين. يعلم أنه أطلقه عليه لأنه مشتق من اسم نورا. تلك الفتاة الرائعة التي اضاءت حياة حفيده. بعد أن عاش سنوات عجاف.
أخذ يتأمل أحفاده جميعاً وقد رفرفت السعادة عليهم. وحمد ربه أن مد في عمره حتى يرى ذلك اليوم.
جاء عبد السلام ليقف بجواره ويربت على كتفه:
أنه يوم جميل أليس كذلك؟
أومأ عبد الرؤوف موافقاً. ثم قال لعبد السلام:
هات ما عندك.

هز عبد السلام رأسه في أسى:
صح توقعك. لقد تزوجته.
هز العجوز رأسه بحزن:
لله في خلقه شئون. حمداً لله أن رؤوف لم ينجب منها. لكان اضطر أن يدفن باقي سنواته معها.
اتهمه عبد السلام:
أنت من زوجته اياها.
وافقه العجوز:
لقد اضطرت لذلك. وحمداً لله أنها كانت تعيش في فترة تخبط فوافقت بسرعة بدون أن تحصي بدائلها وتقرر مساومتنا على ما امتلكته من ثروة العائلة.
ايده عبد السلام:.

حمداً لله أن رؤوف استطاع على مدار السنوات الماضية شراء ممتلكاتنا منها مرة أخرى. وبهامش خسارة لا يذكر
نعم. لا أصدق أنني كدت أخدع بدمـ.ـو.عها عنـ.ـد.ما أتى رؤوف في صباح ذلك اليوم بعد ما حاولت بدناءة تحطيم سهير. لقد ارتفع صوته عليها لأول مرة حتى أنني كدت أن أنهره على ذلك. وأخيراً ألقى يمين الطـ.ـلا.ق. لقد شعرت أنه أزاح جبلاً من على صدره.
هز عبد السلام رأسه بأسى:
إنها غـ.ـبـ.ـية. غـ.ـبـ.ـية من تستبدل رؤوف بقاسم.
قال الجد بهدوء:.

إنهما يستحقان بعضهما. فقاسم ونعمـ.ـا.ت. كلاهما أغرق نفسه في الحقد.

وقفت نورا بجانب سهير وهما تتلقيان التهاني من نساء البلدة. فأخيراً دخل الفرح قصر الجيزاوي. بعدما هجرته السعادة لفترة ليست بالقصيرة.
لمحت نورا شقيقتها وهي تراقب زوجها بمحبة. فاقتربت منها أكثر لتبعدها عن آذان النساء اللاتي يبحثن عن أي شائعة لتلوكها السنتهن. وسألتها برقة:
تحبينه يا سهير؟
مسدت سهير على بطنها وكأنها تداعب طفلها وهي تجيب على سؤال نورا:.

أنتِ من تسألين يا نورا! أنا لا أحبه فقط. أنا أعشقه.
عادت نورا لتسألها بخوف:
هل تمكنتِ من مسامحته؟
ابتسمت لها سهير بتفهم:
لقد منحته السماح عن كل اخطائه الماضية والمستقبلية عنـ.ـد.ما أحببته. أنني سامحته. نعم. منذ سنين من قبل حتى أن يجرحني. لكن هناك النسيان. وهو يسعى جاهداً حتى أنسى. وسوف ينجح بإذن الله.

استمعت شموس التي كانت قريبة من ابنتيها إلى حوارهما. وقد أدركت أخيراً مكمن قوة سهير. قد تبدو نورا جامحة ومسيطرة أحياناً. لكن القوة التي تملكها سهير أكبر بمراحل. فالقوة التي تمكن الإنسان من المسامحة وغفران الإساءة ليس سهل امتلاكها. وسهير مُنحت تلك القوة كما منحت الهبه لاستغلالها...

استيقظت نورا على صوت بكاء نور الدين. فتحركت من فراشها لتجد إن رؤوف يرفع ابنهما من مهده ويهدهده بين ذراعيه. كما لاحظت وجود دفتر رسم كبير ملقى بجوار الكرسي المجاور للمهد.
فسألت رؤوف مداعبة:
إلن تمل من رسمه؟!
ضحك بسعادة:
كلا. ولكن الحل في يدك. امنحيه شقيقة. حتى ابدأ في رسمها
لكزته في كتفه:
إن نور الدين عمره أربعة أشهر فقط
رفع حاجبه باستفهام:
إذاً. هل استخدمتِ العلبة الموجودة في درج المنضدة أم لا؟

اجابته بهمس:
نعم استخدمتها.
سأل بأمل:
و...
عاد لتلكمه ثانية:
وارح نفسك. أخيراً ستحصل على ابنة صغيرة.
وضع ابنه في مهده برقة ثم التفت ليرفعها ويدور بها في الهواء.
وهو يصـ.ـر.خ بسعادة:
أخيراً. ستصبح عندي نسخة صغيرة منكِ.
ضحكت بعبث:
لا أعرف إذا كنت تستطيع التعامل مع اثنين مني.
ضمها إلى صدره وهو يمنحها قبلة طويلة. ثم همس لها:
صباحك سكر.
وضعت يدها في خصرها:.

الآن بعد أن تأكدت أنني حامل في ابنتك تذكرت أن تمنحني تحيتي الخاصة!
نظر إلى عينيها وكل ملامحه ترسم لوحة لعاشق مغرم بحبيته:
إذا مر يوم ولم أتذكر به
أن أقول صباحك سكر
ورحت أخط كطفلٍ صغير
كلاماً غريباً على وجه دفتر
فلا تضجري من ذهولي وصمتي
ولا تحسبي أن شيئاً تغير
فحين أنا لا أقول: أحب
فمعناه أني أحبك أكثر.

لو خلصتي الرواية دي وعايزة تقرأيي رواية تانية بنرشحلك الرواية دي جدا ومتأكدين انها هتعجبك 👇

تعليقات