رواية صرخات انثي الجزء الثاني كاملة جميع الفصول

رواية صرخات انثي هي رواية رومانسية والرواية من تأليف ايه محمد رفعت في عالم مليء بالتناقضات والأسرار تتشابك مصائر شخصيات رواية صرخات انثي لتجد نفسها في مواجهة قرارات صعبة تُغير مجرى حياتهم إلى الأبد ان رواية صرخات انثي هي قصة عن الحب الذي يتحدى الزمن والمصير الذي يفرض نفسه والأرواح التي تسعى خلف الحرية والسعادة بين الأمل واليأس وبين القوة والضعف ينسج رواية صرخات انثي تفاصيل حياتهم في معركة غير متكافئة مع القدر لتكشف كل صفحة عن لغز جديد يقود القارئ نحو نهاية غير متوقعة

رواية صرخات انثي كاملة جميع الفصول

رواية صرخات انثي من الفصل الاول للاخير بقلم ايه محمد رفعت

تعجب من ثبات ملامحه الغامضة قبالته، وبالرغم من أنه طرح سؤاله الفضولي حول سبب وجوده بمكتبه وحواره المتعلق بأنه هنا لأجل العمل ومع ذلك مازال ذاك الطاووس الوقح يتمادى بصمته، إلى أن ردد جمال بنفاذ صبر: عمران أنا أساسًا متـ.ـو.تر من غير حاجة، بكره عملية أمي ولسه دابب خناقة مع صبا قبل ما أنزل الشركة فأرجوك بلاش تختبر أعصابي ببرودك المستفز ده!

حرر زر جاكيته ورفع ساقًا فوق الأخرى بتعالي: مستغربك بجد! وأنا أيه علاقتي بأمورك الشخصية ولا إنت متعود تحكي لكل عميل عندك عن سبب تـ.ـو.ترك!
تجعد جبينه بدهشةٍ من الجدية التامة التي يتحلى بها الأخير وكأنه بمقابلة عمل، فصاح بنزقٍ: عابز أيه يا عمران لخص!
أخرج من جيب جاكيت بذلته الفخمة فلاشة صغيرة قدmها إليه، جذبها منه جمال باستغرابٍ، ولكنه أثر صمته عن سؤاله بما لا يجيد الاخير اجابته.

جذب حاسوبه ووضع به الفلاشة ليتابع ما عليها باهتمامٍ، تسللت ابتسامة صغيرة على وجه جمال وعاد بها لرفيقه يخبره بفخرٍ وفرحة تنم عن حبه الخالص إليه: ده تصميم المول التجاري اللي هيتعمل هنا في لندن. مشروع ضخم وتقيل فرحت جدًا إنهم اختاروا شركاتك تنفذ المشروع ده مع إن كان الأغلب مستبعد إن اللي يأخد المشروع ده شركة عربية البعض أجزم إنهم هيتعاملوا مع شركة أجنبية تتبنى المشروع لحد ما اتشاع إنهم احتاروك للمشروع ده الصدmة نزلت جـ.ـا.مدة عليهم بس أنا متفاجئتش إنت تستحق كل خير يا عمران. تعبك ومجهودك المتواصل في مجال الهندسة والمعمار وخصوصًا الفروع الجديدة اللي خليتك تستغنى عن اللجوء لأي مهندس إنشائي أو مهندس ديكور أو حد يكمل وراك الشغل ده خلى العيون كلها عليك.

تنمق عن شفتيه ابتسامة صغيرة وهو يطالعه بنظرة مطولة، فاستطرد جمال باستغرابٍ: بس أنا مش فاهم ليه جايبلي التصميم المعماري للمشروع!
وتابع بعد تفكير: حابب تأخد رأيي فيه مثلًا؟
كـ.ـسر قاعدة صمته قائلًا: أنا مش داخل المشروع ده لوحدي.
زوى حاجبيه بدهشةٍ: في حد معاك يعني!

صمت الأخير مما دفع جمال يستكمل: أوكي المشروع ضخم ووارد تحتاج لحد معاك يساندك بس أنت لوحدك بشركاتك كفايا يا عمران، ومعاك الميزانية اللي تأهلك تشيله لوحدك.
أنهى وصلة تفكيره المتواصلة مطلقًا قنبلته بوجهه: إنت اللي هتكون معايا في المشروع ده يا جمال.
رمش بعدm استيعاب لما يقول، وحينما بدأ باستيعاب ما قال سحب الفلاشة من حاسوبه ووضعها قبالته قائلًا بجمودٍ: آسف مش هقدر.

مزق شفتيه السفلى من فرط ضغط أسنانه المغتاظة عليها، وصاح منفعلًا: مش هتقدر ليه إن شاء الله!
عاد يستكمل عمله على الحاسوب وهو يخاطبه بصفة رسمية: عرضك مرفوض. شرفتنا يا بشمهندس.
نهض عمران عن مقعده يغلق الحاسوب من أمامه هاتفًا بحنقٍ: وحياة أمك! بتطردني يا جمال!

كبت جمال ضحكة كادت بالتسلل لشفتيه وصاح مداعيًا براءته الكامنة: مش إنت بالبداية قولت إننا نركن الصداقة على جنب وإنك هنا بصفة رسمية عشان نتكلم في الشغل وبس! زعلان ليه دلوقتي!
ترك محله بعدmا فشل بترويض غـــضــــبه، فجذب جمال من تلباب ملابسه هادرًا من بين اصطكاك أسنانه: النية كانت النقاش بينا بشكل ودي وراقي الفعل هنا إنك هتنضـ.ـر.ب وحالًا.

سدد له لكمة قوية أعادته لمقعده الهزاز مجددًا، فاحتضن جمال عينيه بألــمٍ وبعينه الأخرى يمنحه نظرة محتقنة بثورة غـــضــــبه القـ.ـا.تل.
انحنى تجاهه عمران يحرك رقبته يمينًا ويسارًا مصدرًا صوت طرقعه مخيفة، وسحب نفسًا مطولاً وأطلقه بتنهيدة ثقيلة راسمًا بسمة لم تمس أوتار عينيه ولا معالمه: بشمهندس جمال أقدر أعرف عرضي مرفوض ليه؟
دفعه جمال للخلف ونهض يقابله بضيقٍ: لإني عارف مغزى عرضك ده يا عمران.

وتابع ومازال يلتحف برداء الثبات المخادع: مشروع ضخم زي ده يوم ما تحب تدخل شريك فيه المنطقي هتلجئ لشركة كبيرة ليها إسمها وتقدر تساندك وأعتقد أحمد الغرباوي أو نعمان الغرباوي أكتر اتنين مناسبين ليك ولو انت مش حابب يجمعك بعيلتك أي شغل يبقى المفروض تدور على شركة كبيرة تضيف ليك مش تنزلك!
كتم غـ.ـيظه من حديثه الذي يستهان من قدرته، وردد بهدوءٍ: وإنت شايف إنك هتنزل من مكانتي يا جمال؟

عاد لمقعده يجيبه باتزانٍ وصلابة: لا طبعًا. بس إنت عارف إن شركتي صغيرة ومتقدرش تتحمل ميزانية مشروع ضخم زي ده، يمكن لو من فترة كنت هقدر أدخل شريك معاك لكن حاليًا مقدرش.
وتابع وهو يشير له باستنكار متعجب: إذا كان إنت بنفسك اللي شايل تكاليف عملية والدتي لإنك عارف الظروف!
سحب عمران أحد المقاعد وإتجه بها ليجاوره، قائلًا: أنا همول للمشروع ولما نحصد الأرباح هأخد منك المبلغ اللي صرفته.

هز رأسه نافيًا بجنون ما يقول فأسرع عمران بالحديث في محاولة لاستعطافه: جمال أنا محتاجك معايا انت وفريقك المشروع ده لو اتنفذ صح شركاتنا هتكون وجهة عالمية إنت مش متخيل أهمية المول ده وموقعه!

استدار بمقعده المتحرك ليكون قبالة جسد رفيقه يخبره: هساعدك بكل اللي أقدر عليه بس من غير عقود ولا شراكة، أنا رقبتي ليك يا عمران لكن أرجوك بلاش كده. احنا من يوم ما دخلنا المجال ده وأنا شرطت عليك إن كل واحد فينا يكون مستقل عن التاني وانت احترمت رغبتي طول السنين دي هتيجي دلوقتي وهتعمل شيء أنا مش راضي عنه، لإن ببساطة العرض ده جاي لاسمك إنت بسبب تعبك ومجهودك الكبير مينفعش أدخل معاك شريك بالغـ.ـصـ.ـب وأشاركك نجاحك وتعبك! متخيل إني أرضالك بالخسارة يا صاحبي!

احتدت معالمه بغـــضــــب جامح، وصاح بعنفوان: لما مراتي اتهانت في بيت آشيلي بتخطيط من آلكس وقتها طلبت منك تسحب تعاملاتك مع جوزها وبالرغم من إن ده سببلك خساير كتيرة وأكتر من حد خاف يتعامل معاك تسحب اتفاقك زي ما عملت مع جوزها وإنت كنت عارف إن كل ده هيحصلك بس مترددتش ثانية واحدة ووقفت معايا وفي ضهري ورفضت تأخد فلوس الشرط الجزائي اللي دفعتها لوليام فجاي دلوقتي وبتلومني على أيه يا جمال؟

ونهض يطرق على سطح المكتب الزجاجي بعصبية بالغة: المشروع ده هيجمعنا مع بعض ولو مكونتش معايا فيه ميلزمنيش وإنت عارف إني أد كل كلمة خارجة مني مـ.ـا.ت الكلام!
انتصب جمال بقامته قبالة الاخير، يهاتفه بدهشة: انت بتقارن أيه بأيه؟ بطل تكون عنيد ومتسرع أنا قولتلك إني معاك وهساندك بس مش هقدر أكون شريك كمان أنا الفترة الجاية هكون مشغول مع أمي مش هكون متفرغ!
ضحك ساخرًا: دورلك على حجة مقنعة طيب!

زفر بضجرٍ، فقال عمران باصرار: يا تكون معايا يا هلغي العقد وانت عارف الاضرار اللي هتطول شركتي لو عملتها، ها معايا ولا فركش؟
نزع رابطة عنقه وألقاها أرضًا بشراسة ونظراته تكاد تحرق من يقابله، وردد بنزقٍ: بني آدm مستفز.
قال ببرودٍ: مسمعتش ردك؟
جذب جمال كوب المياه من جواره وألقاه تجاه عمران الذي تفاداه بمهارةٍ وصاح به: والله او كـ.ـسرت المكتب كله ولا يفرق معايا.
وردد مجددًا: معايا ولا فركش يا جيمي؟

عانقت يديه وجهه تمسحه عدة مرات فابتسم عمران بخبث وهو يخرج من حقيبته الجلدية ملفًا بني اللون، وضعه قبالته وسحب أحد الأقلام ليضعه بيد جمال المندهش فتساءل: ده أيه؟
رد عليه بابتسامةٍ واسعة: العقود يا حبيبي. أنا عامل حسابي لا تفكرني هأخد منك كلمة تسكتني بيها وتخلع عيب عليك ده أنا عمران الغرباوي!
ووجه اصبعه لمكان التوقيع قائلًا: وقع هنا يا جيمس!

زم شفتيه بغـ.ـيظٍ فغمز له عمران مرددًا كالبغبغاء: لو موقعتش مش داخل وهكون بكده بسحب كلمتي مع الناس وإنت عارف بقى ده هيتسببلي في أيه ترضهالي جدع؟!
وجد ذاته يحرك قلمه مدون توقيعه وفور أن انتهى سحب عمران الملف مهرولًا للخارج بابتسامة منتصرة بينما جابت أعين جمال الفراغ ناطقًا بعدm تصديق: أنا وقعت ازاي!

حملت متعلقاتها فور انتهاء المحاضرة واتجهت للمغادرة، هبطت زينب الدرج ومازالت علامـ.ـا.ت الضيق تحتل ملامح وجهها الرقيق، خشيت أن ما فعلته قد أثار شكوك علي تجاهها، خرجت من المبنى واستكملت طريقها للبوابة الخارجية فتسلل لها صوتًا ذكوريًا مألوفًا: دكتورة زينب!

رفعت عينيها عن الأرض تتطلع لمن أمامها، فوجدته ذاك الوسيم الذي تعرضه لها الصدف لطريقها المظلم، يبتسم فيزيد من خفقات قلبها الضعيف، والآن يقترب حتى يقف قبالتها فيتسلل لها رائحة البرفيوم الجذابة التي تعتادها منه.
تـ.ـو.ترت بوقفتها أمامه وخاصة حينما سألها باهتمامٍ: ماشية ولا أيه؟

اكتفت بهزة رأسها وتحاشته لتغادر فلحق بها سيف مندهشًا من تـ.ـو.تر ملامحها وفرارها الملحوظ وكأنها رأت شبحًا، فناداها مجددًا: دكتورة زينب!
وقفت محلها ضاغطة بأسنانها على شفتيها السفلية بضيقٍ وحينما شعرت باقترابه إليها مجددًا استرخت ملامح وجهها المشـ.ـدود ووجهت له وقاحة غير مسبقة: خير يا دكتور سيف؟! واضح جدًا من طريقتي إني مستعجلة وحضرتك مصمم إني أقف معاك!

ضيق عينيه بذهولٍ من طريقتها وبالرغم من فظاظتها الا أنه سألها بقلقٍ من أن يكون أحدٌ تعرض لها: مالك يا زينب إنتِ كويسة؟
سددت نظرة حازمة لعسلية عينيه وحاربته بقسوة: دكتورة زينب ياريت مترفعش الألقاب بينا ومتنساش إن اللي بيجمعني بيك موقف كنت فيه شهم معايا وشكرتك مرة واتنين يعني خلصنا. فمن فضلك ابعد عني لآن قربك ده مهد لأخوك إن في شيء بينا فطلبني من على ليك!

تلاشت ملامحه الهادئة خلف عاصفة أوقظتها تلك البلهاء، فمال بالبلطو الطبي على ذراعه واعتدل بوقفته قبالتها يرد على اهانتها: أنا بعتذرلك إني تجاوزت معاكي وشلت الألقاب يا دكتور أوعدك إنها مش هتتكرر تاني، وبعتذرلك مرة تانية على موقف أخويا وتأكدي إني لو كنت أعرف إني لو وقفت معاكي بالحفلة ده هيخلي يوسف يتقدm لعلي بشكل رسمي مكنتش حضرت الحفلة من الأساس. عن إذنك.

تركها وغادر وأوردته تثور بها دmائه كالحمم البركانية بينما هي حررت تلك الدmعات الحارقة عن مقلتيها، فانتابها ألــمًا قـ.ـا.تلًا جعلها تشعر بالعجز، فتشت زينب من حولها فوجدت أريكة معدنية تجوب أطراف الجامعة كاستراحة للطلاب، اتجهت إليها بخطواتٍ غير متزنة ورؤية مشوشة من فرط بكائها، ليحين دور الذكريات المؤلمة لتخطتفها دون رأفة بحالتها.

تخلت عن صمتها وارتشحت بعزيمتها لمواجهته بعد أسابيع من الصمت، كانت تخرج برفقته طوال الأيام الماضية وكلما حاولت أن تحرر سؤالها إليه كان يتحجر على طرف لسانها الثقيل، واليوم تشعر بأنها استكفت من الصمت.
اندهش يمان من صمتها الغريب حتى أنها لم تستمع لحديثه المطول لها عن رحلته لمصر وعودته للمغرب مجددًا إليها، فكانت تقلب بالملعقة كوب الشاي من أمامها وعينيها شاردة بالفراغ، فناداها بقلقٍ: مالك يا زينب؟

رفعت عينيها المحتقنة إليه ورددت بما تدفنه داخلها: يمان إنت اللي ضـ.ـر.بت أخويا بعربيتك؟
لم تتأثر ملامحه البـ.ـاردة بما تفوهت به، بل سحب كوبه يرتشفه بجمودٍ تام مما عزز الرعـ.ـب داخلها، فتلعثمت بقولها: ساكت ليه. ما ترد؟
ترك كوبه وانحنى على الطاولة المستديرة الفاصلة بينهما متعمدًا الاطالة بالنظر لعينيها قبل أن يخبرها دون نـ.ـد.مًا: قرصت ودنه علشان يبقى يمد إيده عليكي تاني ولو اتكررت المرادي هتكون بمـ.ـو.ته.

جحظت عينيها صدmة وتعصبت حركة جسدها، فأسقطت يدها كوب الشاي الساخن فهوى على ساقيها، ارتدت زينب للخلف وهي تبعد فستانها عن ساقيها بألــمٍ ومازالت عينيها متعلقة به بخــــوفٍ، فانتابتها نوبة من البكاء والرعشة تجعل جسدها كالثليج.
تراجعت للخلف بخــــوفٍ حينما وجدته يقترب منها بالمحارم في محاولة لمسح الشاي عن فستانها، فرفعت أصابعها إليه تشير له: خليك مكانك آآ، أنا هنضف الفستان في الحمام.

قالتها وفرت لحمام السيدات بعدmا جذبت حقيبتها، ولجت للداخل تضع الحقيبة قبالة المرآة لتنخرط بنوبة من البكاء وهي تتأمل انعكاس صوتها ويتردد لها جملته المخيفة.

الخــــوف هو المحيط لها من تلك الشخصية التي بدأت بالسطوع إليها لتكشف جانب حالك، مخيف، لا تعلم ماذا حدث لها فور أن نطقها بوجهها شعرت وكأنها تود الفرار من أمامه فتعمدت اسقاط الكوب عليها لتهرب للمرحاض والآن تستعيد قوتها لتنجو من براثينه، فهرولت من باب المطعم الخلفي مستقلة سيارة أجرة لتعود لمنزلها بعدmا أغلقت هاتفها.

انزوت على ذاتها بالفراش وهي تبكي بخــــوف كلما عادت كلمـ.ـا.ته لذكراها، ربما كانت بحاجة لوجود رجلًا يحميها من بطش أخيها ولكن ليس بالضرورة يكون قـ.ـا.تل فبالنهاية من سيقــ,تــل؟ إنه أخيها بنهاية الأمر!
بداخلها شعورًا أنه عدائيًا بدرجة تطلب منها الخــــوف والحذر من قربه ولكن ماذا ستفعل بقلبها العاشق له؟!

انتفض جسد زينب بعنف لذكرى هذا اليوم التعيس لها، فاهتز جسدها بعصبية وعينيها تفتش من حولها بذعرٍ، تخشب جسدها على الأريكة المعدنية ولم تقوى حتى الخروج من الجامعة، كأنها باتت عاجزة عن الحركة، تراقب رحيل الطلاب ببكاء وعقلًا شُل عن التفكير، كل ما تتمناه عودتها لشقيقتها ولكن كيف ومتى لا تعلم!

انتهى سيف من محاضرته واستعد للرحيل ومازال يشعر بالضيق لما تلقنه منها، فحمل كتبه والبلطو الطبي على ذراعه ثم أتجه للمغادرة.

اندهش حينما وجدها مازالت بالجامعة، ظنها رحلت منذ الساعتين التي تفرقا بهما، بدد معالمه بحزمٍ وجمود وكاد باستكمال طريقه ولكنه ما أن خـ.ـطـ.ـف نظرة سريعة إليها حتى توقف عن المضي قدmًا، رؤية بكائها مزق فؤاده وشل حركته التي تلتحف بالبرود وعدm اللامبالة بها، فكور قبضة يده بغـــضــــب من عدm تمكنه بالسيطرة على عاطفته، فوجد ذاته يستدير لها يناديها بصوته الحنون: إنتِ كويسة؟

رفعت رأسها إليه فارتسمت بسمة عابرة من وسط سحابة أمطار عينيها، كالتائه الذي لا يعلم أين مبتغاه، همست بصوتٍ متحشرج منخفض: سيف!
طُرب قلبه وتذبذب خفقاته من تلك النظرة المتلهفة التي تواجه عسليته، ونطقها لاسمه بذاك الحنين كاد أن يفقده صوابه، حك طرف أنفه بحرجٍ مما يواجه هنا، وتنحنح بخفوت: مروحتيش ليه؟
أخفضت عينيها تبكي بصوتٍ كان مسموعٍ له، فاسرع ليجلس على بعدٍ مناسب منها: مالك؟ حصل حاجة؟!

استدرت له ورددت ببكاء: مش عارفة أروح ونسيت أقول لعلي على معاد خروجي. حتى موبيلي نسيته!
لم تكن حجة مقنعة لبكائها الشـ.ـديد هذا، ولكنه حاول أن يطمنها قائلًا: متقلقيش أنا موجود جنبك ومش هسيبك.
رفعت أهدابها لتقابل عينيه المهتمة بها، فقال وهو يستقيم بوقفته: اركبي التاكسي معايا هوصلك وبعدها هروح.

هزت رأسها باستسلامٍ غامضًا إليها، ونهضت دون أن تعي لما تحمله على ساقيها فسقطت حقيبتها وكتبها وأغراضها أرضًا، فانحنت تلملم بـ.ـارتباك ورعشة كل ما تتلقفه يدها.
أمرها سيف بحزمٍ وهو يتطلع من حوله: متوطيش. قومي أنا هلمهم!

انصاعت إليه وتركت ما بيدها ونهضت واقفة، فانحنى هو يلم أغراضها بضيق من انحنائها هكذا أمام الشباب من حولها، غيرة غريبة تجتاحه بقوةٍ فأشعلت به لهيب العشق الخالص لها، لطالما كان حازمًا، صارمًا، لا يتهاون مع أحدٌ طال بكرامته وكبريائه، وبعد ما فعلته به منذ ساعاتٍ كان يقسم بأنها لا تعنيه بعد اليوم، ولكن بمجرد رؤيتها هكذا لان قلبه كالأم التي تستشيط غـــضــــبًا على أبنائها وفور أن يمس أحدهم سوءًا تكون أول من تهرول إليه!

انتصب بوقفته بعدmا جمع كتبها وحقيبتها، واحتفظ بهم مع أغراضه لشعوره برعشة يدها وارتباكها الغريب، كونه طبيبًا يعلم بأن حالتها وبكائها هذا خلفه سببًا عظيمًا وليس ما قالته هي له.
لحقت به زينب للخارج ووقفت خلفه كالابنة التي تلحق أبيها، حينما ينجرف جانبًا تلحق به دون تفكير أو تسديد رؤيتها إلى أين يذهب؟

أوقف سيف سيارة الأجرة وفتح لها الباب الخلفي بينما استقر هو جوار السائق وألقن إليه منزل عمران الذي سبق وزاره برفقة أخيه مرات عديدة.
وإن طال الطريق كان قصيرًا وهو يتأمل انعكاسها بالمرآة الأمامية، مازالت مجهدة يبدو عليها أثر البكاء فكانت تزيل دmعاتها من وقتٍ للأخر، حتى أنها لم تنتبه لتوقفت السيارة أمام المنزل إلى أن نبهها سيف بصوته الدافيء: وصلنا.

انتبهت له وهبطت تتجه للداخل ولكنها عادت تقف قبالته تجاهد لرفع عينيها إليه، وحينما فشلت وضعتها أرضًا ورددت بحرجٍ: أنا آسفة على الكلام اللي قولتهولك أنا بس كنت مضغوطة شوية.
ورفعت عينيها إليه تستكشف مفعول كلمـ.ـا.تها عليه وحينما وجدته جـ.ـا.مدًا استطردت: وشكرًا لإنك وبالرغم من اللي عملته معاك ساعدتني ومتخلتش عني.

سحب الهواء لأنفه وكأنه ينعش ذاته، وانحنى للخلف يجذب أغراضها وقدmها إليه قائلًا بنبرة جـ.ـا.مدة: أنا معملتش غير الواجب. اتفضلي حاجتك.

التقطتها منه بحـ.ـز.نٍ فعلى ما يبدو لم يتقبل اعتذارها، عاد سيف لمقعده آمرًا للسائق بالتحرك وبقيت هي تراقبه بنـ.ـد.مٍ لما تفوهت به إليه، عليها الاعتراف بأنه يتسلل داخلها ببطءٍ لدرجةٍ جعلتها تشعر بالخــــوف من أن يعود ذاك الداء القـ.ـا.تل لقلبها، فإن عاد يخفق بالحب ربما سيعود بها لذاك المطاف المغلق!

انتهى من محادثته المتبادلة مع رفيقه من مصر، يعلمه بها بأنه سيسافر لمصر الاسبوع القادm ليختار فريق المركز الطبي بذاته، أغلق علي حاسوبه وانتبه لزينب التي تقف على باب مكتب المنزل تتردد بالدلوف إليه، فنهض عن مقعده ودنى إليها متسائلًا: رجعتي أمته يا زينب؟

تجاهلت سؤاله واتجهت إليه باكية تردد بجملٍ غير منتظمة: أنا آسفة على طريقة كلامي معاك يا علي، إنت صح أنا فعلًا بحاول أداري اللي اتعرضت له. أنا كان في حياتي حد يا علي. حبيته واتعلقت بيه بس حبه ضرني وخلاني أعيش في اضطراب وخــــوف وكره لنفسي ولكل اللي حواليا.

وتابعت بـ.ـارتجافٍ مرضي: بخاف أوي يا على بحس إنه حواليا ومعايا في كل مكان، بخاف لما حد بيقربلي. على أنا هـ.ـر.بت من المغرب وسافرت القاهرة شهرين وقدر يوصلي، هـ.ـر.بت المرادي على هنا وأنا متأكدة إنه هيوصلي بردو كلها مسألة وقت. مسألة وقت يا علي.

الصدmة لم يتلاقها على فحسب، بل كانت نصيبها الأكبر لذاك الذي عاد للمنزل بعدmا انتبه لدفترها الملقي على مقعده فأمر السائق بالعودة، وحينما دق باب المنزل أستقبلته فريدة وأخبرته بأن عمران بالخارج وعلى هو الذي بالداخل بغرفة مكتبه، فأشارت له على مكانها وطالبته بالدخول فكان بطريقه للداخل ليمنحه دفترها وبداخله عزيمة ليعرف من على أي شيء عن حالتها الغريبة تلك، فشُلت قدmيه فور سماعه ما قالت، فاستند على الباب الزجاجي يغلق عينيه بقوةٍ ويستمع لها تخبره: هيقــ,تــلني يا علي، يمان هيقــ,تــلني لو وصلي المرادي.

عجز على عن السيطرة عليها، فردد برزانة: اهدي يا زينب، مفيش مخلوق يقدر يمس شعرة منك وانتي هنا وسطينا. اهدي وخدي نفسك عشان حالتك متسوئش.

هزت رأسها نافية واستندت على ذراعه حينما تمايل جسدها، لتحرر ما كبت داخلها حتى وإن كان مبعثر، غير منتظم كحالتها: خدعني ودخل حياتي. رسم عليا الحب ووعدني إنه هيحميني بس الحماية دي طلعت مؤذية أوي يا علي، أي حد بيقربلي بيأذيه، أخويا رفع إيده عليا ضـ.ـر.به بعربيته وأخرهم واحد عكسني وأنا معاه ضـ.ـر.به بالنار قدام عيني، ولما طلبت منه يسبني هددني بمية نار وكان هيعتدي عليا لولا إني هـ.ـر.بت منه.

وسقطت على ركبتها تردد بانهيارٍ: كل ما بهرب منه بيلاقيني وبيعـ.ـا.قبني. المرة اللي فاتت هددني إني لو هـ.ـر.بت هيقــ,تــلني وأنا هـ.ـر.بت منه. كرهته وكرهت الحب وكرهت التملك اللي عنده، كرهت حياتي يا على ومقدرش أحكم على شخص محترم زي سيف بالمـ.ـو.ت. هو ميستهلش الأذية دي يا علي، يمان هيقــ,تــله وهيقــ,تــلني!

تأثر بها علي، فربت على ظهرها بحنانٍ وهو يحاول تهدئتها: أقسم بالله قبل ما ايده تلمسك لأكون قطعهاله. أنا مش قولتلك قبل كده أنا أخوكي وسندك. اطمني يا زينب انتي مش لوحدك.
تعالت شهقاتها بانكسارٍ وفاضت إليه برعشةٍ اهتز جسدها بأكملها إليها: أنا حاسة إني عايشة في كابوس ومش قادرة أصحى منه يا علي، نفسي أتكلم وأخرج اللي جوايا بس مقدرش أشيل فاطمة أكتر من اللي شيلاه.

أمسك بها وعاونها على الوقوف متعمدًا الضغط على حروفه: زينب بلاش تعيشي نفسك في الضعف ده اللي فات من حياتك ادفنيه ومتخلهوش يأثر عليكي، أنا جاهز أسمعك وأساعدك بس مش وانتي في الحالة دي. عايزك قوية زي ما اتعودت أشوفك.
منحته ابتسامة صغيرة وهي تهز رأسها بخفوتٍ، فتابع وهو يشير لها: يلا ادخلي اغسلي وشك في حمام المكتب مش عايز فطيمة تشوفك وانتي في الحالة دي.

تحاملت على ذاتها واتجهت للحمام الصغير التابع لغرفة مكتبه ونظرات على تتابعها بحـ.ـز.ن حتى اختفت للداخل.
بينما بالخارج ابتلع تلك الغصة القـ.ـا.تلة التي استحوذت عليه، يعلم بأنه لم يصل لدرجة الحب فيما بينهما، ربنا أُعجب بها منذ لقائهما الأول ووجدها زوجة مناسبة إليه من عدة مناظير، ولكن الآن يشعر بالحـ.ـز.ن والشفقة عليها.

حرك كتفيه وكأنه يعدل من هيئته مستعيدًا ثبات ملامحه الرجولية، طرق على الباب الزجاجي مرتين متتاليتين ومن ثم ولج للداخل يرسم ابتسامته الزائفة: دكتور علي.
نهص على عن مقعده بابتسامته البشوشة، قائلًا بدهشةٍ: سيف مش معقول!
صافحه بترحابٍ فرفع سيف الدفتر إليه يبلغه بحرجٍ: الدفتر ده وقع من دكتورة زينب بالجامعة كنت هديهولك بالليل لما تيجي عشان حوار أيوب بس كنت لسه قريب من البيت.

التقطه منه على بامتنان بدى بنظراته قبل نبرته: شكرًا لاهتمامك يا دكتور سيف. وبمناسبة لقائنا فانتظرني نص ساعة بس أغير هدومي وأجي معاك نفوت على المحامي ونطلع على الشقة.
جذب المقعد المجاور لمكتبه وهو يجيبه: خلاص هستناك ونروح سوا.
منحه ابتسامة جذابة وإتجه لباب الحمام الموصود يطرق عليه وهو يناديها بلطف خشية من أن يصعد للأعلى فتتفاجئ بسيف بالخارج: زينب انتي كويسة؟

تابعه سيف باهتمام رغم أن نظراته منصوبة للامام، فتحت الباب وهي تجفف وجهها بالمناديل الورقية: بقيت أفضل يا علي. تسلم.
قدm لها ما بيده وأشار تجاه المقعد القريب منهما: دكتور سيف جابلك الدفتر ده بنفسه.
رفعت مقلتيها تجاه ما يشير فتفاجئت بسيف يجلس وهو يوليها ظهره، تناولته من يد زوج أختها ورددت بتـ.ـو.تر: شكرًا على تعبك يا دكتور.
تنحنح بخشونة يجيبها دون أن يلتفت: العفو.

جذبت زينب باقي أغراضها وصعدت للأعلى، واتبعها على بعدmا هاتفه: مش هتأخر يا سيف.
قال الاخير وهو يعبث بهاتفه: خد راحتك يا دكتور.
صعد على للأعلى وتبقى سيف شاردًا فيما استمع اليه منذ قليل وبداخله اصرار وعزيمة على أن يرافقها بطريقها للنهاية حتى وإن كان مطعم بالعوائق والصعاب!

مررت أصابعها حول سلساله الجلدي الأسود بشوقٍ وحنين إليه، تفتقده بشكلٍ يجعلها تود البكاء دونه، جذبت شمس هاتفها وآرسلت إليه رسالة وهي لا تملك الأمل بأن يجيبها
«آدهم أنا عايزة أشوفك. عشان خاطري محتاجة أتكلم معاك. »
ألقت هاتفها وهي تضم السلسال إليها الى أن أتاها صوت رسالته التي أحيت نبض قلبها
«خير يا شمس. في حاجة؟ »
ردت عليه
«هو في أكتر من إني أكون محتاجالك يا آدهم!

بقولك عايزة أشوفك صعبة دي! »
أجابها على الفور
«شمس سبق وأتكلمنا وقولتلك مينفعش نتقابل ولا نشوف بعض لحد ما أجي عندكم البيت وأقابل فريدة هانم ودكتور على وأطالبك بشكل رسمي، أنا مش الانسان اللي بيخالف عادتنا وتقليدنا وقبلهم أخلاقي اللي اتربيت عليها من فضلك قدري ده ولو في شيء مهم قوليلي حالًا»
كتبت بعصبية كادت باحراق هاتفها.

«أنت ليه بتبالغ بالشكل ده! وليه بتحسسني إني لما هشوفك هعمل شيء يشيلك ذنوب أو يقلل من أخلاقك. خلاص يا آدهم أنا اللي مش عايزاك ولا عايزة أشوفك. »
وأغلقت هاتفها ودmـ.ـو.عها تنهمر على خديها بألــمٍ، تشعر وكأن ما يفعله ليس الا تهربًا منها على الرغم من أنه طلب بالزواج منها من فريدة، ولكن ابتعاده التام عنها دون أن يحدثها حتى يزعجها ويجعلها تشعر بأنه لا يرغب بها وكأنها من فرضت ذاتها عليه!

صف عمران سيارته أمام شركته ينتظر أيوب الذي خرج إليه مبتسمًا، احتل المقعد المجاور إليه فتحرك به عمران وهو يسيطر على أعصابه المشـ.ـدودة بصعوبة بالغة.
تعجب أيوب من صمته الغريب ولكنه كان أفضل من أن يمنحه سباب لازع ومواعظ ستعيق بينهما الاجواء.

خاب أماله حينما ضغط عمران الفرامل بكل قوته جعلت الاخير يكاد يرتد للأمام من توقفه المفاجئ، استدار عمران إليه يخبره بنبرة شبيهة بالرجاء المنفر: راجع نفسك يالا. لو مش لاقي أي حجج أنا ممكن أخـ.ـطـ.ـفك كام يوم عشان يكون معاك سند قوي للحلفان انك اتخـ.ـطـ.ـفت فعلًا.
مرر يده على جبينه وهو يستند للخلف بإرهاق لحق همسه الخافت: تاني يا عمران. تاني!

وتهدل ذراعه بانهاكٍ تام مسترسلًا: أنا تعبت أقسم بالله تعبت من الكلام والتبرير ليك، أقولك نزلني أركب تاكسي أفضل من التعب ده.
جذبه بغـــضــــبٍ شرس: اتلقح مكانك لأعلم عليك، متسربع على أيه بروح أمك!

مرر يده بخصلات شعره الطويل يحاول تقبل الأمر للمرة المائة والحادية والعشرون وحينما فشل استدار إليه يجذبه من تلباب قميصه بعنف: اتجوزها يا أيوب بس وأقسم بالله العلي العظيم لو استهبلت فيها وقربت لبـ.ـنت ال دي لأكون قـ.ـا.تلك. الجوازة معروف سببها يبقى تسيطر على نفسك كده وتخليك بعيد سامعني يابن الشيخ مهران؟

انفجر ضاحكًا وهو يهز رأسه موافقًا حتى أدmعت عينيه فدفعه عمران لمقعده وعاد للقيادة بانفعالٍ من صوت ضحكاته الصاعدة، طرق أيوب كفًا بالأخر وقال ساخرًا: كنت بتلوم على سيف وغيرته عليا إديك قلبت على الزوجة اللي خايفة جوزها يدخل على ضرتها!
لكزه عمران هادرًا بغـــضــــبٍ: اظبط بروح أمك. تحب أركن على جنب وأنزل أوريلك الرجولة اللي على أوصلها وبعدها ابقى قابلني لو كان فيك حيل تخطي نحية اليهوديه بـ.ـنت ال دي!

وتابع وهو يتحكم بالمقود: أنا نفسي أفهم عرفتها من أنهي داهية دي، مالقتش الا عمها شغال في الجيش الإسرائيلي، ده سـ ـفا.ح يا ابني!

تنهد أيوب بتعبٍ، فمال على النافذة يتحكم بصمته تاركًا عمران يخرج ما بداخله مستنزفًا كل مجهوده في محاولة لاقناعه، وبالرغم مما بذله الا أنه وجده يتثاءب ويغلق عينيه استسلامًا للنوم مما جعل الاخير يقتاد غـ.ـيظًا، فانحنى يجذب زجاجة المياه وفك غطائها بفمه ملقيها على وجه الأخير وهو يصيح بغـــضــــب: هو أنا بحكيلك حدوتة قبل النوم بروح أمك!

زفر أيوب بحنقٍ: يادي روح أمي اللي انتي مسكهالي آه لو الحاجة رقية سمعتك هتخليني أقطع علاقتي بيك، اذا كانت منعتني من نزول الحارة لمجرد إن واحد من اصحابي قالي شتيمة بريئة أمال لو قعدت معاك شوية هتعمل أيه؟
منحه نظرة ساخرة مضيفًا بعنجهية: ادعي ربنا إنها متقابلنيش، هتزور إنت وأبوك محكمة الآسرة لأول مرة، عمران الغرباوي بيبقى جنتل مان وقت ما بيحب وده هيخلي قلب الحاجة ميشوفش غيري.

واستطرد وهو يعدل بذلته بغــــرور: وجودي هنا بعيد عن مصر مانع كوارث كتيرة هتحصل لو نزلتها. هتلاقي محكمة الآسرة بتروج من كتر قواضي الطـ.ـلا.ق لدرجة إنهم هيبـ.ـو.سوا ايدي إني أرجع لندن وأرحمهم!
زوى أيوب حاجبيه بتهكمٍ، فهز عمران رأسه حالفًا: آه والله يا ابني. ومش بعيد تلاقي القاضي واقف مع التيم ومش لاقي اللي يحكم في قضيته هو كمان لإن مـ.ـر.اته انضمت لمعجبات عمران سالم الغرباوي.

ابتسم أيوب وصاح بنزق: عمران انت حد قالك قبل كده إنك مغــــرور؟
غمز له بمشاكسة: لأ. اتقلي إني وسيم وجذاب ومعاكسات تانية من الحريم عيب تسمعها وإنت في السن ده!
تمادى في الضحك وهو يهز رأسه بقلة حيلة مرددًا: انت مش طبيعي!

اجتمع الشباب بأكملهم بشقة سيف، وبعد أن جهز المحامي عقود الزواج تم عقد زواج أيوب على آديرا بشكلٍ قانونيًا، فاستغل عمران وجود محامي عائلته و.جـ.ـعله يجهز أوراق تخص فض الشراكة بينه وبين نعمان الغرباوي، فاتفقا على أن يزورهم المحامي بالغد بعد أن يجهز الاوراق، وفور أن غادر جلسوا جميعًا بالصالون تاركين ليلى بالداخل برفقة آديرا تنتظر ما سيفعلونه الآن.

حطم آدهم جلسة صمتهم بعد أن أخرج من جيب جاكيته الأسود مفتاحًا وضعه على الطاولة الموضوعه بالمنتصف قائلًا: ده مفتاح شقتي يا أيوب خد مراتك واقعد فيها لحد ما التلات شهور دول يعدوا وترجعوا مصر.

اعتدل بجلسته رافضًا ما يقدm آدهم على فعله: لأ طبعًا مش هقدر أعرضك لخطر زي ده يا آدهم إنت بنفسك لسه كاشفلنا منصب عمها يعني الخطر اللي هتعرضله كبير ومش هين فانسى إني أقبل أعرض حد فيكم لخطر زي ده، مش هقبل مساعده من حد فيكم.

رد عليه آدهم بهدوء: شقتي آمن مكان ممكن تكون فيه يا أيوب، متنساش إني بشتغل في المخابرات ومأمن الشقة دي كويس جدًا فمستحيل حد يوصلك هناك ده أولًا، ثانيًا أنا نازل مصر الاسبوع الجاي يعني مفيش خطر هتعرضله من الاساس، وحاليًا أنا قاعد مع سيف والشباب هنا. هنزل معاك دلوقتي أخد هدومي عشان هسافر، من هنا على طول.

أضاف يوسف موكدًا: كلام آدهم عين العقل يا أيوب، إنت لازم تتدارى الفترة دي على قد ما تقدر لحد ما ترجع مصر، وأكيد شقته أمن مكان لأنه كان متخفي هنا.
قال على بعقلانية: هروب آديرا من عمها هيزود العداء اللي بينك وبينه عشان كده لازم تتحرك بسرعة وتبطل تظهر كتير لحد ما تمتحن وتنزل على مصر.
ردد سيف بحـ.ـز.ن: يعني أيه؟ مش هعرف أشوفه ولا هعرف عنوانه؟
أجابه أيوب بحنان: لا طبعًا مش هقدر أكون بعيد عنك يا سيف.

ووزع نظراته بينهم وهو يتابع بحرج: ولا عنكم. أكيد هجي أشوفكم كلكم.
زم عمران شفتيها مرددًا بسخطٍ: الله وكيل ما هنبقى طايقين نشوف خلقتك يا جوز العبرانية!
حذره على بنظرة صارمة، فصاح بتهكم: مش على معدتي الجوازة دي يا على الله!
ضحك جمال وقال: حـ.ـر.ام عليك يا عمران قــ,تــلت البـ.ـنت من الخــــوف وهي بتوقع على العقد، هترضى عنه أمته!
وضع ساقًا فوق الاخرى مرددًا: هرضى عليه لما يطـ.ـلقها ويتجوز بـ.ـنت متدينة تليق بيه.

ضحك يوسف وقال بسرور: طيب يا عمران بما انك مكتئب كده أيه رأيك تغنيلنا أغنية بطعم المرار الطافح اللي سقيه للواد ده!
تعالت الضحكات الرجولية فيما بينهم، ونهض على يشير لأدهم قائلًا: .
الوقت اتاخر يالا يا سيادة الرائد نوصل أيوب لشقتك وأرجعك هنا تاني.
انتصب أيوب بوقفته وقال: ثواني هجيب آديرا.
لوى عمران شفتيه حانقًا: سبها هنا تبات مع سيف وروح عند آدهم ادرى أهو لو عمها وصل لهنا حلال فيه وفيها القــ,تــل.

سعل سيف بقوةٍ وصاح بلهفة: ميبقاش قلبك أسود يا عمران مش اعتذرتلك وبوست رأسك قدام الرجـ.ـا.لة دي كلها؟
منحه نظرة ساخطة غير راضية: معفتش عنك لسه، ايدك تقيلة ومعلمة في وش استاذك اللي شربك الصنعة!
وضع كوب العصير على الطاولة ونهض يجذب أخيه عن الاريكة ليجلس هو جواره قائلًا: طب قولي أعمل أيه عشان تتصافى؟

ارتشف من كوبه بتلذذ مستفز، وقال: تروح تبات مع صاحبك أو تجبره يأخد منوم عشان أنا شامم ريحة الحب فايحة من بوقه ومش مطمنله.
برق على بصدmة من حديث أخيه الجريء وصاح يحذره: عمران ميصحش!
نهض يقترب منهم: أمال أيه اللي يصح يا دكتور لما تلاقيه داخل عليك يبشرك بحمل اليهودية ونقف نتفرج على انتاجه؟!
احمرت بشرة أيوب حرجًا، فوزع نظراته بين الشباب بتـ.ـو.تر لحق نبرته: حلفتله إني مش هعمل كده ومش مصدقني والله!

ربت آدهم على كتفه وهو يهمس له: ولو حصل دي مراتك!
هز اصبعه بالنفي القاطع: أقسم بالله ما في دmاغي الكلام ده أسمعني يا آدهم انا مش هكمل معاها أساسًا أنا وبـ.ـنت عمي شبه مخطوبين والمفروض اني هخلص تعليمي وهنزل أخطبها بشكل رسمي.
قال على بابتسامة مشفقة على ارتباك أيوب: متبررش للوقح ده حاجة يا أيوب، ادخل هات مراتك وتعالى.
دعس عمران قدm سيف المجاور له وهو يهتف بغـ.ـيظ: هيقولي مـ.ـر.اته بردو!

تأوه سيف بصراخ رعـ.ـبهم وفاض بعصبية: وأنا ذنب أهلي أيه يا عمران. أنا سنجل وهفضل طول عمري سنجل اطمن!
صرخ يوسف بتعصب: لاااا متقولش كده ده أنا أروح فيها. هجوزك يالا والله العظيم لاجوزك!
ضـ.ـر.ب جمال كف بالاخر وأشار لعلي: يلا ننزل يا دكتور لحسن مخهم ضـ.ـر.ب بسبب الطاووس الوقح ده.
هبطوا معًا للاسفل بينما ولج أيوب لغرفة آديرا، فاقترب منها يخبرها بثباتٍ: سنرحل من هنا. هيا.

هزت رأسها له، واتكأت على طرف الفراش في محاولة للنهوض، فتناثرت دmـ.ـو.عها جراء ألــم بطنها، كانت ليلى أول من ركضت إليها تخبرها: هل ستتمكنين من المشي؟
نفت بهزة رأسها والألــم يعتصر ملامحها، فانحنى أيوب يحملها بين ذراعيه وانطلق للمصعد وآديرا تتطلع له بصدmة جعلت عينيها تبرقان بشكلٍ مضحك، ذاك الشاب الذي كان يرفض اقترابها منه ويحذرها بالابتعاد يحملها ويمضي بها هكذا.

ارتابت من أمره وخشيت أن يلقي بها بأي وقت، فما أن توقف بها وخرج للسيارات حتى لفت ذراعيها من حول رقبته وهمست له بخــــوف: هل ستلقي بي أمام احدى السيارات لتقــ,تــلني ما الذي تخطط له أيها الإرهابي!
اندفع تجاهها عمران يصيح بشراسة قـ.ـا.تلة: أقسم بالله الواحد الأحد إنني سأقتطع لسانك القذر هذا إن سب أخي بالارهاب، الإرهابي هذا هو عمك الحقير يا امرأة! وإن خدعك بأننا إرهاب دعيني أريكِ ما أنا بصانعه لكِ الآن!

ارتعبت آديرا حينما وجدته أمامها فشـ.ـددت من لف ذراعيها حول أيوب وهي تترجاه: يا ويلي هذا الشرس سيقطع لساني. أيوب أتوسل إليك أعدني لشقتك أو لعمي أنا راضية بما سيفعله ولكن صديقك هذا مخيف للغاية!
فشل بكبت ضحكاته بينما دفع على عمران لسيارته بحدة: عمران كفايا كده. يلا ارجع البيت وأنا شوية وهحصلك.
منحها نظرة قـ.ـا.تلة وردد وهو يشير على رقبته بحركة مخيفة: انتبهي لما ستقولين بحقه والا سأنحر عنقكِ.

لعقت شفتيها وهتفت له: اطمئن لن أكررها مجددًا أعدك!
ضحك جمال وشاركه يوسف الذي أحمر وجهه من فرط الضحك، بينما صعد آدهم بسيارة على وبالخلف أيوب وآديرا التي تراقب أعين عمران برعـ.ـبٍ وكأنها ترى شبحها القـ.ـا.تل!
اتبع على الطريق الذي شرحه له على حتى أوصلهما واتجه بآدهم ليعود به لشقة سيف ولكنه تفاجئ به يخبره: دكتور على هو أنا ممكن أطلب منك طلب؟
استدار إليه باهتمامٍ: طلب أيه؟
بغرفة زينب.

اتجهت لفراشها تستعد للنوم فدق هاتفها برقمٍ مجهولٍ، رفضت اجابته وتركته على الكومود فوصل لها رسالة جعلتها تستقيم بنومتها ففتحتها وهي تقرأ محتوياتها، فشهقت بصدmة جعلتها تنهض عن الفراش وهي تصرخ برعـ.ـبٍ ومحتوى الرسالة تلحق برأسها فجعله يدور كالمزلاج
«أنا رجعت يا حبيبي اشتقتيلي! ».
ولج عمران للداخل بعدmا مرر مفتاحه بباب المنزل الداخلي، فلفت انتباهه حالتها المذرية، شملها بنظرة خاطفة ودنى إليها يسألها بقلقٍ: أيه اللي مسهرك لحد دلوقتي يا زينب موركيش جامعة الصبح ولا أيه؟
أسرعت إليه تسأله بلهفةٍ التمسها عمران: علي. عايزة علي.
بالرغم من عدm تنساق جملتها وحالتها الغامضة الا أنه أجابها بهدوء: بيوصل واحد صاحبنا وزمانه راجع.
وسألها باهتمامٍ بالغ: في حاجة ولا أيه. قلقتيني!

ارتعشت أصابعها المُمسكة للهاتف حتى كاد بالسقوط عن يدها، فرفعت يدها إليه وهي تردد بتـ.ـو.ترٍ وارتباك: رجع، يمان رجع. هيقــ,تــلني هو وعدني إني لو هـ.ـر.بت هيقــ,تــلني!
تحفزت معالمه وانصاع لكلمـ.ـا.تها المهاترة، فالتقط عنها الهاتف وهو يشير لها: اهدي بس وفهميني مين يمان ده؟ وهيقــ,تــلك ازاي الدنيا سايبه بروح أمه!
أضاءت شاشة هاتفها من أمامه ليتفاجئ من رسالته الاخيرة يتبعها رسالة أخرى وصلت للتو.

«فاكرة انك هت عـ.ـر.في تهربي مني، انتي لو في أخر الدنيا هجيبك وهعـ.ـا.قبك يا زينب! »
حرر عُمران زر التسجيل وصاح بعنفوانٍ قاطعٍ: عقـ.ـا.ب أيه يابن ال لو دكر اظهر وشوف هعمل فيك أيه؟ وإبقى اتعب نفسك وإسأل عن عمران سالم الغرباوي كويس وتأكد إن أبويا مـ.ـا.ت قبل ما يربيني فلو باقي على روح سبايدرمان اللي جواك دي اظهرلي وأنا أوريك مين فينا اللي في وضع يسمحله بالتهديد يا و.

أبعد الهاتف وهو يراقب وصولها إليه، فتأكد من سماعه لرسالته وانتظر أن يجيبه وحينما لم يجيب عاد عُمران يسجل له تحت نظرات زينب المصعوقة من تحوله المفاجئ لشخصٍ أخافها هي شخصيًا وانطلق يستكمل: أيه يا دكر صوتك راح فين! كويس إنك قلبت دكر بط كبيرك يزغطوك في بوقك، بس عشان أنا راجـ.ـل وقد كلمتي هبعتلك عنوان بيتي اللي عايشة فيه زينب لو حسيت إن كلمة دكر بط هانتك ومست رجولتك تعالالي نتفاهم.

وقدm لها الهاتف مضيفًا: لو بعتلك حاجة تاني مع إني أشك ناديلي أنا مريح فوق.
التقطت منه الهاتف بفمٍ مفتوحٍ، واكتفت بهزة رأسها بخفة وهي تتابعه يغادر للأعلى مطلقًا صفيرًا متراقصًا بينما يده تلهو بمفاتيحه باستمتاعٍ.
دقائق استغرقتها واقفة جـ.ـا.مدة محلها هكذا لتفق على صوت علي القادm من خلفها: زينب بتعملي أيه هنا بالوقت ده؟

انتفضت بوقفتها بفزعٍ وأشارت له بعدm اتزان كلمـ.ـا.تها: يمان عرف مكاني وبعت هددني وعمران آ...
ابتلعت باقي كلمـ.ـا.تها بحرجٍ دفع على يتساءل بخــــوف من اندفاع أخيه: عمل أيه عمران!

قدmت له الهاتف ليتمكن من ايجاد الاجابة المناسبة لسؤاله المحرج، قرأ على مضمون رسائله، واستمع لفويسات أخيه ببسمة جعلته يشعر بالانتشاء، فقدm لها الهاتف قائلًا: عُمران مخلاش كلام يتقال من بعده. اطمني يا زينب ومتقلقيش مش هيمس شعرة منك زي ما وعدتك، يالا اطلعي نامي عشان تقومي لجامعتك فايقة.
هزت رأسها باسمة وغادرت للأعلى، بينما ردد على ساخرًا: مربي بلطجي أنا!

تسلل عُمران للداخل على أطراف أصابعه حاملًا بين يده جاكيته وحذائه الفاخر، فتحرر ضوء الغرفة بمكبس ريمـ.ـو.ت تحمله مايا بيدها قائلة بسخرية: مفيش داعي تتسحب يا حبيبي أنا صاحية.
ألقى ما بيده مزعنًا ثباته المخادع، فتهدلت شفتيه مبتسمة رغمًا عن جمود معالمه، واقترب يردد: حبيب قلب جوزه مش جايله نوم من غيره يا ناس!

زمت شفتيها ساخطة على محاولته الواضحة للضحك على عقلها: متحاولش يا عمران أنا زعلانه منك. النهاردة قولت إنك مش نازل الشركة فخمنت إنك حابب تقضي اليوم معايا ودلوقتي رجعالي وش الصبح!

حاوط وجهها بيده ورماديته تحتضنها رغمًا عن تباعد جسدها عنه، فاستند بجبهته على جبهتها يهمس لها: حقك عليا يا بيبي أنا مقصر معاكِ عارف. النهاردة كان كتب كتاب أيوب على البـ.ـنت اللي حكتلك عنها وانشغلت معاه وكنت أتمنى أعوضك بكره بس هكون مع جمال بالمستشفى عشان عملية والدته بعدها على طول هكون ملكك لوحدك أي مكان هتشاوري عليه هأخدك ليه وإنتي بين أحضاني، ها مرضي يا حبيب قلب عمران؟

زار ثغرها ابتسامة عـ.ـذ.باء وهزت رأسها إليه فضمها بكل قوته مرددًا بنبرة صادقة: كله يهون الا زعلك يا حبيب قلبي!
تعلقت به وهي تميل على عنقه دافنة ذاتها داخله، فاستغل فرصة بقائها داخله ليهاتفها بنبرة الغرام فتفاجئ بها تبتعد عنه وهي تشير إليه بخجل: لأ. أنا من ساعة اللي حصل أخر مرة وأنا مرعوبة. خليك بعيد أفضل.

زوى حاجبيه بدهشةٍ وجذبها إليه مجددًا يخبرها: نعمان غار في داهية وبكره واحنا في الشركة هنوقعله العقود وبعدها هنبه عليه معتش يورينا وشه تاني. وبعدين أنا مش عايزك تبعدي عن حـ.ـضـ.ـني بالشكل ده تاني يا مايا. معقول تكوني خايفة وانا معاكِ وانتي بين ايديا!
رفعت ذراعيها لتحتضنه فوجدته يبتعد عن الفراش بضيقٍ من تصرفاتها، واتجه لخزانته يبدل ملابسه بصمتٍ.
نهضت عن الفراش ولحقت به تناديه بدلالٍ: عُمران.

سدد لها نظرة محتقنة من رماديته ونزع عنه قميصه يتجاهل وجودها مما عزز غـــضــــبها فجذبته بقوة إليها مرددة بغـ.ـيظٍ: بناديلك يا بـ.ـارد!
تغاضى عن كلمـ.ـا.تها الأخيرة قاصدًا الانتقام منها، فغمز لها بمكرٍ: غريبة الكلمة دي متقالتليش من أي ست غيرك!
احتقن وجهها بغيرة ظاهرة مما أرضى غــــروره فانطلقت ضحكاته الرجولية تجلجل على احتقان معالمها لسوء فهمها لجملته وهذا ما راق له.

اندفعت إليه مايا بكل غـ.ـيظها تضـ.ـر.ب صدره بقوةٍ وتسدد له لكمـ.ـا.ت تحيط بصدره الصلب، انفصلت عنه ضحكاته وتبلدت معالمه مما دفعها للاستغراب، فسحبت يدها وراقبت ملامحه بدهشة.
رفع عمران يديه يحاوط جانب وجهها ومازالت الجدية تنحر ملامح وجهه المنحوت، ليخبرها بثباتٍ شعرت بأنه يجاهد به أمامها: مايا أوعي تمد إيدك عليا تاني لا بهزار ولا جد أنا مش عايز أذيكِ!

رمشت بعينيها بتـ.ـو.ترٍ وخــــوف، فضمها إليه وهو يخبرها بحنان: حبيبتي الهزار لو بدأناه بالضـ.ـر.ب والاهانة هيكون ده مفهوم حياتنا الطبيعي، أنا زي ما بحترمك وعمري ما مديت إيدي عليكِ إنتِ كمان لازم تحترميني يا مايا. أوعديني متعملهاش تاني.
هزت رأسها من بين أحضانه وهتفت بخجل من تصرفها الذي ضايقه لحدًا لم تتوقعه: أنا أسفة.
دفنها داخله وهو يهمس لها: وأنا كمان آسف لو كلامي ضايقك يا حبيب قلبي. وأدي رأسك أهي.

وطبع قبلة عميقة على جبينها جعلتها تبتسم إليه بحبٍ، فانحنى يحملها إليه وهو يردد بخبث: حبيب قلب جوزه قلبه قسى عليه وشكله كده لسه زعلان منه!
أشارت له نافية الا أنها عاد بها للداخل يجذبها للانـ.ـد.ماج برفقته بدوامة عشقهما التي سحبتهما بخــــوفها بترحابٍ.

ولج علي لغرفته فوجدها تجلس على الأريكة منـ.ـد.مجة بقراءة أحد الكتب بتركيزٍ تام، وما أن تخلل لها رائحة البرفيوم خاصته حتى أغلقت عينيها تسحب نفسًا بعبقه الخاص هامسة بعشقٍ: علي!

فتحت عينيها فوجدته يستند على الكومود، مربعًا يديه أمام صدره، يتطلع لها بحنينٍ عاشق، راق له شعورها به وتسلل رائحته التي بات يدmنها لأجل تعلقها وحبها الشـ.ـديد لها، فما أن نطقت إسمه حتى تبسم بجاذبيته الخاطفة، ودنى يستند على المكتب مرددًا بصوته الرخيم: مش قولنا ممنوع السهر يا فاطيما هانم! ولا الكتاب ده عمل اللي مقدرتش أعمله وخلاكي منجذبة ليه كل الوقت ده!

وانتصب بوقفته يسترسل بحـ.ـز.نٍ مصطنع: أنا شكلي كده هغير من الثقافة والكتب وأي شيء يلفت نظرك!
نهضت تلحق به وهي تغلق الكتاب قائلة بصوتها الهادئ: مش هقرأ تاني لو ده هيزعلك يا علي.
التفت لها ومازال محتفظ بأثر ابتسامته: لأ يا حبيبتي اعملي اللي يخليكِ مرتاحة وتأكدي إن ده هيسعدني.

ابتسمت واتجهت لطرف الفراش تنتظره لحين أن ينتهي من حمامه الدافئ، فخرج يجفف خصلات شعره الطويل لرقبته وهو يتفحص انعكاسها بالمرآة، فاتجه ليحتل مكانه قائلًا بنظرة دافئة: عايزة تقوليلي أيه وربكك بالشكل ده!
وكأنها كانت تنتظره أن يشعر بتـ.ـو.ترها كالمعتاد منه، فقالت: أنا خايفة يا علي. مش حاسة إني هقدر أنزل مع عمران ومايا بكره الشركة. خايفة يحصل شيء يحطني أنا وعمران في موقف محرج.
وزمت شفتيها بتيهةٍ: انت فهمني!

فرق ذراعيه وضمها إليه يخبرها بحنانٍ رزين: مفيش حد في الكون ده كله فهمك أدي يا فاطيما. بس أنا عايزك تتأكدي ان الخطوة دي مهمة ليكي، لازم تختلطي بالعالم الخارجي يا فاطمة مينفعش عالمك يتوقف عليا أنا بس. انـ.ـد.مجي مع مايسان وعمران وخليكِ متأكدة إنهم أهل ثقة وأكيد عمران هيقدر حالتك وهيأخد احتياطاته.

مالت برأسها على صدره وتعلقت به، اعتدل بمنامته وضمها إليه هامسًا بحبٍ: نامي يا حبيبتي بكره مستنيكِ يوم مهم. ومتقلقيش أنا جنبك ومعاكِ. مش هسيبك أبدًا يا فاطمة!
أغلقت عينيها باسترخاء وسرعان ما غفت بين ذراعيه فطبع قبلة على رأسها وأغلق عينيه هو الأخر باستسلامٍ.

رفعها عنه ووضعها على الوسادة بحذرٍ، ثم جذب التيشرت الخاص به يرتديه، سحب عُمران هاتفه وخرج لشرفة غرفته يحرر زر الاتصال ويرفع سماعته لاذنيه بترقب لسماع صوت المتصل به، فأتاه بعد دقيقة يجيبه بنعاسٍ مرهقٍ: عمران! خير في أيه!
أجابه بسخطٍ وهو يميل للسور الحديدي: أخبـ.ـارك يا عريس، أمورك تمام؟

اتاه صوته المتعصب: متصل بيا الساعة تلاتة الفجر تقولي أخبـ.ـارك! عمران انت عايز أيه أنا تعبان ومرهق ولازم أكون عند استاذ ممدوح الساعة 8الصبح!
واسترسل أيوب قبل أن يأتيه رد عمران الوقح: اطمن أنا نايم في أوضة لوحدي ومحصلش حاجة لإني ببساطة عمري ما هعملها ونفسي تصدق ده! الشباب كلهم مصدقيني وانت الوحيد اللي مصمم على اللي في دmاغك معرفش ليه؟!

استدار عمران يولي السور ظهره وهو يراقب زوجته الغافلة على فراشها بنظرة عاشقة، فاضت بنبرته الهامسة لأيوب: لآن محدش شايف النظرة اللي بتداريها جوه عيونك غيري، بتحاول تقنع نفسك إنك مبتحبهاش وبتنفر منها بس في شيء جواك بيثور عليك كل مرة وبيقولك إنها مالكة جزء منك إنت متعرفهوش، جواك شيء بينبهك بالعاصفة اللي جايلك تحاربك بكل قوتها وهتبان قدامها ضعفك وفقدان سيطرتك على قلبك ونفسك!

ببساطة فاهمك لإني خضت نفس التجربة قبل كده بس الفرق البسيط إن الانسانه اللي كنت بحارب نفسي عشان مكنش معاها كانت تستاهل وتستاهل أخوض علشانها معارك وحروب، لكن إنت معركتك خسرانه يا أيوب. صدقني يا ابن الشيخ مهران مينفعش!

تعمد تذكيره للمرة المائة والثلاثون بكناية أبيه ليعود عما سيختلق داخله، فهتف أيوب بجدية تامة: مفيش شيء جوايا ليها أكتر من إني بصون وعدي يا عُمران. أرجوك إفهمني أنا عمري ما حبيت قبل كده حتى بـ.ـنت عمي اللي المفروض في حكم المخطوبين عمري ما رفعت عيني وبصتلها مجرد بصة هتخليني مخـ.ـنـ.ـوق وأنا شايل الذنب ده بين ضلوعي، مستني اللحظة اللي تكون فيها حلالي بس كُلي ثقة إنها الانسانة المناسبة تكونلي زوجة تحافظ على عرضي وشرفي وأولادي فحتى لو قلبي مال لآديرا في يوم من الايام فمش دي الإنسانه اللي أمنها على حتة مني يا عمران فتأكد إني كأيوب هكون غيرك في حربك لإني مش هطلع منها خسران أنا بقدر أسيطر على نفسي ومشاعري كويس. إتربيت كده وعيشت كده وهمـ.ـو.ت كده!

ابتسامة مريحة شقت على شفتيه، فتنهد براحة غمرته وقال: ريحتني. روح نام عشان تكون فايقلي بكره أصل بصراحة مش هعديلك اللي عملته على خير، عشان تبقى تشيلها بعد كده بضمير يا عريس الغفلة!
وتابع بسخرية: متنساش قبل ما تتخمد تعقم نفسك كويس وبالذات ايدك ورقبتك اللي كانت لفة دراعاتها حوليها، وحسابنا يجمع بكره يا ابن الشيخ مهران!
وأغلق بهاتفه دون أن يودعه ومن ثم ولج لغرفته متوعدًا للأخر لحين رؤيته بالغد!

غردت الشمس بفستانها الذهبي تستقبل يومها الجديد بمحبةٍ ودفءٍ، اجتمعت العائلة صباحًا على مائدة الافطار، فاستغلت فريدة اجتماعهم وقالت: ابتدوا لموا الحاجات المهمة اللي هتحتاجوها لإننا هننقل بكره.
ردت عليها مايا وهي تلهو بشوكتها بطبقها: أنا جهزت هدومي امبـ.ـارح بالشنط لما حضرتك قولتيلي باقي حاجات عمران وده مش عارفة هننقلها ازاي محتاجين تريلا!

توقف عن مضغ طعامه وصاح متعصبًا: محدش يقرب من لبسي وساعاتي وجزمي أنا دافع فيهم نص ثروتي. عزلوا انتوا على بركة الله وسبيوني هنا مع خزنتي أنا عنيت لحد ما صممتها بالنظام اللي يريحني ويريح تنسيق لبسي!

ضحك أحمد حتى ظهرت غمازات وجهه وصاح بتهكم ساخر: وماله يا بشمهندس البيت هناك واسع ويكفي كل اللي يخصك ولو زعلان أوي على تصميم الخزنة بتاعتك تقدر تختار الجناح اللي يناسبك وصمم لنفسك مكان لهدومك زي ما تحب محدش هيمانع!
زم شفتيه بسخطٍ: هو أنا فاضي يا عمي! أنا ورايا مشروع ضخم داخل فيه أنا وجمال هيحتاج كل وقتي وطاقتي كلها.

ابتسم بحبورٍ ومحبة عظيمة: المول التجاري اللي بقى حديث كل شركات المعمار. حقيقي أنا فخور بيك يا عمران ومتحمس أشوفه بشكله النهائي.
منحه ايتسامة ممتنة لدعمه المتواصل إليه، بالرغم من أن نعمان الغرباوي من العائلة الا أنه يواجه نجاحه بكل حقد يمتلكه بينما بالمقابل يأتي عمه الحنون ويدعمه قلبًا وقالبًا.

قاطعتهما فريدة غاضبة بنبرتها المتعصبة: يعني أيه يا عمران! هنفضل في البيت ده علشان حضرتك خايف على لبسك وجزمك وساعاتك الغالية لتتبهدل!
وأزاحت منديلها الورقي عن تنورتها وهي تصيح بضيقٍ شـ.ـديد: أنا مش طايقة أقعد في البيت ده استحملت طول الفترة اللي فاتت لحد ما نلاقي البيت المناسب وخلاص أحمد لاقاه وفاضل اننا نمشي من هنا وللأسف مش هقدر أطلع من هنا لوحدي لازم كلكم تكونوا معايا!

نهض على مسرعًا إليها يقبل يدها بحنانٍ: اهدي يا حبيبتي عمران ما يقصدش حاجة احنا معاكي مكان ما تكوني، ومعندناش مشكلة نعيش في بيت تاني. ولو على حاجة عمران الغالية يقدر يأخد شوية هدوم ليه بشنطة صغيرة ويسيب باقي حاجته هنا لحد ما يفضى ويعمل غرفة مجهزة لحاجته زي اللي هنا ويبقى وقتها ينقل حاجته. الموضوع بسيط ومحلول مش كده ولا أيه يا عم الوقح؟

ترك الخبز عن يده وأسرع تجاهها بضيق من ذاته لما قاله، وردد بنبرة رخيمة هادئة: مقصدتش والله يا فريدة هانم. لو عايزانا ننقل حالًا معنديش مانع مدام ده هيريح حضرتك.
لانت معالمها ورفع يديه تحيط باليمني خد عمران وباليسري خد على مرددة بصوتٍ محتقن بالدmـ.ـو.ع: ربنا ما يحرمني منكم أبدًا.

وضمت كتفيهم بعناق ثلاثي جعل الفتيات يبتسمن بحبٍ، فاندفع احمد إليهم يبعدهما للخلف ويضم فريدة بتملكٍ مضحك، هاتفًا بمرحٍ: ايدك يالا منك ليه. مش كفايا السنين اللي اتعـ.ـذ.بتها وهي في حـ.ـضـ.ـن غيري جايين تكملوا على اللي فاضل جوايا من صبر!
تعالت ضحكاتهما الرجولية، وخاصة حينما ردد عمران بنزقٍ: شوف الراجـ.ـل اللي دبرنا خطط وعملنا اجتماعات عشان نجوزهاله!
وتابع بغمزة ماكرة: ماشي الله يسهلو يا عم.

وأشار لفاطمة ومايا: يلا نتحرك احنا علشان منتأخرش.
ابتعدت فريدة عن أحمد متسائلة باستغراب: واخد فاطمة على فين يا عمران؟
ضمت مايا فاطمة لها وأجابتها: هتنزل معانا الشغل من النهاردة يا فريدة هانم.

ابتسمت بفرحة لتأكدها بأن ما يفعله ابنها الصغير سيأتي بثماره لحالة فاطمة، ان تولت هي العمل بشركات زوجها بعد وفاته واكتسبت تلك القوة والرزانة من المؤكد بأنها ستحمل نفس الصفات التي هي بحاجة لها، أجلت حنجرتها قائلة بتمني: ربنا يوفقك يا حبيبتي، روحوا انتوا وأنا هأخد زينب وشمس ونلم الحاجات المهمة عشان بكره الصبح هنتحرك على طول.
وعلى ذكر ابـ.ـنتها التفتت من حولها تتساءل باستغراب؛
هي فين شمس؟

اجابتها وهي تهبط للاسفل بابتسامة شاحبة: أنا هنا يا مامي، صباح الخير.
اجابوها بودٍ فاتجهت لمقعدها وجذبت طبق الطعام تتناوله بآليةٍ، جذب على المقعد المجاور لها ومنحها نظرة متفحصة قبل أن يردد بخبث: بمناسبة اللمة الحلوة دي في خبر يخص شمس ولازم تعرفوه.
انتبهت له شمس باهتمامٍ حتى الجميع، فكانت زينب أول من تسائلت باهتمام: خبر أيه؟ انتي امتحنتي يا شمس والنتيجة ظهرت ولا أيه؟

نفت ذلك قائلة: أنا لسه مش امتحنت أصلًا.
ارتشف على من كوب قهوته بهدوء جعل عمران يردد بضيق وهو يتفحص ساعة يده: ما تنجز يا دكتور مش فاضيلك!
ترك الكوب وتطلع تجاه عمه ووالدته وقال: آدهم نازل مصر الاسبوع اللي جاي وطلب مني آنه يكتب الكتاب بعد بكره ويأخد شمس معاه تتعرف على والده وعيلته، وعايز الفرح بعد امتحانات شمس على طول يعني بعد شهرين. أنا قولتله هبلغ فريدة هانم وهرد عليك.

تلون وجهها بالأحمر القاني، واخفضت عينيها أرضًا تخفي تـ.ـو.ترها الشـ.ـديد، وتابعت رد والدتها وعمها، فكان أحمد أول من قال: والله الولد ده راجـ.ـل وبصراحه ابن اصول متربي على قيم مبقتش موجودة في شباب اليومين دول، أنا عن نفسي معنديش مانع طالما شمس بتحبه وهو بيحبها هنعوز أيه أكتر من كده؟!
واستدار لزوجته يتساءل بلطفٍ: ولا أيه رأيك يا فريدة؟

سحبت نفسًا مطولًا تمنع به دmـ.ـو.عها، ابـ.ـنتها الوحيدة ستغادرها بعد فترة زمنية محددة وبدايتها الزواج، ولكنها ستكون مع من أحبت وهي تعلم جيدًا فراق علاقة كانت تنعم بالحب بينهما، لذا قالت ببسمةٍ صغيرة: لو ده هيخليها تكون سعيدة فأوكي معنديش مانع.

اتسعت ابتسامة شمس بفرحةٍ، على الرغم من حـ.ـز.نها الشـ.ـديد منه ولكنه فجأها حينما طلب من عائلته أن تسافر برفقته للقاهرة، كانت حزينة لإنها بعيدة عنه وهو بنفس الدولة وما يزيد حـ.ـز.نها سفره لدولة أخرى فإن كان يصعب عليها رؤيته هنا فكيف ستتمكن من رؤيته وهو بعيدًا عنها.
اتجهت إليها فاطمة تضمها قائلة ببسمة جذابة: مبروك يا شمس. ألف مبروك يا حبيبتي.

ضمتها بكل ود لصدرها وردت عليها: الله يبـ.ـارك فيكي يا فاطيما تسلميلي يا جميلة.
لفت مايا ذراعها حول كتفيها قائلة بمشاكسة: مبروك يا شموسة. كان نفسك تنزلي مصر أهو حضرة الظابط هيخـ.ـطـ.ـفك مننا وهيحقق أمنيتك.
اخفت وجهها بكتفيها بخجل وهمست لها: ميرسي يا مايا.
ابتسمت لها زينب وقالت بفرحة صادقة: مبروك يا شمس ربنا يهنيكِ يا حبيبتي.
ابتعدت عن مايا وأحاطتها بسعادة: الله يبـ.ـارك فيكي يا زوزو عقبالك يارب.

ابتسم عمران وقال بمكر: عريسها موجود ومتقدm ومنتظر الرد.
اسبلت فاطمة بعينيه مندهشة: مين ده يا عمران؟
رد عليها وهو يتابع زينب المنكمشة بخجل: دكتور سيف أخو دكتور يوسف صاحبي، معاها في نفس الجامعة وفي اخر سنة وبصراحة ولد راجـ.ـل ويوسف مربيه تلاتين مرة وأنا كعمران صعب أرفضه بس نقول أيه لدكتور على الديمُقراطي قالك الرأي رأيها وأدينا مستنين!

رددت فريدة بلباقة: سيف شاب محترم جدًا بس ده ميمنعش إن زينب بنوتة زي العسل ومكسب ليه مش العكس يا حامي اصدقائك ونافش ريشهم جنب ريشك!
تعالت الضحكات فيما بينهم، فأشار عمران للفتيات: نكمل كلامنا بعدين يا فريدة هانم المهم ننجز علشان مش فاضي ورايا كذه حاجة لازم أخلصها قبل ما أروح لجمال المستشفى والدته هتعمل الجراحة النهاردة.
قالت بتمنى: ربنا يقومها بالسلامة، هبقى أروح معاك زيارة ليها بعد ما ترجع البيت.

هز رأسه بتفهمٍ والابتسامة الممتنة تجوب على وجهه، فانطلق برفقة مايا وفاطمة لسيارته قاصدًا شركته.

تركت فريدة ابـ.ـنتها برفقة زينب يجمعون الأغراض الهامة بجناحها واتجهت لغرفة علي، وجدته يضع شهاداته التقديرية ودروعًا حصد عليها بمراحله التعليمية بكرتونٍ متين، واستكمل وضع كتبه وأغراضه الشخصية حتى ملابس فاطمة وما يخصها، وما أن شعر بأنفاسٍ على قرب منه حتى استقام بقامته واستدار للخلف فوجدها تقف أمامه مرتبكة للغاية، أشار لها ببسمته الجذابة: فريدة هانم. اتفضلي.

منحته ابتسامة خافتة وولجت تغلق باب غرفته من خلفها، متجهة لطرف الفراش القريب من مكتبته حيث يحزم كتبه وأغراضه.
عادت تفرك أصابعها بتـ.ـو.ترٍ تسلل لنبرتها المهتزة: عايزة نبدأ من النهاردة ينفع؟
جذب المقعد الخشبي ووضعه قبالتها بحماسٍ: طبعًا، اتكلمي باللي حابه تقوليه.

استندت على عمود الفراش الخارجي وربعت يدها أمام صدرها تحيل بها ذكريات الطفولة، وبدأت بتحرر صوتها الرقيق: من لما كنت طفلة وأنا مكنتش لوحدي، كان حوليا أخويا وأختي الله يرحمها بس مكنش ده اللي مخليني محسش بالوحدة، السر كان في وجود أحمد جنبي، كنت بحس إنه بيكملني، كأننا روح واحدة في جـ.ـسمين. مفيش حلم حلمته مكنش هو فيه، حتى حلم شكلي بفستان الفرح زي أي بـ.ـنت كنت بتمناه بس وجنبي أحمد.

اتسعت ابتسامتها وهي تستطرد: أحمد مكنش بس ابن عمي وحبيبي. كان صديقي اللي محرم عليا يكونلي صديق. كان أبويا اللي بيخاف عليا وقت ما برجع متأخر أو بلبس لبس عريان، أمي الحنينه اللي بتنصحني أحافظ على نفسي ازاي وأهون على نفسي وقت زعلي حتى وقت مرضي. كان أختي اللي قادرة تفهم وتصون أسراري بدون ما تتعصب عليا وتقولي هبلغ ماما باللي عملتيه. كان حبيبي اللي بيوعدني إنه هيكون جنبي لأخر العمر وفجأة قطع وعده وسبني وحيدة.

مجرد تذكر ما خاضته جعل عينيها تدmعان مستكملة: حسيت إني كنت في دفا وفجأة بقيت بين التلج وجـ.ـسمي بيتجمد وعاجز يحس بأي شيء. احساس آنه اتخلى عني وبإرادته كان أبشع من كابوس قومت منه، كل اللي اتبقالي من حبيبي ساعة وبرفيوم خاص بيه وقت ما بشتقاله بضمهم ليا وبعدها بكره ضعفي اللي خلاني ألجئ ليهم وبحس إني أقذر ست. ست خـ.ـا.ينة بتخون جوزها وبتحن للماضي اللي كان حقها في يوم من الأيام، عشت في معاناة كل ما بفتكرها قلبي بيتلف حوليه شوك.

وتمعنت برمادية عينيه اللامعة بدmع رافض سقوطه وقالت بابتسامة: لحد ما جيت انت يا علي، كأنك كنت بتهون عليا كل اللي أنا عايشاه لوحدي. من أول ما شيلتك بين ايديا وأنا واثقة إنك هتكون ليا العوض عن كل ده، اتمنيت اسميك أحمد بس خــــوفت سالم يحس باللي كان بيني وبينه، خــــوفت أكرهك بسببه لإني مكنتش لسه أعرف الحقيقة.

وشردت بالفراغ وقد احتل وجهها كتلة من الجمود: طول عمري عايشة دور الست القوية اللي قادرة تتغلب على كل ظرف تتعرضله لحد ما اكتشفت اني كنت ضعيفة وساذجة لدرجة إن الانسان اللي عشت عمري كله في تأنيب ضمير علشانه طلع هو الأمهر في التمثيل، كان الشيطان اللي كان بيوسوس ليا إني بخونه لمجرد تفكيري في اللي فات. و.جـ.ـعني وداس على قلبي وكأنه كان بيملك الحق على حياتي ونفسي!

وتعمقت بالتطلع إليه وهي تردد بنفور: أنا بكرهه ومش مسامحاه يا علي، كان نفسي يكون عايش ويشوفني مع أحمد. كان نفسي يتأكد إنه منجحش يبعدنا عن بعض حتى لما كنت معاه كان قلبي مع أخوه. لما كنت بديله حقوقه الشرعية كنت بتكوي بالنار وأوقات كنت بوهم نفسي إني مش معاه مع أحمد!
أزاحت تلك الدmعة المتمردة على خدها وقالت وهي تتجه هاربة منه: هروح أشوف زينب وشمس خلصوا ولا لسه. ونكمل بعدين.
نهض خلفها يناديها: ماما!

توقفت عن الخطى وبقيت جـ.ـا.مدة محلها دون الاستدارة له، فدنى قائلًا: مكنتيش خـ.ـا.ينة كنتِ إنسانة عظيمة قدرت تضحي طول السنين دي كلها علشان أولادها. إنسانة بالرغم من عشقها الكبير لشخص اتمنتت تعيش معاه الا أنها حاربت وصمدت وافترقت عنه علشان تكون مع أولادها، صدقيني اللي فات ده مهما كان صعب ومؤلم بس قواكي وقوى علاقتك بينا لدرجة خلتنا مؤهلين لجوازك من عمي وإنكم بعد كل العوائق دي اتجمعتوا.

استدارت إليه باكية وهرولت لأحضانه كالطفلة الصغيرة التي تتخفى داخل حـ.ـضـ.ـن أبيها، طوفها على ودmـ.ـو.عه تهوى على خديه، يعلم بأنها مازالت تكبت الكثير بداخلها ولكن كونها قالت تلك الكلمـ.ـا.ت القليلة سيأتي البقية بعدها وستخبره بكل شيء.

ربت بحنان على ظهرها حتى ابتعدت عنه تمنحه ابتسامة صغيرة، وتركته وغادرت لجناحها تنفرد بذاتها قليلًا وتستجمع قوتها لتواجهه بباقي ما بداخلها ولكن أولًا ستعاون الفتيات لترحل من هذا المكان الذي يضيق عليها كلما استعابت ما فعله زوجها بها.
اتبعتهما فاطمة للداخل، فأشارت لها مايا للمكتب الذي يقابلها متسائلة بحماسٍ: ها أيه رأيك بقى؟

سلطت نظراتها على المكتب الفخم المقابل لها، لونه الأبيض زاد من راحتها، كان يحوي على حاسوب ولجواره هاتف أرضي، اتجهت للمقعد تحتله بابتسامة صغيرة، وأخذت تتفقد سلة الأقلام بانبهارٍ.
أحاط عمران كتف مايا التي تراقبها بفرحةٍ، وضمها لاحضانه مستغلًا انشغال فاطمة بتأمل مكتبها، وهمس لها: خلي بالك منها يا مايا وأكدي على حسام محدش يدخل المكتب هنا ولا يزعجها بأي شكل من الأشكال لحد ما على الأقل تأخد على المكان.

هزت رأسها بتفهمٍ وهمست له: متقلقش يا حبيبي هبلغه وهشـ.ـدد عليه. وأنا كمان هكون معاها ومش هسيبها.
طبع قبلة على جبينها وهو يردد بحبٍ: حبيب قلب حبيبك إنتِ!
وابتعد عنها يتحنح بخشونة ليلفت انتباه فاطمة: أنا هنا في مكتبي يا فاطمة لو عوزتي أي حاجة مايا موجودة وأنا هنا جنبكم لو احتاجتي حاجة متتردديش.
رددت بابتسامة مشرقة: حاضر.

غادر عمران لمكتبه فوجد المحامي ونعمان بانتظاره، منح نعمان نظرة منفرة واتجه يحتل مكتبه بكـبـــــريـاءٍ، ليجد الأخر يقابله بغلظة: ما بدري يا ابن فريدة مش عارف إن في معاد بينا ولا بتستهبل!
وضع قدmًا فوق الأخرى بتعالي وعدm مبالاة بحديثه، ووجه حديثه للمحامي متجاهلًا وجوده: جهزت الأوراق كلها يا مسعد؟
أكد له باحترامٍ: أيوه يا باشا.
تابع وهو يجذب حاسوبه يراقب مقابلاته لليوم: حطيت فيه الشرط اللي قولتلك عليه؟

أكد له مجددًا: أيوه. وتقدر حضرتك تتأكد بنفسك.
حمل عنه الملف يراقب ذاك البند المشروط بالعقد بينما يتابعهما نعمان بدهشة لحقت سؤاله: شرط أيه ده؟!
رفع رماديته المحتقنة يقابله بها وصاح بحزمٍ: بند من بنود العقد اللي هتوقع عليه بيقيدك عن بيع الشركة لأي شخص غريب، في حالة إنك عايز تبيع الشركة مسموحلك بشرط يكون الشخص ده من جوه عيلة الغرباوي.

وتابع بقوة صارمة: مهو أنا مش بعد كل التعب ده أقدmلك الشركة على طبق من دهب وتأخدها إنت وتديها للي لفة عليك زي الحية علشان توصل لهدفها.
انتفض بوقفته يصـ.ـر.خ بعصبية وجنون لمجرد تخيله بأنه انكشف أمره أمامه: تقصد أيه بكلامك القذر ده يا ابن فريدة!

بقى محله على مقعده يراقبه ببرودٍ: يا خال متخلنيش أشك في ذكائك! أنا من على الكرسي ده قادر أعرف كل كبيرة وصغيرة عن بلاويك السودة، بس اللي عايزك تعرفه إنك مش أول واحد هيلينا ترسم عليه دور الحب أبو أجنحه وردية، سبق وعملتها على تلات رجـ.ـال أعمال معروفين وأخدت اللي وراهم واللي قدامهم وإنت ما شاء الله مبقاش وراك اللي يتأخد منك غير الحنجرة والخيلة الكـ.ـد.ابة اللي واهم نفسك بيهم.

صرخ بانفعالٍ يخفي به تدهور موقفه أمام المحامي الذي يشهد اهانته بوضوح الشمس: اخرس قطع لسانك عيل قليل الرباية.
اتسعت ابتسامة عمران وحذره بمكر: أبويا الله يرحمه بقى مـ.ـا.ت وسبني أمانه في رقبتك وإنت اللي معرفتش تربيني يا خال كنت مشغول مع الراقصات.

واستطرد بغمزة وقحة: لو فاكر إن هيلينا هترجعلك شقاوة زمان تبقى غلطان دي هتأخدك لحم وترميك عضم يا خال ووقتها متجيش هنا تعيط زي النسوان لإن وقتها هتشوف وش تالت لعمران الغرباوي مصدفش ليك إنك اتقابلت فيه.
جذب العقد من يده ووقع عليه، ثم دفعه تجاهه يشير له: موافق على شرطك إمضي وخليني أغور من وشك.

سحب القلم يوقع وهو يهتف ساخرًا: وأنا اللي واقع في دباديبك أوي، إنت تلزق أي مكان تكون فيه يا خال، فلتصحبك السلامة في أي مكان تغور ليه!
وحمل العقد لمايا وقعته وعاد به يلقيه إليه مشيرًا لباب مكتبه: مش عايز أشوفك ولو صدفة. لما يتقرص ودنك وتخسر وقتها افتكر اني حذرتك ونبهتك.

منحه نظرة حاقدة وهتف له بوعيدٍ: هتدفع التمن غالي يا عمران، وديني لأنـ.ـد.مك على معاملتك وطريقتك معايا وساعتها هنشوف مين اللي هيبـ.ـو.س رجل مين.
منحه قبلة بالهواء وغمز له: مستنيك يا خال. ربنا يديك طولة العمر!
وفتح الباب يشير له: مع السلامة يا نعمان!

ارتدى مريال المطبخ على خصره وشرع بجلي الأطباق، ومن ثم اتجه ليقلب القهوة على نيران هادئة، وانحنى يجذب الملابس من المغسلة ومن ثم خرج للشرفة يقوم بفردها على الحبال الداخلية، وولج يضع الشطائر التي صنعها على الصينية ووضع القهوة، ثم اتجه لغرفة شقيقه يهزه برفقٍ: سيف، قوم يالا إنت مش مأكد على ليلى إنك وراك محاضرة مهمة!

جذب الغطاء على صدره العاري يخفي وجهه من أسفله وهو يهتف بانزعاجٍ: يووه يا يوسف بقى انت كل يوم الصبح تقلق منامي!
جذب الغطاء عنه وشمله بنظرة خاطفة جعلته يزوى حاجبيه: إنت نايم كده ليه مش خايف تأخد برد!
تطلع للغطاء الذي أصبح بيد أخيه فنهض على الفور يرتدي بنطاله بحرجٍ: أيه يا يوسف الله. مش عارف أخد راحتي في أوضتي كمان ما تعتقني لوجه الله!

ضحك ساخرًا من ذاك الذي يسرع بـ.ـارتداء ملابسه باحراجٍ، وردد: الله يرحم لما كنت بتعملها على روحك وأنا اللي كنت بحميك وآ.
كبت سيف فمه بصدmة مما تفوه به وترجاه بدهشة: آدهم هنا لو سمعك هيقول أيه، عايز تفضح أخوك يا يوسف!
ارتفع صوت ضحكاته وأخبره مازحًا: خلاص يا دكتور سيفو متزعلش. وبعدين ما أنت اللي صاحي تتدلع وأنا ورايا حالة ولادة عايز أروح المستشفى انجز قبل ما أروح لجمال!

جذب المنشفة واتجه لحمام الغرفة: اعتبرني لبست وجهزت، انزل انت.
لحق به مستندًا على باب المرحاض، وابتسم له وهو يناديه: سيف.
مرر فرشاة الاسنان لينظفها وهمهم له: مممم
ربع ذراعيه أمام صدره وقال: هتبقى عم قريب، ليلى حامل.
بصق المعجون من فمه واستدار له بابتسامةٍ واسعة وصاح: بجد يا يوسف؟
هز رأسه بتأكيدٍ فاحتضنه بقوة وهو يردد بفرحة: مبروك يا حبيبي ألف مبروك، ربنا يكملها على خير ويرزقك بولد صالح بـ.ـار بيك وبيها.

ضمه بحبٍ وطبع قبلة على كتفه بحنان، وفجأة دفعه للخلف وهو يتأمل قميصه بصدmة: بهدلت القميص الله يخربيت معرفتك. هنزل المستشفى ازاي دلوقتي يا حـ.ـيو.ان!
انفجر ضاحكًا وهو يتأمل بقايا معجون الاسنان على قميص يوسف الابيض، وقال بصعوبة بالحديث: خدلك قميص تاني من عندي.

رفع احد حاجبيه بنزقٍ، فحك سيف لحيته النابتة بتفكير: صحيح انك أعرض من فوق شوية عني بس إن شاء الله نلاقيلك حاجة تناسبك. أول ممكن نستعير من آدهم واحد هو هوجان في نفسه زيك كده.
قال من بين اصطكاك أسنانه: ادخل كمل اللي بتعمله وكُل واشرب قهوتك وانزل جامعتك بمنتهى الهدوء.
ووضع يده بجيبه يجذب مبلغ من المال يضعه بيده بقوة وكأنه يصفع يده قائلًا: اتفضل مصروفك.

واتجه للمغادرة وهو يحذره بشراسة: مش عايز ألــمح خلقتك النهاردة، القميص جديد وبالتكت بتاعه يا حـ.ـيو.ان.
فور مغادرته ضحك سيف وهتف يناديه: هتقاطع اخوك عشان الفميص يا جو!
فتح الباب الحديدي وولج يبحث عنه بمقلتيه المحتقنة إلى أن وجده يتفنن بأحد التصميمـ.ـا.ت ولجواره يجلس الاستاذ ممدوح يراقبه ببسمة هادئة، فما أن رأى من يقترب منهما حتى تساءل بدهشة: خير يا عمران؟

انتبه أيوب لنطق إسم رفيقه فاستدار للخلف فوجده يضع يديه بجيب سرواله الرمادي، ويمنحه نظرة النمر الواشك على افتراس فريسته.
ابتلع ريقه بخــــوفٍ غريبٍ يداهمه لمرته الأولى، فحتى مكانة أبيه لم تجعله خائفًا مثل الآن، اقترب منه عمران يستند على اللوح ويتأمل ما صنعه مبديًا عدm اعجابه بما فعله: مش بطال!

واستقام بوقفته وهو يخطو بين الرفوف الضخمة متمعنًا بها بنظرة غير مرضية، أتت بقوله: هو الأرشيف ده متنضفش من أمته يا أستاذ ممدوح التراب مالي الدنيا بشكل غير طبيعي!
سيطر الكهل المتحاذق على ابتسامته فهو يعلم ماذا يحاول تلميذه الأول بصنعه خاصة بعد أن قص له أيوب تفاصيل ما حدث بالأمس، فقال: مش فاكر والله يا بشمهندس. بس بتسأل ليه؟

قال وقد استقرت عينيه على أيوب المتأهب لما سيفعله ليعـ.ـا.قبه كما وعده: بقول إن ميصحش البشمهندس يشتغل وسط التراب والفوضي دي عشان كده لازم ينضف مكانه بنفسه لاننا مش بنسمح لأي حد يدخل أرشيف وسجلات الشركة ولا أيه يا أيوب؟

عبس بعينيه بضجرٍ، فلم يترك له عمران فرصة المناص بل جذب المجلدات الضخمة ووضعها بيده ومن ثم الأخر فالأخر حتى اختفى أيوب خلف طابق كامل من المجلدات جعلته يصيح بلهاثٍ: كفايا يا عمران مش قادر أشيل كل ده!
أتاه رده الساخر: شيل يا عريس والا إنت مبتقدرش تشيل غير الحتت الطرية!

ضحك ممدوح بعدm تصديق لما يحدث أمام عينيه، فتحرك أيوب ليضع ما بيده جانبًا ويعود لعمران يناوله المتبقي من المجلدات، وحينما انتهى قال وهو يطـــعـــنه بنظرة اخيرة: امسح الرفوف ورجعهم مكانهم زي الشاطر كده، ولما تخلص اطلع فوق لحسام هيفهمك هتعمل أيه لانك هتكون بدالي النهاردة طول اليوم.
كاد بالرحيل فجذبه أيوب بعدm استيعاب: مكانك فين! عمران أنا شاب جامعي وبتعلم لسه فبالله هكون مكانك ازاي متهزرش!

أخفض رماديته ليد أيوب الممتدة لجاكيته الباهظ فسحبها أيوب وهو يدmس شفتيه بغـ.ـيظٍ، فأجابه الاخير ببرودٍ: استاذ ممدوح معاك هيساعدك.
وتركه واتجه للمغادرة فأوقفه تلك المرة بمسكة يده وهو يخبره: طيب وجمال أنا عايز أكون موجود معاه في يوم زي ده.
منحه بسمة بـ.ـاردة وصاح؛
واجبك وصل يا عريس، ركز في المطلوب منك وبس.

وتركه وغادر وهو يشير للممدوح بتتابعه فما أن خرج خلفه حتى أغلق باب المكتب على أيوب ومال عليه يهمس له: استاذ ممدوح أنا عايزك تتوصى بأيوب، تفرمه من الشغل لدرجة إنه يرجع ميحلمش غير بسريره وبس ميجيش في دmاغه شيء غير إنه يريح جـ.ـسمه ويرجع هنا تاني، حضرتك فاهمني؟
ضحك ممدوح وهز رأسه: وصلت، بس خد بالك الولد معندوش نية إنه يقرب منها وأنا شايف الصدق في عنيه.

رد عليه بخــــوف صادق: الشيطان شاطر يا استاذ ممدوح ولو حصل هتبقى كارثة لو البـ.ـنت دي حملت منه، أرجوك ساعدني أنا خايف عليه. عصرت دmاغي عشان ألقى حل مش لاقي غير إنها تأسلم وده مستحيل.
ربت على يده بحنان: مفيش مستحيل على ربنا يا ابني. عمومًا اطمن أيوب بقى زي ابني وجوه عيني متقلقش.

ودعه بابتسامة صغيرة وغادر على الفور فعاد ممدوح للداخل فوجد أيوب يقف على الدرج الخشبي ينظف الرفوف وما أن رآه حتى قال متهكمًا: كان بيوصيك عليا مش كده!
ضحك وهو يهز رأسه فمال على الدرج يستند عليه بتعبٍ: والله ما أنا عارف بيعمل كده ليه. ده أنا لو عند أخ أكبر مني مش هخاف منه بالشكل ده!

بالاعلى.
تابعت مايا عمل فاطيما باهتمامٍ، عاونتها على تنسيق الملفات بشكلٍ اكثر احترافية، وحينما قدmت ملفها الأول قالت بإعجاب: الله عليكِ يا طمطم هو ده الشغل ولا بلاش.
ابتسمت لها بمحبة وقالت: بفضل الله ثم تواجهيهاتك يا بشمهندسة.

مالت تقبل جبهتها بحب: حبيبتي يا فاطمة والله أنا مبسوطة من وجود معايا أوي، كنت بحس إن هنا لوحدي وماليش حد ولما عمران قال إن صبا ممكن تنزل معايا فرحت بس الهبلة اتحججت بتعب الحمل وكنسلت الموضوع وأهو ربنا عوضني بسلفتي وأختي القمراية.
اختبرت فاطمة أحاسيس غريبة من ضمة مايا لها، فأحاطتها بابتسامة مشرقة وقالت: انتي اللي زي القمر وتتحبي يا مايسان ربنا يسعدك ويفرح قلبك الأبيض.

أغلقت مايا الحاسوب وقالت بحماس: حيث كده بقى فكك من الشغل وتعالي ننزل نتغدى في أي مطعم، في مكان هنا جنب الشركة بيعملوا بيتزا إنما أيه عجب، بينا؟
التقطت حقيبتها مشيرة لها بنفس مصطلحها: بينا يا ريسة!
تعالت ضحكاتها وشاركتها الاخرى ومن ثم هبطوا معًا للأسفل.
أوصل حسام الضيف الزائر للأسفل بعد أن هاتفه عُمران وأوصاه أن يُوصله للأرشيف بنفسه، فشكره بتهذبٍ: شكرًا يا بشمهندس.

رد عليه حسام باستحسان: أنا في خدmتك يا باشا.
وتركه وغادر بينما أكمل الضيف طريقه للأسفل حتى وصل للباب الحديدي، دفعه وأخذ يتطلع لذاك العالق على الدرج الخشبي بكتلة مجلدات ضخمة يرصها بانتظامٍ ويبدو الانهاك يشكل خرائطه على وجهه، فناداه بخفوتٍ: أيوب!
أطل من فوق المجلد يتأمل من يناديه، فابتسم وهو يناديه بلهفة: آدهم!
وهبط إليه مبتسمًا ومتسائلًا: بتعمل أيه هنا؟!

أجابه وهو يتفحص ملابسه المتسخة باستغرابٍ: جاي علشانك.
وسأله وهو ينفض الأتربة عن قميص بذلته: إنت أيه اللي بهدلك بالشكل ده؟!
أمسك أيوب يده ودفعه ليجلس قبالته على الطاولة الخشبية المتهالكة، قائلًا بتوسل: أبوس إيدك خلصني من عمران. من ساعة ما شافني نازل إمبـ.ـارح شايل آديرا وهو اتجنن، هالكني في الشغل وفاهم إنه كده بينتقم مني.

تمردت ضحكة رجولية على شفتيه جعلت الاخير يرتاب لامره متسائلًا بحيرة: بتضحك على أيه يا آدهم؟
استعاد اتزانه رغم احتفاظه ببسمته الجذابة وقال: مش بينتقم منك يابو قلب طيب بيهدك عشان لما ترجع بيتك ميكنش عندك أي نية شيطانية غير النوم والاسترخاء، فهمت حاجة؟
فرك أنفه بحرجٍ طفيف وهمس له: طيب وليه كل ده والله ما عندي نية لحاجة يا جدعان!

رفع يديه بغمزة مرحة: مصدقك يا عم الشيخ بس الطاووس الوقح عنده وجهة نظر محتلفة. حظك!
ضم شفتيه معًا بقوة وصمت قليلًا ومن ثم قال: طيب ما تلين انت دmاغه وتخليه يخف عني!
استند على الطاولة وهتف له متصنعًا الحـ.ـز.ن: كنت أتمنى يا أيوب والله بس كتب كتابي بعد بكره على أخته فلو أنا اللي اتدخلت هيسيبك ويستلمني أنا!
اعتدل بوقفته بابتسامة واسعة: بجد. هتتجوز يا آدهم؟

صحح له بابتسامة هادئة: كتب كتاب بس والفرح بعد امتحانتها ان شاء الله.
وضع يده على كتفه بسرورٍ: مبروووك يا عمهم. أهي دي الاخبـ.ـار اللي تفرح وسط الجو المترب ده.
رفع آدهم يده يشـ.ـدد على كتفه مثلما فعل وقال: عقبالك بس مع اللي تستاهلك.
ابتسم وهو يجمع شمل الحديث، فتابع آدهم بجدية: نستني كنت جايلك ليه.

وأخرج من جيب بنطاله ساعو رجـ.ـالية فخمة، قدmها له مشـ.ـددًا على حروفه: إلبسها ومتقلعهاش أبدًا يا أيوب على الأقل لحد ما ترجع مصر.
تناولها منه وتفحصها باستغرابٍ: ليه؟
نزع ادهم عنه ساعته ووضعها جانبًا، ثم وضع الاخرى بمعصمه قائلًا: انت بتقول انك بتعزني معزة كبيرة فوجود الساعة دي في ايدك هتأكدلي كلامك خصوصًا اني مسافر القاهرة الاسبوع الجاي.

انقبضت ملامح أيوب وفاضت بالحـ.ـز.ن، فأمسك يده وقال برجاءٍ صغيرًا في عهده الثاني: مينفعش تخليك هنا معانا.
ابتسم وهو يراقب مسكة يده وقال: والدي راجـ.ـل قعيد ومن بعد وفاة والدتي مبقاش ليه غيري. كل فترة بيكلمني وبيترجاني أرجع والمرادي مصمم إني أرجعله وشكله مريـ.ـض فعلًا. أنا وعدته ومقدرش أتراجع. خايف يجراله حاجة فذنبه يكون في رقبتي.
هز رأسه متفهمًا وردد بنبرة متحشرجة من الحـ.ـز.ن: ربنا يشفيه ويبـ.ـاركلك فيه.

أحاط كتفه بذراعه وقال بابتسامة جذابة: هنتقابل تاني يابن الشيخ مهران، وعد لما تنزل مصر هتلاقيني أنا اللي بستقبلك في المطار. هما كلهم تلات شهور هيعدوا بسرعة البرق. وبعدين الموبيل اخترعوه ليه؟

اتسعت ابتسامة ايوب وضمه إليه، فاحتواه آدهم ومازالت تعابيره مندهشة من الحب الاخوي الغريب المتبادل بينهما، لوهلة تمناه أن يكون ذاك الأخ الذي تمنى أن يمتلكه، كان دومًا حزينًا يتساءل لماذا ابقاه والديه وحيدًا دون شقيق أو شقيقة وحينما اشتد عوده علم بأمر تعب والدته وعدm قدرتها على الانجاب فتقبل الأمر واعتاد عليه، ودعه آدهم واتجه للمحامي يرتب أوراق عقد القران بعد أن تحدث على إليه وزف له موافقة عمه ووالدته.

بالمشفى.

وقف جمال جوار والدته يحبس دmـ.ـو.عه بتمكنٍ، ولجواره تقف زوجته عاجزة عن الحديث إليه أو حتى تهدئته، تعود الحاجة أشرقت لحديثها الباكي فتزيد من و.جـ.ـعه: وصيتي أخواتك يا جمال، لو جرالي حاجة حطهم في عينك يا ابني. أنا عارفة اننا تقلنا عليك وشيلناك فوق طاقتك. مصاريف علاجي وتعليم اخواتك وجوازتهم وعمرك مرة ما اشتكيت ولا قولت مش قادر، طول عمرك اللي في ايدك مش ليك يا حبيبي. عشان كده لو جرالي حاجه همـ.ـو.ت وأنا راضية عنك يا ضنايا.

انحنى تجاهها يقبل يدها الممتلئة بالمحاليل والأجهزة وردد برعشة باكية: متقوليش كده عشان خاطري يامه، هتخرجي والله وهتبقي زي الفل.
ربتت على خصلات شعره الفحمي بيدها الاخرى وقالت: ربنا يراضيك ويسعدك زي ما انت سبب سعادتي، ربنا يجبر بخاطرك زي ما انت جابر بخاطري أنا واخواتك يا حبيبي.
لم يحتمل سماع المزيد فبكى على يدها وهو يترجاها: كفايا عشان خاطري متو.جـ.ـعيش قلبي يامه.

طرقات باب الغرفة ومن ثم ولج ذاك البشوش بالورود، ليقترب منها يسيطر على حـ.ـز.نه لرؤيته انهيار رفيقه بحرافية، فهتف بمرح: مساءو فل على أجمل ست اتخلقت في الكون كله، شوفتي المرادي جبتلك ورد أحمر علشان ت عـ.ـر.في إن علاقتنا اتطورت من حب وتسبيل لمرحلة مينفعش فيها الحبيب!
استدار يقابل سيف بنظرة مشتعلة، اتبعها وابل من غـــضــــبه: هو انت كل ما تشوف خلقتي تسألني عنه! حد قالك إني المدام بتاعته بروح أمك وأنا معرفش!
زم سيف شفتيه بغـ.ـيظٍ وأشار ليوسف بحنقٍ: شوفت طريقته بالكلام يا يوسف وفي الأخر تقولي أحترمه!
ربت على كتف شقيقه وكأنه يواسيه، واتجه لعمران يخبره بنزق: خف على الواد شوية يا عم الوقح، أيه محدش عارف يكلمك!

كاد بأن يمنحه وابل من فظاظته فأسرع جمال يمسك بيديه وهو يخبره بسخريةٍ: والله ما هي ناقصة، قعدت تقولي بروح أمك لحد ما أمي روحها بتطلع جوه أهي!
وتابع بنبرة متوسلة تترجاه: خف على دكتور سيفو مالوش في كلامك الدبش ده. خليك الكبير العاقل يا عم الطاووس.
أحاطهم بنظرةٍ ساخرة شملت على الذي تجاهله واستكمل طريقه ليكون مجاور لجمال يسأله باهتمامٍ: الدكتور مخرجش من جوه؟

هز رأسه نافيًا وقد تسلل الحـ.ـز.ن إليه بنبرته: لأ لسه. بقالهم فترة جوه.
ربت على كتفه وهو يخبره: العملية دي بتأخد وقت كبير. ادعيلها يا جمال وخليك متفائل.
رفع رأسه عاليًا وردد بخفوت: يا رب متحرمنيش منها يارب!
جلس يوسف جواره هو الأخر وأحاط كتفه يشـ.ـد عليه: هتخرج وهتبقى زي الفل. أنا شوية وهدخل أطمن على الأمور بنفسي متقلقش.

اتجه سيف للأريكة المقابله إليهم فجلس يعبث بهاتفه في محاولة للوصول لأيوب بعد أن هاتفه للمرة الثامنة، فتهللت أساريره حينما أجابه تلك المرة فسأله بلهفة: أيوب إنت فين؟ وليه مبتردش على موبيلك؟
أتاه صوته حزينًا حتى وإن حاول اخفائه: معلش يا سيف كنت بكلم الشيخ مهران وبعدها سبت الموبيل. أنا كنت لسه هكلمك حالًا عشان أسالك انتوا في أنهي دور؟
سأله باهتمامٍ: انت فين دلوقتي؟
قدام البوابة تحت.

طيب خليك عندك متتحركش أنا نازلك.
وأغلق سيف هاتفه وأسرع للمصعد يحرر زر هبوطه الطابق السُفلي قاصدًا البوابة الخارجية، جاب الطريق ببصره فأهتدت مقلتيه على صديقه المستند بجسده على العمود الحجري المجاور للبوابة، فاتجه إليه يناديه بلهفةٍ: أيوب.
استقام الاخير بوقفته ليقابله بابتسامةٍ صنعها بحرفية لتخدعه ولكن صوته كان كفيل بعكس كل ما يمر به، فكان أول سؤال منه: مالك؟

تلاشت ابتسامته وتنهد بضيقٍ وهو يستدير للخارج، لحق به سيف ووقف بالجانب الأخير مستطردًا: الشيخ مهران قالك أيه مزعلك كده؟ متقوليش إنه عرف بموضوع جوازك من آديرا!
هز رأسه نافيًا وقد امتقع وجهه بحـ.ـز.نٍ مضاعف وهو يصرح له: أبويا حـ.ـز.نه بيزيد يوم بعد يوم يا سيف، ولحد النهاردة مش قادر يعرف مكانه ولا حد عارف يوصله. مش هاين عليه إنه يفرط في أمانة أخوه بالشكل ده!

رفع يده يربت بها على ظهره المنحي، وقد وصل إليه سبب حـ.ـز.نه، فقال: لسه بردو مش عارفين مكانه؟
أكد له بإيماءةٍ رأسه وقال بصوتٍ احتقن بالدmـ.ـو.ع: 5 سنين يا سيف! خمس سنين بندور في كل الاقسام ومش لاقينله أثر. والله العظيم مظلوم. يونس ابن عمي مستحيل يكون منهم يا سيف!

تهاوت دmعة عن فيروزته رغمًا عن كبريائه، فاحاطه سيف بين ضلوعه وهتف إليه: بس عشان خاطري. أنا مش بستحمل أشوفك زعلان تقوم توريني نفسك وإنت كده يا أيوب!

شكى له ذاك الظلم المستبد الذي تعرض له ابن عمه: ذنبه أيه يتأخد بالطريقة دي من شقته وقدام مـ.ـر.اته! ده معداش على جوازهم غير اسبوعين يا سيف! وكل اللي مسكوه عليه شوية أوراق ادثتله في المحل بتاعه ومن يومها لحد النهاردة محدش عارفله طريق! أنا مش عارف أساسًا إذا كان عايش ولا لأ...

واستطرد بلوعةٍ: وحشني أوي. عمري ما كان ليا أخ بس كنت معاه بحس إنه أخويا الكبير، كنت برتاح أوي لما بسمعه بيرفع الآذان لو الشيخ مهران كان تعبان، أقسم بالله إن يونس مستحيل يكون تبعهم وإن اللي حصل ده كان مقصود من الكـ.ـلـ.ـب ده.
أدmعت عينيه تأثرًا به، فزاد من احتضانه ومازحه قائلًا: خلاص يا أيوب، يا أخي قدر موقفي هغير عليك أنا من عمران ولا من سي يونس ده كمان!

تمردت ضحكة صاخبة منه، فلكزه سيف بمزحٍ: اضحك اضحك ما انتي خطابك كتير يا شابة!
ارتفعت صوت ضحكاته مجددًا وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا بقلة حيلة، تطلع سيف للرصيف البعيد عنهما وردد بدهشةٍ: مش ده آدهم!
استدروا معًا للسيارة التي تقترب منهما، فانخفض زجاج النافذة وأشار لهما آدهم بأن ينتظروه لحين أن يصف سيارته بچراچ المشفى ويعود إليهما.
غامت أعين سيف بشرودٍ فناداه أيوب باستغراب: روحت فين يا ابني!

وبسخرية استطرد: أيه غيران عليا من آدهم هو كمان؟!
قابله بنظرةٍ جادة للغاية وقال وهو يمسك يده كمن وجد المنقذ لعائقته: آدهم يا أيوب.
رمش بعدm استيعاب وقال: ماله آدهم؟
أوضح له بابتسامة واسعة: آدهم الاسم الحركي لعمر الرشيدي ظابط في المخابرات.

لوى شفتيه ساخطًا، وكأنه يخبره بما لا يعلمه، فاستكمل سيف: يا ابني افهمني، ابن عمك اتاخد من الأمن الوطني وانتوا بقالكم خمس سنين بتدورا عليه ومش عارفين توصلوا لحاجة، آدهم أو عمر الرشيدي يقدر بمنتهى السهولة يعرف طريقه!

اهداه لنظريته فتعلقت نظرات أيوب بآدهم الذي يقترب منهما على بعد مسافة منهما، فاستدار لسيف يحذره بصوتٍ منخفض: لا يا سيف أوعى تقوله حاجه، كفايا مشكلة آديرا اللي الكل بقى فيها معايا وأولهم آدهم اللي اداني شقته وواقف جنبي لحد دلوقتي. متقولوش حاجة من فضلك.
هز رأسه بتفهمٍ: زي ما تحب.
وقف أيوب جوار سيف ينتظرونه حتى قطع المسافة الطويلة ووصل إليهما، قائلًا ببسمته الجذابة: مساء الخير يا رجـ.ـا.لة.

أجابه سيف بابتسامة صغيرة: مساء الفل يا عريس، مبروك مقدmًا.
اتسعت ابتسامته وهو يجيبه: الله يبـ.ـارك فيك يا دكتور عقبالك.
رفع يديه يردد بمرح: اسمع منه بأقرب وقت يا رب قبل ما يوسف أخويا يفـ.ـضـ.ـحني في انجلترا كلها بدور الخاطبة اللي عايشيلي فيه ده.

ضحك آدهم وشاركه سيف الضحك بينما ظل أيوب مكفهر الملامح لا يرى أمامه سوى حديث سيف، يشعر بالقلق حيال ذلك الأمر، يعز عليه أن يكون مفتاح خلاص ابن عمه بيده ويعجز عن تقدmيه إليه، ولكنه لم يعتاد على أن يكون جشعًا بطلباته أو أن يستغل صداقاته لتحقيق ما يريد.

تفحصه آدهم بنظراتٍ غامضة، وقد أتت فرصته على طبقٍ من ذهب حينما دق هاتف سيف ولم يكن سوى يوسف يطالبه بالذهاب لأحد المطاعم واحضار بعض الشطائر والعصائر لإن الجراحة ستستغرق العديد من الساعات، فوضع الهاتف بجيب بنطاله الجينز وقال بتهكمٍ: لو عايزين تطلعوا اطلعوا أنا نص ساعة وراجع.
ألقى له آدهم مفاتيح سيارته وقال: خد عربيتي عشان ترجع بسرعة، احنا هنستناك هنا.

ابتسم له بامتنان واتجه لجراج المشفى يعتلي سيارة آدهم الذي ابتاعها منذ ساعات قليلة عوضًا عن سيارته القديمة التي لا تصلح سوى للبيع خردة.
أشار آدهم بيده لاحدى الاستراحات قائلًا: تعالى نقعد هناك عما يجي.
أومأ برأسه ولحق به، فجلس جواره صامتًا، شاردًا، والابتسامة الغامضة مازالت تزين فم آدهم إلى أن كـ.ـسر حاجز صمتهما قائلًا: قولي بقى أيه اللي سيف عايزاني أعرفه وإنت رفضت تقولهولي؟

جحظت أعين أيوب بصدmة، فاستدار إليه يمنحه نظرة مندهشة، إن تركه آدهم لدقيقة لظن بأن سيف قد هاتفه وأخبره ولكنه لم يتركهما معًا فكيف علم بذلك.
علي الأرجح بأنه قرأ ما يدور بعينيه فابتسم قائلًا: سيف مقاليش حاجة، أنا اللي قريت حركة شفايفكم وأنا بقرب منكم. وبصراحة فضولي جاني لما قريت إسمي اللي اتردد بينكم.
ودفع كتفه برفقٍ وهو يسأله باهتمامٍ: ها هتقولي؟

أخفض عينيه أرضًا بحرجٍ، والأخير يترجم كل حركةٍ ولو صغيرة تصدر عنه، فصاح بعصبية بالغة: جرى أيه يا أيوب إنت ليه محسسني إننا أول مرة نعرف بعض! أنا قولتلك ألف مرة انت زي أخويا الصغير لما تحتاج حاجة تقولي عليها على طول مش قاعد قدامي عامل شبه العيل الصغير اللي عملها على نفسه في أول يوم دراسي!
تطلع له أيوب بدهشة من تغيره المفاجئ، على ما يبدو بأن عمران الغرباوي ليس الوحيد بينهم الذي يحمل أعصابه على ريشة.

التقط آدهم نفسًا مطولًا وأطلقه هاتفًا برجاء: اتكلم بقى ومتعصبنيش أكتر من كده.
أجلى صوته بخشونة: ابن عمي مقبوض عليه من خمس سنين ومش عارفين ليه طريق، ولا عارفين هو عايش ولا مـ.ـيـ.ـت!
سأله باستفهامٍ: اتفبض عليه في أيه؟!

قابله بجلسته يخبره بحـ.ـز.نٍ عميق انتقل لآدهم تلقائيًا: بص يا آدهم والله العظيم أنا مبكدب عليك، ابن عمي ده مـ.ـيـ.ـتخيرش عني في شيء، شاب محترم ومتدين وفي حاله، اللي حصل ده أصلًا متلفقاله عشان يبعد عن مـ.ـر.اته ويطـ.ـلقها وده اللي حصل فعلًا مـ.ـر.اته من تاني شهر حبس ليه رفعت عليه قضية خلع وكسبتها واتجوزت الخـ.ـا.ين اللي حبسه.

حديثه كان مشتتًا و.جـ.ـعل الاخير غير ملم بالاحداث، فسأله بهدوء: تقصد إن اللي اتجوزته ده هو اللي اتسبب في سـ.ـجـ.ـن ابن عمك؟

هز رأسه يؤكد له ذلك، وقال باستفاضة: بص الموضوع ده قديم أوي، خديجة ساكنة عندنا في العماره اللي ورثها أبويا الشيخ مهران وعمي محمد الله يرحمه، فكانت شقتها في الدور الرابع بعد شقة يونس ابن عمي، الاتنين حبوا بعض من صغرهم وأبويا اتقدm بشكل رسمي لوالدتها عشان الكلام ميكترش في الحارة واحنا ناس متدينة، وقتها الست فوزية والدة خديجة اتكلمت مع عيلة جوزها على يونس وواحد من اعمامها اعترض، كان عايز يجوز خديجة لابنه عشان يضمن ان الاراضي الزراعية اللي ورثتها خديجة عن ابوها مترحش بعيد. عمل المستحيل هو وابنه عشان يوقف الجوازة دي بس معرفش.

وتابع بحـ.ـز.ن: كنا فاكرين ان بعد ما كتبوا الكتاب وفرحهم اتعمل إنهم هيتهدوا وهيسبوهم في حالهم، بس اللي حصل إن معتز ابن عمها وابوه حطوله في المحل بتاعه منشورات وأوراق تودي في داهية، وبلغوا عنه وآ...
هز آدهم رأسه واسترسل هو: اتهموه بأنه من الجماعة إياهم واللي زاد في الأمر أمر هو تدينه مش صح كده؟

حرك رأسه موافقًا لحديثه وقد تشكل الحـ.ـز.ن على معالمه بتأثرٍ، وقال: أبويا حزين وعاجز، بقاله خمس سنين بيروح من قسم لقسم وبيحاول يجيب أي وسطة، وبعد كل ده ميأسش مرة، عمي الله يرحمه كان عنده كانسر وقبل ما روحه تطلع للي خلقها وصى أبويا على ابنه الوحيد، وده أكتر شيء و.جـ.ـع أبويا حتى لو بيحاول يبنلي في التليفون إنه كويس بس أنا حاسس بيه وعارف هو حاسس بأيه بالوقت ده.

ابتسامة صغيرة شقت طريقها على ثغره، وقال بصوته الرخيم: إنت ووالدك عندكم استعداد تخسروا نفسكم قدام وعد وعدوته. كنت مستغرب إنت ازاي قابل تعرض نفسك لكل المخاطر دي عشان بـ.ـنت عبرانية بس دلوقتي عرفت إنك اتربيت على ايد انسان عظيم بيحترم الوعود وبيسعى ليها.

وربت على ساقه وهو يستطرد: اطمن يا أيوب. أنا نازل مصر الاسبوع اللي جاي أوعدك إني مش بس هوصل ليونس ابن عمك أنا هفتح قضيته من تاني وأنا بنفسي اللي هحقق فيها أنا وفريقي وهقدر بإذن الله أثبت برائته.
دنى منه متلهفًا: بجد يا آدهم؟
ابتسم وهو يردد بثقة: سيب الموضوع ده عليا واطمن مش هخذلك أبدًا. وإذا كان معتز ده اللي ورا الموضوع فأنا هوديه ورا الشمس هو واللي وراه. كله هيتحاسب وبالقانون!

اضطرت أسفًا للعودة لجناحها لتحضير ثيابها وأغراضها الشخصية بالحقيبة، وقفت فريدة مترددة على باب الجناح، حرمت على ذاتها الدخول إلى هنا بعد أن كشف لها أحمد حقيقة زوجها الشيطاني، والآن تعود إليه اجبـ.ـاريًا.

مررت باب الغرفة وولجت للداخل تحارب كل ذكرى مقززة تندفع إليها، تزاحم عقلها بتلك اللحظة حينما سُلطت عينيها على فراشها، فرأته ينهض عنها وهو يصيح بجمودٍ: «مش عارف أمته هتحسي بيا يا فريدة، انتي أيه لوح تلج! »
جملة اخرى لا تغيب عن ذكراها
«أنا بحاول أعمل كل شيء يرضيكِ ويسعدك بس الظاهر إنك عمرك ما حبتيني يا فريدة! ».

«عشان خاطري حسسيني إنك بتحبيني وعايزاني ولو لمرة واحدة يا فريدة، أنا لما بكون معاكي بكره نفسي لما بحسك بتنفري مني ومش طايقاني حتى لو لسانك منطقهاش كل حتة فيكِ بتقولها! ».

الآن ترى انعكاس لصورتها، دmـ.ـو.عها تحتضن وسادتها ويدها تضم الغطاء لجسدها المهتز من فرط احتباس البكاء، قلبها يتمزق ومازال يستغيث بمحبوبها، مذاق ذلك الألــم قـ.ـا.تل لدرجة جعلتها لا تريد أن تتذكره، فركضت بعيدًا عن مخضع تلك الذاكرة التي لا تحتوي معشوقها معها.
صعدت للطابق العلوي قاصدة غرفته، فتحتها وهي تناديه بهلعٍ، وكأن أحدًا يحجر ندائها عنه ليفرقهما من جديدٍ: أحمد!

لم تجده بفراشه مثلما تركته، فكاد أن يجن جنونها، عادت تصرخ مجددًا: أحمد!
ارتعب لسماع صوتها الباكي يناديه، فأغلق مياه الدُوش ولف من حوله المنشفة الكبيرة، خرج يهرول للخارج، فوجدها تناديه وهي ترتجف دون توقف، أسرع إليها يحاوط كتفيها باستغراب: فريدة!

التقطت أنفاسها على مهلٍ حينما رأته أمامها، وراحت تردد بتشتتٍ: شوفته تحت يا أحمد. كان بيلومني بمنتهى البجاحة، أنا كنت فاكرة إني هواجهه بمنتهى القوة بس محصلش يا أحمد. خــــوفت يفرقني عنك تاني. الو.جـ.ـع صعب ومستحيل هقدر أتحمله تاني. والله قلبي مش هيقدر يعيش الألــم ده مرة تانية، لو اتفرض عليا أعيشه هقــ,تــل نفسي!

انصدm من حالتها الغريبة، كانت تغفو جواره منذ قليلٍ ونهضت تخبره بأنها ستغتسل وستجهز حقيبتها الخاصة، تفاجئ بحالتها الغريبة تلك لمجرد دخولها للجناح!
حمد الله بأنهم سيغادرون هذا المنزل، فرؤيتها هكذا سيزيد فوق و.جـ.ـعه و.جـ.ـعًا لا يطاق، أفاق من شروده على توسلها المؤلم: متبعدش عني تاني يا أحمد. أرجوك متتخلاش عني!

ضمها إليه وهو يهدهدها كالطفلة الصغيرة، وردد بحبٍ: مالك بس يا حبيبتي؟ أيه جاب سيرة الفراق! بذمتك ينفع نتكلم عنه واحنا حاليًا بنأسس لحياتنا في مملكتنا الجديدة؟
ومرر يده على خصلات شعرها القصير وهو يخبرها: صدقيني لو أعرف إنك هتكوني بالحالة دي لمجرد دخولك الجناح مكنتش سبتك تدخليه من غيري.
وأبعدها وهو يخبرها بابتسامة جذابة: استنيني هنا هلبس هدومي وننزل مع بعض.

وبمرحٍ قال: ونشوف بقى شبح الأخ سالم ده هيطلعلك ازاي وحبيبك موجود ومعاه تعويذة العشق اللي هتحرق أعتى العفاريت والأشباح حتى لو كان مارد!
رحل عنها الاستياء وتمردت ابتسامة واسعة جعلته يبتسم بحبٍ، فانسحب يبدل ثيابه واتجه بها للأسفل يعاونها على حزم أمتعتها!

جلست على الفراش تراقب ما بيدها بوجهًا اصطبغ بحمرة الخجل، لا تعلم كيف فعلتها؟، فبعد أن انتهت من العمل صعدت برفقة مايسان بسيارتها، وتفاجئت لها تذهب لأحد محلات الملابس للسيدات، فاشترت لها قميصًا أبيض من الستان وصممت أن تقدmه لفاطمة التي رفضت وبشـ.ـدةٍ، ومع اصرارها أخذته منها ووقفت تراقبها وهي تشتري لنفسها من نفس المكان.

وضعته فاطمة لجوارها وهي تخبئ وجهها خلف يدها باحراجٍ، كيف ستفعل ذلك وهي لا تعلم كيف ستستقبل حالتها النفسية ما قد تخوضه برفقة علي، تخشى أن يزداد الأمر سوءًا فهي لا تحتمل أن تخوض حالة نفسية تزيد ما تواجهه، حتى وإن كانت على علم بأنه الوحيد القادر على التعامل مع حالتها.

تمكن منها الحـ.ـز.ن والضيق فبداخلها يرغب أن يمنح على حياة زوجية طبيعية مثل باقي الأزواج ورغمًا عنها تخشى خوض تلك التجربة التي قد تزيد من قسوة ما تحمله من ذكرياتٍ.
استدارت تجاه الفراش بعد أن اتخذت قرارها، فجذبت القميص واتجهت لحمام غرفتها تغتسل وقد عزمت أمرها بـ.ـارتدائه!

الساعات تمضي ومازال الشباب بأكملهم متراصون أمام غرفة الجراحه تاركين صبا تستريح بغرفة والدة جمال لحين خروجها، ومازال عمران ويوسف يلتصقون به على نفس الأريكة في محاولة لتخفيف حدة الأمور عنه، حتى أن يوسف أرغمه بتناول الطعام الذي أحضره سيف.
وعلى الأريكة الحديدية المقابلة لهم جلس على ولجواره آدهم، والأريكة المجاورة لهما حملت سيف وأيوب.

مرت عليهم ثلاثون دقيقة أخرى حتى خرج الأطباء تباعًا يُبشرونهم بنجاح الجراحه الحرجة، وأن الممرضات بالداخل يُهيئونها للخروج لغرفتها، أدmعت عين جمال فرحًا وأسرع يستقبل سرير والدته المتحرك بصدرٍ رحب ولجواره على الذي أشار له بضرورة التمهل بحركتها.

حمل عمران ويوسف طرف الغطاء وعلى وجمال فحملوها معًا لفراشها، وأسرعت صبا بتعديل ملابسها طابعه قبلة على جبينها ويدها، فهي لم تعاملها الا كأبنة وقد بادلتها الاخرى بأسمى معاملة الابنة للأم!
امتلأت الغرفة بالاطباء يعيدون توصيل الاجهزة إليها، ورفضوا وجود أحدًا بالغرفة لحين استقرار وضعها، فبقى جمال برفقتها وطلب منهم جميعًا بالانصراف فالوقت بات متاخرًا، وأمام اصراره رضخ الجميع.

اجتمعوا أمام بوابة المشفى يستعدون للرحيل، فمال يوسف على أذن آدهم يهمس له: حاول تبعد عمران وتلهيه شوية، محتاج أتكلم مع أيوب عن حالة آديرا ولو سمعني هيبهدلني أنا وهو.
ترددت عنه ضحكة رجولية مرحة، واكتفى بهزة رأسه، إتجه إليه يلف ذراعه حول كتفه يخبره بملامح جادة: عايزك يا عمران.
اتبعه عُمران ليميل على طرف الطريق في مقابلة الشباب بينما سحب يوسف أيوب جانبًا يسأله: طمني الجـ.ـر.ح عامل أيه؟

زوى حاجبيه باستغراب: جـ.ـر.ح أيه! آآه لو تقصد جـ.ـر.ح آديرا فأنا معرفش مشوفتهاش غير امبـ.ـارح وأنا بوصلها لأوضتها.
ازدادت دهشة يوسف، فتجعد جبينه وصاح به: أيوب إنت بتهزر مش كده!
وجذبه إليه يعاتبه بصدmة: أوعى تكون بتنفذ كلام عمران وبتتجنبها وهي بالحالة دي! يا ابني جـ.ـر.ح بطنها خطير وكتفها متصاب لازم تأخد ادويتها في مواعدها، إنت عايز تمـ.ـو.تها جوه بيتك وتجيب لنفسك المشاكل!

شعر بتأنيب الضمير، لم يكن يومًا من هؤلاء القاسية قلوبهم حتى يفعل ذلك بها، هو الوحيد الذي يحمل ذاك السر الخفي الذي تركه له صديقه الراحل، هو الوحيد الذي يعلم جنسية آديرا وقصتها المجهولة عن الجميع حتى عن عمها، فلا يملك حق القسوة على تلك الفتاة بأي شكل من الأشكال، يعلم بأنه سيعاني ليجعلها تفق على حقيقتها ولكنه لطالما كان صبورًا معطئًا.

ترى ماذا فعلت طيلة اليوم وهي بمفردها، اصابة بطنها وكتفها ستعجزها عن الحركة بالتأكيد فهل تمكنت من تناول طعامها وأدويتها؟
تركه أيوب وهرول لأول سيارة أجرة، أوقفها وصعد بها أمام أعين يوسف الحانقة، وسيف الذي استمع الحوار المتبادل بينه وبين أخيه.

حاور آدهم عمران بعدة أحاديث وعينيه تتابع يوسف كالصقر، وحينما اهتدت لرمادية عمران وجده يمنحه نظرة ساخرة انهاها بقوله الجريء: مالوش لازمة تعمل الحوار الفاكس ده علشان تطرقني، ما أنا عارف إن يوسف هيعمل تحقيقه الطبي مع أيوب فميستهبلش بروح أمه على المسا!
ضحك آدهم وردد مازحًا: طيب أيه اللي مضايقك بالظبط إنه قدر يقوله الكلمتين ولا انك وقفت معايا الكام دقيقة دول!

ابتسم وهو يغمز له بمشاكسة: أنا أقف معاك من غير أي حاجة يا باشا.
تلاشت ابتسامة آدهم بشكلٍ مقبض حينما وجد انعكاس ضوءًا أحمر يحيط بكتف عمران، فعلي الفور سحبه للأسفل وهو يصـ.ـر.خ بفزع: حاسب يا عمران!
انطلقت الطلقة النارية مستهدفة قلب غريمها، على أخر لحظة انتشلها بها آدهم لتلتصق الطلقة النارية بسيارة عمران مسببة انهيار لزجاج النافذة.

صعق الشباب الثلاث وكان أولهم بالاستيعاب على الذي هرول تجاه أخيه صارخًا بهلع: عُمرااان!
ومن خلفه ركض سيف ويوسف يحيطان بمن يجلس أرضًا جوار آدهم الذي يحاول الوصول لذاك المسلح فصاح إليهم محذرًا: محدش يقرب. ابعدوا.
وجذبهم جانبًا حتى اكتشف أمره فترك المسلح محله ولاذ بالفرار، انتصبوا جميعًا بوقفتهم فأسرع على لأخيه يسأله بلهفة: حصلك حاجة؟ وريني.

بحث بجسده والاخير يتمسك به بشفقة: على أنا كويس متخافش الرصاصة مصابتنيش آدهم شـ.ـدني.
ضمه على إليه بكل قوته بينما صاح يوسف بصدmة: مين ده وعايز يقــ,تــلك ليه يا عمران؟!
هز كتفيه باهمالٍ، فسأله آدهم بتخمين: إنت ليك عداوة مع حد.

أجابه وهو ينظم أنفاسه المتـ.ـو.ترة: أنا رجل أعمال يا آدهم، رصيدي في البنوك بيزيد مع الوقت وشغلي بيزيد بشكل يخليني عندي أعداء بعدد شعر رأسي، بس الجدير بالذكر إننا كلنا بـ.ـنتنافس بشرف في السوق، اللي يقدر يقدm جودة وسعر أفضل فمسبقش اني اتعرضت ولا مرة لمحاولة قــ,تــل.
تساءل سيف بدهشة: لو مش حد من شغلك أمال مين؟!
أجابه وهو يزيح جاكيته وجرفاته باختناق: أكيد الكـ.ـلـ.ـب اللي ييهدد زينب.

واتجه برأسه لاخيه يهتف: بعد رسالة امبـ.ـارح اللي وصلتله وده كان رده.
ردد آدهم بحيطةٍ: مهما كان اللي بينكم مدام لجئ للسلاح يبقى الشخص ده مش عادي ولازم تحذر منه يا عمران، عملها مرة مش هيتردد يعملها مرة تانية خد بالك.
ارتاب سيف لأمره الغامض، فقال بقلق: اذا كان ده رده عليك يا عمران هيكون رده أيه على زينب! الشخص ده مجرم خطير يا على لازم تخلوا بالكم.

استند على جسد السيارة وردد بتمعن: احنا استهونا بيه ولازم نرتبهاله صح!
وصل أيوب لشقة آدهم بوقتٍ قصير، هرول للداخل قاصدًا غرفتها، طرق على بابها وهو يناديها بقلقٍ زرعه يوسف داخله: آديرا!
لم يأتيه ردها فعاد يكرر ندائه مضيفًا: آديرا. هل أنتِ على ما يرام؟
وحينما لم يأتيه أي رد قال: سأدخل للغرفة الآن.

وبالفعل حرر مقبض الباب وولج للداخل يبحث عنها، فصعق حينما وجدها ملقاة أرضًا جوار الفراش فاقدة للوعي، وبقع الدmاء تحيط بطنها وكتفها.
أسرع إليها ينحني ويرفع جسدها إليه وهو يحركها بصدmة: آديرا ما بكِ؟
فتحت جفونها الثقيلة ببطءٍ فتمكن من رؤية التورم المحيط بهما من أثر البكاء، وبصوتها المبحوح همست: أيها الإرهابي هل تنتوي قــ,تــلي؟

وانهمرت دmـ.ـو.عها تلك المرة وهي تخبره بلومٍ: تركتني دون طعامًا أو ماءًا أتناول به دوائي وأنا عاجزة عن النهوض للبحث بالخارج، إن كنت تنفر مني لهذا الحد لما لم تتركني ألقى حتفي أمام باب منزل صديقك!
وأغلقت عينيها تستسلم للظلام مجددًا وهي تستكمل بعتابها: حتى الهاتف لم تتركه لي فكيف سأصل لك ولست أملكه!

وعادت تهسهس بكلمة أخيرة أضحكته رغمًا عنه: أيها الإرهابي أرجو منك أن لا تخبر صديقك المتوحش بأنني نعتك بها والا سينحر عنقي المسكين!
ساندها أيوب للفراش وجذب هاتفه يرسل برسالة ليوسف ببقع الدmاء المحيطة لكتفها وجـ.ـر.ح بطنها فأرسل له رسالة قصيرة
«غيرلها على الجروح وعقهما بسرعة قبل ما تلتهب ومتنساش الادوية مهمة جدًا لان فيها مسكنات شـ.ـديدة».

برق بفيروزته بصدmة مما طُلب منه، فخرج للمرحاض يبحث به عن عدة الاسعافات الأولية، حملها وعاد لغرفتها.
وقف أيوب قبالة فراشها يوزع نظراته بين العُلبة التي يحملها وبين بقع الدmاء المحيطة بأماكن جروحها، فجلس على الفراش يردد بـ.ـارتباكٍ: هعملها ازاي دي بس! ده عمران لو شم خبر مش بعيد يلفني في علبة هدايا ويبعتني مصر للشيخ مهران باعتراف بخط ايدي!

وعاد يتطلع لها وهي غائبة الوعي، فزفر هاتفًا بحنقٍ: وبعدين بقاا هعمل أيه؟!
أزاح عنها كنزتها برفقٍ، ويدها تتشبث بكتفيه تكبت صرخاتها، دmـ.ـو.عها تنهمر دون توقف، فهمس لها بصوته الحنون: تحملي قليلًا. سأنتهي سريعًا أعدك بأن ذلك لن يـ.ـؤ.لمك.
هزت آديرا رأسها إليه، ما تجهله هي بأنها أصبحت تكن له ثقة لم تضعها يومًا بعمها المخيف هذا، حمل أيوب القطنة البيضاء وغمسها بالمطهر ومن ثم مررها على جـ.ـر.حها برفقٍ، غمست أظافرها بكتفه وهي تصرخ ألــمًا.

أغلق فيروزته يحتمل إلتحام أظافرها الحادة بلحم كتفه مسببة له إصابة دامية، وكأنه تود أن يشاركها ألــمها، احتمل واستكمل ما يفعله حتى عقم جـ.ـر.ح كتفها الأيسر وفور أن انتهى وضع اللاصق الطبي ليضمن نظافة الجروح وعدm تلوثها.

جذب أيوب كنزتها الملقاة أرضًا ثم عاونها على ارتدائها مرة أخرى، وحملها للفراش لتحصل على راحة أكبر من بقائها على هذا المقعد، استدار ليغادر المطبخ فاعتدلت آديرا سريعًا حينما لاحظت بقع الدmاء الخافتة المحيطة بكتف أيوب من الخلف، ما أحدثته أظافرها الحادة كان محرجًا لها للغاية، فنادته على استحياءٍ: أيوب.
توقف عن استكمال طريقه واستدار لها فقالت بحـ.ـز.نٍ: آسفة لم أقصد أن أؤلمك.

خـ.ـطـ.ـف نظرة سريعة لكتفه ثم قال وعينيه تتحاشى التطلع لها: لا عليكِ. أنا بخير.
وترك الغرفة وإتجه للمطبخ يعد لها عشاءًا سريعًا، فجذب الشطائر ومرر عليها بالسكين الجُبن وصنع لها كوبًا من الحليب ومن ثم عاد إليها يضع الصينية على الكومود ومن جوارها الأدوية والمياه قائلًا: تناولي طعامك ولا تنسي الدواء.

جذبت الصينية إليها تلتهم ما بها بنهمٍ جعله يشعر بتأنيب الضمير، غادر أيوب غرفته وإتجه لحمامه الخاص يغتسل ومن ثم فرض سجادته وأدى صلاته بخشوعٍ تام، وحينما انهاها جلس أرضًا منهمكًا، وكل ما يجوب خاطره أخر كلمـ.ـا.ت تركها له صديقه، السر الذي وضعه بين صدره وتركه ورحل بمنتهى البساطة!

زحف بجسده حتى وصل لخزانة صغيرة موضوعة بالغرفة، جذب منها حقيبته التي يرتديها على ظهره حينما يذهب للجامعة، فتحها أيوب وأخرج منها ذاك الدفتر المدفون بكتاب صديقه الخاص وأخر ما يتردد له سماع صوته ووصيته.

«أيوب حينما تشعر بأن آديرا قادرة على تقبل الحقيقة التي أخبرتك بها فسلمها ذلك الدفتر، وحينها سيكون أمامها خياران، أما أن تظل مستعمرة من قبل ذلك النَّجِسُ، وأما أن تسلك الطريق الذي سلكته أنا لألحق بمن ضحت بكل شيء لأجلي ولأجلها! ».

تشنجت يده على ما يحمله حينما فُتح الباب من أمامه وطلت آديرا منه، فدث أيوب الدفتر العتيق داخل الكتاب الخاص بصديقه وأعاده للحقيبة، بينما وضعت آديرا الصينية المتبقية بالطعام جانبًا وخطت إليه بخطواتٍ متهدجة تحتمل بها آلآم جسدها هاتفة بصوتٍ باكي: الكتاب الذي كنت تحمله يخص أخي! لطالما رأيته معه، أنا أريده من فضلك!
أعاد أيوب الحقيبة للخزانة وأغلقها مرددًا: ليس الآن.

استندت على الحائط واقتربت منه تتوسل إليه ببكاء: أرجوك أنا أريده. كان أخي يكتب به باستمرار، لعله ترك لي رسالة أو أي شيء!
استدار إليها يخبرها بهدوءٍ: سأعيده لكِ بالوقت المناسب. أعدك.
استسلمت أمام اصراره وهي تعلم بأنه لن يفعل الا ما يريد، فاستدارت لتغادر فإذا بها تحيط بالفراش بتعبٍ، دفعه ليمسك يدها، وعاتبها بضيق: ما الذي أتى بكِ إلى هنا؟

رفعت رأسها إليه وهي ترى النفور والرفض بملامسته لها باديًا بعينيه، رجفة يده التي تساندها كلما اقترب كانت تؤلمها، وأكثر ما يوجـ.ـعها بأنها كانت تشعر بأنه مجبورًا على مساعدتها.
انهمرت دmـ.ـو.عها تباعًا وسحبت كفها عن يده وهي تستند على الحائط قائلة: رأيتك تدخل الغرفة دون أن تتناول طعامك فجيئتك ببعض الشطائر، ولكني سأخرج الآن وأعدك بأنني لن أزعجك أبدًا.

تعلقت بالحائط وتحركت لتعود لغرفتها فكادت بالسقوط لترنح خطاها، حاصر خصرها بذراعه يمنعها من السقوط، وقال: دعيني أساعدك. تحملك على جـ.ـر.حك سيـ.ـؤ.لمك بالتأكيد.
ابعدته مجددًا وحاولت بمفردها وهي تهتف باكية: ابتعد فحسب، أنا مستعدة لتحمل الألــم أهون من رؤيتك تنفر مني لتلك الدرجة.
تركته خلفها مشـ.ـدوهًا، شاردًا بكلمـ.ـا.تها وحـ.ـز.نها البادي على ملامح وجهها الأبيض، فأدركها تغادر الآن غرفته وتستند لتصل لغرفتها.

أسرع أيوب للخزانة، يجذب حقيبته مجددًا والتقط منها عُلبة قطيفة من اللون الأزرق، حملها وأسرع خلفها يوقفها: انتظري.
توقفت عن استكمال طريقها دون أن تلتفت إليه، فقال من خلفها: ألا تريدين الاحتفاظ بشيءٍ يُذكرك بأخيكِ؟
استدارت له بلهفةٍ، ورددت بسعادة: نعم بالطبع أريد ذلك.

قدm لها أيوب العُلبة، فاسندت جسدها للحائط ومدت يدها تلتقط العُلبة وتفتحها بتلهفٍ كبير، وجدت داخلها سلسال فضي اللون، ينتهي بزخرفة على شكل كلمة فشلت بالتعرف عليها، رفعتها إليها تلامس الكلمة باستغراب زوى تجاعيد جبينها وأيوب يتابعها باهتمامٍ، فتقابلت عينيها به وسألته بحيرة: بأي لغة كتبت تلك الكلمة؟
ابتسم وهو يجيبها: العربية.

رمشت بأهدابها الطويلة بدهشةٍ، فلماذا يترك لها أخيها كلمة عربية هل هي سرية ليجعلها مشفرة صعبة الفهم عليها، فماذا يقصد بكل ذلك؟
اهتدت برأسها لجنسية أيوب العربية، وسألته بنبرة رقيقة: هل تعرف تلك الكلمة؟
هز رأسه ببطءٍ، فقالت: أخبرني بها.
تمعن بالسلسال لثانيةٍ ثم قال لها: س، د، ن...
وبعد أن لفظ حروفها بالانجليزية نطقها لها بالعربية: سدن.
رددتها من خلفه بحروفٍ منكـ.ـسرة، تجاهد لنطقها صحيحًا: سداان، سن، سدن!

ابتسم وهو يراها تحاول جاهدة نطق الاسم الذي تجهل بأنه اسمها الحقيقي، ومع ذلك حافظ على جموده واتزان قامته قبالتها، ليستقبل سؤالها القادm: وما معناه؟
سحب نفسًا مطولًا وهو يخبرها بصدmة ستستقبلها الآن: إسمًا معناه خادmة الكعبة الشريفة.

ضيقت عينيها بعدm فهم لما قال، فاستفاض يخبرها: الكعبة المشرفة هي قبلة المسلمين في صلواتهم، وحولها يطوفون أثناء أداء فريضة الحج، كما أنها أول بيت يوضع في الأرض وفق المُعتقد الإسلامي، ومن مسمياتها أيضاً البيت الحـ.ـر.ام، وسمـ.ـيـ.ـت بذلك لأن الله حرم القتال فيها، ويعتبرها المسلمون أقدس مكان على وجه الأرض، فقد جاء في القرآن الكريم: بسم الله الرحمن الرحيم.

?إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ 96?
صدق الله العظيم.
سرت رعشة مخيفة بجسدها وبدأت معالمها تنكمش بانزعاجٍ، فصاحت بانفعالٍ ظاهري: ولماذا قد يترك لي أخي شيئًا كذلك!
ادعى برائته الكاذبة ورفع كتفيه بحيرة: لا أعلم.
وبخبثٍ ماكر قال وهو يمد يده لينتشلها منها: إن كنتِ لا تودين الاحتفاظ بها لا بأس سأعديها للحقيبة مجددًا.

أغلقت عليها يدها وكأنه سيتنزع روحها منها، أخر ذكرى تركها أخيها تعني لها الكثير ولن يستطيع أن يأخذه منها: لا. سأحتفظ بها.
ووضعتها حول رقبتها أمامه فابتسم أيوب وتنهد براحةٍ، وحينما وجدها تستدير إليه رسم الثبات والهدوء فقالت: لعله كتب شيئًا بمذكراته يخص السلسال، فلتقدmه لي لأرى!

ابتسم على مكرها ومحاولتها لاستمالته لطلبها المتكرر، فقال بحزمٍ تحرر بخشونة صوته: انتهينا آديرا. أخبرتك بأنك ستحصلين عليها بالوقت المناسب. والآن غادري لفراشك واستريحي.

وتركها وغادر لغرفته يغلقها من خلفه ويتجه لفراشه يجذب كيسًا من البسكويت يتناوله ليسد جوعه، متجاهلًا طعامها الموضوع لجواره، يمـ.ـو.ت جوعًا ولا يمس طعامًا لمسته يدها، نعم يفعل ما يضطر لفعله ولكن إن تركت طريقها هذا ربما حينها سيتبدد داخله ظاهرة الاشمئزاز التي تنتابه دون ارادة منه!
طرق باب الغرفة قبل أن يطل بوجهه من خلفه متسائلًا ببسمة جذابة: حبيبة قلب أخوها صاحية ولا نايمة؟

اعتدلت شمس بفراشها وهي تخبره ببسمتها الساحرة: صاحية يا دكتور. اتفضل.
ولج على للداخل يستند على خزانتها الوردية وهو يمنحها نظرة حنونة، تتشبع من معالمها وكأنها ستفارقه غدًا.
وضعت شمس حاسوبها وكتبها على الكومود واعتدلت بجلستها تتساءل بدهشة: في حاجة يا علي؟

ربع يديه أمام صدره الصلب وأجابها: بحاول أشبع منك. مهو انتِ هتفارقيني مرتين مرة بعد كتب كتابك ومرة تانية بعد فرحك. بالمناسبة أنا اديت لآدهم جواز سفرك علشان يحجز تذاكر السفر للقاهرة الاسبوع اللي جاي، أنا كمان نازل بعدكم بيومين فربنا يصبرني بقى لحد ما أجيلك. ورجوعنا هيكون مع بعض لحد ما تمتحني وننزل كلنا عشان الفرح.

ابتسامة مشرقة اتسعت على ثغرها وهي تتخيل مرورها بكل تلك الاحداث مع حبيبها الذي احتل كل ذرة داخلها، وتمكن أخيها من رؤية حبه الذي فاق حد النخاع، فتنحنح ليجعلها تنتبه إليه، فقال: نامي بدري علشان آدهم هيجي ياخدك الصبح يجيبلك فستان كتب الكتاب.
وقبل أن تتفوه بحرف رفع يديه باستسلام: قولتله إن مفيش داعي بس هو اللي مُصر. هيكون عندك على عشرة الصبح.

واقترب إليها ينحني طابعًا قبلة عميقة على جبينها قائلًا: ربنا يفرحك باللي اختاره قلبك يا روح قلبي، متسهريش كتير نامي وارتاحي.
وتركها وأغلق بابها وهو يهتف: تصبحي على خير.
غادر على وتمددت هي على الفراش تحتضن ذاتها بفرحةٍ، ومن ثم نهضت ترفع جسدها وتقفز على الفراش مرددة بحماسٍ: هشوفه بكره!

انتظرته كثيرًا وقد تأخر الوقت، شيئًا ما بداخلها يخبرها بأنه ليس على ما يرام، جذبت مايا اسدالها ترتديه واضعة حجابها على شعرها الطويل بإهمالٍ، فصادف أن لحظة خروجها من الغرفة هي ذاتها اللحظة التي وطأت بها قدm عمران أخر درجات الدرج، فابتسمت فور أن رأته، أما هو فهاجمه شعورًا غريبًا ما بين الاشتياق إليها والخــــوف من فكرة خسارتها الأبدية.

ماذا إن لم ينقذه آدهم من مقتبل تلك الرصاصة؟ ماذا إن تمكن منه شبح المـ.ـو.ت فقبض روحه وغادر تلك الحياة؟ بالطبع كان سيفتقدها كثيرًا بل أكثر مما يتخيل، أسرع إليها عُمران يقطع تلك المسافة المتبقية بينهما وبحركةٍ واحدة ضمها إليه، يدفن رأسه بخصلاتها المنسدلة من خلفها.

قدmيه تتحرك بها للخلف حتى ولج بها لداخل غرفتهما فأغلق بابها من خلفهما، يتجه للفراش بها ومازالت رأسه تميل على كتفيها، رفعت مايا يديها تحتضنه وسألته بقلقٍ: عمران مالك؟
ذراعيه القويتيان يُحاوطانها بشـ.ـدةٍ، فألتمست حاجته لوجودها بالقرب منه، مسدت على ظهره بحنانٍ، فأحكم من عناقه وهمس في أذنها: متبعديش عني خليكِ جنبي، حُضنك بيريحني يا مايا!

قالها وهو يجذبها لصدره بقوةٍ ومال بها للفراش غير عابئ بحذائه وملابسه، أغلق عمران عينيه باستسلامٍ للنوم فتسللت عنه ونهضت تنزع عنه حذائه، وجذبت الغطاء تداثره بقلقٍ يعتريها تجاهه.
تمددت جواره واستندت برأسها على صدره تردد وعينيها تتأمل ملامح وجهه الرجولية: لأخر يوم في عمري هكون جنبك ومش هسيبك يا عُمران!

دخل غرفته وهو ينزع جاكيته وجرفاته باختناقٍ، خـ.ـطـ.ـف نظرة للفراش فوجده مرتبًا، اندهش على لعدm وجود زوجته فاتجه للحمام يتفحصه وناداها بقلقٍ: فطيمة!
فركت أصابعها بـ.ـارتباكٍ وتمتمت بخفوتٍ وهي تختبئ بالخزانة: أيه اللي خلاني أمشي ورا كلام مايا وألبس اللبس المحرج ده. أروح فين دلوقتي يا ربي!

أسرعت للجزء الخاص بملابسها تبحث عن مئزر لترتديه فطرقت على جبهتها بتذكرٍ: أنا لمـ.ـيـ.ـت هدومي كلها وبعتها مع حاجة فريدة هانم بالعربية أيه الغباء ده!
جابت عينيها خزانة على فوجدته يحتفظ ببذلة واحدة تركها ليرتديها بالغد وهو يستعد للذهاب للمركز الطبي، جذبت فاطمة جاكيت الحلى وإرتدته سريعًا، في نفس لحظة اقتحامه للخزانة فردد بلهفة: انتي هنا يا فاطيما وأنا آ...

ابتلع باقي كلمـ.ـا.ته حينما وجدها تقف قبالته بجاكيت تحاول اخفاء قميصها الأبيض الظاهر من خلفه عنه، كونها أردت أن ترتدي ثيابًا تريح نومها وإن كانت مغرية هكذا جعلته سعيدًا.
طال صمته ومازال يتطلع لها، فتنحنح وهو يستعيد صوته الهارب: إنتِ بتعملي أيه عندك؟

توزعت نظراتها لكل مكانٍ بالخزانة الا عينيه، فحك أنفه وهو يخفي ابتسامته لرؤيتها مرتبكة، خجولة أمامه هكذا، رنا إليها علي يجذبها بيده لتقترب منه وانحنى ليصل لقامتها الصغيرة، هامسًا بمكرٍ: لابسة جاكت البدالة بتاعتي ليه يا فطيمة؟
لعقت شفتيها بـ.ـارتباكٍ وقد تلون وجهها كحبات الكريز، فتلعثم قولها: بردانة.
ضيق رماديته بشكٍ، ولكنه أراد أن يمشي بكل خطواتها فقال: أفتحلك الدفاية؟

هزت رأسها تشير بالنفي، فمال عليها يخبرها: رجعتي في قرارك ليه؟ أنا مستهلش إنك تثقي فيا يا فاطمة؟
تعانقت المُقل ببعضها البعض، فسرى إليها رعشة احتلت وجدانها، فأجلت أحبالها الصوتية: أنا بحاول عشانك يا علي.
اتسعت بسمته وجذبها لصدره يهمس بحبٍ: وده كافي بالنسبالي يا روح علي!

تمسكت به وسحبت نفسًا مطولًا من رائحته، كأنها باتت بآدmانه كالمـ.ـخـ.ـد.ر، وقالت على استحياءٍ: ليه ازازة البرفان اللي بتحط منها مبتبقاش بنفس الريحة اللي بشمها أول ما بقربلك!
ضحك مصدرًا صوتًا وقال: لإني مش بحط من نوع واحد يا فاطمة.
وأحاطها بقوةٍ وردد لها بصوتٍ مبحوح تأثرًا بعاطفته: قولتلك كل ما تحبي تشمي البرفيوم بتاعي احـ.ـضـ.ـنيني أنا!

رفع ذقنها إليه ليقابل عينيها، وقال بمكرٍ: على فكرة أنا كمان بحب ريحة الشاور بتاعك بس بحاول على قد ما أقدر مبينلكيش عشان متفكرنيش برمي كلام للقرب فتغيريه!
جابهته بنظرة قوية وثبات فجأه: ما أنا عارفة عشان كده بأخد دُوش بيه دايمًا.
رفع حاجبه باستنكارٍ، فتعالت ضحكاتها بانتصارٍ تحققه عليه، لانت تعابير وجهه المشـ.ـدود وهو يراقب ضحكتها التي زادت من جمالها جمالًا، أصبحت كالفتنة التي تستنزف كل قوة داخله للصمود.

وجدته هائمًا بها فتوقفت عن الضحك وقابلته بنظرةٍ عاشقة، رفع على يده يحيط خدها وبحبٍ قال: ضحكتك تجنن! ابتسامتك تغوي القديس!
ودنى إليها يستند على جبينها وهو يستطرد بهمسٍ: وأنا بني آدm بيتمنى قربك يا فاطيما.
أغلقت عينيها بقوةٍ حينما سبقها على درب الغرام يطالبها بتتبعه، فحاولت أن تسرع بخطاها لتتمسك بيده، وجدته ينزع عنها جاكيته فتركته وهي تكاد تقــ,تــل من فرط الخجل.

حملها على للفراش، وتمدد جوارها متعمدًا أن يصل عينيه بعينيها، يحاول أن يجعلها ترى نظرات العشق الخامدة داخله، أصابعها تنغمس بين أصابع يدها، عاطفته توازيها فلم يسبقها بخطوةٍ لم تستعد لها بعد!

كان عطوفًا لينًا للغاية، يبرع بقراءة تعابير وجهها باهتمامٍ حتى إذا شعر بأي شيء يبتعد، يخشى أن تنتابها نوبة قـ.ـا.تلة وهي بين ذراعيه يقسم أنه إذا حدث حينها لن يسامح ذاته أبدًا، ولكنه يعلم بأنها مثله تريد أن تجمعهما علاقة عادية مثل أي زوجًا وزوجة، وكونه الرجل عليه أن يسبق بخطوته تجاهها، وكونه طبيبًا يعلم خطورة ما يقدm على فعله ولكنه يتمنى أن شهور علاجه لها تجني ثمارها، نجاح علاقتهما سيحقق نجاحه كطبيبٍ خاض مرحلة علاج كانت شبه مستحيلة.

تشنج جسدها بين يديه جعله يهمس لها بعشقٍ: بحبك يا فاطمة، بحبك!
استرخت وعينيها المترقرقة بالدmـ.ـو.ع تنـ.ـد.مج بنظرة عينيه الدافئة، وحينما وجدته يبتعد ليتركها وضعت يدها على صدره مستهدفة موضع قلبه، فابتسم وهو يتمم زواجه بها فعليًا وقولًا حتى باتت زوجة له بعد معاناة قضتها وقضاها هو برفقتها!

صمت الليل وتخفى بظلامه خشية من ضوء الشمس النافذ، تململت بفراشها بانزعاجٍ من صوت منبه الهاتف الذي أعدته للاستعداد للذهاب للعمل، فتحت عينيها فوجدته يغفو قبالتها ويده تحيطها بتملكٍ، ابتسمت فاطمة وهي تتأمله بحبٍ لدرجة جعلتها تتناسى كل شيءٍ، إلى أن استقبل هاتفها رسالة من مايا، فتحتها
«صباح الخير يا طمطم. يلا استعدي ربع ساعة وهنزل. »
برقت وهي تهمس بصدmة: هتأخر من تاني يوم!

أبعدت الغطاء عنها وهرعت لحمام الغرفة تغتسل وفور أن انتهت طرقت على جبهتها وهي تصيح بانفعال: نسيت أخد لبس معايا، أنا مالي كده!
قضمت أظافرها بعنفٍ، واتجهت تفتح باب الحمام، تتطلع تجاه الفراش فوجدته مازال يغفو بعمقٍ، نادته بخفوتٍ: علي، علي!
اعتدل بنومته على ظهره وفتح عينيه يردد بنوم: صباح الخير يا حبيبتي.

اندهش حينما لم يجدها جواره فاتجه ببصره للحمام فوجدها تختبئ وتخبره بصوت احتقن بخجلٍ قـ.ـا.تلٍ: معلش ممكن تفتح الشنطة اللي عندك وتخرجلي منها هدوم مناسبة للشركة، أنا اتاخرت ومايا بعتتلي.
منحها ابتسامة جذابة ونهض يتجه للحقيبة قائلًا: انتِ تؤمري أمر حبيبتي.

رفع الحقيبة يفتحها، بحث بين محتوياتها حتى انتقى بذلة نسائية من اللون البني، وسحب أغراضها الشخصية ثم اتجه إليها يقدm لها ما بيده، فقالت من خلف الباب: علي.
طرق على الباب باستغراب: أنا هنا يا فطيمة. افتحي خدي اللبس!
بحرجٍ عظيمٍ قالت: ممكن تغمض عينك؟
تمردت ضحكاته وبصعوبة يقمعها حتى لا يخجلها، فأغلق عينيه وقال: حصل.

اشرأبت من خلف الباب تتأكد من أنه يغلقها بالتأكيد وسحبت ما بيده وأسرعت بغلق الباب بوجهه بعنفٍ، فلم يقوى بالسيطرة على ضحكاته التي انفجرت فجأة مرددًا باستنكارٍ: حبك أيه في قفل الأبواب بوشي همـ.ـو.ت وأعرف!

واتجه لخزانته يجذب بذلته الوحيدة المتبقية، انحنى يلتقط جاكيتها الملقي أرضًا فعادت إليها ذكريات ليلة الأمس، ابتسم على ورفع جاكيته إليه يقربه لأنفه، أغلق عينيه بتلذذٍ حينما تركت رائحتها المنعشة أثرًا عليه.
خرج للغرفة ينتظر خروجها ليغتسل ويستعد ليومه المجهد، فما أن خرجت حتى ردد بانبهارٍ: ما شاء الله يا فطيمة زي القمر.

ارتبكت قبالته فأسرعت بلف حجابها واتجهت لباب الغرفة تهتف بتلعثمٍ مضحك: اتاخرت، أنا معرفش مكان الشركة، عمران ومايا هيمشوا ويسبوني. عملت المنبه بس انشغلت بيك ونسيت معاد الشركة.
لطـ.ـمـ.ـت شفتيها برفقٍ وهي تصيح بعدm تصديق: أيه اللي أنا بقوله ده!

ألقت كلمتها وهرولت راكضًا من أمامه فضحك من أعماق قلبه على ارتباكها البادي أمامه، فاتبعها حتى وصل لدربزاين الدرج يتأملها وهي تركض للأسفل بنظرات حالمة، رؤيتها اليوم بتلك الحيوية والنشاط يزيد من سعادته باتخاذ عمران قرار عملها، وحينما كان شاردًا أتاه صوتًا ذكوريًا من خلفه يردد
بقالي قرن معاك جوه البيت ده وأول مرة في حياتي أشوفك من غير قميص! بس تصدق طلع عندك عضلات بالرغم من إنك كسول ومبتلعبش رياضة!

استدار على للخلف فوجد عمران قبالته يتمعن به وكأنه لوحة فنية عرضت على أحد الحوائط، انتبه لكلمـ.ـا.ته فتطلع لذاته بدهشةٍ، كيف اتبعها للخارج دون أن يعي بأنه لا يرتدي سوى بنطاله الأسود.
أسرع على لغرفته بحرجٍ، ليس هو ذلك الفتى الجريء الذي يستعرض جسده طوال الوقت، حتى حينما يغفو لا يستغنى عن ملابسه العلوية تحسبًا لدخول شقيقته أو والدته أو حتى أخيه.

تعالت ضحكات عمران المشاكسة، فاتبعه وهو يصيح ساخرًا: بتخزى من أخوك يا دكتور!
أغلق على باب غرفته بوجهه وصاح به: وصل شمس لآدهم تحت وبطل وقاحة على الصبح يا عُمران!
اتسعت ابتسامته واتجه لغرفة شقيقته، طرق بابها وولج فصعق حينما وجد الغرفة بأكملها عبـ.ـارة عن مجموعة من الأَحْجِبَة والاسكارف، ومن بين تلك الفوضى تظهر شمس بالكد وهي تعقد الحجاب من حول رقبتها بقوة جعلتها تسعل بقوةٍ وتجاهد لالتقاط أنفاسها.

ركض عمران إليها يبعد عنها الحجاب من حولها وهو يصيح بدهشة: يخربيتك عايزة تنتحري يا بت!
التقطت أنفاسها اللاهثة وهي تجيبه بصعوبة: وحياتك أبدًا يا عمران. بحاول أتحجب بس الطرحة مش راضية تثبت!
جحظت عينيه صدmة، فوزع نظراته بين لبسها المحتشم والحجاب القابع بين يده ثم ردد بسخرية: بركاتك يا سيادة الرائد!

وتنحنح بخشونة يخبرها: وماله ده شيء يسعدنا كلنا بس إلبسي بعقل بذمتك عمرك شوفتي واحدة بتلف الحجاب حولين رقبتها شبه اللي لافة حبل المشنقة كده!
هزت رأسها بنفي، واتجهت للفراش تجلس عليه بـ.ـارهاق: هعمل أيه بحاول وفشلت.
وضع حقيبته الصغيرة على السراحة، وجاب الغرفة بعينيه حتى سقطت نظراته على اسكارف صغير أسود، فجذبه وألقاه بوجهها قائلًا: أعتقد ده بيتلبس الأول. بشوف مايا بتعمل كده!

التقطته منه بابتسامة واسعة، وقفت شمس أمام المرآة ترتدي ما بيدها، مسح عُمران على وجهه بعصبية: صبرني يا رب. أنا بحاول أكون محترم مع الناس بس هما اللي بيجرجروني للوقاحة ولساني الطويل.
واتجه إليها يجذبها من شعرها البني الطويل المنسدل خلف ظهرها من داخل الأسكارف هاتفًا من بين اصطكاك أسنانه: ده أيه يا بت ديل حصان!
وتابع بعصبية بالغة: ولا يكنش حجبتي النص القدmاني واللي ورا لسه مدخلش في أوكازيون التوبة!

برقت بعينيها بدهشة: مش المفروض الطرحة طويلة وهتدريه.
كور يده بشكلٍ جعلها تتراجع للخلف حتى صعدت على جسد السراحة: اهدى يا عمران مش كده الله، إنت اللي شكلك متعرفش في أمور الحريم هروح أشوف مايا أو فاطمة إبعد.
لحق بها وهي تهرول من أمامه: مشوا الاتنين يا فقر، روحي لزينب هتلاقيها في أوضتها لسه.

أمأت برأسها وهي تهرول لغرفة زينب تعاونها بـ.ـارتداء حجابها لأول مرة، بينما هبط عمران للأسفل ليستقبل آدهم بنفسه، فصافحه بابتسامة مشرقة: أهلًا يا كابتن، شرفتنا.
رفع أحد حاجبيه بدهشةٍ من طريقته الرسمية، فمال عليه عمران يخبره: عشان الرقابة بس، بره البيت هتلاقيني واحد تاني بس هنا فريدة هانم ممكن يحصلها حاجة!

ابتسم آدهم واحتل مقعده المقابل لعمران، فتسللت عينيه للدرج يود لو يلمح طيفها ليطفئ ظمأ قلبه، ابتسم عمران ساخرًا منه وصاح: متبصش كتير مش هتنزل الوقتي وراها معركة الله يعينها عليها.
اخفض ساقه واعتدل بجلسته يسأله: معركة أيه!
هبط على للأسفل مرددًا ببسمة جذابة: أهلًا وسهلًا سيادة الرائد. نورتنا
انتصب بوقفته قبالته يبتسم في حضرة ذاك الراقي: بنورك يا دكتور علي.
أشار للمقعد بتهذب: اتفضل. استريح.

جلس محله مجددًا بينما اختار عمران الجلوس على ذراع مقعد علي، وانحنى عليه يهمس له: ها مش هتقولي كنت طالق عضلاتك وخارج بيها ليه كده على الصبح؟

منحه نظرة تحذره وهو يرسم ابتسامة لآدهم الذي نجح بقراءة حركة شفاة عمران فاخفى ضحكته بتمكنٍ، وفجأة أتاته هزة شببهة بالزلزال الذي يحيط بالمبنى العتيق فلا يترك له أثر فور رؤيته لتلك الفاتنة تهبط الدرج محدثة صوتًا موسيقي بحذائها، برق لوهلة يستوعب بأنها ترتدي حجابًا لمرتها الأولى، حسنًا كانت فاتنة بكل ما تحمله معنى الكلمة، لدرجة جعلته يتساءل بـ.ـارتباكٍ: شمس؟

ضحك على وأكد له بإيماءة من رأسه، بينما ذم عمران شفتيه وصاح: اصلب طولك يا حضرة الظابط وإياك تفكر تستفرض بالبـ.ـنت وهي معاك، أنا مركب Gps يعني هتلاقيني معاك في أي مكان.
لكزه على بغـــضــــب: عمران الله.
كز على أسنانه وهو يخبره بضيق: مش موافق على الخروجة دي يا علي، معقول تسيبه ياخدها كده عادي ولوحدها. أنا هروح معاها!

استغل انشغال آدهم بتأمل شمس ومال عليه: ميصحش كده يا عمران، بكره هتكون مـ.ـر.اته وآدهم مش الشخص اللي تشكك فيه.
جذبه إليه يخبره بنفس وتيرته: افرض استغل الوضع وباسها ولا اتـ.ـحـ.ـر.ش بيها مهي هتبقى مـ.ـر.اته بكره بقى!
احتقنت نظرات على فدفعه للخلف بنفورٍ: مش كل الشباب وقحة زيك يا وقح!

وتركه يستشيط غـ.ـيظًا وإتجه لآدهم قائلًا: متتأخروش يا آدهم، ولما ترجعوا أبقى تعالى على الموقع اللي هبعتهولك في رسالة، لإننا هننقل من هنا حالًا والعنوان هبعتهولك.
هز رأسه متفهمًا، بينما صعد على للأعلى قاصدًا غرفة زينب بينما دنى هو حتى أصبح قبالتها يجلي صوته الهارب بصعوبة: دي أجمل مرة أشوفك فيها يا شمس، الحجاب مخليكِ جميلة بشكل مش طبيعي.

رفعت عينيها إليه تخبره بحـ.ـز.ن: ده اللي كنت عايزة أقولك عليه لما صدتني بالكلام.
تسلل الضيق لمعالمه فأزاح نظارته القاتمة ومنحها نظرة جعلتها لا تود إبعاد عينيها عنه: أنا آسف. صدقيني والله أنا بعمل كل ده علشانك وبسبب زعلك ده أنا خليت دكتور على يكتب كتابنا بكره عشان أكون معاكي بطبيعتي وأقولك على كل شيء دفنته جوايا للحظة ما تكوني حلالي يا شمس.
ارتبكت أمامه للغاية، فتمسكت بحقيبة يدها ورددت بتـ.ـو.تر: مش هنتحرك؟

أشار بذراعه نحو الباب: اتفضلي.
كادت بأن تتبعه فأوقفها عمران حينما جذبها لاحضانه فجأة بنظرات تتحدى آدهم المبتسم لذاك الطاووس الوقح بتحد، بينما يهمس عمران لشمس: لو قربلك رنيلي وأنا أجيلك، أوعي يستفرض بيكِ يا شمس.
ضحكت بصوتها الانوثي، فنهرها بحدة: مينفعش حد يسمع صوت ضحكتك غيري يا شمس.
تطلعت له شمس بعدm استيعاب ورددت بمزح: عمران مالك ده هيبقى جوزي!
قال بغـ.ـيظ: لما يبقى بقى!

وتابع ورماديته مازالت تتحدى عين آدهم: المهم متتأخريش ولو قالك حاجة كده ولا كده كلميني على طول.
اتسعت ضحكتها وهي تهز رأسها بخفة، واتبعت آدهم للخارج وعمران يلحق بها، فتح آدهم لها الباب الأمامي فلوى عمران شفتيه قائلًا بحنق: كنت ناوي أقعدها ورا بس يلا هسامح بس عشان الصحوبية اللي كانت بينا.
ردد آدهم بمزح: كانت! لأ والله فيك الخير يا عم الطاووس!

منحه نظرة ساخطة قبل أن ينحني ويحمل طرف فستان شقيقته الأزرق الطويل، ليضعه من خلفها على المقعد والحنان والحب يلمعان بحدقتيه تجاهها مما جعل آدهم يبتسم وهو يتابعه وللحق لم يشعر بالانزعاج منه أبدًا، لإنه بطبيعة مهنته يعلم بمكنون من أمامه وهو يرى حب عمران المبالغ به تجاه شقيقته الوحيدة لذا تركه كما شاء فلكلُ حقًا عليها. إن كان سيكون زوجها فهو أخيها!

ولج على للداخل حينما استمع لسماحها له بالدخول، فولج يردد بهدوء: صباح الخير يا زينب، عاملة أيه؟
انتهت من عقد حجاب اسدالها وردت عليه بابتسامة واسعة: صباح النور يا دكتور. أنا بخير الحمد لله وخلاص جهزت شنطي هغير هدومي وهنزل على طول.
ضيق حاجبيه باستغراب: والجامعة يا زينب؟
بـ.ـارتباكٍ اجابته: مش هروح النهاردة. مفيش حد مع فريدة هانم كلهم خرجوا فمينفعش أنا كمان مكنش معاها.

أشار لها بالجلوس، وهو يراقب وجهها المجهد وكأنها لم تغفو منذ سنواتٍ فقال: زينب متحاوليش تقترحي حجج وأعذار علشان متنزليش الجامعة، إنتي من ساعة ما رسالة الحـ.ـيو.ان ده وصلتلك وانتي بطلتي تنزلي، طيب وبعدين؟!
ابتلعت ريقها بـ.ـارتباكٍ لمجرد ذكر اسمه أمامها، فردت بصوتٍ مبحوح: خايفة يا علي، لإني سبق وشوفت غـــضــــبه عامل ازاي، وبعدين ده تاجر سلاح مش فارق معاه لا حكومة ولا غيره.

استند بجسده على الطاولة المجوفة من أمامه وقال: معنى كده انك هتضيعي مستقبلك عشان خــــوفك منه يا زينب، طول مهو شايفك ضعيفة بالشكل ده هيستقوى عليكِ بكل ما فيه. أنا هسيبك النهاردة براحتك بس من بكره هتنزلي جامعتك تاني. واطمني أنكل أحمد كلم شركة حراسة وهيكون في عربية حرس معاكي في كل مكان لحد ما نوصل للبيه اللي بيهدد من بعيد وآ.

ابتلع باقي جملته، فكاد أن يخبرها بأنه تعرض لعمران ولكنه تراجع خشية من أن يحـ.ـز.نها، فنهض عن الأريكة وقال: هسيبك تغيري هدومك وهستناكي تحت متتأخريش علشان بمجرد ما فريدة هانم تنزل هنتحرك للبيت الجديد على طول.
هزت رأسها مجيبة: حاضر.

تركها وهبط للاسفل ينتظرهم، وأرسل رسالة لعمه يؤكد عليه أن ينتهي من أمر شركة الحرس بعدmا أخبره بالأمس عن تهديدات ذاك الأرعن لزينب وقد رأى أحمد أن الحل المناسب هو وجود حرس مُسلح لحمايتها فوافقه علي على الفور.
اتجه عمران بسيارته لشركته، فولج من بابها الرئيسي فوجد أيوب بانتظاره، ضيق جفونه بنظرة مرعـ.ـبة جعلت الاخير يرسم ابتسامة زائفة وهو يدنو منه: صباح الخير يا بشمهندس.

نزع نظارته السوداء وهو يمنحه نظرة مشتعلة، وهتف: نعم!
تنحنح بخفوتٍ: نعم أيه بقولك صباح الخير!
اقترب منه عمران وردد بنبرة منخفضة: عجبك كلام يوسف اللي قالهولك امبـ.ـارح صح!
ارتعبت نظرات أيوب تجاهه، فابتلع ريقه الجاف وهو يدعي عدm الفهم: كلام أيه؟
غيرتلها على الجـ.ـر.ح يا ابن الشيخ مهران!
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة، ورفع اصبعه يشير له بتـ.ـو.ترٍ: عُمران أنا آآ...
هدر بانفعالٍ ونظراته الحادة تحيطه: ولا كلمة. ورايا!

زفر أيوب حانقًا، يلعن تلك الظروف التي أوقعت آديرا بطريقه وأوقعته هو بطريق عُمران الغرباوي، صعد خلفه للأعلى وولج لغرفة مكتبه.
نزع عنه جاكيته وألقاه لسكرتيره الخاص حسام ومن ثم ألقى إليه رابطة عنقه فتلقفها بصعوبة كادت باسقاطه فوق مكتبه، وعاد يفاجئه حينما قذف إليه ساعته الباهظة، التقطها بين يديه ولكنه فشل تلك المرة بانتصاب وقفته المذرية فسقط بها أرضًا وذراعيه تعلو بالساعة.

أشمر عُمران عن ساعديه ببسمةٍ مخيفة، فالتفت وجهه لحسام يخبره بنبرة لطالما كانت تخص القــ,تــلى المأجورين: كويس إنها منكـ.ـسرتش والا كنت هتشرف جنب أخوك الشيخ أيوب في خارجته النهاردة.
وانتقلت رماديته لباب الغرفة يستطرد بفحيح الأشباح: خد الباب في إيدك وإنت خارج. أي مقابلات أو اتصالات مهمة حولها لبشمهندسة مايا
. من الأخر مش عايز أي إزعاج يفصلنا أنا وابن الشيخ مهران عن طلعتنا.

جحظت أعين أيوب صدmة، وكأنه يستعد لتقطيع جسده بالمنشار الحاد، فمال على حسام الذي يوزع نظراته بينهما بقلقٍ، همس له أيوب يستجديه: متمشيش يا حسام!
رفع كتفيه بقلة حيلة وهرول للخارج، فتراجع أيوب للخلف حتى التصق بالمقعد الذي خلفه، فسقط أعلاه والاخير ينحني إليه ويصوب نظراته القاتمة تجاهه.
أجبر صوته على التحرر متسائلًا: في أيه يا عُمران؟ إنت هتتحول ولا أيه؟!

طرق على ذراعي المقعد وبانفعالٍ شرس قال: غيرتلها على الجـ.ـر.ح يابن الشيخ مهران! ويا ترى بقى أيه اللي نتج عن الفعل ده! اتكلم أنا سامعك!
أبعد رأسه للخلف وهو يشير له بخــــوفٍ غريب: أقسملك بالله محصلش أي حاجة. ولولا ان دكتور يوسف صاحبك اللي نبهني لخطورة اصابتها مكنت قربتلها نهائي!

أخذت أسنانه شفتيه السفلية يسحقها بعنفٍ يود أن يطول ذاك القابع أمامه، ومع ذلك استكمل أسئلته الطارئة: عملت أيه بعدها يابن الشيخ مهران؟

رفع ركبتيه للمقعد وكأنه سيهرول به من أمام ذاك االطاووس الوقح وراح يردد دون توقف: محصلش والله العظيم محصل. خد نفس عميق واستهدى بالله يا عمران عيب يا جدع تلميحاتك الوقحة دي. أنا سبق وقولتلك أنا شاب جامعي جاي هنا أدرس وأمتحن وأخد الشهادة وأرجع لأبويا الحارة، معنديش أهداف تانية فبالله إقلع الوش اللي يرعـ.ـب ده وسبني أمشي من هنا.

وتابع بنفس الوتيرة: هو كان يوم مش طبيعي يوم ما أخدني سيف أسكن معاه بشقته وهو نفسه اليوم اللي اسودت ملامحه يوم ما اتعرفت عليك مع إني اتعرفت على سيادة الرائد آدهم والبشمهندس جمال ودكتور على بس شهادة لله ناس محترمة وزي موج البحر الهادي إنت اللي مالكش كتالوج، زي السما شوية صافية وشوية مغيمة وفجأة يضـ.ـر.بها الرعد والبرق وكل العواصف!

ابتسم بخبثٍ مخيف وقال بجمودٍ تام وكأن ما قال لم يهز به شعرة: لو مش عايز عواصفي كلها تحضر هنا هتقول اللي حصل بالحرف والا مش هرحمك يا ابن الشيخ مهران.
لعق شفتيه الجافة وهو يرفع صوته الذي تخلي عنه: مآآ، حص، لش، محصلش!
صرخ به وقد تخلى عن كل هدوئه المخادع: انطق يا أيوب!

دفعه أيوب للخلف بقوةٍ جعلت الاخير يسقط على المقعد المقابل إليه وهو يصيح بعصبيةٍ: أكلتها وأدتها دواها وغيرتلها على الجـ.ـر.ح ورجعت أوضتي تاني ده اللي حصل تصدق أو متصدقش دي حاجة ترجعلك!
تعالت صوت أنفاسه المنفعلة بينما ارتسمت ابتسامة تسلية على ملامح وجه عمران واتجه ليحتل مقعده باسترخاء استراب له أيوب!

سحب القلم وأخذ يوقع بآلية تامة على الأوراق من أمامه وكأن الأخر لا وجود له، فردد أيوب بنزقٍ: أيوه يعني أفهم أنا من برودك اللي نزل عليك ده فجأة أيه؟!
رفع رماديته أيه ولف مقعده يهزه بتسلية، قائلًا: إني أخدت الحقيقة.
ولا كنت برغي فيه من الصبح كان أيه؟

ترك مقعده ونهض يلهو بالقلم وهو يشير إليه: علميًا الإنسان لما بيتعصب بيخرج الحقيقة كلها عمليًا أنا مصدقك من أول ما اتكلمت بس كنت حابب إديك عينة بسيطة عن اللي هيحصلك لو لعبت بديلك مع العبرانية!
حينما تهاجمك الدنيا بكل ما فيها، وتكـ.ـسر كل عزيمة تحليت بها، وحينما تجد ذاتك وحيدًا، بائسًا، تعتكف عن الحديث والشكوى حينما تصبح دون جدوى، حينها ستجد ذاتها تنحصر بجزءٍ صغيرًا يفترشه سجادة منظمة، وملابس نظيفة، وضوءًا كاملًا واقبالًا جميلًا يليق بالله عز وجل.

هي الآن ماسدة بين يديه، تبكي قهرًا وتفرغ كل ما بداخلها، خمسة سنوات مضت عليها ومازالت تدفع الثمن من عمرها الذي فنى فتقسم بأنها تخطت السبعون عامًا وإن كانت لا تتعدى الخامسة والعشرون، تجد سكينتها على سجادتها.
انتهت من صلاتها وجلست ترفع يدها وتردد بصوتٍ ذُبح فؤاده واحتقن بأوجاعها: يا رب لو كان حيًا يرزق هونها عليه وفك كربه وحبسه يا رب.

وتابعت ببكاء حارق وكأنها لا تحتمل نطق القادm: ولو كان مـ.ـيـ.ـت إرحمه وتقبله قبولًا حسن، يا رب لو كان عندك اجمعني بيه بعد مـ.ـو.تي يا رب.
انهمرت دmـ.ـو.عها تباعًا واهتزت يديها وهي تشكو بانهيار: حرموني منه يا رب. أخدوني منه وعـ.ـذ.بوني يا رب، فرقوني عن أكتر إنسان حبيته وطلبته منك في كل صلاة ليا. حرموني من حبيبي!، أخدوه مني وأخدوني منه يا رب.

ومالت على الحائط تبكي ويدها تكبت صرخاتها خــــوفًا من أن يستمع لها زوجها البغيض الغافل بغرفته، فنزعت حجابها تمسح به دmـ.ـو.عها الغزيرة وهي تهمس بضعفٍ: حقك عليا يا يونس، حقك عليا من ظلم الدنيا اللي شوفته كله يا نن عيني. كنت عاجزة يا يونس. معرفتش احاربه ولا أحارب أهلي. هو اللي أرغمني أرفع عليك قضية الخلع هو السبب اللي فصلني عنك يا حبيبي.

ورفعت يدها تحيط صدرها بموضع القلب، تطرق بها بقوةٍ: ده مـ.ـا.ت من بعدك يا حبيبي، مـ.ـا.ت ومبقاش له وجود من غيرك.
تعالى صدرها بانقباضٍ من فرط الانفعالات التي تخوضها، تخشب جسدها الهزيل فزعًا حينما شعرت بيد ممدودة على كتفها، فاستدارت للخلف بخــــوفٍ غادرها حينما وجدته صغيرها.
ضمته لها خديجة وهي تسنشق رائحته بقوةٍ، وتهمس له: أيه اللي صحاك من النوم يا حبيبي؟
أجابها الصغير فارس: ملقتكيش جنبي فخــــوفت.

رفعت رأسه إليها وهي تعزز من شجاعته: مفيش راجـ.ـل بيخاف يا فارس. قولتلك قبل كده لازم تتعود تنام لوحدك وتعتمد على نفسك.
ضمها الصغير وهو يتأمل دmـ.ـو.عها بقلقٍ، فتناست كل ما تردده وحاوطته بكل قوتها مرددة بخفوتٍ: عملت كل ده عشانك وعشانه. سامحني يا يونس!

تحشرجت أنفاسها بشكلٍ نبهها لزيارة أزمتها الصدرية المعتادة لها، حينما يزداد بها الحـ.ـز.ن والبكاء تزورها بحدةٍ وتواجهها بضراوةٍ، احتملت خديجة الآلآم واحتبست صوت أنفاسها المخيف عن ابنها، وضعته بفراشه وسحبت غطائه، وتسللت بخفة لغرفتها الرئيسية تبحث عن بخاختها لتنجو من اختناقها الذي يهاجمها.

وجدته يغفو على الفراش باستمتاعٍ مريـ.ـضًا بعدmا نجح بالمرة التي تفشل بعددها بالسيطرة على جسدها بعدmا يرضخها إليه بالضـ.ـر.ب المبرح كل مرةٍ، ارتجف جسدها بخــــوفٍ حينما تذكرت ما يفعله بها فسحبت كم الجلباب تخفي به آثار حروق جسدها البالغ واستكملت طريقها لدرج الكومود.

منحته نظرة منفرة قبل أن تسحب الكيس البلاستيكي تبحث بداخله عن بخاختها، فأصدر صوتًا أزعجه بمنامه فردد بفظاظة: اتهدي واتخمدي بدل ما أقوم أكمل على اللي باقي فيكي يا بـ.ـنت ال.
اعتادت سماع الاهانات المتكررة منه، فسحبت الكيس واتجهت للخروج، فشملها بنظرة محتقنة وادار ظهره هاتفًا: بخت تفطسي وأرتاح من قرفك إنتي وابنك!

تحجرت خطواتها على باب الغرفة واستدارت تختطف نظرة دامعة للمدعو زوجها، رغم أنه يعلم أنها تعاني من أزمة صدرية حادة إن انتابتها يومًا ولم تلجئ لجرعة البخاخ أو الأكسجين حينها ربما تغادر روحها جسدها المُنهك ومع ذلك يغفو براحةٍ وكأنها لا تعنيه بشيءٍ، تُجزم بأنه إن كان يعتني بجروٍ صغيرٍ لكان أبدى له تعاطفه الكامن.

سحبت أذيال الخيبة وإتجهت لغرفة ابنها مجددًا، تغلق بابها جيدًا، انزوت على الفراش المقابل لفراش صغيرها ترتشف البخاخ بقوةٍ كبيرة حتى هدأت أنفاسها واستعادتها رويدًا رويدًا، فارتخى جسدها كالمدmن الذي ارتشف جرعة من السموم فأرحته.

وضعت رأسها على الوسادة وارتخى جسدها يراحةٍ رغم عينيها الغارقة بالدmـ.ـو.ع، تشعر وكأن مفرش السرير الستان رغم نعومته بأنه خشن كالشوك، يزيد من جحيم جلدها المذري، تعيش هنا بذلٍ وإهانة، وخاصة خلف باب غرفة زوجها الموصود، بالداخل حيث يتم إهانته كأنثى تجرد من كل معنى الأنوثة، يعاملها بخشونةٍ وقسوة كأنها عاهرة أو فتاة ليل!

كل ما تنجح بفعله كل تلك السنوات أنها تحتبس صرخاتها بتمكنٍ خشية من أن يستمع ابنها الصغير لصوتها، صغيرها الذي اعتاد رؤيتها بملابس محتشمة للغاية تخشى ان يرى حتى ذراعيها المحترقة نهيك عن جسدها المشوه!

انهمرت دmعة خارقة على وجهها الأبيض، وهي تتذكره، حبيبها وزوجها السابق، تقــ,تــل ألف مرة وهي تضطر آسفة بنسبه بالزوج السابق، ذاك الذي آراها من الحب ما أروها، ضمها لأحضانه التي تفتقد حنانه إلى تلك اللحظة، ذاك الذي أقسم لها بأنه سيظل يعشقها حتى الرمق الأخير من حياتها.

تسعة وعشرون يومًا قضتهما برفقته، تسعة وعشرون يومًا انحفر ذكراهم داخلها، وكأن الجنة استقبلتها بين ذراعيها لتسعة وعشرون يومًا وبعدها لفظتها بكل ما فيها لجُهنم!
لاح لها ذكرى استحوذتها بداخلها.

ممكن تفهميني أيه اللي يستاهل عـ.ـيا.طك وحالتك دي! وفيها أيه يعني لو مجموعك مجابش الكلية اللي بتحلمي بيها!
قالها بصوته الحنون المهتم بكل صغيرة تشملها، رفعت عينيها الباكية إليه تخبره ببكاء: مستقبلي إتدmر يا يونس!
ضم شفتيه معًا يحتمل تألــم قلبه القافز بين ضلوعه، وردد بحبٍ وعينيه تجوب مكان جلوس والدتها: أنا مستقبلك يا خديجة!
وتابع بابتسامةٍ صغيرة: مش ده كلامك؟

أزاحت دmـ.ـو.عها وهي ترسم ابتسامة صغيرة على وجهها، فقال بإصرارٍ: بطلي تقابلي كل مشكلة تقابلك وكأنها نهاية العالم، مستقبلك عمره ما هيتدmر لو مدخلتيش الكلية اللي بتحلمي بيها، لو شوفتي ربنا سبحانه وتعالى أختارلك أيه كنت بكيتي وإنتي بتحمديه على إنه مفتحلكيش باب وراه مصاعب ومشاكل إنتي في غنى عنها، قومي اغسلي وشك واقعدي مع نفسك اختاري الكلية اللي هقدmلك فيها يا زينة البنات.

وعاد يخـ.ـطـ.ـف نظرة سريعة لوالدتها ثم دنى منها ليصبح قريبًا يهمس بعشق: هو أنا مش صعبان عليكِ ولا أيه، شيدي حيلك في المذاكرة كده عايز أدخل دنيا. الحارة كلها تشهد إني صبرت عليكي صبر مصبروش واحد عازب.
وتابع ببسمة ساخرة: بذمتك حد أهبل يكتب كتابه على واحدة وهي في تالتة إعدادي ويقعد جنبها يستنى لما تأخد الجامعة؟

أزاحت دmـ.ـو.عها وهزت رأسها بضحكة أشرقت تعابيره الجذابة، فردد مبتسمًا: منحرمش من الضحكة الجميلة دي يا زينة البنات!
تعلقت خضرة عينيها بعينيه البنية، ويدها تمتد تحتضن كف يده فبرق بمُقلتيه وهو يراقب والدتها هادرًا بتحذيرٍ: مامتك يا خديجة!
وتحرك بجسده لأخر الأريكة، ففركت أصابعها بحـ.ـز.نٍ، تعلم بأنه وبالرغم من أنه زوجها الا أنه يحفظه من نفسه جيدًا، الظروف الذي تزوجها بها ترغمه عنوة.

كان يريد أن ينتظرها لحين أن تنتهي من دراستها وحينها كان سيعقد القران يوم زفافهما، ولكن اصرار عمها عن أن يزوجها ابنه دفعه ليعقد قرانها بعد ان وجده عمه الشيخ مهران حلًا صائبًا خاصة بأنها تسكن بعمارته فلا يريد لابن أخيه ولتلك الفتاة بأحاديث تنطلق على ألسنة الناس من حولهم.

وتنحنح بخشونة وهو يشير له مازحًا: يلا يا عيوطة قومي كده غيري هدومك وارتاحي، لما أنزل ألــم هيبتي اللي ضاعت وسط الصبيان في المحل وهما شايفين معلمهم بيجري شبه الأهبل وكل ده بسببك، واقف استناكي من ساعتها عشان تطمنيني وانتي راجعالي عينك ورامة وواخده في وشك قافش على فوق!
أشارت بكتفيها ببراءة مصطنعة: كنت زعلانه هعمل أيه؟

تنهد بقلة حيلة ونهض يتجه للخروج: هنزل أطمن على أيوب أشوفه عمل أيه هو كمان ما أنا ربنا إبتلاني بيكم. طلعتوا عيني طول فترة امتحاناتكم بجري من لجنة للجنة كأني بطمن على عيالي الصغيرين!
ضحكت بصوتها كله فتابع بمزح: ولا وقت ما تخرجولي انتِ وهو وتراجعوا الاسئلة قدامي آه لما بيطلع عندك حاجة غلط وأشوف وشك بيجيب مـ.ـيـ.ـت لون ببقى هتهور وأقــ,تــل أيوب في كل مرة بيقولك على حاجة غلط.

تعالت ضحكاتها وأحمر وجهها من فرط سعادتها بحديثه المرح، فانحنى تجاهها يهمس بجدية تامة: أنا بسببك يا هانم كنت بحرضه إنه لو حصل يعني واتهوروا ولأول مرة يحطوا الشباب مع البنات بلجنة واحدة كنت بقوله يغششك في أي إجابة تقف عليكي، مع إني كنت لسه ظرفه خطبة طويلة عريضه عن الغش وجيت عندك وقولته حلال. اتمسخر بيا بس هعمل أيه مراتي ولازم أبقى حنين عليها!

وضعت يدها على صدرها تخبره من بين ضحكاتها: معتش قادرة يا يونس اسكت!
ابتسم وهو يتابعها بنظرة هائمة، وردد بعشقٍ: كده هتفائل بيومي كله. وكل ما أشتاقلك صوت ضحكتك الجميلة دي هتواسيني لحد ما أشوفك تاني.

منحته ابتسامة هادئة، وعينيها تنطق له بحبه القابع داخلها، انتصب يونس بوقفته وقال: هنزل أشوف أيوب قبل ما أعدي على المحل، العمال مشغولين بتشطيب المحل الجديد ويافتة يونس الزيات بقت مسمعه بالسوق كله وخصوصًا العروضات اللي عملتها على الادوات الكهربائية.

وعاد ينحني قبالتها مستطردًا بغمزة مشاكسة: تصدقي بالله كل ما بينزلي أجهزة كهربائية جديدة أنقي لبيتنا كام حاجة وفي الأخر أخاف لوقت جوازنا يكونوا نزلوا حاجة أحدث عشان كده بحاول أتكى على الصبر حبتين لحد ما زينة البنات تخلص دراستها وتشاورلي بس أجهز البيت من مجاميعه.

تسلل الضيق لملامحها الهادئة فنهضت تقف قبالته وتخبره عاقدة الذراعين: يونس أنا قولتلك قبل كده مش عايزة اتجوز بالبيت اللي اشترته ده أنا عايزة أفضل هنا. شقتك تحت أهي واسعة وجميلة محتاجة بس تتشطب وهتبقى جنة.
زوى حاجبيه بدهشةٍ وصاح: عايزة تتجوزي في شقة قديمة! دي قيمتك عندي يا خديجة!

أصرت على حديثها قائلة: مالها الشقة يا يونس. إنت ورثت في العمارة دي زي الشيخ مهران وعيشنا وكبرنا فيها، كمان محلاتك فيها من تحت يبقى لزمتها أيه تبعد ونسكن في نص البلد أنا مرتاحة هنا وخصوصًا إن ماما هتكون ساكنة فوقي.
تهدلت معالمه باستسلام لاقناعها، يعلم كم هي عنيدة لذا رضخ لها بابتسامته الساحرة: عنيا يا زينة البنات اللي تعوزيه كله يحضر!

اتسعت ابتسامتها ورددت باستحياء وهي تهرب من نظراته: تسلملي يا حبيبي.
ابتلع ريقه بـ.ـارتباكٍ، ودنى إليها يهمس: قولتي أيه؟
تمعنت بعينيه الشبيهة بالقهوة التي تحتضن لوح من الشيكولا الساخن، وتجرأت بقولها العـ.ـذ.ب: حبيبي وجوزي وكل حياتي يا يونس.
اتسعت ابتسامته بشكلٍ عينيها لا تفارق وجهه، وقال: كتير عليا كل ده يا زينة البنات!
همست له ووجهها قد تشرب بحمرة الخجل: إنت اللي كتير عليا يا يونس!

وكأن جملتها قد أرهنت الزمان ليستجيب لها، انحرمت منه وألقت لأشباه الرجـ.ـال يريها الفرق المعهود بينه وبين محبوبها، ذاك الذي كان يسميها على لسانه وقلبه وهاتفه زينة البنات، وكانت تراه هو خير الرجـ.ـال، الآن انتهت بها قصة عشقهما الخالد بفراق وو.جـ.ـعًا لن يهون على قلب بشريًا احتماله!

بلندن.
اتبعت سيارة آدهم الموقع المرسل إليه حتى وصل إليه، فوجد على يفتح البوابة الحديدية البيضاء ويشير له بالدخول، فقاد سيارته للداخل وصفها بالچراچ الضخم التابع للقصر الفخم، هبط هو أولًا وأسرع يفتح لها الباب هادرًا بمزحٍ: شمس هانم.
ضحكت حينما ذكرها بمعاملته السابقة لها حينما مارس دور الحارس الشخصي باجتيازٍ، فحملت طرف فستانها وانحنت تردد بنعومة: كابتن آدهم.

تمردت ضحكته الرجولية بشكلٍ لفت انتباهها فوقفت تتأمله بسعادة، وقال لها يحذرها: أممم هعديها كابتن دي. بس ولو لمرة ناديني باسمي الحقيقي يا شمس!
أدلت شفتيها للأسفل بحـ.ـز.نٍ مصطنع: والله ما لايق عليك الا آدهم صدقني!
ابتسم وهو يدنو إليها هامسًا بصوته المغري: أقولك سر؟
هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال: وأنا كمان.

وتابع وعينيه تشرد بالفراغ: والدتي الله يرحمها مكنتش بتناديني غير بيه. عشان كده حبيت الإسم وبستعمله أنا واللي حواليا في مصر. كلهم بينادوني بيه بس عند شخص واحد والكل بيناديني قدامه بإسمي الحقيقي عشان كده بنبهك من دلوقتي أنا في مصر قدام بابا أنا عمر مش آدهم.

رمشت بعدm فهم لحديثه الشبيه بالألغاز، فقال مبتسمًا: بابا وماما الله يرحمها اتخانقوا بعد ولادتي، كانت عايزة تسميني آدهم وهو مصمم إن لقب عيلته ميلقش بيها غير عمر الرشيدي. الظابط عمر الرشيدي زي ما طول عمره بيحلم، ومن هنا حصل انقسمـ.ـا.ت وخناقات فعاند وراح سجلني عمر وهي فضلت تناديني آدهم لحد ما في وقت من الاوقات كان بيحصلي لخبطة ومبقتش عارف أنا مين فيهم عمر ولا آدهم.

وتطلع لها بابتسامته الجذابة مسترسلًا: بس لما دخلت المخابرات اكتشفت إن دي نعمة. بتنقل بإسم حركي متقبله والاغلب عارفني بيه بس قدام بابا بمثل الدور اللي يراضيه خصوصًا إنه دايمًا بيلمس حبي الزايد لوالدتي الله يرحمها.

كونه يتحدث معها عن ادق أموره، بقائه برفقتها بعض الوقت بعد وصولهما، صبره معها وهي تتنقل من محلٍ لأخر حتى انتقت فستانًا يليق بحجابها الذي ترتديه لمرتها الاولى، كل تلك الاشياء جعلتها أسعد نساء العالم بأكمله، تتمنى أن يظل يتحدث وتراقبه بصمتٍ، فمالت على يدها تستند على مقدmة السيارة وتراقبه وهو يتحدث بصمتٍ تعجب له آدهم فنادها: شمس!
اعتدلت بوقفتها تهتف بحرجٍ: هااا، نعم!

قال وهو يتجه لصندوق السيارة ليجذب الفستان المغلف بعناية: إنتِ مش معايا خالص. شكلك تعبتي من اللف النهاردة.
لحقت به تراقبه وهو يحمل أغراضها بتريثٍ: لا أنا بس سرحت فيك شوية.
أغلق صندوق السيارة واستدار يسألها باهتمام: سرحتي في أيه؟
وضعت حقيبتها على كتفها وقالت بابتسامة عـ.ـذ.باء: حاسة إنك شخص مختلف عن آدهم الحارس اللي عرفته طول الفترة اللي فاتت.

فهم ما تقصده بحديثها، وقال برزانة: لإن اللي شوفتيه قبل كده كان بيقوم بشغله وبس. وسبق وقولتلك يا شمس تقربي منك كان من ضمن الخطة اللي حطناها عشان نوقع راكان بس اتقلبت ضدي وحبيتك.
وقطع المسافة المتبقية بينهما وهو يستطرد: بكره هتكوني مراتي على سنة الله ورسوله. هتقربي مني وهت عـ.ـر.فيني على طبيعتي. هحكيلك عن مشاعري وحبي الكبير ليكي. وإزاي قدرتي تحركي قلبي اللي كان مشغول ومش شايف أي بـ.ـنت حوليه!

وأشار لها بالخروج فاسندت يدها لصدرها، تربت على خفقاتها المتزايدة لحديثه، وعاونها بما تحمله ليقدmه لعلي الذي عرض عليه الدخول لرؤية المنزل من الداخل ولكنه اعتذر وأخبره بأنه سيراه بحفلة عقد القران غدًا، فوادعهما وغادر.

حمل باقة الزهور الحمراء بين يديه يقلبه وكأنه يتفحص ما يحمله، ثم عاد ببصره لمن يقف أمامه وتساءل بدهشةٍ رغم أنه أخبره منذ قليل: قولتلي الورد ده لمين ومن مين؟!
رغم غرابته ولكنه اعتاد عليه هكذا، فأجابه حسام: من دكتور على لمدام فاطمة.
عقد حاجبيه بشكلٍ مضحك وهتف: على أخويا أنا جايب ورد!
ورفع عينيه له يتساءل: متأكد يا حسام!

وكأن ما وضعه بين يديه قنبلة ذرية وليست باقة ورد بريئة، فوضع قبالته الظرف المطوي قائلًا: المندوب سلمنا الظرف ده كمان. ولإن حضرتك منبه علينا محدش يدخل مكتب البشمهندسة مايا جبتهم لمكتبك.
أشار بيده ومازالت رماديته تحيط الباقة بنظرة ساخرة: روح إنت، ومتنساش تسلم أيوب المبلغ اللي قولتلك عليه وتفهمه إن ده المرتب الاسبوعي ليه.

هز رأسه مؤكدًا، ولكنه لم يقمع فضوله فقال: بس الشركة ماشية بالنظام الشهري يا مستر عُمران!
رفع عينيه عن الباقة وسلطها إليه، وردد بعصبية: وإنت مالك دافع من جيب أمك!
جحظت عين حسام صدmة، فسحب عمران نفسًا طويلًا وردد: يا ابني الله يكرمك بقالك معايا هنا أربع سنين وعارفني لما بتعصب ببقى طور فبالله ما تحاول تعصبني لإنك عارف إن التداخل فيما لا يُعني أمك ده أول شيء بيعصبني!

وتابع وهو يمرر أصابعه على الباقة التي يحملها: يلا انصرف إنت بقى وسبني أشوف حكاية أخويا الدكتور المراهق أيه!
غادر من أمامه على الفور، فترك عمران الباقة على المكتب وأعاد ظهره لمقعده يتفحصه بنظرة شاردة، استند بذقنه على ذراعه قائلًا: الصبح طالعالي من غير قميص ودلوقتي باعتلها ورد وظرف مقفول!
وتابع ببسمةٍ خبيثة: شكل عِلوة دخل عش الزوجية!

انتهت أخيرًا من حسابات الملف المتبقى أمامها بـ.ـارهاقٍ، فلقد استنزف جهدًا عظيمًا منها، نهضت فاطمة عن مكتبها واتجهت لمايا تضعه من أمامها: شوفي كده يا مايا.
أبعدت عينيها عن شاشة حاسوبها لتراقب ما فعلته فاطمة بانبهارٍ، فاستقامت بوقفتها أمامها وقالت: ما شاء الله يا فاطمة والله بدون مبالغة إنتي شاطرة ودقيقة جدًا في حساباتك. حتى عمران لسه مورياه شغلك من شوية انبهر بيكِ.

وقبل أن تجيبها وجدت صوتًا ذكوريًا يقتحم حديثهما: حبيب قلبه جايب في سيرتي وشكله مشتاقلي وأديني جيت ألبي النداء!
صوبتله نظرة صارمة لوجود فاطمة ولكنه لم يبالي ودنى منهما، ووقف قبالة فاطمة يخبرها بابتسامة هادئة: كلامها صح يا فاطمة، أنا شوفت حسابات المشروع اللي اشتغلتي عليه امبـ.ـارح فأنا من دلوقتي هعتمد عليكي اعتماد كُلي، وهحتاجك الفترة الجاية جدًا.

سعادتها كانت تفوق حد الوصف، شعرت وكأنها بلحظةٍ أصبحت ذات قيمة، كانت ترى حياتها ساكنة دون جديد أو شيئًا يدعوها للحماس، كل ما بيومها يُذكر هو لقائها بزوجها الحنون، على ذكره الآن تلون وجهها بخجل وشوقًا لسماع صوته الغائب عنها طوال اليوم، بالطبع سيكون مشغولًا الآن بنقل بعض الأغراض للمنزل الجديد برفقة عمه ووالدته.
حانت من مايسان نظرة لما يحمله عمران بين يديه، فرددت بسخرية: جايبلي ورد يا مستر عمران؟

تأمل ما بيده ثم عاد يتطلع لها بنظرة أسقطتها بنبذ عشقه: الكون كله يحضرلك تحت رجلك يا حبيب قلبي بس الورد ده مش ليكِ.
ضيقت عينيها بنظرة تتحفز للانقضاض عليه، وببطءٍ شـ.ـديد قالت: أمال لمين يا بشمهندس؟
قدmه عمران لفاطمة وهو يسرع بالتبرير: من دكتور على الغرباوي لزوجته المصون.
وتابع وهو يخرج من جيب جاكيته الظرف: لأ وبعتلها جواب غرامي!

ابتسمت مايا بحماسٍ، بينما برقت فاطمة بدهشةٍ، حملت منه الظرف والورود ورددت بتلعثمٍ: ليا أنا!
اتجهت فاطمة لمقعد مكتبها بخجلٍ منهما، فلم يشاء أن يُخجلها فقال: لمي حاجتك انتي وفاطمة. عمي بعتلي وقالي لازم نرجع ضروري علشان نساعد معاهم. هستناكم في العربية تحت.

هزت رأسها بتفهمٍ وأغلقت حاسوبها ثم جمعت أغراضها لحقيبتها، بينما نزعت فاطمة طرف الظرف والتقطت الورقة الصغيرة تقرأ ما بها بعينيها وابتسامة عاشقة تزداد مع كل كلمة.

«كانت أجمل ليلة في عمري كله، كنت حاسس إني ملكت الدنيا كلها، قلبي من أول نظرة ضمك جواه ورافض يضم غيرك، بقيتي ساكنة في كل دقة من دقاته يا فطيمة، إني أوصل لقلبك ومشاعرك كان حلمي الأول ودلوقتي إن يكونلي ابن منك حلمي التاني وبفضلك بقى قريب يا فطيمة.
بحبك وحبك بقى علاجي النفسي من كل الضغوطات اللي بمر بيها.
علي، ».

ضمت الورقة إليها بكل حنان، وفرحتها لا تسع أحدٌ، لاحظتها مايا وهي تضع هاتفها ومتعلقاتها بحقيبتها فابتسمت لسعادتها وتمنت لها كل خيرًا صادق، وضعت الحقيبة على كتفها وتنحنحت لتفيق الأخرى قائلة: يلا يا فاطمة اتاخرنا على عُمران.

وضعت الورقة بحقيبتها ووضعت الورد بالمزهرية الموضوعة على مكتبها، ثم اتجهت إليها فهبطوا بالمصعد لعمران الذي تحرك بهما على الفور بعدmا انهى مكالمته مع جمال يطمئن على والدته التي استردت وعيها وبدأت تتلقى الأدوية بشكلٍ مكثفٍ.
بالقصر.

انتقل برفقتهم خادmتين سيواصلون العمل هنا، فحملوا أغراض شمس وزينب لغرفتهن القابعة بالطابق الثاني الخاص بالفتيات، اما الطابق الثاني فصمم على شكل جناحين كبيران جدًا لعلي وعمران، والطابق الأول بأكمله خصص لفريدة وأحمد.

صعدت زينب وشمس تعاون الخادmـ.ـا.ت بترتيب الاغراض وتبقى على بالأسفل جوار أحمد وفريدة يتناقشون بتزين القاعة الداخلية للحفل بالغد، فقال أحمد: متقلقيش أنا اتفقت مع شركة متخصصة هيجوا بكره على الساعة عشرة يعملوا ديكور وزينة بسيطة، لما يوصلوا بلغيهم باللي تحبيه.

هزت رأسها باستحسانٍ، واتجهت لعلي الذي يعمل على حاسوبه ومازالت حقائبه لجواره: ما تطلع يا على تريح فوق إنت تعبت معانا من الصبح. أو على الأقل خلي حد من الخدm يطلعلك شنطك.
وضع كوب قهوته جانبًا وأجابها ببسمة هادئة: هستنى عمران الأول يختار الجناح اللي يستريح فيه ويكون مناسب للخزانة اللي حابب يعملها.
إنت اعظم أخ في الدنيا كلها أقسم بالله.

قالها عمران الذي استمع لحديثه، فجلس على ذراع مقعد على كما اعتاد وقال: شوف أنا لو فضلت للصبح أقولك بحبك أد أيه مش هعرف.
وانحنى إليه يهمس بغمزة ماكرة: بس أيه حركات الورد الروشة دي، الظاهر إني استهونت بيك يا دكتور.
منحه نظرة حازمة فضحك وهو ينهض عن مقعده، بينما الأخر يبحث عنها حتى وجدها تدلف برفقة زوجة أخيه.

قاطع أحمد حديثهما حينما أشار لعلي على أحد غرف الطابق السفلي: دي أوضة مكتب نظمتهالك مخصوص يا علي، فيها مكتبة ضخمة لكتبك والأهم فيها شاذلونج عشان لو حبيت تعالج حد من العيلة ولا حاجة.
تهدلت شفتيه بابتسامة ممتنة، وراقب باب الغرفة بحماسٍ، فقال: شكرًا يا عمي، مكان زي ده هيريحني جدًا.
لوى عمران شفتيه بتهكمٍ وردد: طيب وأنا يابو حميد. مفكرتش تعملي ليه خزنة محترمة أنقل ليها ساعاتي وجزمي وكل شيء غالي عليا.

منحه أحمد ابتسامة هادئة، وردد: مكنتش أعرف إنهم غاليين عندك كده، أنا فكرتي عنك إنك بتحب الحديد والأوزان جدًا علشان كده عملتلك في الدور الرابع جيم متكامل بأجهزة رياضية أحدث من بتاعتك.
جحظت عين عمران بانبهارٍ، وسأله بعدm تصديق: قول بجد؟
هز رأسه بتأكيدٍ فهرول إليه عمران ينحني ويحمله من ساقيه فاستند بيديه على كتفيه بصدmة، والأخر يدور به هاتفًا بفرحة: إنت أحسن عم وجوز أم محصلش ولا هيتكرر في العالم كله.

انصدm على والفتيات حتى فريدة، بينما صاح احمد بغـــضــــب: ولد! نزلني!
نجحت فريدة بالتخلص من حالة صدmتها فرددت بحزمٍ: عمران!
جذبه على وخلص عمه منه قائلًا: أيه اللي بتهببه ده!
عدل أحمد جرفات بذلته السوداء وصاح بتهكم: بتستعرض عضلاتك علينا يا وقح! عارفين يا سيدي انك بتعرف تشيل أوزان ومش محتاجين اثباتات احنا!

نزع عنه جاكيته وجرفاته وتطلع للدرج بنظرة شقية، كأنه يستعد للصعود للرقص، وصاح بحماس: مش فاضي للرد دلوقتي، ورايا الأهم من أي حاجة، وقت اختيار الجناح المناسب لتنفيذ فكرة الخزانة اللي جاتني. لما أنفذها وأنزلها على حسابات السوشيل ميديا بتاعتي تقدروا تتابعوا القلبان اللي هتعمله أفكار البشمهندس عمران الغرباوي عن اذنكم!

وتركهم وصعد للاعلى ينتقي الجناح المناسب لتصميمـ.ـا.ته، بينما صعدت الفتيات لغرفة شمس يستعدون لحفلة الغد.

انتهت من ترتيب ملابسها بالخزانة، تلك الغرفة تكبر الاخرى بمساحتها، حتى شرفتها كانت واسعة تطل على حديقة القصر الواسعة، أغلقت زينب عينيها تستمتع بنسمـ.ـا.ت الهواء البـ.ـاردة التي تحيطها، توجهت للمقعد الهزاز القريب من السور، جلست عليه وأخذت تهزه برفقٍ حتى استجاب جسدها المنهك للنوم، كانت غفوة مخادعة تسحبها لذكرى قـ.ـا.تلة، تزيد من و.جـ.ـعها.

سئمت من انتظاره، مضت أكتر من ثلاثون دقيقة منذ أن ناداه أحد رجـ.ـاله، فاستأذن منها وغادر المنزل الذي أصر أن يحضرها إليه بحجة أن يريها أحدث المفروشات استعدادًا لزوجهما بعد أن وافقت أن يزور أخيها ليطلبها بشكلٍ رسمي.

راقبت زينب ساعتها باستياءٍ لتأخره، فخشيت أن يغـــضــــب أخيها إن تأخرت بعودتها، سحبت حقيبتها واتجهت للمغادرة، فما ان اقتربت من باب الخروج حيث مكان وقوف يمان مع أحد رجـ.ـاله، استمعت له يخبره: كله تمام يا باشا، فؤاد بيه استلم صفقة الاسلحة مننا على الحدود بنفسه وسلمنا شنط الفلوس.
هز يمان رأسه باستحسان وصاح: والكـ.ـلـ.ـب اللي زرعته الحكومة بينا عملتوا معاه أيه؟

لعق شفتيه باجرامٍ مخيف: تويناه يا باشا هو ومـ.ـر.اته وابنه عشان يبقى عبرة لمن يعتبر.
برقت بمقلتيها صدmة لما استمعت إليه، فتراجعت للخلف ورأسه يميل يسارًا ويمينًا بعدm تصديق، تراجعت للخلف وكأن هناك شبحًا يتقدm تجاهها، فارتطم ساقها بقدm الطاولة من خلفها وعلى الفور سقطت الأنتيكة مصدرة صوت حطام قوي، أتى يمان على أثره ليتفاجئ بباب الشرفة الخارجي مفتوحًا على مصراعيه.

ركض للطابق العلوي يناديها ويفتش عنها بالمنزل بأكمله، حتى قابل الرجل التابع إليه بالأسفل يخبره: الهانم كانت بتجري على بره ووقفت تاكسي وركبته.
شـ.ـدد من لكمته على درابزين الدرج بغـــضــــبٍ بعدmا تأكد له بأنها استمعت لحديثهما، وأمر فرارها الآن أمرًا كارثي لا ينذر بالخير!

أفاقت من نومها تسعل بقوةٍ، وتلتقط أنفاسها المضطربة بانهيارٍ، وكأن ما رأته يحدث أمام عينيها الآن، ذلك اليوم كان بمثابة صفعة تركت أثرها على خدها إلى هذا اليوم، خروجها من المنزل جعلها ممتنة بأنها مازالت على قيد الحياة.

تأكدت بأن الخــــوف الذي كانت تشعر به كلما كانت برفقته كان لسببٍ، نظراته الحادة التي تطل وقت غـــضــــبه، غيرته المـ.ـجـ.ـنو.نة، همجيته بالتعامل مع أخيها وذاك النادل الذي تطلع لها كل تلك الأفعال لا تنتج الا عن مجرم مختل بالفعل!

مر الليل بسكونه وأتى صباح اليوم المنتظر، استيقظ الجميع باكرًا وتجمعوا على طاولة الافطار ليبدأ من بعدها الجميع بأعمالهم الهامة، فجلست شمس جوار عمران ومالت عليه وهو يرتشف قهوته قائلة: مش هتغنيلي النهاردة؟
وضع فنجانه قبالته وردد باعتراضٍ: لا يوم الفرح هغنيلك وأرقصلك كمان. النهاردة No.
أمسكت ذراعه تترجاه بدلالٍ: بليز يا عمران. طيب غنيلي دلوقتي أغنية
النهاردة هكلم ابوكي، قالها وروحى راحت يانى.

قالى ايه خدودك كسفوكي؟!، لونهم برتقالي
قالى دة عيوني استنوكي. رديت روح جيب فستاني، اللي متزوق باللولي عقبال كل البنات.
ضحك على وأحمد المتابعان لها، بينما اشمئز عمران هاتفًا بحنقٍ: مبحفظش الأغاني الهابطة أنا!
برقت بصدmة: دي هابطة دي. أمال ليك في أيه؟!
خرجت مايا من المطبخ تحمل طبقًا وضع بداخله المسك الطبيعي: سيبك منه يا شمس وتعالي علشان نلحق نخلص.
رددت وهي تميل برأسها على كتف عمران: مش قبل ما يغنيلي.

تناول على شطيرة الجبن وأمره برفق: غنيلها يا عمران احنا عندنا كام شمس!
صوب له أحمد نظرة منزعجة مما يفعله وقال بمكر: رغم إن صوت الطاووس الوقح ده بيزعجني بس عشان خاطر عيون شمس نستحمله. غني يا وقح!
رفع فنجانه يرتشف المتبقي به مرة واحدة وكأنه يبتلع الخمر، وردد بخبث: شكلي كده مش هحارب نعمان لوحده، هترتاح إنت لما أقلب على عيلة الغرباوي كلها يا أحمد باشا!

تعالت ضحكات أحمد ومازحه وهو يضع قدmًا فوق الاخرى بتعالي: لو حاربت العيلة كلها قلبك ميطوعكش تعملها معايا.
ابتسم عمران وقد ارتسمت الجدية على معالمه، فنهض عن مقعده واتجه يحتضن احمد طابعًا قبلة على منبت رأسه باحترام: إنت الوحيد اللي لو وقفت قدام الدنيا كلها أنحني قدامك بكل احترام يا عمي.
ضمه أحمد إليه بحبٍ، وارتسمت ابتسامة مشرقة على وجه فريدة التي تقترب وهي تتابعهما بفرحةٍ.

وبعد قليل نهضت فاطمة وزينب يرفعون الزينة خلف مقاعد العريس والعروس، ومن جوارهما يقف على على الدرج يعلق الزينة بالمكان التي تشير له فريدة الواقفة بالأسفل بكل عنجهية، وخطواتها تترك أثرًا في نفس ذاك العاشق الذي يراقبها.

علي بعد منهم جلس عمران يعد الموسيقى بهاتفه على السماعة الخارجية واتجه لمايا التي تضع المسك على وجه شمس بعناية، وما أن تحرر صوت الموسيقى حتى ارتفع صوته العـ.ـذ.ب يردد: «قولي لأمك يابـ.ـنت
جاية الليلة اطلب ايدك
ولا بعمري عاقل كنت
وحياة الاله بريدك
عشتا بطول وعرض الدني
مابعمرو راسي بينحني
لما دخلتِ بعمري غِني
من عمري نشالله يزيدك»
وارتفع صوته مجددًا وهو يحمل مايا عن المقعد يطوف بها بين ذراعيه هاتفًا.

«أنا لما بحب بحن بجن
بهدm بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
مال علي على مقدmة الدرج يتطلع لفاطمة التي رفعت رأسها عاليًا تقابل حـ.ـضـ.ـن عينيه الدافئ وصوت عمران يوثق عشق الدكتور على ومريـ.ـضته فاطيما
«أنا لما بحب بكفي بدربي بدوب بلحظة مني تقربي
بتضحك روحي بيفرح قلبي بضحكة عينك».

تركها عمران وإتجه لمقعد شمس التي تتمايل بفرحة وهي تستمع إليه، فانحني يضمها من ظهرها لصدره ورأسه مال على كتفها وهو يناغشها بكلمـ.ـا.ته
«بيك غلّى المهر كتير
فكرو بيغلى عليكِ الغالي
بيك عجزني ت يصير
عليا نجم وصولك عالي
لو فيي ألــماس بجيب
مابعمرو بيغلى عالحبيب
بيرخصلك عمري و بطيب
أنا دmي ومالي».

وإتجه تلك المرة لفريدة، مسك ذراعها بخفة ورقص بها ويده تدور بها لتستلقى على ذراعه الاخر مع انحناءة جسده برقي وطريقة آرستقراطية تعلمها جيدًا، فاءا بضحكاتها تعلو وخطواتها توازي خطواته وهو يغني بصوته الرخيم
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدm بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
«غمزيني بعينك ياروح
بغمزة ببيع الكون وهمو
ع أبعد دنيا منروح
بيرخصلك هالقلب و دmو
ميلي بخصرك صوبي ميلي.

تغنجي عليي تغميلي
ابني ع ذوقك سميلي
وعد تكوني وحدك امو! »
وعاد يردد بسمفونية عـ.ـذ.باء.
«أنا لما بحب بحن بجن
بهدm بحرق بقلب جن
الروح بغيباتك بتحن
بتنده وينك»
انتهى من اغنيته وانطلقت الصفقات المتحمسة من الفتيات، وبالاخص زينب التي قالت بانبهار: صوتك جميل أوي يا عُمران. غنتها أحسن من صاحب الاغنية نفسه.
استدار تجاهها وقال بابتسامة بشوشة: اعمليها بس وارتبطي وهغنيلك للصبح في فرحك.

تلاشت ضحكتها الواسمة وانغمست خلف ابتسامة بسيطة وايماءة من رأسها امتنانًا إليه.
هبط على من على الدرج الخشبي يشير للفتيات قائلًا: فضوا القاعة العمال وصلوا بره هيكملوا هما.
غادرت الفتيات للأعلى برفقة فريدة، فانقسموا ليستعدوا لارتداء ملابسهم.
جهز عمران طاولة ضخمة بالخارج أمر الخدm يتحضير مشعل ضخم للشواء، وقد جهزوا اللحوم منذ الصباح وبانتظاره.

مرت ساعات النهار طويلًا وأتى المساء، فانزوى كلا منهم بغرفته يستعد لارتداء ملابسهم.
انتهت مايا من ارتداء فستانها الذهبي وقد انتهت من حجابها وزينتها البسيطة، أما عمران فخرج من الخزانة ببنطاله فقط والوجوم يحتل ملامحه وهو يهتف بضيق: لازم أعمل الخزنة وأنقل حاجتي بسرعة مش واخد أنا على عدm النظام ده!
راقبته مايا بابتسامة ساخرة، وطالعت انعكاس صورته بالمرآة تخبره: هتتأخر كده يا بشمهندس.

زفر بمللٍ، وأعاد فتح حقائبه مجددًا يبحث عن قميصًا مميزًا لجاكيته الرمادي، انطلقت طرقات باب جناحهما تزف لهما وجود الطارق، فرددت مايا بصوتها الرقيق: ادخل.
ولجت شمس للداخل تحمل طرف فستانها الطويل وحجابها وهي تهتف بحماس: مايا، عايزاكي تحطيلي نفس الميكيب السمبل اللي كنتِ حطاه يوم حفلة افتتاح دكتورة ليلى.

جحظت بعينيها بصدmة وبرقت لعمران الذي انتصب بوقفته عن الحقيبة يحذرها بعدm الحديث ولكنه ما أن رفع يده حتى رددت كالبلهاء: مش أنا اللي كنت عملاه. عمران اللي كان عملهولي.
ألقى قميصه على الفراش هاتفًا بحنقٍ: أدي أخرة اللي يعمل حاجة للحريم!

رمشت شمس بعدm استيعابًا وتلقائيًا تحركت تجاهه، تقدm له حقيبتها المستديرة التي تخص أدواتها الخاصة، وقدmت له الحجاب، تناول عنها ما تقدmه ورفعه قبالتها بسخرية: ده أعمل بيه أيه ده كمان، أشنقك بيه بعد الميكب ولا أربط بيه لسان بـ.ـنت خالتك الطويل!
جذبت منه الحجاب ببسمة عريضة: sorry نسيت انك ملكش في لفة الطُرح
أشار له بسخطٍ على مقعد السراحه: اتلقحي عندك أما أستر نفسي وأجيلك!
رددت باستغراب: تستر نفسك ازاي!

أشار على صدره العاري وهو يهتف بمزحٍ مضحك: ملي عينك من العضلات عشان نفسك تتصد من شوال العضم اللي هتتجوزيه.
رفع حاجبها تتشـ.ـدق بعنجهيةٍ: مين ده اللي عضم، ده آدهم حبيبي طول بعرض بحلاوة بجمال بآآ.
كمم فمها بنظرة حانقة وبنزقٍ قال: عيب يا شمس. عيب تتكلمي كده قدام أخوكي يا حبيبتي. حتى لو الجثة اللي بتتكلمي عنها هتبقى جوزك كمان شوية.

هزت رأسها تطاوعه حتى لا تستفزه فيطردها من غرفته دون ان يضع لها الميكب، تابعتهما مايا وهي تكتم ضحكاتها بصعوبة، بينما حررها عمران وهو يخبرها بجدية مضحكة: اقتنعي إن مفيش راجـ.ـل في الدنيا كلها عنده امكانيات عُمران سالم الغرباوي. وده عشان متنصدmيش بس!
وغمز لها بغــــرورٍ: أخوكي عينة واحدة نزلت وقطعوا بعدها الكتالوج!

ربتت مايا على صدرها تستمحها بأن تسايره بالصمت وأن لا تستهدف عصبيته، فرددت شمس من بين اصطكاك أسنانها: يا حبيبي أنا عارفة ومتأكدة من ده. طب تصدق بالله أنا بتمنى يطلعلنا حالًا واحدة شبه اللي في الافلام الهندي وتقول لأ ده ابني مش ابنكم وتطلع مش اخويا واترجاك تتجوزني. مرضي كده يا عم؟
حك منخاره بانزعاجٍ ومن ثم ربع يديه حول خصره العاري: مش أوي كده!

وتركها واتجه للداخل مردفًا: هلبس وأجيلك نهيص في الألوان لحد ما نوصل للي عايزينه.
توجه للداخل يجذب قميصًا من الخزانة، ارتداه باهمالٍ وخرج إليها يجلس على طرف السراحة، اتخذ خمسة دقائق يتعرف على مستحضرات التجميل من أمامه.
مرر يده على خصلاته وهو يهمس: أشكالها اختلفت ليه كده!
اقتربت برأسها منه لترى ماذا يفعل: هو أيه اللي اختلف؟

أشار لها بانفعال: مكانك لو سمحتي محتاج أركز هنا! وبعدين أنا معرفش عملتها ازاي مع مايا صدقيني مكنتش متعمد أنها تطلع بالشكل ده.
وعاد يهمس وهو يدقق بوجهها وبالألوان التي يحملها: بشرتك أفتح من مايا يبقى نغمق اللون شوية، أممم، خلينا نـ.ـد.مج اللون البني مع اللون ده، لأ وحش.
وجذب الأخر ودmجه فاحتل ثغره ابتسامة رائعة، اقترب منها وبدأ مرددًا: استعنا على الشقا بالله.

اقتربت منه مايا فابتسم وهو يراها تركز بما يفعله وكأنها تسجل كورسًا مهمًا، وحينما توقف عن دmج اللون فوق عين شمس تطلعت له فوجدته يتأملها بنظرة أخجلتها، وخاصة حينما قال ورماديته تغمز لها: حبيب قلب جوزه شكله استعجل ومكيج نفسه وشكله حاسس بالنـ.ـد.م!
ضحكت وهي تؤكد له بإيماءة رأسها فقال وهو يمنحها قبلة بالهواء: ولا يهمك يا بيبي. حالًا اغسلي وشك وتعالي هخلص أختك وأزينك بإيدي انا ورايا أيه يعني!

ضحكت شمس وهتفت: عمران بما إنك مهندس وليك في تقنيات الألوان ينفع تختارلي لون مناكير كويس أحطه!
لزى شفتيه ساخطًا، وضـ.ـر.ب وجهها بفرشاة الحمرة: مفكراني البيوتي سنتر بتاعك، انتي تحمدي ربنا اني قاعد أضـ.ـر.ب الألوان وبحطلك، أنا أساسًا ماليش في الليلة دي، بس هعمل أيه قلبي الرهيف مش هاين عليه يزعلك وتفكري إني حطيت لحبيب قلبي وفكتني منك، واديني أهو بجتهد عشان أخرجلك شغل نضيف. سبيني بقا أركز!

منعت ضحكتها من الانفلات وتركته يعمل بتركيزٍ كما أراد.

بالأسفل.
اجتمع يوسف وجمال وسيف وآيوب، حتى صبا وليلى بالأسفل، ينتظر الشباب انضمام عمران إليهم ويحاول على بقدر الامكان التواجد برفقة أصدقاء عمران لحين ظهوره وأصبح سؤالًا واحد يتردد بينهم: أين عُمران؟!

أتاهم الرد يحلق فوق الدرج، حينما ظهر ببذلته الرمادية الجذابة، ممسكًا بزوجته بيده وبيده الاخرى شقيقته، هبطوا ثلاثتهم وسط نظرات انبهار الفتيات باطلالة شمس ومايا، والملفت بأنظارهن الدقيقة الميكب الرقيق والمتناسق لكلًا منهما.

بحثت عين شمس تلقائيًا عنه، فانفلتت شفتيها بانبهارٍ من ذاك الوسيم الذي ينتظرها بنهاية الدرج ممسكًا باقة ورد ضخمة من اللون الأبيض، يتألق بحلى سوداء اللون وقميصًا أبيض، تحوم من حوله جرفات سوداء، شعره مصفف بعناية وملامح اللون تتألق بشكل جذبها للغاية.
أما هو فكان يراقب تناسق الفستان الأبيض الرقيق حولها، حجابها الذي تركت أطرافه تنغمر من خلفها، زينتها البسيطة الذي زادت جمالها حد الفتنة.

انتهت خطواتها حتى أصبحت أمامه، قدm يده لها وتمهل بخطواته حتى تناسق خطواتها البطيئة بسبب طول الفستان.
استقروا معًا أمام المحامي، وأحمد يجلس قبالة آدهم، بينما على يجلس جوار شقيقته يضمها بابتسامة واسعة وهو لا يصدق بأن صغيرته باتت عروس.

لوهلة توقف عينيه على الدرج، فرأى فاطمة تهبط للاسفل برفقة زينب، ترتدي فستان من اللون السماوي، وترتدي حجابًا مماثل للونه، اتسعت ابتسامته وهو يطوفها بنظرة حنونة جعلتها تبادله البسمة، واتجهت لتجلس جوار صبا وليلى، ولجوارها زينب التي لاحظت اهتمام سيف برؤيتها وحملقته بها طوال الحفل.

وبعد أن انتهى المحامي من الاجراءات ووقع آدهم وشمس بـ.ـارك لهما زوجهما، فنهض آدهم وفاجئ الجميع بضمته القوية لشمس وقبلته التي أحاطت جبينها، وقبل أن تستوعب ما فعله حملها بين ذراعيه ودار بها وهو يهمس لأذنيها: سحلتيني من أول نظرة وخلتيني مش عايز غيرك. بحبك يا شمس.
وأوقفها بين ذراعيه فأمسكت به بقوة حينما شعرت بالدوار، لتقابل بابتسامة واسعة وهمس خجول: وأنا بحبك أوي يا آدهم.

ضمها إليه وردد بسعادة: خلاص بقيت ملكك وإنتِ كمان بقيتي ملكي يا شمس.
راقب عمران ما يحدث باستياءٍ ولكز على الذي يتابعهما ببسمة واسعة: هتفضل واقف ومُنشكح كده كتير!
مال عليه على يخبره بضحك: ده جوزها دلوقتي يا حبيبي، يعني بقت في عهدته فريح وروح سلم على أصحابك اللي متجاهلهم دول.
منحه نظرة ساخرة واتجه للمنصة الصغيرة قائلًا: استسلمت له بسهولة كده! بس أنا لأ!

واتجه ليفرقهما عن أحضان بعضهما البعض، ثم ضمها إليه وهو يمنح آدهم بسمة مستفزة قائلًا بمكر: معلش يا عريس ما أنا لازم أبـ.ـارك وأعمل الواجب بردو.
ابتسم له آدهم وأشار له بتفهمٍ، فاغتاظ عمران، كلما حاول مضايقته يفاجئه آدهم ببرودة أعصابه وتقابله الأمر، يُقسم أنه إذا كانت مايا تمتلك أخًا وغمسها بأحضانه مثلما يفعل لغمسه هو بأحضان المـ.ـو.ت.

بالأسفل. على طاولة الشباب.
انفجر جمال ضاحكًا وصاح لهم: عمران بيطلع نار من ودانه!
ضحك يوسف وردد: هيحط آدهم في دmاغه من دلوقتي!
سيف بضيق: صاحبكم ده مـ.ـجـ.ـنو.ن والله. بيغير على أخته من جوزها!
زم يوسف شفتيه وردد ساخرًا: ما بلاش إنت يا دكتور سي?و. أيوب متلقح جنبك أهو ويشهد!
انقشعت ملامحه بضيق بينما ضحك أيوب قائلًا: طلع عمران نسخه من سيف!
أضاف سيف بحـ.ـز.ن مصطنع: آدهم صعبان عليا أوي! عمران محدش يقدر يلاعبه.

رد عليه أيوب: لا حضرة الظابط باللي عمله من شوية بين أد أيه هو عاقل وراسي وهيعرف يحتوي عمران كويس متقلقش.
قال يوسف بمزح وهو يضـ.ـر.ب كف بكف جمال: محدش بيقدر يحتوي الطاووس الوقح اسالني أنا.
انطلقت الضحكات الرجولية فيما بينهم، حتى أدmها عمران حينما أشار لهم بتتبعه قائلًا: ورايا يا حلو انت وهو، علشان تبقوا تعرفوا تنموا عليا براحتكم!

اتبعوه للخارج بدهشة من حديثه، فصعقوا حينما وجدوه يقف جوار طاولة ضخمة من اللحوم ومشعل نار ضخم، أشار لهم ببسمة ماكرة: أنا بقول طقم البدل السودة دي حـ.ـر.ام تبوظ من دخان الشوي فأيه رأيكم تقلعوا الجواكت. متقلقوش وراكم اللي يساعدكم.
التفتوا للخلف فوجدوا الخدm بانتظارهم، نزع كلا منهم جاكيته وقدmوهم لهم، فعلقوا الملابس على المشجب بينما احتل كلا منهم مهمة.
صاح يوسف بتهكم: اانت عازمنا نأكل ولا نشقى بلقمتنا!

سعل جمال من رائحة الدخان وهتف: أنا غلطان اني سبت أمي وجيت أحضر الحفلة وأخرتها واقف أنش على اللحمة!
وضع سيف السيخ على الشواية وهو يلقي عمران نظرة غاضبة: وانت مقلعتش وجيت ليه تساعد يا عمران.
رفع كتفيه ببراءة مصطنعة: أنا أخو العروسة!
ردد على بسخرية بعدmا نزع عنه جاكيته ولحق بهم: على أساس انك عازب وواقف تصطادلك عروسة ولا أيه مش فاهم!

حانت منه نظرة للداخل وقال بخبث: لا وانت الصادق هوقع العريس. وأهو نجيبه يساعد.
كاد بتجاوزهم للداخل فوقف أيوب قبالته ممسكًا بالخضار والسكين، وقال بسخط: سيب سيادة الرائد في حاله يا عمران، سييه يتهنى مع عروسته واحنا شغالين بداله أهو. اتقي الله يا أخي!
ضيق جفونه بصدmة وأشار لذاته: أنا يتقالي اتقي الله ليه يا شيخ أيوب شايفني رايح أعزمه على ازازة خمرة!
وأشار بحدة: وسع من طريقي خليني أشوف شغلي!

اجتمعت الفتيات بالداخل تتبادلن اطراف الحديث، فانسدلت زينب من بينهن لرغبتها بالخروج للحديقة، خطت بالخارج وسط الأشجار والزهور باستمتاعٍ، لتخـ.ـطـ.ـف نظرات ذلك العاشق الذي ترك ما يفعله واتبعها دون ارادة منه.
تعثر طرف فستانها وكأنه علق بشيءٍ من أسفل قدmيها، فانحنت ترى ماذا هناك، تفاجئت بصندوقًا مغلق يخرج منه أداة حادة رفيعة للغاية انغرست بفستانها الازرق الطويل.

ابعدتها عنها وفتحت الصندوق بفضولٍ، فجحظت عينيها بصدmةٍ مما رأته بداخله لدرجة جعلتها تسقط أرضًا وتزحف للخلف وهي تصرخ بفزعٍ وبكاء دفع سيف بهرول تجاهها وانخفض يطوفها بذراعيه وهو يتساءل بهلع: في أيه؟!
عاونها على الوقوف أمامه ولكنها مازالت تصرخ بانهيار، فصاح بها: زينب مالك؟!
أمسكت بساعديه ويدها تشير للعُلبة بجنون: هيقــ,تــلني، يمان هنا، يمان هيقــ,تــلني!

تطلع تجاه العُلبة فاحتقنت معالمه بصدmة وغـــضــــب، فشعر بثقلٍ يُفذق على صدره، فاذا بها ترتمي عليه فاقدة الوعي، أحاطها بين يديه بإحكامٍ وهو لا يدري كيف سيعود للحفل بها هكذا، فإتجه بها للأريكة القريبة من حمام السباحة، ثم حمل المياه بيده ونثر بها على وجهها وهو يناديها بقلقٍ: زينب. افتحي عنيكي من فضلك!
وحينما لم تستجيب عاد يحمل المياه وينثرها مجددًا، هاتفًا: زينب سامعاني!
رددت ببكاء وشهقاتها لا تتوقف: سيف!

تصلبت أصابعه الحاملة لقطرات المياه وأكثر ما يسره سماعها تناديه حتى وإن لم تكن بواعيها الكامل.
استعادت زينب وعيها، فانتفضت على الاريكة تراقب المكان من حولها برعـ.ـبٍ، فترك ما بيده واتجه إليها يردد بهدوء: اهدي يا زينب، مفيش حد هنا.

عادت تتطلع للعُلبة التي تحمل قطة مذبوحة ووجهها مشوه بمياه نار، تراجعت لأخر الأريكة وهي تضم جسدها إليها وعينيها مازالت مسلطة على العلبة، فجذبها سيف ووضعها في صندوق القمامه المجاور لهما قائلًا: تلاقيها وقعت جوه الصندوق صدفة.

هزت رأسها نافية وقالت ومازالت تضم جسدها المرتجف: هو اللي عمل كده، لما هـ.ـر.بت مصر ووصلي هددني بمية نار إنه هيشوهني، وقالي لو هـ.ـر.بت تاني هيد.بـ.ـحني. هو اللي عمل كده علشان يخــــوفني، هيقــ,تــلني المرادي يا سيف، هيقــ,تــلني.
أشفق على حالها، فرفع بنطاله من ركبتيه وانحني قبالتها على قدmيه يتطلع لها بحنانٍ، ليفاجئها حينما قال: تتجوزيني يا زينب؟
استقرت عينيها التي تفتش بالارجاء عليه ورددت بصدmة: أيه؟

ابتسم وهو يشير لها بجدية تامة لا تناسب الموقف: أنا مستعد أحميكي منه يا زينب. أنا عايز أكون معاكي، عارف إن مستحيل يتولد بينا حب بالسرعة دي بس أنا برتاح لما بشوفك وحابب نكون مع بعض على طول.
نهضت عن الاريكة تشير له بجنون وكأن روحًا تلبستها، وراحت تهتف بتشتتٍ: هيقــ,تــلك يا سيف. إبعد عني، أي حد بيقربلي بيكون مصيره المـ.ـو.ت، إبعد يا سيف.

وركضت لتعود للقصر مجددًا فركض خلفها وهو يصيح بها: جاهز لكل ده يا زينب، صدقيني لو بقيت جنبك محدش هيقدر يأذيكِ.
وقفت محلها تستمع إليه وصوت بكائها يعلو دون توقف، فاستدارت تجاهه تقول ببسمة ألــم: تفتكر إني مش عايزة إنك تكون قريب وجنبي! بس صدقني مينفعش إنت متعرفهوش يا سيف، ده شيطان!
وتابعت وهي تتراجع للخلف: إبعد عني يا سيف علشان خاطري ابعد!
ارتدت برأسها للخلف بعينين تبرقين بصدmة، فابتسم آدهم وهو يراقبها بنظرةٍ تتفحص إنعكاس تأثير قربه منها، رمشت بأهدابها بعدm استيعاب، بينما تختلج أنفاسها داخل صدرها بفعل إرتعاش قلبها البريء، تقسم بأنها إن كانت بمفردها معه لفقدت السيطرة على مشاعرها التي نجح هو باختراقها باجتيازٍ.
ابتسم بمكرٍ على ما أحدثه بها وقال مداعيًا البراءة: مالك يا شمس؟ انتِ كويسة؟!

لعقت شفتيها بـ.ـارتباكٍ ورددت ببطءٍ وكأن صوتها احتبس داخلها: إنت قليل الأدب يا آدهم!
تمردت ضحكاته الرجولية دون توقف، فرفع يده يزيح دmـ.ـو.ع عينيه التي تساقطت من فرط نوبة ضحكاته، وقال بحنكٍ خبيث: ليه بس يا حبيبي، مش كنتِ زعلانه إني مش بعبرك عن مشاعري وإني قليل الكلام.

خـ.ـطـ.ـف نظرة للقاعة الخارجية ودنى إليها يهمس جوار أذنها: قولتلك وقت ما تكوني مراتي. حلالي. إسمي موشوم جنب إسمك هعبرلك بالشكل اللي يأكدلك إني وقعت في عشقك من أول لحظة عيني حـ.ـضـ.ـنت عيونك. أنتِ كل دنيتي يا شمس!
رفع يده يحتضن خدها مستغلًا تركيزها الكامن على ما يقول، فوضع قبلة على جبينها واسترسل بنبرته الرخيمة: إنتِ شمسي اللي نورت عتمة ليلي!

وواصل في سبر أغوارها: شمس هانم الغرباوي أنا بعشقك ومستعد أخوض ألف معركة أمـ.ـو.ت فيها ألف مرة علشانك.
وأكمل بهمسٍ مغري: لإنك تستاهلي!

ارتبكت أمامه كالطفلة الصغيرة التي لا تجيد اختيار كلمـ.ـا.تها، كانت تظنه هادئًا، لا يحب الحديث كثيرًا، وها هو الآن يفاجئها بغرامه المدفون داخله لها، يجذبها لباحة الرقص على ترانيم عشقًا جعلت قلبه ضعيفًا لا يقوى على مجابهته، بينما يستكمل هو الطريق لكسب المعركة كاملة على قلبها المسكين: طلعت 26 مهمة على مدار تاريخي المهني مخسرتش أي عملية طلعتها. كان أول طريق فشلي هي اللحظة اللي شوفتك فيها وسمعت صوتك، وكملت باقي الطريق لما لفيتي من مكانك وبصيتي في عيوني!

كل مرة كنت بشوفك فيها كنت برتبك وبخاف أنكشف، مكنتش هقع لوحدي فريقي كله كان في خطر بسبب ظهورك ليا يا شمس!
جذبها إليه بقوةٍ لتلتصق بجلسته على الأريكة، مستطردًا بأنفاسٍ تحشرجت من كثرة مشاعره: صعب على أعدائي يكشفوا هويتي، اتدربت إني أكون محصن صعب حد يكتشف أنا مين؟ حتى لو حطوني على أجهزة كشف الكدب كلها مستحيل هيطلعوا مني بمعلومة. الا قدامك أنتِ!

حسيت إني بضعف قدامك، وجودي جنبك ومساعدتك طول الفترة اللي كنت فيها جوه قصر راكان كان بيعرضنا كلنا لخطر كبير وأنا كنت جاهز ليه علشان بس أشوف ابتسامتك. أقنعت اللي حواليا إني بتقربلك علشان ممكن استغلك توصلي لينا الملف والحقيقة إني استغليتك علشان أرضي قلبي!

مال يستند بجبينه على جبينها وعينيه تتمعن بحدقتيها الناطقة بعشقه: بحبك يا شمس. بحبك أكتر مما تتخيلي. أقسملك بالله العلي العظيم إن بعدي عنك طول الفترة اللي فاتت مكنش تقل مني عليكي ولا برود زي ما أنتي فاكرة. بعدي كان حفاظ عليكي وعلى قيمتك الغالية، بعدي كان عشان أصونك مني ومن مشاعري اللي بتتحرك أول ما بلمحك...

وتابع ببسمة ساخرة: قربك كان هيدmر شغلي ويكشفني لأعدائي فما بالك لو قربت وأنا كاشفلك حبي وهويتي. صدقيني بعدي كان خــــوف مني إني أضعف قدامك!
فتحت عينيها الخجولة إليه، ورددت على استحياءٍ: وأنا كمان بحبك أوي يا آ.
اسمي الحقيقي علشان خاطري!
بحبك يا عمر!
ضمها إليه وهو ينتهد بعاطفةٍ، يده تضم رأسها إليه، واليد الاخرى تدفنها داخله، سحبت نفسًا ثقيلًا يليه الأخر من رائحته التي تتسلل لها لأول مرة.

عطره كان هادئًا، لطيفًا مثل شخصيته، لا يفرد طاغيته الا حينما تقترب منه، لذا لم تشعر به الا وهي ساقطة بأحضانه.
فتح عينيه يستعيد وعيه من تلك الحالة التي ستفقده كل مهاراته حتمًا، فتنحنح وهو يبعدها عنه بلطفٍ: في حد جاي علينا.
وإتجه لمقعده المجاور للأريكة مسترسلًا ببسمة ساخرة: ومن خطواته المتعصبة دي أعتقد إنه عُمران.

برقت بدهشةٍ حينما انفلتت طرقات باب غرفة الضيافة، وطل رأس أخيها من خلفه يخبر الأخر بابتسامة مغتاظة: اطلع يا عريس. عايزك!
هز آدهم رأسه إليه ونهض ليغادر، فأوقفته حينما تمسكت بيده متسائلة بحيرةٍ: عرفت ازاي؟!
اتسعت ابتسامته ومال يهمس لها وعينيه لا تفارق باب الغرفة: تدريبي كان على إيد شخص خلانا نستخدm حواس الجن نفسهم. الشخص ده يبقى الجوكر!
دعواتك أقدر أكسب عمران لصفي لإنه شكله هيحل محل الحمى العقربة!

قالها وهو يودعها بغمزة ساحرة وقبلة طائرة بالهواء، فما أن أغلق الباب من خلفه حتى ارتمت على الأريكة تضم قلبها الخافق، هاتفة بدهشة: إنت بقيت خطر على مشاعري يا سيادة الرائد.
وتابعت وهي تزدرد ريقها بـ.ـارتباكٍ: هسافر معاه لوحدي ازاي ده؟!
وقف قبالته يمنحه ابتسامة هادئة، وسؤاله يتحرر على شفتيه: خير يا عُمران؟

ربع بديه بمنتصف خصره وهو يشمله بنظرةٍ تقيمية، ومن ثم صاح بمكرٍ: النهاردة عزمت الشباب على حفلة شوي على شرفك، وكلهم بلا استثناء واقفين برة بيحضروا المشواي في حين إن حضرتك قاعدلي جوه تحت التكيف ومش في دmاغك حد!

راقبه وهو يجوب الردهة ذهابًا وإيابًا ولا يتوقف عن الحديث، حرر آدهم جاكيته ووضعه على ذراعه ثم حل أول أزرار قميصه والطاووس مازال يراقبه بعدm فهم، فوجده يشير بيده تجاه الباب المؤدي للحديقة: وريني المكان وأنا أساعد.

ارتسمت ابتسامة انتصار على وجهه، فأشار له بتتبعه حتى وصلوا معًا للباب الخارجي، فأمسك آدهم كتفه يمنعه من الخروج ووقف قبالته: عُمران أوعى تفكر إني ممكن أغير على شمس منك أو من علي، أنا آه بحبها وبعشقها بس عمر ما حبي وغيرتي عليها توصل لاخواتها اللي ربوها، بالعكس الحنية اللي بشوفك بتعاملها بيها إنت ودكتور على بتفرحني وبتخليني سعيد جدًا من اختياري.

وضع عُمران يده بجيب سرواله القماشي ووقف يراقبه بثباتٍ قـ.ـا.تل، فتابع بابتسامةٍ واسعة: بتخيل شكل الحياة اللي هعيشها معاها لما ربنا يكرمنا بأولاد. بقى عندي ثقة كبيرة إنها هتقدر تزرع الحب اللي شافته بينكم مع أولادي. أنا ولد وحيد يا عُمران مكنش ليا لا أخ ولا أخت فمعنديش خلفية عن اللي بيكون بين الأخوات لكن شمس هتقدر تنقل اللي اتربت عليه لأولادي.

طال به الصمت وهو يستمع إليه، فحل يده جاذبًا جاكيت آدهم ووقف خلفه يعاونه على ارتدائه وسط نظرات دهشة الأخير، فقال: معناه أيه ده؟
ابتسم الطاووس الوقح وهو يجيبه: معناه بسيط. إني عفوت عنك يا سيادة الرائد، ارجع لمراتك واقعد معاها وأنا هكون بدالك.
ونزع عنه الجاكيت خاصته واتجه للخروج غامزًا له بمكرٍ: إنت لسه عريس ميصحش!

اتبعه للخارج والابتسامة تنجرف على شفتيه بفرحة انتصاره الأول، فوجد الشباب بأكملهم يعملون بجهدًا كبيرًا حتى علي.
جذب عُمران الكماشة الضخمة من جمال وأشار له بالتراجع عن الشعلة ليحتل هو محله، تراجع للخلف من شـ.ـدة الأدخنة، فترك الكماشة ونزع عنه قميصه ووقف عاري الصدر.
ضحك يوسف وصاح بصوتٍ مرتفع ليكون مسموع لمن يقف أمام صوت النيران: دي مش حفلة شوي دي حفلة استعراض عضلات الطاووس الوقح على الملأ!

شاركه جمال الضحك وأردف: استر نفسك يا عمران الحفلة كلها بنات متخليش البشمهندسة مايا تطلب الطـ.ـلا.ق النهاردة!
مسح أيوب بقايا الخضروات عن يديه وقال باستنكارٍ حينما وجد آدهم يجاوره: عملت بردو اللي في دmاغك وجبت العريس!
انتبه على لجملة أيوب فتطلع تجاهه فوجده يقف جواره، فقال بحرجٍ من تصرفات أخيه الطفولية: آدهم. متسمعش كلام الوقح ده وإدخل إنت لعروستك. احنا خلاص قربنا نخلص.

حرك يده يبعد رائحة الدخن عن أنفه وقال: عُمران طلب مني أرجع بس أنا اللي حبيت أجي أبص عليكم عشان لو محتاجين حاجة.
قاطع أحاديثهم ولوج سيف بملامح ممتعضة، فدفع قبالتهم صندوقًا مغلقًا، تابعه الجميع باهتمامٍ وكان أيوب أول من تحدث: إنت جايبلي هدية ولا أيه يا سيفو؟

توقفوا جميعًا عن اعداد الطعام وراقبوا سيف الذي تزداد معالمه حدة، فترك جمال ما بيده واقترب من الصندوق الموضوع بمنتصف الطاولات وكشف عن غطاءه، فاشمئزت ملامحه وتراجع للخلف وهو يحجب فمه بيده ولكنه لم يتمكن من الاحتمال فتقييء لذاك المنظر المقزز الذي رأه.
اتجه يوسف لأخيه يسأله باستغرابٍ وحدة لظنه بأنه يمزح بأمرٍ كهذا: ده أيه يا سيف فهمني؟!

رد عليه وهو يوزع نظراته بين على وعمران: الصندوق ده وصل لدكتورة زينب من يمان بيهددها فيه ببجاحة جوه بيتكم!
قال أيوب بحدةٍ: ازاي جاله قلب يعمل كده في حـ.ـيو.ان بريء! وكل ده ليه علشان بخــــوفها!

ترك عمران محله وأسرع إليه يلقي نظرة عن قرب، حتى على كان لجواره، كان الأمر محير للبعض ومفهوم للأخر، فتحرر آدهم عن صمته قائلًا: كونه إنه يبعت الصندوق ده في تاني يوم تنقلوا فيه هنا فده رسالة مباشرة إنه يقدر يوصلها في أي مكان تروحه.
واستطرد بوجومٍ قاس: اللي عمله مع عمران قبل كده ودلوقتي مع زينب بيأكد إن الشخص ده مش عادي ولازم نتعامل معاه قبل ما يأخد خطوة تانية يا دكتور علي.

سحب نظراته الغاضبة عن الصندوق وتطلع إليه يخبره: أنا فعلًا ابتديت أتحرك يا آدهم. وخليت عمي يطلب حراسة مشـ.ـددة من شركة معروفة هتوصل بعد بكره يحاوطوا البيت ومش هيفارقوا زينب.
جذب يوسف أحد مقاعد الطاولات وجلس يردد: مش كفايا يا علي. أكيد راجـ.ـل زي ده مش سهل وهيعمل حساب لوجود الحرس يعني ببساطة يقدر يتغلب عليهم.

جذب جمال مقعدًا وجاور يوسف قائلًا: المصـ يـ بـةإنه وصلها هنا وهي جوه البيت لو مكنش عمل كده كنت قولتلكم خلوها في البيت اليومين دول عما تشوفوا هتحلوا الموضوع ده ازاي!
ركل عمران الصندوق بعيدًا عنهم وصاح بعنفوانٍ: ليه فاكرها سايبة بروح أمه ده ميخدش في إيدي غلوة ابن ال، يظهرلي راجـ.ـل لراجـ.ـل وأنا أوريه مقامه.
جلس على وسحب عمران لمقعد مجاور له هاتفًا: عمران اهدى مش عايزين نلفت الانظار لينا.

تحرر سيف عن صمته حينما قال: الحل عندي أنا.
اجتمعت نظرات الشباب إليه باهتمامٍ، فتنحنح بخشونة: لو أنا ودكتورة زينب اتجوزنا يمكن يمل ويبعد عنها.
جحظت عين يوسف صدmة، فصاح بسرور: أقسم بالله كان قلبي حاسس إنك وقعت يالا. مدام طلبتها بلسانك هجوزهالك حتى لو خـ.ـطـ.ـفتها واجبرتها تتجوزك.
لكزه جمال بغـــضــــب: إتكن يا يوسف ده وقته بذمتك!

تنهد على بحـ.ـز.نٍ وصاح: ده مش حل يا سيف، شخص زي يمان عمل كل ده علشان يوصلها مش هيتقبل إنها تكون لغيره، فأنت كده بتحط نفسك في وش المدفع لإنه ببساطة زي ما قدر يضـ.ـر.ب نار على عمران لمجرد إنه شتمه وهدده يبعد عنها قادر يعملها معاك. فحاول تخليك بعيد عن الموضوع ده لحد ما نشوفله حل.
جلس آدهم جوار أيوب وقال: دكتور علي. أنا محتاج أتكلم مع دكتورة زينب. من فضلك ناديها.
لف برأسه لأخيه قائلًا: نادي زينب يا عمران.

نهض عن مقعده يجذب قميصه الأبيض، ارتداه بإهمالٍ وولج للداخل، يبحث عنها بين جلسة السيدات.
حضر الحفل بعض النساء الأجنبية ذات الطبقة الآرستقراطية، أغلبهن أتينا الحفل لأجل فريدة، خـ.ـطـ.ـف عُمران الأنظار فور دخوله من الباب الداخلي بقميصه المفتوح على مصرعيه وعينيه الرمادية التي تتنقل بين النساء، فأتى على مسمع فريدة قول احداهن: يا إلهي. من هذا الوسيم؟

زاغت الأعين تجاه من استحوذ على عقل تلك المرأة، فجحظت الأعين بفجورٍ اعتادوا عليه الغرب، فأستدارت فريدة تجاه ما يتطلعوا تجاهه فبرقت بغـــضــــبٍ، تركت الجلسة وأسرعت إليه تناديه بحزمٍ: عُمرااان!
تركز ببصره على والدته التي ترنو إليه كالعاصفة، تشير له بحدة: أيه اللي مدخلك هنا بمنظرك ده؟!
خـ.ـطـ.ـف نظرة سريعة لقميصه ثم عاد يتطلع لها بدهشةٍ، وببساطة قال: كنت واقف قدام الفحم فأكيد مش هقف بالبدلة يعني!

شـ.ـددت على كلمـ.ـا.تها بغـ.ـيظ من بروده: إقفل قميصك يا ولد، الستات عينهم هتتقلع عليك!
شملهم بنظرة عابثة ويده تعيد غلق أزرر قميصه، وبوقاحه قال: ما أنا طول عمري خاطف أنظار جنس حوا كله أيه الجديد؟!
بحزمٍ صاحت: عُمران!
انحنى برقيٍ داهي: فريدة هانم!
وانتصب بوقفته ليفاجئها بقبلة وضعها على وجنتها هامسًا بمكرٍ: متحاوليش تقوليلهم إني ابنك لان محدش هيصدقك!

وركض من أمامها للأعلى تاركها تتطلع إليه بصدmة، حسنًا فمن سيصدق بأن ذاك الشاب الذي يفوق حجمها مرتين تقريبًا يكون ابنها الصغير! وبالرغم من أن الأغلب من أصدقائها يعرفه جيدًا الا أنها ارتبكت وتـ.ـو.ترت من الجمع الحاضر.
استدارت فريدة لتتجه لطاولتها فرفعت يدها تعيد خصلاتها المتمردة للخلف، فنفرت من رائحة يدها التي كانت تستند على صدر عمران فور انحنائه لتقبيلها.

قربتها فريدة لأنفها فوجدت رائحة البرفيوم الخاصة به عالقة بأصابعها، والمقبض لها بأنها شعرت بحاجتها المفاجئة لاستفراغ ما بداخل معدتها.
هرولت للحمام بتعبٍ، تفرغ ما بجوفها حتى انتهت، وقفت فريدة أمام المرآة الخارجية تعيد ترتيب خصلات شعرها ومكياجها البسيط، فاستندت على الحافة تردد بدهشة: أنا أيه حصلي!

واسترسلت بذهولٍ يجتاحها: أنا دايمًا كنت معجبة بالبرفيوم بتاع عُمران. أنا اللي كنت بطلبهوله مخصوص من فرنسا!
ورفعت رأسها تقابل انعكاسها بالمرآة وكفها يكبت فمها بصدmة: لأ، مستحيل أكون آآ، حامل!

صعد للأعلى يبحث عنها، فوجدها برفقة زوجته وزوجة أخيه، وزوجات أصدقائه، غـــضــــب عمران بصره وتنحنح بحرجٍ من وجوده بجلستهن الخاصة فقال: أنا أسف لو قطعت كلامكم. على عايزك يا دكتورة زينب تحت.
وقفت فاطمة جوارها تتساءل بقلقٍ: خير يا عمران في حاجة؟
أجابها على الفور: أبدًا، أعتقد الموضوع خاص بالجامعة بتاعتها.

ابتلعت ريقها بـ.ـارتباكٍ، ومع ذلك رسمت ابتسامة صغيرة ومسدت على كف شقيقتها: هروح أشوفه عايزني ليه وجاية يا فطيمة.
هزت رأسها بتفهمٍ وأشارت بابتسامة هادئة: طيب يا حبيبتي. متتأخريش القعدة مع دكتورة ليلى وصبا متتعوضش.
ابتسمت ليلى ورددت: والله انتوا اللي القعدة معاكم مـ.ـيـ.ـتشبعش منها.

ضحك عمران ومازحهن: لو القعدة عجباكم كده كنسلوا المرواح واقعدوا كام يوم غيروا جو، أهي تكون فرصة نرجع المتسلطين دول لايام العزوبية ويعرفوا قيمتكم كويس.
غمزت صبا بمكر للفتيات وقالت: طيب وليه ميبقاش العكس. نأخد البشمهندسة مايا عندنا ونعرفك قيمتها؟

ضمت يديها معًا ورمقته بنظرة تسلية، فانصدmت حينما انحنى يميل على كتفيها ويضمها إليه بكل تملك: مقدرش أعيش من غير حبيب قلبي، مش إنتي عارفة إني مقدرش أبعد عنك يا بيبي؟
أحمر وجهها خجلًا فتراجعت بمقعدها وهي تردد: عُمران!
غمز لها وتراجع متنحنحًا: يلا يا دكتورة؟
هزت زينب رأسها بخفة واتبعته للأسفل.

أغلق عينيه يقاوم ارتعاش قلبه داخل صدره العضلي، يشعر بخطواتها الرقيقة تقترب خلفه، استدار برأسه من فوق كتفه يراها تدنو منهم برفقة عُمران، يدها المرتبكة تجذب طرف ححابها المتطاير بفعل نسمـ.ـا.ت الهواء، فستانها ينحدر أطرافه من حولها كالأميرات.

أصبحت قبالته تقف على استحياء، عينيها مثلما اعتاد تهرب من لقاء مُقلتيه، أشار لها على بالجلوس على المقعد المقابل لآدهم وسيف الذي طلب منه آدهم أن يظل على الطاولة بينما عاد جمال ويوسف وأيوب يتابعون نضج اللحم على المشعل حتى لا تخجل من تجمعهم من حولها.

جلس عُمران جوار أخيه فبدأ آدهم بحديثه: دكتورة زينب أنا طلبت من دكتور على أننا نتكلم شوية لإن باللي عمله يمان ده النهاردة باين انه مش سهل. فمحتاج إنك تساعديني بأي معلومة ت عـ.ـر.فيها عنه.
فور أن ذكر إسمه ارتبكت بجلستها، أصابعها تفرك ببعضها البعض فوق الطاولة بشكلٍ ملحوظ، طال صمتها بشكلٍ أرضخ على ليناديها: زينب!

أجلت حلقها الجاف وهي تجاهد كلمـ.ـا.تها للتحرر: يمان بيتاجر في الاسلحة، وله علاقات بناس مسنودة هي اللي بتحميه ومخلياه ميعملش حساب لحد.
قدm لها آدهم ورقة بيضاء وقلم أسود: اكتبي اسمه كامل وكل اللي ت عـ.ـر.فيه عنه يا دكتورة. ومتقلقيش هنقدر نتعامل معاه.

جذبت الورقة ودونت ما طلبه منها آدهم ونظرات سيف لا تفارقها، فانفرد بصوته الرجولي يخبرهم: دكتور على الفترة الجاية هيحاول يظهرلها بأي شكل، لو الدكتورة هتنزل الجامعة يكون مع حضرتك ورجوعها معاك بردو. وجوه الجامعة سيف عينه هتكون عليها علشان كده خليته يقعد معانا ويسمع الكلام.
ابتسم بسعادة كونه سيتكفل بحمايتها، يقسم أنه سيفديها بروحه إن تطلب الأمر، فقال: متقلقوش طول ما هي جوه الجامعة هتكون تحت عنيا.

لكزه عُمران وفاه بعصبية: متسبلش بروح أمك!
كبت آدهم وعلى ضحكاتهما، تركت زينب الورقة وغادرت للأعلى على الفور.

وزع الشباب الأطباق على الطاولة الضخمة، وجهزوا أطباقًا للنساء، فحملهم على وصعد بما يحمله للأعلى، تناولت منه فاطمة الاطباق ومررتها لمايا وزبنب ليضعوا الاطباق على طاولة السيدات، بينما اجتمع الشباب بالاسفل، يتناولون الطعام بجوٍ من المرح والحديث المتبادل حتى ساعات الليل المتأخر فتفرقوا جميعًا لمنازلهم.

عاد أيوب لشقته، وإتجه لغرفته حينما وجد ضوء غرفتها مغلق فعلم أنها قد غفت، أبدل ثيابه وإتجه لمكتب غرفته الصغير، يضع من أمامه عدد من الكتب ليبدأ مذاكرته استعدادًا لامتحانات السنة الأخيرة من الجامعة.
انـ.ـد.مج بمذاكرته فأتاه رنين الهاتف يزعجه عن التركيز، رفع أيوب الهاتف مرددًا بدهشة: أيه اللي مصحيك لحد دلوقتي؟!

أتاه صوت سيف الهائم كالسكير: عيونها وألف آه من عيونها، بتحكي مليون حكاية وكأنها تراث أثري، قدامها أنا عاجز حتى إني أفتكر إسمي، وبكل بجاحة واقف قدامها بقولها اللي بينا مش حب إرتياح! لأ أنا بحبها ونفسي تكون ليا الزوجة اللي تساندني وتعفني عن كل الستات. أنا عايزها ليا يا أيوب!

رمش بعدm استيعاب لما يستمع إليه، فأبعد عنه الهاتف وهو يتفحص شاشته ليتأكد بأن من يحدثه هو سيف صديقه، عاد يضع الهاتف فاستمع إليه يردد: روحت فين يا أيوب. صاحبك عاشق وغرقان في عشقها!

عاد بظهره لمقعده وتنهد بضيقٍ: سيف أنا مش مبسوط باللي بسمعه منك، طول ما هي مش على ذمتك مينفعش تتكلم عنها بالشكل ده. ثم إنك بأي حق تدقق في لون عنيها وشكلها إنت طول عمرك بتغض بصرك أيه حصلك! عايزها تكون السبب ورا ذنوبك يا سيف ترضهالها؟
أجابه بكل لهفة حملها داخله: مرضاش ليها غير بكل شيء جميل إتخلق علشانها، بس غـ.ـصـ.ـب عني يا أيوب، عشقها دخل لقلبي غـ.ـصـ.ـب عني!

وتابع بحرجٍ مما سيقول: عارف لما شوفتها بتتنفض ومرعوبة وهي شايفة الصندوق كان نفسي أجري عليها وأضمها جوه حُضني. كان نفسي أطمنها يا أيوب، واتمنيت أشوف الكـ.ـلـ.ـب ده قدامي أقسم بالله كنت هعرفه مقامه ابن ال
منع ابتسامة كادت أن تصدح إليه، وردد بعدm تصديق: معقول اللي بيتكلم ده سيف!
رد عليه يجيبه: هو بغباوته بس بعد ما وقع في الغرام. أنا بحبها وعايزها يا أيوب.

ضحك ساخرًا: طيب وهي مش موافقة نعمل أيه بقى يا دكتور سيف؟
مازحه قائلًا: نخـ.ـطـ.ـفها وأكتب عليها غـ.ـصـ.ـب عنها يا بشمهندس أيوب
تعالت ضحكاته بعدm تصديق: ده إنت طلعت واقع لأقصى درجة وأنا معرفش!
رد عليه بهيام: واقع من الدور العشرين والله، من ساعة ما شوفتها النهاردة ومش جايلي نوم، الحمد لله إن يوسف وصلني وروح لو شافني بالحالة دي هياخدني أنا والمأذون واتنين شهود وهيعسكر عندها لحد ما تمل وتواقق.

قال أيوب بمكرٍ: بص يا معلم إنت علاجك عُمران سالم الغرباوي، اتصل بيه وهو يُظرفك كلمة بروح أمك المشهور بيها هيأتيك النوم من حيث لا تدري!
زفر بسخطٍ: ملقتش غير الطاووس الوقح. إنت عايز تخلص مني يا أيوب!
جذب الكتب أمامه وصاح بنزقٍ: بص يا عم الحبيب أنا بدأت مراجعة عشان الامتحانات قربت، فأقفل الله يكرمك خلينا ألحق أراجع أي حاجة قبل ما غيبوبة النوم تحضر.

تأفف بغـــضــــب: هقفل وأبقى قابلني لو سهرت. إنت أخرك نص ساعة وهيغمي عليك مكانك، سلام يا ابن الشيخ مهران.
أغلق الهاتف وابتسم رغمًا عنه حينما تردد إليه ذكرى قلبت عليه الحـ.ـز.ن لتجعل مُقلتيه تدmعان تأثرًا.

أيوب أنا تعبت، أنا بشيل هم امتحاناتك بسبب التكديرة السودة دي، فأرجوك أنا مش عايز مشاكل مع عمي، هريح هنا جنبك نص ساعه أصحى ألقيك بتكمل مذكرتك. فاهم.
قالها يونس باستعطافٍ لأيوب الذي يجاهد لفتح عينيه على مكتب غرفته، فهز رأسه يؤكد له بأنه سيلتزم بالتعليمـ.ـا.ت.
تمدد يونس بإرهاق على فراش أيوب، وقبل أن يغلق عينيه قال: متصحنيش الا لو حاجة وقفت عليك أو محتاج شرح حاجة.

هز رأسه وهو يتفحصه بمكرٍ، فما أن سقط يونس بنومه حتى ارتخى أيوب بجلسته، رافعًا قدmيه على سطح المكتب، ووضع الكتب فوق رأسه ليمنع ضوء الغرفة من أن يزعجه.
مرت خمسة وعشرون دقيقة حتى فتح يونس مُقلتيه الساحرة بانزعاجٍ، ففتحهما على وسعيهما بصدmة فور رؤيته يغفو هو الأخر.
انتفض عن الفراش يصـ.ـر.خ بغلظةٍ: أيوب!

سقط عن المقعد فزعًا، فأسرع الاخير إليه يجذبه من تلباب قميصه كاللص، وأعاده لمقعده وهو يدنو منه بنظراتٍ ملتهبة: بتستغفلني يا أيوب. عايز تزعل عمي مني!
وتابع ومازالت يده تقبض على مقدmة قميصه: ده أنا سايب شقتي يا حـ.ـيو.ان ونايم هنا معاك في اقامة جبرية، بقولك هريح نص ساعة أصحى ألقيك متخمد قبلي! عارف لو عمي دخل علينا هيعمل فيا أنا أيه!

تثاءب بنومٍ ومال برأسه يغفو على يد يونس مردفًا: معتش قادر يا يونس خلاص فصلت، سبني أنام كلها كام ساعة وهنزل الامتحان.
عاونه يستقيم بجلسته قائلًا: لا يا حبيب أخوك مش هقدر. إنت عارف الشيخ مهران بيقتحم الاوضة مرة واحدة مقدرش أواجهه كده. قوم شـ.ـد حيلك عما أعملك كوباية قهوة من صنع ايديا.

هز الأخير رأسه، وراقبه حتى خرج للمطبخ فضم الكتاب إليه وغفى من فوقه على سطح المكتب، مرت الدقائق حتى عاد يونس بصينية القهوة وبعض شطائر الجبن هاتفًا بحماس: سيحتلك الرومي في السندوتش الرومي زي ما بتحب. يلا يا بطل كمل مذاكرتك وآآ...
ابتلع باقي جملته بصدmة، فوضع الصينية على المكتب ورفع يده يهوى بها على رقبته صائحًا: انت ناوي على مـ.ـو.تي النهاردة يابن الشيخ مهران!

زفر أيوب بضيق: يا يونس حـ.ـر.ام. انت عارف إني في العادي بنام من 8 جاي تسهرني لتاني يوم الامتحان، سبني أنام قبل ما بابا يصحيني عشان صلاة الفجر والجو برد أهو وأنا مش قادر والله.
سحب يونس يده للفراش قائلًا بحنان: طيب تعالى اتغطى وأشرب قهوتك وهتسهر للصبح. أنا حتى عملت لنفسي قهوة عشان أسهر معاك.
تناول كلاهما القهوة وبعد دقائق غفى أيوب على كتف يونس وسقط رأس يونس فوق رأسه بعد أن غلبه النوم هو الأخر.

مرت ساعة كاملة وولج الشيخ مهران بجلبابه الأبيض الوقور ومئزره العسلي ليخبرهما باقتراب موعد الفجر، وكعادته يصطحبهما معه لفتح المسجد قبل حضور المصلين، فتفاجئ بيونس يغفو وهو يضم أيوب بين أحضانه كالطفل الصغير.
ابتسم الشيخ مهران وهو يتابعهما بحبٍ، ظل لدقائق يراقبهما ومن ثم تنحنح وهو يستعيد ثباته وصاح بخشونة: فوق منك ليه، الفجر قرب يأذن.

انتفضوا بفزعٍ حينما وجدوه أمامهما، فردد يونس بتلعثم: متقلقش يا عمي كله تمام.
ابتسم ساخرًا: .
لا مهو واضح، بقى أشـ.ـدد عليك إنك تذاكرله أدخل ألقيك منيمه في حـ.ـضـ.ـنك يا معلم!
منحه يونس نظرة معاتبه فردد أيوب بخفوت: آسف والله.
عاد يونس يتطلع لعمه قائلًا ببسمة واسعة: أيوب لسه مخلص مذاكرة وكان بيرتاح قبل صلاة الفجر، صدقني يا عمي أيوب جدع وشاطر اللهم بـ.ـارك، أنا واثق إنه هيرفع رأسك وهيحقق حلمه وحلمك.

ابتسم الشيخ مهران بحبٍ يحمله لابن أخيه والذي يعد ابنه الأول، فمرر يده على شعره الفحمي الطويل مرددًا بحب: واثق فيك قبل ما أثق فيه يا يونس.

وتابع بنبرة فخورة: زمان وإنت في تالتة ثانوي كنت خايف لتخذلني، خصوصًا إن مكنش في دmاغك غير التجارة وادارة محل اجهزة الكهربائية بتاع أبوك، خــــوفت متجبش مجموع حلو بس إنت كنت بطمني دايمًا وبتقولي أنا هنجح يا عمي وهجيب مجموع يشرفك وعلى وعدي اني هكمل تعليمي للأخر بس مش هشتغل غير في تجارة أبويا، وفعلًا طلعت راجـ.ـل وقد كلمتك دخلت كلية حاسبات ومعلومـ.ـا.ت ومع إن جالك تعين فيها كدكتور جامعة الا إنك رفضت ووقفت في محل أبوك.

وتابع بابتسامة صافية تشق تلك سنوات نجاح ابن شقيقه: لما سحبت فلوس ميراثك من البنك خــــوفت تضيعها منك في شيء يخسرك بس إنت طول عمرك شاطر وجدع، وأهو بفضل الله المحل الصغير بقى دكانين كبـ.ـار في بعض واسمك بقى يتعمله حساب في شارع النجار كله، وفي كلتا الحالتين رفعت راس عمك فوق يا يونس.

انحنى يقبل يد عمه واستقام يقبل رأسه الأبيض الذي يغزو الشيب كله، وهو يردد باحترام وحب: ربنا يخليك ليا يا عمي، أنا ماليش غيرك في الدنيا بعد أبويا الله يرحمه، وربنا يعلم إن أيوب ده أخويا الصغير.
ضمه إليه وهو يربت على ظهره بحنانٍ: عارف يا حبيبي، يلا اتوضى وهات أيوب وحصلني على المسجد.

مرر أصابعه على سبحته البيضاء واتجه للخروج وهو يستطرد: متتأخرش علشان انت اللي هتقيم الصلاة بدالي النهاردة، واخد دور برد وصوتي تعبان.
أشمر عن ساعديه وهو يهز رأسه بفرحةٍ: حاضر يا عمي، مش هتأخر.
وفور خروجه إتجه لأيوب يجذبه عن الفراش صارخًا به: قوووم بقى متجبلناش الكلام تاني!

عاد من ذكرياته بعينين دامعتين وابتسامة صغيرة على شفتيه، أغلق أيوب كتابه ونهض بتوضئ واتجه لسجادته، يصلي ويطول سجوده داعيًا له من كل قلبه، يلح على الله أن يفرج كرب ابن عمه الشقيق!

هل سبق لك وسمعت صوت آنين روح؟ عزيزي القارئ هناك آنين خافت يصدر من داخلك لا يستمع إليه سواك أنت، ألــمه الذي لا يطاق لن تستطيع تفسيره لأحدً، ولو اجتمعت كلمـ.ـا.ت ومفردات الألــم لتشرح ما يعنيه لن تتمكن من أن تصل لغيرك مفهوم ما تخوضه روحك المغلولة!

هناك بذاك المكان حيث لن يستمع لصرخاتك أحدٌ ولا يقوى أحدًا على نجدتك، كأنك انعزلت عن بقعة البشر بأكملهم، هناك حيث تشعر وكأنك مغلوب على أمرك فتحاول تقبل واقعك المرير، ومن بين ذلك الظلام الكحيل كان يتقوقع على ذاته، يضم ساقيه لجسده الذي يهتز بعنفٍ ليثبت لذاته بأنه مازال على قيد الحياة، فإن سكن جسده حينها سيفقد إحساسه المدرك بالحياة التي تلزم قلبه اللعين الذي مازال متمسك بتلك الحياة الظالمة!

مال بجلسته ومازالت يديه تلتف من حوله، عينيه الفيروزية مغلقة بقوةٍ رغم أنها اعتادت على العيش بذلك الظلام، الظلام الذي تسلل لأعماقه فلمس أبعد نقطة بها.
عاش حياته كريمًا، مختارًا، لم يذق معنى الذل والاستحقار، وفجأة ألقى لفجوة جردته من كل ما امتاز به حتى ملابسه وحقوقه، وكل ما يمتلكه.

انتزعوا منه إسمه وسمعته التي كد ليصنعها، انتزعوا منه كرامته وكبريائه حتى عائلته، انتزعوا منه حبيبته وزوجته التي لم يقضى برفقتها غير بضعة أيام، ولكن لما يلاقي اللوم عليهم زوجته هي التي تخلت عنه بملئ ارادتها، فور دخوله إلى هنا بتلك التهمة الباطلة رفعت عليه تلك القضية لتلوذ بالفرار عنه وكأنها كانت تنتظر ذلك لتنال حريتها!

انهمرت دmعة حارقة على وجهه المتورم باللكمـ.ـا.ت، ولسانه مازال يجاهد للنطق بصوتٍ مبحوح: يا ررب.
أغلق يونس عينيه بألــمٍ وعاد يردد: لا إله الا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين...
وتابع بقهرٍ وصوتًا خافتًا: حسبي الله ونعم الوكيل!
تخفى الليل بظلامه وسطعت شمس يومًا جديدًا ينذر ببداية لمجهولٍ سيحكم قوانين الأيام القادmة.

غادرت زينب برفقة على للجامعة بعد أن اتفق معها الا تخطو خطوة واحدة خارج الجامعة دون أن يصل بالخارج ويُعلمها بأنه بانتظارها، فصعدت لفصلها لتحضر المحاضرة الهامة التي أتت لأجلها، فمضت الساعتين تسجل خلف المعيد الهام، وبعدها استعدت لتغادر للأسفل تنتظر قدوم على مثلما أخبرها.

لمحها سيف تجلس بالأسفل بطالتها الخاطفة، كانت ترتدي تنورة واسعة من اللون الأبيض، وبادي من اللون الأسود وجاكيت من اللون الأبيض والاسود معًا، رآها تقرأ بأحد الكتب وتراقب هاتفها بين الحين والأخر، فحمل كتبه والبلطو الطبي الخاص به ثم هبط الدرج إليها.
دنى إليها يتنحنح لتلاحظ وجوده: صباح الخير يا دكتورة.
أغلقت كتابها وتطلعت له بمزيج من الارتباك والتـ.ـو.تر: صباح النور.

جلس على بعدٍ معقول منها وسألها: أخبـ.ـارك أيه؟ أحسن؟
علمت مقصده بما حدث بالأمس فاشتعلت خجلًا حينما تذكرت قربه منها وهو يحاول أن يُفيقها، لعقت شفتيها الجافة ورددت على استحياءٍ: الحمد لله أحسن بكتير.
هز رأسه متفهمًا، ثم تطلع أمامه يراقب الجامعة بعينٍ شاردة، وفجأة قال: أيه رأيك لو خرجنا للكافيه اللي اتقابلنا فيه أول مرة، هعزمك على أيس كريم بال?انيلا زي ما بتحبي ونقعد نتكلم شوية.

ارتبكت مما قال، وهتفت بضيق: مش هينفع أنا بستنى علي. هو قالي نص ساعة وهيوصل.
انزوى بجسده تجاهها وقال: زينب أنا محتاج أتكلم معاكي، أنا آآ، أنا بحبك يا زينب وعايز أتجوزك.
اتسعت حدقتيها مما قال، ومع ذلك حاولت السيطرة على انفعالاتها وقالت بـ.ـارهاق: تاني، أنا مش قولتلك مينفعش مصمم ليه تتعب نفسك يا دكتور؟

تعالى صوته دون ارادة منه: أنا مش جبان عشان أخاف من الكـ.ـلـ.ـب ده يا زينب. أنا عايز أكون معاكي وواثق إنك بتبادليني نفس المشاعر اللي جوايا وإنك عايزة القرب ده أكتر مني.
وتابع بنبرة هادئة تحاول استمالتها: متقفليش أبوابها في وشنا يا زينب، اديني فرصة أدخل حياتك وأنا أوعدك أنساكي يمان واللي جابوه.

تعمد أن يزرع المرح بنهاية حديثه عسى أن تلين ملامحها قليلًا، اقترب سيف منها وقال بعاطفة تسللت لها: وافقي إنك تكوني ليا زوجة وأنا هحميكِ منه بروحي يا زينب!
ارتعبت من جملته التي حللت ما سيحدث إن وافقت، بالطبع سيفقد روحه وحياته حينها، جمعت زينب أغراضها ونهضت تهرول من أمامه تجاه بوابة الخروج.

اندهش سيف مما تفعله فحمل البلطو الطبي وكتبه وركض خلفها يناديها بخــــوف: زينب اقفي مكانك متخرجيش الا لما دكتور على يوصل.
ألقت بحديثه عرض الحائط وخرجت من بوابة الجامعة تحاول إيقاف سيارة أجرة لتفر من أمامه، وسيف مازال يهرول من خلفها يحثها على التوقف.

أشارت لاحدى سيارات الاجرة فدنت منها، أسرعت زينب تفتح بابها الخلفي فجذبها سيف يمنعها من الصعود مشـ.ـددًا على كلمـ.ـا.ته: زينب مينفعش اللي بتعمليه ده ادخلي جوه استني دكتور على أو خليني أوصلك لكن مش هسمحلك تآآ، آآآه.

قطع كلمـ.ـا.ته صارخًا بو.جـ.ـعٍ طاله مع تلك الضـ.ـر.بة القوية التي طالت رأسه من الخلف، جعلته يضع يده على نفورة الدmاء المنتشرة من رأسه، فاستدار للخلف فتفاجئ بأربع رجـ.ـال ذو أجساد مهيبة، أحدهم يحمل عصا حديدية غليظة وتلك الضـ.ـر.بة كانت أول هجمـ.ـا.ته.
جحظت أعينها رعـ.ـبًا وفور أن استدار إليهم سيف تمكنت من رؤية دmائه فصرخت بهلعٍ: سيف!

ترك الكتب منه وقبل أن تطوله ضـ.ـر.بة أخرى منع العصا من أن تلمس رأسه وركله بقوة ببطنه فسقط الرجل المقنع أرضًا يتلوى من ضـ.ـر.بته، فأتاه الاخر يهاجمه.
تراجع سيف للخلف ويده تبعد جسد زينب الماسد خلفه، هامسًا لها: اركبي التاكسي وامشي من هنا حالًا.
تساقطت دmـ.ـو.عها تباعًا ويديه تتعلق بذراعه الذي يعيدها خلفه كالستار الذي تحتمي من خلفه، فرددت باصرارٍ وحبًا تمرد بوقته ليخبره بما تخفيه: لأ، مش هسيبك لوحدك يا سيف.

وقبل أن يجيبها وجد أحدهم يدنو إليه، فسد سيف لكمته وواجهه ببراعةٍ حينما منحه لكمة حطمت أنفه بشكل جعل الاثنان الاخرين ينتبهون لمهاراته بالدفاع عن نفسه، فعلموا بأنه تدرب على فنون الملاكمة ما يجعله يسد هجمـ.ـا.تهما لذا أشاروا لبعضهما اشارة توحي بالغدر والخيانة، فنفذت خطتهما أن يلهيه أحدهما لحين أن يجذب الاخر العصا الملقاة أرضًا ويواجهه بغتة.

تراجع سيف بها للخلف ودفعها لباب سيارة الاجرة المفتوح هادرًا بانفعال: اركبي يا زينب وامشي من هنا، أنا هبقى كويس مالكيش دعوة بيا.
بكت وهي تتعلق بذراعه وتراقب من يتقدmان إليه بفزع: لاااا، مش هسيبك لوحدك يا سيف.

أبعدها للخلف وهرع تجاه من يقترب إليه، رفع الرجل قدmه ليركله فأمسك بها سيف ورفع جسده ليسقط بثقله على قدm الاخر فصرخ بألــمٍ، انهال عليه باللكمـ.ـا.ت وقبل أن تطوله لكمته الاخيرة شعر بضـ.ـر.بة قـ.ـا.تلة فوق رأسه، تستهدف نفس إصابته فجعلت توازنه يختل وما حوله يدور به كالكرة المتراقصة.

أبعده المصاب أسفله عنه بينما الأخر رفع العصا وعاد يصوب ضـ.ـر.بة إليه على كتفه، فتألــم سيف وتأوه بو.جـ.ـعٍ قـ.ـا.تل، وما يتسلل إليه صراخها المرتعب: سيف، لأاااااا...
ضـ.ـر.بة أخيرة نالت من مقدmة رأسه جعلت الدmاء تندثر من فمه وأنفه بغزارة، فسقط جسده مستسلمًا لأوجاعه، ركضت زينب تحاول الوصول إليه وهي تبكي وتصرخ بجنون: سيف!

منعها أحد الرجـ.ـال من الوصول إليه، بينما اقترب منه أحدهم يفتش بجيبه حتى عثر على هاتفه فحمله بجيبه وغادر هو ومن معه لتلك السيارة السوداء التي كانت بانتظاره.
اندهشت زينب مما حدث، كانت تظنهم رجـ.ـال يمان ولكن حينما تركوها وغادروا تيقنت بأنهم ليسوا الا لصوص قـ.ـا.تلة.

هرولت إليه بكل قوتها، انحنت تحمل رأسه النازف ووضعتها على قدmيها، فتلوثت تنورتها البيضاء بدmائه، خلعت عنها جاكيتها ووضعته فوق جـ.ـر.ح رأسه تكبت النـ.ـز.يف الحاد وهي تناديه ببكاء وتوسل: فتح عينك يا سيف، بالله عليك فوق!
كان يستمع لصوتها فمازال لم يفقد وعيه تدريجيًا، رفعت عينيها للمارة المجتمعين من حولها وترجتهم ببكاء: فليطلب أحدكم سيارة اسعاف أرجوكم!

أشار لها احدهم بأنه طلبها وبالطريق بالفعل، فانحنت برأسها إليه تخبره بدmـ.ـو.ع اختلطت مع دmاء وجهه: الاسعاف على وصول يا سيف، أوعى تستسلم عآآ، آآ، علشاني يا سيف!
كلمة ثقيلة نطقتها بالكد، ومع نطقها انهمرت دmعاتها على رموش عينيه، فتح سيف عينيه لها ومنحها ابتسامة خافتة ثم أغلقهما مجددًا بسرعة كبيرة جعلتها تظن بأنها تتوهم.

دقائق معدودة وتوقفت سيارة الاسعاف، حملوه على السرير المتحرك بعدmا علقوا برقبته مانع الكسور حتى إذا احدثت الاصابة كـ.ـسر لا يتضاعف مع حركتهم.
كانت لجواره بالسيارة لم تتركه، صوت بكائها، حديثها إليه كل فترة والاخرى، دعواتها إليه برجاء، كان يصل له كل انفعال صغير يخرج منها كان يصل لمسمعه.

وكلما نادته ببكاء فتح عينيه يطمنها بنظرة خاطفة ويُعاود غلقهما تأثيرًا لألــمه حتى فقد الوعي بشكلٍ أفزعها و.جـ.ـعل الممرض يصـ.ـر.خ بالسائق: إننا نخسر المريـ.ـض، أسرع!
تعالى صوت بكائها وهمست بـ.ـارتياعٍ: يا رررب!
وصلوا للمشفى ودفعوا السرير لغرفة العمليات، فاختل توازنها على الأريكة الحديدية المقابلة لغرفة الجراحة، تتطلع لبابها بشرود تام، وكأنها تحمل مستقبلها ومستقبل حبها بين طياتها.

الدقائق تمر ومازالت متيبسة محلها لا تقوى على التفكير أو الحركة، إلى أن خرجت لها الممرضة تحمل لها قميصه الملطخ بالدmاء وبنطاله ومحفظته الجلدية، قربتهم زينب إليها وهي تبكي بانهيارٍ، إلى أن تسلل لها صوتًا رجوليًا: محتاجة لحـ.ـضـ.ـن حد يا حبيبي!
ودنى إليها مستغلًا صدmتها وتيبس جسدها بأرضها: عينك مشتقالي ومتلهفة للقائي وبالنهاية اجتمعنا يا زينب!

تراجعت للخلف وهي تضم أغراض سيف لصدرها وكأنه سيحضر بالحال ليدافع عنها، الصدmة جعلتها كالتي فقدت النطق، فتحاول جاهدة لتخرج صوتها المنقطع داخلها، وبصعوبة بالغة رددت: يمان!
سرت البرودة لجسدها تدريجيًا، لدرجة جعلتها متصلبة لا تحتمل الحركة، بينما الأخر مازال يقترب بخطواته البطيئة، وكل خطوة يرنو بها إليها كأنه يزف هلاك مـ.ـو.تها البطيء.
رأسها تهتز بجنون غير قابلة لتصديق رؤيتها له، ولكن عقلها يفسر ما يراه بسرعة كبيرة، نفس نظراته المحتقنة المخيفة، نفس رائحة البرفيوم المقززة تتسلل لأنفها كلما اقترب إليها، فحيحه السام يصل إليها: أيه يا زينب كنتِ متخيلة إني هسيبك؟

حجزها الحائط لتواجهه رغمًا عنها، فرفع ذراعيه يحتجزها هو الأخر هاتفًا ببطءٍ قـ.ـا.تلٍ: قولتلك إني مستحيل أتخلى عن حاجة تخصني وإنتِ تخصيني!
واستطرد بوجومٍ مفزع: كل مرة كنت بحاول أخليكِ ملكي كنت بتراجع علشان ثقتك فيا متنكـ.ـسرش، كنت بحذر على قد ما أقدر علشان ما تخافيش مني بس دلوقتي مفيش قوة في الكون هتمنعني عنك!

هزت رأسها تعترض على ما يلقيه عليها، فزاد من وتيرته: متفكريش إن العيال اللي إنتي قاعدة عندهم دول هيحموكي مني، الكـ.ـلـ.ـب اللي هددني كانت ديته رصاصة واحدة صحيح نفد منها بس الجايات أكتر من اللي راح.
مشط الطرقة من حوله بنظرة ساخرة وعاد يتمعن بها هاتفًا بغـــضــــب: الدور كان على الحقير اللي مرمي جوه ده بس حد سبقني ووجب معاه.
واستطرد بحدة: ولو قام منها هقــ,تــله أنا بنفسي.

صرح لها بأنه سيتخلص من سيف، فاحتد بكائها وازداد خــــوفًا، بصعوبة بالغة رددت: لأ، حـ.ـر.ام عليك سيبه في حاله هو مالوش ذنب!
ازدادت ابتسامته وتلاشت فجاة بشكل أرعـ.ـبها، ظلت صامته ولم تهتز لأي من تهديداته وحينما ذكره أسرعت بالحديث، غمس أظافر يده الطويلة بمرفقها فصرخت ألــمًا كلما جذبها إليه، متسائلًا بغـــضــــبٍ مخيف: حبتيه؟
بكت وهي تتأوه بصراخ، متوسلة: أبعد عني بقى، لسه عايز مني أيه تاني؟

تجاهل كل ما تتفوه به وجذبها بشراسة تناهز ما فعله: ردي عليا حبيتي الكـ.ـلـ.ـب ده؟
وشملها بنظرةٍ جريئة جعلتها تضم جسدها بخــــوفٍ: سلمتي نفسك ليه؟
برقت بصدmةٍ لاتهامه المهين لها، ومع ذلك رفعت يديها تدفع صدره بعيدًا عنها وهي تصرخ بجنون: أه حبيته ومش هكون غير ليه هو واللي عندك اعمله، عايز تقــ,تــلني اتفضل أنا قدامك ريحني من إني أشوف خلقتك.

وجدت الألــم ينتقل منها إليه، رأته يهز رأسه ولسانه يهمس بكلمـ.ـا.ت غير مسموعه فتابعت بكل قوة: أنا بكرهك وبقرف منك يا يمان. أنت أكبر غلطة في حياتي، خدعتني وخلتني أحب إنسان مريـ.ـض ومجرم. لو فاكر إنك لما هتتخلص من سيف ده هيخليني أرجع أحبك تبقى غلطان لإن الكره اللي جوايا أقوى من إنك تتغلب عليه فاستسلم وإبعد وسبني في حالي.

ظنت أنها أحرزت انتصارًا عليه مع تجمد ملامحه وسكونه عن الحركة والحديث، فانهار عالمها فجأة حينما تعالت ضحكاته تباعًا ومازال أظافره تنحر لحم ذراعها بحقدٍ، ودفع جسدها فجأة لأحد الغرف المجاورة لجناح العمليات، أغلقه بالمفتاح القابع خلفه ورفع يده إليها يزيح حجابها بغـــضــــبٍ فصرخت به مجفلة من فعلته، وما زادها صدmة محاولته للاعتداء عليها بقلب المشفى، فصرخت تستنجد بأي أحدًا ولكنه كان الأسرع منها حينما دفع محقن غريب بعرق رقبتها، فارتخى جسدها كالهلام بين يديه.

حملها وألقى بها على الفراش بعنفٍ ألــم جسدها، ومال عليها يتطلع بعينيها قائلًا: كنت عايز أحترمك وأخدك وانتي مراتي على سنة الله ورسوله. بس مدام بتكرهيني فكره بكره أخد اللي أنا عايزه ومن غير جواز.
وانحنى لأذنيها يهمس بفحيحه المقزز: هخليكي عاهرة ليا ولنزواتي يا زينب!
انهمر الدmع من عينيها كالشلال، وبكلمـ.ـا.ت تحجرت بحلقها رددت: ل. أ، أ. ر. ج. و، ك (لأ، أرجوك! ).

رجائها، انهزام روحها أمامه، دmعاتها المتدفقة، استسلام جسدها، بعثت البهجة بروحه المريـ.ـضة، أسقط رأسه لرقبتها ينهشها كالذئب المفترس، ومازالت تعافر لأن تحرك أي جزء من جسدها لتدافع عن ذاتها، حتى صوتها احتبس داخلها وكأنه يضع داخل فمها حجرًا ثقيلًا.

جوارها ببضعة أمتار كان ينازع للحياة وهي تنازع لحماية عرضها، تخشى أن يُدنسها ذلك الحقير، رفعت رأسها للأعلى تدعو بكل انكسار أن ينقذها ربها مما سقطت هي به، فأتاتها استجابة سريعة تربت على روحها المكلومة حينما انكـ.ـسر باب الغرفة ليطل من أمامها عُمران و آدهم وأخرهما كان علي الذي ترك أمره لأخيه ولزوج شقيقته وهرول إليها ينزع جاكيته ليخفي جسدها عن الأعين بغـــضــــبٍ وغيرة على عرضه وكأن من أمامه هي شمس .

انحنى إليها يضع ذراعيها بجاكيته وهو يناديها بفزعٍ: زينب، سمعاني!
تقابلت عينيها الباكية به، تشكو له ما تعرضت له بكلمـ.ـا.تٍ غير متزنة: ع، ل، ي، (علي! )
انحنى يجذب حجابها الملقي أرضًا وعينيه تبعد عن رؤيتها، فوضعه باهمالٍ واتجهت نظراته لذاك الحقير صارخًا بعصبية بالغة: جيت لقدرك يا حقير!

أشار له عمران بأن يظل محله، مرددًا وعينيه تخترق عين من يتأمله: أهلًا بدكر البط، أخيرًا اتقابلنا وش لوش، فاكر لما قولتلك هتزعل لما تشوفني. وإنت شكلك كنت مُطيع وخــــوفت تطلعلي. بس قدرك بقى وقعك مع سيادة الرائد عمر الرشيدي جابنا لحد عندك في ظرف ساعتين زمن.
وتابع وهو يخلع جاكيت بذلته الانيق: صحيح اتفاجئنا بوجود زينب معاك بس كويس أهي تكون شاهدة على تأديبك.
ضحك مستهزأ مما قبالته، وردد: مين ده اللي، هيأدبني؟

أجابه بلكمةٍ قاسية نالت من فمه فأسكبته دmاءًا، وصوت عُمران يصل إليه: مش مالي عينك أنا بروح أمك!
وجذبه من ياقة قميصه المفتوح: بدل ما تتشطر على واحدة ست لاعب راجـ.ـل يعرفك اللي فاتك في دروس الرجولة يا.

وانهال عليه عُمران بكل قوته، بينما يراقبه آدهم باستمتاعٍ وجسده يستند على باب الغرفة، حاول يمان مجابهة عُمران ولكنه كان شرسًا، سريعًا بخطواته، جسده العريض الممتد بعضلاته أوحت له مدى تيقنه لفنون القتال والرياضة الشاقة أمدته بجسدٍ قويًا لا يستطيع أن يتمكن من التغلب عليه، فدث يده بجيب سرواله وضغط على زر يحمله بريمـ.ـو.ت.

سدد له عمران ركلات أسفل بطنه وهو يصـ.ـر.خ بوقاحة: أنا هديك درس يخليك تحرم تخاف تقرب لأي واحدة ست طول حياتك.
وتابع وهو يدفع وجهه بالخزانة الزجاجية فانطلق الزجاج داخل وجهه فصرخ مستغيثًا كالنساء، يينما يصيح عمران بعصبية بالغة: ما تدافع عن نفسك يا دكر! فين قوتك اللي فارض بيها نفسك يا ابن ال مستقوي برجـ.ـالتك وباعتهم يقــ,تــلوني!

سحب يمان المزهرية الموجوده على سطح المكتب فكانت الغرفة تخص أحد أطباء الأسنان، وقبل أن يلقفها فوق رأسه أبعدها عمران عنه وهو يهدر من بين اصطكاك أسنانه: متخلقش لسه على وش الدنيا اللي يعلم على عُمران سالم الغرباوي!
لف يده حول رقبته بشكل مقبض، فاندفع تجاهه آدهم يبعده هاتفًا بحزم: كفايا يا عمران، هيمـ.ـو.ت كده في ايدك!

حاول عُمران دفعه للخلف: اابعد يا آدهم. هقــ,تــله واللي يحصل يحصل، خاطفها في المستشفى ومفضي الدور كله فاكرها سيبه بروح أمه!
استخدm آدهم قوته ولكم عُمران بشراسة جعلت جسده يرتد للخلف بعيدًا عن ذاك الذي سقط أرضًا يلتقط أنفاسه بصعوبة بالغة كالجراد المدعوس.
التقطت أذن آدهم الخطوات القادmة، فدفع عُمران خلفه وسحب سلاحه استعدادًا للقادm.

ملأت الغرفة بعدد من الرجـ.ـال المسلحين، يصوبون تجاه آدهم الذي استغل كاتم الصوت الذي يضعه وأطلق مستهدفًا أيديهم فسقط عنهم الاسلحة، وحينها تواجهوا مع عمران وعلى الذي أسقط اثنان منهما بحركة تشل الجسد مؤقتًا تعلمها جيدًا.
استغلوا انشغالهم وسحب اثنان منهما رئيسهم الذي ينازع للبقاء حيًا، بينما غطى الباقية ظهورهم بالاسلحة حتى هرولوا جميعًا للخارج.

أعاد آدهم سلاحه فاندفع عمران للخارج هاتفًا بشراسة: هنسيبهم يمشوا بالبساطة دي.
أوقفه آدهم قائلًا: مينفعش نخرج وراهم يا عُمران. متنساش احنا فين!
تهدلت ملامح على بحـ.ـز.ن وضيق: يعني لو مكناش هجمنا على المكان اللي وصل لآدهم اشارته كان اعتدى عليها!
غلت الدmاء بعروق عمران، فاتجهت نظراته للفراش يخطتف نظرة سريعة عليها، وعاد ببصره لأخيه يسأله: أذاها؟

سكن الوجوم تعابيره ورفع كتفيه بقلة حيلة: مش عارف، لما تفوق من مفعول المـ.ـخـ.ـد.ر هنعرف.
خـ.ـطـ.ـف آدهم نظرة إليها وحينما وجد عينيها مفتوحة ودmـ.ـو.عها تنهمر دون توقف علم نوعية المـ.ـخـ.ـد.ر المندث بأوردتها فردد بغـ.ـيظٍ: المـ.ـخـ.ـد.ر ده محرم دوليًا إزاي قدر يوصله الحقير!

تنهد عُمران بيأسٍ فمرر عينيه للاسفل ليبحث عن جاكيته، اندهش لوهلة حينما تعلقت نظراته بقميصٍ ملطخ بالدmاء ولجواره محفظة جلدية، التقطها وفتحها فجحظت عينيه بصدmة حينما وجد هوايته فقال وهو يرفعها نصب أعينهما قائلًا: دي محفظة سيف، أيه اللي جابها هنا؟

التقط منه آدهم القميص الملطخ بالدmاء فتـ.ـو.ترت الأجواء بينهم خاصة حينما قال علي: وجود زينب هنا أصلًا غريب، مش معقول إن الكـ.ـلـ.ـب ده هيخـ.ـطـ.ـفها في مستشفى عام زي دي الا لو كانت هي هنا وهو اللي ظهرلها ومقدرش يتحكم في نفسه فدخلها هنا.
تساءل عمران باستغراب: وأيه اللي هيجيب زينب هنا؟ ومحفظة سيف وقميصه آآ.
ابتلع باقي جملته بو.جـ.ـعٍ هاجمه حينما حلل مغزى الاحداث، فهرول لغرفة العمليات وهو يصـ.ـر.خ: لأ، مستحيل!

اتبعه على وآدهم للخارج، فوجدوه يقترب من أحدى الممرضات يتساءل بتـ.ـو.تر وهو يضع هوية سيف أمامها: عذرًا سيدتي هل من بالداخل هو هذا الشاب؟
تمعنت الفتاة الانجليزية بما يحمل وأومأت برأسها مؤكدة: نعم. لقد أعطيت أغراضه الخاصة للفتاة التي حضرت برفقته.
وتابعت تنقل له وضعه: اصابة الرأس قوية مازال الأطباء يجاهدون لانقاذه.
ونهت حديثها القصير قائلة بلطفٍ: استسمحك عذرًا سيدي.

ضم عُمران المحفظة إليه وجلس على الأريكة من خلفه بصدmة، ومن جواره على يحتضن رأسه بين يديه في محاولةٍ لفهم كل تلك الألغاز، فحللها ذو العقل المدبر لخبرته بعمله بالمخابرات لخمسة أعوام قائلًا: سيف اتهاجم وزينب جت معاه هنا علشان كده الكـ.ـلـ.ـب ده ظهرلها...
وتابع بغيومٍ قاتمة: بس أيه خلاه يجي وراها لحد هنا لما كان يقدر يخـ.ـطـ.ـفها من نفس المكان اللي قدر يسيطر فيه رجـ.ـالته على سيف!

وجلس بمنتصف مجلسهما مستطردًا: الموضوع ده فيه حاجة غلط، على حاول تفوق زينب حالًا، هي الوحيدة اللي عندها اجابات الاسئلة دي.
دmس رأسه بين ساقيه بحـ.ـز.نٍ جعل صوته يحتقن: المـ.ـخـ.ـد.ر اللي ادهولها قوي مستحيل تفوق منه الا بعد خمسة وعشرين دقيقة كحد أقصى.
واستدار بجلسته لعمران يضم كتفه بيده، ويهاتفه بحـ.ـز.ن: كلم يوسف يجي، لازم يكون جنب أخوه يا عُمران.

لمعت عينه بدmعة خائنة فأزاحها سريعًا ومال على أخيه يخبره بصوته المتحشرج: هقوله أيه يا علي؟ مش هقدر!
ربت على كتفه بحنانٍ مضاعف وقال: ابعتله رسالة وخليه يجي بدون ما تقوله تفاصيل.
أومأ برأسه وسحب هاتفه يرسل ليوسف، بينما نهض على وولج للداخل يتابع حالة زينب بعدmا نادى على أحد الطبيبات لتتفحصها، وتساعدها على استرداد وعيها سريعًا.

رسالة مختصرة أخبره بها بأنه ينتظره بالمشفى التي أرسل إليه عنوانها، فأسرع يوسف بسيارته للموقع المرسل إليه وبداخله نغزة تكاد تخترق صدره وغـ.ـيظًا يفور داخله لتجاهل عُمران رسائله ومكالمـ.ـا.ته ليطمئن عليه.
صف سيارته وهرول للمصعد متمتمًا بخفوت: استر يا رب!
فور توقف المصعد رأى يوسف عُمران يجلس أمام غرفة العمليات ولجواره يقف آدهم، فهرول تجاههما يناديه بقلقٍ: عُمران. في أيه؟

رفع عينيه صوبه وهو لا يعلم ماذا سيخبره، ارتبك لسانه عن تردد ما سيقول، فوزع يوسف نظراته الحائرة بينه وبين آدهم: ما ترد يا ابني قلقتني!
صمته وتـ.ـو.تر ملامحه أمامه زرع القلق في نفس يوسف، فرفع عينيه لآدهم يسأله: في أيه يا آدهم. جايبني المستشفى هنا وساكتين كده ليه؟
خرج على من غرفة زينب فور سماعه صوت يوسف، فضيق الاخير عينيه بدهشةٍ: وإنت كمان هنا يا علي!
وبنفاذ صبر صاح: ما تفهموني في أيه!

سحب عُمران نفسًا ثقيلًا واستدار تجاهه يقول بحـ.ـز.نٍ: يوسف من فضلك حاول تكون هادي وآآ.
سيف جراله حاجة!
نطق بها بمقلتيه القاتمة بعد أن ترسخ داخله تحليل لوجوم ملامحهم واستدعائه إلى هنا، أسرع على يجيبه: هيبقى كويس يا يوسف. إن شاء الله اصابته تكون سطحية جدًا.

اتسعت مقلتيه بصدmة، كان يتمنى أن ينفي ذلك ويخبره بأنه فهم ما يودون قوله بطريقة خاطئة، انتفضت عروقه بشكلٍ جعل العرق يتصبب على جبينه كالأمطار الغزيرة، وبدى كالتائه لا يعلم إلى أي طريق سيسلك الآن!
استعاد اتزانه بصعوبة واتجه لغرفة العمليات ولسانه يردد بخفوتٍ مؤلم: سيف أخويا جوه!

واستدار إليهم يهتف بتشتتٍ: اتصاب ازاي؟ مين اللي عمل فيه كده؟ طب طب هو كويس يعني؟ طيب مخرجش ليه! وبعدين ليه مكلمنيش! أأ، أنا كنت عنده الصبح ومجهزله الفطار بايدي لا، لأ ده هزار سخيف منك يا عُمران.
وسحبه من تلباب قميصه بغـــضــــب كالجحيم: الا سيف يا عُمران متهزرش في شيء يخصه، أوعى تفول على أخويا بالسوء أقسم بالله هتكون النهاية بيني وبينك وتغور صداقتنا بعدها، سامعني يا عُمران الا أخويا!

انهمر الدmع عن مُقلتيه تأثرًا بصديقه، هو الوحيد الذي يعلم محبة يوسف الكبيرة لأخيه وكأنه صغيره الذي لم يُنجبه بعد.
رمش يوسف بصدmة، وحرر يديه عن عنق عمران فور أن تأكد من ملامحه بأنه لا يفتعل مزاح سخيفًا كهذا، فتراجع للخلف وعينيه تتجه تلقائيًا لباب غرفة العمليات.
هرع إليها وبعد أن قدm للاطباء هويته وتأكدوا بأنه طبيبًا ويقرب للحالة سمحوا له بالتواجد بالداخل.

دنى يوسف من الفراش القابع به أخيه بمنتصف غرفة الجراحه، يلتف من حوله عدد من الاطباء يحاولون بشتى الطرق انقاذه، مرددين بخطورة اصابته واحتمالية وجود نـ.ـز.يف داخلي.
انهمرت دmعاته تباعًا وهو يحدق بوجه أخيه الممتليء بالكدmـ.ـا.ت المؤلمة، فاختص مكان من وسط الاطباء ومال على أذنيه يترجاه ببكاء: أنا جنبك يا سيف!

وتابع وصوت بكائه يتخلل الغرفة: ألف مليون سلامة عليك يا حبيب قلب أخوك. والله ما هرحم اللي عمل فيك كده هقطعلك ايده.
وأزاح دmـ.ـو.عها خاطفًا نظرة لمؤشرات الاجهزة من حوله، انتابته حالة من الفزع حينما ساء نبضات قلبه بشكل ملحوظ فمال عليه يصـ.ـر.خ به: متسبنيش يا سيف، خليك معايا علشان خاطري متبعدنيش عنك يا سيف همـ.ـو.ت والله العظيم لو جرالك حاجة.

وأشار على صدره ودmـ.ـو.عه تغرق وجهه: أهون عليك تعـ.ـذ.بني يا سيف، يهون عليك و.جـ.ـعي؟
رفع جفنيه الثقيل ليحاول التأكد من سماع ذلك الصوت المألوف، ظن أنه يهلوس من أثر الجراحة والمـ.ـخـ.ـد.ر فبدأت صورته المشوسة تبدو واضحة، فتحركت شفتيه من بين قناع الاكسجين: ي. و. س. ف (يوسف! )
أمسك يده المنغمسة بالمحلول وهو يردد بابتسامة تعاكس بكائه: أنا هنا جنبك يا سيف.
أغلق عينيه مجددًا ولسانه يردد من بين أبخرة الجهاز: زينب!

بالخارج.
أشار على لعمران أن يأتي لغرفة زينب، فما أن دنى إليه حتى همس له: كلم مايا تجيب لزينب لبس وتيجي. مش هينفع ترجع البيت بلبسها المقطع ده فاطمة لو شافتها أو عرفت بحاجة هتدmر ومجهودي معاها كله هيروح في الفاضي.
هز رأسه بتفهمٍ وربت على كتفه: متقلقش هنبه على مايا متعرفهاش حاجة. اطمن!

منحه ابتسامة صغيرة، بينما سحب عُمران هاتفه واتجه لأحد الأركان ينتظر سماع مهلكة فؤاده فأتته تجيبه بصوتها الناعس: عُمران!
ابتسامة مشرقة تجلت على ملامحه الجذابة فتهف بصوته الهامس المغري: حبيب قلبه وعيونه، صحيتك من النوم يا بيبي؟
أتاها ردها مرهقًا، كسولًا: أممم، مش عارفة مالي بنام بالنهار كتير ليه.

وتابعت تهاجمه بخبث الأنثى: يمكن علشان بقضى الليل كله بستناك لما ترجع من سهراتك الكتيرة مش بعرف أنام من كتر قلقي عليك!
ضحك وهو يردف بخبث: لا يا بيبي مش قلق. ده علشان مبت عـ.ـر.فيش تنامي بعيد عن حـ.ـضـ.ـن جوزك حبيبي. مش كده ولا أيه يا حبيب قلب جوزه؟
يكاد يحزم بأنه يستمع لصوت احتباس ضحكتها، فنجح بتهيئتها لما يود قوله: حبيب قلب جوزه ينفع يعتمد عليه في طلب؟
أتاه صوتها الجادي: طبعًا. قول!

أخبرها بنبرة هادئة: عايزك تدخلي أوضة زينب تجيبي منها لبس خروج كويس وتجيني على اللوكيشن اللي هبعتهولك بس بدون ما فاطمة تحس بشيء، هتقدري؟
اعتدلت بفراشها وتساءلت بجدية: ليه هي زينب مالها؟
أسرع بالرد عليها: كويسة جدًا متقلقيش ولما تيجي هت عـ.ـر.في كل حاجة. المهم خليكي عاقلة ومتلفتيش نظر فاطمة ليكي. ولما تطلعي من البيت كلميني علشان أقف استناكي.
حاضر.
خدي بالك من نفسك وسوقي على مهلك.
تمام يا حبيبي اطمن.

قلب حبيبك ونور عيونه إنتِ يا مايا!
وبمجرد أن أغلق هاتفه تلاشت عنه ابتسامته وفترته المؤقتة بالحديث مع من أراحت قلبه.

عاد عُمران ينضم لمجلس آدهم وعلي، فاستمع آدهم يردد: اول ما نطمن على سيف لازم نوحد أقوالنا كلنا إن اللي عمل كده هو يمان، حظه الاسود وقعه إن عمل عملته في المستشفى والكاميرات مالية المقر، أكيد لما يعرف إنه اتهم باللي حصل لسيف ومهاجمته زينب هيهرب من انجلترا فترى مؤقتة نقدر فيها نرتبله على مزاج.

ووزع نظراته بينهما مستطردًا: عيبنا الوحيد إننا مش في دولتنا وحرفيًا هنا بيتلككوا على الوحدة لينا، فمحتاجين نتخلص منه بتخطيط تقيل أوي ميوقعش حد فينا في مشاكل!
هز على رأسه بتفهمٍ فصاح عُمران ساخرًا: اطمن بعد العلقة المحترمة اللي أكلها هينام شهرين في السرير!
ابتسم آدهم بخبثٍ، وفور أن خرج يوسف اليهم التفوا من حوله، فسأله على باهتمام: طمنا يا يوسف سيف بقى كويس؟

جلس على المقعد بعدmا فقد القدرة على الوقوف وأجابهم بصوتٍ متحشرج: الحمد لله الدكاترة بيفوقه جوه وهينقلوه على أوضة عادية.
ورفع رأسه لعمران يسأله بحدة: أيه اللي حصل يا عُمران؟ ومين اللي عمل في أخويا كده؟
أجابه على نيابة عنه: يمان ظهر هنا لزينب وكان هيتعدي عليها لولا إننا اتبعنا اشارة تليفونه ووصلناله هنا.
ضيق حاجبيه بصدmة: يعني هو اللي عمل فيه كده؟

نفى آدهم ذلك هاتفًا: صدقوني مستحيل يكون هو. والا مكنش ساب زينب تيجي معاه هنا الموضوع غامض واجابة سؤالنا عند زينب.
والتفت لعلي يخبره: دكتور على زينب لازم تفوق وحالًا.

تحررت يدها أخيرًا وانصاع لها باقي أجزاء جسدها، ربما تغيب جسدها بالكامل عن الوعي الا عقلها وعينيها، تمنت لو تمكن منها المـ.ـخـ.ـد.ر وتسلل لرأسها فأفتك به هو الاخر.
ضـ.ـر.ب جسدها برودة وبالرغم من احتفاظها بجاكيت على الثقيل الا أنها كانت ترتجف بقوة جعلت أسنانها تصطك ببعضها البعض دون توقف، وبكائها لم يتوقف بعد.

استندت بجذعها على الفراش واعتدلت تضم الجاكيت من حولها بخــــوفٍ، أنكست رأسها باستسلامٍ لانهيار جسدها الهزيل.
تسلل لها صوت صرير الباب ومن ثم ولج على وعمران الداخل ومن خلفهما يوسف وآدهم، رفعت كفها تزيح دmـ.ـو.عها سريعًا وبداخلها تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها حرجًا لما تعرضت له بوجودهم.
جذب على المقعد المعدني وقربه من فراشها قائلًا بابتسامة عـ.ـذ.باء: حمدلله على سلامتك يا زينب.

أجابته بصوتها المتقطع من فرط البكاء: الله يسلمك يا علي.
مال عليها يسألها بهمسٍ منخفض: الكـ.ـلـ.ـب ده أذاكي؟
علمت مقصده الصريح فهزت رأسها نافية ذلك مما جعله يستقر بمقعده براحةٍ، فأشار له آدهم بحدة أن يتابع بسؤاله الهام، فتنحنح مردفًا: زينب أنا مقدر حالتك وعارف إنك مش قادرة تتكلمي ولا تشوفي حد بس سيف حياته كده في خطر لازم نعرف منك اللي حصل بالظبط عشان نعرف مين اللي ورا الموضوع.

رد عليه يوسف بانفعال: مش محتاجة تفكير يا دكتور على أكيد يمان الكـ.ـلـ.ـب ده اللي عمل فيه كده.
اعترضت حديثه قائلة بصوتٍ مجهد: لأ، الناس اللي هجمت سيف مكنوش تبع يمان.
دنى إليها آدهم يسألها بتركيزٍ واهتمام: وأيه خلاكي متأكدة كده يا دكتورة زينب؟
قالت وهي تعدل حجابها وتحكم الجاكيت حول كنزتها الممزقة: لإني كنت موجودة معاه ومحاولوش يأذوني أو يقربولي كانوا مستهدفينه هو.

تابع آدهم بسؤاله القادm وقد بدأ حلقه يجف كالصحراء لمجرد توارد إليه مقصد ما حدث: دكتورة زينب أرجوكي حاولي تساعديني بأي شيء يدلنا على طرف الخيط، ملحظتيش شيء غريب مثلًا فيهم أو حصل حاجة لفتت نظرك.

صمتت قليلًا تفكر بالأمر وحينما وصل إليها لقطات تُعاد إليها قالت: آآه، لما ضـ.ـر.بوه على رأسه ووقع على الأرض قرب واحد منهم وفتش جيوبه، افتكرت انهم حـ.ـر.امية وعايزين اللي معاه بس الغريب انهم مخدوش غير موبيله بس ومحفظته زي ما هي!
صدmة وقعت على عاتقهم، فوزعوا النظرات بينهم بفزعٍ، وخاصة حينما ردد آدهم بو.جـ.ـعٍ مقبض احتل صدره: مش سيف المقصود.
انتصب عمران بوقفته وصاح بهلعٍ: آيوب!

تنعم بحمامٍ دافئ بعد يومًا مهلكًا بالعمل، خاصة مع غياب عُمران الملحوظ، فوجد حسام سكرتيره الخاص يطالبه بالهاتف الخاص بمكتب الاستاذ ممدوح يطالبه بالصعود ليكون محله اليوم.
ارتدى آيوب بنطاله الجينس وخرج من حمامه يتجه للغرفة الخاصة به، وما أن ولج حتى تفاجئ بها تجلس أمام خزانته وتحمل بيدها الكتاب الذي يحمل الدفتر السري، وبيدها صورة فوتوغرافية كان يخفيها بمنتصف الدفتر.

ترك المنشفة من يده وهرع إليها يجذب الدفتر والصورة هاتفًا بعصبية لم تشاهدها منه قط: من سمح لكِ بالعبث بين أغراضي؟
منحته نظرة حادة، وبعدها ألقت إليه ثورتها المقتادة: من تلك المرآة؟ ولماذا قد تجمع الصورة أخي معها؟
وتابعت قبل أن يتحدث: الصورة تخص أخي وهو بالحادية عشر عامًا من عمره، أخبرني الآن من تلك المرآة؟

وضع آيوب الدفتر بالحقيبة وأجابها بضيقٍ: لا تحاولي العبث معي يا فتاة! ثم أنني ألــم أخبرك ألا تقتحمين غرفتي هكذا؟!
تغاضت عن حديثه وصاحت باندفاع: لم تجيبني على سؤالي آيوب. من تلك المرآة؟ وماذا يوجد بالدفتر؟
واستطردت بجنون يعتليها: ما الذي تحاول فعله أيها الإرهابي!

تجاهل حديثها وأغلق خزانته جيدًا ثم استقام بوقفته قبالتها، فرمشت بـ.ـارتباكٍ ملحوظ، أشار لها أيوب بغلظة: أنا متعب وأريد أن أحصل على بعض الهدوء هنا. فلتخرجي الآن.
وجدها تتطلع به كالبلهاء، نظراتها جريئة مجردة من الحياء المعهود من الفتيات، فانتبه بأنه يقف دون ملابسه العلوية، لذا انحنى يجذب قميصه الأسود يرتديه وهو يصيح بعصبيةٍ: أغيثني يا الله!
وتابع بنفورٍ ينتابه: ألا يمكنني البقاء بمفردي؟!

انتبهت إليه فأماءت برأسها بخفةٍ واستدارت لتغادر غرفته فأوقفه قوله الصارم: سيأتي صديقي بعد قليل لا تغادري غرفتك في وجوده.
هزت رأسها بخفة واتجهت للمغادرة بينما جذب آيوب هاتفه يرسل برسالة لسيف: «انت فين يا ابني كل ده في الطريق؟! فين من ساعة ما طلبت مني اللوكيشن انت توهت ولا أيه يا دكتور سيفو! ».

زوى حاجبيه دهشة حينما وجده يقرأ رسائله دون ردًا، وأكثر ما يثير دهشته طلبه المفاجئ لموقع المنزل ورغبته المقلقة بالقدوم إليه، حتى طريقة كتابته للرسالة كانت بايجاز لا ينطبق على شخصية سيف ومع ذلك جلس ينتظره ليعلم ما به.
اتجهت آديرا لغرفتها ولكنها توقفت فجأة حينما انطلق صوت همسات خافتة من أمام شقتها، ووجدت فتحة الباب تستجيب لمفتاح غريبًا من الخارج.

كبتت صرخاتها بصعوبة وتراجعت لغرفة آيوب بحذرٍ، فما أن ولجت للداخل حتى همست له برعـ.ـب: هناك من يحاول فتح باب المنزل!

وما كادت باستكمال حديثها حتى تسللت إليهم أصوات أقدام تتقدm منهما وصوت سحب زناد الاسلحة يوضح لهم كناية الحاضرين، ارتعبت آديرا وتراجعت للخلف، فأعادها آيوب خلف ظهره وخرج يراقب ما يحدث بالخارج، فما أن رأي رجـ.ـال ملثمين يقتحمون الشقة حتى أسرع إليها يحمل السرير الحديدي ليظهر تجوفه الداخلي مشيرًا لها بلهفة: اختبيء واحرصي الا تصدرين صوتًا.

تمددت آديرا بباطن الفراش المجوف وهي تهز رأسها إليه بينما كف يدها تكبت به شهقاتها المنفلتة عن فمها.
اعاد أيوب الفراش سريعًا ورتبه بشكلٍ منظم حتى لا يثير الشكوك إليه، متخذًا قراره المسبق بأنه سيحميها لأخر قطرة من دmائه.
أغلق الضوء بحذر واختبئ خلف باب الغرفة، فما أن انفتح بابها حتى هوى على رأس من ولج بالمشجب الخشبي الخاص بتعليق الملابس، تليه ذاك الذي أسرع من خلفه.

تأوه الرجلين حينما تغلب عليهما آيوب، فسحب أصواتهما انتباه باقي الرجـ.ـال المنفردين بالشقة بأكملها يحاول العثور عليهم.
امتلأت الغرفة بأربعة منهم يحاولون السيطرة عليه وتقيده بالأساور الحديدية فرئيسهم يريده حيًا.

كان التغلب عليه مرهقًا للغاية، لتمرينه الدائم بدورات الملاكمة التي تلاقها برفقة سيف بالفترة الأخيرة، فسحب احدهم سلاحه ومال بطرفه على جبين أيوب فاختل توازنه جراء ذاك الدوار الذي هاجمه فجأة، ومع ذلك بقى صامدًا قبالتهم فاجتمعوا اللعناء الأخِسَّةٌ من حوله ينهشونه حتى يضمنون تبلد قوته الظاهرة على جسده الرياضي الممشق.

يلتفون ببذلتهم السوداء وتسريحة رأسهم المجتمعة بجديلة تشبه النساء، كان بمفرده يقاوم ضـ.ـر.باتهم، عاجزًا عن صد ضـ.ـر.باتهم الدنيئة التي لا تستهدف الا ظهره، ترى إن كان أصدقائه العرب لجواره هل كان سيتلقى كل تلك الضـ.ـر.بات؟

إن اجتمع الشباب لجواره لكانت نهاية هؤلاء الخَنَازِيرُ المـ.ـو.ت لا محالة، يحتمون بأسلحتهم وبوجودهم ببلاد متحررة تنصفهم ويقومون من قوتهم المصطنعة، إنما هم الا جُرْذَان حقيرة تدعس أسفل الأقدام، وما يثير السخرية إنهم يدركون قوة ذلك الشاب الذي إن اجتمع بصديقه الأخر لذا أول ما فعلوه هجموا عليهما منفردين ليضمنوا أنهم سيعيقوا دفاعهما.

مال آيوب أرضًا مستسلمًا لتلك الضـ.ـر.بة القوية، فحملوه للسيارة بالأسفل ومشطوا الشقة بأكملها ليتمكنوا من ايجاد آديرا، وبالنهاية اختبئ أحدهم بحمام الغرفة وتصنعوا مغادرتهم، فرفعت حافة الفراش وصعدت لتلتقط أنفاسها ففوجئت بهم يحيطونها بكـ.ـلـ.ـبشٍ حديدي ودفعوها للسيارة جوار آيوب الفاقد للوعي وتحركوا بهما للقاء عمها الآرعن ليواجه ذاك المسلم الذي استكمل مسيرة أبادها منذ ثلاثة وعشرون عامًا فأتى ليوقظ الماضي الذي يذكره بنكسة انهزامه التي تشبه انتكاسة دولته العاهرة عام 1973، ولكن ترى هل سينتصر على ذاك الشاب التقي أم أن هناك انتكاسة أخرى ستنال من ذاك اللعين؟!
صفت سيارتها بچراج المشفى وصعدت للطابق المنشود، فتفاجئت بوجود علي و يوسف و آدهم، بدى لها بأن الأمر ليس هينًا، أسرعت من خطواتها إليهم وبقلبٍ يصـ.ـر.خ نبضاته فور أن لمحت كدmة زرقاء تحيط بأسفل عين زوجها، فنادته بهلعٍ: عُمران!
التفت إليها فوجدها تندفع داخل صدره وهي تحيط بوجهه تتفحص اصابته برعـ.ـبٍ ودون مبالاة بمن حوله، انهارت دmـ.ـو.عها واحتقن صوتها: من أيه دي؟

ضم كفيها الرقيق يطبع قبلة على باطنه هاتفًا بحنان: حبيب قلبي أنا كويس. صدقيني مفيش حاجة.
ابتعدت عنه بنظرة حملت الشك بين طياتها، واتجهت بعينيها لعلي تسأله بقلقٍ لظنها بأنه يخفي الأمر عنها: على احكيلي في أيه؟
تنحنح آدهم ليخبرها هو: اهدي يا بشمهندسة الموضوع بسيط يمان هاجم زينب من شوية وأنا وعمران ودكتور على اتدخلنا واتقذناها.
ارتعبت فور سماعها لما حدث، وبخــــوفٍ تساءلت: طيب وزينب كويسة؟

أشار لها على بهدوء: في الأوضة جوه، ادخلي ساعديها تغير هدومها وخديها وارجعي القصر وأوعي يا مايا فاطمة تعرف أو تشك في حاجة، إنتِ عارفة حالتها.
هزت رأسها بتفهمٍ، وبنظرة شك احتلت مُقلتيها رددت: وانتوا مش جايين معايا؟
كاد زوجها أن يجيبها فقاطعه يوسف الذي كان يقف على بعدٍ منهم يضع هاتفه على أذنيه بترقب، فدنى يردد بضيقٍ نزع ملامحه الوسيمة: أيوب موبيله بيرن بس مفيش أي رد. أنا قلقت.

صاح آدهم بقلقٍ: لازم نتحرك حالًا.
وتابع مشـ.ـددًا بتعليمـ.ـا.ته: دكتور يوسف خليك هنا جنب أخوك وأنا وعُمران ودكتور على هنتحرك على شقة آيوب.
يستقصيه عن صديق رفيقه الذي يعد بمثابة شقيقه الأصغر، أبدى اعتراضه هادرًا بانفعالٍ: رجلي على رجلك يا سيادة الرائد. آيوب غالي عندي ويهمني زي سيف تمامًا.

تطلع آدهم لعلي بنظرةٍ تفهمها جيدًا، فرفع يده على كتف يوسف وهدر: اسمع الكلام يا يوسف، سيف حياته لسه في خطر ولازم لما يفوق يلاقيك جنبه. متنساش إن الحـ.ـيو.ان اللي اسمه يمان حطه في دmاغه هو كمان، خليك جنبه ومتفرقهوش ولما يصحى بلغه باللي قولنهولك عشان يقوله في التحقيقات ونضمن إن الكـ.ـلـ.ـب ده يبعد عن لندن بالوقت الحالي لحد على الأقل لما نطمن على آيوب.

سكن الحـ.ـز.ن معالمه، لن يمتلك القوة لمواجهة أخيه آن أصاب السوء رفيقه، هو الوحيد الذي يعلم إلى أي مدى تصل درجة صداقتهما، فاضطر أسفًا أن يرضخ لهم.
شـ.ـدد عُمران عليه وهو يخبره بثقةٍ: متقلقش مش هنتخلى عن أيوب، إن شاء الله ميكنش الكـ.ـلـ.ـب ده وصله ولو عملها فآدهم معانا هيساعدنا نوصله.
منحه ابتسامة صغيرة وإيماءة صغيرة: خلي بالكم من نفسكم.

هزوا رؤؤسهم وإتجه آدهم وعلى للأسفل بينما بقى عُمران قبالة زوجته يحيطها بين ذراعيه: مايا خدي زينب وارجعي البيت وأنا شوية وهحصلك.
تعلقت بقميصه الأبيض وهو تهز رأسها ببكاء: لا مش هسيبك بعد اللي سمعته ده يا عمران، أنا عارفة إنت رايح فين وأبقى مـ.ـجـ.ـنو.نة لو سبتك تروح!

مرر يده بحنان على طول خصرها، كأنه يحاول أن يسحب عنها رعشة جسدها الباكي، احتواها بين أضلعه وهو يعلم بأنها لن تتخلى عنه بسهولةٍ، ولكن وقته ينفذ الآن.

سحبها عُمران حاملًا منها حقيبة الملابس، و.جـ.ـعلها تسترخي بجلوسها لجواره على الأريكة المعدنية المقابلة لغرفة زينب، فقدm لها يده وهي تراقب ما يفعل باهتمامٍ، وضعت مايا كفها بين كف يده الخشن، فمرر ابهامه على جلدها الناعم برقة جعلتها تود سحب كفها من فرط مشاعرها.

منحها ابتسامة ملأها الأمان والاطمئنان الذي انعكس لها، وقال: حبيبتي أنا متعودتش أتخلى عن حد محتاج مساعدتي. أيوب صاحبي وبيشتغل معايا مقدرش أتخلى عنه، ثم إنك مكبرة الموضوع أوي أنا وعلى وآدهم هنروح شقته بس نطمن عليه ونشوفه مش بيرد على موبيله ليه!
رفعت عينيها إليه برجاء وتوسل ملأت مُقلتيها، فضم خدها بحنان ومزح: حبيب قلب جوزه اتمرد ومبقاش بيثق فيه يا ناااس!

رغمًا عنها ابتسمت، وكأنه يدلل ابنة أخيه أو ابـ.ـنته، ذاك الرجل يكاد يقودها للجنون، أحيانًا يجعلها تشعر بأنها طفلة صغيرة يحيطها بدلال، وأحيانًا يجعلها أنثى تتراقص على أوتار العشق والغرام بين ذراعيه الخبيرة، وأحيانًا تكون عالقة بين وقاحته ومزحه الذي ينجح دائمًا برسم ابتسامتها على شفتيها، وبين ذاك وهذا هي عاشقة له حد الجنون.

تمكن من السيطرة عليها وعلى مخاوفها، فضم وجهها لعنقه وهو يعيد كلمـ.ـا.ته: يلا يا حبيبي ادخلي وساعدي زينب واعملي اللي قولتلك عليه، لازم أتحرك على وآدهم مستنين تحت.
أمسكت ذراعه قبل أن يستقيم بوقفته وقالت بخــــوفٍ: خلي بالك من نفسك يا عُمران.
منحها ابتسامة جذابة وانحنى يتعمق من قبلة أعلى حجابها الطويل قائلًا بصوته الرخيم: حاضر يا حبيب قلبه وروحه!

فور صعوده بالمقعد الخلفي انطلقت علي بالسيارة على الفور ليتوجه لشقة أيوب، بينما يتابع آدهم جهازه باهتمامٍ، ففور أن اهتدى لاشارته حتى أشار لعلي: أيوب مش في الشقة.
وأضاف ويده تشير لمقود السيارة: أقف على جنب أنا هسوق.
انصاع له على وهبط ليبدل كلاهما مقاعدهما، جلس آدهم بمقعد السائق يده تشـ.ـدد على المقود بشرودٍ لفت انتباههما، فقال عمران بضيق: ده وقت سرحان يا آدهم، اطلع بسرعة قبل ما الكـ.ـلـ.ـب ده ما يأذيه!

مال بجسده للخلف ليتمكن من التطلع إليه، وردد بتـ.ـو.ترٍ: الموضوع ده مش سهل يا عُمران، احنا كده بنخبط على باب من أبواب الجحيم اللي لو اتفتحت مش هتبلعنا لوحدنا.
لكم عمران المقعد الأمامي بغـــضــــب: تبلع اللي تبلعه المهم نلحقه. أنا مش هتخلى عن أيوب حتى لو التمن كان روحي سامع!
نهره على بحزمٍ: اتحكم في أعصابك يا عُمران وسيب آدهم يتكلم عشان نفهم هو عايز يقول أيه؟

وأشار باحترام عساه يلملم وقاحة أخيه الصغير: اتكلم يا آدهم.
تنهد بحـ.ـز.نٍ وصوتًا احتقن بألــمٍ عظيم: الشخص ده مش يهودي بس ده من الجيش الاسرائيلي، بعيدًا عن إنه هيكون واخد احتياطاته أوي فبمجرد أننا نشتبك معاه فده هيعمل تـ.ـو.تر في العلاقات الدبلوماسية وهنضطر نعمل اعتذار وتوضيح إنه قــ,تــل خطأ وهيدخلنا في دوامة ملهاش أول من أخر.

وضعهما في مأزق يصعب على كلاهما فهم ما يود قوله، فردد عمران بعد تفكير: مش لازم تكون موجود معانا يا آدهم لإنك كده هتتعرض لمحاكمة عسكرية، دلنا على المكان وأنا هروح بنفسي حتى لو كان التمن حياتي.

زصل الغـــضــــب لذورته، فصاح بعصبية تتمكن منه للمرة الأولى: عمران أنا مش هتخلى عن أيوب حتى لو هخسر شغلي وحياتي كلها، أنا بعرفك بخطورة الوضع اللي احنا داخلينا عليه، لكن أنا جاهز من زمان لليوم ده بدليل جهاز التعقب اللي حطيته لأيوب واللي هيوصلنا لمكانه دلوقتي.

سحب على أنفاسه بتثاقلٍ، فوزن أموره فيما يدفعه زوج شقيقته إليه، يخبرهما بطريقة غير مباشرة إن ما يقدmون على فعله قد يخسرهم مستقبلهم وعائلتهم، يعلم بأنه لشيءٍ مؤلم خسارته ولكنه على يقين بأنه لن يتخلى عن شاب مغترب، مسلم، يملك قلبًا ذهبيًا كآيوب، لذا كـ.ـسر الصمت العالق بينهم وقال: اطلع يا آدهم احنا معاك!

فور أن نطق بتلك الكلمـ.ـا.ت حرك مفتاح السيارة وقاد بسرعةٍ خطيرةٍ جعلت اطارات السيارة تحتك بالرصيف مصدرة صوتًا مخيفًا كبداية حربًا تستلهم قلوبهم، حربًا ليست بهدف العيش والنجاة إنما هي حربًا للشرف والمروءة، حربًا لطالما كانت وستظل بيننا وبين هؤلاء الخنازير.

عاونتها مايا على ارتداء فسانها وعقد حجابها، وبالرغم من انشغال عقلها بالتفكير بزوجها الا أنها كانت حزينه حينما أخبرتها زينب عما حدث، فربتت بحنان على ظهرها وقالت: متخافيش يا زينب الكـ.ـلـ.ـب ده مستحيل يتعرضلك تاني بعد ما الشرطة أخدت أقوالك وأقوال سيف والكاميرا اللي بره كان فيها كل اللي حصل، أكيد هيجبوه.
لفت انتباهها تلفظها لاسمه، فسألتها بلهفةٍ واضحة: هو سيف فاق؟

ابتسمت بخفة وأجابتها: كنت لسه واقفة مع ليلى من شوية وقالت انه فاق وقال للشرطة زي ما آدهم فهمه.
أمسكت بحقيبتها ومتعلقاتها تشير لها: يلا يا حبيبتي نرجع البيت قبل ما الوقت يتأخر عن كده.
اتبعتها زينب للخارج، فمرت من أمام غرفته وعينيها تراقب الباب بلهفة وارتباك، تباطئت خطواتها حتى توقفت عن الخطى وعينيها تتطلع للباب بنظرةٍ مهتمة، فأفاقت على صوت مايا: زينب يلا!

تحرر صوتها الدفين على استحياءٍ: هو أنا ممكن ادخل أطمن على دكتور سيف؟
كبتت مايسان ابتسامتها حتى لا تخجلها، ورددت بحنقٍ: أووف أنا إزاي نسيت، كويس إنك فكرتيني ميصحش نمشي من غير ما نطمن عليه ونتأكد إن ليلى ودكتور يوسف مش محتاجين حاجة.
واتجهت لباب الغرفة تطرق بخفة وفور استماع صوتًا يأمر الطارق بالولوج، ولجت كلتهما للداخل.

تحرك رأس سيف جانبًا ليتمكن من رؤية الطارق، فتهللت أساريره حينما وجدها برفقة مايا، تابع يوسف تغير ملامحها بنظرة غامضة، نهضت ليلى تستقبلهما لأقرب أريكة، فكانت مايا أول من تكلمت: عامل أيه يا دكتور سيف؟
أجلى صوته المبحوح ليجيبها وعينيه لا تترك زينب التي تضع عينيها أرضًا تهربًا من نظراته، وأكثر ما يخجلها صراخها متلهفة بأسمه فور أن تلقى الضـ.ـر.بات التي أسقطته أرضًا: الحمد لله بخير.

انتظر أن تتحدث، يشتاق لسماع صوتها أو حتى نظرتها الدافئة إليه، حرمته بقسوةٍ من لمح مُقلتيها حتى صوتها، شعر سيف بأنها ليست على ما يرام، وقد أجاد ظنونه حينما جلست زوجة أخيه ليلى جوارها، تضع يدها على كتفها بشفقةٍ انتقلت بحديثها: انتِ كويسة يا زينب؟

رفعت رأسها إليها وهزتها بإيماءةٍ صغيرة فاهتزت دmـ.ـو.عها وانهمرت، فضمتها بقوةٍ إليها قائلة: متزعليش يا حبيبتي إن شاء الله هيأخد جزاته، الشرطة أكيد مش هتسيبه بعد اللي عمله ده.
هاجمته ظنونًا فتكت به دون رأفة، فلعق شفتيه الجافة وبصعوبةٍ تساءل: هو أيه اللي حصل؟
فك يوسف عقدة ساعديه ونهض عن مقعده متخليًا عن صمته الغامض وانحنى تجاه أخيه يربت على يده المصابة بحنانٍ: محصلش حاجة يا حبيبي ارتاح انت.

ومنح نظرة تحذيرية لزوجته الا تتحدث بالأمر، فالتقطها سيف وحاول النهوض هاتفًا: في أيه يا يوسف؟ وزينب مالها؟، آآآآآه!
تأوه بألــمٍ حينما رفع رأسه المصاب في محاولاته للنهوض، فسقط على الوسادة يتألــم بصوتٍ اتتزع قلب أخيه من موضعه، فصاح به: اهدى يا سيف. إنت لسه خارج من العمليات!

مال برأسه تجاهها فوجدها تركت مقعدها ووقفت تراقبه بفزعٍ ولهفة جعلته يمنحها ابتسامة ضمتها بعاطفة تبدد عنها كل ما تعرضت له، هبط بنظراته لشفتيها المتورمة وبقعة الدmاء المتجلطة جوارها، فأسبل بجفونه للحظة وصاح بعنفوان: أيه اللي في وشها ده؟
وشملهم بنظرة متعصبة: ما تقولولي في أيه بالظبط؟!

نـ.ـد.مت ليلى لتسرعها بالحديث أمام شقيق زوجها فمنحت يوسف نظرة نادmة، بينما ارتبكت زينب لرؤيته غاضبًا لتلك الدرجة فوجدت قرار رؤياه بتلك اللحظة لم يكن الصائب.
تدخلت مايا بالحديث حينما تصاعدت الامور، فقالت: مفيش حاجه يا دكتور اهدى من فضلك علشان العصبية غلط عليك. زينب كويسة الحمد لله مفهاش حاجة.

راقب يوسف ملامح وجه أخيه فعلم أن لا مجال سوى الحقيقة، فقال بوضوحٍ: يمان هاجم زينب وانت بالعمليات، ودكتور على وعمران وسيادة الرائد أنقذوها منه.
احتدت نظرات عينيه بثورةٍ عاصفة، وردد بوجومٍ: عشان كده طلبت مني اتهمه بشكل مباشر للي حصلي!
هز رأسه يؤكد له: آدهم اللي طلب مننا كده لان الكـ.ـلـ.ـب ده هاجم زينب في مكان عام ومش بعيد يكررها تاني وآ.

قاطعه بصراخ جهوري حاد: على جثتي لو طال منها شعرة واحدة، زينب خلاص هتبقى مراتي سواء رفضت أو قبلت.

جحظت أعينهم جميعًا وبالأخص زينب التي تخلى عنها الحديث وبدت بلهاء تتطلع له بفمٍ يكاد يصل للأرض، ويوسف الذي يرى جانب مغاير لشخص أخيه الهادئ، ربما كان سيطير فرحًا إن حدث ذلك من قبل ولكن الآن الآذى الذي طاله وتهديدات ذاك الآرعن جعلته مترددًا بالأمر، هو ليس على استعداد لخسارة أخيه الوحيد، الساعات التي قضاها داخل غرفة الجراحة لجواره كفيلة بأن تجعله لا يود أبدًا أن يخوض نفس تلك التجربة القاسية، وفي ذات الوقت لم يعتاد أن يقسو عليه أو يعارضه بأي قرار يتخذه، خاصة وإن كان هذا القرار متعلق بقلب أخيه، أخيه الذي يُعد قلبه هو!

تنحنحت مايا بـ.ـارتباكٍ في محاولة لرفع الحرج عنهم جميعًا: كويس إننا اتطمنا عليك يا دكتور سيف، عن اذنكم هنمشي قبل ما الوقت يتأخر أكتر من كده.
وهزت تلك الساهمة التي تندث بأحضان مُقلتيه الجذابة: يلا يا زينب.
أفاقت على هزتها واستدارت سريعًا لتفر من أمامه، فاوقفهما يوسف قائلًا: ثواني يا بشمهندسة، جمال طالع على السلم يوصل بس وهنزل أوصلكم.
رفضت اقتراحه المسبق بلباقةٍ: مفيش داعي يا دكتور يوسف أنا معايا عربيتي.

رفع سيف رأسه بتعبٍ شـ.ـديد وهتف بوهنٍ: روح معاهم يا يوسف، لو مشوا لوحدهم هكون قلقان الكـ.ـلـ.ـب ده يهاجمها تاني.
تعلقت البسمـ.ـا.ت على الوجوه، وزينب تكاد تنصهر من فرط الخجل، استدار إليه يوسف يغمز له بمشاكسة مرحة: استريح انت يا عم روميو. أنا هوصلهم وراجع متقلقش.

ضحكت ليلى وقالت وهي تتابع المحلول الذي أوشك على الانتهاء: متحرجش دكتور سي?و يا يوسف سيبه في اللي هو فيه. مش كفايا قاعد عاقل ومتحمل المحلول والخمستاشر حقنه اللي أخدهم لحد دلوقتي.
جحظت عين سيف صدmة لما استمع إليه، وكأنه كان لا يعي بما يندث بأوردته وبما يحدث من حوله من أثر المـ.ـخـ.ـد.ر، فردد بتلعثم وتيهة: حقن! محلول!

قال كلمته الأخيرة وهو يراقب ما تفعله بذراعه ومن ثم انفجر صارخًا: لأ يا ليلى محلول لأاااا، شيليه بسرعة لأ!
ساد الجمع صوت ضحكات زينب المترددة بعدm تصديق لما يحدث، توالت دون توقف حتى أدmعت عينيها من فرط الضحك، ارتخى ذراع سيف عن نزع المحلول من يده ومال على وسادته بجسده المسترخي وعينيه التي تتابع ضحكاتها بهيامٍ وحبًا يزاحم قلبه في عُقر داره.

كبتت مايا ضحكاتها بتمكنٍ، وخاصة حينما ردد يوسف بسخرية: عرتنا الله يكسفك!
وأشار لهما قائلًا: اتفضلوا.
اتبعوه للمصعد الذي اندفع منه جمال يلتقط أنفاسه بصعوبة من فرط الصدmة التي تلاقاها، فصاح ليوسف بلهفة: في أيه يا يوسف؟ وسيف ماله؟!
ربت على كتفه بابتسامة ممتنة لحضوره إليه في أقل من خمسة عشر دقيقة: اهدى وخذ نفسك يا جمال، سيف كويس أنا كلمتك عشان تقعد معاه عندي مشوار مهم لازم أعمله.

وتابع وهو يشـ.ـدد على كلمـ.ـا.ته: خد بالك منه وأوعى تسيبه يا جمال.
هز رأسه بتفهمٍ وبشكٍ سأله: مين اللي عمل فيه كده؟
مال عليه يوسف يخبره: عم آديرا. خليك جنبه لما نشوف الحكاية هترسى على أيه. وأوعى تقوله اللي حصل مع أيوب أوعى يا جمال.
أكد له بتفهم: متقلقش روح مشوارك وأنا هستناك هنا.
منحه ابتسامة ممتنة ولحق بهما للأسفل، واتجه جمال لغرفة سيف ليكون جواره لحين عودة يوسف ليعلم منه التفاصيل بما حدث.

بمكانٍ مجوف كالصفيح، يحيطه الطلاء الأسود من الداخل والخارج كمحاولة تغطية عن كنايته، تغوص أعمدته بأعماق الأرض ومن فوقه الرصيف الاسمنتي المجوف، رائحة النفط تحيط بجوانب المكان من جميع الاتجاهات، والزجاج متناثر بكل زواية.

وعلى ذاك العمود كانت تستند بظهرها، ساقيها مضمومة ليدها برباطٍ قاسٍ، يجبرها على الجلوس بشكلٍ غير مريح، ومن أمامها ذاك الملقي أرضًا دون قيدًا حيث كان فاقدًا الوعي فلم يجدوا حاجة لتقيده، الدmاء تنهر من جانب رأسه ووجهه تحيط به بعض الكدmـ.ـا.ت.
استرخاء جسده باستسلامٍ هكذا ذبحها دون رأفة، ومع كثرة رجائها وندائها المتكرر له مازالت لم تستسلم بعد، فعادت لتناديه مجددًا: أيها الإرهابي أجبني من فضلك!

تدفق الدmع على وجنتها فنادته بحسرةٍ لظنه فارق الحياة: آيوب، هيا انهض لا تتركني بمفردي!
مجددًا تناديه ببكاءٍ: آيوب!
زحفت آديرا بصعوبةٍ حتى وصلت لجسده الملقي، فمالت برأسها على صدره تستمع لدقاته، فارتسمت ابتسامة سعيدة على وجهها حينما تأكدت بأنه مازال على قيد الحياة، فمالت برأسها تفرك على صدره وتناديه: آيوب، انهض آيوب.
عادت تحركه مرات متتالية وهي تترجاه ببكاء: أيها الإرهابي انهض الآن. أنا خائفة!

استجاب لتلك الدفعات المتتالية له من رأسها، فتأوه بخفوتٍ وهو يستعيد وعيه تدريجيًا، استند على ساعديه وجلس يراقب المكان ويراقبها بنظراتٍ مشوشة: أين نحن؟
سماعها صوته جعل الابتسامة تنبثق على شفتيها فرددت بعدm استيعاب: ايها الارهابي هل استعدت وعيك؟!

تطلع لها أيوب بصدmة، كانت الحبال تؤلم يدها وساقيها بشكلٍ مؤذي، جانب وجهها الأيسر متورم للغاية حتى عينيها وأطراف شفتيها، تحركت غريزة رجولته المنبثقة داخل أي رجلًا تجاه زوجته حتى وإن كان يبغضها حد الجحيم، فسألها بصوتٍ قاتمًا: هل لمسكِ أحدًا؟
هزت رأسه تنفي ذلك، وأضافت ببسمةٍ تهكم: صفعني أحدهم عدة مرات ولكنه لم يعتدي علي!

وأخفضت صوتها قليلًا تهتف بضجرٍ: ليته فعلها ولم يضـ.ـر.بني بتلك القسوة، لقد شوه وجهي الجميل!
اصطكت أسنانه غـ.ـيظًا من تلك المرأة المعتوهة، فجذبها يحل عنها ذاك الرباط، فحـ.ـز.ن حينما وجد حلقة من الدmاء تحيط بكفيها التي احتضنته تفركه ببكاء من شـ.ـدة الألــم.
اجتاز قلبه خــــوفًا من القادm، يتعامل مع أناس قد جردت قلوبهم من الرحمة، فإن لم يشفق بابنة اخيه كيف سيكون بقلبه الرحمة!

رفعت آديرا رأسها إليه وسألته ببكاء: لا أريد المـ.ـو.ت أيها الإرهابي!
مال للعمود القابع خلفه، استند عليه وأغلق عينيه مرددًا: كلنا سننالها يومًا، والآن إن قدر لي الله عز وجل لقائه فأنا مستعدًا لذلك.
زحفت إليه تخبره: ألا تخاف المـ.ـو.ت أيها الإرهابي؟
ابتسم وهو يخبرها: من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، وأنا أرغب في لقائه ولم أقصر يومًا في طاعته حتى أخشى ذلك اليوم.

وتابع وعينيه تتوجس بالمكان المريب من حوله: كل ما أتمناه أن يكون عملي صالحًا، ويتقبلني الله من الشهداء حينها سبدخلني جناته دون حسابًا.

تعجبت مما تستمع إليه، استرخائه التام وترحيبه بالمـ.ـو.ت، لم يكن أيوب شخصًا عاديًا بالنسبة لها، كل ما فعله منذ أول لقاءًا جمعهما حتى اليوم وهو غامضًا بالنسبة لها، تكفله بطعامها ومسكنها، غض بصره المستمر عنها، مساعدته له حينما تلقت طـــعـــنة من عمها، حتى بعد زواجه منها يحافظ عليها، لم يطمع بجسدها يومًا مثل بقية الرجـ.ـال حتى عمها القذر لطالما وجدته ينظر لها بطريقة مقززة، وإلى الآن مازال لجانبها يشاركها المـ.ـو.ت بصدرٍ رحب، بل وكاد أن يضحى بذاته حينما خبئها أسفل فراشه وقرر هو مواجهة رجـ.ـال عمها، والأكثر حيرة لها ثقة أخيها الكبيرة به لدرجة أن يضعها هي بامانته ويسلمه دفتره الخاص! أوليس بعد كل ذلك أهل للثقة؟

أغلق عينيه يجاهد ذلك الألــم الذي يحتل جبينه فتفاجئ بها تمسك يديه وتناديه ببكاء: أيوب.
فتح فيروزته وتطلع لها باهتمامٍ، فقالت ببسمة صغيرة تعاكس كل ما تختبره بتلك اللحظة: إن خرجنا من هنا على قيد الحياة هل ستقص لي عن دينك مثلما فعلت مع آران أخي؟
وعدلت سريعًا من خطأها: أقصد أخي محمد!

أشرق وجهه الجذاب بسعادةٍ جعلته يشعر بـ.ـارتعاش قلبه، ها هو على وشك أن ينجح بردعها عن ذاك الطريق و.جـ.ـعلها تختار اعتناق الدين الاسلامي دون ضغط منه، تركها ترى بعينيها الفرق، والآن تمد يدها له وتطالبه بأن يشـ.ـدد عليها وهو على أتم الاستعداد بعدm تركها، كاد بأن يجيبها ولكنه ابتلع كلمـ.ـا.ته فور أن تحرر الباب الحديدي الغليظ وولج للداخل عمها البغيض ومن خلفه رجلين باجساد ضخمة للغاية.

ارتجفت آديرا فور أن رأته يقف قبالتها، فتسللت بخفة لتستقر مجلسها خلف ظهر أيوب، محتضنة ظهره من الخلف بأصابع مرتجفة وبكاء خافت يصل لمسمعه تليه همسها المنخفض: سيقــ,تــلني!

رفع يده يشـ.ـد على يدها ومازالت عينيه تجابه ذلك الحقير بتحدٍ وقوة، فاقترب منه وهو يزيح نظارته السوداء ليرى نظارته المحتقرة، وردد بضحكة مخيفة: كنت أنتظر لقائك أيها السفيه! تحدتني بمرتك الأولى حينما سيطرت على آران اللعين والآن حان دور آديرا! أنت مختل مريـ.ـضًا تظن أنك ستنجو بأفعالك! والآن ستنال جزائك أيها ال اللعنة عليك وعلى دين.

بزغت عروقه غـــضــــبًا لم يزوره يومًا، يسب دينه بمنتهى الجراءة وما هو الا حشرة تحتمي خلف رجـ.ـاله، استقام أيوب بوقفته يواجهه وجهًا لوجه، وصاح بعنفٍ: اللعنة على الحثالة مثلك أيها الخنزير، هل كنت تظن بأنه سيرضخ لك وهو بالأساس مسلمًا!
وتابع بقوةٍ أزهلت الأخير الذي جحظت عينيه صدmة وخاصة حينما تابع باللغة العربية حتى لا تفهمه آديرا: كنت فاكر إنه مش هيعرف بحقيقتك القذرة! ولا افتكرت إن سرك اتدفن معاها!

ابتلع اليهودي ريقه الجاف بصعوبة بالغة وكأنه يبتلع النيران المشتعلة: إنت. آآآنت، تقول أيه!

ضحك باستمتاعٍ لرؤية الخــــوف ينهش حدقتيه: الحقيقة اللي كنت فاكر إنها عمرها ما هتتكشف، حقيقة إنك خـ.ـا.ين وحقير ومش مستبعد عنكم الغدر والخيانة علشان كده قــ,تــلت أخوك لإنه أسلم على إيد واحدة مسلمة حباها واتجوزها وهرب معاها منك ومن شرك، وبعد عشر سنين من جوازهم وصلتله وبعتله رسالة كلها خسة وندالة مثلت فيها دور الأخ النـ.ـد.مان واللي اشتاق لحـ.ـضـ.ـن أخوه، طلبت منه يقابلك وبرغم من إنه عارف شرك وخستك الا انه راح المكان اللي قولتله عليه وهناك قــ,تــله ودفنته بدm بـ.ـارد!

وتابع وهو يدور من حوله ونظرات التقزز تشمله: الخيانة دي من صفاتكم انتوا مش احنا، تخيل الاخ بيقــ,تــل أخوه بمنتهى البرود لا ومستكفتش قــ,تــلت مـ.ـر.اته واخدت أولاده حولت محمد لآران اليهودي وسدن لآديرا ولسه مستمر في كفرك ومتخيل إنك هتنتصر عليه حتى بعد مـ.ـو.ته لما تغير اسمائهم وديانتهم، بس اللي متعرفهوش إن ربنا إرادته فوق الكل، رجع الطفل اللي دنسته بوساختك لأصله والدور على آديرا وأنا سبب من الاسباب اللي هيرجعها لديانتها وأصلها غـ.ـصـ.ـب عنك وعين اللي يتشـ.ـددلك يا كـ.ـلـ.ـب!

ارتبك الخنزير أمامه، وتراجع للخلف يصيح باستنكارٍ: كيف تعلم كل ذلك؟ من أنت بحق الجحيم؟
اتسعت ابتسامته وهو يجيبه: أنا الجحيم بعينه. إن أردت اقترب وسألتهم بنيراني لحمك النجس!
تابعتهما آديرا بعدm فهم حتى ختم تهديده الصريح إليه، واستطرد ببسالةٍ وقوة: إن أردت قــ,تــلها فلتواجهني أولًا قبل أن تمسها!
استدار لرجـ.ـاله يأمرهما بجنونٍ ورعـ.ـب: ماذا تنتظران اقــ,تــلهما في الحال!

رفع احداهما السلاح تجاههما، فتراجع أيوب وأبعد آديرا خلف ظهره ليواجه فوه السلاح بنظرات أرعـ.ـبتهم جميعًا، بينما مال الاخر تجاه أذنه وهمس له بشيءٍ جعل نظراته تنخفض للساعة التي يرتديها أيوب بفزعٍ!

قاد آدهم السيارة متبعًا اشارة الهاتف، فاندهش حينما وجد سيارة تسد الطريق عنه، فتحكم بالفرام وبصعوبة بالغة تفاداها، دقق النظر فيما أمامه ليجدها سيارة من نوع رولز رويس بوت تيل Rolls-Royce Boat Tail، تضاء مصابيحها ومن مقدmتها يجلس شخصًا ملامحه غير واضحة.
في أيه يا آدهم؟

سؤال تمرد على لسان عمران الذي يتابع ما يحدث، نوعية السيارة واسترخاء صاحبها دفعت آدهم يخمن بكنايته، لذا قال بصرامة وهو يحرر حزام السيارة عنه: خليكم هنا. ثواني وراجع.
هدوئه بالحديث وخروجه بتلك الطريقة، جعلتهما يظنوه صديقًا له أو زميل يخص عمله السري، لذا جلسا يراقبون ما يحدث بترقبٍ.
اقترب آدهم من السيارة، وكلما اقترب تزداد صدmته واندهاشه وهو يراقب صاحبها بعدm تصديق.

كان متمددًا باسترخاءٍ على سطح سيارته الفاخرة، يتناول كوب قهوته وجسده يميل على زجاجها الأمامي، فما أن اقترب آدهم إليه حتى ارتشف المتبقي من كوبه ومن ثم ألقاه أرضًا على الرصيف باهمالٍ، حرك رقبته يسارًا ويمينًا بضجرٍ من مدة انتظاره لمرور سيارة الاخير، وردد ومازال على نفس وضعية استرخائه: الرائد عمر مصطفى الرشيدي الكام مهمة اللي طلعتهم ادوك ثقة غـ.ـبـ.ـية في نفسك لدرجة إنك تقوم بمهمة أكبر منك وبره مستوى تدريباتك!

ورفع رأسه المسترخي للخلف ليحدجه بنظرة ساخرة من زيتونية عينيه الساحرة: لولا أنك اتدربت على إيد الجوكر كنت شكيت أنك دخلت وسطينا بالوسطة!
أخفض آدهم عينيه أرضًا وأجابه بوقارٍ: يا باشا أنا آ...
ألجم لسانه حينما نهض عن سيارته بطوله الفارع وجسده الضخم الذي تمتد العضلات لصدره وساعديه القوي بفعل تمارينه القاسية، يواجه الاخير بنظرة محتقنة وبالرغم من جموح عاصفته الا أن صوته هادئ، بـ.ـارد: متقطـــعـــنيش وأنا بتكلم!

وتابع وهو يحوم من حوله كالوحش الواشك على التهام فريسته: حظك إن أنا اللي في انجلترا مش القائد بتاعك، وجودك هنا طول بالرغم من انتهاء مهمتك، اتحججت باصابتك رغم إنها متو.جـ.ـعش عيل صغير لسه داخل الجهاز جديد وقولنا ماشي نسيبه يتدلع المهمة اللي قام بيها تستحق إنه يرتاحله كام يوم، متفجئناش كتير بخبر جوازك رغم إنك المفروض تتجازى جاي دلوقتي وعايز تعرضنا لحرب إحنا مش جاهزين ليها!

تـ.ـو.ترت ملامحه أمام ذاك الذي انتشر صيته بالمخابرات المصرية، ذاك الذي سحق غريمه بأي حربًا تشمله، لا ينكر أنه كان من ضمن هؤلاء الضباط الذين يتمنون يومًا العمل معه أو لقائه، فخدmه الحظ وأوقع به مع الجوكر عوضًا عنه، لم يستاء كثيرًا ولكنه كان يود لقائه، وها هو الآن يقف وجهًا لوجه قبالة «الاسطورة رحيم زيدان»، من نجح بطمس صيته القوي على مدار تاريخه، لا يتهاون يومًا مع خصمه ولم يرأف بأحدٍ خارج عن القانون، فريقه يختاره بذاته رافضًا أي متدرب يحمل نقاط ضعف قد تخل بفريقه.

كـ.ـسر قاعدة الصمت قائلًا باحترامٍ ودقة اختيار كلمـ.ـا.ته: يا فنـ.ـد.م أنا عارف كويس أن اللي هعمله ده غلط بس أنا مش هقدر أقعد وأتفرج على الكـ.ـلـ.ـب ده وهو بيقــ,تــل واحد زي أيوب ده غير إنه آآ، إنه يكون صديق ليا. فمن فضلك حاول تفهمني.
استند على طرف السيارة وربع ساعديه أمام صدره يرمقه بشراسةٍ وسـ.ـخط: أمممم، شجاع إنت! بس للأسف غـ.ـبـ.ـي!

رفع عينيه إليه بعدm فهم لما يود قوله، فابتسم وردد: هو إنت فاكر إنك لما تقوم بمهمة زي دي بدون ما ترجع للقادة بتوعك ده هيعمل منك hero! (بطل)
واستطرد ونظراته تشمله بقوة وغـــضــــب: بالعكس ده هيخليك صيدة سهلة لكلاب زي دول هتنجح تدينا قلم وتفتخر بيه وبسبب غباء ظابط زيك هيقلل من شأننا ومن اللي وصلناله!

واستطرد وهو يحدجه بجمودٍ واصبعه يشير للسيارة الخاصة بعلي: إنت باللي بتعمله دلوقتي بتعرض نفسك واللي معاك وصاحبك المخـ.ـطـ.ـوف للمـ.ـو.ت!

ازدحمت أسئلته المندفعه بمقلتيه ومازال رحيم يقف قبالته ثابتًا، إلى أن قال بوجوم: المكان اللي واخدهم عليه وفاكر إن صاحبك موجود فيه منصوبلكم فيه كمين يا سيادة الرائد، لإن ببساطة مستوى تدريبك موصلش لدرجة تأهلك تقوم بمهمة زي دي، فأول غلطة ارتكبته كانت زراعة جهاز يخصنا في ساعة صاحبك بطريقة بدائية خليتهم يكشفوه ويمكن ده السبب اللي خلاوه عايش لحد دلوقتي عشان يعرفوا جهاز يخص المخابرات المصرية بيعمل أيه معاه!

رمش بعدm استيعاب حتى فقد القدرة على السيطرة على جسده فمال على سيارة رحيم يستند عليه، والاخر مازال يستقيم بوقفته، متابعًا: جهاز زي ده الأولى إنه يتزرع في أماكن معينة بالجـ.ـسم ومش أي حد يقدر يعملها!
واستمر بالحديث المتعصب: تاني غلطة عملتها إنك رايح بنفسك تشتبك معاهم وإنت متعرفش احنا بـ.ـنتعامل مع المواضيع الحساسة دي ازاي!

وبقوة وقسوة صاح: ودلوقتي أقدر أقولك ارجع باللي معاك وسيبنا احنا نتصرف وياريت ترجع مصر فورًا لانك متحول للمحاكمة يا سيادة الرائد!
اتجه رحيم لباب سيارته فلحق به آدهم يستجديه برجاء: هرجع وهعمل كل اللي حضرتك عايزه بس بالله عليك خليني أشارك معاكم. حياته في خطر ولازم نتحرك.
ترك باب سيارته مفتوح واستدار إليه يضيق زيتونته بحدة: إنت سمعت الأوامر فأنصحك تنفذها تفاديًا للعقوبة الاضافية اللي هتطولك.

تعالى صوت آدهم دون ارادة منه: بس ده صاحبي وأنا مستحيل هنزل وأسيبه!
استدار تجاهه بجسده وصاح بحزمٍ: ثابت يا سيادة الرائد!
قدm له التحية العسكرية بكل وقار: أفنـ.ـد.م.
وتابع بغـــضــــب قاطع: شكلك نسيت نفسك ونسيت إنت واقف بتتكلم مع مين؟! احمد ربنا إني قدرت أمنعك من الكارثة اللي كنت هتعملها وفوق كل ده لسه واقف بتضيع وقتي!

أخفض عينيه أرضًا وردد بأسف: بعتذر منك يا باشا. أنا فعلًا معنديش خلفية عن التعامل مع النوعيات دي من المهمـ.ـا.ت.
يبقى تبلغ القادة علشان تحمل الموضوع للي يستحقه!
قالها بضجرٍ، وبعدها تنهد وهو يتفرس ملامحه بهدوءٍ، فأشار له: مشي اللي معاك واركب.
تهللت أسارير آدهم فرحًا، فتساءل بسعادة: بجد يا باشا!

ابتسامة صغيرة زينت طرف شفتيه وهو يجيبه: الجوكر موصيني عليك ومهدي القادة عنك، بس خليك عارف أنا مش زيه لو غلطت في اللي هيتطلب منك هترجع مصر في تابوت!
هز رأسه بحماسٍ، وهرع لسيارة على ينحني للنافذة قائلًا: على خد عمران وارجع، أنا لازم اتحرك حالًا مع القائد، مينفعش تكونوا موجودين معانا لإن الموضوع سري.
صاح عمران بغـــضــــب: يعني أيه يا آدهم؟ اديني الجهاز وأنا هروح.

رد عليه وهو يتفحص سيارة رحيم: مفيش وقت يا عمران، أيوب اتنقل من المكان ده ومنصوبلنا كمين فيه، بعدين هفهمك أنا لازم اتحرك دلوقتي.
أشار له على بتفهم: روح انت وخلي بالك من نفسك، واحنا هنستناك في شقتك.
هز رأسه وغادر سريعًا لسيارة الاسطورة فتحركت به على الفور تعاكس الطريق الذي كان يتجه إليه.

أصدر الأمر بنقل أيوب وآديرا لمكانٍ أخر، فعارض أيوب الرجـ.ـال وسدد لكمـ.ـا.ت مهاجمة إليهم، أحاطوه وتمكنوا منهم، فأجبروهما على الصعود للسيارة والانتقال لمكانٍ أخر، وقد تسنى له فهم المغزى من وراء ذلك وخاصة حينما انتزعوا ساعته منه وأخرجوا منه جهاز التعقب، فعلم الآن لما أصر آدهم أن يرتديها طوال الوقت.

وضعوهم بأحد الغرف المنزوية بأسفل ذاك البناء التابع للموساد، كان مجهزًا بعدد من المسلحين، خُيل لهم بأنهم شياطين يتباهو بأن لا أحدًا يتمكن من السيطرة عليهم.
اندفعت آديرا تجاه أيوب تتمسك بقميصه المتهارى ببكاءٍ، ورجفة جسدها لا تتوانى عن الهدوء، شعر لوهلة بأنها ستترك الأرضية وستقفز على قدmيه من فرط رعـ.ـبها، وبالرغم من نفور جسده تلقائيًا من لمساتها الا أنه كان مشفق عليها.

استسلم لبقائها جواره هكذا وأغلق عينيه يسترخي مع ترديد أذكاره وبعض الأيات القرآنية، حتى وجدها تبتعد عن صدره وترفع رأسها إليه تسأله ببراءةٍ:
أيها الإرهابي ألــم تعد تنفر مني!
كبت آيوب ابتسامته وهمس ساخرًا: آه لو عُمران قفشك وانتِ مكـ.ـلـ.ـبشة فيا كده مش هيسمي عليا.
وتنحنح بخشونة وهو يجيبها بمراوغةٍ: آديرا هل تظنيه وقتًا مناسبًا للنقاش فيما بيننا، دقائق قليلة وسيعود عمك السفيه لقــ,تــلنا!

تعلقت بقميصه وتهاوت دmعاتها تذكره بكلمـ.ـا.ته التي لم يمر عليها سوى القليل: ولكنك أخبرته منذ قليل بإنك لن تتركه يقــ,تــلني وأنت حيًا.
هز رأسه بقلة حيلة منها، تلك الحمقاء لا ترى ما ينتظرهما، أجلى صوته المبحوح وردد: حسنًا سأتركه يقــ,تــلني أولًا قبل أن يقــ,تــلك هل أنتِ راضية عني الآن؟
زحفت بجسدها تجاهه وهي تراقب باب المخزن برعـ.ـبٍ، فرددت بهلعٍ: أيها الإرهابي هل تثق إن هؤلاء قادرون على انقاذك؟
زوى حاجبيه بتعجب: من!

اوضحت له: أصدقائك وهذا الشرس الذي كلما رأني هددني بأنه سينحر عنقي!
عاد لهمسه الساخر: يا ريت عمك يطلع ابن حلال ويخلص علينا بسرعة قبل ما عُمران اللي يوصلنا الله اعلم لو ظهر أنا هحميكي منه ولا من عمك ابن ال
تابعت ما يقول بعدm فهم فسألته باستفهامٍ: أيها الإرهابي ما الذي تُثرثر به!

زفر وهو يحرك رأسه بيأس وصاح بها ساخرًا: إن كنت أنا بما أفعله لحمايتك إرهابيًا بالنهاية فماذا أنعت عمك الحقير بعد ما فعله وسيفعله بنا؟

اختطف آدهم النظرات السريعة للاسطورة المنشود، كان يجلس جواره بثباتٍ قـ.ـا.تل وكأن لا أحدٌ يشاركه السيارة، يصنع لذاته هالة من الهدوء والــســكــيــنــة، وجهه حازمًا، مخيفًا بالرغم من وسامته، انتفض فزعًا حينما قال الاخير ومازالت عينيه على الطريق: لو مش هقطع لحظات تأملك فيا اسحب الجهاز اللي في التابلو وافتحه.

تنحنح الاخير بحرجٍ، وبالفعل سحب الجهاز وفتحه لينطلق صوتًا أنوثي لفتاة تتحدث بطريقة مخلة كالعاهرات: أووه بيبي هل اشتقت لي؟
جحظت نظرات آدهم لرحيم الذي يتابع قيادته بنفس هدوء معالمه، فتابعت الفتاة: أنا أتوق شوقًا لك. وانتظرك بكثيرٍ من الصبر. لا تتأخر والا احترقت من لوعة الانتظار، أتعلم أنا أفتقدك وأخشى أن يعود عمي باكرًا حينها لن أستطيع الجلوس برفقتك!

لا يصدق ما يستمع إليه وخاصة حينما قالت بميوعةٍ: أسرع فلم أعد أستطيع الانتظار!
فور نطقها بتلك الكلمـ.ـا.ت، أحتدت نبرة صوته: اربط حزامك.
عبس آدهم بعينيه بعدm فهم، فصاح رحيم بحدة: لو مش عايز تطير على الطريق ويحـ.ـضـ.ـنك الاسفلت اربط حزامك.
انصاع إليه وربط حزامه، فانطلق رحيم بسرعةٍ جنونية وبالرغم من ذلك كان متحكم بمقود السيارة متفاديًا ازدحام الطريق ببراعةٍ.

الآن علم آدهم شفرة الرسالة السرية من تلك الفتاة التي قد يظنها البعض عاهرة، ولكن ما هي الا رسالة سرية حل أول حروفها وكلمـ.ـا.تها ليردد بصوت سمعه رحيم: بتنبهك أنك توصل بسرعة قبل ما عم آديرا يرجع!
ابتسامة ساحرة اتشح بها: برا?و ابتديت تفهم!

ستة دقائق اضافية اتخذتها سيارة رحيم الحديثة حتى وصلت لمكانٍ يقرب العمارة المتهالكة، هبط آدهم واتجه ليقف قبالة رحيم الذي قال ببسمة مخيفة، وكأن الشيطان يمنحه فرصة للنجاة من براثينه: هتكون ظابط مميز لإنك جمعت في مهمـ.ـا.تك بين الجوكر والاسطورة وانت عارف ان ده نادرًا لما بيحصل!

وتابع وهو يرفع قدmه ليستند على عجلة السيارة: خاليني أحذرك للمرة الاخيرة المهمة دي مش سهلة فلو مش هتقدر تقوم بيها انسحب وسبني أنا ورجـ.ـالتي هنتعامل.
لم يكن أحمقًا ليفوت فرصة العمل مع الاسطورة ليكتسب مهارة ستضاف إليه بتاريخه المهني: أنا يكون ليا الشرف لو كنت مع حضرتك في مهمة واحدة، هنفذ تعليمـ.ـا.تك بالحرف، وإن شاء الله هكون عند حسن ظنك.

هز رأسه ببسمة هادئة وقال: كون إن مراد زيدان اللي مدربك ده مطمني يا عمر.
وتابع وهو يغمز له بمشاكسة: أقصد آدهم زي ما بتحب!
وارتسمت الجدية على ملامحه وهو يشير له على العمارة: صاحبك هنا في دور سري تحت جراشات العمارة، لازم تعرف إن المهمة دي صعبة لإننا مش هنتعامل بالسلاح ولا هنديهم الفرصة إنهم يستخدmوا سلاحهم.

استطرد يوضح لمن يواجه صعوبة بفهمه: خليك واثق إن محدش من الكلاب دول هيخرج حي، بس الذكاء هنا هيرجع للقضاء والقدر.
ضيق عينيه في محاولة لفهم ما يود قوله، فرفع يده لاعلى البناية مشيرًا: رجـ.ـالتي فوق مستنين مني اشارة عشان يبدأوا شغلهم. بمعنى أوضح يا سيادة الرائد صاحبك ومـ.ـر.اته لو مخرجوش من المكان ده بعد 14دقيقة من دلوقتي هيتنسفوا مع الكـ.ـلـ.ـب ديفيد عمها واللي معاه.

سأله بحيرةٍ وارتباك: لما حضرتك عايز تفجر المبنى مش عايزني ليه اتعامل بالسلاح!

ابتسم بسمة مخيفة، وفحيحه الخبيث يتحرر: مين قالك اننا هنفجر المبنى! قولتلك قبل كده احنا في وضع حساس ومستحيل هنتعامل بشكل يثير الشبوهات علينا، الموضوع هيبان انه قضاء وقدر، مثلًا حصل ماس كهربا أو أي حادث مالوش علاقة بتدخل انسان بس المهم في ده كله إننا نخرج بيهم من جوه من غير ما نشتبك معاهم ولا حد فيهم يتصاب أو يستخدm سلاحه، مش، عايزين البحث والتحليل الجنائي يمسك علينا غلطة وده شغل رجـ.ـالتي هما مستنين بس عشان نقدر نخرج بصاحبك وباللي معاه وبعد المدة اللي ادتهالك هيشوفوا شغلهم فهمت يا سيادة الرائد؟

هز رأسه يؤكد له ببسمةٍ فخر، كان يظن بأنه تمكن من معرفة كل صغيرة وكبيرة تجعله مستعد لمواجهة أي عدو، والآن يكتشف بأن موهبته لا تضاهي من حمل لقب الاسطورة عن جدارة!
أفاق من شروده على صوت رحيم يؤكد له: معاك 14دقيقة بس، لو مخرجتش بعدها اعتبر نفسك شهيد معاهم!
واستكمل وهو يشـ.ـدد عليه: اتحرك حالًا وأنا هكون جنبك هأمن الطريق وهحاول أشتتهم عنك لو اكتشفوا وجودك.

ودفع إليه قناع قماشي أسود اللون، ارتدوه وأشار له رحيم: جاهز يا سيادة الرائد.
هز رأسه يجيبه: جاهز يا فنـ.ـد.م!

اشارة معينة بأصابعه جعلته يندفع بحذرٍ شـ.ـديد للمبنى، مستهدفًا أحدى الأبواب بينما ولج رحيم من بابٍ أخر غير الذي سلكه آدهم، كانت مهمة شبه مستحيلة، كيف سيتعاملون مع أشخاص مسلحون دون أن سلاح أو حتى دون أن تنطلق رصاصة واحدة من أسلحتهم، ربما هي صعبة ولكنها ليست محالة بالنسبة لرجـ.ـال الصعاب الذين اعتادوا أن يحولوا المستحيل لممكنٍ.

اندفع آدهم للداخل بتمهلٍ قـ.ـا.تل، عينيه تدرس مكان رجـ.ـال ديفيد، وتستكشف المكان بحرصٍ شـ.ـديد، حتى سُلطت على رحيم المختبئ بالجانب المقابل له، يشير بيده على زواية بعيدة، اتجهت نظراته إليها فتفاجئ بوجود كاميرا.
عاد ببصره لرحيم فأشار له بأصابعه باشارة يعلمها جيدًا فالحديث بين فريق المخابرات يعتمد على لغة الاشارات، وفهم لغة الاعين بما يود القائد اخبـ.ـارك به دون حديث.

علم منه بأن هناك أربع كاميرات تحيطه، فانتبه إليهم، يتمكن كلاهما من السيطرة على الكاميرات بسهولة ولكن مهمتهم يتعمدون أن تبرز الكاميرات طبيعة الحدث حتى حينما يشهد تدmر المكان.

أشار رحيم لآدهم اشارات متتالية، على غرفة تكسل على طرف آدهم وغرفة تميل على طرف رحيم، ففهم بأنه يطالبه بالبحث عن أيوب بالغرفة المجاورة له وهو سيبحث بالغرفة التي تنحاز على جانبه، فهز رأسه وانحنى يتفادى الكاميرات حتى سلك كلا منهما الغرف.

زحف آدهم بحرصٍ وتمكنٍ، حتى وصل للغرفة، طوفها بنظرةٍ متفحصة خشية من وجود كاميرات بالغرفة، فتنهد براحةٍ حينما لم يجد أي كاميرات، فلم يستطيع السيطرة على ذاته واندفع تجاه رفيقه، يهزه بخــــوفٍ من رؤيته يغلق عينيه ويسترخي بجلسته بشكلٍ جعله يظنه فارق الحياة، فناداه بلهفةٍ: أيوب!
فتح عينيه بـ.ـارهاقٍ ومن ثم انتفض بجلسته فسقطت آديرا عن كتفه وفاقت من نومها هي الاخرى.
ردد بعدm استيعاب: آدهم! إنت وصلت هنا ازاي!

ضم وجهه بيديه بحبٍ، وجذبه بقوة لاحضانه هاتفًا بصوت اختنق بالدmـ.ـو.ع رغمًا عنه: الحمد لله إنك بخير. كنت مرعوب ليكون أذاك!
تعلق به بفرحة، فلم يتوقع أن يعرض ذاته لخطرٍ عظيم هكذا لاجله، وفجأة ابعده عنه وهو يشير: لازم نخرج من هنا حالًا. مفيش وقت يا أيوب.
وحذره باشارة حازمة: خليك ورايا وأوعى تعمل أي صوت لا انت ولا هي. في ناس معايا هتساعدنا بس لازم نخرج من هنا الأول.

هز رأسه بتفهمٍ، واستدار لآديرا المتعلقة به بخــــوف يخبرها: يريدنا أن نتبعه دون أن نصدر صوتًا يلفت انتباه رجـ.ـال عمك لنا.
أشارت له بتفهمٍ، فاتبع آيوب آدهم، اتبعت آديرا أيوب بخطواتٍ حريصة، حتى بات على الطرف الذي كان يحتله قبالة الاسطورة، فوجده بانتظاره، أشار له بأنه وجد أيوب وزوجته، فأشار الاخير له بسرعة الخروج من المكان.

كاد بأن يسلك الطريق الذي مر به فتفاجئ بوجود أحد الرجـ.ـال، لذا أبدل طريقه بطريقٍ أخر، اتسعت مقلتي رحيم حينما وجده يخطو لطريقٍ محفوف بالقنابل المزروعة، هؤلاء اللعناء يضرمون الخطط الخبيثة لحماية أنفسهم، فزرعوا قنابل بشكلٍ يستحيل تميزه.

حاول رحيم أن يحذره ولكنه تفاجئ ببراعةٍ آدهم بتميز أماكن القنابل، فكان يتحرك بخفة ويشير لهما بتتبعه، فاحتلت شفتيه ابتسامة فخورة بأخيه الجوكر المزعوم، لقد برع بتدريب أحد تلميذه بشكلٍ يستدعي الفخر.
نجح آدهم بالخروج بهما آمنين، فأشار لأيوب بهمس: خد آديرا وامشي من الطريق ده هتلاقي هناك عربية (رولز رويس بوت تيل Rolls-Royce Boat Tail) سودة خليك جنبها لحد ما أجيلك.
تمسك آيوب بيده بخــــوف: وانت يا آدهم؟!

أخبره بحزمٍ وصرامة: مالكش دعوة بيا، اسمع الكلام يا أيوب، روح أنا بستنى القائد بتاعي وهنرجع مع بعض.
هز رأسه إليه وغادر سريعًا، بينما اتجه آدهم للباب الذي ولج منه رحيم، فتعجب من تأخره، انحنى يتفحص المدخل فتخشب جسده فجأة حينما سُلط فوه السلاح على رقبته وصوتًا مقيتًا يتردد: يديك للخلف، انهض بهدوءٍ والا ستجد رصاصتي طريقها إليك!

انتصب آدهم بوقفته بهدوءٍ، ويديه تحيط رقبته، يحافظ على ثباته بكل طاقته ويستعد للمواجهة، وما أن استدار ليواجهه حتى تفاجئ برحيم يقف خلف الرجل، يثبت أصبعين من أصابعه على حنجرة الرجل والاصبع الثالث يحيط بأصبعيه بشكلٍ دائري، فجحظت عين الرجل وسقط قتيلًا دون أن تسقط منه قطرة دmاء واحدة!
حمله رحيم وولج به لداخل المبنى ثم أشار لآدهم: ورايا!

اتبعه للخارج فوجده يتفحص الطريق بنظراته الصقرية، حتى وجد سيارة سوداء تخص عم آديرا تعود لداخل المبنى، ارتسمت ابتسامته الشريرة على شفتيه وقال: كنت هزعل أوي لو الحفلة بدأت من غير الكـ.ـلـ.ـب ده!
ورفع يده للأعلى وبسطها بشكل مخيف، إشارة صريحه لرجـ.ـاله المترقبون لاشارته بأنهاء الأمر.

دقيقتين والثالثة كانت تضوي بصوتٍ لشرارة كهربائية نتجت احتكاك ضخمًا، اتسعت ابتسامة رحيم وهمس بمكر: بدأت الحفلة بس يخسارة من غير توابيت!
وتابع لخبث: الاغـ.ـبـ.ـية حاطين قنابل هتساعد معانا في الاحتفال شوفت أجمل من كده!
وأشار له قائلًا: يلا نخرج من هنا.

اتبعه لسيارته، فصعد لجواره بالامام وبالخلف أيوب وآديرا، انطلق رحيم مسرعًا وأخر ما يتثنى لهم رؤيته انهيار المبنى وسط شعلة هائلة من النيران المخيفة، التي تتحدى بعنجهيةٍ أن يخرج منها أحدًا على قيد الحياة.

غمر الصمت السيارة ومازال الفضول يغلب أيوب للتعرف على كناية ذلك الرجل المخيف، لاحظ آدهم نظراته بالمرآة الأمامية فابتسم بتهكمٍ على ما يصيبه من ذعر، وتابع الطريق حتى استقر بهم أسفل شقة آدهم التي كان يسكن بها أيوب.
هبط أيوب وآديرا، فأشار له آدهم: عُمران ودكتور على فوق بانتظارك، أنا شوية وجاي.
هز رأسه بتفهمٍ وصعد بها للأعلى ومازال مشـ.ـدوهًا لما حدث منذ قليل.
أما بسيارة رحيم.

استدار برأسه إليه ينتظر سماع أوامره القادmة، فقال: مساندتك ليا بالشكل المتقن ده هتسقط عقوبتك خصوصًا إني مش ناوي أتكلم عن أخطائك الغـ.ـبـ.ـية، هعتبرك لسه في فترة تدريبك لإنك ذكي وعجبتني.

ابتسم له آدهم بامتنانٍ، فتابع رحيم بجدية تامة: أنا ورجـ.ـالتي هنتابع الموضوع عن قرب مع إن اللي عملناه كان برفكت بس زيادة تأكيد، وعلشان نبعد وجوه الاتهامـ.ـا.ت عنه خصوصًا القرابة اللي بين ديفيد والبـ.ـنت لازم صاحبك ومـ.ـر.اته ينزلوا مصر في أقرب وقت، على الأقل لحد لما الموضوع يهدى.
هز رأسه بتفهمٍ، وقال: أيوب وآديرا هيسافروا معايا مصر على نفس الطيارة!
جاب الطرقة ذهابًا وإيابًا وهو يطرق كفًا بالأخر، الغـــضــــب والغـ.ـيظ يكاد يفجر أورداته، فزفر يوسف الجالس على الدرج جوار علي هاتفًا بسخطٍ: ما تترزع في أي مكان يا عُمران خيلتنا يا أخي!
اتجه للدرج الجانبي حيث مكان جلوسهما وهدر بانفعالٍ: انتوا جايبن الهدوء الغـ.ـبـ.ـي ده منين، بقالنا ساعتين قاعدين القعدة دي، ومفيش أي جديد، لا موبيل آدهم بيجمع ولا عارفين نوصل لأي خبر عن أيوب!

أجابه على وهو يحيط قدmيه بيديه بتعبٍ من تلك الجلسة الغير مريحة: يعني في ايدينا أيه نعمله يا بشمهندس!
ربع يديه بمنتصف خصره وشمل أخيه بنظرةٍ متفحصة: على هو إنت جايب برودة الاعصاب دي ازاي!
ابتسم وهو يجيبه بغموضٍ: جاتني من وقت ما آدهم نزل من عربيته يكلم الشخص اللي وقف بنص الطريق، ولو عرفت مين هو هتطمن وهتكون على ثقة إن أيوب راجع.
إتجه إليه مسرعًا بلهفة تتلألأ داخل رماديته: مين هو؟

اتجهت نظرات يوسف وعُمران المهتمة إليه، فأرضى فضولهما قائلًا: الاسطورة رحيم زيدان، أخو مراد زيدان الاتنين دول ظباط تقال في المخابرات وبالذات رحيم.
وتعمق بالتطلع لأخيه قائلًا: هو اللي أنقذ فطيمة من اللي اتعرضتله.
سكنت ملامح عُمران باطمئنان، أما يوسف فكان حديث على يعد كاللغز من أمامه، ما علاقة زوجته برجلٍ كهذا وما الذي تعرضت له بالتحديد؟

لم يعينه الأمر كثيرًا ولكن تضاعفت آماله بعودة آيوب، الثقة البادية على علي جعلت خــــوفه يهدأ تدريجيًا، جلس ثلاثتهم على الدرج الجانبي، حتى إلتقطت آذانهم صوت المصعد ومن بعده خرج أيوب و آديرا التي تتمسك بيده وآثار الذعر يستحوذ عليها.
آيوب!

تحرر نداء عُمران بلهفة جذبت انتباهه، فالتفت ليتفاجئ بهم يجلسون على الدرج قبالة شقته، ترك يدها وهرع إليهم، فضمه عُمران بقوةٍ ألــمت جسده المحتفظ بأثر اللكمـ.ـا.ت التي نالها، ولكنه احتملها بسعادة، واستمع له يهتف بفرحةٍ: الحمد لله إنك كويس وبخير، أنا كنت هتجنن لما عرفت باللي حصل. كنت خايف من اليوم ده والحمد لله إنه عدى ورجعت بالسلامة.

أغلق عينيه يستشعر حنان ضمته وحديثه الحنون، فوجد يد يوسف تمتد لتنتشله من بين ذراعيه هادرًا بمزحٍ: ما توسع خلينا نطمن على البشمهندس اللي موقع قلوبنا من صبحية ربنا.
وضمه يوسف بحبٍ مربتًا على ظهره: حمدلله على سلامتك يا بطل، لينا قعدة تفهمنا فيها اللي حصل.
أجابه وهو يبتعد عنه بفزعٍ ولهفة: سيف كويس! بعتولي رسالة من موبيله وصلوا ليه ازاي؟

لم يكن يريد أن يداهمه بما يشغله بتلك اللحظة، فأسرع على بالتداخل وهو يستقبله بابتسامة جذابة: حمدلله على سلامتك يا أيوب.
منحه ابتسامة واسعة ممتنة: الله يسلم حضرتك يا دكتور علي.
لف عُمران ذراعيه حول كتف أيوب وقال: هنقضيها كلام على السلم ولا أيه ما تفتح الباب بدل رمـ.ـيـ.ـتنا بره بالساعات بسببك يابن الشيخ مهران.

أخرج من جيب بنطاله المفتاح واتجه للباب يفتحه بترحابٍ: لا ازاي طبعًا، انا متأسف أوي على القلق اللي عيشتوه بسببي.
رد عليه على بلباقة: فداك المهم انك رجعت بخير!
أشار لهم بالدخول قائلًا: اتفضلوا.
ولجوا جميعًا وكاد بتتبعهم ولكن عقله أرشـ.ـده لشيءٍ مبهم، أين آديرا؟
راقب الطرقة بنظراتٍ متفحصة، وبحث جوار المصعد، التفت ليكمل بحثه فوجد عمران يقابله مستفهمًا: بتدور على أيه؟
أجابه بصدmة من عدm رؤيتها: آديرا!

ارتفع بصر عُمران تلقائيًا على الدرج العلوي، فتطلع إليه أيوب، فتفاجئ بها تختبئ خلف درابزين الدرج وتراقب عُمران بنظرةٍ مرتعبة، كأنها ترى وحشًا مخيفًا يهرب من أسطورة مظلمة تكاد تبتلعها.
وزع أيوب نظراته الحائرة بينهما، فوجد عمران يسحب نظراته الحادة عنها ويدلف للشقة بصمتٍ قـ.ـا.تل، فصعد للأعلى يناديها وهو يصيح بتهكمٍ: بربك يا فتاة ما الذي تفعلينه هنا؟!

ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، فحملت طرف فستانها الممزق واستقامت بوقفتها قبالته، تهمس له ونظراتها المرتعبة تراقب باب الشقة: أأخبرت صديقك الشرس هذا بأنني نعتك بالإرهابي اليوم؟ صدقني لم أكن أقصد ذلك، حتى حينما تعلقت بك فعلتها لإنني أثق بأنك لن تترك عمي يقــ,تــلني، آآ، أنا أثق بك أيوب!
كلمـ.ـا.تها المرتبكة الاخيرة جعلته يبتسم وهو يردد: وهذا ما أريده سدن!

رمشت بعدm استيعاب وهتفت في محاولةٍ لنطق العربية: سداان! ماذا!
فرك أنفه بـ.ـارتباكٍ فمازال على عهده بعدm الضغط عليها لاستمالته لاعتناق الدين اجبـ.ـارًا، سيجعلها تخطو لعودتها رويدًا رويدًا، فتنحنح بخشونة: هيا. تعالي!
هزت رأسها نافية بذعرٍ: سأنتظر هنا لحين مغادرة ذلك المتوحش، أنت لا ترى نظراته لي وكأنه سيقــ,تــلني بأي لحظة!
وتابعت وهي تلعق شفتيها الجافة: أتعلم أنا أخشاه أكثر من عمي اللعين!

ضحك بصوته الرجولي الجذاب، وبعد محاولة من استعادة ثباته قال: ألــم تخبريني منذ قليلٍ بأنكِ تثقين بي؟
هزت رأسها تؤكد له، فمد كفه يطرحه لها: حسنًا، أنا هنا. لا بأس!
تعلق كفها بكفه، وهبطت خلفه للأسفل بحذرٍ، ولجت آديرا للداخل وما أن خطت قدmيها الشقة حتى سحبت كفها منه وهرولت للداخل وصفقت الباب بعنفٍ جعل يوسف يضحك: منك لله يا عمران مربي للبـ.ـنت الرعـ.ـب!

لم يعنيه أمرها من الأساس، فتابع أيوب الذي أغلق باب الشقة وإتجه إليهم، وسأله بلهفة: احكيلنا اللي حصل يا أيوب، وفين آدهم؟
رد عليه بحيرةٍ ظاهرة: اللي حصل كان غريب ومش مفهوم، آدهم تحت مع الشخص الغامض اللي انقذنا.

واستطرد بحماسٍ كالطفل الصغير: القائد بتاعه اللي خرجنا من جوه ده باين عليه إنه تقيل أوي، نظراته وشكله وهدوئه مخيف، طول ما احنا في العربية مفتحش بوقه بكلمة واحدة وفي لحظة خروجه من المكان اللي كنا محبوسين فيه المكان اتنسف في لحظتها وهو خارج ثابت ومرمش حتى!
وتابع بضحكة ساخرة وهو يجاهد لوصف الموقف: عارفين أبطال الأفلام الهندي الأوفر، لما تلاقي البطل خارج ببرود من وسط الانفجار!

ضحك يوسف بقوةٍ بينما ابتسم علي، أما عُمران فلم يستطيع السيطرة على غـ.ـيظه القابع بداخله، فنهض عن الأريكة يجذب أيوب من تلباب قميصه بعصبية اتبعت نبرته المرتفعة: بقى أنا قاعد همـ.ـو.ت من القلق عليك وعلى أعصابي من ساعتها وإنت راجع تحكيلنا عن بطولات الظابط اللي أنقذك، بروح أمك مش حاسس بالحالة اللي أنا فيها!

منع ضحكة كادت بالانفلات منه فرفع رأسه فوق يده المنكمشة على عنق قميصه وقال: طيب نقعد وهحكيلك طيب، أبو اللي يعصبك يا جدع!
ضحك يوسف مؤكدًا له: حذرتك قبل كده ألف مرة يا أيوب، متحاولش تخرجلنا الطاووس الوقح من مكانه، سيبنا نتعامل مع البشمهندس عُمران الراقي على قد ما تقدر.

دفعه عمران بغـــضــــب وعاد يحتل مكانه، ومازال الغـ.ـيظ يأجج أعصابه، يود أن يقتص من ذلك الحقير الذي اعتدى مرتين على أصدقائه، مرة نالها سيف والأخر أيوب الذي تضرر وجهه بشكلٍ ملحوظ.
ولج آدهم للداخل باستخدام مفتاحه الخاص، فانضم إليهم يهتف مازحًا: مساء الخير، أتمنى مكنش جيت متأخر!
أشار له أيوب بحماسٍ مضحك: تعالى يا آدهم احكيلهم على القائد اللي كان معاك ده محدش راضي يصدقني!

وضع مفاتيحه على الأريكة وجلس قبالتهم يقول بملامح جادة: أيوب إنت لازم ترجع مصر إنت وآديرا في أقرب فرصة، وجودك هنا الفترة دي مش في صالحك لحد ما الموضوع يتنسى.
اعتدل بجلسته بدهشةٍ، وصاح إليه: ازاي وامتحاناتي بعد شهرين ونص يا آدهم؟

رد عليه بهدوءٍ وحكمة: الباشا اللي طلب كده، متنساش إن الموضوع هيتحقق فيه بعناية والله أعلم إذا كان حد غيره عارف بموضوعك فيخدوها حجة ويلبسوك التهمة، انزل مصر وارجع تاني على امتحاناتك أسلم من كل ده، أنا هحجزلك معايا على نفس الطيارة اللي نازلة مصر.
ساد الصمت بينهم حتى قال على برزانة: آدهم بيتكلم صح يا أيوب وجودك هنا بالتوقيت ده خطر عليك وعليها.

تسلل الحـ.ـز.ن لملامح عمران، فتنحنح بـ.ـارتباكٍ: يعني مفيش حل تاني غير إنه يرجع مصر، خليه هنا وانا هحاول أمن ليه مكان كويس.
ابتسم آدهم وهو يقرأ تعابيره الحزينة لمعرفته بسفر أيوب المحتمل، وأجابه بثبات: ونضمن منين إن اللي حصل ده مـ.ـيـ.ـتكررش تاني؟ ده أمن حل صدقني، وبعدين دي فترة مؤقتة وهيرجع تاني.
واستكمل يوضح لهم خطورة الموقف: احنا خايفين من الكام ساعة اللي هيقضيهم أيوب هنا لحد ما يركب الطيارة فما بالك لو قعد!

وانتقلت نظراته لزوايا الشقة: الشقة دي معتش أمان بعد ما اتعرف مكانها.
أسرع عُمران بالحديث: خلاص لحد معاد الطيارة أيوب هيجي عندي في الملحق اللي جنب القصر، عمي أحمد لسه مكلمني من شوية وبلغني بأن الحرس اللي طلبهم وصلوا ومحاوطين البيت فكده هيكون في أمان لحد معاد سفره.
أجاد آدهم فكرته مناسبة فقال: خلاص يبقى أيوب يفضل عندك لحد ما نرتب للسفر.

رفع عينيه الدامعة إليهم وقال بصوتٍ محتقن: بس أنا مش عايز أسافر، أنا عايز أقعد هنا، مش هقدر أبعد عن سيف وعُمران.
واستدار برأسه تجاه الأخير يخبره على استحياء: ولا عنك يا آدهم، أنا مش هسافر!

استولى الصمت على المجلس، والحـ.ـز.ن يصل لدرجة لا تطاق، مزقه يوسف حينما قال بعقلانية: ده لمصلحتك يا أيوب. وإن كان عليهم فآدهم نازل معاك مصر على نفس الطيارة يعني مش هيبعد عنك يا عم، وعمران وسيف محلولة المكالمـ.ـا.ت الفيديو مفيش أكتر منها، كلمهم طول النهار والليل لحد ما ترجع تاني.

أزاح دmعة خائنة كادت بأن تفضحه، وهز رأسه بهدوء رغم تمزق قلبه من لوعة الفراق بينه وبين اصدقائه، فحطم على حـ.ـز.نهم ذلك حينما قال بسخرية تامة: بعيدًا عن الجو الشاعري اللطيف ده بينكم بس انتوا نسيتوا حاجة مهمة.
اتجهت أعين الثلاثة إليه بترقب، فاستكمل حديثه ببسمة واسعة: آديرا هترجع مصر مع أيوب ازاي؟ أو بالمعنى الأدق هتظهر قدام الشيخ مهران بأي صلة؟

لوى عُمران شفتيه ساخطًا: هيأخده بالاحضان وهيقوله يا فرحة أمك بيك!
ارتبكت معالمه وهو يتابعهم بنظرات صامته، وردد بعد فترة طويلة من السكون: لو اضطريت هكشفله الحقيقة.
رد عليه الطاووس الوقح ساخرًا: وأيه هي الحقيقة يا ابن الشيخ مهران! انك اتجوزت آديرا اليهوديه؟
هز رأسه ينفي مقصده المبطن وردد مصححًا: اتجوزت سدن المسلمة يا عمران!

جحظت أعينهم من صدmة ما تفوه به، فلم يستطيع أحدٌ ربط ما يقول، فسبقهم على وسأله: تقصد أيه؟ إنت مخبي أيه تاني يا أيوب؟
وضعت أمامها أصنافًا عديدة من الجبنٍ، وأخذت تبحث بين محتوياته بحيرةٍ، فتابعت تلك التي تقبع أمام شعلة النيران تنتظر ما ستحضره فنادتها بيأسٍ: شمس!
استدارت إليها تشير بيدها: هااا، يالا اديني الجبنه!
أشارت لها فاطمة بتذمرٍ: في أنواع كتيرة قدامي عايزة أنهي نوع؟!

اتسعت بسمتها الخبيثة، وأردفت: هاتيهم كلهم يا فاطيما، هعمل صوص جبن مشكل للمكرونة هيبقى تحفة.
وأشارت على البراد قائلة: طلعي انتي الاستربس واعمليه لحد ما أخلص.
ربعت يديها أمام صدرها وتابعت بدهشةٍ ساخرة: شمس الساعة داخلة على 11 وانتي واقفة تعملي مكرونة وفراخ!

وضعت الملعقة بفمها تستطعم مكونات الحليب الممزوج بالطحين، وفور أن استمعت لصوتها الساخر هرولت إليها تصيح: وطي صوتك فريدة هانم هتسمعنا دي ممكن تحرمني من الأكل اسبوع جاي عشان أخس الكام كيلو اللي هيزيدهم بعد الواجبة دي، وبعدين يا فطوم فيها أيه لما نقوم نص الليل نضـ.ـر.ب مكرونة واستربس وبانيه؟
جحظت عينيها صدmة: كمان بانيه! انتِ الجواز فتح نفسك على الأكل ولا أيه؟!

جذبت عُلبة الجبن واتجهت لتضع بالبشمل المخفوق هادرة بسخرية: هو فين ده، حبيبتي أنا اتجوزت واحد عامل زي العفريت بيختفي فجأة وبيظهر فجأة. أنا من ساعة الحفلة وأنا معرفش عنه حاجة!
وزادت من وضع الجبن الكيري قائلة بسخط: مفكرش يكلمني مرة. أنا خايفة أسافر معاه مصر ليسبني ويختفي!
وتابعت وهي تضع الملح: اللي مطمني إن على هيكون معايا.

تجهمت ملامح وجهها بحـ.ـز.نٍ، لا تعلم كيف ستظل تلك المدةٍ دونه، علي ليس زوجها فحسب، حسنًا هي تعشقه حد الجنون، سيطر على عاطفتها لدرجة جعلتها ترغب به!

لم يكن بأوسع مخيلاتها أن تمارس حياتها الطبيعية برفقته، وقد نجح هو بجعلها ترضخ له ولمشاعرها، ولكنه لا يعي بأنه بالنسبة لها كالهواء الذي يصعب على الإنسان العيش دونه، كيف تخبره بأنها حينما تلوث الهواء من حولها بفعل ما ارتكبه هؤلاء الجناة كان هو قناعها الذي مدها بالأكسجين النقي حتى تفادت كل تلك الغازات السامة!

تخيلها لفراقه عنها شعرت وكأنها تقف وسط وابل من الأمطار البـ.ـاردة وللغرابة شعرت بأنها ترتجف دون ارادة منها، فرفعت ذراعيها تضم ذراعيها بخفةٍ.
أفاقت على شمس التي تخبرها بدهشة: الباب اتفتح، شكل على أو عُمران رجعوا!
أزاحت مريول المطبخ واتجهت للرخام المجوف لتتمكن من رؤية القادm، فانزوى حاجبيها وهتفت بذهولٍ: مايا كنتِ فين انتي وزينب لحد دلوقتي!

انكمشت تعابيرها صدmة من وجود شمس وفاطمة بالمطبخ بهذا الوقت، فقد عادت للقصر برفقة زينب ويوسف الذي أصر أن يُوصلهما ولكن زينب كانت تشعر بضيق أنفاسها فور أن استقرت السيارة أمام القصر، فطالبتها أن تتجه بهما لمكانٍ منعش، فرضخت لها مايسان حينما وجدتها بحالة نفسية سيئة.
ارتبكت زينب حينما وجدت شقيقتها تقترب منهما وتتساءل باستغراب: كنتي فين يا زينب؟

ابتلعت ريقها بـ.ـارتباكٍ قـ.ـا.تل، وتطلعت تجاه مايا كأنها تطالبها بأن تنجدها، فطرقت حقيبتها على الطاولة القريبة وأسرعت لفاطمة تخبرها بتـ.ـو.تر: أنا كنت مخـ.ـنـ.ـوقة شوية يا فاطمة لاني اتخـ.ـنـ.ـقت مع عُمران النهاردة. فقولت أنزل أتمشى شوية بالعربية وأخدت زينب معايا.

تعلقت عين فاطمة بأصابع الكف البادية على وجه زينب والتورم الملحوظ، انتفض جسدها فجأة وتراجعت للخلف تضم قبضة يدها تستمد القوة لمواجهة كل ما يعتريها من بعض مشاهد الاعتداء عليها المتفرقة، فاستمدت قوة ومجاهدة كبيرة لنطقها المرتبك: أيه اللي في وشك ده يا زينب، قوليلي الحقيقة انتي كنتي فين؟

تمعنت بملامحها المتـ.ـو.ترة والمنفعلة، كطبيبة علمت بأن شقيقتها على وشك التعرض لنوبة قـ.ـا.تلة، انعكاس تعابير وجهها حركات أصابع يدها المتشنجة، حدة أنفاسها، لم تكن تعلم بأنها متضررة لتلك الدرجة، لذا استجمعت قوتها لتجيبها بهدوءٍ: مفيش يا فاطمة اتخانقت مع بـ.ـنت في الجامعة وزي ما انتي شايفة ضـ.ـر.بتني بالقلم بس الحمد لله مايا اتدخلت وحلت الموضوع وصممت تخرجني عشان أنسى اللي حصل.

واستدارت لمايا تحذرها بنظرة ثابتة: مفيش داعي انك تخبي عليها لإن الموضوع خلاص اتحل.
تنحنحت مايا وهي تدعي شعورها بالحرج ليمر الأمر، على فاطمة: أنا مكنتش عايزة أقلقها مش أكتر.
صاحت شمس بانفعالٍ وهي تندفع لتراقب اصابة زينب عن قرب: ودي مين المتوحشة دي، لازم تقدmي شكوة فيها للادارة يا زينب.
أكدت لها مايا بحزم: عملنا كده فعلًا والبـ.ـنت اعتذرت. الموضوع اتحل الحمد لله.

بخطواتٍ متـ.ـو.ترة اقتربت فاطمة من زينب، تراقب اصابة وجهها وأصابعها موضوعة بفمها تضغط عليها ببكاءٍ، وما أن اقتربت منها حتى ضمتها إليهل بحركة مرتبكة وبكت وهي تتساءل بصوتٍ مزق قلب مايا وشمس: بتو.جـ.ـعك؟
تعلقت بها زينب وهي تجاهد أن لا تسقط دmـ.ـو.عها، فرددت: لا خالص. أنا كويسة والله.

كانت تحمل بداخلها ألــمًا نازفًا لما حدث إليها، وما أن رأت حالة فاطمة شعرت بأنها تكتسب قوة يحيطها الخــــوف من أن تنتكس حالة شقيقتها، شـ.ـددت زينب من ضمها فهي لا تمتلك سواها، فقدت أبيها ولم يكن لدي شقيقها الأكبر ولا الأصغر حنان تجاهها، لم تعد تمتلك سواها وبالطبع لن تسمح أن تعود لظلمتها القـ.ـا.تلة، إن كانت تعرضت لجـ.ـر.حٍ بعنق السكين شقيقتها انغرس بداخلها السكين بأكمله!

أدmعت أعين شمس ومايا تأثرًا بهما، فقالت مايا بصوتٍ باكي: خلاص يا أوفر إنتِ وهي!
أزاحت شمس دmـ.ـو.عها بأصابعها وقالت بشهقاتٍ طفلة باكية: بطلوا عـ.ـيا.ط بقى الله. وأنا اللي سهرانه أعمل مكرونة وبانيه ومزاجي كان رايق قلبتوهالي نكد.
جذبت مايا قبعة البيجامة للأعلى هاتفة بحنقٍ: آه يا حقيرة مكرونة وبانيه من ورايا!
أجابتها سريعًا وهي تحاول تخليص ملابسها: عملت حسابك معانا يا طفسة بس آآ.

وسحبت نفسًا مطولًا من أنفها وهي تعيد كلمـ.ـا.تها: أيه الريحة دي!
ابتعدت فاطمة عن زينب واجابتها بضحكة صاخبة: المكرونة والبانيه اتحرقوا يا عروسة!
هرولت للمطبخ وهي تصرخ بصدmة: مكرونتي. فراخي، صوص الجبن المكس، أووووه لاااااا.
انفجرت الفتيات من الضحك، فأشمرت مايسان عن ساعديها وأشارت بمزح: بينا ننقذ ما يمكن إنقاذه أو نعمل غيرهم أنا بصراحة جعانه جدًا!
وصاحت وهي تهرول للمطبخ: هيا بنا يا فتيات!

اختلج السكون بينهم، ما قاله ليس هينًا بالمرةٍ، الجميع يجلس بصمتٍ قـ.ـا.تل، النظرات تحيل بهم وتجتمع لآيوب المتحفز لاي سؤالًا قد يُطرح، فكان عُمران أول من تحدث: يعني البـ.ـنت دي المفروض إنها مسلمة؟
هز رأسه يؤكد له، مال يوسف يستند على ساعديه: ازاي الأخ يقــ,تــل أخوه بالشكل البشع ده، وبعد ما أخد أولاده وكبرهم جاله قلب يقــ,تــل أخوها ويحاول يقــ,تــلها!

أجابه عمران ببسمة ساخرة: مستغرب ليه يا دكتور دول ولاد معندهمش ملة ولا ضمير.
تنهد على بحـ.ـز.نٍ، وأخفض ساقيه عن طرف الاريكة ليعتدل بجلسته متسائلًا بحيرة: طيب ليه مش عايز تديها الدفتر اللي سابه أخوها يمكن لما تعرف الحقيقة الموضوع يفرق معاها وتأسلم!
رد عليه آيوب بعقلانية ورزانة: لآني ببساطة مش عايزها تحس إنها مجبورة إنها تأسلم، عايزها تختار ده بـ.ـارادتها ووقتها هسبها تعرف الحقيقة.

وتابع بابتسامة جذابة: وبالمناسبة ده قرب يحصل لإنها واحنا مخـ.ـطـ.ـوفين قالتلي إنها عايزة تعرف أكتر عن ديني فده معناه إني قربت أوصل للي أنا عايزه.
ابتسم آدهم وأشار له باعجابٍ: مطلعتش سهل يابن الشيخ مهران!
تعالت ضحكاته الرجولية مرددًا بمشاكسةٍ: عيب عليك يا سيادة الرائد.

تعالت بينهم الضحكات الرجولية، ومن بينهم انطلق رنين هاتف يوسف فحمله وتطلع للمتصل وهو يقول بضيق: يا خبر أنا نسيت جمال خالص، أنا دبسته مع سيف في المستشفى كل ده.
برق آيوب بصدmة، وتساءل بقلقٍ: سيف في المستشفى بيعمل أيه؟
سيطر عليهم الوجوم، فانتفض بجلسته يردد بذعر: سيف حصله أيه يا دكتور يوسف؟
أخفض عينيه أرضًا بحـ.ـز.نٍ، فصاح منفعلًا: بسببي صح! أنا السبب!
وقف قبالته عُمران يمسك ذراعيه: اهدى سيف كويس وبخير.

غصته تزداد كلما تيقن بأنه السبب فيما أصابه، بالطبع تمكنوا منه ليحصلوا على الهاتف، انتفض بين ذراع عمران وهمس له باكيًا: عايز أشوفه يا عُمران!
ربت على ظهره بحنان وحـ.ـز.ن يغترفه: هاخدك ليه بس اهدى.
وأبعده عنه مشيرًا له: هتوصلها الأول للملحق وبعدين هنطلع على المستشفى.
وتابع وهو يخرج برفقة الشباب: هاتها وانزل.

ولج أيوب للغرفة فوجدها تغفو على الفراش بانهاكٍ وبنفس ثيابها، حركها برفقٍ وهو يناديها: آديرا. انهضي سنترك هذا المنزل.
نهضت بتعبٍ يهاجمها ورددت: إلى أين سنذهب؟
اتجه يجذب أغراضها بالحقيبة الموضوعة جانبًا، فخشى أن يخبرها بأنه من سيرحل برفقته هو نفسه صديقه الشرس الذي تهابه، فابتسم يجيب بخبث: سنذهب برفقة أحد أصدقائي، فالمكان لم يعد أمانًا.

هزت رأسها بخفوتٍ، ونهضت تحتضن كتفيها المصاب بتعبٍ تسلل لصوتها الهامس: أشعر وكأن هناك سكينًا يمزق كتفي.
استدار إليها يتفحص موضع الألــم، وقال: لنغادر الآن وحينما نصل تقومين بتغير الضماد.
نهضت عن الفراش فاحتدت أنفاسها فور أن شعرت بالأرض تتراقص بها، وتلقائيًا استندت على ذراعه هامسة له: أنا لست بخير أيوب. أشعر وكأن حوائط المنزل تدور من حولي!
أدmى شفتيه السفلية بضيق ومع ذلك ساندها حتى ولجوا للمصعد.

هبط بها أيوب للأسفل حيث تصطف سيارة يوسف وعُمران، فما أن رأته آديرا حتى تركت ذراع أيوب الذي يعد عكازها بعد يومًا متعب رأت به المـ.ـو.ت أكثر من مرة.
كبت على ضحكته بصعوبة، وأشار لأخيه: روح إركب مع آدهم وأنا هسوق أنا بدل ما البـ.ـنت يجيلها سكتة قلبية قبل ما نوصل.
أومأ له باستسلامٍ غريب، وتركهما وغادر لسيارة آدهم فتحرك به على الفور.

عاد أيوب يساندها حتى استقرت بالمقعد الخلفي واستقر هو جوار علي، اتجهت السيارتين للقصر، ففتح على الملحق لهما، وولج عُمران للداخل ليبلغ الخدm بوجود ضيوف بالخارج ليمدهم بما يحتاجوه.
ولج عمران المطبخ من الباب الخلفي، فوجد شقيقته تجلس برفقة زوجة أخيه وزينب يتناولون الطعام بجو من المزح والضحك، فابتسم وغض بصره مستكملًا طريقه لغرف الخدm الجانبية للمطبخ، فتفاجئ بزوجته تهدأ النيران وتراقب القدح.

جذبت مايسان الملعقة ورفعتها لفمها وهي تحرك شعرها للخلف حتى لا يسقط بالملعقة، تناولت ما تحمله وهي تهمس بإعجابٍ: أممم البشاميل بتاعي أحلى من بتاع شمس بكتير.
تمردت خصلة من شعرها للأمام فرفعته بضيقٍ، وهي تعود لتقليب المحتويات، شعرت بيدٍ تجمع خصلاتها وتضعها برباطًا انسدل طرفه على وجهها فتمكنت من شم رائحة البرفيوم العالقة به باجتيازٍ، أغلقت عينيها بقوةٍ ولسانها يردد دون ارادة منها: عُمران!

مال على كتفها يضمها إليه وهمسه المغري يصل لمسمعها: جنبك وقريب منك يا حبيب قلبي!

طمستها مشاعرها وقربه الخطر يقتحم أسوارها، تناست كل شيءٍ، حتى وقوفها أمام نار الموقود، مالت إليه تستجيب لحبه المطالب بقربها بعد يومًا قضاه وهو يجاهد السيطرة على اعصابه المشـ.ـدودة، استكانت على صدره وصوت اندفاع دقات قلبه لقربها يرضي طبلة أذنيها، فابتسم وهو يهمس لها بمكرٍ: الطبخة اللي اجتهدتي وبتتباهي بيها هتولع مع شرارة الحب يا بيبي!
رددت بعدm فهم: طبخة أيه!

مال بها يغلق الزر الألكتروني وهو يردد من بين ضحكاته: طيب خليني أنقذها لما تفوقي من سحر قربي!
برقت بصدmة وهي تستعيد ادراكها تدريجيًا، فدفعته للخلف وهي تراقب الجانب الخاص بطاولة الفتيات: عُمرااان أنت بتعمل أيه يا مـ.ـجـ.ـنو.ن، أختك ومرات أخوك بره!

منحه نظرة جريئة غير مبالية بما ذكر، وقال ويده تمتد لتعدل من جرفاته الذي يحتضن خصلاتها بتملك: كده عندك ليا اتنين جرفات، واحد اتخليت عنه عشان حبيب قلب جوزه يعرف يأكل من غير ما يتضايق والتاني أخدتيه مني يوم فرح علي.
وانحنى تجاهها يهتف بخبث: فاكرة اليوم ده يا مايا؟
ارتبكت وعينيها تتسع صدmة من تلميحاته الوقحة، فرفعت الملعقة تهدده بها: امشي يا عُمران. إمشي بدل ما أبهدلك بالبشاميل!

جذب الملعقة منها وتناول المعكرونة التي صنعتها ببطءٍ متعمدًا أن يهتف دون مبالاة بتعصبها: أمممم. لذيذة أوي.
وغمز لها بمشاكسة وهو يتابع طريقه: شيلي ليا طبق لحد ما أرجع. مش هتأخر عليكِ يا بيبي.
رفعت يدها تتحسس نبض قلبها المرتجف بحسرةٍ: هيمـ.ـو.تني في مرة من أفعاله وجرائته دي!

وزفرت بغـ.ـيظٍ وهي تلقي الملعقة من يدها، تنهدت بقلة حيلة وهي تجذب أحد الاطباق لتسكب لها، فعاد لها حديثه يتكرر بمخيلاتها فهتفت بدهشة: هو رايح فين تاني!
تجمعوا مرة أخرى قبالة باب القصر، فصعد عُمران بسيارة آدهم جوار أيوب بالخلف، بعد أن أقنع على بالبقاء والاسترخاء بعد يومه المجهد هذا، فولج للداخل وغادرت سيارة آدهم للمشفى ومن خلفها سيارة يوسف.

اتجه للدرج ليصعد للأعلى ولكنه توقف فور سماعه صوت ضحكات قادmة من المطبخ، اتجه للداخل باستنكارٍ من استيقاظ أحدٌ بوقتٍ هكذا، فابتسم وهو يردد بسخرية: دي العيلة كلها هنا وأنا مش واخد بالي!
صاحت شمس بحماسٍ: علي، تعالى اقعد عما أجبلك طبق.

جذب المقعد المجاور لفاطمة التي تزيح بقايا الطعام على فمها بحرجٍ، فراقب الموضوع على الطاولة قائلًا بصدmة: حد يأكل مكرونة والساعة داخلة على 12! شمس إنتي مش هتبطلي تعملي مصايب بليل دي.
اجابته بمزحٍ وهي تضع أحد الاطباق أمامه: الجوع كافر يا دكتور علي!
وتابعت بحنقٍ: وبعدين انت متضايق أوي ليه ما مراتك منسجمة معايا وعجبها الوضع.

ارتشفت فاطمة من كوب المياه بحرجٍ، فابتسم على وسحب شوكته يلتهم الطعام وهو يردد بحب: اللي يعجبها يعجبني بالإجبـ.ـار، ومستعد أنزل كل يوم بليل أطبخلها أنا بنفسي.
مالت شمس على الطاولة تستند على ذراعيها، ونظراتها تمر بينهما بمشاكسة: يا الله على الرومانسية والحب، أنا لو سمعت الكلام والحركات دي من عُمران مش هتفاجئ لكن دكتور على أخويا الهادئ الخجول مش قادرة!

وتابعت وهي تغلق عينيها بتنهيدة: صحيح الحب بيصنع المعجزات!
أفاقت على ضـ.ـر.بة خافتة أصابت أعلى رأسها وقولًا حازمًا: فوقي من أحلام العصر اللي انتي عايشاها دي وروحي هاتيلي مايونيز!
استقامت بوقفتها وهي تُتمتم بضيق: ماشي يا علي!
ضحكت فاطمة بصوتها كله، فمال عليها يسألها باهتمامٍ: زينب فين؟
ردت عليه وهي تراقب طبقها حتى تهرب من نظراته الحنونة: أكلت معانا ولسه طالعه من شوية.

وحينما تذكرت ما حدث لها قابلته بنظرة حزينة: كانت راجعه من برة وشها وارم وقالتلي إن ليها زميلة في الجامعة اتخـ.ـنـ.ـقت معاها ومايا راحتلها وحلت الموضوع، كنت عايزاك يا على تروحلها الجامعة وتشوف البـ.ـنت دي لتضايقها تاني أو تعملها حاجة.
وتمردت دmـ.ـو.عها وهي تخبره: أنا ماليش غيرها يا علي.

سحبها بأحضانه وربت على رأسها بحنانٍ وقلق من معرفتها الحقيقة، فقال: متخافيش يا حبيبتي أنا هروح معاها بكره بنفسي وهشوف الموضوع ده، المهم متزعليش نفسك.
رفعت رأسها إليه ومازالت قريبة منه: على أنا حاسة إن زينب فيها حاجة، بتحاول تخبي عني ومش راضية تقولي مالها بس أنا حاسة بيها والله.

وتابعت بانهيارٍ هزمه: نفسي أخدها في حـ.ـضـ.ـني وأحتويها بس مش عارفة يا علي، أنا أول ما شوفت وشها كده اتخشبت وافتكرت اللي حصلي وآآ، وخــــوفت أوي يكون اتعرضت للي أنا اتعرضت ليه، آآ. أنت مش فاهمني أنا أي عنف بشوفه بيفكرني باللي أنا شوفته.
خشى أن يتصاعد أمرها لنوبة قد تعيقه عن طريق تقدmه بما أحرزه، فربت على حجابها بحنانٍ وحب: اهدي يا فطيمة. كل ده من خيالك إنتي، مفيش حاجة من دي صح.

نفت ذلك باشارة متعصبة: لأ يا علي. صدقني أختي فيها حاجة بس هي خايفة تتكلم وتقولي علشان حالتي، إنت مشوفتنيش من شوية لما شوفتها حالتي كانت عاملة ازاي لدرجة انها خافت عليا ومكنتش حابة إني أشوفها بالوضع ده!

ضمها إليه بكل قوته وانحنى يقبل جبهتها، وهو يعمق نبرة صوته الرخيمة: خــــوفك عليها وخــــوفها عليكي ده شيء طبيعي يا فاطمة، مش معناه إنها بتحرص علشان تعبك، ثم إن مين اللي قالك إنك مريـ.ـضة؟! انتي بقيتي زي الفل ومبقتيش محتاجاني معاكي خلاص!
تعمقت بالتطلع إليه بنظرة متلهفة، فضم ذقنها بأبهامه وهو يستكمل بذكاءٍ: تفتكري لو بخدعك كنت هسيبك وانتِ تعبانه وهسافر مصر؟

أضاء الأمر بمُقلتيها، فقال بابتسامة جذابة: فاطمة انتي بقيتي كويسة من اللحظة اللي أخدتي فيها القرار إنك تكوني زوجة ليا.
اقتمع وجهها من فرط الخجل، فنهض وهو يقدm يده لها: الوقت إتاخر يالا نطلع.
أشارت تجاه المطبخ باستغراب: والمايونيز اللي طلبته!
جذبها بقوةٍ جعلتها تستند على صدره: مش عايز غير حـ.ـضـ.ـنك!

واتجه بها للأعلى تاركًا شمس تراقبه بنظراتٍ مغتاظة، فعادت إلى طبقها تلتهمه وهي تهدر بانفعال: أخوات أخر زمن الواد بيطرقني!
زفر جمال بغـــضــــب وهو يراقب هاتفه: أخوك مبيردش لييه، أنا غُلبت معاك ومفيش أي فايدة!
ضم يديه معًا أعلى صدره وهو يخبره ببسمة مستفزة: ولو جبتلي أبويا نفسه مش هأخد حقن بردو، فاستسلم بقى يا جيمي وفكك من الممرضات اللي هيخلونا نخسر بعض دول.

وزع نظراته المغتاظة بينه وبين فريق التمريـ.ـض المنصدmين من ذلك المريـ.ـض الملقب بالطبيب، فردد بحرج: أعتذر منكن صديقي الأبله لا يرغب بتناول الأبرة دون وجود أخيه، لقد هاتفته وعلى الأرجح هو على الطريق.
ضحك سيف وصاح وهو ينحني باحترام مضحك: حبيبي يا جيمي.
بالخارج.

وقف الشباب يتابعون الممرضات التي تخرج من الغرفة تباعًا بدهشةٍ، وما أن ولجوا للداخل حتى صاح جمال: يوسف إنت لبستني أخوك ومشيت! الدكتور المحترم مفرج علينا المستشفى من ساعتها، مش راضي يأخد لا حقن ولا محاليل أمال جايبنه هنا يهبب أيه!
ربت آدهم على كتفه بشفقةٍ: اهدى يا بشمهندس مش كده.
اتجه عُمران لفراشه يردد بسخرية: بقى كل المزز دي تعدي عليك ومفيش واحدة قدرت تغريك للحقنه!

هز رأسه بتأكيدٍ: بخاف من الحقن يا عُمران.
سيف!
نطقها أيوب الذي وقف يراقب اصابات جسد سيف بصدmة، فانتبه له الاخير وصاح بلهفة: أيوب! آه يا ندل المستشفى بتتملى وبتتفرغ عليا من ساعتها وإنت لسه فاكر تآآ...
ابتلع باقي جملته حينما اقترب أيوب منه فلاحظ الكدmـ.ـا.ت الزرقاء التي تملئ وجهه، فتساءل بفزعٍ: مين اللي عمل فيك كده؟
ووزع نظراته بينهم بشكٍ: الصبح أنا ودلوقتي أيوب!

وعاد يتمعن به هاتفًا بعدm تصديق: عمها وصلك! عشان كده أخدوا تليفوني!
مال عليه أيوب يحتضنه بقوة ألــمته، واستمع له يقول بحـ.ـز.ن: أنا السبب في اللي حصلك، قولتلك قبل كده إن الأذى هيطولك معايا.
ضمه إليه وقال بألــمٍ يعتصر رأسه: ولو فيها مـ.ـو.تي أنا راضي. بس المهم أنك متتأذاش يا أيوب.

جلس عُمران يضع ساقًا فوق الاخرى بعنجهيةٍ: لو خلصتم حلقة العشق الممنوع ده اترزع مكانك يا عم أيوب، مش ناقصين تقطيع في القلب والشرايين بكفايا اللي عملته فينا!
ابتعد عنه واتجه يجلس جوار آدهم بالاريكة المقابلة لعمران، فتساءل سيف بفضول: أيوه يعني أيه اللي حصل، دخلت وحـ.ـضـ.ـنت ومحكتليش عمل فيك أيه؟!

مرر عُمران يده على جبينه بتعبٍ، فلكزه بساقه الممتدة إليه: بكره يبقى يحكيلك واتكن يا سيف عشان وربي أطلق اللي في رأسي عليك.
تساءل أيوب ببعض الخــــوف: هو أيه اللي في رأسك يا عُمران؟
كبت آدهم ضحكاته ومال عليه يهمس له: كلاب صعرانه تقريبًا سمعته بيقولها تلاتين مرة!

ابتلع ريقه بـ.ـارتباكٍ ومال على آدهم يخبره بصوت منخفض: عُمران بيبقى مخيف أوي لما بيتعصب، كويس إنك جيت هناك لوحدك، لو كان جيه وقفشها مقربة مني كده كان هيضيع مستقبلي!

تعالت ضحكات آدهم بصوتٍ ملحوظ، فاعتدل رأس عمران المسترخي على المقعد ليمنحه نظرة جعلته يتنحنح مستعيدًا ثبات تعابيره، ومازالت أذنيه ملتصقة بفم أيوب الذي يعيد قول: عارف لو آديرا عرفت آنها في بيت عُمران مش بعيد تسلم نفسها وتقر على الجريمة اللي حصلت، هي في اعتقادها إنه بيت على وخدmنا الدكتور على لما هو اللي فتحلنا البيت وفضل معانا، عن صدmتها لما تعرف إنهم اخوات وانهم في بيت واحد!

ابتسم آدهم بينما يسترسل ايوب حديثه الهامس مستغلًا انغلاق أعين عمران واسترخائه على المقعد، بينما مازال جمال ويوسف يقفان بالخارج برفقة احد الاطباء للاطمئنان على صحة سيف: تعرف أنا نفسي بترعـ.ـب منه بس بحبه أوي والله! إنت مصدقني صح؟
استدار إليه يجيبه بضحكة ساخرة: مصدقك طبعًا يا ايوب ده أنت ناقص تدخل جوه ودني وتقولي الكلام فده اداني تأكيد أنك مـ.ـيـ.ـت في جلدك منه مش مرعوب بس!

ضحك أيوب وأشار مؤكدًا له، ثم قال ببسمة هادئة: أنا صحيح زعلان اني نازل مصر بكره بس فرحان إنك هتكون معايا.
وبـ.ـارتباكٍ سأله: آدهم هو أنا ينفع أفضل على تواصل معاك لما ننزل مصر؟
تبددت ابتسامته وأجابه بضيق: إنت كنت هتقطع علاقتك بيا يابن الشيخ مهران!
وبسخرية قال وهو يقلد نبرته: أمال أيه أنا بحس باحساس غريب من نحيتك وبشم فيك ريحة أبويا كنت بتتسلى بيا!
اتسعت ابتسامته وقال: خلاص هكلمك ونتقابل دايمًا.

ابتسم آدهم وأخبره بحب: مش بمزاجك يا أيوب هتقابلني غـ.ـصـ.ـب عنك وخصوصًا إني خلاص وصلت لمكان ابن عمك وهفتح القضية من تاني.
انتفض بلهفة: بجد؟
هز رأسه يؤكد له فكاد بأن يستفسر عما يقصده فناداه سيف بو.جـ.ـع: أيوب، تعالى هنا يا حـ.ـيو.ان أنا مش ملاحق ألــمك من جنب الخلق! جاي تزورني وتخفف و.جـ.ـعي ولا تحب وتضـ.ـر.ب صحوبية مع سيادة الرائد!

انفجر آدهم ضاحكًا وهو يضـ.ـر.ب كفًا بالأخر، بينما أسرع أيوب للمقعد القريب منه يخبره بضيق مصطنع: مالك بيا يا سيف مش شايفني متشلفط قدامك!
منحه نظرة ساخرة اتبعها قوله: وأنا قدامك أيه حاطط مكياج! انا اتدشملت بسببك مش واخد بالك ولا اللكمة اللي اخدتها ضيعت النظر!
ضحك رغمًا عنه وانحنى يربت على صدره كالطفل الصغير: معلش يا سي?و علقة تفوت وإن شاء الله متتكررش تاني.

رفع أحد حاجبيه باستنكار: معناه أيه الكلام ده، هتعقل وتبطل تحشر مناخيرك مع اليهود!
هز رأسه وأجاب: عقلت وتوبت بعد المرمطة اللي اتمرمطتها.
وانحنى يهمس له بصوتٍ يدعي البكاء الساخر: صاحبك اتمرمط واتحط عليه بالجـ.ـا.مد من عمها ابن الأ، شووفت كنت هشتم في ابتلاء أبشع من كده.
ضحك سيف ساخرًا: لا ده مش ابتلاء عمها ده من صحوبيتك مع عُمران الوقح.
ماله عُمران يا دكتور؟! مش هتلم لسانك ده بروح أمك النهاردة!

لفظ بها ذاك الغاضب بعدmا اعتدل بمقعده، ونهض يشير للاخر: هتيجي معايا ولا مشرف مع أبو لسان طويل!
معاك يا باشا بس اهدى كده وروق!
قالها أيوب وهو يراقب ملامحه بتـ.ـو.ترٍ، فولج جمال للداخل يشير لعمران: تعالى بره عايزك.
تركهم وخرج لجمال أمام الغرفة، فقال: عُمران أنا عارف إن الوقت مش مناسب للكلام ده بس اللي حصل النهاردة لازم تعرفه.
فرك رأسه المتعب وقال: اتكلم يا جمال أنا مش هسحب من على لسانك الكلام!

سحب نفسًا مطولًا وألقى قنبلته الموقتة: خالك جاني المستشفى النهاردة بحجة إنه بيزور والدتي وبصريح العبـ.ـارة كده هددني إني انسحب من مشروع المول التجاري لإنه عايز يدخل معاك فيه.
احتد الغـــضــــب برماديته بشكلٍ سافر، وصاح بعنفوانٍ: مشروع أيه ده اللي عايزني أدخله معايا شريك فيه، اتجن ده بروح أمه! وبيهددك إنت ليه خايف يواجهني بطمعه وجشعه مش جديد عليا!

راقب جمال الوجوه من حوله وصاح: احنا في المستشفى يا عمران ميصحش كده.
هدأت انفاسه المنفعلة تدريجيًا، وأضاف بعزمٍ: ماشي يا نعمان أنا وراك لما اجيب أخرك، وعلى رأي المثل العيلة اللي مفهاش صـ.ـا.يع حقها ضايع!
ارتعب جمال من رؤية ابتسامته المخيفة وسأله بـ.ـارتباك: ناوي على أيه يا عُمران؟
اتسعت ابتسامته وأجابه بفحيحٍ مخيفٍ: كل خير يا جيمي ده الخال بردو!

بالداخل.
بذل يوسف مجهودًا مضاعفًا حتى تقبل سيف أن يوضع بيده أبرة المحلول، فاضطر الأطباء أن يضعوا بالمحلول الآبر، فجأتهم ليلى حينما ولجت تحمل عمود معدني من الطعام، وضعته على الكومود وسحبت أحد الاطباق ومن ثم سكبت له قائلة: عملتلك شوربة خضار وبإيدي عشان تعرف معزتك يا دكتور سيف.
ابتسم وهو يشير ليوسف: سندني يا يوسف الريحة تجوع لوحدها وأنا واقع من الجوع.

عاونه يوسف حينما رفع السرير بريمـ.ـو.ت متحكم، فقدmت له ليلى الطبق وقالت ببسمة رقيقة: ألف هنا.
اشار لها يوسف وهو يضع الصينيه أمامه: أعملي طبق لأيوب يا دكتورة ليلى، وشوفيله مضاد للالتهابات للاصابات اللي في وشه.
تنحنح أيوب بحرج لتقززه من تناول تلك الشوربة: انا كويس يا دكتور يوسف.
ضحك باستهزاءٍ وأعاد ما قال: اديله طبق وشوفيله الدوا يا دكتورة.

هزت رأسها بطاعةٍ واتجهت إليه تناوله الطبق: اتفضل يا بشمهندس، هروح أجبلك من الدوا وراجعه.
تناوله منها مرددًا باحترام: شكرًا.
غادرت ليلى الغرفة وانشغل يوسف باطعام سيف، بينما ظل أيوب يراقب طبق الشوربة بأعينٍ منفرة، وحينما رفع رأسه لمن يجاوره وجده يحدجه بنظرة مهتمة وقال: كل، مستني أيه؟
ابتلع ريقه بصوت مسموع وكأنه سيتناول شيئًا سام وقال: بقرف منها يا آدهم!

ابتسم ومال عليه يهمس له: ما انت عملتهالي قبل كده واجبرتني أكلها!
راقب الطبق لقليل من الوقت وقال: لازم أكل الدكتورة ممكن تفكرني قرفان من أكلها بس أنا والله مش بحبها.
اتسعت ابتسامة آدهم وقال كأنه يعامل طفلًا صغيرًا: جدع. كل وخلص طبقك بسرعة قبل ما ترجع.
ابتلع سخريته وبدأ بنزع حبات البازلاء الخضراء(البسلة)، ووضعها على أحراف الطبق، ثم بدأ بتناولها، فقد كانت شهية للغاية.

تابعه آدهم باستغراب، وكأن نسخته تعيد ما يفعله، انتشرت طرقات باب الغرفة ومن بعدها ولجت ليلى واقتربت من أيوب لتقدm له الدواء، فحاول سحب البازلاء عن سطح الطبق سريعًا قبل أن تراه، ففجأه آدهم حينما جذبها ووضعها بفمه سريعًا يتناولها وملامحه تشمئز وهو يلوكها بنفورٍ.
تمعن به أيوب بصدmة وتناسى يد ليلى التي تقدmها له بالدواء، فنادته لتجذب انتباهه: الدوا يا بشمهندس.

انتبه لها فتناول الحبوب والمياه منها وشكرها بامتنان وما ان غادرت حتى جذب منه آدهم زجاجة المياه يتجرعها مرة واحدة ليقابله بنظرة ساخرة: شوفت عشان بحبك بلعت أيه؟
هز رأسه بابتسامة واسعة: مش متخيل أساسًا إنك أكلتها، إنت كنت بتشيلها يوم ما حطتهالك في الشوربة!
جذب المنديل يمسح فمه وأردف بتسلية: عد الجمايل يابن الشيخ مهران.
قاطعهما صوت الطاووس الوقح: هتبات هنا ولا أيه يا عم أيوب!

ودع آدهم وهرول سريعًا للخارج يصيح: أوعى تتعصب أنا في ديلك!
منحه نظرة ساخرة واتجه للمصعد فولج خلفه وهو يلوح لآدهم بيده فابتسم وهو يلوح له هو الاخر قبل ان ينغلق المصعد ويختفي بهما.

تراجعت بعيدًا عن الرخام الأسود المحيط لحوض الاغتسال بصدmة، يديها مضمومة على فمها، ولسانها ينطق دون توقف: مش ممكن! لأ مستحيل!
تراجعت فريدة حتى جلست على غطاء الحمام ومازالت نظراتها تحيط اختبـ.ـار الحمل الايجابي الموضوع جوار حوض الاغتسال.
اعادت خصلات شعرها للخلف ومازالت تحت تأثير الصدmة: لأ! ازاي ده حصل!
وتابعت ودmـ.ـو.عها تلألأت بحدقتيها: هقول أيه للأولاد! وشمس! شمس فرحها بعد كام يوم لا مستحيل!

اعتلت الصدmة ملامحها لدرجة جعلتها تعيد الاختبـ.ـار لأكثر من ثلاث مرات، وأكثر ما يهزمها بتلك اللحظة النـ.ـد.م والصدmة، نعم مازالت صغيرة تتمتع بجسدٍ ممشق، من يرآها لا يجزم بأنها قد أنجبت يومًا بفعل حفاظها على وزنها والرياضة المنتظمة ولكن كيف ستفعلها وأولادها بات كلًا منهما رجلًا على وشك استقبال خبر حمل زوجاتهما، وابـ.ـنتها على بعد أيامًا من زواجها!

ضمت فمها ومازالت تحاول الاستيعاب وبعصبية صاحت وهي تلقي الاختبـ.ـار بسلة القازورات: ازاي مأخدتش بالي!
وصل آيوب برفقة عُمران للقصر، فولج للملحق الخارجي واتجه لغرفة فارغة وغفى بها بتعبٍ، بينما صعد عُمران للأعلى واتجه لحمامه الخاص، انتعش بحمامٍ دافئ واتجه لفراشه بعد أن ضبط المنبه على وقت الفجر مثلما يعتاد.

مضت ثلاث ساعات حتى استيقظ، خرج للشرفة الخارجية يتفحص السماء ببسمة خافتة، ومن ثم عاد لجناحه يجذب سجادته الخاصة وحامل المصحف الخاص بمصحفه الكبير، وهبط للحديقة.
فرد سجادته ووضع حاملة المصحف جواره، أدى صلاته بخشوعٍ تام وحينما انتهى وقف يتمعن بالحديقة مستمتعًا بتلك الأجواء المحببة إليه.

جلس على سجادته يرتشف المياه وما أن استكان وسحب حاملة مصحفه الشريف وبدأ بالتلاوة بصوتٍ عـ.ـذ.بٍ خاشع، فردد آية استحضرته بكل ذرة داخله
بسم الله الرحمن الرحيم.
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا» (سورة المائدة).
صدق الله العظيم.

وتابع قراءته بصوته الخاشع إلى أن انتهى من وارده بشكلٍ متقن، حتى اتحنى يغلق مصحفه وقال بصرامةٍ دون أن بتطلع خلفه: هل ستمضين اليوم بأكمله وأنتِ تراقبيني؟!
انتفضت تلك المختئبة بين فروع الشجر العملاق، وكادت بالعودة وهي تلعن فضولها الأبله بالتنزه بتلك الحديقة الرائعة، فأسقطها قدرها بوجهة ذلك الشرس، فتعجبت حينما رأته يصلي مثلما يفعل أيوب.

ابتلعت ريقها الجاف بصعوبة، وكادت بأن تفر راكضًا ولكنها وجدته يردد ومازال يلملم أشيائه الخاصة: كنت فظًا معكِ طوال تلك الفترة أعتذر عن ذلك.
أسبلت بعدm تصديق وخرجت من بين الأشجار تراقبه بنظرات مشككة، فوجدته يتطلع أرضًا أسفل قدmيها مثلما يفعل زوجها، فقالت بتيهةٍ: أنت تبغضني كثيرًا فلماذا تعتذر لي فجأة؟!

ابتسم بخبث، فبعد ما استمع له بالأمس من أيوب اكتشف أنه شابًا ذكيًا يستدرجها لقيم دينه دون اجبـ.ـارًا منه، ربما كان يمقتها كثيرًا لإنه يكره جنسية هؤلاء الذين يتسببون بما يحدث بأرض فلسطين، ولكن ما هون عنه سماعه لقصتها فأشفق عليها.
تنحنح عن صمته يخبرها وهو يتجه للمقعد المجاور للمسبح الضخم: ليس لسببٍ معين، أخطأت وإعتذرت وانتهى الأمر!

فركت أصابعها بـ.ـارتباكٍ وهي لا تعلم أتثق به أم تركض عائدة لآيوب مصدر أمانها، ولكن فضولها كان قـ.ـا.تلٍ، فاقتربت تبعد المقعد المجاور لطاولته لتكون على بعدٍ كبير منه، حتى تلوذ بالفرار الآمن إن تطلب الأمر.
منع ابتسامة ساخرة ارتسمت على محياه وانشغل بترقب المياه الصافية من أمامه ليعلم ما الذي تريده باقترابها هذا، فاتته تتساءل بفضول: رأيتك وأنت تصلي مثلما يفعل أيوب فاندهشت قليلًا.
رفع احد حاجبيه بذهولٍ: لماذا؟

أجابته بتلقائية مضحكة: أيوب يفعلها لذا هو خلوق للغاية وأنا أثق به كثيرًا وأنت تصلي مثله ولكنك لست مثله، أنت مخيفًا، آآ. أعني أنت سيئًا آآ، أنت آآآ...
واستطردت وهي تقبض على طرف المقعد: أعتذر ولكنك تخيفني للغاية.
تنهد واستند على ظهر المقعد: لا عليكِ، أنا أعلم ذلك.
عبست بحدقتيها صدmة: هل أنت على ما يرام سيدي؟
كبت ضحكته بصعوبة وقال بجدية مصطنعه: هل لي بسؤالك ما الذي تفعلينه خلف الشجرة؟

ردت تجيبه: رأيتك تصلي فتعحبت لذلك، أيوب يخبرني أن الصالحين لا يتركون صلواتهم وأنت شريرًا فاسقًا يا سيدي!
برق بغـــضــــب جعلها تتأهب لما هو قادm، ومع ذلك سيطر على غـــضــــبه وقال: وما الذي يدفعك للظن بأنني شرير فاسق يا امرأة؟
بتلقائية تتدعي البراءة اجابته: لانك كلما تراني تبرق بوجههي وكأنك ستتحول لأفعى سامة تعتصرني!
همس بسخط: يا ريت كنت اتحولت ولسعتك وخلصنا من خلقة أمك!

عاد ينظم أنفاسه ويستعيد قوته المهدورة، واعترف لذاته ان آيوب يبذل مجهودًا مع تلك الحمقاء يستحق كاسًا ذهبيًا اجلالاً له، وقال: ولكني لم أفعلها أليس كذلك؟
هزت رأسها تؤكد له صدق حديثه، فتابع ببسمة زائفة: اطمئني ديني لا يسمح لي بقــ,تــل أي نفس، الله عز وجل حرم علينا ذلك ومن يفعلها مصيره جهنم وبئس المصير، أنتِ رأيتي بعينيكِ أنني أودي صلاتي لأتقرب من الله عز وجل فلما عساني أرتكب ذنبًا عظيمًا كذلك.

رمشت تستوعب ما قال، وسألته باهتمام: هل يعني ذلك بأن الله سيحاسب عمي عما ارتكبه بحقي وبحق أخي؟
أكد لها: بالطبع كلنا سنحاسب عن أفعالنا، وعن المعاصي التي ارتكباها بالدنيا.
ألــم ترتكب معاصي يومًا؟
ابتسم ساخرًا وقد تقاذف إليه كل السييء الذي فعله بحياته: بلى، فعلت كل شيء تقريبًا. ولكني تراجعت عن ذلك حينما كشف الله عز وجل عن بصيرتي.
تابعته باهتمامٍ وتساءلت بلهفة: ومتي سيُكشف عن بصيرتي؟

التفت تجاهها وقد لمس ما بداخلها، فقال يطمنها: لا أعلم، ولكني أشعر بأنه سيحدث قريبًا، قريبًا جدًا.
اتسعت ابتسامتها بفرحةٍ وكأن الحياة فتحت ذراعيها وتلقفتها داخلها، فاعتدلت بجلستها وقالت بتحفزٍ: فلتخبرني إذًا كيف أعتنق دينك؟
وتابعت باستفهامٍ مهتم: هل يجب أن أذهب لمكانٍ محدد أو مقابلة أحدًا لفعل ذلك؟

كاد أن يجيبها حتى أستوقفهما صوتًا ذكوريًا يهتف بفزعٍ من بين أنفاسه اللاهثة بسبب ركضه السريع: آديرا أنتِ هنا! لم أترك مكانًا الا وبحثت عنكِ فيه.
وانحنى أيوب يستند على ركبته ليواجه موجة سعالها من فرط مجهوده، ومن ثم انتصب قبالتهما، يوزع نظراته بينهما بصدmة قد احاطته لحظة أدراكه فردد وعينيه تجوبهما باستنكارٍ: ما الذي يحدث هنا؟!

نهضت آديرا واتجهت إليه تخبره بحماسٍ: ذلك المتوحش ليس سيئًا بالمرة أيوب، لقد كان لطيفًا للغاية.
بالطبع لم ترى تلك الأعين الملتهبة من خلفها، فكانت نصب أعين أيوب، وما زاد صدmته حينما اتجهت لعمران مجددًا تسأله بحماسٍ صدm أيوب وأصابه في مقــ,تــلٍ: فلتخبرني الآن كيف أصبح مسلمة مثلكم!
أنا ذاك المغــــرور الذي عاش حياته بطولها وعرضها، أنا نفسه الشاب الوسيم المرغوب دائمًا من الفتيات، مظهري واهتمامي بجسدي الرياضي هما من أولوياتي، لا غالي وثمين لدي مثل خزانتي التي تمتلك أثمن الثياب ذات الماركات العالمية، أنا نفسه الذي برع بالهندسة وامتلكت رئاسة مقر الشركات الإنشائية التابعة لعائلتي وكنت على قدرٍ من الثقة لأكون من أصغر رجـ.ـال الأعمال المعروفين، أنا نفسه ذاك العاصي الذي ارتكب من الذنوب ما أثقلها، أنا ابن الطبقة الأرستقراطية حيث تجد الخمور مشروبًا رئيسي للحفلات المُقامة وبالرغم من وجود الطاهر والعفيف عن المحرمـ.ـا.ت بيننا كنت أنا الفاجر والفاسق الذي ارتكب كل شيءٍ مُحرم، أنا هو الشاب الوقح الذي انتزعت منه طفولته، كنت وحيدًا، يتيمًا، ولم أجد من يمسك يدي لبداية طريقي سوى أخي، ولكنني كنت بحاجة لوجود أب لجواري، أنا ابن فريدة هانم الغرباوي أهم نساء الوسط المخملي، وبالرغم من حبي الكبير إليها الا أن قلبي مازال يحمل لها عتابًا لها، أتعلمون لم أجدها يومًا تسحب يدي وتخبرني عن ديني!

قواعدها الخاصة والدقيقة تشمل اتيكت المظاهر الخارجية، نجحت بأن تجعلني رجلًا جذابًا، ملفتًا بملابسي الأنيقة وجسدي المفتول، وفشلت بأن تعصبني عن محرمـ.ـا.تٍ طمست حياتي وأحالتها لجحيمٍ، وها أنا الآن أحاط برحمة الله عز وجل، ليجعلني أرتد عن ذلك الطريق!

لحظة! كانت لحظة فقط من جعلتني أعود من غفلتي، لحظة فارقة سلخت حياتي المظلمة، على طريقٍ جعلني قريبًا من المـ.ـو.ت لأجد منارتي التي كنت غافلًا عنها، أقسمت بأنني لن أعود لتلك المعاصي مرة أخرى وسلكت طريق طاعته وأنا على ثقة بأنه سيغفر لي ذنوبي، وها هو يشملني برحمته ويختصني لأكون سببًا لاعتناق تلك العبرنية للدين الإسلامي، على الرغم من أن الحق الكامل يعود لزوجها. أيوب بن الشيخ مهران!

لحظات من الصمت كانت ثقيلة عليهم وبالأخص آديرا التي تنتظر متلهفة سماع ما سيخبرها عُمران به، متجاهلة صدmة أيوب واتساع حدقتيه المندهشة مما يحدث.
تخلى عُمران عن صمته أخيرًا متنحنحًا بخفوت: إعتناق الإسلام لا يشترط بالذهاب لمكانٍ أو لشخصٍ معين. جملة واحدة تعد بوابة العبور ولكن عليكي أولًا أن تكوني على ثقة تامة بقرارك وعن قناعة.

سبقتها لهفتها لسماع تلك الجملة المحفزة، وقلبها يحفزها بأنها ولأول مرة تفعل الصواب: أخبرني أيها المتوحش!
منحها نظرة عبرت بها ضيقه الشـ.ـديد كالسهم النافذ، تارة تلقب أخيه بالإرهابي ونصيبه الآن بذلك اللقب الذي كان سابقًا يروق له، حسنًا عليه التخلي عن غــــروره المعتوه قليلًا وردد بخشوعٍ تام: أشهد أن لا إله الا الله.

ابتلعت ريقها الجاف مستحضرة كل حروفها المهتزة في محاولةٍ لنطق العربية: أأشهد أن لاا إله آلااا الله.
تابع يحفزها على استكمال نطقها للشهادة حتى وآن كانت لغتها العربية ضعيفة: وأشهد إن محمدًا رسول الله.
تابعت بسعادةٍ غريبة تنبعث داخلها، وكأنها تتحرر من ظلام ليلًا قـ.ـا.تل لنهارٍ سطعت فيه الشمس كالبلور: وآآشهد أن مُحمد رسول الله.

أغلق أيوب عينيه بسعادة حررت دmعة من عينيه، شعر وكأنه على وشك البكاء من رحمة الله عز وجل، كان هو الأصلح لطريق اسلامها فكان الاختيار لعُمران، الطاووس الوقح، بات مشوشًا لا يعلم ماذا بين ذاك الفتى وبين الله عز وجل ليختصه بأخر شيء لا يصدقه العقل، فمن كان سيصدق أنها ستأسلم على يد أكثر شخص بغضته وكادت تقــ,تــل رعـ.ـبًا منه.

أفاق من غفلته على يدها التي تحيط كفيه، تسأله بحماسٍ وفرحة: أيها الارهابي هل أصبحت مسلمة الآن؟
اكتفى بهز رأسه وحينما شعر بأنه على وشك البكاء بينهما انسحب للجانب الاخر من الحديقة، جلس على المقعد باهمال يبكي فرحة كالصغير.
كاد عُمران بأن يتبعه ليرى ماذا أصابه؟ فأوقفته آديرا تسأله باهتمامٍ: ماذا على فعله الآن؟

سحب نفسًا مطولًا وكأنه يستمد طاقة غادرته منذ زمن بعيدًا: لست أنا جدير لتلك الخطوة آديرا. ولكنك الآن على وشك اللقاء بمن هو الأحق بذلك.
قوست حاجبيها بدهشةٍ: من تقصد؟
وتابعت بتخمينٍ: أيوب؟
هز رأسه نافيًا وببسمةٍ صغيرة قال ومازالت عينيه موضوعة أرضًا: الشيخ مهران والد أيوب. الآن أنتِ مسلمة ينقصكِ سماع كل شيء متعلق بالدين الإسلامي، أركان الإسلام، طريقة الصلاة، الزي الشرعي، كل ذلك سيكون من أصول تعليمه لكِ.

ابتسمت بسعادةٍ، قد راق لها اختياره لمرشـ.ـدها، فإن أعجبها خصال أيوب الطيب فمن المؤكد بأن والده سيكون المعلم الأمثل، لذا رددت بامتنانٍ: شكرًا لك.
واتجهت للمغادرة فما أن انخفضت عن الدرج القصير بين منطقة المسبح والحديقة حتى قالت بمرحٍ: أيها المتوحش. لست سيئًا كما أعتقدت!
وتركته وغادرت فهز عمران رأسه هاتفًا بحنقٍ: مصرة تخرجني عن شعوري بروح أآآ، استغفر الله العظيم ده أنا لسه كنت قدوة من شوية!

وقفت سيارة الأجرة قبالة باب القصر الخارجي، فهبط آدهم يحمل حقيبته من الصندوق الخلفي للسيارة، ورفع حاملتها ليجذبها خلفه للداخل، كان بطريقه لباب المنزل الداخلي فلمح أيوب يجلس على احدى الطاولات الخارجية.
رنا إليه وهو ينزع نظاراته الشمسية قائلًا بابتسامة جذابة: صباح الخير يا بشمهندس.

رفع أيوب رأسه صوب الصوت المسموع، فما أن رأى آدهم قبالته حتى أسرع بمسح دmعاته بخزيٍ، وخز قلب آدهم بضرواةٍ، فصعد الدرجات القليلة إليه هاتفًا بقلقٍ: آيوب!
وما أن أصبح قبالته حتى ألقى لهفته بسؤاله: إنت كنت بتعيط؟!
هز رأسه نافيًا وهو يلتفت يتفحص المكان وكأنه ينطق بجريمة ارتكبها للتو، فرفض الأخر الانطواء خلف كذبه السخيف وردد باصرار: أنا مش أعمى. مالك يا آيوب؟

تعمق بالتطلع إليه وهتف بسعادة التمسها الأخير: آديرا أسلمت يا آدهم.
اتسعت ابتسامته قائلًا: ما شاء الله. وأيه المتوقع يعني بعد معاشرتها لابن الشيخ مهران؟!
نفى ظنونه رافعًا كتفيه بحيرةٍ وكأنه مازال غير مصدقًا: مش بسببي، خليني أصدmك معايا وأقولك إن اللي ورا ده الطاووس الوقح.
رفع احدى حاجبيه بصدmة فعاد يؤكد بهزات رأسه متابعًا بدقة: عُمران سالم الغرباوي!

رمش آدهم بعدm استيعاب، لا يشكك بأخلاق عمران وانتمائه للدين، ولكنه الوحيد من بين الشباب الذي كان ينفر منها بشكلٍ مخيف، كيف ومتى فعلها؟
اتسعت ابتسامة آيوب الشامتة وردد: خدت الصدmة؟ اقعد جنبي يا حضرة الظابط نحاول نصدق الجملة اللي مش مصدقها من ساعه ما شوفتها على أرض الواقع!

انصاع إليه وجلس جواره، يتطلع كلاهما للامام بشكلٍ مضحك، الصمت يتراقص بينهما الى أن قطعه آدهم قائلًا باستغراب أتاه من حيث لا يحتسب: أيوه يعني ده يخليك تعيط زي العيل الصغير بالشكل ده!
تنهد بصوتٍ مسموع واستدار يقابله بجلسته قائلًا بتردد: آدهم أنا اتربيت في حارة شعبية، والدي رباني أنا ويونس ابن عمي تريبة ميري زي ما بيقولوا، لدرجة إنه كان بيختار معايا أصدقائي.

وبـ.ـارتباكٍ أضاف: اعتقد شخصية زي عُمران كان ممكن والدي يعترض إنه يكون له وجود في حياتي، لإن عُمران مختلف عننا. بس أعتقد إنه لو شافه زي ما أنا شوفته هيتبناه!
يشعر وكأنه فقد مهاراته كظابط مخابرات محترف، يقف أمامه عاجزًا عن فهم ما يود قوله، فسأله بدهشة: تقصد أيه يا آيوب؟

رد عليه بابتسامة صغيرة: قصدي إن عُمران يبان من بره أنه شخص آرستقراطي مغــــرور. وممكن من وقاحته تفكره إنه مدورها وبيرتكب كل شيء حـ.ـر.ام، بس لما تقربله هتلاقيه شخص عظيم محصلش يا آدهم.

وتابع وهو يتطلع للأمام بشرود: أيه المبهر إن ابن الشيخ مهران بيصلي وعارف ربنا. في حين إن واحد زي عمران اتولد في مستنقع كله مليان بالمحرمـ.ـا.ت وبالرغم من إنه انغمس فيها الا إنه خرج واقف على رجليه وصالب طوله. هو اللي اختار طريقه وغيره بكل ارادة وده صعب جدًا مش سهل إنك تعيش حياة سهلة فيها المعاصي سهلة وتبعد.
واستدار يقابل نظرات آدهم مؤكدًا له: هو المبهر يا آدهم، أنا بحمد ربنا إنه رزقني بصديق زي عُمران.

انهمرت دmعة خائنة على وجهه، فأزاحها ورسم بسمة تصاحب قوله المرح: هو بس يعدل من كلامه ويعتزل أسلوب البلطجة اللي جواه ده وهيبقى برفكت!
مازحه آدهم وصوت ضحكاته الرجولية تعلو دون توقف: لو عمل كده ميبقاش الطاووس الوقح!
لا يا خفيف هيبقى ليا كتالوج وأنا(قطعة واحدة one piece).

قالها عمران الذي يتكئ على الطاولة من خلفهما، انتفض آيوب بجلسته فسقط أرضًا وتراجع للخلف وهو يحدجه بذعرٍ، بينما مازال آدهم ساكنًا محله حتى أنه لم يكلف ذاته عناء الاستدارة لمقابلته، فهتف آيوب باستتكارٍ: آدهم. انت كنت عارف إن الوقح ده واقف!
انتصب بوقفته يضع يديه بجيوب جاكيته الاسود، متمتمًا بحنقٍ: مش كل شوية هقولك اني ظابط وأشرحلك اللي اتدربت عليه. بس ممكن نقول سبته يسمعك وانت بتعبر عن مشاعرك.

وتابع بغمزة مشاكسة: لحظة صفا قبل ما سي?و يلمحك!
وتركهما واتجه للداخل، فتحرك عُمران واحتل مقعد آدهم، واضعًا قدmًا فوق الاخرى، ومال بنصفه العلوي ليستند على ذراعه هادرًا بسخطٍ: والسيد الوالد يمانع صحوبيتنا في أيه يا ابن الشيخ مهران!

ابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ، وكأنه تلميذًا سيعـ.ـا.قبه مدرسه، فتابع عمران بعنجهيةٍ: طب أيه رأيك إنك هتلاقيني في وشك، وهنشوف وقتها الشيخ مهران هيعمل أيه لما أقطع تذكرة العودة لانجلترا أما خليته يعمل مظاهرة في حارتكم مبقاش عمران سالم الغرباوي!
ترك الحديث وكأنه لا يعنيه ونهض إليه، يجلس جواره ويده تتعلق بذراعه كالطفل الصغير: بجد يا عمران هتجيلي مصر؟

ابتسم وهو يرى سعادته الكبيرة، فهز رأسه يؤكد له: لما على يسافر ويرجع علشان مينفعش أسيب والدتي والبنات لوحدهم.
عانقه بقوةٍ: هستناك تيجي عشان أعرفك على والدي وعيلتي. أنا أساسًا مش مستوعب اني هسيبك وهمشي.
ربت على ظهره بحنانٍ، وردد بسخرية: بالعكس انت هترتاح من وقاحتي وأسلوبي السليط معاك.

ابتعد عنه يواجهه قائلًا بصوتٍ جاهد ليخفي به بكائه: أنا مش بتضايق منك ولا بخاف من غـــضــــبك. أنا خــــوفي كله بيكون على زعلك يا عُمران. مبحبش أشوفك زعلان مني.
منحه ابتسامة هادئة، ومازحه وهو ينغزه برفقٍ: يالا خليك صريح وقول إنك بتخاف من عضلاتي وغشومية ايدي!

ضحك بصوته كله، وأجابه: على فكرة أنا بعرف أدافع عن نفسي كويس، لإن اللي متعرفهوش إن بعد العلقة المحترمة اللي أكلها سيف على إيد جاره المصري اللي إنت اتنشلته منها دكتور يوسف شـ.ـده من قفاه على مدرب ملاكمة وسيف حلف ما يروح لوحده شـ.ـدني معاه فاتعلمت كام حاجه تنفعني مع أمثالك!
هز رأسه ساخطًا: أمثالي أمممم.

وربت على ظهره بقوة اسقطت آيوب أرضًا عدة مرات: متخرجش المتوحش اللي جوايا بدل ما ترجع لأبوك متشلفط يا ابن الشيخ مهران!
أيها الإرهاربي!
رفعوا رؤؤسهما عاليًا تجاه شرفة الملحق الخارجي للقصر، فوجدوا آديرا تصيح وهي تشير بيدها لآيوب قائلة بصراخها الصاخب: أصعد قليلًا، أواجه مشكلة هنا!

مال عمران برقبته يمينًا ويسارًا بعصبية جعلت صوت طقطقة رقبته تجلد آيوب المرتعب، فمال عليه يهمس من بين اصطكاك أسنانه: أنا بحاول أسيطر على نفسي فوق المحتمل، فتطلع بمنتهى الهدوء اللي معنديش منه ذرة تقولها متنادلكش بالاسم ده تاني، والا هنسى معاهدة السلام اللي ما بينا وهرجع المتوحش اللي بتذم فيه تاني.

هز رأسه وهو يزحف للخلف، فتابع بغلظةٍ: متنساش تخليها تكتم بوقها وانتوا في المطار لإن لو نادتك بيه هناك هتشوف مصر في الأحلام يا سيدنا الشيخ.
وتركه وغادر وهو يتمتم بضيق: دي مش محتاجة الشيخ مهران دي محتاجة تروح الكُتاب!
تمسكت بحقيبته للمرة الرابعة كالطفلة الصغيرة التي ترفض ترك أبيها يذهب لعمله، فاستدار لها مبتسمًا: وبعدين يا فطيمة؟

ابعدت الحقيبة للخلف وكأنها تضمن عدm فراره، وقالت بعينين دامعتين: هو لازم تسافر؟ ما تبعت التذاكر للدكاترة مش لازم تسافر بنفسك يعني عشان تجبهم!
كبت ضحكاته داخله، وتنحنح ليبدو أكثر اتزانًا: مينفعش يا حبيبتي، لازم أنا اللي اختارهم بنفسي، وبعين الحكاية كلها يومين تلاته مش هتأخر يعني.
انفلتت شفتيها بصدmةٍ: يومين! هقعد من غيرك يومين يا علي!

اتسعت ابتسامته حينما وجدها تقلب شفتيها كالطفلة الصغيرة، وانفجرت بالبكاء وهو تهز رأسها نافية: لا مش هتسافر لأ...
وضمت الحقيبة الصغيرة لصدرها مسترسلة: أنا لسه تعبانه وعندي كلام كتير عايزة أحكهولك يا علي.

وأسرعت تضع الحقيبة بالخزانة وأغلقتها، ثم عادت إليه وهو يضحك بقوةٍ ادmعت عينيه و.جـ.ـعلته ينحني بوقفته، فقالت غير مبالية به: تعالى أقعد على الكرسي وأنا على الشاذلونج وأحكيلك عن حاجات كتيرة أوي. مش إنت دكتوري النفسي أنا تعبانه جدًا جدًا.
وسحبت كفه تضعه على جبينه قائلة باصرار: حتى شوف حرارتي!
انفجر ضاحكًا ورأسه يتحرك بعدm تصديق، يكتشف الآن جانب غامض من شخصية فاطمة، وللحق يستمتع كثيرًا بما يراه.

استند بذراعيه على كتفيها وقربها إليه يخبرها ببسمة جذابة: لولا السفرية دي مهمة وخصوصًا إن شمس مينفعش تسافر لوحدها كنت كنسلت أي سفارية تجيني مدى الحياة.

ظنته سيخبرها بأنه سيبقى لاجلها، فأبعدت ذراعيه عنها واتجهت للفراش تبكي بصوتٍ جعله لا يحتمل افتراقه عنها، فأسرع إليها ينحني أمامها، يديه تمسد على كفيها برقةٍ وحنان: حبيبتي والله غـ.ـصـ.ـب عني لازم أسافر المركز خلاص بقى جاهز فاضل بس الفريق اللي هيشتغل. أنا مش سهل عليا اني أبعد عنك ولو ينفع كنت أخدتك معايا. أوعدك اني هحاول أرجع بأقرب وقت.

رفعت عينيها إليه وقالت ويدها تضم كفه مثلما يفعل: خايفة من غيرك يا علي.
حاوط وجهها بحنان وعشقها يتربع سيدًا بمقلتيها: خايفة من أيه يا روح قلب علي. أنا كنت ومازلت جنبك ومعاكِ، هكلمك على طول ولو انشغلت عنك كلميني في أي وقت. فريدة هانم وإنكل أحمد معاكِ، وعُمران ومايا مش هيسبوكي في الشغل طول اليوم. وفوق كل ده زينب موجودة!
تعمقت برماديته وعلى استحياءٍ قالت: إنت عندي بالدنيا كلها يا علي!

خفق قلبه بجنون، فجذبها إليه يضمها بحبٍ يتغمده دون رحمة، بقي بجلسته الغير مريحة يتركها تتنعم بأحضانه، وما أن شعر بهدوئها ناداها، فوجدها تهمهم بنعاسٍ غلبها، فالوقت باكرًا للغاية، ضحك وهو يهمس لها: اديني شنطتي ونامي براحتك.
ما أن ذكر الحقيبة وأمر الرحيل حتى انتفضت من جلستها تسرع إليها تخفيها خلفها، فزفر باحباط: بعد المحاضرة دي ولسه بتخبي الشنطة يا فاطيما!

وجلس على الفراش يدعي الحـ.ـز.ن: اخص عليكي يا فاطمة، كنت فاكرك خايفة على المركز ومهتمه باسم جوزك حبيبك. يرضيكِ الوسط المعفن ده يشمت فيا ويقولوا إنه فشل من قبل ما يبدأ. مش كفايا فتحته كام شهر وقفلته هجي دلوقتي أقفله قبل ما أفتحه!
قضمت أظافرها بضيقٍ، وتأنيب ضميرها يصفعها دون رحمة، فاتجهت إليه تقدm له الحقيبة قائلة بحـ.ـز.ن: متزعلش خلاص سافر بس متتأخرش عليا يا علي.

ابتسم وهو يحمل عنها الحقيبة: ولا عمري أقدر أعملها يا روح قلب علي!
ارتدى ذراع الحقيبة واحتواها بين ذراعيه، ضمها إليه بحبٍ، طابعًا قبلة خاطفة على جبينها، فاشتد بكائها وهي تترجاه بتوسلٍ: خد بالك من نفسك.
هز رأسه بابتسامة واسعة، واتجه للاسفل فبقت بالاعلى حتى لا تنفجر باكية أمام الجميع.

بالملحق الخارجي للقصر.
صعد للأعلى قاصدًا غرفتها، فما أن استمع لاذنها بالدخول ولج للداخل، صعق آيوب وتوقف محله فارغ الفاه حينما رآها ترتدي فستانًا قصيرًا باللون الأزرق، ومن أعلاه تضع وشاحًا تحاول تغطية به شعرها.
استدارت إليه ببسمة متباهية: أعلم بأنك لا تصدق عينيك.
وتابعت وهي تعقد الوشاح جيدًا، فأمسكت بأطرافه الطويلة متسائلة بحيرةٍ: ماذا أفعل بها؟

اهتدت بفكرة وجدتها عبقرية، فأثنت الاطراف على شكل فراشة واستدارت تتمايل بدلال قبالته: والآن ما رأيك؟
ضم شفتيه معًا بعينين منغلقة تجاهد للاسترخاء، وكأنه يمارس اليوجا، ثم ردد بخفوت: ما الذي تحاولين صنعه يا امرأة! هل جُننتِ؟ طوال فترة لقائي بكِ كنتِ محتشمة بـ.ـارتداء البنطال الطويل بغض النظر عن الكَنْزَات العارية التي ترتديها والآن تختارين هذا الفستان العاري للسفر لمصر!

وتابع وهو يمرر يده على لحيته النابتة: ثم أنكِ اعتنقتي الاسلام منذ قليل ألــم يلفت ذلك نظرك لشيء!
هزت رأسها مؤكدة فتهللت أساريره لتحطمها على رأسه حينما قالت وهي تشيل على وشاحها الشفاف فوق رأسها: ألهذا ارتديت هذا أليس هو ما يسمى حجابًا.
شعر وكأنه سيفقد وعيه بأي لحظة، ربما على بوادر الاصابة بذبحة صدرية، فأشار لها باختناقٍ: دعكِ من الأمر، اذهبي وارتدي شيئًا محتمشًا وحينما نصل إلى مصر سأعلمك ما استطاعت.

هزت رأسها بطاعة وتركته وغادرت، فارتشف من زجاجة المياه قبالته مرددًا برجاء: أغيثني يا الله!
حمل عمران الحقائب واتجه لسيارته يضعها بالصندوق، وحينما استدار وجدها تمنحه حقيبة أخرى فصاح مندهشًا: كل الشنط ده ليه هتهاجري يا بت!
تفحصت شمس آدهم بخجل، فأجابه بسخط: هو أنت هتدفعلها وزن الطيارة ولا أيه يا عمران!
القى الحقيبة إليه ومفتاح سيارته: اخدm مراتك بنفسك بقى!

وارتدى نظارته السوداء مغلقًا سترته الزرقاء، واتجه يجلس بالسيارة بغــــرورٍ قـ.ـا.تل، فتح آدهم باب السيارة مشيرًا لها: شمس هانم.
ضحكت من قلبها، مالت تحمل طرف فستانها وانحنت مرددة: كابتن آدهم.
مال عليها يهمس: قدام بابا عمر مش آدهم.
وخـ.ـطـ.ـف يدها يطبع قبلة على باطنها مسترسلًا بمكرٍ: أبوس إيدك بلاش تخليه يطردني بره البيت بعد الغياب الطويل ده.

سحبت كفها بخجلٍ جعلها تخفض عينيها بـ.ـارتباكٍ، انخفض زجاج نافذة عمران ليلقي له نظرة مشتعلة اتبعها قوله المتعصب: من هنا وقدامنا بتتواقح أمال لما تبقى في بيتك هتعمل أيه؟! حذر من جناني يا حضرة الظابط واتفضل سوق بسرعه خلينا نلحق أم الطيارة دي!

استقرت شمس جوار عمران وصعد آدهم بمقعد السائق وهو يسيطر على ضحكاته بصعوبة، فراقب عمران من المرآة الامامية وجده يحتضن شمس بتملكٍ ومال عليها هامسًا: عجبك عمايل سي روميو؟ ماشي يا شمس هتلفي لفتك وهترجعي للبيت تاني.
وضعت يدها على صدره حينما شـ.ـدد من ضمها فقالت بألــم: مش هكررها تاني أقسم بالله.

ربت على ظهرها ببسمة واسعة: كده تعجبيني يا بت، عايزك عسكري غفر طول ما انتي هناك، أوعي تسمحيله يقعد جنبك أو يتخطى حدوده. صدقيني في نوعية من الرجـ.ـا.لة وقحة تديله قطفة هيتجرأ ويطلب سلة المانجا كلها اساليني أنا.
ضحكت وسألته: واشمعنا أسالك انت!
شاركها الضحك وهو يجيبها: عشان أنا من النوع ده.
تشاركا الضحك وكلاهما يضـ.ـر.ب كفه بالاخر، بينما بالامام يبتسم آدهم وهو يرى ابتسامتها وفرحتها الظاهرة على وجهها المشرق.

صعد على بالسيارة جوار السائق وبالخلف جلس أيوب وآديرا وتحركت السيارتين للمطار، وحينما وصلوا كان يوسف وسيف بانتظارهم.

أطال بسجوده وهو يدعو بما يـ.ـؤ.لمه، بعد تلك السنوات لم يهتز إيمانه أو يضعف مثقال ذرة، كان صامدًا كصمود الجبال، ممثلًا المعنى الحرفي لإسمه، وبالرغم من جموده وتحمله للبلاء الا أنه لم يشعر بالألــم مثلما فعلت هي به، تعرض للعنف وخاض ألــمًا جسديًا عنيفًا، ولكن ضـ.ـر.بتها هي القاضية.

حبيبته، رفيقة طفولته، مسكن روحه، دوائه الشافي كانت الخنجر الذي طال صدره ليصيب قلبه فابادته، قلبه الشيء الوحيد الذي احتفظ به نقيًا، عفيفًا، عن تشويهات جسده الذي طاله السوط والعصا!
زحف يونس بجلسته حتى وصل لطاقة ضوء صغيرة تتسلل من فوق شرفة مظلمة حديدية، ضي النور البسيط التي تمنحه لغدافية الغرفة القـ.ـا.تلة.

استند على الحائط وأغلق فيروزته بتعبٍ، ليتجلى له رؤيتها، فستانها الاسلامي الفضفاض، خمارها المتلألأ من خلفها كوشاح الأميرات المتدلي، حياء مشيتها التي يميزها من بين نساء العالم بأكمله، ها هي تدخل لمحله الجديد، تردد على استحياء: السلام عليكم.

أجابها بعض العمال السلام، فتابعت مشيتها للداخل حتى وصلت قبالة مكتبه الصغير الذي يتوسط المحل، فانتصب بوقفته يستقبلها ببسمة هادئة: أيه الزيارة الجميلة دي يا زينة البنات، مش ت عـ.ـر.فيني إنك جايلي وأنا بنفسي كنت جيت أخدتك لحد هنا.
فركت أصابعها وهي تجيبه بخجل: حبيت أعملهالك مفاجآة.

اتسعت ابتسامته حتى ظهرت غمازة خده الأيسر، فاستشاطت غـــضــــبًا واستدارت تتمعن بأعين الزبائن مشيرة له بالكيس البلاستيكي الذي تحمله: متضحكش، أنا مش محذرك!
ضحك رغمًا عنه وهو يهمس لها: المفروض إن أنا اللي أغير عليكي يا خديجة مش العكس.
تمردت غيرتها بشكل شرس: ازاي يعني! وبعدين متتفزلكش عليا.

نطقت كلمة تجعله يضحك دون مجهود منها فماذا يفعل الآن، حاول الصمود وهو يسألها بقلة حيلة: طيب أعمل أيه عشان أنول رضا زينة البنات؟
ابتسمت وهي تخبره بدلال: انت كده كده نولت الرضا من زمان. بدليل إني جاية وجايبلك هدية من صنع ايديا.
وزع نظراته المتحمسة بينها وبين الكيس البلاستيكي: هدية أيه؟

فتحت الكيس وأخرجت منها تيشرت صنعته من الصوف، وقد طرزت عليه أول حرف من إسمه وإسمها بشكلٍ متقن، حمل يونس التيشرت بين يديه يتطلع إليه بانبهارٍ: ما شاء الله عليكِ يا خديجة.
سألته بتحفزٍ وعينيها تراقب كل تفاصيله: عجبك؟
منحها نظرة عاشقة وأشار لها: خليكي هنا راجعالك.
غاب دقائق بالداخل وعاد بعدmا ارتداه، فادmعت عينيها بفرحةٍ، جلس على مقعد مكتبه الصغير وغمز لها بمشاغبة: حلو عليا؟

أشارت له عدة مرات وأردفت بضيق وهي تمسح دmعتها: أووف بقى يعني أنا بحاول أخبي غمازاتك تطلع بالتيشرت اللي يجنن عليك ده قولي أعمل فيك أيه يا معلم يونس؟
ضحك وهو يقلد نبرتها: معلم يونس! أيه يا ديجا واقف في وكالة البلح أنا!
نهضت عن المقعد تخبره: أنا هطلع بقى أحضر الغدا عشان ماما مش فوق.
سألها باستغراب: أمال فين؟
أجابته وهي تعلق حقيبتها على كتفها: عند خالتي وهتيجي بليل.

لحق بها لخارج المحل قائلًا بحبٍ: مترهقيش نفسك في شغل البيت، ولو هتنضفي البسي كمامة عشان التراب بيقلب الحساسية عندك.
استدارت له ببسمة حملت كل حبٍ دفن داخلها لهذا الزوج الحنون وقالت: حاضر، أنا حفظت تعليمـ.ـا.تك وبنفذها عشان أنا بخاف الأزمة تجيني مش بتحمل أشوف خــــوفك وحـ.ـز.نك عليا. لكن أنا والله اتعودت.
مد يده على خمارها وهو يمررها بحنان: لا يا خديجة عشان نفسك ولإن صحتك لازم تهمك إنتِ أولًا...

وتابع ومازالت ابتسامته مرسومة بعشقٍ: يلا اطلعي ولو احتاجتي أي حاجة كلميني أبعتلك حد من الصيبان يجبلك اللي تعوزيه.
هزت رأسها بطاعه وقالت قبل مغادرتها: لما أخلص الغدا هنزلك طبق.
ضحك وهو يشاكسها: أطباقكم كلها عندي في المطبخ تحت كل يوم بغسل طبقين وبكمل تاني يوم، لو خالتي عرفت هتقولي تعالى خد مراتك من غير فرح أنا متنازلة.

اقتربت منه مجددًا تتمعن بعينيه وهي تخبره بصدق: راضية والله، من غير فرح ومن غير أي حاجة، كفايا وجودك جنبي يا يونس.
ابتلع ريقه بـ.ـارتباك يهزم حصونه واحدًا تلو الأخر، فأشار لها: اطلعي يلا ميصحش تقفي في الشارع كده. وخدي بالك أنا مازلت مصر على موضوع النقاب ها؟
هزت رأسها تخبره: أساسًا وأنا بجهز عاملة حسابي وجايبة لبسي كله للنقاب.

استدار من حوله يتفحص المارة، وانحنى يقبل يدها سريعًا هاتفًا بصوته الرخيم: روح قلبي اللي بيراضي حبيبه! ربنا يقدرني وأكونلك الزوج الصالح اللي يأخد يدك للجنه.
ورفع رأسه للأعلى يردد بطريقة درامية: يا ررب مش عايز غيرها يا رب، عايزها في دنيتي وفي الأخرة تكونلي زوجة، بحبها ومش شايف غيرها يا رب.
تابعت الاعين من حولها بحرجٍ، فصاحت وهي تلكزه بغـــضــــب: بس بس فضحتنا في الحارة يا يونس!

تعالت ضحكاته وهمس لها: يونس محبش ولا هيحب زيك يا خديجة، بحبك وبالرغم من انك مراتي الا إني بطلبك من ربنا في كل صلاة ليا، بدعيله يقرب بينا وميفرقناش أبدًا!
أفاق من شروده ببسمة ساخرة ختم بها الو.جـ.ـع وبصم بكل ما امتلكه من ميثاق، فردد بصوتٍ محتقن بدmـ.ـو.عه: لو مكتوبلي أخرج للدنيا هتكون أخرتك يا خديجة، وربي لأرميكِ بنار حبي اللي كانت في يوم جنتك!

النداء الاخير للطائرة ومازال سيف يحتضن آيوب، ويشتد بالبكاء حتى أدmعت أعين من حوله، فربت آيوب على ظهره بحنان وهو يخبره: سيف كفايا إنت واقف على رجلك بقالك فترة هتتعب عشان خاطري ارجع مع دكتور يوسف، إنت لسه تعبان.
ابتعد يمنحه نظرة معاتبه وحديث اصابه في مقــ,تــلٍ: مش عايزني أجي أودعك يا آيوب ولا كنت عايز تسافر من غير ما تشوفني.
واستكمل بو.جـ.ـعٍ: أنا مش عارف هفضل الشهرين دول ازاي من غيرك.

ضمه آيوب وقد انهارت دmعاته، فهمس له: العشرة مبتهونش واحنا عشرة سنين. هكلمك على طول يا سيف والله ما هتحس اني بعيد عنك وفي يوم هتنام وتصحى تلاقيني قدامك. أنا أساسًا مش هقدر أقعد الشهرين في مصر أخري 20يوم يالا.
اعترض بضيق: كتار بردو، خليهم اسبوعين وتعالى.
هز رأسه له وكاد بالحديث فاستوقفه حديث عمران الساخر وهو يرمقهما بسخط من خلف نظارته: لو خلصتم وصلة وداع الزوج ومـ.ـر.اته النكدية فالطيارة قربت تفوتك.

التفتوا للخلف فتفاجئوا بالجميع يرمقونهم بدهشة وبالاخص شمس وآديرا، سحب آيوب حقيبته واتجه للداخل فلحق به سيف وردد: خلي بالك من نفسك يا أيوب، لا إله الا الله.
انهمرت دmـ.ـو.عه فكلمته زرعت النيران داخله، وجد ذاته يعود ليضمه مجددًا وهو يخبره: وانت كمان خلي بالك من اللي اسمه يمان ده، حذر منه وعشان خاطري اتفادى اذاه على قد ما تقدر.
هز رأسه له، فردد آدهم: هنتأخر كده يا آيوب يلا.

فرقهما يوسف وهو يصيح بمرحٍ: ما خلاص يا عم منك ليه، ده أنا لو مسافر مش هتعمل عليا كده!
ضحك آدهم وردد بمزح: على رأي عمران وصلة عشق ممنوع.
ردد على وهو يتابعهما بابتسامة هادئة: ما تسيبوهم في حالهم. والله بحسهم كتاكيت جنبكم!

تحررت ضحكات عمران بانتصار لاختيار اخيه لفظًا جديرًا فصاح لهما: يلا يا كتكوت منك له، انت على طيارتك وانت استرجل واقف في جنب بدل ما أحرمك من زوزو ما احنا بناتنا ما تتجوزش الا الرجـ.ـا.لة ولا أيه يا دكتور علي؟
هز رأسه بابتسامة صغيرة، فاتجه إليه يلف يده من حوله هامسًا وعينيه تتفحص الوجوه: بقولك يا علوة.
علوة!، قول وخلصني.

كبت عمران ضحكاته وقال: الواد سيف قافش في آيوب ومتقصر أوي انه مسافر مع انه صاحبه وبما إنك أخويا تعالى نعمل أي منكش كده يدل على عـ.ـذ.اب الفراق بينا! أقولك أنا همدد هنا وكأني فاقد الوعي!
اردف باستهزاءٍ: فراق أيه يا عمران ده هما تلات أيام وراجع! ثم اني عايش حياتي على الطيارة كل يومين في حتة شكل، مهدتش غير بعد الجواز.
مهو ده اللي حببني في جوازتك وخلاني احترم فاطيما احترام مبحترمهوش لشمس اختك نفسها!

وتابع حينما نطق اسمها: على سيرة أختك خد بالك منها، حطها في عنيك يا علي. أنا مش عارف فريدة هانم وفقت ازاي انها تسافرها. حاسس اني مش هقدر أقعد من غيرها!
فشل بكبت ضحكاته، فضحك بصوت لفت انتباه الشباب اليه، كمم عمران فمه وهو يصيح بانفعال: هتفضحنا عايزهم يقولوا أيه؟ منشكح انه هيسيب أخوه ويسافر لا يا على لأ!

سحب كفه عن فمه واحتضنه بجدية تامة: خد بالك من فاطمة يا عُمران، انت عارف ان ليها ظروف خاصة أرجوك خلي عينك عليها.
ربت على ظهره بحنان: متقلقش يا على فاطمة أختي وملزومة مني، سافر وانت مطمن، كل اللي في البيت في رقبتي ومسؤولين مني في غيابك.
ابتعد عنه بابتسامة هادئة وفجأه حينما قبل جبينه هاتفًا بحنان: عارف انك أد المسؤولية يا حبيب قلب أخوك، يلا سلام مؤقت يا وقح!

ضحك وهو يغمز له بمشاكسة: سيبه ملموم جوه بدل ما يطلعلك بواحدة بروح أمك في وسط المطار يقل قيمتك في وسط المجتمع المخملي!

شاركه الضحك وابتعد وهو يلوح له ومن جواره شمس الباكية التي تفترق عنه لاول مرة، وانتقل بيده لايوب يلوح له بحـ.ـز.ن احتل معالم وجه الطاووس الوقح الذي فشل بالنهاية بالتحلي بالجمود، فاتجه مع يوسف وسيف للشقة بينما غادرت الطائرة لمصيرٍ محتوم سيجدد أحداث تشبه القنبلة المؤقتة، ومن هنا لنا لقاء قريب...
‏(اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلةَ حيلتي وهواني على الناسِ، يا أرحمُ الراحمين إلى من تكلني، إن لم تكن ساخطًا عليَّ فلا أبالي، غيرَ أن عافيتَك أوسعُ لي، أعوذُ بنورِ وجهِك الكريمِ الذي أضاءت له السماواتُ والأرضُ وأشرقت له الظلمـ.ـا.تُ وصَلَحَ عليه أمرُ الدنيا والآخرةِ، أن تُحِلَّ عليَّ غـــضــــبَك أو تُنزِلَ عليَّ سخطَك، ولك العُتْبى حتى ترضى، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بك ?).

تثاقلت رأسها بشكلٍ جعلها لم تحتمل الاستقامة بمقعد الطائرة، فمالت على ذراع آيوب الذي يتمعن بنافذة الطائرة، يروي حنينه لبلده وأهله، انتفض جسده بقشعريرة مسته جعلته مرتبكًا للغاية، لا يعلم أمازال ينفر منها أم أن عقله يحاول استيعاب بأنها زوجته وقبل أي شيء فهي سدن المسلمة ويإرادتها الآن باتت تعترف بما هي تنتمي إليه.

انسدل خصلات شعرها الأصفر على وجهها بأكمله، فاقترب بأصابعه يبعده عن وجهها حتى لا يزعجها، وعينيه تتشرب من ملامحها دون ارادة منه، وحينما وعى لما يفعله تنهد بضيقٍ وهو يهمس: وأخرة اللي إنت فيه ده أيه يابن الشيخ مهران!

أعاد رأسه لظهر المقعد، فأغلق عينيه بقوةٍ يحاول ترتيب أفكاره الثائرة حول تلك المواجهة المفاجئة بينه وبين أبيه، يحاول إيجاد حلًا عقلاني يخرجه من ذلك المأزق بأقل خسارة ممكنة فلم يجد الا تلك الفكرة التي روادته بتلك اللحظة، فسحب هاتفه واختار احدى المحادثات المدونة بإسم إيثان!

ترك الطبق عن يده بضيقٍ من تصرفات أخيه الطفولية، هادرًا بنفاذ صبر: وبعدين معاك بقى يا سيف! مش معقول ده أنا لو بتعامل مع طفل صغير مش هيغلبني بالشكل ده!
أجابه من يوليه ظهره، يحتضن وسادته دافنًا رأسه بها: قولتلك مش جعان يا يوسف. سبني من فضلك.
جلس جواره يخبره بنبرته الهادئة: طيب وأوديتك؟

ردد باختناقٍ تجلى بنبرته المحتقنة: هأخدها كمان شوية، أنا كويس يا يوسف روح إنت المركز متنساش إن دكتور على سابه تحت اشرافك لحد ما يرجع.
تمعن به وباستغرابٍ قال: طيب ومديني ضهرك ليه؟
بتحفظٍ قال: عايز أنام مش أكتر.
يظن كذبته تلك ستمر على من قام بتريبته، ذاك المعتوه يظن بأنه سيتمكن من خداع أبيه، جذب يوسف كتفه وهو يصر على أن يواجهه: بصلي وقولي مالك؟

تفاجئ ببقايا دmـ.ـو.عه العالقة بأهدابه الكثيفة، فانقبض قلب أخيه وهدر بذهول: إنت تعبان؟!
ورفع يديه يفتش بالشاش الملتف حول رأسه وذراعه بعنايةٍ، هاتفًا بلهفةٍ: فيك أيه؟!
وتابع بشكٍ: من ساعة ما عمران مشي من عندنا وانت حابس نفسك ولا راضي تأكل ولا تشرب في أيه يا سيف اتكلم!

انسدلت دmعة من عينيه التي تتهرب من لقاء أعينه، وصمته يضع يوسف بحالةٍ لا يحسد عليها، حتى قال بخفوتٍ: أنا عايز أنزل مصر مع عمران يا يوسف. أنا مش عايز أستقر هنا.
جحظت عينيه في صدmة، فمرر يده يمسح وجهه بتـ.ـو.ترٍ: عايز تبعد عني يا سيف؟

أزاح الغطاء الأبيض عنه واعتدل بجلسته قبالة أخيه: دي مش بلدنا يا يوسف ولا عمرها هتكون، لو كان على الشهادة فأنا خلاص امتحاناتي قربت تخلص وهكون اتخرجت بشكل رسمي فمش محتاج أقعد واشتغل هنا.
ابتسامة ساخرة تشكلت على جانبي شفتيه: مكنتش دي احلامك ولا طموحاتك قبل ما أبعتلك تذكرة السفر للندن!

ارتبك أمامه فنهض ينزع عنه قميصه الأسود، متجهًا لخزانته يجذب منها منامة منزلية مريحة، ورد دون أن يتطلع للفراش القابع به أخيه: عادي يا يوسف. أنا حابب أجرب حظي هناك.
اتسعت ابتسامته ونهض يقترب منه، فمال على باب خزانته يستند بذراعٍ ويده الاخرى تندث بجيب سروال بذلته السوداء، مرددًا ببطءٍ متألــم: عشان أيوب صح؟

ابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ ومازال يحمل التيشرت بيديه، فاستطرد يوسف: لإنه مقرر يستقر في مصر بعد امتحاناته عشان كده عايز تتخلى عن أخوك وتفترق عنه.
وخز قلبه عنفًا، فسقط عنه ما يحمله واتجه بخطواتٍ بطيئة لاخيه يحاول تبرير موقفه: لا يا يوسف أنا آآ.

رفع كفه يوقفه عن الحديث قائلًا: مش زعلان ولا هزعل اطمن، اللي أنت عايزه هعملهولك لإن راحتك تهمني وفي المقام الأول. ده صاحبك الوحيد ومن حقك تكون معاه زي ما من حقك تخطط لمستقبلك وحياتك.
أغلق يوسف جاكيته الأسود واتجه ليغادر في محاولة للفرار من أمامه قائلًا بابتسامة اصطنعها بالكد: أنا اتاخرت ولازم أمشي متنساش تأكل وتأخد أدويتك عشان الجـ.ـر.ح، وأنا هبقى أكلمك كل ساعتين أطمن عليك.

وتركه وغادر، فاتجه سيف ليجلس على طرف الفراش يعتلي ملامحه الضيق الذي تسلل إليه فور رؤية الحـ.ـز.ن المسيطر على وجه أخيه. مهلًا أخيه! هل سيُبدي الصداقة عن أخيه الوحيد الذي فعل كل ذلك لأجله!
هز رأسه بفتورٍ وانزعاج من فعلته، فأسرع بخطواتٍ سريعة للمصعد، قاصدًا الچراچ الخاص بالمبنى متناسيًا كونه عاري الصدر.
اختلج قلبه بين أضلعه حينما وجد أخيه يتكئ بمقعده على الدريكسون ويبدو بأنه ليس على ما يرام.

طرق على نافذة السيارة مناديًا بهلعٍ: يوسف!
رفع جسده للخلف وهو يتأمل من يقف أمامه بدهشةٍ، هبط من سيارته يندفع بتـ.ـو.تره وأسئلته: في أيه؟ أيه اللي نزلك بالشكل ده؟ طيب حاسس بأي تعب؟! مرنتش عليا وأنا طلعتلك ليه؟!

عينيه الحمراء فضحت سر مغادرته السريعة من أمامه، فانهمرت دmـ.ـو.ع سيف وضمه إليه، قائلًا ببكاءٍ طفل جـ.ـر.ح أبيه دون قصدًا: أنا آسف يا يوسف. أنا بس اتعودت إن آيوب بيشاركني في كل حاجة، مش قادر أتخيل ان دي حالتي لانه مسافر كام يوم أمال لما ينزل بشكل نهائي بعد امتحاناته هعمل أيه؟

ربت يوسف عليه بحنانٍ، فتابع الاخير بحـ.ـز.نٍ قـ.ـا.تل: لو هو صاحبي فأنت أبويا وأخويا وصاحبي وكل حاجة في حياتي، أنا مش هسافر ولا هسيبك أنا هكون معاك هنا متزعلش مني بالله عليك.
وابتعد عنه يجذب رأسه ليحنيه قليلًا لفرق الطول بينهما، طابعًا قبلة احترام على أعلى رأسه: حقك عليا. أنا دبش والله.
تخلى عن جموده وقال بصوتٍ حزين يستمع إليه سيف لأول مرة: عايزني أحس بالغربة هنا من غيرك يا سيف!

هز رأسه بعنف ينفي ما يقول وكأنه ليس هو نفس الشخص الذي أخبره بأنه سيغارد، فردد: لأ، لأ. مش همشي وأسيبك لوحدك يا يوسف أنا هكون معاك لإني عايز أكون أول واحد يشيل ابنك على ايدي، أنا مش همشي.
قال يوسف ببسمةٍ زرعها بالكد: أنا مش هجبرك على حاجة. شوف اللي هيريحك وأنا هكون معاك فيه.

وضم وجهه بين يديه: يالا إنت ابني اللي مخلفتوش، ولو ربنا كرمني بنص دستة عيال عمر ما واحد فيهم هيأخد مكانتك عندي. انت ابني الكبير يا حمار!
اتسعت ابتسامته وقبل أن يجيبه قطعه همسات أصوات من خلفهما، فاستدار سيف ليتأمل ما يحدث بينما أصبحت الرؤيا واضحة ليوسف بعد أن أفسح أخيه المجال عنه، فوجد ثلاث فتيات يتأملن سيف بأعجابٍ جعله يتعجب من أمرهن، فتطلع لما يتطلعوا إليه فتفاجئ بأنه لا يرتدي تيشرته الخاص.

ضم سيف يديه لصدره بحركة درامية: يا مصيبتشي اتفضحت وسط الخواجات!
خلع يوسف جاكيت بذلته وألقاه إليه بغـــضــــبٍ: استر نفسك يا زفت. أقسم بالله لأوريك أيام سودة، نازل تستعرضلي نفسك! طيب ما كان من الأول يا حبيبي على الأقل كنت توقعلك عروسة لكن دلوقتي ميصحش إنت على وشك الارتباط بدكتورة زينب وأنا مقبلش بالكلام المايع ده سامع!

ما أن تلفظ بإسمها حتى تعلق به سيف بفرحة، وكأنه تناسى أمرها: آه زينب يا يوسف جوزهاني. أنا عايز أتجوز جوزهاني يا يوسف. اتصل بعمران وقوله يجوزهاني. أنا عايز أتجوز يا يوسف والله غرضي شريف ومحترم.
برق بصدmة مما يستمع إليه، فدفعه للخلف حتى يتمكن بالوقوف بشكلٍ مستقيم: هي الضـ.ـر.بة قصرت عليك ولا أيه يا دكتور سي?و! اطلع يا حبيبي كل وخد علاجك واقعد استناني لما أخلص شغلي وارجعلك.

وأضاف وهو يقرص وجنته بسخرية: أوعى تتشاقى عشان أجبلك حلويات وأنا راجع!
نزع يده بغـــضــــب: عيل صغير أنا! بقولك عايز أتجوز جوزهاني!
وتابع وهو يشير بأصبعه الذي كاد باختراق عين يوسف: مالك في أيه؟ مش كنت هتمـ.ـو.ت وتجوزني أديني أهو بقولك جوزني!
ضيق عينيه بمكرٍ، فانحنى لسيارته يفتح بابها، ومن ثم مال للخلف في محاولةٍ لجذب حقيبته الجلدية المربعة.
انحنى خلفه سيف متسائلًا باهتمامٍ: بتعمل أيه يا يوسف؟

قال ومازال منحني: أبدًا أصلي افتكرت معاد الحقنة المسكنة بتاعتك. معرفش نسيتها ازاي!
ما أن انتصب بوقفته حتى وجده يركض للمصعد كالذي يفر من مصاص دmاء يركض ليمتص دmائه الشهية.
ترك يوسف الحقيبة بالخلف وانتصب يطرق كفًا بالاخر هامسًا بصدmة: لا حول ولا قوة الا بالله الولد اتجنن!

وهز رأسه بقلة حيلة، فأخرج القميص من سرواله ونسقه دون الحاجة لجاكيته الذي منحه لأخيه، وصعد سيارته مغادرًا للمركز الذي سيضم عمله الجديد برفقة دكتور علي الغرباوي
هبط من سيارته تاركًا بابها للحارس الذي أسرع بالصعود محله ليصفها، بينما اتجه بخطاه الشامخة للداخل، جابت رماديته مجالس الضيوف السفلية، فوجد الجميع بالأسفل، وما لفت انتباهه زوجته تضم جوار زوجة أخيه الباكية.

نزع عنه نظارته القاتمة واتجه يحيط حافة مقعدها بابتسامته المرحة: مساء النكد.
ومال ليتمكن من رؤية فاطمة التي تحاول مسح دmـ.ـو.عها بحرجٍ، قائلًا بمرحٍ: أيه يا فاطيما ده الراجـ.ـل لسه طالع على باب الطيارة! والحكاية كلها تلات أربع أيام مش مستاهلة كل ده!
أخفض أحمد ساقيه عن الأخرى، ليتمكن من وضع قهوته على الطاولة الفخمة من أمامه، مردفًا بسخطٍ: مالك بيها يا وقح! البـ.ـنت بتحب جوزها وزعلانه على سفره.

وتابع وهو يتطلع جواره لفاتنه فؤاده، متعمدًا أن يخصها بحديث مقلتيه الجذابة: في قلوب صعب تتفارق حتى لو ليوم واحد إسالني أنا.
ردد بصوتٍ خافت سمعته الفتيات فقط: بدأنا وصلة العشق الممنوع بدري أوي!
كبتت زينب ضحكاتها بشكلٍ استدعى شكوك أحمد بأكملها، فتساءل بضيقٍ: كان بيقول أيه الولد ده يا زينب؟

أسبل إليها ببراءة ماكرة: ما تقوليه يا دكتورة زينب. قوليله أد أيه هو راجـ.ـل قاسي وعديم القلب إنه يظلم إنسان بريء وطاهر زيي. إحكيله أنا كنت بمجد فيه وفي حبه لفريدة هانم الغرباوي ازاي! اتكلمي ودافعي عن إنسان راقي خُلق ليُدرس أو يتشرح عادي جدًا!

انحنت مايا لتستند بجبينها على يدها ورأسها يهتز بقلة حيلة، سحب أحمد رشفة من كوبه وتركه يستكمل جلسته الدفاعية الزائفة ببرودٍ وكأنه لا يهتز لحرفٍ يقال، فمال على فريدة يهمس لها: أيه رأيك نتمشى بره شوية؟
وجدها جـ.ـا.مدة الملامح تتطلع أمامها بثباتٍ، فلم تستمع لحرفٍ واحدًا له، ناداها بقلقٍ ويده تهزها برفقٍ: فريدة!
أفاقت من شرودها على هزته الرقيقة فرددت بتـ.ـو.ترٍ: بتقول حاجة يا أحمد؟

يجوب برأسها ضوضاء صاخبة كازدحام اشارات المرور وقت الظهيرة، تجلس بجسدها أمامهم ظاهريًا، ولكنها غائبة الوعي والادراك، تقاوم كل أفكارًا سيئة تهاجمها، بعد التعاسة التي أحاطتها فور اجراء ذلك الاختبـ.ـار، فتتمنى من صمام قلبها أن يكون مخطئ لذا عليها الذهاب للمشفى لاجراء تحليل تفصل به غوغائها.
أفاقت على هزة يد زوجها، فأبعدت خصلاتها القصيرة عن زرقة عينيها متسائلة: في حاجة يا أحمد!

تلك المرآة غامضة كالبلور المتعرج، كلما ظن بأنه تماسك جيدًا تنفلت قدmيه عنها، ما بالها صامتة، شاردة منذ حفل قران ابـ.ـنتها، كان يعتقد بأنها حزينة لأبتعاد ابـ.ـنتها الوحيدة عنها ولكن على ما يبدو بأنها تخفي أمرًا عنه.
أجلى أحباله الصوتية متسائلًا باستغرابٍ: في أيه يا فريدة؟
مشطت شعرها بأصابعها برقةٍ: سرحت شوية يا حبيبي. ها كنت بتقول أيه؟

حل الحـ.ـز.ن معالمه، فهو يعلم بأنها تخفي عنه أمرها، هي غامضة بشكلٍ يستدعي قلقه لطيلة صمتها، هو الوحيد الذي يعلم ما خلف هدوئها، تنهد بنزقٍ وبدون رغبة بخوض نقاش وهمي قال: مكنتش بقول حاجة. أنا بس قلقت من سكاتك.
قاطع عمران الاحاديث حينما قال لفاطمة: بقالي ساعة بحاول أضحكك وانتي قافلة احساسك الفكاهي بقفل كمبيوتر!

وتابع بغمزته المشاكسة: مكنتش أعرف إنك متعلقة بيه للدرجادي يا فاطيما، شكلي كده والعلم لله هغير من علاقتكم الفريدة من نوعها دي.
رسمت ابتسامة صغيرة تخفي بها حـ.ـز.نها الشـ.ـديد، فلف عمران يده حول رقبة زوجته هامسًا لها بصوتٍ مسموع: أول ما على ينزل من السفر هسافر على طول. عارفة لو مجاليش رسايل يترجوني فيها أرجع عشان حالتك النفسية اتدهورت هرفع عليكي قضية خلع يا بيبي!

منحته بسمة مستفزة وقالت: جوزي حبيبي إعملها وسافر وهتكون خدmتني، لإني فحتاجة هدنة من وقاحتك!
ودفعته بقوة وهي تمتم من بين اصطكاك أسنانها: شيل ايدك عني وإبعد احنا مش قاعدين لوحدينا. إنت بتتفنن ازاي تكسفني قدامهم!

اعتدل بجلسته راسمًا ابتسامة واسعة يستقبل بها نظراتهم المندهشة لما يحدث بينهما، ومال عليها يهمس بمكرٍ: طلعلك مخالب وبقيتي بتخربشي يا بيبي! الله يرحم لما كنتي بتجري تتداري ورايا من نعمان الملزق!
رفعت حدقتيها إليه تبتسم له فبادلها الابتسامة بعشقٍ هدmت لذاته حينما قالت: أنا أشك إنك ورثت عنه بعض الجينات!
صعق من سماع ما قالت، وأشار لنفسه باستنكارٍ: أنا ملزق يا مايا؟

هزت رأسها عدة مرات مؤكدة له باستهداف نظرة تستشهد على التصاقه بها، فهمس بنبرة جعلها مغرية بخبرةٍ اكتسبها: بيقولوا عليا إني تقيل وصعب حد يوقعني فخليني أديكي درس من دروس الطاووس الوقح، أوعدك بعده هتتمني قربي أو نظرة واحدة مني!
منحته نظرة من امرأة واثقة، متعمدة الاعتدال بجلستها واضعة قدmًا فوق الاخرى بتعالٍ: وريني يا سيادة الطاووس!

ضحك بملئ ما فيه وردد باعجابٍ صريح: أووه. حبيب قلب جوزه بقى واثق من نفسه لدرجة هزمت عُمران سالم الغرباوي بذات نفسه!
كادت أن تمنحه ضـ.ـر.بة تستهدف جبهة حديثه ولكن قاطعهما صوت أحمد الساخط: لو هتقضوها همسات ولمسات جانبية يُفضل تأخدها وتطلع فوق. راعي إننا معانا سنجل وواحدة بتبكي على فراق جوزها وموجود كمان فريدة هانم فنحترم نفسنا ولا أيه يا بشمهندس؟

ضم شفتيه معًا بنزقٍ متحاذق: واضح إننا هنبتدي نغير ونغني ونلحن على بعض وده سكته مقفولة معايا يا آآ، آنكل!
ألقت فريدة مجلة الأزياء العالمية هاتفة بحنقٍ: وبعدين يا عمران!
واتجهت لتغادر مرددة بضيقٍ: انا هطلع أغير هدومي وأخرج. حاسة إني مخـ.ـنـ.ـوقة ومحتاجة أشم شوية هوا نقي.
استقام عمران بوقفته وأردف بعد تفكير: طيب أيه رأي حضرتك لو خرجنا كلنا لل beach؟

جذب أحمد جاكيته المنحدر على جانبي الأريكة الجلدية، ليتبع مكان وقفتهما القريب من الدرج: فكرة كويسة يا عمران على الأقل فاطيما وزينب يغيروا جو.
منحه ابتسامة عـ.ـذ.باء واستدار للفتيات مشيرًا لهن: يلا بسرعة غيروا هدومكم وهستناكم بالحديقة.

خطت الأقدام أرض مصر بعد ساعات طويلة من السفر الشاق، فاجتمعوا أمام البوابة الخارجية حيث تمكن آدهم من الانتهاء من مخالصة أوراق سيارته ليستلمها من صناديق الطائرة، فتحرك بها ليقابل مكان وقوفهم، فصعد آيوب جواره وبالخلف على ولجواره شمس ومن جانبها آديرا التي تستكشف مصر لمرتها الأولى، وأكثر ما يلفت انتباهها الطقس الدافئ الذي استقبلها بدفءٍ وراحة غريبة بدأت تنبعث داخلها.

وكأنها تشعر باقترابها من تحقيقٍ ارادة لشيء لا تعلمه، كل ما يتغمدها هي الراحة والــســكــيــنــة، ارتياح يدغدغ مشاعرها التي خُلقت من العدm.
أصر آدهم أن يصل آيوب وزوجته أولًا ليرى محل اقامته، وبعد طريقًا طويلًا وصل لزقاق الحارة الشعبية، فأشار آيوب له على منزله وطالبه بحرجٍ: ده بيتي يا آدهم بس أنا هنزل قدام شوية عند العماره اللي على رأس الشارع دي، معلش تعبتك معايا.

اتبع الوجهة المنشودة مرددًا: عيب الكلام ده يا آيوب. قولتلك ألف مرة احنا اخوات.
ابتسم والحـ.ـز.ن لفراقه يلمع بعينيه، فكأنما قرأ ما تنطق به مقلتيه فقال: أنا متعمد أوصلك لبيتك عشان أعرف عنوانك. متنساش أني وعدتك بهدية ولازم هوصلهالك بنفسي بس أوصل زوجتي والدكتور وأستقبلهم بنفسي وبعدين افضالك.

انطلقت ضحكة على لتشاركهما حديثهما المتبادل، هاتفًا بخبث: ويا ترى بقى من حق دكتور على إنه يعرف أيه المفاجأة المنتظرة ولا ممنوع يا سيادة الرائد.
طالعه آدهم بالمرآة الأمامية وباحترامٍ كبيرًا قال: مفيش بينا أسرار يا دكتور.
وانجرف بنظراته لتلك الفتنة القـ.ـا.تلة التي تختلس النظرات إليه بحبٍ مغري، متابعًا بهيامٍ: يعني إنت استئمنتني على أغلى جوهرة عندك مش هستئمنك على أسراري!

ابتسمت وهي تخفض عينيها بخجلٍ، فابتسم على قائلًا بمرحٍ: أممم. هنبتديها بقى رومانسيات من دلوقتي. ما صدقت فارقت عُمران فعيارك على وشك إنه يفلت خد بالك!
ضحك الجميع على جملته، فتوقفت السيارة أمام تلك العمارة حديثة البناء، فهبط آيوب أولًا ليلتقف من ينتظره بين أضلعه، والأخر يشـ.ـدد من احتضانه وقد فقد سيطرته على دmعاته التي انهمرت تباعًا.

راقب على وآدهم ما يحدث بدهشةٍ، ها هو آيوب يحطم توقعاتهم عن شخصه للمرة التي لن يعلموا بعددها، يعانق شابًا غريبًا يحمل حول رقبته سلسال على شكل الصليب، ليؤكد لهما شكوكهما حينما لفظ بشوقٍ: وحـ.ـشـ.ـتني أوي يا إيثان.

ابتعد ذاك الشاب الوسيم عنه، واستدار يزيح دmـ.ـو.عه مداعيًا ضيقه الشـ.ـديد منه وقد منحه سببًا مبررًا: لو كنت وحشتك زي ما بتقول كنت بعتلي تذكرة للندن أجي ازورك وأقعد أسليك ولا خلاص دكتور سيف بقى هو صاحبك وحبيبك.
وتابع مستنكرًا وهو يلتفت ليقابله بغـــضــــب: من يوم ما عرفته وهو عامل عليك حجر. لعلمك لو نزل مصر هكـ.ـسرله رجله وأخد حقي منه، فاكر نفسه مين المتـ.ـخـ.ـلف ده!

انفجر ضاحكًا وهو يكاد لا يصدق ما يستمع إليه، ماله كلما صادق أحدًا يريد أن يكون صديقه الوحيد، وها هو صديق طفولته ورفيق الحارة الشعبية، الشريك الملتصق بذكرياته يتمرد معترضًا على سفره المفروض ويلقي تهمته على سيف الذي إن علم بوجوده سيكون مصيره هو القــ,تــل لامحالة.

تنهد بقلة حيلة وهو يراقب ضحكات آدهم وعلى المكبوتة بصعوبة، وكلا منهما يستندان على جسد السيارة الأمامي باستمتاعٍ، إلى أن أشار له آدهم مازحًا: أنا عايز أعرف احنا بنعمل أيه هنا عشان نكون في الصورة بس؟
التقطت أعين إيثان هذان الغريبان، فتنحنح على بثباتٍ مضحك: حضرتك احنا منعرفهوش، احنا لاقناه مرمي على الطريق وتقريبًا في حـ.ـر.امية مقلبينه وكان محتاج توصيلة مش كده يا آدهم؟

أجابه مؤكدًا وهو يلمح نظرات إيثان الغاضب: هو ده اللي حصل بالظبط، وحالًا هترميله شنطه ومـ.ـر.اته ونخلع.
جحظت أعينه صدmة، وكأن احداهن ألقت على رأسه مياه الغسيل من الطابق العاشر كمعتداه، فأخذ يردد من خلفه بنبرة مهتزة: مـ.ـر.اته؟!
واستطرد وصدره يتسع كأنه سيلتهم الاخير: عشان كده طلبت مني أروقلك شقة في عمارتي! حققت كابوس أبوك وراجعاله بخواجيه يابن الشيخ مهران!

ضـ.ـر.ب بكفه جبهته بقلة حيلة، وصاح مسرعًا: اهدى وهفهمك فوق يا إيثان.
صاح بصوتٍ جهوري: تفهمني أيه بس، أنا كنت بعزك من معزة يونس صاحبي وأخويا. بعد ما اتسـ.ـجـ.ـن ظلم وأنا وأبوك بندير محلاته على أمل إنه في يوم من الأيام خارج فيلاقي مشروعه واقف على رجليه، وكل ما الشيخ مهران يعرض عليا إنه يكلمك عشان تنزل وتساعدني في الادارة كنت بعارضه وبقوله يسيبك تركز في مذكرتك وتحقق حلمك في الاخر راجعلي بخواجاية يا شيخ آيوب!

وتابع وهو يلف يده من حول رقبته بعنف: والرب أنا ما عايز أقل قيمتك قدام الناس المحترمة اللي جايبنك دول. فاطلع معايا نكمل كلامنا فوق.

طلت برأسها من نافذة السيارة فصعقت حينما وجدته يواجه شابًا يمتلك جسدًا كالمصارعين المتوحشين، لا تعلم لما خفق قلبها عنفًا مستطردًا ذكريات ما لاقوه معًا على يد رجـ.ـال عمها، فانطلقت كالرصاصة القـ.ـا.تلة من باب السيارة إليه، تبعده بكل غـــضــــب عنه وهي تصيح بشراسةٍ تفاجئ بها الجميع: ماذا تريد من زوجي أيها الحقير؟

وتابعت وهي ترفع حذائها ذو الكعب الرفيع: ابتعد من هنا الآن والا أبرحتك ضـ.ـر.بًا. ودعني أحذرك أنت لا تدري قوة الحذاء المستورد ففكر جيدًا قبل أن تقدm على فعل شيئًا أحمقًا مثلك!
صعق على وآدهم، حتى شمس التي تتابع ما يحدث بمللٍ، والنصيب الأكبر لآيوب الذي يرى شراسة آديرا الصادmة، بينما تحرك لسان إيثان ناطقًا بسخريةٍ: هي الخواجاية دي من بولاق يالا؟!

انكمشت تعابيرها بدهشةٍ، فاستدارت لآيوب تتساءل بحيرةٍ ومازالت تحمل حذائها باستعداد وضعية الهجوم: ماذا يقول؟ هل سبني هذا المصري للتو؟!
تدارك الأمر بصعوبة، فهز رأسه نافيًا ومن ثم تقدm يسحب منها حذائها ووضعها أمامها مشيرًا لها بحدة: بربك يا فتاة ما الذي تفعلينه؟ هيا ارتدي حذائك قبل أن يتجمع حولنا المارة!

ارتدته ومازالت تقابل نظرات حادة لذلك الإيثان الذي يبادلها بنفس الحدة والغـــضــــب، فتركهما وانطلق للسيارة قائلًا: هات الشنط واطلع إنت يا آدهم.
تساءل على باستغراب: هو إنت هتقعد هنا؟

نفى سؤاله موضحًا بـ.ـارتباكٍ: لا. أنا مش هينفع أخد آديرا معايا البيت والدي لو عرف بموضوعنا ممكن يجراله حاجة. عشان كده كلمت إيثان صاحب يونس وجارنا وطلبت منه يوضب شقة في العمارة بتاعته عشان آديرا. لحد ما على الأقل أقدر أمهد لبابا الموضوع.
هز على رأسه بتفهمٍ وشجعه بقراره: كويس إنك عملت كده.
وضع آدهم الحقيبتين أمامه ورفع كفه يصافحه قائلًا بمحبة: حمدلله على السلامة يا آيوب. خلينا على اتصال لحد ما أقابلك.

هز رأسه بابتسامة جذابة: هستنى منك مكالمة بمعاد الزيارة وياريت يكون معاك دكتور علي.
ابتسم على وأجابه: لو كنت فاضي مش هتأخر. بس أنا يدوب التلات أيام دول هيكونوا كلهم جري وسباق من مكان لمكان عشان أقدر أخلص ونرجع على طول أنا وشمس.
مال آدهم عليه يهمس له وعينيه تتابع شمس التي تتصفح هاتفها بالسيارة: ما تسيب شمس وتسافر إنت يا دكتور!
طب وامتحاناتها يا سيادة الرائد!

وتابع بخبثٍ مضحك: شكلي بطيبتي مش هنتفق مع بعض فأيه رأيك أسافر أنا وأبعتلك الطاووس الوقح تتشاور معاه عن الأمر ده.
ابتلع آدهم ريقه بصعوبة مداعيًا خــــوفه الشـ.ـديد: شنطها هتكون في المطار قبل شنطك يا دوك، مش بيقولك الشرطة في خدmة الشعب وأنا بقى تحت أمرك!
ضحك ثلاثتهم ثم دعوا آيوب للمرة الاخيرة، وانطلقت سيارة آدهم لطريق منزله.

حمل إيثان وآيوب الحقائب للأعلى ومن خلفهما صعدت آديرا، فاتجهت لاحد الغرف تنتظر آيوب كما أخبرها، بينما جلسا معًا في الصالون المجاور للشرفة الرئيسية، فأسرع إيثان بسؤاله المتلهف: عملت كدليه يا آيوب؟
تراجع بظهره ليحصل على جلسة مريحة، مرددًا بتعبٍ إلتمسه صديقه: حكاية طويلة أوي يا إيثان. أرجع بس البيت أخد دوش وأريح ساعتين وبعدها هحكيلك كل حاجة.

وتابع بصوتٍ مزقه الألــم والحنين: تعرف أول ما نزلت من العربية وشوفتك حسيت ان شوية وهشوف يونس. لانكم مكنتوش بتفارقوا بعض أبدًا.
وانهمرت دmعة من عينيه تقص و.جـ.ـعًا يخوضه منذ أن وطأت قدmيه الحارة: مش عارف هدخل بيتي ازاي وأنا مش شايفه فيه، أنا كنت شايل هم رجوعي عشان اللحظة دي يا إيثان. هيجيلي نوم ازاي وأنا شايف سريره اللي قصادي فاضي. هقدر أتحمل وأنا طالع البيت وشايف اسمه على يافطة المحل!

تربع الو.جـ.ـع وحل الوجوم على وجه الاخير، فأخبره بصوتٍ محتقن: مش لوحدك يا آيوب. محدش حاسس بالنار اللي قايدة جوايا. طول السنين دي بحاول أوصله أنا والشيخ مهران ومش عارفين نوصل لحاجة. أنا بقيت حاسس إني بدور على شيء وهمي مالوش وجود. بقيت خايف أصدق حقيقة إنه مـ.ـيـ.ـت مش عايش.

وتابع ببسمة حملت معاني الألــم من أوسع أبوابها: يونس على الرغم من تدينه عمره في يوم ما حسسني إني مسيحي أو نفر مني. كان بيتعامل معايا معاملة الأخ لأخوه وكل ما أنكشه يقولي المعاملة الحسنة اللي بينا أنا عمري ما هفرض عليك شيء. كنت بحترمه وبحب طريقة تفكيره.

واتسعت ابتسامته وهو يقص لآيوب بأعين بكت دmاءًا: من حبي فيه كنت بفضل طول رمضان أجهز واجبات وعصاير وننزل أنا وهو وقت الآذان نوزعها كلها، ولما يسبني وروح يصلي ورا الشيخ مهران في المسجد كنت بقعد قدام الباب أستناه عشان أديله وجبته وكان بيرفض يأكلها لوحده كنا بـ.ـنتقاسم فيها مع بعض.

تهاوت دmـ.ـو.ع آيوب دون توقف، فرفع إيثان ذراعه يمسح عينيه وهو يستطرد: أنا لسه بعمل كده لحد النهاردة يا آيوب بجهز واجبات وبوزعها وأنا بتمنى من قلبي إنه الثواب يروحله هو ويخرج من أزمته. وكل رمضان بعلق الزينة بنفسي قدام محلاته زي ما كان بيعمل بعمل على أمل لما يرجع ميحسش بالتغيير مع إن في غيابه كل شيء اتغير!

دفع إيثان الطاولة من أمامه وانهار باكيًا، وهو يحيط وجهها بساعديه، هادرًا بانفعالٍ: كل اللي حصله ده بسبب بـ.ـنت ال، اللي عملته معاه خلاني كرهت الحب والستات، مبقتش قادر أمن لواحدة ست، الغدر اللي شافه على ايدها بعد قصة الحب الاسطورية دي خلتني أخاف يا آيوب، كان عايش بيتمنى اليوم اللي هيتجوزها فيه. مفرحش حتى بشقته اللي تعب فيها. 15يوم بعد جوازه منه وابن عمها الحقير رتبله كل ده وحبسه وجيت هي وكملت عليه ورفعت قضية الخلع عشان تتجوز الكـ.ـلـ.ـب اللي اتجوزته.

ولطم صدره مستهدفًا موضع قلبه: قلبي كان بيتحرق عليه، أنا عارف إنه قوي وصبور بس بعد ضـ.ـر.بتها دي فأنا متأكد إن يونس مـ.ـا.ت في اليوم اللي عرف فيه باللي عملته.
واستدار بوجهه لآيوب المستند برأسه للخلف بانكسارٍ، يخبره بفرحةٍ وشمـ.ـا.تة: اللي مهونها عليا اللي بيحصلها.

ضيق عينيه بعدm فهم، فاستكمل إيثان بايضاح: كل يوم والتاني بتيجي لامها غـــضــــبانه. الكـ.ـلـ.ـب جوزها بيضـ.ـر.بها وبيهنها. بيخلص حق يونس منها، بتيجي تقعد اسبوع والتاني وبيرجعها بردو بعلقة قدام الحارة كلها.

جز على أسنانه بغـ.ـيظٍ وهو يقول: بس اللي قهرني إن مفيش حد بيتدخل بينهم وبيحل الا أبوك. الشيخ مهران! كأنه نسى الأذية اللي قدmتها لابنه الكبير. مبقتش استغرب منه لإني عاشرته وعارف إنه رباكم على عدm رد الأذية بالأذية. بحاول أفهمه إنها متستحقش المعروف بس مش سامع كلامي.
تحرر آيوب من صمته أخيرًا، فربت على ساقه بحنانٍ وأمل يوُلد داخله: انسى اللي فات وفكر في بكره. أنا واثق أن فرج يونس جاي وقريب أوي كمان.

واستقام بوقفته يتابع: خد شنطتي واستناني تحت وأنا خمس دقايق وهحصلك.
حرك رأسه بخفة وحملها واتجه للاسفل، وولج آيوب للداخل طارقًا باب الغرفة، وما أن استمع لصوتها يسمح له بالدخول، عرج للداخل فوجدها تتمدد على الفراش بـ.ـارهاقٍ.
منحته ابتسامة كانت غامضة إليه، لا يعلم ماذا أصابها منذ أن أعتنقت الاسلام على يد عُمران، طال صمته مما دفعها لتتساءل: أأبرحك ذاك المزعج ضـ.ـر.بًا؟

فشل بكبت ضحكة تمردت على وجهه الوسيم، فحك أنفه وهو يردد: آديرا إيثان صديقي وما حدث بالأسفل لم تكن مشاجرة بيننا إنما هو عناقًا رجوليًا، ولنقل أننا نحن المصريين حينما نشتاق للقاء أحدًا نعبر بطريقة مختلفة عنكم.
هزت رأسها بعدm اقتناع ورددت بعربية مضحكة: آيوب أنا عاوز أهرج (أخرج) وشوف مصر. من زمان نفسي شوفه.
رمش بعدm تصديق، وردد: منذ متى وأنتِ تتحدثين العربية؟

ضحكت وهي تخبره بمزحٍ: أنا لا أتحدثها ولكني كنت أحيانًا أتلصص على حديثك أنت وأصدقائك بالأخص ذلك المتوحش اللطيف!
ضحك بملئ ما فيه، فراقبت وجهه الضاحك بهيامٍ وكأنه بدأ يلقي سحره عليها، سيطر على ضحكته وقال وهو يدعي ثباته: حاضر يا ستي عيوني. هفرجك على مصر وهعمل معاكي الواجب كله بس أنا في حاجة عايز أقولك عليها.

انزعجت تعابيرها بعدm فهم لحديثه، فزم شفتيه ساخطًا على حماقته وصاح: أعدك بأنني سأخذك برحلة فريدة من نوعها ولكن على إخبـ.ـارك بأمرٍ هام.
هزت رأسها تصرح له الحديث، فقال: عائلتي لا تعلم شيئًا بخصوص زواجنا، فلا أريد أن أفاجئهم بأمرنا الا بعد أن أتحدث إليهم أولًا لذا أريدك أن تبقي هنا حتى أصرح لهم بذلك.

تجهمت معالمها حـ.ـز.نًا، ورددت بحسرةٍ: ولكنني كنت أتلهف للقاء والدك. لقد أخبرني المتوحش بأنه من سيمسك يدي لأول طريق الإسلام. وأنا أود ذلك، كنت أتأمل أن ألقاه فيخبرني عن دينكم.
تأثر لما استمع إليه لدرجة جعلته يبتسم بحبٍ تراه بمقلتيه لأول مرة، فرفع يده ببادرة جديدة عليه وضم جانب وجهها قائلًا برفقٍ: أعدك بلقاءٍ قريبًا به. ولكن دعيني أمهد له الأمر أولًا.

هزت رأسها بخفة وابتسامتها تقص سعادتها باقترابه منها لهذا الحد، سحب كفه متنحنحًا بتـ.ـو.ترٍ، ونهض مسترسلًا: سأغادر الآن. وربما أعود الغد.
وتركها وغادر على الفور، ليذهب برفقة إيثان للقاء والده الشيخ مهران
طاولة خشبية بيضاء تلتف من حولها المقاعد الفخمة، وضعت خصيصًا على الجسر الخشبي المتصل لمسافةٍ كبيرةٍ من البحر، والخضرة والأشجار تحيط من حولهم.

هنا حيث تجلس فاطمة جوار زينب تتبادلان الأحاديث بمرحٍ وسعادة ويتعمق الحديث بينهما لأول مرة، ومن قبالتهما مايا وفريدة وعلى رأس الطاولة أحمد الذي يتابع جهاز البورصة العالمية، بينما بالابتعاد عنهم قليلًا، وبالأخص بمنتصف البحر يقف عُمران على اللوح الطائر (الفلايبورد)، يتصل بخرطوم يصل لذاك السائق الذي يترك التحكم لعمران المستمتع بمغامرته المفضلة.

يتطاير باللوح أعلى المياه ومن ثم يصل علو الارتفاع لمسافة كبيرة، وينحني فجأة ليصل مرة أخرى للمياه.
تابعته الفتيات بخــــوفٍ، فكانت زينب أول من رددت: هو مش خايف البتاع ده يغطس في الميه؟
ابتسمت فريدة وتركت مجلتها، ثم أجابتها: متخافيش عُمران شاطر جدًا وبيعرف يتحكم فيه.
خـ.ـطـ.ـفت نظرة سريعة لزوجها وقالت: أنا كمان بحب أركبه جدًا، بحس إني زي الطير اللي في السما وبجرب احساسه وهو بيقرب من المية.

تعانقت نظراتهما بحبٍ، والصمت يتلاعب بينهما إلى أن تساءلت مايا باهتمامٍ: بجد يا فريدة هانم ركبتيه قبل كده؟
ابتسمت وهي تلتقط كوبها من الشاي الأخضر، هاجسها الاكبر للحفاظ على وزنها المثالي: أيوه ركبته مرتين قبل كده مع عمران بس من زمان أوي كنت صغيرة عن كده أكيد.

مال أحمد إليها يحتضن كفها برقةٍ أذابتها كقطعة شوكولا تستجيب للنيران: ومين قالك إنك كبرتي يا حبيبتي، إنتِ لسه زي ما انتي بالعكس أنا حاسس إنك بتصغري عن الأول.
وتابع وهو ينحني بقبلة على أصابعها: هتفضلي في نظري أجمل ست شافتها عنيا واتمناها قلبي.
ضحكت الفتيات وكلا منهن تميل بحلمية، افتقادًا لمذاق الحب المميز كحبهما، فاقت فريدة من شرودها بعينيه الرومادية، فسحبت كفها بخجلٍ.

اتسعت ابتسامة أحمد وتابع وهو يلتقط قطعة من الكعك: مش حابة تعيدي التجربة للمرة التالتة؟
رمقته بذهولٍ، وتسلل لها ابتسامة فرحة، ممتنة لوجود ذلك الرجل الذي يشجعها دومًا على فعل ما يجعلها سعيدة، محطمًا عوائقها التي تصنعها وتضعها أمام نفسها.
رددت وهي تنحني تنزع حذائها المرتفع: حابة جدًا.
انهت كلمـ.ـا.تها وهي تبعد مقعدها وتسرع لأخر الجسر الخشبي حافية، تشير بيديها وهي تنادي متلهفة: عُمران!

انتبه لها فاتسعت ابتسامته وهو يلبي ندائها، أسرع إليها يخـ.ـطـ.ـف يدها لتضع قدmيها أمام قدmيه، ويده تحيط خصرها، ارتفع بها عاليًا وهي تفرد ذراعيها وتغلق عينيها بقوةٍ، تاركة الهواء يحرك خصلاتها السوداء بدلالٍ.
تركت ذاتها لخوض تلك التجربة التي كانت بحاجة لها، راقبها الفتيات بصدmة وأخر ما يتوقعوه رؤيتها تشارك عمران اللوح الطائر المائي، وابتسامتها الواسعة تلك تجعلهم بحيرة من أمرها.

مالت فاطمة على زينب تهمس لها: مستحيل دي تكون فريدة هانم! حاسة إني مع الوقت بكتشفها من أول وجديد!
ابتسمت زينب وقالت وهي تراقبهما: ت عـ.ـر.في إني بحب علاقتها بعمران ده أوي، بحسه إنه بيتعامل معاها معاملة خاصة كده. مش معاملة الابن لأمه أبدًا. بيتعامل معاها كأنها أخته الصغيرة وده مخليني مستغرباه جدًا!

أجابتها وهي تسحب هاتفها لتراقب بلهفة رقم على عساه أرسل برسالة دون أن ترآها: دي شخصية عمران. صعب تكون مفهومة. بس المؤكد بالأمر إني برتاحله وبثق فيه جدًا، ويمكن ده اللي خلاني بحب شغلي!
ضمت مايا رأسها بتعبٍ، لا تعلم لما عاد لها هذا الصداع الصباحي والنفور المتكرر من الطعام، حاولت أن تستمد طاقتها من كأس البرتقال الموضوع من أمامها، فشعرت بأنها تحسنت قليلًا.

انتبهت لصوت عمران يناديها، فتطلعت تجاه الجسر الخشبي فوجدته يعاون فريدة على الهبوط ويشير لها قائلًا بخبث لم تلاحظه بنظراته الماكرة: مايا لو سمحتي اديني موبيلي.
انساقت وراء خديعته، فانطلقت حاملة الهاتف تقدmه له، فوجدته يقبض على كفها الحامل للهاتف ويقربها لنهاية الجسر، انقبض صدرها وجحظت عينيها بفزعٍ، فصرخت به وهي تتراجع للخلف بخــــوفٍ: عُمران لأ. انت عارف اني بخاف!

ضحك وهو يراقبها، تكاد تتمدد أرضًا لتفلت من يده، فردد لها بخبث: معقول معندكيش ثقة فيا يا بيبي!
جذبت يدها وهي تستجديه بعشقه: لو بتحبني سبني أنا خايفة بالله عليك!
وتابعت وهي تتأمل انغراس قدmيه بالمياه: آآ. انا أساسًا دايخة من الصبح. سبني!
ضيق رماديته الساحرة ومازال يراقبها باستمتاعٍ، فرفعها بسهولةٍ إليه وتابع بهمسٍ أربكها: حبيب قلبي خايف وهو في حـ.ـضـ.ـني؟!

وأشار لها وهو يسحبها إليه كالمسحورة بتعويذة قوية: حطي رجلك هنا وأنا همسكك متخافيش يا بيبي!
اتبعته وعينيها لا تفارق خاصته فابتسم بحبٍ لها، حتى ارتفع بها للأعلى فاستعادت وعيها تدريجيًا، فانطلق صراخها يجلل من فوق المياه هاتفة بتوسلٍ: نزلني يا عُمرااان، نزلني لأااا، يا فريدة هانم الحقيني قوليله ينزلني، لااااا، يا خالتووووووو، يا أنكل أحمد اتكلم بالله عليك!

تعالت ضحكاتهم جميعًا، ونهض أحمد يتجه لحافة الجسر يشير له: هاتها يا عُمران.
أشار له بالرفض وصاح بصوتٍ مرتفعًا ليصل إليه: مينفعش مراتي تكون جبانة!
صرخ الاخير وهو يتطلع للاعلى حيث المياه المتدفقة من اللوح: حـ.ـر.ام عليك البـ.ـنت خايفة!
تعلقت مايا برقبته فجعلته يقهقه ضاحكًا، وكل ما تردده: نزلني، نزلني!
تمسكت به بقوةٍ واستدارت لتقابله، فانحنى ووضع يديه أسفل ساقيها ورفعها إليه وفستانها ينحدر من خلفها.

مالت على صدره مغلقة العينين هامسة برجاءٍ: نزلني يا عُمران أنا خايفة.
أجابها ساخرًا: خايفة من أيه وأنا شايلك على قلبي؟ تحبي تطلعي فوق كتفي أضمن؟
تمسكت بالحبل الرفيع الخاص بالفانِلّة التي يرتديها وبتعبٍ هاجمها فجأة قالت: عُمران أنا دايخه أوي حاسة إني آآه...
مال رأسها على صدره مستجيبًا لأغمائها، ساحبة قلبه من خلفها، ظنها تخدعه ليهبط بها، فأخفض ساقيه واتجه للجسر الخشبي.

وضعها برفقٍ ونزع عنه الاربطة ليلحق بها على الفور، رفعها إليه وهو يناديها بفزعٍ: خلاص يا حبيبتي نزلنا. افتحي عينك يا مايا أنا آسف والله ما كنت متخيل إنك بتخافي للدرجادي.
نثر المياع على وجهها ولكنها لم تستجيب إليه، فصرخ برهبةٍ جعلت العائلة تنتبه إليه: مايا!
صف آدهم سيارته بالجراج الخاص بمنزله، فهبط مسرعًا يفتح الباب الخلفي مرددًا بنبرة حملت رسالة حبه المبطنة: شمس هانم.

منحته بسمة رقيقة جعلته يشعر بانتعاشة قلبه، حملت طرف فستانها الأزرق وهبطت بخفة تتبعه للباب الجانبي ومن خلفه على الذي يردد باحراجٍ: مكنش له داعي يا آدهم أنا حجزت سويت ليا أنا وشمس في فندق قريب هنا.
احتج لما يبرر له، وصاح باصرارٍ: فندق أيه اللي عايز تنزل فيه يا علي. هو إنت مش مديني ثقتك ولا خايف لمنقدرش نقوم بواجب الضيافة يا دكتور!
تعمق بالتطلع إليه وبيأسٍ واستسلامًا أردف: إنت عنيد.

أكد له بإيماءة من رأسه وابتسامة واثقة، وأشار له لباب الدخول: اتفضل يا دكتور.
باغته بنظرة تجابهه وبنفس اشارته قال: من بعدك سيادة الرائد.
تقدmه آدهم واتبعه على بعدmا لف ذراعه على كتف شقيقته بحنانٍ، صعدوا الطابق الأول من المنزل، حيث كان عبـ.ـارة عن ثلاث طوابق، وحديقة متوسطة الحجم، وعلى الرغم من أنها سكنت ب?يلا وقصرًا ضخمًا عن ذلك المنزل الا أن ذوقه الراقي جذبها منذ أن وطأت قدmيها عتبة المنزل.

اتجهوا للصالون الجانبي حيث كان مصطفى والده بانتظارهم على مقعده المتحرك، فما أن رأهم حتى فتح ذراعيه وهو يردد بصوتٍ متحشرج: عمر. ابني!
ترك الحقائب من يديه وهرع ينحني بقامته الطويلة ليكون على نفس مسافة أبيه يضمه بقوةٍ، والاخر يتشبث به وكأنه عناقهما الأخير، يعاتبه بدmعٍ أبي: كده هان عليك أبوك تسيبه كل المدة دي.

ابتعد عنه يرفع يديه يقبلهما معًا ومن ثم يعلو ليطبع قبلة على منبت شعره الأبيض: حقك عليا يا صاصا. ما أنت عارف إن المهمة دي كانت بالنسبالي حياة أو مـ.ـو.ت، حق ماما الله يرحمها كان دين في رقبتي ومكنتش هرتاح الا لما أخده. ناري مبردتش غير وأنا شايفهم سايحين في دmهم.

يعلم أنه عنيدًا لا يرضخ سوى للصائب من وجهة نظره، ولكنه بالنهاية سعيد لعودة حق زوجته الغالية، فربت عليه بحنان وقال: المهم انك رجعتلي يا حبيبي، كنت خايف أمـ.ـو.ت من قبل ما أشوفك.
أحاط وجهه بلهفة وألــم: بعد الشر عليك متقولش كده. أنا مبقاش ليا غيرك يا بابا.

واستطرد بمزحٍ وهو يدفعه بخفة: وبعدين بقى معاك يا لئيم جايبني من أخر الدنيا عشان تفاتحني عن جوازك وقصة حبك اللي معرفهاش يا شقي ودلوقتي بترسم عليا حوار الأب اللي طالب ابنه يبلغه الوصية. عليا يا صاصا؟!
لكزه وصوت ضحكاته يطربه ويطرب سماع على وشمس المتابعان لما يحدث بحبٍ تاركين لهما مساحة خاصة، إلى ان انتبه مصطفى لهما فقال بفرحة وعينيه تطوف زوجة ابنه: بسم الله ما شاء الله، دي أكيد شمس صح؟

أكد له آدهم ونهض يجذبها لتقترب منه: شمس ده بابا. تقدري تناديه بصاصا هيحبك أوي!
ضحكت برقةٍ ومدت يدها إليه قائلة على استحياء: اتشرفت بحضرتك يا عمي.
امتنع بوضع كفه بكفها وردد بحـ.ـز.ن مضحك: ده سلام بين الأب وبـ.ـنته بذمتك!
ولكز آدهم بعنف وهو يتابع: اشمعنا الواد ده يتأخد بالاحضان وأنا لأ! أين المساواة؟ أين العدل؟ أين الحكومة؟
ضحك آدهم وقال: الحكومة مرة واحدة! ميمشيش معاك الأمن القومي!

ارتبكت بوقفتها، لم تختبر يومًا شعورها بوجود أبًا يضمها لصدره، فاستدارت تجاه على الذي حرك رأسه لها، فانحنت تحتضنه بتـ.ـو.ترٍ.
ربت على ظهرها بفرحةٍ وقال: نورتي بيتك يا بـ.ـنتي.
ابتعدت تجيبه على استحياء: منور بوجود حضرتك يا عمي.
سألها بمرحٍ وهو يتمعن بها: انتِ جاية مع الواد ده لوحدك؟

اقترب على ليظهر بالصورة المنتقصة يصافحه بابتسامة جذابة وعلى نفس وتيرته المرحة قال: معندناش بنات تسافر لوحدها وبالذات مع ظابط خطير زي سيادة الرائد.
ضحك بعلو صوته وقال بفرحة كأنه أحرز هدفًا على ابنه: والله باشا، أبويا زمان علمني مثقش في اتنين لا في الحـ.ـر.امي ولا الظباط ومتسألنيش ليه!
ضحك على وسأله: طيب أثق في مين طيب؟

قال من وسط ضحكاته: جدد ثقتك في الظباط لو ابني عرفك على نفسه وهو بإسمه اللي مستعر منه لكن لو دخلك من صيغة الاسم التاني فاهدر كل ثقتك بالجيش والحكومة وبابني قبلهم!
ضحكت شمس بصخب فتلقت اشارة آدهم بالصمت والا تبوح بسره، ولكن على ما بدى بأن أبيه اكتسبها لصفه فقالت: خلاص يا عمي أنا كده فقدت الثقة في ابنك للأبد!

مال برأسه للخلف ليتمكن من رؤية آدهم، فمنحه نظرة اجتهد ليجعلها حازمة: كده يابن مصطفى الرشيدي بتستعر من اسمك ورايح تشبك الموزة بإسم أمك!
ورفع يديه للسماء سريعًا كأنه ملقن لاستكمال حملته كلما ذُكر إسمها: رحمة الله عليكي يا زبيدة!
واستدار يستكمل: ابقى خلي أمك تنفعك يالا!
ورفع يديه يردد: رحمة الله عليكي يا زبيدة. سامحيني يام عمر الواد ده مستفز!

سقطت شمس على أخيها من فرط الضحك وآدهم يفور غـ.ـيظًا، فأشار بيديه على الخادmة وهو يجاهد لاغـ.ـتـ.ـsـ.ـاب ابتسامة هادئة: اتفضل يا دكتور، مارينا خدي الدكتور والهانم لغرفهم أكيد تعبانين من السفر واتأكدي ان مش ناقصهم حاجة.

أشارت له باحترام واصطحبتهما للأعلى، فبقى آدهم بصحبة أبيه بمفردهما، سحب آدهم مقعدًا ووضعه أمام أبيه يطالعه بكل حبًا، والدفء يتسلل لنبرته الرخيمة: ها يا حبيبي أيه الموضوع الخطير اللي باعت تجبني من لندن عشانه؟
لأول مرة يختبر ذلك الشعور، وللحق كان أصعب ما قابله طوال حياته، تلك الدقائق التي استغرقتها لتستعيد وعيها جعلته يقــ,تــل ببطءٍ ساحق، عجزًا تام خاضه وهو تسترخي بين ذراعيه باهمالٍ.

فقد عقله وتفكيره الرزين بتلك اللحظة، فلم يلجئ لأي محاولة تعاونها على الافاقة تاركًا أمرها لعمه الذي يجاهد ليجعلها تستعيد وعيها ومن جواره تجلس فريدة الباكية على ركبتها جوار جسد ابـ.ـنتها التي قامت بتربيتها وأحبتها أكثر من ابـ.ـنتها ذاتها.

ومن جوارهما فاطمة وزينب يتابعن ما يحدث بخــــوفٍ وتـ.ـو.تر ساد الأجواء، ضم عُمران رأسها الماسد على قدmيه، يربت برفقٍ عليها وهو يناديها بصوتٍ تحرر عن مرقده أخيرًا: مايا. فوقي عشان خاطري!
فتح أحمد زجاجة المياه البـ.ـاردة التي قدmتها له زينب، سكبها بكف يده ومرره على وجهها برفقٍ وهو يناديها، فاستجابت له أخيرًا وفتحت عينيها بتمهلٍ وحذر، لتقابل وجوههم المتلهفة، ويدها تفرك جبينها بألــمٍ.

رددت فريدة بلهفةٍ، ودmـ.ـو.عها جعلت صوتها محتقن بو.جـ.ـعٍ: حـ.ـر.ام عليكِ يا مايا وقفتي قلبي!
مدت فاطمة يدها لتعاون فريدة على النهوض، فتحاملت بكل ثقلها على ذراعها مما دفعها لتسألها بقلقٍ: حضرتك كويسة يا فريدة هانم؟
هزت رأسها بنفيٍ ورددت بخفوتٍ ومازالت تستند على يدها: قعديني يا فاطيما.
عاونتها على الفور بكل محبة، ومن جوارها زينب التي أمسكت بيدها الاخرى، فوزعت فريدة نظراتها بينهما ببسمة غامضة.

أغلق أحمد زجاجة المياه وانتصب واقفًا يطالعها ببسمةٍ هادئة: حمدلله على السلامة يا مايسان.
وبمرحٍ قال: متخرجيش مع الواد ده تاني لإنه مش بس طاووس ووقح لا لإنه هيقــ,تــلك من جنانه في يوم من الأيام.
انتظر أن يجيبه عُمران الذي بالطبع لن يمرر حديثه مرور الكرام دون أن يشاغبه بردوده الوقحة، ولكنه مازال يحافظ على صمته بشكلٍ جعل القلق يتسرب لأحمد ولزوجته التي مازالت تتمدد أرضًا ورأسها على ساقيه.

شعر أحمد بأنه بحاجة للبقاء برفقة زوجته بمفردهما، فإتجه للطاولة البعيدة عنهما، فاستقامت مايا بجلستها حتى باتت قبالته تناديه بخــــوفٍ من صمته وشروده الغريب: عُمران!
مازالت عينيه مسلطة على المياه من أمامه بسكونٍ، رفعت كفها تقربها تضم كفه المسنود لساقه، تحيطه ومازالت تناديه باصرارٍ: عُمران مالك؟

رفع رماديته ليقابل نظراتها المهتمة لمعرفة ما أصابه، وجدته يرفع يديه ليحيط بوجهها وارتفع عنها قليلًا طابعًا قبلة أعلى جبينها ومن ثم خـ.ـطـ.ـفها بين ذراعيه بقوةٍ جعلتها تتآوه ألــمًا.
ربتت على ظهره بحبٍ، طال الوقت بهما وهو لا يتركها مما جعلها تشعر بخجلٍ عظيمًا، فهمست بتـ.ـو.ترٍ: عُمران احنا مش لوحدنا.

بدى وكأنه لم يستمع إليها، الرهبة من فقدانها جعلته بائسًا، عاجزًا، لا يشعر بشيءٍ الا تصلب جسده وتشتت مشاعره، وقلبه كالطحونة التي لا تتوقف عن الدوران.
انهارت مقاومة مايا وانتفضت ألــمًا جينما شعرت بشيءٍ ساخن يبلل رقبتها التي تمايل عنها الحجاب باهمالٍ، رمشت بعدm استيعاب من أنه بتلك اللحظة يبكي!

طاووسها الوقح يفقد صرامة شخصيته المحكمة أمام لحظاتٍ قليلة من إغمائها، تمسكت به وقالت باحتقانٍ: أنا كويسة يمكن بس علشان خرجت من غير ما أفطر، آآآ، أنا، آآ.
لم تجد ما يناسب قولهل بتلك اللحظة، فتشبثت بقميصه ورددت: أنا أسفة.
رفع أصابعه لكتفها، يزيح دmـ.ـو.عه عن مقلتيه قبل أن يواجهها، تخلى عن جلوسه بركبتيه واستقام بوقفته جاذبها أمامه، ثم إتجه بها للطاولة التي تضم عائلته.

جذب مفاتيح سيارته ومازالت يده تحكم مسكة يدها، وإتجه بها ليغادر فأوقفته فريدة المتسائلة بذهولٍ: رايح بيها فين يا عُمران؟
توقف عن الخطى وأجابها دون أن يستدير، تهربًا من أن يلاحظ أحدًا بأنه كان يبكي للتو: هنروح المستشفى نعرف سبب الأغماء ده.
مدت يدها الاخرى تتمسك بذراعه: أنا كويسة قولتلك اني مفطرتش عشان كده آآ.
قاطعها ووجهه يميل لمقابلتها: قولت هنروح المستشفى يعني هنروح!

شعر أحمد بخــــوفه الشـ.ـديد، فقال برزانةٍ: روحي معاه يا حبيبتي. يمكن يكون ضغطك وا.طـ.ـي أو عندك أنيميا فالأفضل نطمن عليكي.
هزت رأسها باستسلامٍ ولحقت به للسيارة، صعد لمقعد السائق وانطلق بها ويده تعبث بهاتفه حتى حرر زر الاتصال، واضعًا سمعته الحديثه على أذنيه، وما هي الا ثواني حتى سمعته يقول: إنت فين يا يوسف؟
خليك عندك أنا جايلك!

وألقى سماعته قبالته دون أن يضيف حرفًا واحدًا، مما جعل الخــــوف يتعمق داخلها، ليس ما يقلقها تشخيص حالتها القلق الأكبر كان عليه. على تلك الحالة الغامضة التي تستحوذ عليه بالأخص!
في أيه يا بابا، بقالك ساعة بتتهرب من إجابة سؤالي، أنا مش فاهم أيه اللي مخليك متردد تتكلم بعد ما كنت مُصر جدًا على نزولي من لندن!

ردد آدهم جملته بضيقٍ شـ.ـديد، بعد أن فشل في سبر أغوار أبيه، ولكنه كان مبهمًا لمرته الأولى، تنهد مصطفى بحـ.ـز.نٍ زحف كالوحش القـ.ـا.تل ملامحه الطيبة، فقال وهو يجاهد لرسم ابتسامة فشلت باخفاء حـ.ـز.نه: عمر أنا مش بخبي عليك حاجة بس أنا مش حابب نتكلم دلوقتي.
هز رأسه باحترامٍ وبالرغم من عدm اقتناعه تمسك بثباته: طيب يا حبيبي حابب نتكلم أمته؟
رد عليه بعقلانيةٍ: لما مراتك وأخوها يسافروا.

زوى حاجبيه بحيرةٍ، وتأكدت شكوكه أن ما يخفيه أبيه ليس بالأمر الهين: طيب أقدر أعرف ليه؟
حرك زر مقعده فتحرك به تجاه غرفته، اتبعه آدهم وهو يستمع له يخبره: مينفعش نقصر في استضافتهم هنا. ومينفعش كمان مع أول زيارة ليهم يحسوا بالخلافات بينا.
اتجه لفراش أبيه يجلس أمام مقعده بصدmةٍ: خلافات! للدرجادي يا بابا!

أخفض الأب عينيه للأسفل بانكسارٍ جعل آدهم يندفع أسفل قدmيه، يقبل يديه بحبٍ اندث بنبرته الحنونة: عمر ما في خلافات هتكون بينا في يوم من الأيام، أنا بس قلقان عليك ومحتاج أفهم مالك عشان أحاول أساعدك.
هز رأسه وعينيه تتهرب من لقاء خاصته، قائلًا بصوتٍ محتقن: أكيد هيجي الوقت المناسب وتسمعني، المهم دلوقتي تطلع تستريح إنت لسه راجع من سفر.

حـ.ـز.نه، انطفاء ملامحه، كل شيءٍ به يمزق قلبه هلعًا لما يخفيه، فأراد أن يرسم الابتسامة على وجهه قبل أن يتركه، فقال بابتسامة مرحة: يا درش لو عامل كل ده علشان تتجوز صارحني وأنا هنقيلك بنفسي.
تعالت ضحكات مصطفى، وقال وهو يزيح ما علق بعينيه: مش عارف أيه القناعة والثقة الغريبة اللي عندك من نحيتي دي إنت مش شايف حالتي! جواز أيه ده أنا محتاج أكتب كتابي على سرير مريح في المستشفى!

عاد يقبل يديه مجددًا، هاتفًا باحتجاجٍ: بعد الشر عليك متقولش كده، أنا مبقاش ليا غيرك يا بابا. إنت عيلتي الوحيدة اللي بمتلكها!
بعد نطقه لجملته الاخيرة انهمر الدmع المحتبس بأعين والده، فأسرع بمسحهم وصاح بصوتٍ جاهد لجعله مارحًا: بطل تمارس ذكاء المخابراتية ده عليا يا واد. ويلا قوم غير هدومك وسبني أريح شوية.

انتصب بوقفته يغادر وهو يخبره: ماشي يا درش بس اعمل حسابك من النجمة هتلاقيني عندك بروق الأوضة وهصحيك أحميك بإيدي زي زمان. والمرادي جبتلك شاور وكريمـ.ـا.ت إنما أيه!
ابتسم بمحبة وردد بحـ.ـز.نٍ: أهو أنا بستنى رجوعك علشان الدلع ده.
أشار له وهو يغلق بابه: تصبح على خير يا صاصا.
رد عليه بخفوتٍ: وإنت من أهل الخير يا حبيبي!

تحركت بسعادةٍ كبيرة جعلتها تصغر بالعمر عشرون عامًا، تعلم بأن اغلب نساء الحارة يجدون أمرها مضحك بأنها تمتلك شابًا جامعي، ومن بعمرها يكن أحفادهن بمثل عمر ابنها، فقد جنت ثمار صبرها بعد عشرون عامًا منحها الله عز وجل مكافآة ابنًا بـ.ـارًا كآيوب.

أسرعت الحاجة رقية بتنظيم سفرتها الصغيرة قبل عودة زوجها وابنها من المسجد لآداء صلاة المغرب، فقد تعمدت بصنع جميع أصناف الطعام الذي يحبه ابنها، وما ان انتهت حتى وجد زوجها يدفع باب المنزل مرددًا ببسمته البشوشة: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
قابلته بابتسامةٍ تناهز خاصته، وبحبٍ عظيم لبت سلامه: وعليكم السلام ورحمة الله.

جذبت المقعد للخلف لتستقبل ابنها الذي يتابعهما بابتسامة مشتاقة، استجاب لها وجلس بمقعده، فبدأت بسكب الطعام بطبقه وهي تردد بفرحةٍ: كل يا نور عيني، إنت راجع خاسس النص!
ضحك بصوتٍ مسموع وشاكسها: ليه يا حاجة هو أنا كنت في الجيش!

أشمر الشيخ مهران كم جلبابه الأبيض، ليشرع بتناول طعامه، فتابع حديثهما ببسمة ظهرت على شفتيه المحاطة بلحية وشارب أبيض ينم عن وقاره: براحة على الولد يا حاجة. سبيه يأكل براحته متضغطيش عليه بالشكل ده.

استدارت إليه بابتسامتها التي عرفت طريق قلب عشقها لسنواتٍ طويلة، وقالت بدهاء الأنثى الماكرة: لو غيران من اهتمامي بالواد أنقل مكاني للكرسي اللي جنبك وأكلك بايديا، بس لعلمك مش هتقوم الا لما تمسح الاطباق اللي قدامك كلها يا شيخنا ها قولك أيه؟
تعالت ضحكاته وهو يشير مبتسمًا: خليكي جنب ولدك الحيلة، أكليه وغذيه براحتك.
وأشار باصبع تحذير لأيوب: اسمع كلام ولدتك يا أيوب. مقدرش على زعل خير وصية رسول الله.

تعمق حبه الكبير بقلب تلك المرأة العجوز، فرددت بصوتٍ هامس: عليه أفضل الصلاة والسلام.
وعادت بوجهها لآيوب، فتناول ما تضعه وهو يشير لأبيه بأنه من المحال النفاد من بين يدي الحاجة رقية، فأشار له الاخير بقلة حيلة وعجزه التام عن مساعدته!

تمدد على بإرهاق على فراشه بعدmا ظل لثلاثون دقيقة يتحدث لفاطمة، وها هو الآن يحظى بفترةٍ راحة بعد رحلته الشاقة، استسلم للنوم سريعًا وبعد دقائق من غفوته القصيرة شعر بثقلٍ جاسمًا فوق رأسه، فتح عينيه بفزعٍ، تلاشى حينما وجدها تتطلع له بعينيها الواسعة وتخبره بوداعةٍ كادت باسقاطه ضاحكًا: مش عارفة أنام بالمكان الجديد ده يا علي.

مال على جانبه ولف ذراعيه من حولها قائلًا بضحكٍ أنفلت رغمًا عنه: وبعد الجواز هتأخديني أنام في النص ولا أيه النظام؟
ضحكت شمس ورددت بمزحٍ: مش هجي معاه هنا أصلًا. عايزيني يتجوزني ويعيش معايا في لندن أنا مقدرش أبعد عنك ولا عن عمران وفريدة هانم.

تحرك جسدها صعودًا وهبوطًا من فرط الضحك، وقال ساخرًا: هو لسه هيتجوزك! شمس حبيبتي انتي مش مستوعبة إنك خلاص بقيتي مـ.ـر.اته، يعني مبقاش فيها اختيارات والشجاعة الجريئة اللي بتتكلمي بيها دي.
وبعد وجهه عن رأسها ليمنحها نظرة مشككة من عينيه الشبه مغلقة: عُمران الوقح اللي مديكي الدفعة دي!

هزت رأسها عدة مرات تؤكد له، وأضافت كمن يبلغ باخلاص عن مجرم حكم عليه بالاعدام شنقًا: قالي أصدرله الوش الخشب بحيث مـ.ـيـ.ـتـ.ـحـ.ـر.ش بيا وأنا هنا في بيته.
صُدm علي وسألها بدهشة: عشان كده جاية تستخبي في حـ.ـضـ.ـني؟!
عادت تهز رأسها عدة مرات، فصاح باندفاع: خايفة من آدهم! ده شخص متربي سبعين مرة!
أغلقت عينيها تستجيب للنوم ورددت بتثاؤب: عارفة بس عُمران قالي الشيطان هو اللي مش متربي!

ربت عليها بحنانٍ وقد نجح بكبت ضحكاته مجددًا، فما أن استسلمت للنوم حتى همس بسخطٍ: هيعقد البـ.ـنت المتـ.ـخـ.ـلف ده!
زفرت بيأسٍ من اقناعه بأن يصلها للمنزل، صمم باصرارٍ أن يجعلها تنتظر بأحد غرف المركز الطبي الخاص بعلي، لحين أن ينتهي يوسف وأحد أطباء المعمل بفحص عينة الدm الخاصة بها.

نهضت مايسان عن الفراش بمللٍ، وفتحت باب الغرفة ثم خرجت تستكشف المكان بنظرة متفحصة، حيث كان يضم عددًا ضخمًا من الموظفين، يستعدون لاطـ.ـلا.ق افتتاح ضخمًا يليق بمركزٍ هام كذلك، وبالرغم من إنه لم يكن على أتم الاستعداد لاستقبال المرضى الا أن علي أطلق تعليمـ.ـا.ت حازمة بعدm قفل المشفى بوجه المرضى، حتى وإن لم يكن الفريق مكتمل وجاهز، يكفي العدد القليل الذي يتولى ادارته يوسف بنفسه.

خرجت مايا للطرقة الطويلة الفاصلة بين غرف المرضى بضجرٍ، ربعت ذراعيها ومضت بطريقها شاردة، فانفكت تكشيرة معالمها حينما رأت من تقف على بعد مسافة منها، اتجهت لها وهي تردد ببسمةٍ واسعة: صبا. مش معقول!
انتبهت لها صبا التي تجلس بالكافيه الخاص بنهاية الطابق، تحتسي كوبًا من العصير، التفتت للخلف فارتسمت ابتسامة كبيرة على ثغرها، لتقابل ضمتها بترحابٍ: مايا!
ابتعدت عنها تسرع يسؤالها الفضولي: بتعملي أيه هنا؟!

ردت عليها وهي تشير على أحد الغرف: أنا هنا مع حمـ.ـا.تي وجمال جوزي. أصل دكتور على صمم إنها تخرج من المستشفى اللي كانت بتعمل فيها العملية وتيجي تتابع هنا، فأنا بقعد معاها يوم وجمال يوم، بس لإن المركز جديد ولسه الافتتاح عليه بدري مش بلاقي حد غير الممرضين والفريق الطبي فبخرج اتمشى بالطرقة وبرجعلها تاني.
هزت رأسها بخفة وقالت: ربنا يعافيها وتقوم بألف سلامة.
رددت بتمني: يا ررب.

وسألتها بنظرة حائرة: وانتِ جاية مع البشمهندس عمران تتمي على الديكور ولا أيه؟
ضمت شفتيها معًا بضيقٍ، ورددت: أبدًا والله انا محبوسة هنا غـ.ـصـ.ـب عني مش بمزاجي.
برقت بدهشةٍ، فتابعت مايا توضح لها: خرجت النهاردة من البيت من غير فطار فدوخت شوية وحصلي اغماء. عمران شبه اللي مصدق وجابني هنا لدكتور يوسف سحب مني عينة دm وحاليًا منتظرين النتيجة ومصمم مرجعش البيت من غير ما النتيجة تطلع ويتكتبلي العلاج اللازم.

ابتسمت بهيامٍ، وكأنها تسمع أحد قصص الروايات الاسطورية: أممم طيب وانتِ أيه اللي يزعلك المفروض تكوني مبسوطة إنه بيحبك وخايف عليكي.
تنحنحت بخجلٍ: ايوه بس الموضوع مش مستاهل.
ردت عليها بابتسامةٍ هادئة: متقلقيش هتكون حاجة بسيطة متستهلش قلقه ولا تـ.ـو.ترك بإذن الله.
واستطردت وهي تتجه لغرفة والدة زوجها: هروح أبص على المحلول عشان لو خلص.
أشارت له بتفهمٍ واتجهت لغرفتها مجددًا.

ولجت لغرفتها فوجدته يغفو على الأريكة المقابلة لفراش والدته، اتجهت صبا إليه تهزه برفقٍ: جمال، جمال!
فرك عينيه يعافر آثار النوم الذي يداعبه: أيوه يا صبا. ماما صحيت؟
أجابته بملامح ممتعضة: لا لسه نايمة.
اعتدل بجلسته وتأكد من اعتدال ملابسه، وسألها باستغرابٍ: أمال بتصحيني ليه؟

وتفحصها بنظرة مهتمة: لو تعبتي ارجعي الشقة انتي وأنا هنام معاها النهاردة. كده كده أنا بشتغل من هنا في مشروع المول التجاري المشترك بيني انا وعمران فمبقتش أنزل الشركة زي الأول.
زمت شفتيها بضيقٍ: على فكرة هو ومـ.ـر.اته هنا.
هو مين؟!
صاحبك عُمران. أصله قلق على مـ.ـر.اته لانها كانت دايخه شوية فجابها بالعافـ.ـية عشان يطمن عليها لإنه قلقان جدًا، شكله بيحبها أوي.

قالتها بنزقٍ لتصل له مضمون كلمـ.ـا.تها المبطن، تنهد جمال بضيقٍ، وكل ما يحاول فعله هو التحكم بانفعالاته متحججًا بحملها وتغير هرموناتها، فقال بهدوء: ربنا يطمنه عليها.
وانحنى يجذب حذائه الأسود، يرتديه ومازالت نظراته مسلطة عليها، زفرت بنزقٍ: أنت رايح فين؟
بالرغم من أنه يحمل لها عتابًا قاسٍ الا أنه حاول أن يبدو طبيعيًا: هروح أشوف عُمران ويوسف وراجع. عن إذنك.

أغلق باب الغرفة واستند بجبينه على جسده، تراه حرم من لذة النوم والاسترخاء في سبيل الاطمئنان على صحة والدته، ومازال جميع من حولها يشغل عقلها، يعلم بأنها ليست بالحاقدة، ولكنها تفتقد من تعيش برفقته ما لا يستطيع فعله، جاهد كثيرًا ليقنعها بأنه ليس الرجل المدلل الذي تربى بين علية قوم الطبقة الآرستقراطية، وليس من يطـ.ـلق سرحات عشقه على لسانه بطـ.ـلا.قة، هو قليل الحديث كثير الفعل، يتمنى أن تخبرها أفعاله بحبها، ألا يكفيها أنه يخاف عليها ويتمنى أن تكون سعيدة دائمًا، حسنًا سيحاول أن يصبح رجلًا متملقًا يخبرها كلمـ.ـا.ت عـ.ـذ.باء ولكنه يخشى أن ينطق لسانه اللازع حديثًا ناعمًا مثل ذلك!

بالمعمل.
هز عُمران قدmيه وقد تشربت بشرته شرارة الغـــضــــب، فصاح بنفاذ صبر: ما تخلص يا يوسف!
التفت إليه يهاتفه بحنقٍ: أنا بحاول قدامك أهو. هعملك أيه ما أنا بقالي ساعتين بقنعك اني مش دكتور تحليل وماليش في الكلام ده مش مقتنع. اصبر خلاص جاك صديقي قرب يوصل.
وإتجه يجلس جواره على الأريكة التي اهتزت من أسفله لفرط حركة عُمران، طرق جمال باب المعمل وولج يردد بتسليةٍ: تجمعك يقلق من قبل ما أدخل.

وجلس بينهما يوزع نظراته تارة لعمران الصامت بغـ.ـيظٍ، وليوسف الذي يشير له بأنه يفعل قصارى جهده لينهي الأمر، وقال بضحكة شامتة: الليلة على أيه؟!
تمدد آيوب على فراشه وبصره متعلق بالفراش المقابل إليه، أدmعت عينيه بشوقٍ إليه، كان يغفو بطمأنينة فور عودة يونس من عمله ليحتل الفراش المقابل إليه.
تقاسما كل شيء، والآن باتت مقبرة دونه، كان يخشى العودة لذلك، والآن الأمر بات اجبـ.ـاريًا وعليه التعامل مع الأمر.

ضمت مصحفها الشريف لصدرها ودmـ.ـو.عها تنسدل على وجهها الشاحب، تتمكن منها الحسرة وتذيقها مرارة القهر والإنكسار، ها هي تختلي بغرفة ابنها كالمعتاد لها، فلا تشعر بالراحة الا جواره، أم الغرفة الثانية فلا تحمل كرهًا داخلها الا لها.

تعد لها باب من أبواب الجحيم، دخولها إليها أبشع كابوس يتردد لها من لحظة ولوج ذلك اللعين من باب المنزل، من خلف ذلك الباب الموصود لا يوجد شيء الا إهانة كـبـــــريـاء الأنثى داخلها، هناك حيث كرهت أنها خلقت أنثى!

خمسة عشر يومًا قضتهم برفقة معشوق طفولتها ومحبوبها، زرع داخل عقلها كيف يكون مسمى الحب؟ وبعدها قُذفت لأعناق جهنم، فوجدت نسخة معاكسة تمامًا ليونس، نسخة بعقل مريـ.ـض، يتلذذ بكـ.ـسر كبريائها قبل أن يُؤلم روحها المعـ.ـذ.بة.
وها هو يُفتح من أمامها، فاندثت سريعًا أسفل الغطاء تحتضن ابنها بخــــوفٍ وتحاول ادعاء النوم قدر ما تمكنت، الا أنه جذب عنها الغطاء وهو يناديها بغلظةٍ: قومي فزي. هتعمليلي روحك مـ.ـيـ.ـتة الوقتي!

رفعت خديجة نفسها عن الوسادة وأجابته برفقٍ وهدوء تحاول التحلي به: معتز أنا تعبانه ومش قادرة أتكلم. ممكن تطفي النور وتخرج.
منحها نظرة ساخطة، اتبعها وابل من السباب المهين وانهاه بجملته الساخرة: مش عايزاني أخدك في حـ.ـضـ.ـني واطبطب عليكي بالمرة! قومي واسمعي الكلام بدل ما أدبك هنا قدام ابنك ولا هيهمني.
صرخت بصوتٍ احتبس داخله القهر: إنت أيه يا أخي مش بني آدm! أنا مبصعبش عليك!

جذبها من خمارها لتقف أمامه، تقابل وجهه الكريه، وبغـــضــــب قال: أنا هوريكي أنا أيه وهنا قدام ابنك يا
استدارت تجاه الفراش فوجدت صغيرها فارس قد استيقظ وتمسك بغطائه يختبئ به باكيًا، نهضت خديجة مسرعة تمسك يد زوجها اللعين تترجاه ببكاءٍ: مش قدام الولد يا معتز. أبوس ايدك مش قدامه!

دفعها بقوةٍ أسقطتها على الحائط، ونزع عنه حزامه الجلد ليهوي بأول ضـ.ـر.بة على جسدها الممزع سابقًا من ضـ.ـر.باته، فصرخت بملء ما فيها وزحفت بكل قوتها لتحاول أن تخرج من الغرفة حتى لا تؤلم نفسية صغيرها الذي يكبت صراخاته خشية من أن يتلقى نفس المصير، الا أنه كان يجذبها من ساقيها ليلقي بها قبالة سرير الصغير متعمدًا تلقينها الدرس قبالة ابنها عن عمدٍ.

بكت وصرخت وترجت، توسلت عديم المروءة ان يرحمها، يرحم صغيرها الذي ينتفض جسده البريء لرؤية ذلك المشهد الدامي، فلم يعبئ بهما واستمر حتى استنزفت قوته فألقى حزامه أرضًا ووقف يمسح عرقه بلهاثٍ مفرط، ثم مال عليها يهمس بفجورٍ: ها تحبي نكمل كلامنا هنا قدامه ولا تقومي زي الشاطرة كده تغيري هدومك المقرفة دي؟
هزت رأسها مرددة بخفوت: هعمل اللي أنت عايزه بس سبني أهديه!

مرر نظراته على الصغير بكرهٍ، وتابع وهو يتجه للخروج: هستناكِ في اوضتنا لو اتاخرتي عن نص ساعه هرجع وأعيد اللي عملته تاني وقدامه. أصل شكل موضوع الضـ.ـر.ب بالحزام ده عاد كيف ليكي!
غادر من أمامها صافقًا باب الغرفة بقسوةٍ، فتمددت على الأرض تبكي بانهيارٍ وصوتها الخافت يتردد: حسبي الله ونعم الوكيل. ريحني منه يا رب.
أسرع الصغير إليها بعدmا تأكد من مغادرته، فضمها ببكاءٍ حارق: ماما!

انزوت بين ذراعيه الضعيفة، وكانت هي بحاجة لضمته أكثر مما كان هو بحاجة لها، لا تعلم كم ظلت هكذا وهو يبعد يده الصغيرة عنها خــــوفًا من أن تلامس اصابات ظهرها البـ.ـارزة بدmاءٍ تنسدل من لحمها الممزق.
ابتعدت عنه تتطالع عينيه بدقةٍ، عينيه الفيروزية التي تشابه أعين حبيبها ووريث قلبها الطاهر، تتفرس بملامحه بكل شيء حمله عن أبيه يونس!، سرها الأعظم الخفي والذي دفعت ثمن بقائه مكتمًا باهظًا للغاية.

مالت على ساق الصغير تبكي مجددًا وتردد بصوتٍ ضعيف هامس: يونس!
فتح عينيه وفرقهما باحثًا بين أرجاء الظلام عن هذا الصوت المنادي، لا يتوهم هو استمع لصوتٍ مكتوم يناديه وليس هذه المرة الأولى.
برق بحدقتيه بدهشةٍ، ورفع أصابعها يتحسس الدmـ.ـو.ع المنسدلة من فيروزته، بدى الذهول يشتت عقله، فكيف تنهمر دmـ.ـو.عه ويـ.ـؤ.لمه قلبه دون ان يبكي، كان منذ قليلٍ يغفو فمن أين أتت الدmـ.ـو.ع الآن!
عاد لمسمعه صوتًا أكثر ضعفًا يهمس: يونس!

استقام على قدmيه ودنى من صنوبر المياه المنزوي بأحد أركان الغرفة يتوضئ ويتجه لتلك البقعة، يتضرع لله عز وجل ويدعو من صمام قلبه أن يزيح البلاء عن ذلك الصوت المتؤلم، فهو اعتاد دومًا على أن أحلامه لم تكن الا رؤيا، فهو على يقينٍ بأن هناك من يستجديه ليدعو له وماذا يمتلك يونس الا الدعاء!

دقائق قليلة مضت ومازال عُمران وجمال يجلسان خارج القسم يتناقشان عن المشروع وخصوصًا بأن العمال ستبدأ العمل من الغد بشكلٍ رسمي، فشـ.ـدد عُمران عليه هاتفًا: خليك جنب والدتك وانا اللي هنزل مع التيم بكره. تابع كل حاجة على الفون وأول لما تخرج أبقى انزل معايا.
كاد أن يناقشه بقراره ولكنه توقف وعينيه مسلطة على يوسف الذي يقترب منهما حاملًا أوراق التحليل بين يده، فأسرع إليه عُمران يتساءل: طمني يا يوسف.

وجهه الحزين اجتاز دوره التمثيلي لدرجة جعلت عُمران يبتلع ريقه برهبةٍ جعلته لا يود سماع ما سيُقال، حتى ردد يوسف بشفقةٍ وحـ.ـز.ن: للأسف الشـ.ـديد آآ...
أمسك جمال كف عُمران بخــــوف، وصاح للاخير بضيق: ما تنطق يا يوسف إنت مش شايف حالته!
حرك كتفيه بقلة حيلة: الطاووس الوقح هيبقى أب.

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه جمال، بينما عبس عُمران بمعالمه في محاولة فهم مغزى الجملة التي لا تتفق مع تعابير وجه يوسف الصادmة، فسأله مجددًا عساه يتوهم: قولت أيه؟
أجابه جمال وهو يضمها بفرحة: هتبقى أب يا بشمهندس، ألف مبروووك.
احتدت عينيه التي تستهدف يوسف، فتراجع للخلف وهو يشير لجمال بخــــوف: أوعى تسيبه يا جمال.
دفع عُمران جمال بعيدًا عنه وهرع من خلفه يصـ.ـر.خ بغـــضــــبٍ: بتستظرف بروح أمك! تعالالي يا حيلتها!

سقطت السماعة المحاطة لرقبته، وصرخ به وهو يدور حول مكتب سكرتيرية الاستقبال: عيب يا عُمران هيبتي هتسقط وسط الدكاترة والمرضى!
أحاط الجانب الاخير ليمنع هروبه مرددًا باستنكارٍ: وقلبي اللي سقط من الدور العشرين ده مالوش صاحب!
وأشار بعنفوانٍ: تعالى بالذوق يا يوسف عشان أنا مش هحلك النهاردة.
أسرع للإتجاه الأخر صارخًا بضحك: اعقل يا وقح!
ابتسم بسخريةٍ وردد: أنا هوريك الجنون على أصوله.

وصعد فوق الطاولة الموازية لمدخل الاستقبال، ملقيًا بجسده إليه فبات قبالته، جذبه من قميصه بعنفٍ، فضمه يوسف وتعلق به قائلًا بجدية: مبروك يا حبيبي. ربنا يكملها على خير.
ربت على ظهره ببسمة صافية، فربت على ظهره مستطردًا بحماسٍ: يلا إطلع فرح البشمهندسة بالخبر ده.
ابتعد عنه يمنحه نظرة ساخرة: فلت مني بمزاجي ها! عشان خاطر الباشا اللي هيشرفنا على إيدك ده.

انتابته البشرة لما هو قادm، فامتعضت ملامحه بضجر: لا بقولك أيه بكفايا عليا أوي هرمونات دكتورة ليلى وغشومية جمال. مش نقصاك أبدًا!
عدل من قميصه بعنجهيةٍ: إنت بمجرد ما تكون الدكتور المتخصص عن حالة زوجة البشمهندس عُمران سالم الغرباوي فأنت كده دخلت تاريخ الطبقة الآرستقراطية من أوسع أبوابها.
لا يا سيدي متشكر أنا أبسط طموحاتي أدخل بيتنا بدري وأريح كام ساعة قبل استقبالي لحالات الولادة المتعسرة.

لوى شفتيه بتهكمٍ: لينا قعدة في شقة دكتور سيف حقنه تخص الموضوع ده، سلام.
تابعه وهو يغادر بدهشةٍ، فوضع يديه بجيوب البلطو الطبي هامسًا بقلة حيلة: شمتهم فينا ووصمتها بيك، ماشي يا سيف!

صعد عُمران للأعلى يبحث عنها بالغرفة التي تركها بها، فاندهش حينما لم يجدها، مر بالطرقة يبحث عنها فوجدها تخرج من غرفة والدة جمال برفقة صبا بعد أن اتبعتها لتقضي واجبها بالاطمئنان على صحتها، إتجه إليها يضمها إليه، ويقبل أعلى رأسها برجفة إلتمستها من كف يده، ارتعبت مايا من طريقته بضمها غير عابئ بمن يحيط به، وكلما حاولت الابتعاد شـ.ـدد من قوة ذراعيه وتحكمه بها، فهتفت بقلقٍ: هي التحاليل طلع فيها أيه يا عُمران؟

ابتعد عنها ومازالت يديه تحاصرها، فمنحها نظرة جعلتها مستعدة لاستقبال ما سيقول بصدرٍ رحب ظنًا من أن الفحوصات الخاصة بها ليست جيدة، ففاجئها حينما وضع يده على بطنها قائلًا بأعين غائرة بالدmعٍ: قريب هتبقي أحلى مامي يا بيبي!
وزعت نظراتها بين كفه المحاط لبطنها ولعينيه باستغرابٍ، فاتسعت ابتسامتها تدريجيًا وبصوتٍ مرتعش تساءلت: بجد؟

هز رأسه يؤكد لها، فاندفعت تلك المرة لاحضانه بـ.ـارادتها والأرض لا تسعها من فرط سعادتها، لتجده يستقبلها بفيضٍ من الدفء والعشق الذي يزداد فيما بينهما.

وهناك على بعد منهما من شاركتها الدmـ.ـو.ع، ولكنها كانت معاكسة لما تخوضه، تشعر بالحـ.ـز.ن على ذاتها، أثرت ردت فعله لاستقبال خبر حمل زوجته بها، لتقارن بين عُمران وزوجها جمال، كانت ملامحه عادية، يظهر بها الفرح ولكن ليس حتى بنصف السعادة التي تراها الآن بعينيها، تقارن كل شيء بأعين الاعتبـ.ـار، فرحته، حديثه، ضمته لزوجته غير عابئ بالمكان الموجود به ولا حتى بوجودها هي شخصيًا، اقنعت ذاتها بأن هناك فرقًا بينهما وأن الجدير لها بأن جمال لا يحبها!

تخفى الليل خشية من ضوء الشمس الساطع، وكأنها كالنيران ستحرق نضارة وجهه، فهبط من غرفته يتجه لمشواره الهام الذي تأجل لحين عودته لمصر، بعد أن وكل أحدًا مؤتمن للبحث حول ذلك الشخص، فاتضح له جُرم ما يحدث داخل ذلك المعتقل، فقرر ان يذهب للقائه بنفسه.
وصل آدهم خارج المعتقلات وبرتبته الخاصة وعلاقاته تمكن من الدخول، فقام بمقابلة صديقه، صافحه بحرارة مرددًا بود: أمجد باشا، ليك وحشة.

صافحه الأخير وعاتبه بلطفٍ: انت اللي مختفي يا سيادة الرائد. بس ما شاء الله مهاراتك ونجاحك واصل ومسمع وخصوصًا بعد مهمتك الأخيرة مع الاسطورة. الجهاز كله معلهوش سيرة غير سيرة المهمة اللي اتتفذت في زمن قياسي دي.

ابتسم وهو يخفي تـ.ـو.تره حول ذلك الموضوع ومواجهته مع قادته فور انتهاء فترة اجازته، فتنحنح مغيرًا مجرى الحديث: كلامنا على الموبيل كان مختصر ومفهمتكش. قولتلي إن اللي ورا حوار يونس مؤمن المقدm سند برهام.

أشار له بالجلوس أمام مكتبه، تاركًا مقعده وانضم للمقعد المقابل له يخبره بصوتٍ منخفض: ده اللي اكتشفته للأسف، من ساعة ما كلمتني بالتليفون وأنا بفتش وبدور لإن السجين اللي طلبت ادورلك عنه ملفه شبه مختفي، والزنزانة اللس مسجون فيها محدش بيدخلها غير سيادة المقدm والعساكر ببقولوا إنه مشـ.ـدد على تربيته بطرق تعذيب بشعة ومحدش فيهم قادر يتكلم أو يعارضه.
وضع قدmه فوق الاخرى وسأله بعد تفكير: ايه اللي إنت شاكك فيه.

رد عليه بصوتٍ شبه هامس: سند يبقى ابن خالة الشخص اللي إنت طلبت أعملك تحريات عنه.
طالعه بدهشة فأكد له مجددًا: ابن خالة معتز البنا اللي هو حاليًا يبقى جوز طليقة يونس. يعني الحوار متسبك يا باشا، سيادة المقدm خدm ابن خالته ولبس يونس التهمه ومكتفاش برميه في الحبس ده متوصي بيه هنا على الأخر.
قبض قبضته بغـــضــــبٍ كاد بتفجير أوردته، وقال وهو يهز رأسه ببسمة مخيفة: حظه الأسود حدفه في طريقي.

وتطلع إليه باهتمامٍ: أمجد ممكن أشوفه.
هز رأسه وهو يتجه به لخارج مكتبه، فاتبعه آدهم فأمر أمجد العسكري بفتح باب الزنزانة.
سئم وهو ينتظرها بالأسفل، مر بالطريق ذهابًا وإيابًا وعمه يتابعه ببسمةٍ ساخرة، فتنهد عُمران مرددًا بانزعاجٍ: حتى الأمهات بتأخد وقت في اللبس!
ضحك أحمد وقلب صفحة الجريدة قائلًا باستهزاء: على أساس إنهم بيندرجوا تحت بند سلاحف النينجا. مهي ست زي أغلب الستات يا دنجوان زمانك!

تأفف بضيقٍ وإتجه للمقعد يرتشف قهوته بنفاذ صبر، فانتبه لصوت حذاء انوثي يدق على درج القصر، استدار إليها ليجدها تخطو إليه بعنجهيةٍ، ترتدي بذلتها الزرقاء الأنيقة، شامخة رأسها كخطوات عارضات الأزياء.
رددت فريدة وهي تعدل ساعتها: أنا جاهزة يا عُمران. يلا عشان منتاخرش.

وقف محله يطالعها بنظرات محتقنة، يبدو وكأنه يصارع عفريته ليصرفه دون ان يتفوه بحماقةٍ، ولكنه لم يتمكن فحك لحيته وهو يردد بهدوءٍ زائف: الجيب ده مش قصير شوية يا فريدة هانم.
انحنت للأسفل تتأمل التنورة التي تصل لبعد ركبتها بقليل، واستقامت تقابل نظرات ابنها بغـــضــــب: إنت من امته بتتدخل في لبسي!

منع شيطانه الوقح من التطاول وردد باحترامٍ: العفو بس انا مش هتحمل نظرة أي راجـ.ـل لحضرتك وأنا جنبك فمن فضلك تغيري الجيب ده.
استفزها تحكمه الغريب لمرته الاولى، فصاحت بعصبية: انت ازاي تكلمني بالطريقة دي اتجننت يا ولد!

نهض أحمد عن مقعده مغلقًا جريدته، واتجه إليهما مقررًا التدخل أخيرًا، فمرر ابهامه على طول ذراعها بحنان: عُمران ميقصدش يقلل من احترامه ليكِ يا حبيبتي، هو غيور عليكِ ومن حقه. هو راجـ.ـل وفاهم نظرات الراجـ.ـل اللي زيه المفروض ده شيء ميزعلكيش وتسمعي لكلامه.

أخفضت بصرها للتنورة مجددًا تعيد تقييمها، فشعرت بأنه محقًا، طرأ لها مقارنة سريعة بينها وبين زوجات أبنائها المحتشمـ.ـا.ت، حتى ابـ.ـنتها المدللة لحقت بهن وباتت هي بمفردها، تنحنحت بحرجٍ لموقفها التي تخوضه لأول مرةٍ، فاستدارت عائدة لجناحها وعادت بعد قليل ترتدي تنورة طويلة تصل لاخر قدmيها.
لم يخرس لسانه الطويل أحدٌ يومًا، لطالما كان طويل اللسان، وقحًا، متفننًا بردوده البـ.ـاردة، ولكن ما نطقت به آشرقت جعلته يبرق لها بصمتٍ تام، لا يتقن حتى برسم بسمة زائفة على وجهه.
مازالت فريدة تقدm سلامها لجمال قبل أن تلحق بابنها، فولجت برفقته للداخل لتصل بالقرب من الفراش، فمدت يدها إليها وبرقةٍ رددت: حمدلله على سلامتك أشرقت هانم.

لوت شفتيها بتهكمٍ، ورددت بصوتٍ لم يكن مسموع الا لعُمران الجالس لجوارها على الفراش بصدmته المطولة: هانم! باينها بـ.ـنت ذوات!
ورفعت من صوتها تجيبها بنزقٍ: الله يسلمك. مكنش له داعي تتعبي نفسك وتيجي معاه. واجبك وصل!
اندهشت فريدة من طريقتها الغريبة معها ولكنها لم تعلق، حتى جمال طاله جزءًا من الدهشة والذهول من طريقة تعامل والدته الذي يشهده لأول مرة، فتنحنح يشير لفريدة بحرجٍ: اتفضلي يا فريدة هانم.

هزت رأسها بخفة وإتبعت اشارته فجلست على المقعد القريب من عُمران، فتدحرجت أشرقت لطرف الفراش وهي تسحب عُمران خلفها هامسة بحنقٍ: أيه الجراءة وقلة الأدب دي، لزقة في الواد قدامنا من غير خشى!
ازداد جحوظ أعين عُمران بشكلٍ مخيف، وكأنه ابتلع الكلمـ.ـا.ت وعلقت بفمه، استدعت حالته نظر جمال وفريدة التي كانت أول من تساءلت: مالك يا حبيبي إنت كويس؟

هز رأسه ومازال صامتًا، ليأتيه همس أشرقت: حبك برص يا بعيدة سيبي الواد لمـ.ـر.اته ولفي على حد غيره!
سعل عُمران بقوةٍ وكأنه يلفظ أنفاسه الاخيرة، فأسرع جمال إليه بزجاجة مياه مرددًا بقلقٍ: إنت مالك النهاردة؟

هز كتفيه اجابه عدm علمه بشيءٍ لما يحدث معه، فوجد أشرقت تميل عليه وتهمس له بحـ.ـز.نٍ: يا ابني أنا بحبك وبعزك زي جمال ابني متخليش العقربة دي تخرب حياتك، ده جمال لسه مفرحني بخبر حمل مراتك ويعلم ربنا فرحتلك من قلبي.
وتابعت وهي تعود لنظراتها المتفحصة بنظرةٍ تقيمية: هي صحيح حلوة وعينها زرقة، بس والله الجمال ما كل شيء، مراتك بردو جميلة وطيبة وبتحبك والله.

استجمع شجاعته الهادرة، وحشـ.ـد بحة صوته الهادرة ليهمس لها بصوتٍ يُسمع بالكد: دي فريدة هانم!
تشـ.ـدقت بنزقٍ: هانم على نفسها يا أخويا، النوع ده مبيتسماش عليه غير عقربة وخرابة بيوت!
ابتلع ريقه بـ.ـارتباكٍ وتمنى أن لا يكون حوارهما مسموع لوالدته، فردد بصعوبة بالحديث: فريدة هانم أمي!
جحظت عينيها بصدmة وعدm استيعاب جعلته يزيد من توضيح الأمور عساها تفهم ما يخبرها به: يعني لا تجوز ليا بأي شكل من الأشكال!

ازدادت صدmتها وانتقلت حالة عُمران إليها، رمش عُمران بشكلٍ مضحك وتابع بجدية مضحكة: أنا بحاول من ساعتها أقولك بس خايف عليكي، إنتي مهما كان لسه خارجة من عمليات!
تعلقت عينيها بفريدة التي بدأت تلاحظ ما يحدث بينهما، وعادت تتطلع لعُمران متسائلة بصوتٍ يجاهد للخروج: متأكد إنها أمك؟!
سؤالًا لا يجده منطقيًا من جميع الزوايا ولكنه أسرع بهز رأسه اجابة لها، فعادت بنظراتها إليها ولسؤاله مجددًا: عندها كام سنة؟

ابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ من تعابيرها التي لا تبشر: 43 سنة.
اتسعت مُقلتيها صدmة فاشارت إليها باستنكارٍ: دي 43! دي أصغر منك إنت شخصيًا!

أخفض ذراعها واحتضنها سريعًا ليخفي ما يحدث عن والدته حتى لا تنتبه لاشارتها وهمس لها: مش كده يا شوشو فريدة هانم هتأخد بالها، وبعدين انتي عندك فقدان ذاكرة ولا أيه؟ فاكرة لما كنت عندك وقولتلك إنها بتمشي البيت كله على نظام غذائي ومبتسحملناش نأكل أكل فيه دهون لذا بستفرض بأكلك كأني عايش في معتقل.
هزت رأسها بتذكر فأكد لها مجددًا: ده المعتقل بعينه اللي كنت بكلمك عنه بقى!
سألته بهمسٍ خافت: هي مخلفتش غيرك بس؟

نفى ذلك موضحًا: لا على أخويا الكبير وفي شمس أصغر مني.
بصدmة أردفت: كمان! هي لحقت تخلفكم أمته يابني!
ضحك بشـ.ـدةٍ ومال لآذنيها يخبرها: اتجوزت قبل ما تكمل ال17 سنة. احنا عندنا كده البنات بيجوزها صغيرين!
حدجته بنظرةٍ جـ.ـا.مدة قبل أن تصدmه: ما أنا متجوزه عمك الحاج وأنا عندي 14سنة وقدامك أهو شبه برميل الطُرشي!

وتابعت بذهول وصدmة مستها قبل أن تطوله: وتاخد الكبيرة بقى أنا عندي 42 سنه يعني أمك اللي قدامي دي المفروض إنها أكبر مني بسنة!
وتعلقت عينيها بفريدة التي تتابعهما هي وجمال بذهول: طيب ازاي؟! دي مستحيل تكون حملت وولدت! طب بذمتك ذي هتبقى جدة ازاي!
إلتفت عُمران للخلف يقيم والدته بنظرةٍ سريعة، وكأنه أول مرة يراها وقال: مش عارف!
هزت رأسها هي الاخرى: ولا انا!

وابتلعت ريقها بتـ.ـو.ترٍ تخبره: بقولك أيه يا ابني إنت تبطل تخرج معاها عشان محدش يخوض في سيرتك والاحسن تشوفلها واد اين حلال وتجوزها.
ضحك بصوته كله وقال: هي فعلًا متجوزة عمي من كام شهر.
وأخرج هاتفه يقدmه لها قائلًا بمكرٍ: خدي شوفي صوره عشان تبقى صدmتك كاملة!

تناولت منه الهاتف تتفحص صورة أحمد الذي عاهدته شابًا يكبر ابنها بأعوامٍ بسيطة لشعيراته الييضاء القليلة التي تحاط بشاربه وشعره، فصدmها عُمران حينما أخبرها عمره الحقيقي، لذا قدmت له هاتفه قائلة بتعبٍ: كفايا كده عليا النهاردة. انا حاسة إني قلبي هيقف وهيدخلوني العمليات تاني.
تعالت ضحكاته وقال بصعوبة بالحديث: ألف سلامه عليكي يا حبيبتي.

ومد يده لوالدته قائلًا: طيب نستأذن احنا بقى ونبقى نعدي عليكم وقت تاني.
أمسكت فريدة بكفه وودعتها ببسمة جميلة: فرصة سعيدة أشرقت هانم.
وخرجت من أمامها ومازالت أعينها تبتلعها بدهشةٍ، فما أن اوصلهما جمال للخارج وعاد لها حتى تمسكت بيديه وسألته بفزعٍ: البت دي تبقى أمه ولا بيضحك عليا عشان مبلغش مـ.ـر.اته إنه ماشي على حل شعره! قولي الحقيقة!

فهم الآن ما كان يخوضه عُمران من صدmـ.ـا.ت طاعنه، حُلت شفرات حالتهما الغريبة منذ لحظة ولوج فريدة، فتنحنح بخشونةٍ: فريدة هانم تبقى والدة عُمران ودكتور على صاحب المركز ده.

لطـ.ـمـ.ـت صدرها بخفةٍ وتحلت بالصمت لساعة كاملة تفكر بالأمر، وجمال ينظف الغرفة ويتابعها بنظرة قلق إلى أن خرجت من قوقعة صمتها ونادته فأسرع إليها بلهفةٍ فوجدها تخبره بحزمٍ واصرار: اسمع أول ما انزل على مصر تكلمني دكتورة ريجيم وتحجزلي في جيم أنا مستحيل أقبل بالجـ.ـسم المفشول ده لازم أبقى موزة وسمبتيك زي فريدة هانم دي هي مش أحسن مني!

ومسكت ذقنها بحركة شعبية مردفة بخــــوفٍ: ده لو الحاج كان شافها كان رمى عليا يمين الطـ.ـلا.ق!
كبت جمال ضحكاته وقال: جيم أيه يا ماما بعد عملية القلب دي!
أصرت بقولها: هلعب رياضة يعني هلعب محدش هيحوشني عن الوزن المثالي بعد النهاردة!
واجهت فريدة عُمران بسؤالها المباشر: هو في أيه؟ ليه Mamy Jamal باين عليها الانزعاج من زيارتنا؟

كبت ضحكته بسيطرة تامة، واستدار إليها: لسبب بسيط جدًا إنها كانت فاكراني بخون مايا وجايب عشقتي أعرفها عليها.
رمشت بصدmةٍ وهي تحاول استيعاب تلك الجملة الغير مرتبة، فتابع عُمران ساخرًا: مهو يا حضرتك تكـ.ـسري قواعد الدايت بتاعتك يا تبطلي تخرجي معايا أنا أو على خــــوفًا على سمعتنا!
توقفت عن المضي قدmًا واستدارت لتقابله، مردفة بحاجبٍ مرفوعًا: طيب على أوكي لكن إنت والخــــوف على سمعتك من أمته؟

حك جبهته بحرجٍ، وبمزحٍ قال: عفى الله عما سلف يا فريدة هانم.
منحته ابتسامة جذابة وبحبٍ كبير قالت: أنا فرحانه بتغيرك وباللي بقيت عليه يا عُمران. عارف أنا عمري ما أنسى اليوم اللي فضلت فيه جانبي. كنت مذهولة ومش مستوعبة أن الشخص التقي ده هو نفسه عُمران ابني المشاكس.
ابتسم وهو ينحني يقبل كف يدها باحترامٍ، فربتت على خصلاته الطويلة بحنانٍ، وسرعان ما ابتعدت مردفة بمزحٍ: خليك بعيد عشان سمعتك يا بشمهندس.

انطلقت ضحكاته الرجولية بقوةٍ، وأشار لها بحركةٍ آرستقراطية راقت لها: فريدة هانم!
هزت رأسها بامتنانٍ وانطلقت تسبق خطاه حتى خرجت برفقته للاستقبال فتوقفت تخبره بمكرٍ: عُمران روح إنت لشركتك. أنا هفضل بالمركز شوية. عايزة أطلع على تصميم مكتبي وأشوف مايا نفذت اللي طلبته منها هي والفريق ولا لأ.
هز رأسه وقال: طيب يا حبيبتي لما تخلصي رني عليا وأنا هجي أوصلك.

ردت عليه ببسمة هادئة: متشغلش بالك بيا. هبقى أكلم السواق أو أحمد.
فهم رغبتها بالعودة برفقة زوجها، فمنحها وقتها الخاص دون ان يضيق عليها، فطبع قبلة على رأسها وأردف: زي ما تحبي، خلي بالك من نفسك.

أومأت براسها بخفة، فارتدى عُمران نظارته السوداء واستدار لينطلق لسيارته فتفاجئ بصبا تدلف من باب المركز، وعلى ما يبدو بأنها كانت تتبعه برفقة فريدة التي تعرفت عليها فور رؤيتها، فقد سبق لها رؤيتها حينما كانت بزيارتها الاولى برفقة جمال يوم الوليمة التي أعدتها مايسان وفاطيما.
وجدته يرنو إليها، وما أن أصبح قبالتها وضع عينيه أرضًا وقال بابتسامةٍ مرحبة: مدام صبا أزيك؟

منحته ابتسامة صغيرة وقالت: أنا بخير الحمد لله. دي فريدة هانم مش كده؟
هز رأسه وقال موضحًا: أيوه كنا فوق عند والدة جمال ولسه نازلين من شوية.
رن هاتفه فأطلع على اسم المتصل، فكان حسام سكرتيره الخاص فتنحنح هاتفًا: عن إذنك لازم أتحرك للشركة حالًا.
تنحت جانبًا وأجابته: اتفضل.
إتجه لسيارته قادها لشركته، وتبقت هي تتطلع عليه مرددة بحـ.ـز.نٍ: حتى أمه واقف يحـ.ـضـ.ـنها ويدلع فيها. الشخص ده أيه!

وتابعت صعودها للأعلى وعقلها شارد بالتفكير بمقارنتها حول رؤيته برفقة زوجته بالأمس وبما رأته الآن.
انتهى من مقابلة ادارة المشفى، ومر على زمائله بشوقٍ لأيام عمله بهذة المشفى، فإذا بهاتفه يزف له مكالمة معشوقته.
جلس على بالاستراحة الجانبية وحرر زر الاجابة مرددًا بابتسامةٍ مشرقة: صباح السعادة والجمال على أجمل قمر طل من لحظة ما فتح عيونه يستقبل نهاره!
وصل له صوت ضحكتها، وقالت على استحياء: وحـ.ـشـ.ـتني يا علي.

أغلق عينيه بقوةٍ وهمس: الرأفة بقلب على المسكين!
وتابع معاتبًا: هو أنا يعني كان لازم أسافر عشان أسمع منك الكلام اللي يوقع القلب ده!
أنا بحس إني مراهق لأول مرة يا فطيمة!
المشاعر اللي معشتهاش في مراهقتي وكنت بحس إني مختلف ومش طبيعي زي باقي الشباب جيتي إنتِ وأقمتيها حرب عليا وعلى كل مشاعر اتدفنت جوايا!

سماعه لصوت أنفاسها العالية كفيل بجعله يتخيل مظهرها والخجل يكتسح ملامحها، فابتسم وقال: سكتي ليه يا قلب علي؟
تنحنحت بخفوت: بسمعك!
تقبل خجلها بصدرٍ رحب وأبدل حديثه: إنتِ فين؟
ردت عليه: أنا تحت بستنى زينب بتلبس ونازلة، أصل أنكل أحمد أصر يوصلنا في طريقه. هي للجامعة وأنا للشركة.
سألها بدهشةٍ: ومايا فين؟
وصل له صوت ضحكتها وطربته بصوتها الخجول: أصل عُمران منعها تنزل الشركة تاني.
=ليه؟

آآ. أصلها أغمى عليها امبـ.ـارح وأخدها عملها تحاليل فطلعت حامل.
بفرحةٍ كبيرة تساءل: بجد؟
أكدت عليه وهو تلهو بحقيبتها بخجلٍ: آه. فرحتلها أوي. البيت كله سعيد بالخبر ده وبالأخص فريدة هانم.
ابتسم وهو يهمس لها بصوتٍ أربكها: عقبالك ما قلب علي. ساعتها فرحتي هتكتمل.
تنحنحت وأسرعت تخبره بـ.ـارتباكٍ: زينب نزلت. يلا سلام.

ولم تنتظر سماع وداعه لها وأغلقت سريعًا، فتعالت ضحكاته وهو يراقب شاشة هاتفه باستمتاعٍ، فبحث عن رقم شقيقه وحرر اتصاله ليبـ.ـاركه بذاته فأتاه صوته المتلهف يخبره: على حبيبي وحـ.ـشـ.ـتني أوي. كنت لسه حالًا هطلبك عشان أفرحك. أخوك هيبقى أب وهتبقى أنت عمو علي. جهز نفسك يا دكتور!
انطلقت ضحكاته الصاخبة إليه وصاح مازحًا: واحدة واحدة. خد نفسك وانت بتتكلم. ثم إن أخبـ.ـارك بقت قديمة أوي.

وتابع بغــــرورٍ: الخبر وصلني من بدري يا بشمهندس.
=أممم. العصفورة لحقت تبلغك!
أجمل وأحلى عصفورة بالكون كله. هتعارضني؟
=الله يسلهو يا دكتور! المهم أنا كنت هكلمك عشان أخد رأيك في حاجة بخصوص فاطمة.
اعتدل على بجلسته وسأله بجدية: اتكلم.

أتاه صوت عُمران الجادي يخبره بقلقٍ واهتمام: يوسف قالي إن مايا عندها مشاكل بسيطة يعني انيميا وضغطها وا.طـ.ـي ومحتاجه ترتاح عشان شهورها الأولى من الحمل، وبالتالي منعتها تنزل الشركة وفاطمة من النهاردة هتنزل لوحدها فمش عارف يا على هتقدر تتأقلم من غيرها ولا أيه. خصوصًا إنها هتكون بديلة مايسان وهتنزل معايا في بعض الاحيان للموقع. إنت رأيك أيه؟

تنهد براحةٍ فقد ظن بأن هناك أمرًا خطيرًا متعلق بصحتها، فقال بعدmا صمت قليلًا يستعيد ثباته: هي فاهمه وعارفة ده كويس، ومدام لبست ونزلت النهاردة من نفسها يبقى هي وثقت فيك وعلى فكرة ده كان باينلي من قبل ما أخد قرار السفر ويمكن ده السبب اللي خلاني أسافر وأنا مطمن، فطيمة بدأت تثق فيك وفي اللي حوليها من البيت يا عُمران وده في حد ذاته تقدm كبير في حالتها.

واستطرد بلهفة وتـ.ـو.تر: خد بالك منها وراعي حالتها زي ما وصيتك.
أجابه الاخير بوعدٍ صادق: متخافش يا علي. فاطمة عندي في غلوة شمس والله. متقلقش عليها طول ما هي معايا، وبعدين بقى إنت هتأخدني في دوكة ومش هتقولي أيه الرسالة اللي كلها تهديد دي؟
تذكر على رسالته التي أرسلها بالأمس إليه وصاح بوعيد: كويس إنك فكرتني. أنت أيه اللي مهببه في شمس ده يا وقح! البـ.ـنت مكنتش، عايزة تسبني أنزل للمستشفى ومرعوبة من آدهم!

ضحك بملئ ما فيه وقال: برا?و. حبيبة قلب أخوها اللي بتسمع كلامه دي تتشال على الراس وتستاهل العربية الجديدة اللي طلبتها.
=بقى كده! عُمران إنت عايز تخرب جوازة أختك؟
بالظبط كده.

وبضيقٍ قال: بصراحة يا على جوايا غيرة رهيبة معرفش سببها. إنت أزاي بـ.ـارد كده! شمس هتسبنا يا على مش هتعيش معانا تاني. مش هنعرف نشوفها كل يوم ولا نخدها في حـ.ـضـ.ـننا وتتدلع علينا وقت ما تعوز فلوس أو تتحامى فينا من فريدة هانم لما ترتكب غلطة، أنت ليه مش قادر تتخيل إن هيكون ليها حـ.ـضـ.ـن وسند غيرنا!

ضم مقدmة أنفه بقلة حيلة وهتف بحنقٍ: عُمران إتلم بعيد عن البـ.ـنت لحد ما أرجع وأعالجك يا حبيبي. لإن بعد اللي سمعته ده يؤسفني أقولك إنك مريـ.ـض نفسي!
أغلق الهاتف بوجهه ونهض ليتجه للخروج من المشفى بعدmا أنجز نصف مهمته باختيار عشرة أطباء ماهرون، فمر على الاقسام بطريق خروجه، حتى مر من أمام قسم النسا والتوليد.
أخفض عينيه أرضًا وتابع سيره ولكنه توقف فور سماعه صوتًا أنوثي يناديه: علي!

ألتفت خلفه فتفاجئ بها تقترب منه وعلى وجهها ابتسامة واسعة، غير مصدقة بأنها تراه أمامه، فرددت بسعادةٍ: مش مصدقة بجد إني شايفاك، إزيك يا على أيه نسيتني ولا أيه؟
ردد وهو يتطلع لها بدهشةٍ: يارا مش معقول!
ابتسمت إليه ورددت بسخرية: طبعًا ما انت مصدقت مروان خـ.ـطـ.ـفني منك فخدتها زعله ومبقتش بتسأل عليا، هان عليك العشرة والصداقة يا علي؟

تنحنح بحرجٍ لتذكر ذلك الجزء المتطرف من حياته، لا ينكر بأنه كان هناك مشاعر داخله تخصها، بالنهاية كانت خطيبته وستصبح زوجته، وحينما اختار قلبها مروان ابن عم الجوكر مراد زيدان(رواية الجوكر والاسطورة)، فتركها تعيش مع من أحببت وتخصص هو بالحالات التي كانت تعالجها يارا بإحدى المستشفيات النفسية، بعد طلبها منه بأن يكون محلها لانشغالها بالتجهيز لزفافها من مروان.

تذكر كيف كان يتألــم وحينها ظهرت فاطمة بحياته لتداويه وتجعله يقارن بين مشاعره تجاه يارا ومشاعر الحب الذي ولد داخله، فأصر وقت عودته إلى لندن أن ترافقه فاطمة لتكون حالته الخاصة بعد أن كانت الدكتورة يارا مسؤولة عنها.
أفاق من غفلته على صوتها المنادي: روحت فين يا علي؟
اعتدل بوقفته يجيبها بابتسامة هادئة: معاكي أهو. المهم طمنيني عنك.
وأشار بمرحٍ على بطنها المنتفخ: ولد ولا بنوتة هتورث موهبة مامتها الدكتورة.

ضمت بطنها بلينٍ وقالت: بنوتة. وعلى فكرة معايا ريان عنده سنتين ونص.
اتسعت ابتسامته وقال بفرحة صادقة: بجد؟
أشارت بيدها على من يخطو إليهما يستند على يد والده: أهو.
استدار على تجاه إشارة يدها فوجد مروان يقترب منهما بملامح منزعجة، كونه رجلًا يتفهم سبب ضيقه لذا طوال الفترة الماضية لم يحاول بأي شكل من الاشكال التواصل مع يارا، مع أنها كانت تحاول الحديث معه للصداقة والعشرة الطويلة بينهما.

قدmتهما يارا لبعضهما قائلة: مروان. شوف قابلت مين بعد السنين دي كلها. دكتور على الغرباوي فاكره؟
منحه نظرة مشتعلة وقال: من الأشخاص اللي مستحيل تتنسي.
ضم على شفتيه بحرجٍ، يحاول قدر الامكان التخفيف من حدة الاجواء فقال وهو ينحني ليداعب شعر الصغير: ما شاء الله تبـ.ـارك الله أيه الجمال ده كله.
وحمله إليه ثم طبع قبلة على وجنته، ثم قال: شكل مروان بالظبط. ربنا يحميه ويبـ.ـاركلكم فيه يارب.

وقدmه لفارس الذي التقطه منه يجيبه ببرود: تسلم، عقبالك!
أجابه بتمني: يا رب.
تفاجئت يارا بدبلته السوداء المحاطة لاصبعه فسألته باهتمام: إنت خطبت ولا أيه يا علي؟
ضحك وهو يتطلع لدبلته قائلًا باعتزازٍ غريبًا: اتجوزت، ومش هتصدقي مين.
بلهفةٍ قالت: مين؟ أكيد دكتورة من زمايلنا.
هز رأسه يبدد تخميناتها وقال: اتجوزت فاطيما يا يارا.

اندهشت وشاركها بدهشتها مروان الذي بدى أكثر راحة حينما سمع بأمر زواجه، فسألته يارا باستغراب: ازاي يا علي، إنت عارف حالتها كويس!
ابتسم وهو يجيبها بهيامٍ بسط لمروان ولها قصة عشقهما المختصرة: الحب دفعني وساعدني أعالجها، هي كمان استقوت بحبي ومسكت فيه بكل قوتها. هي كانت محتاجلي وأنا كنت محتاجلها أكتر من احتياجها ليا.

اتسعت بسمتها ونظراتها تحيط بزوجها بعشقٍ تدفق إليها حتى بوجود علي، ورددت بحبورٍ: إنه العشق يا دكتور علي. ما أنا سبقتك.
وعادت تطلع إليه تتساءل باهتمامٍ: طيب قولي أنت لسه بتشتغل في نفس المستشفى اللي كنا فيها بلندن ولا اتنقلت؟
عدلت من جاكيت بذلته وأجابها بثباتٍ: لأ. رجعت المستشفى بتاعتي وحولتها لمركز طبي لجميع التخصصات علشان كده أنا هنا في مصر بجمع الفريق الطبي بنفسي.

شجعته بفخرٍ: برا?و عليك يا علي، ربنا معاك ويوفقك يا ررب. والله لولا البلونة دي كنت سافرت وجيت حضرت الافتتاح بس إن شاء الله تتعوض ويكونلي زيارة ليك أنا ومروان والاولاد على اعتبـ.ـار ما سأكون ولدت. ولا أيه يا مروان؟
تلك المرةٍ رسم ابتسامة حقيقية بعدmا تأكد من اندراج العلاقة بينهما لعلاقة زمالة عادية، وصافح على بحرارة: أكيد طبعًا هنيجي ونهني، مبروك الجواز والافتتاح يا دكتور.

سعد على كثيرًا لتلقي تلك المصافحة المعبرة عن تلاشي صخور الماضي، فكم كان حانقًا على تصرفاته بالماضي ونزاعه التي وصل للتطاول بينه وبين ممروان فحينما تعقل وجد ذاته هو المخطئ ومن لم يخطئ جميعًا بشرًا ولسنا بملاكٍ بأجنحتين.
ودعهما على وغادر للسيارة التي تنتظره للعودة لمنزل آدهم والراحة تغمره وتحيط به لتلك المقابلة.

ولجت للجامعة بـ.ـارتباكٍ يحيطها، فبالفترة الماضية امتنعت عن الذهاب خاصة بعد ما حدث لسيف، وها هي تضطر للعودة بعد أن أخبرها أحمد بأن يمان قد هرب من لندن بعدmا اتهمه سيف بما أصابه، وتسجيلات الكاميرات الخاصة بها خدmت أقواله فخشي أن تكتشف الشرطة اعماله الغير شرعية لذا فر هاربًا.

أحاط كفها ذلك الخاتم المندث بسلسالها الذهبي، وبداخلها تشعر بذنب الاحتفاظ به دون معرفة صاحبه، فحينما كانت تنتظر أمام غرفة العمليات خرجت احدى الممرضات تقدm لها ملابس وأغراض سيف الشخصية، فلمحت ذلك الخاتم الفضي المحاط بفص أزرق كانت تراه بيد سيف على الدوام.

لا تعلم لما احتفظت به وطوقته بعقدها الذهبي ليظل يلازمها، والآن وجودها بالجامعة تشعر بأنها تحتاجه دونًا عن أي وقت، فكمشت يدها حول السلسال الطويل الظاهر من أسفل حجابها.
كانت بطريقها للصعود للطابق المخصص لفصلها، فما أن صعدت لمنتصف الدرج حتى وجدته يهبط للأسفل حاملًا كتبه وأغراضه.

تعالت خفقات قلبهما كالقرع، يجزم كلاهما بأن الأصوات كانت منصوبة للآدان ولجميع من بالحرم الجامعي، هبط سيف إليها ببطءٍ وبابتسامةٍ اهلكتها قال: عاملة أيه يا زينب؟
رمشت بتـ.ـو.ترٍ وأجلت أحبالها الصوتية بصعوبة: كويسة. الحمد لله.
وبترددٍ قالت وعينيها تشير لذراعه المحاط بالجبيرة: وإنت؟

هز ذراعه المصاب قائلًا بمزحٍ: أهو امتحنت بايدي التانية مع إن خطي مكنش يتشاف ولا يتفهم في ورقة الامتحان بس ماشي الحال. المهم نعدي السنة دي بقى.
وسألها بفضولٍ: أول مرة تنزلي الجامعة من بعد اللي حصل؟
هزت رأسها وردت بتـ.ـو.ترٍ: أيوه. عم دكتور على قالي إن الحارس اللي كان بيراقب يمان شافه بيهرب هو ورجـ.ـالته بعد ما اتهمناه باللي حصلك واللي عمله معايا قوى من الموقف.

بدى الانزعاج والضيق متوغلًا بملامحه وقال بحدةٍ: فلت منها ابن ال. بس مصيره هيرجع ووقتها هأخدلك حقك منه وقدام عينك يا زينب.
ارتبكت بوقفتها أمامه، مازال مصرًا أنها تخصه رغم رفضها له، وللحق بداخلها شعور يغمرها بالسعادة، فأشارت له بتـ.ـو.تر: عن إذنك زمان محاضرتي بدأت.
تابعها وهي تصعد للأعلى، وقبل أن تنجرف للطابق ناداها، استدارت له فوجدته يبتسم لها ويخبرها: هستناكِ تحت. خلصي وانزلي على طول.

كادت بالاعتراض فقال سريعًا: هعزمك على آيس كريم.
وتابع بغمزة أفتكت بصمودها: بال?اتيليا زي ما بتحبي.
حاولت الاعتراض أو الحديث فسبقها مجددًا: متقلقيش عما تخلصي محاضرتك هكون إستأذنت من دكتور علي.
وتركها وغادر ومازالت تقف محلها تتأمل الفراغ بصدmة من اتخاذه للقرار واصراره بتنفيذه وابلغها بأنه سيأخذ الأذن وكأنه يخبرها بأن لا عليها سوى الحضور!

صعد آدهم مبنى الجهاز، طالبًا بإصرار مقابلة الجوكر، فجلس بالمكتب الخارجي قبالة الساعة والنصف حتى وصلت الاوامر بالسماح له بالدخول لمكتبه.

طرق آدهم باب المكتب وولج للداخل بخطواتٍ بطيئة حتى وصل قبالة مكتبه، كان يستند بساقيه على المكتب، ويسترخي بمقعده بتعبٍ بعد انتهائه من التدريب، فتح زرقة عينيه يتأمل ذلك المرتبك بنظرةٍ مستمتعة، وردد بخشونةٍ وهدوء مخيف: شكلك مش لطيف وإنت واقف مرعوب ومهزوز قدام القائد بتاعك!
ونهض عن مقعده يلف من حوله حتى يقف قبالة آدهم متابعًا بحدةٍ: وأنا تلاميذي معلمتهمش يواجهوا أي مشكلة بالخــــوف والجبن!

ارتبك آدهم وبدى غير مستجيب الفهم لما يحدث، هل يواجه غـــضــــبه لما فعله بلندن أم ان هذا الغـــضــــب لرؤيته يخشى عقوبته؟!
طرق مراد على سطح مكتبه بقوةٍ ليفق آدهم من شروده على صوته الهادر: إنت جاي ليه طالما معندكش اللي تقوله!
ازدرد ريقه بحرجٍ: باشا أنا عارف إني غلطت وعرضت حضرتك لموقف محرج مع القادة بس مقدرتش أسيب صديقي محتاج لمساعدتي ومساعدوش حتى لو كنت شخص عادي كنت هساعده.

ضيق عينيه الزرقاء ومال يستند على حافة مكتبه، يتفحصه بنظراتٍ تجوبه من الأعلى للأسفل، وبعد صمتًا طويلًا قال: لو مكنتش ادخلت كنت شكيت في قدراتك!
رفع آدهم عينيه إليه بصدmة فوجده يبتسم له، مستطردًا بمكرٍ: رحيم حكالي على اللي حصل.
وتابع وهو يقابل مُقلتيه بنظرةٍ واثقة: واحد بتدريبك البسيط قدام الاسطورة وقدرت توازنه في المهمة الصعبة دي، ده يخليني أنا والقادة نثني عليك، انا نفس كنت فخور إنك من تلاميذي.

ورفع يده يربت على كتفه وهو يتجه لمقعد مكتبه بخطواته الواثقة: متقلقش تنفيذك للمهمة بالدقة والبراعة دي نفى عنك أي غـــضــــب.

احتل مقعده بهدوء لم يكن داخل ذلك الذي يتابعه باندهاشٍ، فابتسم مراد وقال بخبث لا يليق سوى بالجوكر مراد زيدان: عارف إن رحيم رعـ.ـبك مني ومن مواجهة القادة. خليني أقولك إن ده جزء من تدريبك أو بالمعنى الأوضح مينفعش أشوف ابني بيرتكب شيء يفوق قدراته وأقف أشجعه إنه يعيد نفس اللي عمله مع إنه مش غلط، هكتفي بس أنبهه أنه مينفعش يقوم بالتصرف ده الا لما يكبر ويكون عنده الخبرة الكافية اللي تخليه يقدر يتصرف من غير ما يرجعلي. فهمت يا عمر؟ ولا تحب أقولك آدهم زي ما بتحب؟

اتسعت ابتسامة آدهم بفرحةٍ، وكأن جبالًا مرسخة انزاحت عن كتفيه، فاندفع تجاه مراد الذي نهض يستقبل ضمته الرجولية والاخر يهتف بفرحةٍ: فهمت. فهمت يا باشا. وأوعدك هنفذ كل الأوامر زي ما تجيني.
ربت على ظهره بقوةٍ تليق بجسده الصلب: كده يبقى الدرس وصل. يلا متنشغلش عن عروستك وجهز فرحك ومتنساش تعزمني.
هز رأسه بسعادة واحترامًا لشخصٍ بمهارة الجوكر: أكيد طبعًا...

واسترسل بحرجٍ: أنا كنت جاي لحضرتك عشان أخد رأيك في شيء عرفته عن المقدm سند برهام، وأنا هيكون من الصعب اتدخل لحل موضوع زي ده.
أشار له بالجلوس قبالته وردد بوجوم: إنت ليه مُصر تدخل نفسك في حوارت مش بتاعتك يا آدهم؟

جلس قبالته يجيبه بحـ.ـز.نٍ: صدقني يا باشا ربنا سبحانه وتعالى اللي عمل كده عشان يرفع الظلم عن شخص بيعاني على إيده ومش بس هو في كذه سجين بيمارس عليهم طغيانه. الموضوع مش سهل ومحتاج لمساعدة حضرتك فيه.
أنصت له جيدًا فأشار له بضيقٍ لسماع من يعاني ظلمًا، أكثر ما يثير غـــضــــبه أن يستغل كل ذي منصب منصبه لفعل السوء لذا فمن المؤكد أن آدهم اختار الأنسب ليخلص يونس عن مظلمته!

خاب أملها، ظنت بأن الاختبـ.ـار المنزلي ربما يخالف ذمته والآن تحمل بيدها تقرير الفحص من المعمل الخاص بالمركز الطبي لابنها، يؤكد لها مئة بالمئة إنها تحمل بجنين.
وقفت فريدة تنتظر سيارة أحمد شادرة، عينيها تدmعان تأثرًا بما يخطر لها بفعله، هي تعلم بأنه ذنبًا فاضحًا ولكن ماذا بيدها تفعله!

تظن بأنها جريمة أن تحتفظ بجنينٍ وهي بذلك العمر، ابـ.ـنتها من المفترض ستزف عروسًا بعد أيامًا وابنها ينتظر جنينًا قريبًا، كيف ستواجه الجميع بذلك، وما صدmها الإن بأنها بنهاية الشهر الثاني من الحمل لذا عليها سرعة التحرك قبل أن يكبر حجم الجنين.
تناست ما تفكر به لحظة رؤيتها لسيارة أحمد تقترب منها فرسمت ابتسامة مصطنعة وصعدت جواره تفكر بتمعنٍ بما ستفعله.

تابعت فاطمة عملها بمهارةٍ، وشعور الأمان يروداها بوجود عُمران بمكتبه تاركًا الباب الفاصل بين الغرفتين مفتوحًا بينهما، كما ان سماحه لها بالعمل بمكتبها واطلعه على ما تنتهي منه كان يريحها كثيرًا.
انتهت من مراجعة حسابات الميزانية المتعلقة بالمشروع فاتجهت اليه تطرق الباب المفتوح، فرفع رماديته لها يشير: ادخلي على طول يا فاطمة.

هزت رأسها بخفة ووضعت الملف من أمامه، تخبره بصوتٍ بدى مندهشًا أو مصعوقًا: المشروع هيتكلف 78مليون دولار!
صدmة قولها جعلته يرفع عينيه عن الاوراق ويتطلع لها ببسمة ساخرة: طيب وفيها أيه؟
ابتلعت ريقها بـ.ـارتباكٍ: هو إنت مسمعتش المبلغ كويس ولا أيه؟
أزاح نظارة النظر عنه وقال ببسمة مشاكسة: قوليلي يا فاطمة أنتي ت عـ.ـر.في إني ليا شركاء معايا في المعمار والشركات؟

هزت كتفيها بحيرةٍ، فقال موضحًا: أنا مش لوحدي. فريدة هانم شريك ب10في المية وشمس ب10 ومايا ب10في المية وعلى جوزك ب20في المية وإنتِ كمان شريكة ب10في المية اتنقالك الأسهم بمجرد ما بقيتي واحدة من عيلة الغرباوي.
وتابع بعنجهية مصطنعة: انا ليا الحصة الاكبر 40 في المية لأني انا اللي بدير وبكبر رأس المال عشان كده تلاقيني مغــــرور حبتين.
رددت بتلعثمٍ وضيق: أنا مش عايزة حاجة! آآ.

قاطعها بحزمٍ: مش بمزاجك يا فاطمة دي كانت وصية بابا اللي يرحمه لزوجاتنا. هو فرض وشيء مقدس بالنسبة لعيلتنا، فريدة هانم لما اتجوزت من بابا اتنقلها الأسهم بشكل تلقائي. زي ما تقولي ده نظام عيلتنا.
وتابع وهو يقدm لها الملف: المهم انا هعمل شيك بالمبلغ ولما يوصل نبدأ على طول بإذن الله.

هزت رأسها بصدmة تخيلها أن أحدًا سيحمل مبلغًا كهذا، فتابع بعدmا تذكر شيئًا هامًا قد يفيد أخيه بعلاج فاطمة: بقولك أيه يا فاطمة أنا بكره عندي عشاء عمل مع شركة ستون، هنروح أنا وجمال وهيكون في كذه حد من السكرتاريه. أيه رأيك تيجي معايا؟
صمتت قليلًا تفكر، ثم قالت على استحياءٍ: طيب ممكن أسأل على وأرد عليك بليل لما نرجع البيت؟
ابتسم باحترامٍ وقال: طبعًا. طبعًا تقدري ونص كمان.

ضحكت على طريقته بالحديث واستأذنت بالانصراف فعاد هو يتابع عمله بتركيزٍ، إلى أن ولج إليه حسام متجهمًا يخبره بخــــوفٍ: مستر عُمران.
زفر بمللٍ والتف بمقعده المتحرك: يا نعمين يا حسام! لخص بالقنبلة اللي ناوي ترميها في وش أمي!
أتاته القنبلة من خلفه تندفع تجاه المقعد المقابل له، يردد ببرودٍ يشبهه: ازيك يابن فريدة؟

أنصت لباب المعتقل يُفتتح من جديدٍ، ونفس الفلاش يضاء عليه، وكأنه يؤكد لها بعودة بصيص الأمل إليه رغمًا عنه، فتفرس بملامح من يقف أمامه وقال باستغرابٍ: رجعت تاني ليه يا باشا؟
انحنى آدهم إليه وقال بصوته الرخيم: يونس إسمعني كويس. إنت خلاص براءة ولو عايز تخرج معايا حالًا هخرجك بس ده أنا مش عايزه.

رمش باهدابه عدة مرات وردد بعدm تصديق: أخرج منين! يا باشا حاول تستوعب إن خروجي من هنا هيكون على القبر، صدقني مستحيل يسبني أخرج.
أمسك بيده وجذبه لينهض قبالته يصيح به بصوتٍ قوي: يونس فووق ومتفقدش إيمانك بربنا عز وجل، أنا هنا قدامك بقولك هخرجك وهأخد حقك ده وعدي ليك ووعد عمر الرشيدي دين في رقبته ليوم الدين. أنت متعرفش أنا مين ولا أقدر اعمل أيه!

وتابع والاخير يتطلع له بأعين دامعة لا تصدق سماع ما يقول: أنا مش ظابط عادي يا يونس، بقولك أنا واللي ورايا قدرنا في 24ساعه نثبت برائتك وخلاص مبقاش في شيء يدينك بس خروجك من هنا مش ده هدفي ولا اللي أنا عايزه.
أنا مش فاهم حاجة يا باشا؟
اوضح له ببسمةٍ ماكرة لا تليق الا بضابط تربى وترعرع على يد الجوكر المزعوم: يوم واحد يا يونس! يوم واحد هتستحمل فيه الألــم وبعده تخرج وإنت محقق انتقامك.

وصاح بصوتٍ كان كالسوط لذلك الهزيل: قولي عايز تخرج من هنا مزلول وعايش في عناء نفسي لحد ممـ.ـا.تك ولا عايز تنتقم وتشوف حقك بيرجعلك؟
انهمرت دmعة حملت معاني القهر من حدقتيه فصاح بصوتٍ مكلوم: هنتقم منه ازاي يا باشا ده رتبة كبيرة وأنا آآ.
قاطعه بعنف: عايز تنتقم ولا تخرج حالًا معايا؟

أخفض عينيه أرضًا ورفعها لذلك الملاك الذي هبط يحل عنه عقدته التي نغزته وجردته من كرامته وكبريائه ورجولته وردد باصرار: عايز حقي يا باشا!
ابتسم له آدهم وتابع بصوتٍ جهوري مخيف بخطته للقضاء على ذلك اللعين: يبقى تفوق وتسمعني كويس في اللي هقوله!
جلست بحـ.ـز.نٍ وضيق يتمرد على وجهها الأبيض، تمر بها الساعات ولم تيأس من انتظاره، تجوب الشرفة كل ساعة تقريبًا على أمل قدومه، عينيها متعلقة على باب الشقة بلهفة وحـ.ـز.ن.

لأول مرة تشعر بأنه يعني لها كثيرًا، اعترفت آديرا لذاتها بأن ما بداخلها لآيوب ليس مجرد شعورًا بريء، هي بالتأكيد تحبه!
انفرجت ملامحها فور أن استمعت لصوت طرقات باب المنزل، ركضت بسرعةٍ هائلة تفتح الباب وهي تهتف بسعادةٍ: آيوب!

تلاشت ابتسامتها حينما وجدت إيثان أمامها، منحها ابتسامة صغيرة وقال: آيوب ذهب مع أبيه للمسجد وطلب مني أن أصل لكِ هذا الطعام وأن أخبركِ بأنه لن يستطيع القدوم اليوم لإن عائلته قد أتت للترحاب به. ربما بالغد يستطيع الحضور.
غلبها الحـ.ـز.ن فالتقطت منه الأكياس وقالت بصوتٍ محتقن بالدmـ.ـو.ع: أخبره فقط أن لا ينساني هنا.

انتقل لإيثان حبها الكبير لآيوب فارتبك للغاية لشعوره بقدوم كارثة ستحل على ابن الشيخ مهران الذي عشقته فتاة أجنبية غير محتشمة، ولكنه برع في تزيف بسمة وقال: حسنًا سأخبره.
ورحل من أمامه، فحملت الاغراض ووضعتها على الأريكة ثم ولجت لغرفتها ترتمي على الفراش وتردد بخفوت: لا أريد شيئًا الا رؤيتك آيوب! ما حاجتي لتناول الطعام وإنت لست جواري تشاركني به!

وضعت الحساء على النار ووقفت تتابعه، حتى تسلل لها صوت زوجها الغاضب الذي يصيح بعنفٍ: إنتي يا فين المرهم اللي كنت جايبه الاسبوع اللي فات، هو إنتي وابنك القرد ده مبتسبوش حاجة في حالها أبدًا.
أغلقت خديجة النيران وهرعت إليه تشير له: ثواني وهجبهولك.
صفق باب الخزانة بغـــضــــبٍ، فاهتزت بقوةٍ جعلت جزءًا من ملابسها يسقط أرضًا أسفل قدmيه، فالتقطت عينيها شريط الدواء الملقي باهمالٍ.

سقط قلب خديجة وجحظت عينيها حينما انحنى يلتقط الدواء ويقربها منه، ومن ثم اقترب منها بأعينٍ حمراء كلهيب الجمرات يتساءل بهدوء قـ.ـا.تل: ده أيه؟
تعلم بأنه يعرف كنايته لإنه يلجئ له كثيرًا ليخفي أمر تعاطيه للسموم والمـ.ـخـ.ـد.رات التي يرتشفها فيلجئ لحبوب منع الحمل ليخفي عن دmائه تعاطيها أثناء أداء عمله الحكومي.
تراجعت خديجة للخلف وهي تشير له ببكاءٍ وخــــوفًا قـ.ـا.تلًا: آآ، أنا. آآ.

هوى على وجهها بصفعة ابادت الدmاء عن شفتيها من قوتها وصرخ بها بسباب بذيء: انتي أيه يا بقى انتي مش عايزة تخلفي مني أنا! ده أنا اشتريتك يا رخيصة، سترت عليكي وخدتك على عيبك وكتبت ابن ال باسمي عشان ميخدش عار أبوه والناس تعايره بأن ابوه في السـ.ـجـ.ـن واخرتها تحرميني من الخلفة طول السنين دي يا فاجرة يا.

وهوى عليها بصفعات متتالية وهو يصـ.ـر.خ بجنون: لسه بتحبيه ومش قادرة تنسيه يا بـ.ـنت ال أقسم بالله لاقــ,تــله وأقــ,تــلك انتي وابنك.
بكت وصرخت بانهيار: حـ.ـر.ام عليك بقى، طلقني وارحمني من اللي أنا فيه. معتش في شيء تاني هقدر أقدmهولك. طلقني واتجوز واحده تخلفلك الولد اللي انت بتتمناه لكن أنا بكرههك ومستحيل هقبل أخلف منك ولو حصل همـ.ـو.ت نفسي ومش هيهمني حد ولا حتى ابني اللي بتهددني بمـ.ـو.ته ليل نهار.

وبصرخٍ يفوق الاخر قالت: سمعت أنا بكررررهك وبقرف من نفسي بسببك!
جن جنونه فسحب حزامه وهوى عليها بضـ.ـر.بات قـ.ـا.تلة جعلتها تتمايل أرضًا فاقدة للوعي، فركلها بقوة وهو يصـ.ـر.خ: والله لأوريكِ يا زبااااالة. وهتشوفي.
غادر من امامها وتركها تغوص بدmائها، فشعرت بلمسات يد تحمل المياه لوجهها، فتحت خديجة عينيها المتعبة ببطءٍ فوجدت ابنها يحاول افاقتها وهو يبكي بخــــوفٍ.

استقامت بجلستها وضمته إليه مرددة بهمس: يا رب ارحمني يا رب، يا رب إحفظه ورجعهولي هو أملي الوحيد يا رب، هو اللي هيخلصني من عـ.ـذ.ابي، يا رب لو كان مـ.ـيـ.ـت فأقبض روحي واجمعني بيه ولو لمرة واحدة!
ونهضت تتكئ على الحائط بصعوبة، ثم جمعت جزء من ملابسها هي وابنها، وارتدت اسدالها وخرجت به من المنزل، تتحامل على نفسها بصعوبة، فسألها الصغير ببكاءٍ: هنروح فين يا ماما؟

انهمرت دmـ.ـو.عها تأثرًا، توفت والدتها ولم يعد لديها أحدٌ سوى الله، مشت جواره وهي تجيبه بانهيار: مش عارفة!
وجدت قدmيها تتبع طريق منزله، هو الوحيد الذي لم يرد بابه بوجه أحدٌ، طرقت خديجة باب منزل الشيخ مهران، وما أن انفتح الباب حتى استسلمت لغشاوتها وسقطت فاقدة للوعي، ليهدر بها من يقف أمامها بدهشة: خديجة!

انحنى آيوب تجاهها بصدmة من رؤية وجهها الملطخ بالدmاء، خرجت لمرتها الاولى دون نقابها على عجالة للنجاة بحياتها وحياة الصغير، وها هي تستسلم لغيمتها السوداء وقهرها الملازم لها بعد ان تفرقت عن محبوب طفولتها وأمانها الوحيد، يونس!
صعق من الحالة المذرية التي أصبحت عليها، وجهها مكدوم بقوةٍ وكأن زوجها كان بعركةٍ ذكورية مع رجلٍ يجابهه بنفس قوته الرجولية، إن كان البادي من وجهها أمامه هكذا ماذا عن جسدها؟!
منحها نظرة ساخطة وهي تحاول الاعتدال بين ذراعي والدته التي تحاول أن تساندها لغرفة آيوب فنطق ساخرًا: بقى ده الراجـ.ـل اللي اختارتيه وفضلتيه على أخويا!

رفعت خديجة عينيها الباكية إليه، ورددت بألــمٍ نساء كبت داخل أعتى قلوبهن ليتمسد بقلبها هي: ظلمت يونس لما حطيته في مقارنة مع أشباه الرجـ.ـال يا آيوب!
جحظت عينيه صدmة من جملتها التي شملت معنى مبطن جعله مرتعب حول شكوكه فيما يتعلق بها، تراجع للخلف وهو يتمنى أن لا يكون المفهوم الذي تسلل إليه صحيحًا، فاستدعى صوته الهادر يسألها: تقصدي أيه؟!

صرخت به رقية بانفعال: إنت لسه هتتكلم. اجري هات الدكتور بسرعة مش شايف حالة البـ.ـنت!
مالت خديجة على يد رقية ورددت بصوتٍ هامس وهي تشير على ابنها الذي يقف جوار باب المنزل ببكاءٍ: ابني يا حاجة رقية، ابني أمانة في رقبتك إنتِ والشيخ مهران.
ومالت على ذراعيها فصرخت رقية بفزعٍ بآيوب: هات الدكتور بسرعه يا آيوب.

امتعضت ملامحه رويدًا رويدًا وهو يتأمل من يجلس قبالته ببرودٍ يستفز كل خلية داخله، ألقى عُمران قلمه الأنيق على سطح المكتب باهمالٍ متسائلًا ببرودٍ يحاول التمسك به: خير يا نعمان باشا. أيه اللي حدفك علينا؟ ولا رجلك خدت على المطرح!

رفع قدmه فوق الأخرى بتعالٍ وأشعل غليونه الثمين يسحب أنفاسه ويطـ.ـلقها بوجه ذلك المحتقن ويجيبه: دي مقابلة تقابل بيها خالك! صحيح ما إنت ابن فريدة أكيد مفتقد لتربية راجـ.ـل يعلمك إزاي تحترم الأكبر منك.
احتجز وحشه الوقح داخله، فقد سئم أن يكون سليط اللسان وبعدها يتمزق نـ.ـد.مًا وعتابًا لما باح به، فقال بهدوءٍ وأسنانه تعتصر شفتيه: معلش بقى ما أنا زي ما إنت عارف يتيم الأب.

وبألــمٍ احتشـ.ـد بنبرته الثابتة قال: مكسبتش فيا ثواب وربتني إنت ليه يا خال؟
تلاشت ابتسامته المنتصرة ليحتضر شبحه الغاضب، فتغاضى عن سخريته وقال: أنا جيتلك بنفسي عشان أبلغك إني هكون معاك في مشروع المول التجاري اللي إنت داخله. أصلي ميخلصنيش إسمك يتهز لما يتعرف إنك داخل مع اللي إسمه جمال ده!

وتابع بعنجهيةٍ: الولد ده شكله غـ.ـبـ.ـي ومبيفهمش أنا سبق وحذرته وقولتلك ينسحب لكنه مُصر يكمل، تمسكه بالمشروع خلاني أصدق احساسي إنه مستغـ.ـبـ.ـيك ولفف عليك عشان مصلحته وإنت زي الأهبل سايبله اللجام وهو ساحبك بشطارة.
احتدت رماديته بغـــضــــبٍ قـ.ـا.تل، فضم شفتيه معًا يكبت لفظه النابي الذي كاد بالتحرر من عرين سبابه، فتحلى بجموده وقال مستنكرًا: هو بردو اللي مصاحبني مصلحة!

أخفض ساقيه وصاح بعصبيةٍ: قصدك أيه يابن فريدة؟ بقى دي أخرتها بدل ما تشكرني إني خايف عليك وجريت جري أحذرك منه!
لم يهتز به شعرة لعصبية الاخير وأجابه بنفس هدوئه: أنا ممنون جدًا لنصيحتك الغالية دي وعشان أنا أهبل وبريالة هسلمه أغلب المشاريع اللي أنا داخلها.
وبخبثٍ محترف قال: مهو مينفعش واحد عبـ.ـيـ.ـط يمسك مشاريع بالضخامة والأهمية دي لوحده لازم حد ذكي وملوع يسانده.

أصابه بسهامٍ واحدًا تلو الأخر، لدرجة جعلته يشعر وكأنه سيشتعل من فرط النيران، فصرخ بعصبية محتقنة: طب إسمع بقى يابن فريدة. أنا عملت بأصلي وجتلك أطلب منك ندخل شركة في المشروع والظاهر إني كنت غلطان لما فكرت أجيلك بالادب والاخلاق فاستحمل بقى الاسلوب الرخيص اللي هلعب بيه معاك. أوعدك أن في ظرف أسبوع المشروع ده هيكون تابع لشركاتي.

اتشح ببسمةٍ ثابتة أربكت من أمامه، وقال بثقةٍ ورزانة: عيب يا نعمان تهددني في مكتبي. ده إنت أكتر واحد عارف إن محدش بيقدر يقف قدام الطوفان لآن أول واحد بيحاول يحرك البوابة السد بيتقلب فوقه.

ونهض عن مقعده المحتفظ بجاكيت بذلته واتجه جالسًا قبالته على المقعد الذي يفصل بينهما طاولة قصيرة، ثم ردد بنظرات مشتعلة: من كام يوم رفضت اتعامل مع العملا اللي سحبوا عروضهم من شركاتك لمجرد انسحابي من إدارة الشركة الأم. كان ممكن أقبل بالعروض دي وأنا متأكد إنك بعدها كان هيتخرب بيتك بس أنا معملتش كده. مش عشان القرابة ولا لإني خايف من رد فعلك العبـ.ـيـ.ـط زي ما أنت متخيل!

رمش نعمان بتـ.ـو.ترٍ وخاصة حينما استطرد بصوتٍ قوي، واثق، ويده تشير على مقعد مكتبه المهيب: عشان أنا لما بقعد على الكرسي ده بتنافس بنزاهة وشرف، وموصلتش لكرسي مجلس الادارة من فراغ يا نعمان، أنا كنت في أولى جامعة وبنزل مع العمال أنفذ المشاريع بنفسي، أنا متقن أوي لحركاتك وبقولك لو هنقضيها تهديدات يبقى متزعلش من رد الفعل.

نهض عن المقعد يغلق زر جاكيته البني على بطنه السمين، وهدر بانفعالٍ: كده. ماشي يا عُمران والله العظيم لانـ.ـد.مك على وقاحتك وغــــرورك ده.
وتابع بنبرةٍ زلزلت الأخير وحشـ.ـدت جنونه: صحيح مايا حامل! مبروك عليك بس خليك حذر آآ...
نعمان!

ابتلع باقي جملته حينما واجه زئير أسدًا مخيفًا مازال يلتف حول ساقه أغلال تمنعه من إلتهام لحمه حيًا: أقسملك بالله يوم ما تفكر تلمح مراتي بطرف عينك بس أو أي مخلوق من عيلتي همد صوابعي في عينك أصفيها.
وألقى المقعد من أمامه بجنون يراه لأول مرة لدرجة جعلته يتراجع للخلف بخــــوفٍ: إنت أيه يا أخي شيطان! ليه مصمم تخرج أسوء ما فيا! يلعن أبو الفلوس والثروة والمنصب اللي تخليك و بالشكل ده!

فور سماع فاطمة لصوت صراخ عُمران هرعت لباب المكتب الفاصل بينهما، فوجدته يقف قبالة خاله يحاول تنظيم أنفاسه المسموعة بأنحاء المكتب، يحاول التشبث بجموده ولو للحظات يخرج بها ما كبت داخله، فقال بصوتٍ مرتعش رغم صلابته: إنت ينقصك أيه عن أحمد الغرباوي؟ هو عمي وإنت خالي، يعني المفروض إنت اللي تكون قريب لينا عنه.

وأشار لرأسه بألــمٍ: العقل بيقول إن اللي يطمع فينا هو عمي. لإن الثروة دي اغلبها راجع لأخوه وبالرغم من كده عمره ما طمع ولا حقد علينا، دايمًا كان جنبنا.

وتابع وقد لمعت دmعة خائنة بمُقلتيه: صحيح أنا تعبت كتير لحد ما كبرت اسمي رغم آني متعداش ال25 سنة بس اللي آنت متعرفوش إن اللي ساعدني وأخدني لاول الطريق كان عمي، كان بيساعدني بدون ما أعرف، أنا لسه بس من كام شهر عارف الحقيقة، اكتشفت إن هو اللي كان بيرشح اسم شركتي وبيدعمني بدون ما أعرف، هو شـ.ـد ايدي لاول الطريق وإنت عايز تقضي عليا وواقف بتهددني بمراتي اللي هي بـ.ـنت أختك يعني لحمك ودmك. وبتهددني بردو بابني اللي المفروض يكون في مقام حفيدك!

تحجر حلقه بمرارةٍ وخاصة حينما استطرد عُمران بو.جـ.ـعٍ: طول عمري بستغرب ليه بتكرهنا أوي كده، مسبتش حاجة الا وفكرت فيها! أنا زمان وأنا طفل كنت بفرح أوي اول ما بلاقيك داخل وبتحـ.ـضـ.ـنا حتى وأنا واثق إني أول ما هبص ورايا هشوف فريدة هانم. وعارف إنك بتأخد اللقطة قدامها عشان تبينلها انك حنين على اليتامى والجدير إنها تسلمك ادارة شركات سالم الغرباوي، وبالرغم من إنها منخدعتش وراك الا أنك مستسلمتش ولسه بتحارب لحد اللحظة دي.

وتنهد بضيقٍ وهو يسأله بسخريةٍ: مجاش الأوان إنك تستسلم بقى؟!
وأشار بيده إليه: أنا بس عندي عتاب أخير ليك. إنت كل خلفتك بنات ليه مفكرتش تكسبني لصفك وأكونلك الولد اللي اتحرمت منه؟
رمش بعينيه بصدmة، فتابع عُمران بضحكة صاخبة: أووه آسف أنا وقح وتقريبًا أكتر شخص إنت بتكرهه في حياتك طب وعلى يا خالي؟

رفع عينيه إليه فاستكمل عُمران بألــمٍ: على راجـ.ـل ومحترم وطول عمره بيعاملك كويس برغم افعالك ليه محاولتش تكسبه هو لصفك؟ ليه كارهنا أوي كده.

وصرخ به يخرج ما كبت بداخله منذ أن كان طفلٍ لا يتعدى عمره التاسعة: قولي أيه اللي يخلي شخص يحقد على طفلين أيتام! أيه اللي يخلي شخص يكره أطفال لمجرد إن باباهم سابلهم ورث وثروة كبيرة! أيه اللي يخليك تكون أعمى عن فريدة هانم اللي كانت بطولها ووراها تلات أولاد. ليه محاولتش تكون ليها الأمان والسند، ليه محاولتش تخدها في حـ.ـضـ.ـنك وتقولها متخافيش عيالك عيالي ومالك مالي...

وابتسم رغم انهمار دmعاته: بس إنت معملتش غير بالمقولة الاخيرة المال! بالرغم من إنك بتمتلك ثروة كبيرة إلا إنك أفقر خلق الله. وفي يوم هتكون ذليل ووقتها مش هتلاقي حد جنبك.
وضم يديه معًا له يخبره برجاء مؤلم: من فضلك متحاولش تظهر في حياتي تاني، أرجوك ابعد عننا وعني أنا بالذات عشان أنا مبقدرش أسيطر على لساني ولا أفعالي. فمش هسكتلك. بسببك أنا بقيت بكره نفسي في كل مرة بحاول أكون على مستوى وقاحتك!

وأشار لباب مكتبه بعنفٍ: اخرج ومتورنيش وشك تاني، وخليك على ثقة إن عُمران الغرباوي مش صيده سهلة عشان تدخل مكتبه وتهدده بأهله. خاف مني عشان أنا أبشع مخلوق وقت غـــضــــبه، خاف وإبعد يا نعمان والا أوعدك هخليك تحصل الأشراف من أجداد عيلة الغرباوي ووقتها مش هترحم عليك ثانية واحدة!

غادر من أمامه بخطواتٍ ثقيلة، وكأنه تلاقى لوح خرصاني فوق رأسه، فما أن أغلق الباب من خلفه حتى انحنى عُمران يلقي بذراعيه ما وُضع فوق مكتبه، لا يهمه حاسوبه، هاتفه، لوحات مشروعه، أوراقه الهامة، لقد تخلت عنه ثقته وقيادته، هو بالنهاية شخصًا عاديًا.

جلس باهمالٍ على مقعد مكتبه، يحاول موازنة أنفاسه، بداخله هاجس يحسه على أن يدmره وليريه ماذا سيتمكن من فعله أمام نفوذه؟ وأخرًا يعاتبه بصلة القرابة التي لم يتخذها ذلك الآرعن ضمن حساباته!
التقطت آذن عُمران صوت شهقات خافتة تسرى من نهاية الغرفة، رفع رماديته فتفاجئ بفاطمة تقف على أعتاب باب مكتبها الجانبي، الذعر والقلق يحتلان ملامح وجهها بتمكنٍ.

لعق شفتيه بـ.ـارتباكٍ من حالتها الغامضة، خشى أن تؤثر فيها حالته الهائجة، صوته الصاخب، دفعه للأغراض، بالنهاية مازالت غير متزنة نفسيًا، تنحنح عُمران وهو ينهض عن مقعده يلملم الاغراض الساقطة بحرجٍ: فاطيما. إنتِ هنا من أمته؟
فجأته حينما اقتربت منه تساعده بحمل الأغراض، وتعيد تنسقيها على مكتبه بهدوءٍ غريب اتبعته حتى بمغادرتها لمكتبه.

ألقى بثقل جسده المسكين على مقعد مكتبه الرئيسي، يضم مقدmة أنفه بعصبيةٍ من ظهوره بتلك الحالة أمامها، لقد وعد أخيه بأن يراعي حالتها النفسية والآن لا يعلم حتى ماذا أصابها؟ فقد غادرت صامتة ولم تنطق بحرف يطمئنه بأنها على ما يرام.
مرر يده على جبينه بتعبٍ، فداعبت أنفه رائحة القهوة التي يحتاج لها وبشـ.ـدةٍ في ذلك الوقت، أشاح يده ليتفاجئ بفاطمة تضع الكوب أمامه وتجلس على أحد المقعدين المقابلين له.

تناول عُمران الكوب وتناوله جرعة واحدة، وكأنه يرتشف دواء مسكن لو.جـ.ـعه القطعي، وما أن وضع الكوب للطبق حتى ردد ببسمة هادئة: شكرًا، كنت محتاجلها اوي القهوة دي في وقتها بالظبط!
واستند بجسده العلوي على المكتب يستحضر كلمـ.ـا.ته المشتتة: فاطيما انا آسف على اللي حصل من شوية آآ.
قاطعته حينما قالت بابتسامةٍ هادئة: أنا اللي بعتذرلك على دخولي المفاجئ. أنا سمعتك بتزعق فجيت عشان أشوفك وبصراحة اتصـ.ـد.مت من اللي سمعته.

وبتـ.ـو.ترٍ قالت: تسمحلي أقولك حاجة.
اعتدل بجلسته بجدية: أكيد يا فاطمة اتكلمي.
سحبت نفسًا طويلًا جعله يشعر بصعوبة ما ستلفظه بالنسبة لها، فقالت وهي تفرك أصابعها بطريقةٍ لفتت نظره: لما حصل معايا اللي حصلي ده وقتها كنت مهزومة وحاسة إني شبه الأموات.

انهمرت دmعة ساخنة على وجنتها ترافق قولها: حسيت إن مبقاش فارق معايا شيء. حتى نجاتي من المكان نفسه مكنش فارق معايا. بس أكتر شيء علم معايا بطلوعي من المكان ده كانت حاجة واحدة.
بحذرٍ تساءل رغم عدm رغبته بفتح حديثًا قد يتعبها: حاجة أيه؟

رفعت عينيها إليه تخبره بصوتٍ مهزوم: الغُلب والاستسلام، كنت مغلوبة على أمري ومستسلمة تمامًا إني هخرج من المكان ده لدرجة إني حسيتهم كائنات مخيفة صعب حد يقدر يتغلب عليهم، مبقتش أفكر ولا أتأمل في حد لإن أكتر إنسان كنت متأملة فيه بسببي أتأذى وإتحمل اللي أسوء من المـ.ـو.ت علشاني. كل ده ضعفني وخلاني أثق إن مفيش حد يقدر يهزمهم لحد ما إتبددت الفكرة دي كليًا لما شوفت بعيوني ناس أقوى منهم بيقضوا عليهم بمنتهى السهولة، وكانوا بيقعوا واحد ورا التاني قدام رجـ.ـا.لة ظابط من المخابرات إسمه رحيم زيدان.

وتنهدت وهي تستكمل: ساعتها استوقفني خلاصة لحياتنا، خــــوفي الكبير منهم خلاني أشوفهم شياطين صعب حد يقدر عليهم وببساطة جيه الأقوى منهم وهزموهم بمنتهى السهولة، عشان كده خليك واثق إن مهما كان تجبر وظلم اللي قدامك هيجي اللي هيتجبر ويدوس عليه، ده القانون والعدل اللي أكد عليه ربنا سبحانه وتعالى.

وبثقةٍ قالت: أنا واثقة إن هيجي اليوم اللي يجيلك فيه مزلول وهيفتكر كل اللي قاله وعمله. يمكن يبنلك نـ.ـد.مه ويعتذر ويمكن يكون مغــــرور بس الأكيد إنه القلم اللي هيفوقه هيفضل فكره طول حياته.

وابتسمت وهي تستطرد: عايزة كمان أقولك بطل تقول عن نفسك إنك وحش. لإن مفيش إنسان سيء هيشوف الوحش اللي جواه، على زمان قالي الشخص القوي هو اللي مـ.ـيـ.ـتهربش من الذكريات المؤلمة اللي جواه وبيحاول يتهرب منها. الشخص القوي بيواجه نقاط ضعفه بكل قوته. وانا من وقت ما عرفتك شايفاك واقف صامد ومعترف إنك كنت غلط وشايف الوحش جواك وعندك القوة تواجه اللي أخطئ في حقك وتقوله إنت غلط. فإنت مش شخص سييء أبدًا.

أسبل بدهشةٍ من سماعها، فاجلي صوته الراحل عن حنجرته وردد بصدmة: هو أنا ليه حاسس إن على أخويا اللي قاعد قدامي!
رددت بعنجهيةٍ ساخرة: من عاشر القوم بقى!
تفردت ابتسامته وتحولت لضحكة مسموعه، ونهض يشير لها: طب يلا نرجع القصر يا مدام على الغرباوي!
رفعت ساعة يدها إليها، وبدهشةٍ قالت: بس لسه ساعتين على المعاد الرسمي!

ارتدى جاكيته والتقط مفاتيح سيارته قائلًا بمرحٍ: أخوكي المدير وجوزك شريك وليكي نسبة محتاجة واسطة أكتر من كده أيه عشان تخلعي بدري!
هزت رأسها باقتناعٍ وعادت إليه بحقيبتها، فهبطوا الدرج واتجه لسيارته، وكعادته فتح لها الباب الخلفي فاستقرب به وهي تشكره بامتنانٍ.

زوجها، أحمد، عُمران. رجـ.ـال المنزل بأكملهم يحترمون ظرفها الخاص، فلم يضايقها أحدًا منهما يومًا وهو ما ساعد على كطبيبٍ بإعادة جزء من ثقتها. الأحترام والتفهم من رجـ.ـال عائلته والحب والاحتواء من زوجة أخيه وشقيقته ووالدته.
استجابت للطبيب الذي يجاهد لاستعادتها الوعي، تشعر بألــم بذراعها فتفحصته فوجدت الآبر الطبية ينغرس به، ويدها الأخرى يتشبث بها صغيرها ودmـ.ـو.عه تهبط دون أي صوتًا وكأنه اعتاد احتباس بكائه.

استمعت للطبيب يخبر الشيخ مهران بضيقٍ بدى لها: المفروض متسكتوش على اللي حصلها ده يا عم الشيخ مهران. لازم تقدmوا بلاغ فيه دي مش أول مرة أجي وأعالجها، لو ناويين تعملولها أنا هظبطلكم التقرير ومن دلوقتي.
أخفض الشيخ عينيه ومال برأسه تجاه فراشها وقال: القرار بايدها هي يا دكتور. أنا مقدرش أغـ.ـصـ.ـبها على شيء دي حياتها وهي حرة فيها.

تهاوت دmعاتها العاجزة بانهيارٍ، تتذكر الثلاث مرات التي أتت بهم لمنزل الشيخ مهران حينما اشتدت بها الآلآم وفاقت حد تحملها فأتى نفس الطبيب يعالجها، واستغرقت بمرتها الأولى قبالة الشهر لا تفارق الفراش ومرتها الثانية استغرقت خمسون يومًا، واليوم لا تعلم بعدmا انكـ.ـسر أضلاعها كم ستستغرق تلك المرة!

كان آيوب يقف أمام باب الغرفة يستمع بدهشة للطبيب، بينما خديجة مازالت شاردة بابنها، لقد نطقها صريحة بأنه سيقــ,تــل صغيرها، ابنها الذي ضحت بنفسها لأجل حمايته فإن كانت عودتها إليه ستشكل خطرًا عليه فما سيرغمها على العودة للجحيم.
خرجت من صمتها هادرة بقوة تعجب بها الجميع: جهز التقارير يا دكتور، هنقدm البلاغ والمرادي مش هتنازل عن حقي أبدًا!

دعمها الطبيب لشفقته الشـ.ـديدة عليها: ده الصح يا بـ.ـنتي. ده بني آدm همجي مكانه في السجون.
وإتجه ليغادر مرددًا: أستأذن انا يا شيخ مهران.
أشار له الشيخ واتبعه للخارج، فحدج ابنه بنظرة مندهشة من تسمره محله تاركًا والده يصطحب الطبيب للأسفل دون أن يطالبه بالبقاء والهبوط برفقة الطبيب هو، كان أمره غامضًا للشيخ مهران ولكنه تخلف عنه واتبع الطبيب للاسفل ليقصد احدى الصيداليات لاحضار الدواء.

استغل آيوب مغادرة أبيه ونادى والدته يخبرها بحدة: ادخلي يا حاجة قوليلها تلبس النقاب عشان عايز أتكلم معاها كلمتين.
جففت يدها بالمنشفة وقالت بحـ.ـز.نٍ: مالك بيها يا آيوب سبها في حالها يا ابني، بكفايا اللي جوزها عامله فيها.
شـ.ـدد بحزمٍ تعهده رقية لاول مرة: ماما من فضلك ادخلي نبهيها إني داخل والا مش هتبع الاصول وهدخلها حالًا.

هزت رأسها باستسلامٍ وولجت تخبرها، ثم خرجت تخبره: قولتلها. بس بالله عليك يا آيوب ما تزعلها البت غلبانه ومش حمل أي و.جـ.ـع. أنا هروح اكمل طبيخ وانت مطولش جوه عشان ميصحش. مش عايزين مشاكل مع أبوك.
اكتفى بتحريك رأسه لها، وطرق باب الغرفة فما أن استمع لآذنها حتى ولج قاصدًا فتح الباب على مصراعيه وإلتقط مقعد ووقربه من باب الغرفة ليكون هناك مسافة كبيرة بينهما.

طالعته خديجة من خلف نقابها، تنتظر ما سيقول بفضولٍ، انزاحت نظرات آيوب عن الأرض وتعلقت بالصغير، تجعد جبينه بشكلٍ ملحوظ وهو يدرس تفاصيل ملامحه بشكلٍ جعلها تضمه لصدره بخــــوفٍ، فابتسم ساخرًا وقد تأكدت شكوكه: شكله اوي على فكرة.
برقت بعينيها صدmة، ومع ذلك حافظت على ثبات نبرتها: شكل مين؟

أخفض وجهه للاسفل، ويديه تفركان بعضهما بقوةٍ، وردد بصوتٍ جهوري مخيف: يا رب الشكوك اللي في دmاغي متكنش صح. لآنها لو صح وخرج يونس من السـ.ـجـ.ـن هيقــ,تــلك؟
وبشكلٍ صريح صاح: ابن مين الولد ده يا خديجه؟

انهمرت دmـ.ـو.عها تباعًا وصوت بكائها جعل مُقلتيه تتسع بجنونٍ، فنهض عن مقعده يصيح بعصبية: انتِ أيه يا شيخة! معندكيش قلب! اتخليتي عن الانسان الوحيد اللي حبك وقدmلك كل شيء بدون مقابل، صدقتي عنه اللي اتقال وبعدتي عنه لمجرد انه اتحبس وانتي متأكدة إنه اتحبس ظلم. طـــعـــنتيه في نص قلبه وجاية دلوقتي بتكملي عليه!
وتابع بغـــضــــب كالجحيم قــ,تــل داخله طيبته وقلبه الناصع: بأي حق تنسبي ابنه لراجـ.ـل غيره؟! بأي حق!

الولد مكتوب بإسمه يا آيوب وأنا معايا شهادة الميلاد الأصلية يا ابني!

قالها الشيخ مهران المستند على باب الغرفة بعكازه، وبين يده يحمل حقيبة الأدوية، خطى لداخل الغرفة يضعه على الكومود البني واستقام قبالة ابنه المصدوم يخبره بقلة حيلة: اسمع يا ابني كلنا. خديجة دفعت التمن وأغلى من اللي دفعه يونس. الفرق بينهم إن ابني راجـ.ـل وقادر يتحمل اللي بيجراله ده لو كان عايش واللي قدامك دي ست عاجزة تدافع عن نفسها، بلاش تيجي عليها يا آيوب كفايا اللي شافته واللي شايفاه يا ابني.

ازدادت صدmـ.ـا.ته بشكلٍ جعل وقفته مهزوزة، فوزع نظراته بينهما وهي يحاول ايجاد سؤاله المناسب: آآ، إنت بتقول أيه يا بابا؟

بثباتٍ وعمق قال: الحقيقة يا ابني اللي عرفتها بعد طـ.ـلا.ق خديجة من أخوك، معتز خـ.ـطـ.ـف خديجة وطلع بيها عند دكتور شمال كان هيسقطها وهددها إنها لو متابعتش اجراءات الخلع هتخسر اللي في بطنها، حاولت تهرب أكتر من مرة ومعرفتش وبالنهاية استسلمت وقررت تحافظ على اللي في بطنها، ولما كسبت القضية نفذت اللي طلبه منها وقالت للكل إنها متقدرش ترتبط بواحد رد سجون، وطبعًت كانت صدmة ليا ولينا كلنا.

وتابع وهو يجلس على المقعد بتعبٍ: طلعتلها الشقة فوق ملقتهاش، اختفت وأمها نفسها مكنتش تعرف ليها طريق لحد ما في يوم جالي اتصال من ممرضة طلبتني أروح المستشفى لإن في حالة بتولد وعايزة تشوفني، روحت واتصـ.ـد.مت لما لقيتها خديجة، حكتلي على كل حاجة وأنا عاجز ومش عارف اساعدها ازاي، قالتلي انه هيتجوزها بمجرد ما تولد وهيسجل الولد باسمه وهي رافضة تسجله غير باسم يونس عشان كده ساعدتها وخدعناه بشهادة مزورة لكن الاصلية معايا انا، فارس ابن يونس يا آيوب.

واستدار الشيخ يقابلها بنظرة أبوية دافئة: ولو على اخلاصها ليونس فالاجابة باينة قدام عنيك.
استطاع أخيرًا الخروج عن صمته كاسرًا حواجز صدmـ.ـا.ته المتتالية، فلعق شفتيه الجافة واجلى صوته: وهي ليه تضحي من الأساس، وحضرتك ليه سكت كل الفترة دي! سايب ابننا للحقير ده يربيه ليه مش هنقدر نأكله!

أجابته خديجة تلك المرة: لا يا آيوب أنا كنت بحمي ابني منه ومن تهديداته، لو عرف بإن فارس اتسجل باسم يونس وإن الشيخ مهران يعرف الحكاية هيأذي ابني.
صرخ بانفعال جعل بشرته تحتقن بحمرةٍ مخيفة: ليه مفيش رجـ.ـا.لة تقفله!
واستدار لابيه يعاتبه بعصبية: ليه معرفتنيش كل ده؟ ليه سكت وقبلت إن الكـ.ـلـ.ـب ده يدوس علينا بجزمته!

استقام بوقفته يطرق عصاه بغـــضــــب: لاني معنديش استعداد اخسر ابني التاني! يا ابني احنا مهمناش تهديداته ولا كان في دmاغنا وبالنهاية عمل أيه؟ ضيع يونس ولحد اللحظة دي مش عارفين هو عايش ولا مـ.ـيـ.ـت!

خرت قواه وتساقطت دmـ.ـو.عه رغمًا عنه وهو يكمل: أنا اللي قدرت أعمله إني وقفت الخطيئة اللي كان هيعملها وسجلت الولد بإسم يونس، كنت هواجهه ومش فارق معايا يقــ,تــلني ولا يحبسني زي ما حبس ابني الكبير بس خــــوفي كله كان عليك وعلى حفيدي.
يا ابني الشر لما بيجري في عروق البني آدm بيخليه أعمى، لا أنا ولا انت نقدر نوقفه عن شره، ربنا موجود وقادر يخلصنا منه.

لم يتقبل آيوب سماع ما قال، فصرخ بنفس نبرته المحتدة: أبقى لبسني طرحة وقعدني جنبك عشان تبطل تخاف عليا يا شيخ مهران!
واستطرد بوعيدٍ مخيف: أقسم بالله العلي العظيم لأوريه يعني أيه يتشطر على واحدة ست، هاخد حق ابن عمي وهكـ.ـسره وفي الحارة وقدام الكل!
أسرع للخروج فتمسك ابيه بيده وهو يتوسل إليه بخــــوفٍ: عشان خاطري بلاش يا آيوب. انا وأمك مبقاش لينا غيرك. مش كفايا إنه أخد عين من عيوني عايزه ياخد اللي متبقالي!

قالها وانهمرت دmعاته على خديه فتمزق قلب آيوب، ضمه إليه وهو يحاول تهدئة ذاته أولًا فبداخله يستشيط غـــضــــبًا.
هدأت نيرانه تدريجيًا وهو يلمح الصغير الذي غفى على الوسادة جوار خديجة المرهقة.
ترك ابيه واتجه للفراش يحمل الصغير بين يديه ويضمه لصدره بقوةٍ، يطبع قبلات متفرقة على وجهه بعينيه الغائرة بالدmـ.ـو.ع.
قلبه يخفق بقوة ويعلمه بأنه بالفعل يحمل قطعة من أخيه، ملامحه تشربت من يونس وارتوت من صفائه.

تابعته خديجة ودmـ.ـو.عها لا تتوقف على خدها، أعاده للفراش وطرح من فوقه الغطاء ثم أخفض رأسه للأرض ووجه حديثًا صارمًا لها: من النهاردة إنتي وفارس مسؤولين مني أنا. بكره الصبح هأخدك لمحامي زميل ليا هنرفع القضية.
وبعينٍ تفيض بالانتقام: هيعيد الزمن نفسه والمرادي هو اللي هيتخلع.
اتسعت ابتسامة خديجة ورددت بصعوبة بالحديث: هفضل عمري كله مديونة ليك لو خلصتني منه يا آيوب.

هز رأسه بوعد قاطع لها، ثم رفع عينيه لوالده يخبره بايجازٍ: أنا هأخد مفاتيح شقة يونس وهقعد فيها عشان خديجة تاخد راحتها.
ربت على كتفه بحنان: ماشي يا حبيبي.
تركهما وغادر للأعلى بو.جـ.ـعٍ يختزل روحه، ولكنه سيتجه بطريقٍ مضمونًا للانتقام لا ينكس وعده لأبيه.
توقفت سيارة الأجرة أمام القصر، فهبطت زينب على استحياءٍ، واتبعها سيف الذي منحها ابتسامة هادئة: حمدلله على السلامة.

اكتفت بهزة رأسها، وضع يده بجيب سرواله بيأسٍ، وتنهد وهو يخبرها: بقالي ساعتين بحاول أقنعك إني بحبك وجاهز أكون معاكي لأخر الطريق وبردو لسه ساكتة، وبعدين يا زينب أخرة عنادك ده أيه؟

كادت بالحديث فأوقفها قائلًا: زينب أنا مقيد مش عارف أقربلك ولا أتكلم معاكِ بشكل اوضح، علاقتنا مينفعش تكون معلقة بالشكل ده. انا وأنا بستأذن من دكتور على كنت محروج ومش عارف أقوله أيه؟ وسبب قبوله إنه بيدينا الفرصة اللي بياخدها أي عريس بيقعد مع عروسته قبل قراية الفاتحه بعد كده مش هقدر، إنتي مصممة ليه تصعبيها عليا.

أحنت رأسها أرضًا تخفي دmـ.ـو.عها، فلم ييأس وتابع بحديثه عساها تقتنع: أنا واثق إن في جواكِ مشاعر ليا.
وابتسم بمكرٍ وعينيه تتعلق على ما يخصه: والا مكنتيش احتفظتي بالخاتم بتاعي حولين رقبتك.
أخفت بيدها طوقها سريعًا فاستند على السيارة يتابع بتسلية: مفيش داعي أنا لمحته من أول ما شوفتك يا دكتورة.
حاولت الفرار من أمامه فلحقها وهي يهددها بتهورٍ: لو موقفتيش مكانك همسك دراعك حالًا ومش هيهمني.

توقفت محلها واستدارت له تزفر بيأسٍ، فغمز بمشاكسة: شكلك عايزاني أقلد حركات الأفلام الفاكسانه وماله نعملها حتى وأنا متكـ.ـسر كده.
وانحنى قبالتها على ركبتيه يردد ببسمة ساحرة: دكتورة زينب تقبلي تكوني زوجة لدكتور وسيم، وجذاب، وآنيق، ودmه شربات، وبيحبك جدًا والله، ومبيتمناش غيرك. موافقة أكون في قلبك بدل خاتمي اللي محتفظة بيه ده.

مازالت تحتفظ بصمتها، بالرغم من فرحتها التي تهمس لها بالموافقة، فاتاها قوله المرح: زينب ردي بسرعة رجلي مبقتش شايلاني. راعي أني لسه مش بصحتي.
تخلت عن صمتها أخيرًا قائلة بحـ.ـز.نٍ: مش هقبل إني أكون السبب في أذيتك يا سيف أرجوك افهمني.
انتصب بوقفته بوجومٍ تامًا، وبحزمٍ أردف: هو إنتي ليه مصرة تكوني جبانه يا زينب، ليه عايزة تثبتيله إن اللي بيعمله بيأثر فيكي وجايب نتيجة.

واستطرد بجمودٍ: عمومًا الكلام مبقاش له لزمة. أنا عملت كل اللي أقدر عليه عشان مخسركيش بس الظاهر إن أنا بس اللي بحاول.
وتركها وإتجه للسيارة التي بانتظاره، فتح بابها وكاد بالولوج ولكنها أسرعت بالحديث: هتجيب دكتور يوسف وتيجي تقابل على أمته؟
استدار لها بابتسامة أربكتها وخاصة حينما قال: حالًا لو تحبي.
هزت رأسها نافية: لما على يرجع من السفر تقدر تيجي وتحدد معاد كتب الكتاب.

وهرولت سريعًا للداخل تاركة الابتسامة ترفرف على وجهه العاشق، فصعد للسيارة وسعادة العالم تلتف من حوله.
طرق باب غرفتها وهو يناديها، وحينما لم يستمع رد فتح الباب وولج يكرر ندائه بقلق: شمس!
انزوى حاجبيه بدهشة حينما وجدها تجلس بمنتصف الفراش محاطة بوشاح طويلًا يخفي وجهها وجسدها بأكمله، اتجه آدهم وجلس جوارها، يحمل طرف الوشاح الأسود الشبيه بالملحفة: ده أيه يا شمس؟
وتساءل بصدmة مضحكة: هو إنتي انتقبتي أمته؟!

سحبت طرف الوشاح من يده وأجابته بـ.ـارتباكٍ: من النهاردة إن شاء الله.
رمش بصدmة مما يستمع إليه، فمسك على شاربه مردفًا باستهزاءٍ ويده تحاول الوصول لطرف الوشاح ليخلصها منه: بعيدًا عن إن ده مش النقاب فأنا جوزك يا حبيبتي يعني يحل ليا أشوف وشك!
فشل بالعثور على أوله أو أخره فردد بدهشة: أيه ده! شمس اطلعي من الخيمة دي حالًا.
قالت وهي تبعد يديه: لأ أنا مرتاحة كده.

تطلع لها بشكٍ: مرتاحة إزاي، في أيه يا شمس فهميني مالك؟!
هزت رأسها يمينًا ويسارًا وهيئتها كالاشباح: أنا كويسة. اطلع وسبني في خيمتي مرتاحة فيها أنا!
زفر بنفاذ صبر، وبهدوء زائف قال: أوكي يا روحي زي ما تحبي. ممكن تقومي بقى تغيري الملحفة دي وتستعدي عشان هخرجك. أنا بره من الصبح ولسه راجع عايز أعوضك عن اليوم اللي طار ده.
أجابته من أسفل الوشاح: خد الأذن الأول وبعدها هخرجلك من الخيمة.

صاح منفعلًا: أخد الأذن من مين. أنا جوزك يا شمس!
وجذب الوشاح بضيق: ممكن أفهم ليه بتكلميني بالأسلوب ده وبعدين أيه اللي عملاه في روحك ده!
وضيق عينيه بتخمينٍ: عُمران مش كده!
هزت رأسها بقوةٍ، وتابعت باصرار: عايزني أتكلم معاك إبعتله رسالة، عايزني أخرج من الخيمة تبعتله مزد كول. عايزني أخرج معاك رن عليه صوت وصورة.
ردد ساخرًا: طب ولو عايز أخد حـ.ـضـ.ـن أضغط على أنهي زرار!
قالت بخــــوفٍ: هو سابلي إرسال بالطلب ده.

اللي هو؟!
سايبلك رقم الحنوتي تبع عيلتنا هنا!
انطلقت ضحكاته الرجولية الجذابة بعدm تصديق لما يحدث أمامه، فأمرها بصعوبة بالحديث: شمس اطلعي أحسنلك بدل ما أحبسك إنتِ وعُمران اللي فارد ريشه ده!
بـ.ـارتباكٍ قالت: مش هينفع صدقني، اتصل بيه ولما يقولي إطلعي هطلع متجبليش الكلام وحياة بابا مصطفى عندك.

توسعت حدقتيه بصدmة، فسحب هاتفه بغـ.ـيظٍ ومرر زر الاتصال بعمران الذي استقبل مكالمته بفتح فيديو مباشر يجيبه: سيادة الرائد اللي نسى أصحابه وباع، عامل أيه يا حبيبي؟
ضيق عينيه بسخرية: حبيبك! تصدق أنا لو مش ظابط كنت اتخدعت بوشك البريء ده. حظك بقى!
تساءل ببراءة مصطنعة: ليه كده يابو نسب أيه اللي حصل لكل ده؟!
سحب الهاتف من عليه وسلطه على شمس وهو يصـ.ـر.خ بها: ممكن تفهمني أيه ده؟!

صعق عُمران وتلاشى صوته كفراشة عابرة، فسأله بصدmة: ده أيه ده يا آدهم.
رفع حاجبه باستنكارٍ: هتهزر!
أتاه صوتًا أخر يعرفه جيدًا: ده أنا يا موري!
تلقن مختصر ما يحدث، فصاح بصدmة: أيه اللي مهبباه في روحك ده. أنا قولتلك ربيه مش شيعيه!
اتاهم صوتًا رابعًا يدلف من الغرفة مناديًا: عمر، شمس ليه مخرجتش من الآآآآ...

ابتلع مصطفى باقي كلمـ.ـا.ته وهو يراقب الفراش برعـ.ـبٍ، فأشار باصبعه لمن يجاوره وردد بتلعثم: قولتلك إني بسمع أصوات غريبة من أوضة أمك مصدقتنيش، أديها حضرت وهتطين عيشتي على القديم والجديد.
ونهض عن كرسيه بصعوبة جعلته يسقط أرضًا، ليستكمل طريقه زاحفًا وهو يصـ.ـر.خ دون توقف: شبح زُبيدة حضر!، عفريت!
مازال يتراجع للخلف بصدmة ورعـ.ـب جعل آدهم يسرع إليه في محاولةٍ لمساعدته، انحنى إليه يمسك بكفيه وما أن كاد بمعاونته ليعود لمقعده حتى شُلت أطرافه حينما سمعه يردد بفزعٍ: شبح زُبيدة حضر عشان يخلص عليا!
وبجدية تامة قال: بتنتقم مني قبل ما أقولك على السر المخفي!
=والله؟

قالها وهو يمنع أي معالم ساخرة أو ضحكة كادت بالانفلات منه لتبرز على ملامحه الجـ.ـا.مدة، فأمسك مصطفى كف يده ومازالت عينيه مسلطة على الشبح الجالس باستكانة على الفراش، فابتلع ريقه وهو يصـ.ـر.خ بمراوغةٍ كاذبة: متقــ,تــلنيش قبل ما أقول للواد على الحقيقة. آآ. أفتكريلي أي حاجة يا زُبيدة. ده آآ أنا كنت بحبك يا زوزو والله الله يرحمك بقى!

اهتز جسد آدهم من فرط كبته للضحك وخاصة حينما تابع أبيه: آآ. أنا معملتش حاجة نهائي من بعد وفاتك وأنا عايش اعزب محترم في حالي، اسالي إبنك.
ولكز آدهم ببطنه بغـ.ـيظ: اتكلم يالا، قولها آنك بوست رجليا عشان ارتبط وأنا قولتلك اني عايش على ذكراها وحبها وآ.
همس آدهم له باستتكارٍ مضحك: أمته ده! درش إنت بتكدب وإنت بالعمر ده؟
ضـ.ـر.به بكوع ذراعه ببطنه وهو يسبه بغـــضــــب: انطق وقولها قبل ما تقــ,تــل أبوك يا ابن الكل.

سقط أرضًا من فرط الضحك وشمس تكاد تمـ.ـو.ت أسفل الغطاء من فرط حرارة الغرفة، فرددت بصوتٍ محتقن: آدهم افتح التكيف همـ.ـو.ت!
جذب مصطفى يد آدهم ودفعه قائلًا: قوووم بسرعه شغلها التكيف وشوف طلباتها!
وأشار على المقعد الموضوع بمنتصف الغرفة: هاتلي بس الكرسي بتاعي ومشيني من هنا، هي بتحبك وعمرها ما تأذيك، لين دmاغها وقولها متزعلش مني.

جذب آدهم إليه المقعد وعاونه بصعوبة من ضحكه الذي لا يتركه، جلس مصطفى على مقعده وتمسك بيد آدهم يخبره وهو يتأملها بهلعٍ: بقولك أيه. إنت مش كان نفسك إننا نسيب البيت ده لانه كبير علينا ونروح شقة التجمع. أنا موافق وديني هناك ونسيب البيت لزوزو مينفعش نضايق روحها ده مهما كان في يوم بينا عيش وملح!
اانطلقت ضحكات آدهم بقوة. فردد بخبث: ميصحش نسيب ماما لوحدها يا درش.

=خلاص يبقى تتعامل معاها إنت وأمشى أنا، انا عضلة القلب ضعيفة عندي ومش حمل بهدالة يابني.
كبت ضحكاته يجيبه بحـ.ـز.ن ماكر: ولا ينفع أتخلى عنك ده أنت أبويا يا جدع بتقول أيه بس!
صرخ وهو يتأمل شمس التس نهضت عن الفراش حينما ألــمتها قدmيها: مش ابني، معرفكش أصلًا، أنا لقيتك قدام باب الجامع، أنا أصلًا مبخلفش يلا!

اهتزت وقفته من نوبة ضحكه فسقط على الفراش يضحك دون توقف بينما هرب مصطفى بمقعده المتحرك للخارج وهو يصيح يجملة متكررة: سامحيني يا زُبيدة. سيبيني أعيش يا زوبة!
راقبه آدهم وهو يغادر بنظراتٍ مصعوقة، سحبها لتلك التي تصر على ارتداء تلك الملحفة المخيفة، فهتف بنزقٍ ساخرًا: خليتي أبويا اتبرى مني!
قالت ومازالت تتشبث بالغطاء الأسود كأنه أخر بصيص لها بالحياة: أنا ماليش ذنب هو اللي مصدق يرمي طوبتك!

انتصب بوقفته وعينيه الساحرة تضيق عليها بنظرةٍ محتقنة، فمرر إصابعه يفرك شاربه بغـ.ـيظٍ اتبع سياسية مخادعة: حالًا ترمي القرف ده وتيجي قدامي، حالًا يا شمس!
ارتعش جسدها من صارمة نبرته، فهرولت تجاه اشارته لتبدو أمامه كالقطة الوضيعة التي تنتظر باقي تعليمـ.ـا.ت سيدها، فهز رأسه بقلة حيلة: وبعدين معاكِ يا شمس. صبري بدأ ينفذ!
رددت من أسفل الغطاء بتـ.ـو.ترٍ: والله ما هدفي أضايقك ولا في النية يا كابتن.
كابتن!

لفظها مذهولًا ومع ذلك قال بضجرٍ: طيب وأيه هي أهدافك من المسرحية دي يا شمس هانم؟
أتاه عرضها المضحك يخبره: لو صارحتك بجريمتي هتعـ.ـا.قبني ولا هيكون ليا استثناء يا باشا؟
بدأت شكوكه تتراقص أمامه، فلعق شفتيه وتنهد باستعداد لسماع ما ستلقيه عليه: جريمة أيه يا مغلباني؟
رددت بخفوتٍ محرج: سرقة.
رمش بعدm استيعاب: سرقة!
وتابع بصدmةٍ: سرقتي مين يا أخرة صبري!

رفعت طرف الملاءة لتخرج ما أخفته، فالتقطته آدهم وتفحصه بين يديه مرددًا بدهشةٍ: سلاحي ده؟
هزت رأسها بالملاءة المخيفة تؤكد له، فرفع عينيه لها يسرع بسؤاله المرتبك: بيعمل معاكي أيه؟
تحلت بصمتها، فرفع عنها الغطاء بعصبية: انطقي يا شمس، سلاحي بيعمل أيه معاكي؟
انزاح الغطاء عن رأسها ومع ذلك أحاطته حول جسدها بتـ.ـو.ترٍ، فجذب طرفه إليه وأمرها برفقٍ: سيبي من ايدك.

هزت رأسها بجنون، وما كاد بسحبه عنها حتى صرخت بوجهه بخزي: مينفعش تشوفني بلبسي ده. من فضلك تطلع لما أكمل لبس!
لطالما كان ضابطًا ماهرًا يجمع أدلته بحرفيةٍ وتمكنًا، وها هو الإن يقف أمامها كالأبله يحاول استيعاب ما تحاول فعله، فاستحضر صوته الهادر يخبرها بحيرةٍ: ممكن أفهم أيه اللي بيحصل؟

هزت رأسها بجنون وشرعت بحديثها: كنت بأخد شاور والمية انقطعت من حمامي فروحت أوضتك وكملت الشاور بتاعي ولما جيت أخرج لقيتك طالع على السلم، وأنا مكنتش عاملة حسابي إنك راجع دلوقتي وبصراحة خــــوفت على نفسي منك وخصوصًا لو شوفتني بلبسي ده عشان كده خدت سلاحك معايا احتياطي عشان لو فكرت تخرج عن طوع أدبك واحترامك هريحك بطلقة رحيمة!
اتسعت مُقلتيه بشكلٍ مرعـ.ـب، فخرج صوته المحتجز يردد ساخرًا: طلقة رحيمة!

أكدت له ببلاهةٍ: أممم، بالظبط كده!
هز رأسه ويديه تضم منتصف خصره، وفجأة أبعد الغطاء عنها لتظهر أمامه بقميصها الستان الأسود، رفعت شمس ذراعيها تخفي بهما جسدها أمام عينيه وهي تصرخ بانفعالٍ: إنت بتعمل أيه؟!
حاوط وجهها بذراعيه مبعدًا خصلاتها المبتلة للخلف، وأمرها بغـــضــــبٍ يحاول دفنه باسلوبه الرقيق: بُصيلي!

استجابت لأمره فتطلعت إليه فوجدت عينيه لا تنجرفان عن خاصتها، وكأنها مازالت تخفي جسدها بالغطاء، فأدmعت بفرحةٍ وتأثرًا، وخاصة حينما مرر إبهامه أسفل شفتيها مرددًا ببحة نبرة رجوليته المميزة: شمس أنا عمري ما أذيكِ. حبيبتي فكري فيها ما أنا كنت أقدر أعمل أي شيء قبل ما يكون بينا أي رابط تفتكري هقلل من نفسي ومنك دلوقتي لما بقيتي مراتي على سنة الله ورسوله؟

تفنن النـ.ـد.م على معالمها، فحركت رأسها بصعوبةٍ لتنفي له، فصمها إليه بحبًا: أنا مش عايزك تفكري فيا بالشكل ده تاني. أنا طماع ومش هكتفي بحبك وقلبك وبس. عايز الأكتر منهم.
ورفع وجهها بسبابته يستطرد: ثقتك يا شمس!
تهـ.ـر.بت من عينيه بخجلٍ مفرط وقالت: أنا آسفة يا آدهم.

طبع قبلة عميقة على جبينها وضمها إليه: متعتذريش يا قلب آدهم، أنا هسيبك تغيري هدومك وهروح أشوف الحاج اللي لو كان فضل هنا كمان عشر دقايق كان قال كل اللي في معدته من غير جهاز كشف الكدب.
ومازحها ليخفف وطأة الأجواء: شكلك هتبقي مفيدة جدًا ليا يا مدام عمر الرشيدي!
اتسعت ابتسامتها فضمها إليه مرة أخرى وردد وهو يخطو بخطواته الثقيلة للخارج: هستناكي تحت. متتأخريش يا حبيبتي.

ولج لجناحه الخاص بخطواتٍ متهدجة، حرر جاكيته واتجه سريعًا لفراشه، يعوض شوقه الجارف إليها طوال هذا اليوم الذي لم تكن بصحبته.
مال عُمران إليها يربت على خصلاتها المفرودة على الوسادة من خلفها بحنانٍ، متعاهدًا الا يزعج منامتها، فإذ بها تتحرك بنفورٍ تام، وفجأة نهضت تقابله بنظرةٍ عابسة جعلته يتساءل بقلقٍ: مالك يا حبيبتي؟

ابتعدت عن يده التي تحاول ملامسة خدها، وكلما دنى إليها متلهفًا لرؤيتها تراجعت حتى نهضت عن الفراش تركض للمرحاض وهو من خلفها.
وجدها تنحني وتفرغ ما بجوفها بتعبٍ شـ.ـديد، فمال إليها يزيح خصلاتها المنسدلة ويتحكم بجسدها بتمكنٍ، فأردعته مرددة بخفوتٍ: إبعد يا عُمران.

علم بأنها تشعر بالحرج لوجوده بموقفٍ هكذا، ولكنه رفض الابتعاد وأصر على مساندتها، يده تزيح رابطة عنقه تحيط بها خصلاتها المتمردة من حولها، يحكمها من حوله كما اعتاد أن يفعل، ويده الاخرى تمسد بحنان على خصرها.
مالت برأسها تستند على كتفه بـ.ـارهاقٍ تام، وحينما ضمها لصدره أبعدته وعادت تستفرغ ما بجوفها مجددًا، فتحكم بها وهو يردد بخــــوفٍ: حبيب قلبي مالك بس! أطلبلك يوسف؟

هزت رأسها بالرفض وعلى استحياءٍ قالت: إبعد إنت بس. أنا مش طايقة ريحتك!
برق لوهلةٍ مندهشة، وردد ساخرًا: نعم! ريحتي أنا!
وعقد حاجبيه باستنكارٍ: مش دي الريحة اللي كنت مدmنة عليها لدرجة إنك كنتِ بتحـ.ـضـ.ـنيني كل ساعتين تقريبًا يا بيبي!
اكتسى وجهها حمرة الخجل، فرددت بصعوبة: عُمران اطلع.
زفر بقلة حيلة، وتابع بهدوءٍ: هساعدك عشان متدوخيش وبعدها هبعد.
هزت رأسها نافية: ريحتك بتخـ.ـنـ.ـقني يا عُمران؟

استرخت معالمه تدريجيًا حينما تفهم مقصدها بالتحديد، فنزع عنه قميصه وألقاه بعيدًا قائلًا: ها كده مرتاحة؟
مالت إليه برأسها تستكشف تعلق الرائحة به، وجدتها ولكن لم تكن بحدتها، فاكتفت بهز رأسها إليه.
انحنى يحملها متعمدًا أن يميل برأسها إليه، ليطبع قبلاته على جبينها وهو يهمس لها: حبيب قلب جوزه لحق يبكسل كده في أول مرحلة أمال في التاسع هتعملي أيه؟!
لفت يدها حول رقبته باحكامٍ تجيبه: هطلع معاش مبكر.

أطلق ضحكته الجذابة واتجه بها للفراش، وضعها وجلس يربت عليها برفقٍ حتى تخلل إليها النوم، فتركها تغفو وتسلل على أطراف أصابعه وخرج للتراس، قضي ساعات يحجب تفكيره الساخط بعد مقابلته مع نعمان الغرباوي، صفن بحياته برمتها وعاد ببصره لزوجته، تمعن بها بحبٍ وابتسامة عاشقة، تلاشت فجأة فور تذكره ما حدث، فمال لصدره العاري يشم ذاته جيدًا بضيقٍ ومن ثم حجب أفكاره حينما حرر رقم بهاتفه وترقب سماع المتصل به.

دقيقة واحده استغرقها ليجيب يوسف، متسائلًا بنزقٍ: خير يا وقح! بترن نص الليل ليه؟
وتابع بهجومٍ كاسح: هو أنا مش هخلص منك إنت ولا التور التاني، وكأن مفيش ستات حملت على الكون غير مرتاتكم! انجز ولخص ورايا عمليات الصبح!
أتاه رده الوقح يجيبه: يلعن أبو دي معرفة يا أخي! أيه بكبورت واتفتح عليا! ما تتزفت تهدى وتسمع اللي هقولهولك إنت عارف أنا هكلمك عن أيه أصلًا؟

ومش عايز أعرف يا سيدي. أبوس ايدك حل عني بقولك عندي تلات حالات ولادة بكره وليلى فوقهم كمالة عدد، سايبالي غسيل الهدوم والمواعين بعد ما رجعت من العيادة تخيل!
اخرس بقا وإسمعني، مش دكتورك النفسي أنا ولا يكونش حد قالك إني مصلح اجتماعي!

تنهيدة عميقة اتبعها سؤالًا يحاول التحلي بالصبر: طيب يا بشمهندس عُمران أنا بعتذرلك على وقاحتي الحقيرة وبتساءل بكل احترام ووقار عن سبب المكالمة اللي على وش الصبح دي ممكن سيادتك تتكرم وتقولي!
عجبني الرد فخم كده ويليق بيا كبشمهندس أد الدنيا ومالي مركزي بس وحياة أمك يا يوسف لو مفوقــ,تــليش وسمعتني هتلاقيني تحت بيتك ومش هيهمني مخلوق.
يوووه ما تخلص وتتزفت تسأل خليني أتخمد!

تنحنح بحرجٍ وهو يحاول الحديث، فالتفت يتأكد من غفوة زوجته وعاد يهمس له وكأنه شخصًا أخرًا: مايا قرفانه مني!

انتظر سماع صوته ولكن لم يصله سوى صوت تنفسه المنفعل وكأنه على وشك الانفجار، فاستطرد عُمران بضيقٍ: يوسف أنا بأخد شاور أكتر من أربع مرات في اليوم، مهتم بنفسي وشيك جدًا، البرفيوم بتاعي بجيبه من فرنسا مخصوص وإنت عارف ده، من فضلك فهمني اللي سمعته ده عقلي واقف وحاسس إني إتخدت قلم علم على قفايا، قفا صاحبك اتختم يا يوسف!

ربنا يأخد يوسف على اللي شار عليه يدخل قسم نسا وتوليد والطب أساسًا، إنت متصل تستظرق يا عُمران! انت في أيه إنت والزفت التاني مُخكم اتلحس على حمل المدامـ.ـا.ت!
أنا راجع من شغلي على أخري أساسًا فخدلك مني ساتر بدل ما أفحمك إنت وأخوك المستفز.
وأيه دخل دكتور سيف باللي بيحصل دلوقتي؟!
دكتور! اسمه سيف حقنة يالا.
وبعصبيةٍ مفرطة صاح: قوم اتعدل كده وفوقلي من النفخة الكـ.ـد.ابة بتاعتك إنت وأخوك دي!

وبجدية تامة قال: يوسف أنا عقلي واقف بجد، إنت متخيل إن عُمران سالم الغرباوي بجاذبيته اللي هالكة قلوب العذارى يتقاله ابعد مش طايقة ريحتك!
إلهي ربنا يقهر قلبك على جاذبيتك المغــــرورة دي، عُمران ده وقت تنفش فيه ريشك يا طاووس! سيبني أنام وبكره إن شاء الله هجي بنفسي أعقمك بديتول ومنظف حلو أوي بلمع بيه عربيتي مش خسارة فيك والله!
تلمع مين بروح أمك، إنت الظاهر لسه مهلوس ومش مختار ألفاظك!

طيب بص عشان نخلص من أم الليلة اللي ضاعت في الغسيل والمسح وبتكمل إنت جمايل اليوم. اللي بيحصل ده طبيعي جدًا جدًا يا حبيبي. بعض الستات الحوامل بيقرفوا من الروائح زي ريحة الصابون، البرفيوم، البخور، وغيرهم.
بجدية مضحكة قال: يعني أنا كده في السليم؟
همس بصوتٍ منخفض: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم أقفل في وشه ده ولا أظرُفه بلوك!

وبابتسامة ساذجة التمسها عُمران دون أن يراها قال: عادي طبعًا يا حبيبي. يعني المدام بتاعتك مش قرفانه منك (absolutely قطعًا)، هي كل مشكلتها مع البرفيوم الفرنسي الباهظ اللي انت مغــــرورلي فيه فزي الشاطر كده هتمنع تحطه وتعيش حياة المواطن العادي اللي بيمشي بعرقه ليل نهار وبالنهاية بيطس نفسه بجردل مية فيها شوية معطر وديتول، راكبة معاك يا بشمهندس؟
إنت مـ.ـجـ.ـنو.ن عايزيني أمشي من غير ال(perfume البرفيوم) بتاعي!

خلاص يا حبيبي حط ونزه نفسك خليها تنفر منك بقى لحد ما تخلعك وأبقى إرفع قضية رؤية عشان تشوف ابنك ولا بـ.ـنتك اللي قرفة أمي من قبل ما تكمل الشهر دي!
وتابع بعنفوان: اقفل بقى ربنا يكرمك. مش اتطمنت على نفسك وانك بخير وتمام؟ ولا تحب أنزل بنفسي ادورلك على مزة تختبر تأثيرك عليها في ليلتك اللي مش هتعدي دي!
نام يا يوسف يلعن أبو معرفتك!
أغلق عُمران الهاتف بوجهه وهو يهتف بعصبية: بني آدm مستفز!

احتدت معالمه غـــضــــبًا، فصرخ برجـ.ـاله بصوتٍ كالرعد: يعني أيه الكلام ده! معقول زينب تأكد كلام الحقير اللي استغل وجودي بالمستشفى واتهمني باللي حصله!
أكد له أحد رجـ.ـاله حديثه مجددًا، فقبض يمان قبضة من جحيم وقال: وديني لأحققله اللي طلبه بس المرادي مفيش منها قومة، ماشي يا زينب هشوف هتهربي مني ازاي!
صف سيارته بچراج منزله واستدار إليها يتساءل بحبٍ: عجبتك القاعدة على النيل؟

أجابته بفرحةٍ: جدًا يا آدهم متتصورش أنا كان نفسي أزور مصر أد أيه.
وتمسكت بيده المستندة على مقعد السائق: ومعاك إنت بالذات.
تناول كفها يقربه إليه، وبرقة شـ.ـديدة قبل باطنه مرددًا بنبرة مغرية: أنا هنا عشان أحققلك كل أحلامك شمس هانم.
ضحكت وهزت رأسها بدلالٍ: ميرسي كابتن آدهم!
فتح ذراعيه بحركة فاجئتها وهمس لها: محتاجك في حـ.ـضـ.ـني يا شمس.

لعقت شفتيها بـ.ـارتباكٍ، فألقت حديث عُمران بعرض الحائط واندثت بأحضانه تشعر بدفئه وحنان ضمته، ربت عليها وتابع همسه الهادئ: الحب هو الثقة الكاملة للطرف التاني فأوعي تبطلي تثقي فيا لإن وقتها هفهم أن الحب اللي جوه قلبك انتهى يا شمس!
رفعت يدها تستند على قلبه المتزايد دقاته بشكلٍ أسعدها، وقالت بنعومةٍ: لو هتحبسني هنا بالكـ.ـلـ.ـبشات للأبد مش هبطل أثق فيك يا آدهم.

قبل جبينها بعشقٍ وردد: وأنا مش عايز أكتر من كده يا روح قلب آدهم!
وابتعد عنها يحيط وجنتها بحنانٍ: يالا يا روحي اطلعي غيري وارتاحي. دكتور على زمانه قلقان عليكِ الوقت سرقنا واتاخرنا.
هزت رأسها بطاعةٍ واتجهت للأعلى، فاختار ركنة مناسبة لسيارته وجذب متعلقاته ليصعد للأعلى، فاذا بهاتفه يعلن له عن مكالمة كانت الأهم له بتلك الفترة المنصرمة فرد بلهفة: باشا أخبـ.ـار حضرتك أيه؟

تبدلت معالمه بشكلٍ مقبض، فقبض على مفاتيحه بقوة خدشت أصابعه وردد ببعض الانفعال: طيب وليه حضرتك متدخلتش!
هز رأسه وهو يتلاقى الجزء الأهم بالخطة: فهمتك يا باشا، خلاص بكره الصبح هخرج يونس علشان الحقير ده يخرجه بره اللعبة اللي هتدور عليه.

وبامتنانٍ قال: مش عارف أشكر حضرتك ازاي يا مراد باشا. حقيقي أن ممتن لمساعدتك في سرعة التحقيقات اللي اتعاملت وبرأت يونس وكمان فكرة زرع جهاز تجسس جوه زنزانته هتخدmنا كتير في كشف الوش الحقيقي للحقير ده. بس أنا مكنتش أتمنى نلجئ للطريقة دي.

أتاه رد الجوكر الحازم: مكنش في طريقة تانية غير كده يا عمر. يونس اتعـ.ـذ.ب طول السنين دي وباللي حصله النهاردة هيساهم في رجوع حقه بالدليل اللي بقى في ايدينا بس الذكاء في خطتنا اننا مش هنظهره غير لما نمسك أكتر من دليل يدينه، بصريح العبـ.ـارة عايزين الضـ.ـر.بة تكون قاضية. فهمتني؟
طبعًا يا باشا، بتمنى بس ميكنش شكوك حضرتك صح لانها ساعتها هتكون كارثة!

أغلق الهاتف وارخى رأسه للمقعد من خلفه، بينما يده تعبث باسماء هاتفه حتى توقف على اسم آيوب بن الشيخ مهران، ابتسم على طريقته بتسجيل اسمه وحرر زر اتصاله فما أن أجابه حتى تساءل: هتصلي الجمعه فين بكره يابن الشيخ مهران؟
استمع لاسم وعنوان المسجد القابع لحارته وابتسم يخبره بثقة: هصلي معاك بكره ومعايا هديتك فاكرها؟

ولم يترك له فرصة التخمين فقام بغلق هاتفه وهبط من سيارته يلهو بمفاتيحه ويصفر باستمتاعٍ لنجاح أول جزء من خطة الجوكر المزعوم، فما كاد بالتوجه لغرفته حتى تذكر أمر أبيه.
إتجه لغرفة أبيه يبحث عنه، لم يعثر عليه وكأن بالفعل شبح والدته قد التهمه، حرر ضحكة كُبتت بـ.ـارادته حينما وجده يختبئ خلف خزانة كتبه القديمة، فصاح ساخرًا: صاصا لو حيًا ترزق هز كتاب عفريت في منزلي متلبس ابني الوحيد، ابنك اللي اتبريت منه!

واستطرد بضحكةٍ تعلو الاخرى: يا راجـ.ـل ده إنت لو معانا في الجهاز هتسوح أسرار الدولة من غير ما تأخد القلم!

دفع باب الخزانة ومال برأسه يتطلع له نظرة الطفل الوديع، جلس آدهم على سطح الكومود يهز رأسه بيأسٍ: تتبرى مني أنا يا مصطفى! طيب ليه يا حبيبي ده أنا قايم شارب نايم بدورلك على بـ.ـنت الحلال اللي تسكن قلبك بدل شبح زوبة اللي مخليك معيشني في كابوس وفقدان للخلف! أنا معتمد على الله ثم عليك في عمار البيت ده ومازلت بنقي وأختار الأرض الصالحة اللي هتجيبلي اخوات صغيرين شبهك كده يا صاصا!

التفت يتفحص الغرفة برعـ.ـبٍ، وصرخ به: اخرس قطع لسانك والله ما يدخل بعدها ست ولا قبلها.
وجذب أحد الكتب يلقيها عليه هاتفًا بحنقٍ: عايزها تقــ,تــلني قدامك يابن الكل.
وأسرع بمقعده إليه بعصبية: عايز تدخل دنيا مع مراتك ذنبي أيه تخرجني منها قبل ما أخرجلك المدكن وأكشف المستور!
نهض عن الكومود يفرقع أصابعه بخبث: أيوه أيه هو المدكن والمستور يا شقي؟

ابتلع ريقه بـ.ـارتباكٍ ووزع نظراته إليه ثم ردد بصوتٍ خبيث يستميل عاطفته: هو أنت بتحقق معايا ولا أيه يا حضرة الظابط.
مال على مقعده بحركةٍ درامية: بالظبط كده يا صاصا ولو مقرتش واعترفت حالًا هجبلك شبح زوبة يقررك بمعرفته وصدقني لو نجحت معاك هأخدها معايا في الجهاز تساعدني في التحقيقات بدل سلخ المساجين واسلوب التعذيب اللي بقى فيك أوي ده.

تعمق بعينيه بنظرةٍ حزينة، فاستغل قربه الشـ.ـديد منه وانحناء قامته الطويلة، فأحاط وجنتيه بيديه وبنبرة شبه باكية قال: خايف أخسرك بعدها يا عمر!، بس غـ.ـصـ.ـب عني يابني قلبي مش مطاوعني أقابل ربنا وأنا شايل على كتافي ذنب كبير زي ده. عايزه يسامحني وقبله إنت كمان تسامحني.
أحاط يديه بحبٍ وقال: تقصد مين يا بابا. اتكلم من فضلك!
تهاوى الدmع عن عينيه وجاهد لخروج صوته الذي كُبت لسنواتٍ: ابني يا عمر، أخوك!

رمش بعدm استيعاب، وغادرت عنه كل ذرة مرح، فتساءل بصدmةٍ: ابنك ازاي؟ بابا إنت بتقول أيه؟!
أخفض رأسه أرضًا يخشى مواجهة ابنه، تاركًا دmـ.ـو.عه تغسل ذنبه الذي لا يغتفر، رفع وجه آبيه إليه وجمع كل ثبات امتلكه ليهاتفه بهدوءٍ: بابا تقصد أيه بكلامك ده من فضلك رد!

رفع عينيه إليه وببكاءٍ شـ.ـديد قال: غـ.ـصـ.ـب عني يا عمر. كان غـ.ـصـ.ـب عني يا ابني أنا زي أي راجـ.ـل ليه نزوات واحتياجات ووالدتك مكنش ينفع تمارس حياتها معايا بشكل طبيعي، استحملت سنة واتنين وتلاته بس بعد كده ضعفت.
جحظت أعينه صدmة، فتراجع للخلف وسقط على الفراش وبصعوبة حرر ثقل لسانه: يعني أيه ضعفت؟ انت عملت أيه؟!

حرك مقعده تجاهه وقال بحشرجة ذبحت فؤاده قبل أن تغير نبرته: إنت عارف إن والدتك كانت مريـ.ـضة ومرضها زاد بعد ولادتك على طول، عشان كده الدكتور منع يكون في بينا علاقة زوجية، وقتها قالتلي لو عايز تتجوز اتجوز بس أنا كنت قوي وقادر أخد قرار عشانها وعشانك. كان لسه عندك سنتين اتعلقت بيك وبقيت بحاول أقنع نفسي إني مش عايز حاجة من الدنيا غيرك. كتمت جوايا أي رغبة ممكن تتحرك لواحدة ست، حافظت على أمك وعليك لحد ما بقى عندك خمس سنين، وقتها غـ.ـصـ.ـب عني مشاعري اتحركت لبـ.ـنت بتشتغل معايا في نفس الشركة.

سحب نظراته من ظلمة عين ابنه وردد بانهيارٍ: خــــوفت على نفسي يا ابني. خــــوفت أمشي ورا شيطاني وأزني، عشان كده طلبتها للجواز وشرط عليها إن جوازنا يكون في السر وإنها تأخد أدوية منع الحمل. وفعلا عشت معاها تلات سنين بس اللي معملتش حسابه هو اليوم اللي هتيجي فيه تقولي أنا حامل!

شعر بأن هناك دوار حاد يعصف به، لا يصدق أن من يقص عليه هو نفسه أبيه، يشعر وكأن أحدٌ ألقاه بنبع بئر من جحيمٍ يتلقف جسده بكل محبة ليذوب لحمه بين نيران جهنم، يود لو صرخ به ليوقفه عن الحديث ولكنه عاجز حتى عن النطق وخاصة حينما استطرد: مريت باختبـ.ـار أصعب، ما بين بيتي اللي اتبتى بحبي أنا وأمك وما بين غلطة جت بسبب نزواتي، شيطاني وسوسلي أخليها تنزله بس خــــوفت من ربنا، فخلتها تكمل الحمل.

أغلق عينيه بقوة يحرر دmـ.ـو.عه المحتبسة ليتابع أصعب جزء: طول المدة دي كنت عايش في عـ.ـذ.اب، كنت خايف اتكشف قدام أمك وإنت أكتر واحد عارف أنها بتكره الكدب والخيانة وإن لو موضوعي اتعرف وقتها هخسرها وهخسرك. كنت بدعي إنها متعرفش لإني بكده هكون السبب في مـ.ـو.تها وده اللي عمري ما أقبله حتى لو كنت ظالم للبـ.ـنت اللي اتجوزتها وللي في بطنها...

واستكمل بانكسار: بس اللي متوقعتوش إني ارجع تاني لاختبـ.ـار أصعب وألعن. يوم ولادتها مـ.ـا.تت وسبتلي ولد رضيع شايله بين ايديا ومش عارف هروح بيه فين، كنت ما يين اختيارين أصعب من بعض، أخده بيتي وأعرف امك الحقيقة وساعتها هخسرها وهخسرك وهدmر البيت اللي ضحيت عشان أحافظ عليه بكل طاقتي وما بين اني أضحي بيه فاخترت الحل الاخير عشانك!

وإتجه إليه يتمسك بيده الملقاة على الفراش باهمال ليسترسل ببكاء حارق: أنا عايز ابني يا عمر، عايز أشوفه ولو للمرة الاخيرة، هاتلي أخوك!
اشمئزت ملامح آدهم وانتفخت عروقه بشكلٍ خطير، فانتصب بوقفته وحرر لجامه بتثاقلٍ: إنت بأي حق لقبوك أب! جاي بعد السنين دي كلها تكشف وشك الحقيقي! ليييه فهمني ليه؟ ماما كانت متفهمة حالتها وعرضت عليك تتجوز أكتر من مرة...

شـ.ـدد على خصلات شعره للخلف بجنونٍ كاسح وصرخ مجددًا: وهو ذنبه أيه؟ ذنبه أيه يجي على الدنيا لوحده وبطوله! إنت، أنت ازاي قاعد قدامي وقادر تتكلم عن ذنبك ده! أنت فرطت في ابنك! فرطت في حتة منك فاهم! مستوعب اللي عملته؟!
وطرق صدره بعنفٍ شرس: وأنا مصعبتش عليك وأنا بحارب الدنيا دي بطولي، مشوفتش كـ.ـسرتي وأنا وحيد وماليش أخ ولا سند!

واستطرد بضحكة ملأت بو.جـ.ـعٍ قـ.ـا.تل: أنا مش قادر استوعب إن أبويا الراجـ.ـل المحترم اللي مبيسبش ولا فرد. اللي رباني بكل محبة قدر يعمل كده! ياريتني كنت مـ.ـو.ت وراها ولا إني أشوفك بالصورة البشعه دي!
واستدار ليغادر الغرفة فهرول خلفه بمقعده يناديه: متمشيش يا عمر، متمشيش لازم تسمعني أرجوك ساعدني أضم ابني في حـ.ـضـ.ـني ولو لمرة واحدة، أنا مش عايز أمـ.ـو.ت وأنا شايل الذنب ده معايا يابني.

أغلق عينيه بقوةٍ وسحب نفسًا عميقًا يرمم به احتجاز أوردته، استدار إليه وردد بسخريةٍ لازعة: ويا ترى بقى إنت عارف إنت رمـ.ـيـ.ـت ابنك في أي ملجأ ولا رمـ.ـيـ.ـته قدام باب جامع ولا فين؟
هز رأسه نافيًا وردد: لأ يابني معملتش كده، اقعد وهحكيلك.
تهاوت دmعات آدهم وبتوسلٍ باكي قال: مش قادر اسمع أكتر من كده، من فضلك سبني الوقتي ولما أتخطى اللي حكيته ده هجيلك بنفسي وأسمع باقي الحكاية.

واستدار ليغادر فلحق به مصطفى ليوقفه آدهم بحزم قاطع: عايز أكون لوحدي لو سمحت!
كُسر قلبه واحتجز بين أضلعه، نيران التهمت الأب وابنه وكلاهما تحيطهما دmـ.ـو.عًا مزجت بين صدmتها وبين نـ.ـد.مًا ورجاء.

أخفت الشمس ظلام الليل وتآلقت بأجمل صورة، اليوم يعلو المساجد أصوات الخطبة ويتآلق الرجـ.ـال بالجلباب الأبيض، ومن بينهم آيوب الذي ازدادت وسامته بجلبابه الأبيض الذي برز كتفيه وتناسق جسده الرياضي، ولجواره أبيه الذي احتل المقدmة ليأذن في الناس بخطبة يوم الجمعة.
فرد آيوب سجادته وجلس يستمع لأبيه بفخرٍ وسعادة، إلى أن شعر بأحدهما يجلس لجواره، فاستدار جانبه مرددًا بفرحةٍ: آدهم!

نزع آدهم نظارته السوداء التي تخفي عينيه المحمرة من أثر تعاسة ليلته الحالكة دون أن يرف له جفنًا بعد معرفة سر أبيه الخفي، وللعجب هو لم يستمع الا لنصفه مازال لا يحتمل سماع الجزء الأخر فبدى له بأنه الاصعب على الاطـ.ـلا.ق، وربما بعدها سيفقد احترامه لأبيه كاملًا.
رسم ابتسامة باهتة وقال: وحـ.ـشـ.ـتني يا آيوب. أخبـ.ـارك أيه؟
أجابه بلهفة: أنا بخير الحمد لله، ها فين المفاجأة اللي مش مبطل تتكلم عنها؟

قال بابتسامة صافية: بعد الصلاة هتعرف.
ونهض كلاهما يستقيمان بالصفوف لتأدية الصلاة، وفور الانتهاء منها أسرع آيوب لآبيه يشير له: بابا ده سيادة الرائد عمر الرشيدي اللي كلمت حضرتك عنه.
ابتهجت معالم الشيخ وقال: ده آدهم اللي كلمتني عنه؟
أكد باشارة رأسه: ايوه هو اسمه الحقيقي عمر بس الكل بيناديه بآدهم وبصراحه لايق عليه أكتر.
صافح آدهم الشيخ مهران بحرارة: أتشرفت بحضرتك يا شيخ مهران.

وأشار لآيوب هامسًا: عربيتي جنب بيتك ممكن تجيب والدك وتيجي ورايا بهدوء.
ليه يا آدهم في أيه؟
تساءل بقلقٍ فربت على كتفه يخبره: مفيش حاجة. بس نفذ اللي قولتلك عليه.
أومأ برأسه وبالفعل اتجه بأبيه للمنزل وبالاخص لسيارة آدهم الفخمة، فرفع آيوب صوته بحيرة: قولي بقى في أيه؟
فتح آدهم الباب الخلفي لهما، فتسللت أبصارهما للداخل بصدmة، جعلت آيوب يصـ.ـر.خ بعدm استيعاب: يونس!

أكثر لحظة يخشاها يتعرض لها الآن، هبط يونس من السيارة بصعوبة، ما تعرض له بالأمس كان أبشع ما مر عليه، ولكنه يثق بأن آدهم فعل ذلك لمغزى يود استكشافه لاحقًا.
أفاق من شروده على اندفاع جسدًا ضخمًا لأحضانه، ولم يكن سوى ابن عمه وأخيه الأصغر الذي فارقه منذ خمسة سنوات، والذي بات يملك جسدًا يفوق بُنيته الماضية، تخشب بمحله وتحرر صوته بو.جـ.ـعٍ تام: متلمسش ضهري يا آيوب!
أخيه الغائب يقف قبالته بعد فراقٍ دام لأكثر من خمسةٍ أعوام، قضاهم حائرًا لا يعلم إن كان حيًا يرزقُ أم انتقل لرحمة ربه، كانت أقصى أمنياته أن يعلم هل مازال حيًا أم قد قُتل، ففجأه آدهم بأكثر مما تمناه لدرجةٍ جعلته يقنع ذاته بأنه يتوهم، ولكن أعين أبيه الباكية تعكس غير ذلك.
حسم صراعه الجائر بأن اختطفه لاحضانه، يتلمسه ليتهيئ لتلك الحقيقة الهامه، فردد ببكاءٍ استل رغمًا عنه: يُونس!

افتقده كثيرًا ولكن رغمًا عنه عاجز عن بقائه داخل أحضانه، فهتف به مُتألــمًا: متلمسش ضهري يا آيوب.
ابتعد عنه للخلف يشمله بنظرةٍ أكثر تفحص، وزنه الذي انتقص بشكلٍ ملحوظ ففقد كتلته العضلية التي نمت بفضل ممارساته للرياضة بالجيم الخاص برفيقه إيثار، وجهه الشاحب والمحتفظ بكدmـ.ـا.تٍ حديثة دmائها مُجلطة وبعدها لآثار قديمة تدل على طبيعة ما خاضه، والمؤلم له هي ماذا تخفي ملابسه من اصاباتٍ؟!

انهمرت دmـ.ـو.ع آيوب كأمطار رعدية تهاجم دون موسمها، فأمسك كفيه بين يديه المرتعشة: أنا مش مصدق إنك قدامي! أنا كنت وحيد من غيرك يا يونس. كلنا كنا هنمـ.ـو.ت عليك ومش عارفين نوصلك.
ربت على كفه بتفهمٍ، وقال برجاءٍ لمس به آيوب انكساره: امسح دmـ.ـو.عك واهدى. من فضلك مش عايز حد ياخد باله مننا.
أبعد الشيخ مهران ابنه وفتح ذراعيه لابنه الاخر هاتفًا باحتقانٍ اكتسح نبرته: ابني حبيبي!

أدmعت أعين يونس وهو يرى دmـ.ـو.ع عمه لمرته الاولى، عمه الذي اشتد عوده وهو لجواره، وحينما يحيطه شيطانه بأنه خُلق وحيدًا دون أب أو أم كان يصفع ذاته بأنه منحه شيخًا فاضل يربطه به صلة القرابة القوية، فألقى آلامه عرض الحائط وولج لحـ.ـضـ.ـن أبيه وهو يغلق عينيه بقوةٍ ليجابه تلك الآلآم القـ.ـا.تلة لاحتكاك صدره المجروح بصدر أبيه ويده التي تتلمس ظهره بحنانٍ، على الأغلب بأنه من صدmته لم يستمع لصراخه وهو يخبر آيوب بعدm ملامسة ظهره.

بعد آيوب أبيه عن ابن عمه وهو يبتسم بلطف ليخبي مفهومه: خلينا نطلع فوق بدل الواقفة دي يا بابا.
هز رأسه بتفهمٍ، واستدروا ليصعدوا لبنايتهم فوجدوا آدهم يقف بعيدًا بمدخل المنزل بالتحديد ليترك لهم مساحة خاصة، كان الشيخ مهران أول من تقدm منه يضمه بكل محبة وهو يردد بامتنانٍ: أنا عاجز عن شكرك يابني، إنت باللي عملته ده متتخيلش أسعدتني ازاي، انت ردتلي روحي بعد ما غابت عني لخمس سنين!

ضمه آدهم بمحبةٍ كبيرة وقال: أنا معملتش حاجة يا عمي. دي إرادة ربنا سبحانه وتعالى. أتصاب في مهمتي ويكونلي مكان في نفس الشقة اللي فيها يونس عشان بالنهاية أكون سبب في رفع الظلم عنه.
واسترسل وهو يمنح يونس بنظرة حملت له الوعد: ولسه لما أرجعله حقه وأشفي غليله.

وكأنه أيقظه لشيءٍ هام فهبط الدرجتين التي كاد بهما استكمال طريقه للأعلى، وإتجه يقف قبالة آدهم يخبره بنبرةٍ عميقة: إنت وعدتني إن بعد ما هتخرجني هنتنقملي منه بس هو زي ما هو لسه في منصبه!

تفهم عصبيته الهادرة وقال بثقةٍ: وعد عمر الرشيدي دين وسيف على رقبته يا يونس، بس اللي انت متعرفهوش إن الموضوع طلع أكبر مما تتخيل، أنا بعد ما زرعت كاميرات التجسس في زنزانتك واتفقت معاك تستفزه عشان يبقى معايا دليل قاطع إنه بيستغل منصبه لصالح عيلته ومصالحه الشخصية طلعت من عندك وقابلت القائد بتاعي حكيتله عنك وهو قالي هيتكفل بالقضية دي وهيحقق فيها بنفسه، وحظك بقى إن اللي تابع الموضوع ده هو الجوكر لما دور وراه اكتشف مصايب يعني مش بس ده اللي بيعمله في اللي أكبر من كده.

وتابع بهدوءٍ رزين: لو اخدنا خطوة وحاسبناه على اللي عمله معاك ومع غيرك هيتجازى وممكن يتقاعد بس ده مش اللي احنا عايزينه. احنا باللي بندور عليه لو أثبتناه هنلف حبل المشنقة حولين رقبته. أما الكـ.ـلـ.ـب التاني فمتقلقش وخليك مطمن أنا مش ساكت وقريب أوي هجيلك أبـ.ـاركلك على رجوع حقك بالكامل.

ارتسمت ابتسامة ممتنة على وجه يونس الذي تناسى كيف يبتسم! فوجد ذاته يحتضن آدهم بقوةٍ لا تجاهي أوجاعه، وكأنه وجد بأنها أبسط حقوقه لما فعله لأجله، وردد إليه: شكرًا لإنك في وسط العتمة اللي كنت فيها كنت الأيد اللي خدتني للنور!

ارتعش جسد آدهم بصورة ملحوظة، وكأنه تناسى مقاومـ.ـا.ت مبادلة الآخرون، ففرق ذراعيه وقربهما من ظهره دون ملامسته لأنه الوحيد الذي يعلم حجم اصابته، وهالته دmـ.ـو.عه التي التمعت بعينيه شاعرًا بحنين غريبًا لأخيه!

ترى إن قابله بعد تلك السنوات هل سيصفح له عدm علمه بوجوده؟ والأهم هل سيسامح أبيه وهو ذاته عاجزًا عن ذلك! لا يعلم لما تمنى بتلك اللحظة أن يكون يونس نفسه أخيه المفقود! ويتعزز شعوره بأن ينتهي غـــضــــبه وتهدأ ثوراته ويندفع لاحضانه مثلما فعل يونس الآن!

ابتعد يونس عنه يراقب ملامح وجهه بدهشةٍ من رؤية دmعاته اللامعة، ظنه رجلًا قويًا مجردًا من المشاعر كحال أغلب ضباط الذي تعرض للضـ.ـر.ب على ايديهم داخل ذلك المعتقل المظلم، فوجده يتأثر بالمشاعر الصادقة بشكلٍ عزز من حبه واحترامه لذلك الشخص النبيل.

تحرك آيوب عن مكانه يخفي آدهم الذي يحاول ازاحة دmـ.ـو.عه دون أن يراه أحدٌ، وهتف بمرحٍ: يونس من فضلك بقى تحترم نفسك، آدهم صاحبي أنا من لما كنت في لندن مش هتيجي في كام يوم وتكونله البيست فريند.
ازدادت ابتسامة يونس بينما انفجر آدهم ضاحكًا وهو يصيح بعدm تصديق: آيوب سيف طبع عليك ولا أيه؟
غمز له بمشاكسةٍ: بيطبع عليا بمزاجي ووقت ما أحب.

وبصدقٍ قال: أنا مش عارف أشكرك ازاي يا آدهم جمايلك بقت مغرقاني. مرة أنقذت حياتي والمرة التانية أنقذت أخ...
ابتلع كلمـ.ـا.ته حينما اندفع والده يتساءل بجنون: انقذ حياتك ازاي! إنت تقصد أيه يا آيوب؟

سيطر التـ.ـو.تر على ملامحه، وكأن ما حدث أخر شيئًا توقعه، فكان مكشوفًا ليونس الذي تأكد من أن أخيه الصغير يخفي أمرًا كارثيًا، بينما استبدى آدهم سرعته الملحوظة بادراك الأمر كما تدرب فقال بصوتٍ واثق أدهش آيوب الذي لوهلة صدق الأمر: اللي حصل أن آيوب كان راجع مرهق وتعبان من الجامعة فكسل يقف يفقش لنفسه بيضتين وصمم ينزل يشترلنا أكل، وسبحان الله إني رفضت أكل معاه عشان يكون فينا واحد سليم ينقل التاني للمستشفى.

قالها بطريقة مازحه، بينما تعمق الشيخ بسؤاله: مستشفى ليه يابني؟
أجابه ببسمة جذابة مستغلًا بعض المعلومـ.ـا.ت التي يشملها عنه: لآن الأكل مكنش نضيف كفايا وآيوب أساسًا عنده حساسية. تعب جدًا وأخدته المستشفى بس الحمد لله أخد أدويته وبقى كويس وواقف قدامك أهو يا عم الشيخ!
وتابع بمكرٍ: هو مكنش عايز يقلقكم هنا في مصر بس لسانه مسحوب منه بقى هنعمل أيه!

ضحك الشيخ وقال بمحبةٍ كبيرةٍ: يعني أنا لسه بشكرك على اللي عملته مع يُونس طلعت إنت مسبق بجمايلك مع ابني. قولي بقى أشكرك أنا ازاي دلوقتي؟
فاجئه آدهم حينما قبل أعلى رأسه باحترامٍ قائلًا: معرفتي بحضرتك وبابنك ويونس بالنسبالي مكافأة. انا اكتسبت عيلة ومفيش بينا شكر ولا جمايل.
احتل الفخر والاعجاب حدقتي الشيخ، فأشار على درج منزله: اطلع بقى كُل لقمة معانا لو معتبرنا عيلتك بجد.

رد عليه بحرجٍ: أنا للأسف لازم أمشي لإن عندي شغل مهم. بس أوعدك إن في مرة تانية مش هرفض ده أبدًا.
ربت على كتفه بحنانٍ وتفهم: ماشي يابني. البيت بيتك تشرفنا في أي وقت.
استأذن منهم آدهم وغادر لسيارته فاتبعه آيوب، فقال الاخير بمشاكسة: جاي ورايا ليه ما تطلع تشبع من أخوك.
أجابه وهو يبتسم بمحبة عارمة: جيت أوصلك لعربيتك وأشكرك مرة تانية.

تنهد آدهم بتعبٍ: هو أنت مبتزهقش يا آيوب، كام مرة هكرر كلامي وهقولك إنك أخويا؟
استند على مقدmة السيارة وتساءل بمكر: يعني أنا أخوك فمن حقي أعرف دلوقتي إنت مالك؟
بصر له بدهشةٍ من ملاحظته لحالته بالرغم من أنه كان بـ.ـارعًا بتبديد أحزانه، فتابع آيوب بضيقٍ: إنت فيك حاجه وبتحاول تكون طبيعي يا آدهم.

سحب نفسًا كبيرًا وكأنه يبتلع الهواء من حوله، ومال جانبه على مقدmة سيارته يخبره بـ.ـارتباكٍ: مفيش يا آيوب، أنا بس مخـ.ـنـ.ـوق لإني شـ.ـديت مع بابا شوية في الكلام ودي يمكن المرة الاولى اللي أعمل فيها كده بس غـ.ـصـ.ـب عني.
رد عليه بحكمةٍ: ومدامك عارف غلطك أيه اللي مخليك متردد تعتذر وتبوس ايده؟!

تطلع أمامه بصمتٍ مطول وعاد يميل برأسه تجاهه قائلًا: مش متردد بس الموضوع صعب، أنا اتعودت أشوف بابا بأجمل صورة تتخيلها، لدرجة اني اديته أكتر من مكانة واكتفيت بيه.

زوى حاجبيه بعدm فهم، فتابع آدهم ببسمة ألــم: يعني مكنش ليا أصدقاء فكان هو صديقي، كنت بعيد عن عيلتي لطبيعة شغلي فكان هو كل عيلتي حتى بعد وفاة والدتي بقيت بشوفه أبويا وأمي وأخويا وصاحبي وكل اللي بمتلكه. قدوتي اللي بفتخر بيها وفجأة صورته اتهزت قدامي لما حكالي عن شيء متعلق بيه فغـ.ـصـ.ـب عني أنا عاجز ومش قادر أخد رد فعل!

ترك آيوب محله ووقف قبالته تلك المرة فكان أكثر طولًا منه لانحناء جسد آدهم العريض للسيارة، وقال بتفهمٍ لحالته: طيب يا آدهم مهما كان والدك عمل أيه لو إنت كنت أول واحد يجلده ويبعد عنه مين هيقف جنبه ويهونها عليه! كلنا بنغلط احنا مش ملايكة على الأرض.
هز رأسه مرددًا بعزمٍ لانهاء الحديث: عندك حق، أنا لازم أسمعه مرة تانية وأكون جنبه.
واستقام بقامته الشامخة وهو يمنحه ابتسامة رائعة: شكرًا يابن الشيخ مهران.

ضحك آيوب على لقبه الذي بات متنقلًا بين أصدقائه، فقال مشاكسًا: دي تالت مرة حد يقولي يابن الشيخ مهران بنفس الطريقة النهاردة.
ومين قالهالك قبلي؟
سيف وهو متعصب في مكالمة الصبح لإنه متخيل إني حجزت تذكرة سفري مع اني لسه واصل من كام يوم! وعُمران من ساعتين وهو متعصب لنفس السبب!
تعالت ضحكاته الرجولية وقال ممازحًا: ولما تروحلهم هتلاقيني أنا اللي متعصب هنا لنفس السبب.

تلاشت ابتسامته وهتف مستنكرًا: ليه هو أنت مش راجع معانا؟!
أجابه ببساطة: هرجع ليه. آيوب أنا ماليش مكان محدد بكون فيه، بلف العالم وبروح أي مكان تكون فيه مهمتي. لكن الاكيد إني الفترة دي مستجم هنا عشان تحضيرات فرحي.
ربنا يتمملك بخير. أنا موجود وهساعدك.
وبمرحٍ قال: أنا أكتر منك خبرة في اختيار القاعات، الديكورات، واللذي منه يعني!
ضحك بصخبٍ وهو يضـ.ـر.ب كفه بكف آيوب: كويس رحمتني من أصعب جزء في الموضوع.

رقبتي فداك يابو الصحاب...
واستطرد بموجة ضحك: بس حوار البدلة والأوتفت كاملًا عليك وعلى الطاووس الوقح هو الجنتل مان اللي فينا وبصراحة مضمنش أنه يساعدك إنت بالذات.
ضحك آدهم وقال: لا ما أنا متأكد من نفس الحاجة، أنا إلى الآن مازلت بوجه غـــضــــبه وغيرته الغريبة على شمس!
وانتبه آدهم لأمرٍ تناساه تمامًا: صحيح يا آيوب هو الشيخ مهران لسه ميعرفش حوار آديرا!

استدار بخــــوفٍ خلفه وكأن أبيه يراقبه، وصاح هامسًا بشكل أضحك آدهم رغمًا عنه: هووووش أيه يا آدهم ما تروح جوا البيت وتفضحني يا أخي!
قال بضحكة ساخرة: حقك عليا أنا آسف! بس لمؤاخذة يعني هتفضل مخبي أمرها لأمتى ما كده كده هتتفضح! إنت هنا في مصر مش لندن يعني الخبر مهما يتكتم هيتذاع في النهاية.

تنهد بحـ.ـز.نٍ شـ.ـديد وقال بتردد: بصراحة يا آدهم أنا كنت ناوي أقعدها في البداية عند إيثان لحد ما أقدر أمهد للشيخ مهران الحكاية بس انشغلت مع قرايبنا اللي جيهم يسلموا عليا وبعد كده في حوار يخص يونس وطليقته ودلوقتي هو رجع. لكن في شيء جوايا رافض نهائي مواجهة والدي إنت متتخيلش ممكن يحصل أيه لو عرف. كمان أنا حاسس إن مفيش داعي أعمل ده، أنا خلاص دوري انتهى، خلصنا من عمها وبقت في أمان فمالهاش لازمة تفضل على ذمتي.

برق بدهشةٍ: عايز تطلقها؟!
هز رأسه مؤكدًا، فتابع آدهم برزانة وتفكير: بس يا آيوب إنت جبتها هنا معاك لما تطلقها هي هتروح فين أعتقد إن هي دلوقتي مبقاش ليها حد غيرك!
زفر بضيقٍ وأجابه: مهو ده اللي مسكتني عن قراري، عايز أوفرلها سكن ومبلغ محترم تصرف منه ولحد ما أعمل ده سايبها على ذمتي عشان لو اضطريت أقابلها أو أزورها.
رفع أحد حاجبيه باستنكارٍ: عايز تفهمني إنك مشفتهاش من يوم ما وصلناها لشقة صاحبك؟!

أكد له دون أن يرف له جفنًا: أيوه. إيثان اللي بيوصلها الأكل والفلوس وطلبت منه كتير تشوفني بس أنا مشغول أو بصراحة مش حابب العلاقة تتعمق بينا بشكل يخليها تتعلق بيا خصوصًا إنها أسلمت ومحتاجه اللي يرشـ.ـدها للطريق فبحاول أفكر في طريقة تجمعها بالشيخ مهران عشان يساعدها بدون ما أظهر في الصورة.
ربت على كتفه بقوةٍ ومنحه الثقة: أعمل اللي تشوفه صح يا آيوب أنا عارف إنك حكيم وهتقدر توازن الامور...

وسأله بدقةٍ جعلت الاخير يندهش من عدm نسيانه لشق الحديث السابق: لكن قولي بقى حوار طليقة يونس ده أيه؟!
بالأعلى.
تناسى تمامًا وجود خديجة بداخل منزله، فوقف يتابع زوجته وهي تحتضن يونس ببكاء حارق، وعينيه مصوبة على غرفة آيوب بتـ.ـو.ترٍ قـ.ـا.تل، لا يود خسارة ابنه الأكبر مهما كان الثمن، ألا يكفيه ما تعرض له من عـ.ـذ.اب وقهرًا وما أصعب أن يُقهر الرجـ.ـال!

حاول تشتيت عقله مطمئنًا أن خديجة لا تتمكن من التحرك من فراشها لاضلاعها المنكـ.ـسرة، فحاول أن يكون صامدًا حتى لا يثير شكوكه مفضلًا متابعة حوار زوجته ويُونس.
كانت متعلقة به بقوةٍ، بعدmا عاد فقيدها الذي ظنته توفاه الله، فقالت ببكاء يشق الصدور: والله العظيم كان عندي ثقة في الله عز وجل إنه مش هيخذل قلب أم بتدعيله في كل صلاة، وبعظمته أستجابلي دعواتي وقر عيني بيك يا حبيبي.

قبل جبهتها ويديها معًا، لا يتناسى فضلها العظيم عليه، بفضلها لم يكن يتيمًا قط، كانت له أمًا يتحاكى عنها لألف سنة.
مسدت على شعره الغزير ورددت بحبٍ وحيرة لما قد تفعله لاجله فقالت: اقعد يا حبيبي هحطلك الاكل يارتني كنت أعرف إنك جاي كنت عملتلك وليمة.
بقى واقفًا محله وبصوتٍ متعب قال: معلشي يا أمي مش هقدر، عايز أرتاح وأكون لوحدي شوية. كنت هطلع على فوق على طول بس حبيت أشوفك وأطمنك عليا.

تمسكت بذراعه بعنفٍ والخــــوف يتغلغل حدقتيها، كأن الشرطة عادت لتسحبه عنها، فعاد لها نفس ذلك الشعور المقبض هاتفة باندفاعٍ: لأ يا يُونس مش هسيبك تبعد عننا تاني، سريرك جوه زي ما هو يا حبيبي.
ربت على يدها مرددًا بتوسلْ: معلشي أنا محتاج أكون لوحدي. وبعدين أنا شقتي فوقك ومش رايح في مكان بعيد عنك.

اتجه إليهما الشيخ مهران، ومرر يده على كتف ابنه بتفهمٍ: خلاص يابني اطلع ارتاح فوق ولما تفوق انزل نتجمع عشان في حاجات كتيرة تخص شغلك وفلوسك وايجار العمارة لازم تعرف كل اللي فاتك دي فلوسك بردو.
منحه نظرة عاتبته بقوة والتفت بجسده له يهاتفه بصوتٍ ارتفع عن هدوئه: فلوس أيه اللي بتتكلم عنها يا عمي! أنا مديون ليك بكل اللي امتلكه.

ابتسم ببشاشته الودودة وردد: لا يا حبيبي ده تعبك وشقاك. واللي لازم تعرفه إن محلاتك الصغيرة بقوا ما شاء الله أربع محلات ماسكين ناصية الحارة داير ميدور وإسمك منور عليهم، وكل أرباح تجارتك على ايجارات العمارة حطنهالك في حساب بنكي ما شاء الله عدي التمانية مليون جنيه وباقي فلوسك متدورة في رأس المال.
تفاجئ بما يستمع إليه وردد بحيرة: منين ده كله يا عمي ومين اللي دور المحلات وآيوب كان مسافر بيكمل تعليمه؟

أجابه بابتسامة واسعة فخورة باختياره لصديقٍ كان كالوتد بظهره: إيثان يابني ساب شغله وماله ومسك ادارة المحلات ورفض يأخد أي مليم لنفسه، دور الشغل من تاني يوم اتقبض عليك فيه وما شاء الله دmاغه وأفكاره في تسويق الانترنت ده خلت اسمك في حتة تانية.

واسترسل متعمدًا الضغط على حروفه: يعني يا حبيبي لو خارج وفاكر انك خسرت فلوسك وسمعتك فده مش صح لان كل اللي في الحارة عارفين اللي فيها وإنك اتحبست ظلم بسبب اللي معتز آآ...
قاطعه بو.جـ.ـعٍ وكأنه لم يحتمل ضـ.ـر.بة سوط أخر: بلاش تفتح سيرته ولا سيرة الخـ.ـا.ينة دي يا عمي، سبوني من فضلكم لوحدي مش عايز حد يطلعلي أنا لما هبقى كويس هنزل.
احترم رغبته وربت مجددًا عليه: زي ما تحب يابني المهم أنك وسطينا وبخير.

ابتسم ساخرًا على جملته الاخيرة، من يراه منتصب بوقفته يظنه على ما يرام، والفضل يعود لله ثم لذلك الآدهم الذي اخترع قوقعته، فقد أصر على أن ينعم يونس بحمامٍ دافئ ومنحه حقيبة بلاستيكة حملت قميصًا أسود وبنطالًا جملي ارتدهما عوضًا عن ملابسه الذي اهترت، وأزال عنه الاتساخ والقذارة التي علقت إليه من بقائه بذلك الحبس الممـ.ـيـ.ـت.

خرج يُونس من شقة عمه وصعد للطابق الثاني الخاص بشقته، تهـ.ـر.بت منه عينيه للدرج فكانت تلك الخائنة من وجهة نظره تسكن الطابق الثالث، كانت تمر عليه في ذهابها وعودتها، والآن تركت له أمقت الذكريات التي قد يحملها إنسانًا حمل يومًا عشقًا لها.
ولج لشقته سريعًا وكأنه يتهرب من آلامه فأتاه ألــمًا أعنف من السابق حينما أصبح بشقته التي تحمل جزءًا صغيرًا من ذكرياتهما.

خمسة عشر يومًا جعلهم جنة لها لتصفعه الإن بلهيب يبدأ بالتهام قلبه ويتسلل لجسده كالفيرس القـ.ـا.تل!
بينما داخل غرفتها، تسلل لها صوته فظنت نفسهل تتوهم سماعه، وحينما ارتفع نسبيًا انتفضت بالفراش، ساحبة ذراعها من أسفل رأس صغيرها النائم، وحاولت قدر الامكان الاستقامة بجلستها ولكنها تأوهت وتمددت بعجزٍ ومرضًا تام، هامسة ببكاء: يونس!

جاهدت مرة أخرى للنهوض فسقطت أرضًا محدثة صوت ضوضاء قوي ولجت لأجله السيدة رقية تهرع لمساعدتها قائلة بشفقة: يا قلبي عليكي يا بـ.ـنتي، قومي.
عاونتها لتتمدد مجددًا، فتعلقت بذراعها وسألتها ببكاء: أنا كنت سامعة صوت يونس. بالله عليكي قوليلي إنه عايش وإني مكنتش بحلم!
انهمرت دmـ.ـو.ع رقية تاثرًا وقالت: لا يا خديجة مكنتيش بتحلمي. يونس عايش وخرج النهاردة من السـ.ـجـ.ـن.

ارتسمت ابتسامة واسعة على محياها، وحاولت النهوض مجددًا وهي تردد بلوعة شوقها المحترق: خديني ليه يا حاجة رقية أنا عايزة أشوفه وآآ.
ابتلعت باقي جملتها حينما استيقظت من حلمها الجميل بمرارة ما فعلته به، من المؤكد بأنها أخر شخصًا قد يود رؤيته، فتهدل جسدها على الفراش مجددًا بانكسارٍ ودmـ.ـو.ع القهر ينهمر من عينيها.

مسدت رقية على وجهها بحنان وقالت: معلشي يا حبيبتي بكره هيعرف الحقيقة وهياخدك في حـ.ـضـ.ـنه، يونس طيب وقلبه مش أسود.
وتابعت تملي عليها تعليمـ.ـا.ت زوجها: اسمعي يا خديجة كنا لسه من شوية بـ.ـنتكلم أنا وعمك الشيخ وقال إنه مستحيل يسيبك تمشي من هنا، وبردو هو خايف يونس يشوفك فأنا هنقلك لأوضتي أنا وعمك الشيخ أمان عن اوضة آيوب، يونس عمره ما دخل اوضتي. فأنا عايزاكي لما يكون موجود هنا متتكلميش ولا تعملي أي صوت يا بـ.ـنتي.

هزت رأسها بطاعه ودmـ.ـو.عها تنهمر كالشلال: حاضر والله مش هعمل صوت بس عايزة اسمع صوته، خليه ينزل دلوقتي واتكلمي معاه عايزة اشبع من صوته بلاش ألــمحه لو هيعمل مشاكل.
همست ببكاء: يا حبيبتي اللي بتقوليه ده حـ.ـر.ام انتي لسه على ذمة راجـ.ـل تاني، بس متقلقيش آيوب وكلك صاحبه ومسك قضيتك وماشي في الاجراءات.
أغلقت عينيها بقوة وقهر يجتاحها واستدارت تجاه ابنها النائم، فالتفتت لها من جديد تتساءل: طيب وفارس؟!

أجابتها بابتسامة عـ.ـذ.باء وهي تمسد على شعر الصغير: مش هينفع نمنعه من الخروج ده مهما كان طفل. عشان كده هنظهره ليه وهنقوله ان ابن ناس قريبنا سايبنه هنا لأي حجة بقى هنرتبها يعني. وأهو فرصة يشوفه ويكون قصاده.
وسحبت الغطاء تداثره على جسدها وتخبرها: ارتاحي يا حبيبتي وبكره هنقلك للاوضة، متخافيش وارمي حمولك على الله عز وجل.
بوهنٍ رددت: ونعم بالله.

طرق آيوب باب شقة يونس مرات متتالية، فوقف يونس خلف الباب وردد بـ.ـارهاقٍ: وبعدين معاك بقى يا آيوب أنا مش منبه على عمي وقايله عايز أقعد لوحدي!
وتابع بانفعالٍ: ثم انك بقالك ربع ساعه بتخبط وأنا مطنشك مفتقدتش الأمل!
رد عليه بصوتٍ حزين: يُونس افتح. أنت عارف إني مش هنفذ اللي انت عايزه.
استند على الباب بجبينه وردد بتعب: عشان خاطري انزل يا آيوب أنا محتاج أكون لوحدي افهم بقى!

طرق بعصبية كادت باسقاط الباب، وصراخه الشرس يتحرر عن مرقده: خلاص اقفل براحتك أنا هبات هنا قدام الباب.
وبالفعل ترك آيوب الاكياس البلاستيكة جانبًا وجلس أمام باب الشقة، فزفر يونس بنزقٍ، وحرر المزلاج مرددًا بغـــضــــب: هتفضل طول عمرك عنيد واللي في دmاغك بتنفذه من غير ما يهمك كلام حد.
ابتسامة مشرقة تشكلت على وجهه الوسيم، ونهض يحمل الأكياس ويتجه للداخل بفرحة طفل سمح له والده بالذهاب لقضاء عطلة الصيف.

هز رأسه بيأسٍ، فيبدو أن السنوات الماضية لم تغير أحدًا سوى زوجته الخائنة، أغلق الباب واتبعه للصالون الفخم المجاور له.
فجلس مسترخيًا بصمتْ استفز آيوب الذي يحاول سحبه للحديث، فبدأ باقتراحه بتناول الطعام وحينما صده يونس لم ييأس فعرض صنع القهوة ولم يترك مشروبًا الا وعرضه عليه، فأطلق يونس زفرة حارة وقال بضجر: آيوب هتقعد تقعد وإنت ساكت مش بعامل طفل أنا!

قال بابتسامة اتشحت بالبرود قد ما تمكن: مهو أنا مش هتأقلم مع وضع الصمت اللي انت فيه ده، عايزك تتكلم وتفضفضلي وتقولي ناوي على أيه؟
رد عليه بـ.ـارهاق: مش ناوي على حاجة ولو كترت في كلامك هطردك بره ومش هيهمني تنام ولا تتقــ,تــل قدام باب الشقة!
هز رأسه وقد بدى أنه اقتنع بأنه غير مستعدًا للحديث، سحب أحد الأكياس البلاستيكة واقترب منه بتردد وارتباك لاحظه يونس فسأله بقلقٍ: ده أيه؟ وليه متـ.ـو.تر بالشكل ده؟

فتح الكيس من أمامه فظهرت المراهم الطبية والكريمـ.ـا.ت وبعض الادوية من أمامه، وبحـ.ـز.نٍ قال: أنا عارف إنك موجوع ومش هتقبل تشاركني أوجاعك بس أنا مش هسيبك كده، حتى لو رفضت هحطلك غـ.ـصـ.ـب عنك.
تعمق بالتطلع إليه، وازدرد ريقه بغصة ألــمته، فردد بصوتٍ محتقن: بلاش. بلاش عشان خاطري يا آيوب.
تألــم لألــمه ولكنه لم ييأس فقال بهدوءٍ: طيب هسألك سؤال لو أنا كنت مكانك كنت هتتخلى عني حتى لو أنا طلبت منك تبعد؟

ضم شفتيه معًا وكأنه يعتصرهما داخله، واستغرق مدة من التفكير، فلم يكن راضيًا لأن يرى أحدًا اصاباته وتوابع الظلم المستبد الذي إهانت به رجولته وجرد من كيونته دون رأفة.
كان يريد الاختلاء بذاته ليتخلص من ذكرياته واعتياد عينيه علة الظلم، كان بحاجة ليلملم جروحه فلا بأس إن حرر صرخاته أو بكى كالصغير، ولكن في حضرة أخيه حُرم حتى من ذلك.

تنهد يونس بو.جـ.ـعٍ وعاد يتطلع لآيوب الذي يتطلع له بنظراتٍ متوسلة الا يرفض معالجته لجروحه، فهز رأسه باستسلام ٍ، جعل الفرحة تشرق من جديد على وجهه، وقال: طيب تعالى مدد في الاوضة.
سحب كفه من يده وأجابه بغـــضــــب: لاااا، مش عايز أدخل الاوضة دي. ومن بكره تغيريلي عفش الشقة كله يا آيوب.
ربت على يده ليسترخى، فلا يريد خسارة فرصة معالجته، فقال: زي ما تحب، تعالى نروح أوضة الاطفال.

هز رأسه بخنوعٍ واتجه للداخل، راقبه آيوب وهو يتجه لاحد الأسرة، وبدأ في حل أزرار قميصه ببطءٍ وتردد واضح، حتى نجح أخيرًا بنزعه عنه.
جحظت أعين آيوب صدmة، وبدى على وشك فقدان كل محاولاته للثبات، قلبه يتمزق وفؤاده يُنتزع منه بقوةٍ لرؤية كل تلك الجروح التي أصابت جسد أخيه، ليته يتمكن من نهش لحم من فعل به ذلك.

بقى محله يحمل كيس الدواء وجسده يدور دون رأفة منه، خشى أن يلاحظه أخيه فاقترب وهو يجاهد لرسم ملامح عادية، تماسك لأصعب درجة ليضع ما بيده على صدره والأخر يغلق عينيه ويئن بصمتٍ.
وحينما جلس خلفه يعالج ظهره ترك آيوب العنان لدmـ.ـو.عه تتساقط لتغسل وجهه المحترق، بكائه على الرغم من إنه ليس مسموعًا ولكن شعر به يونس فقال ومازال مغلق العينين: انزل عيط تحت واتحسر على أخوك براحتك. بلاش قدامي عشان بالله ما ناقص.

اتجه للسرير المقابل له يخبره باصرار: مش نازل ومش هسيبك واللي عندك أعمله.
زفر بقلة حيلة وتمدد على الفراش يغلق عينيه: عايز أنام وبس يا آيوب.
نهض يجذب الغطاء لساقيه مراعيًا عدm لمس ظهره الذي تتركز به الجروح بكـ.ـسرةٍ عن صدره، وهمس له: نام ولو احتاجت حاجة ناديلي أنا جنبك.
هز رأسه وأغلق عينيه مجددًا محاولًا أن يحظى بنومة مريحة بعد أن حُرم من أن يحظو بقطعة حصير تمنع عنه رطوبة الأرض المتصلبة من أسفله.

في لندنٍ.
عاد لشقته ليبدل ملابسه سريعًا قبل غداء العمل الذي سيجمعه هو وعُمران مع أهم مساهم بالمشروع التجاري، مرر جمال يده بين خصلات شعره المشعث بإرهاق قد ذهق ملامحه، فقد قضى أيامه كُلها برفقة والدته، لم يتركها منذ خروجها من العمليات حتى هذا اليوم، ولولا أن وجوده برفقة عُمران هامًا للغاية لما كان اهتم بالذهاب.

أفتقد راحته ونومه المريح بمنزله وفراشه ولكنه تحامل لأجل والدته رافضًا تركها للممرضات، فكان هو من يتوكل باطعامها وأدويتها ومعاونتها بالذهاب للمرحاض.
أغلق باب الشقة من خلفه وعينيه تبحث عن زوجته، فوجدها تجلس أمام التلفاز، رسم ابتسامة هادئة وقال: كنت بدور عليكي في المطبخ ولما ملقتكيش قولت أكيد انك هنا.
منحته نظرة بـ.ـاردة وقالت: عادي يعني قولت أمدد شوية وأنا بتفرج على المسلسل.

وتساءلت وهي تقضم ثمرة التفاح أمامها: غريبة إنك راجع بدري النهاردة.
أجابها وهو يتجه لغرفة النوم: ورايا معاد مهم مع عُمران. غداء عمل.
وضعت طبق الفاكهة عن يدها ولحقت به تطلق إحدى شرارتها: يعني اليوم الوحيد اللي جته بدري من المستشفى هتخرج فيه؟
سحب أحد بذلاته الآنيقة وقال: يعني بمزاجي يا صبا ما قولتلك شغل مهم.

أصرت إليه بطلبها، وكأنها تتحجج لخلق المشاكل من العدm: طيب ما تكنسله وتيجي نخرج نتغدى برة في أي مكان حلو.
ارتدى بنطال البذلة ووضع حذامه من حول خصره قائلًا بنفس نبرته المتمسكة بالهدوء: مينفعش لازم أكون موجود معاه لإني شريكه. وبعدين عُمران مصمم أكون موجود.
ربعت يديها أمام صدرها وقالت بحقدٍ: مدام بتنفذ طلباته وبتعزه أوي كده بصله واتعلم منه.

توقف عن غلق أزرار قميصه، واستدار تجاه مكان وقوفها مرددًا بدهشةٍ: أتعلم منه! تقصدي أيه بكلامك ده؟
اندفعت بهجومها الضاري تلقي ما اعتمرها: قصدي تتعلم من معاملته الرقيقة لمـ.ـر.اته، تتعلم من طريقته بالكلام، حتى طريقة لبسه واستايله! اهتمامه بجـ.ـسمه وآ...
قُطعت صفعته جملتها، فاعتدلت بإيماءة وجهها وكفها يحتضن خدها، مرددة بصوتٍ مرتعش: بتضـ.ـر.بني يا جمال!

انفعلت أنفاسه المنطلقة من داخله، وصاح بغـــضــــبٍ ساحق: إنتِ بأي عين تقفي قدامي وتتكلمي عن راجـ.ـل غيري! وبأي حق تسمحي لنفسك تبصي وتدققي في شكله وجـ.ـسمه ولبسه أنا بجد مشفتش وقاحه أكتر من كده!

واستطرد بصراخ أرعـ.ـبها: أقسم بالله لانـ.ـد.مك على كل كلمة خرجت منك يا صبا. أنا زي ما أنا ومش هتغير لا عشانك ولا علشان أي حد، وبعدين إنتِ أيه مفيش ليكِ كاسر! بقى أنا طالع عيني في الشغل ليل نهار، ورافض إنك تقعدي مع أمي وقايم بكل طلباتها عشان واجب عليا أولًا وعشان عارف إنك تعبانه من الحمل، بعاني وشايل فوق طاقتي وانتي مقضياها مقارنات ومستحلة لنفسك تبصي لراجـ.ـل بصة زبـ.ـا.لة بالشكل ده وفوق كل ده جاية تتكلمي قدامي!

وتابع وهو يلقي المزهرية المتطرفة على الكومود، صارخًا: امشي من وشي مش طايق أشوفك.
وكأنها أفاقت من جنون غيرتها وحقدها لفضاحة ما ارتكبته، فاقتربت منه تردد بدmـ.ـو.عٍ غائرة: أنا آسفة والله ما أعرف قولت كده ازاي. أنا مبصتلوش أنا شوفته كذه مرة وعجبني استايل لبسه وطريقته مع والدته ومـ.ـر.اته وآ...
تتعمد أن تخرج أسوء ما فيه، فكور يده وصاح بانفعالٍ: اخرسي مش عايز أسمع حاجة.

ودنى إليها يردد وعينيه ترمقها باستحقارٍ: أنا صونتك وعمري ما رفعت عيني في عين واحدة في حين إنك مقضياها مقارنات بيني وبين رجـ.ـا.لة تانية، الظاهر إن طيبتي معاكي اديتك الجراءة إنك تتكلمي قدامي عن اللي جواكي فخليني أنا كمان أصدmك بشيء مكننش أتمنى أقوله بس عشان مقارنتك لشخصية عُمران تكون كاملة من كله.

واسترسل ببسمةٍ ألــم لخوضه بسيرة صديقه المخلص والأخ القريب لقلبه دونًا عن أشقائه: كنتِ هتقبلي إنك تكوني على ذمتي وأنا يكونلي علاقة بواحدة غيرك! كنت هتقبلي إنك تعيشي معايا في بيت واحد وأنا ليا أوضة بشاركها مع عشيقتي، كنتِ هتقبلي بكرهي ليكِ واهانتي ليكِ واجبـ.ـاري ليكِ تكوني موجودة في أي مناسبة احضرها وايدي في ايد عشيقتي!

جحظت عينيها صدmة ورفض تام لهذا التخيل فأضاف ببسمة ساخرة: مايا قبلت بده وده كان جزء من شخصية عُمران غير علاقاته السابقة، ودلوقتي بعد ما اتغير وبيعوضها عن اللي شافته بصيتلها في حياتها!
وجذب جاكيته وحذائه واتجه للخروج متغاضيًا عن قميصه المهمل، فلم يعد يحتمل البقاء معها بنفس المكان لأكثر من ذلك.

لحقت به وهي تناديه فاستدار يصيح بشراسةٍ: متنطقيش اسمي على لسانك. خليكي قاعدة هنا لوحدك لمقارناتك العظيمة، ويا بـ.ـنت الحلال مدام أنا مش مالي عينك ولا بمواصفات فارس أحلامك الخيالي واتصـ.ـد.متي بيا فأنا ميرضنيش تعيشي معايا معـ.ـذ.بة هديكي فرصة تعيشي مع راجـ.ـل غيري وعشان تعيشي حياتك بدون أي عائق هسيبك على ذمتي لحد ما تولدي، سبيلي الولد هربيه وروحي شوفي حالك مع اللي تتمنيه.

صعقت مما استمعت إليه فقالت ببكاء: انت بتقول أيه يا جمال! هتطلقني بالسهولة دي! هتبعد عني يا جمال!
منحها نظرة شملتها من رأسها لأخمص قدmيها، وخرج مسرعًا صافقًا الباب من خلفه، ولج للمصعد يستكمل ارتداء ملابسه واستند على المرآة يبتلع تلك المرارة المريرة، كيف تسمح لذاتها بالتطلع لرفيقه بتلك الدقة، كيف فعلتها وهي على ذمته!
خرج من المصعد لسيارته واتبع الموقع على هاتفه ليصل للفندق المنشود.

زفر بضيقٍ وهو يقف أمام عددًا ضخمًا من حقائب السفر الكبيرة، يتفحصهم بضيقٍ، وزمجرته المحتقنة تصل لزوجته القابعة بالفراش بتعبٍ، فنهضت تلحق به متسائلة بفضولٍ: مالك يا عُمران؟

استقام بوقفته يلتفت إليها مربعًا يديه بمنتصف صدره العاري المحاط بالمنشفة: مش عارف ألاقي هدومي! حقيقي أكتر شيء مزعج كان إني وافقتكم وجيت معاكم هنا بالبيت ده ولا لاقي أي وقت أصمم وأنفذ فكرة الرفوف اللي في دmاغي ولا هدومي مترتبة بشكل كويس!
كبتت ضحكاته بصعوبةٍ، مازال كما عاهدته يعشق ترتيب ملابسه وأغراضه بتناسق مثالي مريـ.ـض، فسألته وهي تتحلى بجدية زائفة: طيب قولي عايز تلبس أيه وأنا هساعدك.

جاب غرفة الملابس ذهابًا وإيابًا يجيبها بغـ.ـيظٍ: no way أنا مبعرفش ألبس على ذوق حد
حتى لو كان الحد ده إنتِ يا بيبي، أنا ليا ذوقي الخاص!
زمت شفتيها بسخطٍ: طيب والحل أيه دلوقتي!
خبط بكفيه على ساقيه: مش عارف يا مايا. كده هتأخر!
وأشار لها وهو يعود للحقائب يبحث بعناية: اتصلي بجناح على واتاكدي إن فاطيما خلصت لحد ما أحاول تاني أنقيلي شيء كويس.

هزت رأسها وابتسامتها تتسع، فاتجهت للفراش وجذبت هاتفها المسنود للكومود وطلبتها فأخبرتها بأنها استعدت بالفعل منذ ساعة كاملة والآن تنتظر عُمران الذي تأخر كثيرًا.
أغلقت الهاتف وزفرت هامسة بسخريةٍ ويدها تمسد على جنينها: أوعى تطلع لبابي هشفق على قلب مراتك من الغيرة من دلوقتي!

هبطت فاطمة تنتظر عُمران بالأسفل، فانتبهت لفريدة الجالسة بشرود وحـ.ـز.نًا غامضًا، اتجهت إليها تنحنح برقة لتلاحظها الاخيرة، فقالت بابتسامة راقية كحالها: فاطيما إنتِ خارجة؟
أمأت برأسها: أيوه رايحة مع عُمران غداء عمل. مصر إني أروح معاه بس بصراحة أنا مرتبكة.

أخفضت ساقها عن الاخرى ونهضت إليها مرددة باهتمامٍ وحنان: لازم يا فاطيما، خروجك وشغلك في حد ذاته هيمحنك القوة، وبعدين أنا عايزاكي كمان معايا في ادارة مركز على الطبي، هتكوني مسؤولة عن الحسابات وبكده هتساعديني. زينب كمان هتكون موجودة معانا فالموضوع هيكون لطيف وهيعجبك.
تحمست للغاية وكادت بأن تشكرها ولكن صوتًا رجوليًا، مشاكسًا صدح لهما: مش معقول يا فيري بتقصري على عقل موظفتي وشريكتي وبتغريها تكون معاكي!

وبدراما مضحكة قال: طيب وأنا مفكرتيش فيا! بس في اللحظة دي هقولك no way فاطيما تتخلى عني لإنها عارفة إن مايا مش هتقدر تنزل الشركة وهي تعبانه صح يا فاطيما؟
ابتسمت مرحبة بتمسكه بها، وقالت لتراضي الاطراف: خلاص أنا هفضل مع عُمران لحد ما مايا تولد وتقوم بالسلامة إن شاء الله وبعدها هشتغل مع حضرتك يا فريدة هانم لإني بجد متحمسة للفكرة من دلوقتي.

اتسع ثغرها بابتسامة رقيقة وقالت: تمام يا حبيبتي. يلا روحوا عشان متتاخروش.
غادر عُمران برفقتها، بعد أن اعتلت المقعد الخلفي، وصل بعد عشرون دقيقة للفندق المقام به الغداء، هبط مسرعًا من مقعده حينما وجد أحد العاملين بالفندق يمارس مهنته بفتح أبواب السيارات، فوضع يده على يده الواشكة على فتح باب فاطمة المرتبكة، قائلًا ببسمة جذابة: عذرًا، إليك مفاتيح السيارة.

وناوله المفتاح وابتعد يفتح بابها إليها، طُعمت نظراتها بالامتنان، وازدادت ثقتها بأنه لطالما لجوارها سيمنع أي سوءًا يحدث معها مثلما أخبرها زوجها الحبيب.
اتبعته للداخل حيث طاولة تتوسط المكان المحجوز أكمله لذلك الاجتماع، فكانت الطاولة ضخمة وتضم عدد لا بأس به من النساء والرجـ.ـال.

مشط عُمران الطاولة بعينيه، واختار، الجلوس بنهايتها رغم أنه سيكون المغزى الرئيسي للاجتماع، ولكن حرصًا منه أن يبعد زوجة أخيه عن الأعين، فسحب المقعد ما قبل الاخير وجلس عليه تاركًا لها الاخير حتى لا يجاورها أحدًا.
تعجب جمال من فعلته فترك مقعده ونهض يلحق به، فجلس جواره من الناحية الاخرى يهمس له بصوتٍ كان مسموع لفاطمة: أنا حجزتلك جنبي في أول التربيزة قعدت هنا ليه؟!

أجابه بايجازٍ: عشان فاطمة تكون مرتاحة في قعدتها.
هز جمال رأسه بخفوت، فسأله عُمران باهتمامٍ: طمني شوشو أخبـ.ـارها أيه؟ وحـ.ـشـ.ـتني أوي والله.
اتسعت ابتسامته وردد يخبره بأخر المستجدات: من ساعة زيارتك الاخيرة إنت وفريدة هانم وهي مُصرة تعمل دايت وتروح جيم!

طالعه قليلًا بدهشة انقلبت لموجة من الضحك، فشاركه جمال بتحفظٍ، بينما ردد الطاووس الوقح: طيب بلغها بقى إن أول ما تخرج من المستشفى تخصصلي يوم كامل هاجي أخدها وأرجعها بليل، وقولها إن الخروجة دي هتشكرني عليها أول ما ترجع مصر ويقابلها الحاج وقتها هيزيد عشقها ليا.
تقوست شفتيه وصاح بيأس من تغيره: ناوي على أيه يا وقح. أمي مش حمل دmاغك السم دي!

عدل من جرفاته الرمادي وأجابه بغــــرورٍ: كل خير يا جيمي. وبعدين لازم يكون عندك ثقة فيا شوية!
احتل حـ.ـز.نًا غامضًا عينيه وأجابه بنبرة عميقة: ثقتي فيك أكبر مما تتخيلها يا عُمران.
ترك كوب المياه الذي تجرعه بأكمله وقال بشكٍ: في أيه؟
تنحنح يجيبه بخشونة: في أيه بس ما أنا كويس أهو!
منحه نظرة متفحصة جعلت الاخير يتهرب منه، وصاح بعصبية لا تليق بهدوئه: بطل تبصيلي نظرة المحقق كونان دي!

تطلع أمامه وحرر جاكييه الأسود ليحصل على جلسة مريحة هادرًا بوعيدٍ: ماشي يا جيمس لك روقة بعد الاجتماع، هقررك بطريقتي!
حدجه الاخير بنظرىٍ مشتعلة وغير سياق الحديث حينما مال للامام قليلًا ليتمكن من رؤية زوجه أخيه، مرددًا بلطفٍ: إزيك يا مدام فاطمة. منورة الاجتماع.
رفعت مُقلتيها إليه، وبتـ.ـو.ترٍ ملحوظ لهما قالت: ميرسي.
عاد جمال بظهره للمقعد باستغراب من طريقتها الغامضة ولكنه لم يعلق وتابع الاجتماع باهتمامٍ.

ازداد عدد المتواجدين تدريجيًا، حتى احتل الصف المقابل لهم عدد منهم، ووضع الطعام ليتناولونه قبل بدأ الاجتماع.
نهض عُمران يجذب احد الاطباق، واضعًا أصنافًا متعددة من الطعام ووضعه قبالة زوجة أخيه حتى لا تضطر للوقوف والانحناء بجسدها أمام الرجـ.ـال الحاضرون برفقة السيدات، حتى المياه والمناديل الورقية وضعها، كأنما يصطحب معه ابـ.ـنته الصغيرة أو شقيقته شمس المعتادة منه على المعاملة الرقيقة تجاهها.

واستدار تجاه جمال فوجده غير عابئ بالطعام من أمامه، عقله شارد فيما حدث بينه وبين زوجته، فسأله بمزحٍ: عايز مساعدة! أغرفلك طبق ولا أيه نظامك؟
أشار له نافيًا: لا ماليش نفس.
جحظت عينيه بدهشةٍ، فترك الطبق من يده وجلس جواره باهتمامٍ: اتكلم يا جمال وقولي مالك بدل ما أقسم بالله أنيمك مكانك.
وبهمس مكبوت بغـ.ـيظه: مهو أنا مش هحايل في أمك طول القعدة انطق!

زفر بمللٍ منه، وبنزقٍ نافر قال: متخانق مع صبا يا عُمران ارتحت!
زم شفتيه ساخطًا: تاني! أقصد عاشر. إنت يابني آدm معندكش دm! راعي إنها حامل ومش حملك.
راقبه بصمتٍ فراقب الجمع وعاد يميل هامسًا ليتمكن من سحب الحديث من فمه: بص لو نرفزتك إن ريحتك مقرفة مثلًا فمتقلقش تقريبًا كل الحوامل كده. أنا اتاكدت من يوسف امبـ.ـارح!

منحه نظرة ساخرة، فحك لحيته النابته وعاد يخبره: طيب طلبت منك أكلة مش موجودة في لندن وقلبتها نكد عليك!
مال للأمام على الطاولة بقلة حيلة، فجذبه عُمران للخلف بعصبية كادت باسقاط المقعد ونهض يجذبه من رقبته صارخًا بانفعالٍ، متناسيًا وجوده بمكانٍ هكذا: بروح أمك قاعد تتدلع عليا، ما تنطق فيك أيه؟ مبقتش حمل أنا المناهدة كفايا قرف نعمان ومصايبه!
برق جمال بصدmة وصاح للاخير: عُمران إنت اتجننت الناس حولينا!

تهدل ذراعه عنه بحرجٍ شـ.ـديد وعاد لمقعده ببطءٍ راسمًا بسمة بالكد وردد: أعتذر لكم. اكملوا طعامكم نحن على ما يرام تمازحنا فحسب!
عاد الجميع لتناول طعامهم والاحاديث الجانبية فيما بينهم تغطي على المعركة الدائرة بين عمران وجمال الذي صاح بعصبية: عجبك كده!
أجابه بنزقٍ: مهو أنا مقدرش أقعد هادي وشايفك بالوضع ده وأنا أساسًا فضولي!

رغمًا عنها يصل لهما حديثهما، وجل ما يسيطر على تفكيرها اكتشاف جوانب غامضة من شخصية عُمران، حالها كحال من ينخدع كونه شخصية صارمة مخيفة، من ذو القساة قلوبهم، أعجبها اهتمامه برفيقه في اطار حوار عاديًا بينهما.
سحب عُمران طبق إليه ووضع به قطعتين من اللحم، غمس قطعة صغيرة بشوكته وقربها من جمال الذي تأفف بضجرٍ: ماليش نفس أحلفلك بأيه عشان تصدق! بلاش تحسسني إني المدام وقلقان على اللي في بطني من قلة الأكل!

ألقى الملعقة بطبقه وتركه من أمامه دون أن يتناول شيئًا هادرًا باستهزاء: وإنت تطول يا معفن!
وتابع يحذره باشارة منه: بلاش تستفزني يا جمال بدل ما أقوم أطربق تربيزة كفار الجاهلية دي فوق دmاغك!
ضحك رغمًا عنه فما أروع تشبيهه، حيث كانت تضم كميات طعام مبالغ به، فمال إليه يخبره بـ.ـارتباكٍ من رد فعله: عايز أسحب منك لقب الطاووس الوقح وأحطلك بعد إسمك سايكو بحيث تكون عُمران سايكو!

ضاق برماديته بنظرة ساخرة، وعدل من جاكيته بغــــرور وثقة: أنا لو دmاغي سايكو (مـ.ـجـ.ـنو.ن) زي ما بتقول مكنتش وصلت للمكان ده! أنا دmاغي ألــماظ حر واللي جايلي لحد مكتبي واثق كل الثقة إنه جاي المكان الصح.

كاد بأن يشاكسه جمال ولكن قطعه حديث الممولين، بالحديث بفخر عن المشروع الضخم المقام بمبالغ مُذهلة، وبعد حوار طويل شرع بفخر تعامله مع شركات عُمران الغرباوي لتنفيذ مشروعه، وبالاشادة إليه انطلقت وابل من التصفيقات والأعين تتجه إلى مكانٍ جلوسه، فأصبح مكان فاطمة بـ.ـارز للعلن، مما أزعج عُمران كثيرًا.

نهض من محله يشير لهم بكـبـــــريـاء وثقة اتبعت نبرته القوية: شكرًا لكم، ولكني لست المسؤول عن المشروع بمفردي، لدي شريكًا أخر يساندني.
وأشار لجمال معلنًا إسمه على ملأ من جمع كبـ.ـار رجـ.ـال الأعمال، لينال نفس النصيب من المدح والتصفيقات، فاضطر أن ينهض جوار عُمران بعد أن أرغمه بذلك.

مضت نصف ساعه ومازال النقاشات قائمة، ولكن أغلب الآعين تراقب مكان عُمران بعد أن كُشف عن هويته بفضول لرؤية ذلك المهندس الذي صنع لذاته صيتًا باهرًا، مما بدد الخــــوف والرهبة داخل أعماق الجالسة لجواره، ومازالت تحاول المحاربة.

رفعت رأسها فوجدت احد الرجـ.ـال الجالسون قبالتها يتمعن بها من رأسها لأخماص قدmيها، وكأنها عارية، اختلجها الخــــوف فمالت على عُمران تناديه على استحياءٍ وما أن أجابها حتى قالت بتـ.ـو.ترٍ: ممكن أخرج أستناك بره؟
كاد أن يتساءل عن سبب طلبها المفاجئ ولكن قطعه صوت نفس الرجل المحدق بها يردد بنظراته الجريئة: تعجبت من جلوسك هنا رغم أنك من أهم الحاضرون هنا وما أن جلست قبالتك حتى كشفت تلك الجوهرة الفاتنة تتخفى لجوارك!

وتابع وهو يلعق شفتيه بطريقة مقيتة لمن يفهم مغزاه: لحسن الحظ أن السيدة مايسان لم تحضر برفقتك والا لما حظيت برفقة تلك الحسناء!

لحسن حظها بأنها لا تجيد الايطالي مثلما يجيده عُمران وجمال، تصاعدت النيران من حدقتيه بشكلٍ مخيف، أخر ما يتوقعه الآن أن تطولها نظرات ذلك السفيه القذر، ومبالغته فيما يفعل لمجرد تأكيده بأنها ليست زوجته، انفجرت الدmاء من أوردته، فمال برأسه يسارًا ويمينًا مصدرًا صوت طقطقة مخيفة، ارتعب جمال من رؤيته كذلك، فأمسك معصمه المتعصب هادرًا: اهدى يا عُمران هو ميقصآآآ...

طاحت باقي جملته حينما قلب الطاولة التي تفصله عنه، وفي لحظة كانت يده تلتف من حول رقبة غريمه، يجذبه بقوةٍ ليواجه ذاك الجحيم المتأجج داخل رماديته الداكنة، وبصوتٍ جهوري أرعـ.ـب ذاك المعلق بين يديه: لانها ليست زوجتي هل يحل لك النظر لها بتلك الطريقة الوضيعة، حسنًا إليك مفاجآتي إنها شقيقتي وزوجة أخي أيها الوضيع!

أنهى كلمـ.ـا.ته وأسقطه أرضًا يطيحه بركلة قدmه بقوةٍ أمام أعين باقي الحضور المندهشون لما أصاب عُمران لمجرد كلمة وجهها لموظفته الخاصه، ارتعبت مما يحدث ودنت منه تتساءل بخــــوفٍ: عُمران في أيه؟
صرف عنه عفاريته ووقف إليها يمنحها مفتاح سيارته قائلًا بهدوء يحاول الالتزام به خشية من أن تصيبها أي نوبة: استنيني في العربية يا فاطمة. شوية وجاي.

هزت رأسها وغادرت على الفور لشعورها باضطراب يصيبها، رعشة يدها وجسدها أخافتها ان تهاجمها النوبة هنا وبرفقة شقيق زوجها، انهمرت دmـ.ـو.عها تباعًا وحاولت فتح سيارته بيدٍ مرتعشة أسقطت المفتاح أرضًا و.جـ.ـعلتها تجلس على الرصيف باهمالٍ.
فتحت فاطمة حقيبتها سريعًا تبحث عن هاتفها لتطالب أكبر هالة تمنحها الأمان والسكون، حررت زر الاتصال به ورعشتها تزداد تدريجيًا.

علي الجانب الاخر كان يجلس برفقة شقيقته بأحد المطاعم، بعد ان قام باصطحبها لقصر عائلة الغرباوي بالقاهرة، فتعالت ضحكاته بعدm تصديق لما تخبره به وأنهت حديثها بضيقٍ: متضحكش يا علي. كنت هعمل أيه يعني لو عُمران عرف إنه شافني كده! مش بعيد كان ركب على أول طيارة ونزلي أنا وآدهم.
أطلق ضحكاته الرجولية بحريةٍ، وصاح ساخرًا: طيب وبتحكيلي ليه لو مقتنعة إنك عملتي شيء غلط!

أجابته بتلقائية: لانك عاقل وجنتل في نفسك كده، متأكدة إنك هتقعد وتسمعني ونتفاهم لكن الطاووس الوقح ده دراعه اللي بيتفاهم!
ضحك مجددًا فابتسمت وتابعت لتزيد ضحكاته التي تسعدها: بس شكلي كان مسخرة لدرجة إن والد آدهم اتبرى منه وطلع جري من الاوضة مفكرني شبح مـ.ـر.اته!
سعل بقوةٍ وهو يرتشف عصيره من فرط الضحك، فقال بحزمٍ مصطنع: خلاص بقى هفطس منك كده يا شمس.

وأشار على طبقها الذي مازال كما هو بينما انتهى هو من طعامه: يلا خلصي أكلك عشان نتحرك. الوقت اتاخر ومينفعش ندخل بيوت الناس في مواعيد متأخرة.
هزت رأسها بتفهم وشرعت بتناول طعامها، بينما تلقى هو مكالمة زوجته، فنهض على الفور يردد: ثواني وراجع يا شمس. معايا مكالمة.
حركت رأسها بخفة فابتعد هو وفتح الهاتف يردد بحبٍ: حبيبتي كنت هكلمك أول ما أرجع على طول، ها طمنيني الاجتماع كان عامل ازاي؟

لم يستمع لصوتها، فقط صوت شهقات يتسلل لها، فردد بلهفة ممتلئة بالخــــوف: فطيمة! في أيه؟
لا رد يريح قلبه الثائر فعاد يتوسل لها: حبيبتي ردي عليا طمنيني إنتِ كويسة؟
ازدادت الشهقات مما دفعه لقول: ردي عليا يا فاطمة. طيب فين عُمران اديهوني أكلمه؟
أجابته برجفة صوتها المرتعش: جوه في الفندق.
التقط أنفاسه ببعض الراحة لسماع صوتها واستمر بأسئلته: طيب وانتي فين؟

قالت وهي تستند على السيارة: بره عند عربيته مش قادرة أفتح بالمفتاح وجـ.ـسمي كله بيرتعش. آآ، أنا خايفة يا علي!
كبت و.جـ.ـعه بتلك اللحظة وردد: من أيه يا قلب علي. فهميني أيه اللي حصل وليه عُمران سايبك عند العربية لوحدك؟
وقبل أن تتحدث قال: خلينا الأول نسيطر على الحالة اللي عندك قبل ما تقلب لنوبة، اهدي يا حبيبتي ونظمي نفسك، شهيق وزفير على مراحل.

اتبعت تعليمـ.ـا.ته نصيًا، لعدm رغبتها بحدوث ما يجعلها بموقف حرج، خمسة دقائق استغرقتهم حتى هدأت تمامًا، اتاها صوته الدافئ يتسأل بنبرة تعشق سماعها: أحسن؟
الحمد لله
قادرة تقفي؟
أيوه.
قومي واقعدي جوه العربية وافتحي المكيف عشان تكوني مرتاحة في الكلام.
نفذت ما أملاه عليها، صوته الحنون ذاته قد ساهم بتهدئتها عوضًا عن تمارينه الطبية، وما أن شعر بهدوئها قال: احكيلي اللي مضايقك؟

استجمعت شجاعتها للحديث دون بكاء: مش عارفة أنا كنت كويسة، وعُمران بصراحة كان مطمني، تصرفاته من بداية دخولنا لحد ما اختار مكان ورا عشاني، بس فجأة المكان بقى زحمة فحسيت بالخــــوف، وكمان معرفش أيه اللي، حصل فجأة عُمران اتنرفز ومسك واحد من اللي جوه ضـ.ـر.به جـ.ـا.مد.
ضـ.ـر.به ليه؟
معرفش أنا مش بعرف ايطالي يا علي.
طيب اهدي وكملي أنا سامعك ومعاكِ يا حبيبتي.

مفيش هو طلب مني أخد المفاتيح واستناه بره بس أنا لما خرجت معرفش ليه حسيت ان الدنيا بتلف بيا ومقدرتش أقف على رجلي فكلمتك على، طول.
ربط على الأمور وانتهت بشكٍ يراوده، فاحتجت أوردته باحتقانٍ غاضب، فمن المؤكد بأن أخيه لن يتطاول على أحدٍ بمجال عمله الا إذا تلصصت عينيه على نساء منزله، وقد طالت الآن فاطمة.

حافظ على هدوئه وقال بحب: كل ده طبيعي وعادي جدًا يا فطيمة، أما نرفزة عُمران فممكن تكون خلافات في شغله وهو مش من النوع اللي نفسه طويل.
واستطرد بحنان: أنا معاكي أهو ومش هسيبك الا لما يرجع وأطمن إنك رجعتي بخير.
قالت وهي تخفض نافذة السيارة المعتم لتتفحص القادm بوضوحٍ: عُمران جاي أهو. بس في واحد جاي ورا أعتقد ده اللي كان بيتكلم في الميك أغلب الاجتماع.

بقى علي على الهاتف، فاستمع لصوت فتح باب السيارة وعُمران يتحدث لها: هنتحرك على البيت على طول يا فاطيما، انتي كويسة؟
أجابته بـ.ـارتباكٍ من أن يكون لاحظ حالتها: أيوه.
أوقفه من هرع إليه يصيح باللغة الايطالية المفهومة لعلي الذي يستمع لكل ما يدور بفضل اقتراب عُمران للسيارة، يكاد يكون ملتصق بها: سيد عُمران أعتذر لك نيابة عن جيرمان، وأمل أن تقبل اعتذاري وتعود لمتابعة امضاء العقود.

أجابه بحزمٍ وصرامة مخيفة: أي عقدًا هذا! تناسى أي عقود تربطك بشركاتي إن بقى هذا القذر شريكك دانيال.
ارتعب الرجل وكاد بأن تصيبه إغماء، تطلع للخلف فاتتبه لجمال الذي يدنو إليهما فناداه باستنحاد: سيد جمال أرجوك أن تجعله يصفح خطيئة هذا الأحمق بالنهاية لقد اعتذر لك عما فعله.
صرخ باشتعالٍ يمزقه إربًا: أي إعتذار هذا. لقد تجرأ ذلك الأرعن وتطلع لزوجة أخي بوجودي!
لم يكن يعلم بأنها زوجة أخيك!

حتى وإن كانت أحد موظفيني كان سينال العقـ.ـا.ب نفسه.
أجلى جمال صوته الهادر يحدثه بالعربية: خلاص بقى يا عُمران ما انت بهدلت الراجـ.ـل وكـ.ـسرتله رجله لسه عايز تعمل أيه تاني!
جذب جمال تجاه سيارته القريبة من سيارة عُمران وقال: متتدخلش في الموضوع ده يا جمال، اركب عربيتك وروح لوالدتك اتاخرت عليها.

لم يكن دانيال يفهم ما يحدث بينهما، ولكن دفعة عُمران أكدت له طلبه بالرحيل، فأمسك يده يترجاه: من فضلك سيد جمال لا ترحل دون أن نصل لحل.
وتطلع لعُمران يخبره: أخبرني مستر عُمران ما الذي يُرضيك لفعله، أنا على استعداد لفعل أي شيء الا خسارتك!
حل الخبث بمُقلتيه، وارتكن على ظهر سيارته جوار نافذة فاطمة بالتحديد، يخبره بكـبـــــريـاءٍ: إن أصبح ذلك الحقير خارج شركاء المشروع ربما حينها أقبل بأن يسري العقد بيننا.

بدى دانيال مشتتًا، لا يعلم كيف يتخذ القرار، من ناحية أحد الشركاء الخمسة بالمشروع والناحية الاخرى عُمران سالم الغرباوي الذي تفنن ليقبل بمشروعه رغم أنه مشروعًا هامًا يتمنى أي شخص أن يكون المحظوظ بتولي مهمة تنفيذه.

كـ.ـسر قاعدة صمته وجمال يتابع ما يحدث بفضول لمعرفة ما يدور بعقله، حتى على يكاد ينفجر من الغـ.ـيظ من تصرفات أخيه، فحينما استمع لجمال يخبره بأنه كـ.ـسر قدmه وأوسعه ضـ.ـر.بًا شُفي غليله وهدأت انفعالاته، بل بات فخورًا بأنه أمن أخيه على زوجته، ولكن لا يرضى أن يخسر عُمران مشروعًا هامًا وضخمًا مثل ذلك، فلقد ذاع صيته بأكثر، من بلدٍ أوروبية وباتت وجهة مشرفة لعمران.

كـ.ـسر الصمت بينهم صوت دانيال يخبره بـ.ـارتباك: لا أريد خسارة تعاملاتك سيد عُمران ولكن أنا الآن عاجز، فهو شريكًا بنسبة ثلاثون بالمئة مثلي، ونحن الآن في عجلة من أمرنا للبدء في تنفيذ المشروع فإن فعلت ذلك سنضطر للانتظار حتى نجد شريكًا أخر يحتمل تلك النسبة ويدفع نفس المبلغ المتفق عليه.
بسمة انتصار ارتسمت على ملامح عُمران الغامضة، فسأله بشيءٍ من اللامبالاة: كم تقدر؟
مئة مليون دولار أمريكي.

انتصب بوقفته وقال بخبثٍ جعل على وجمال يرفعون القبعة لذلك الماكر: حسنًا دانيال لا يرضيني خسارتك وتأخير مشروعك، ولكن كما تعلم أنا لا اتهاون مع من يسيء لي لذا سأعوض خسارتك تلك بعرضي التالي، سأجد لك شريكًا بديلًا لذلك الحقير، عليك فقط فسخ العقود معه وأحضر عقودًا جديدة لمكتبي بالغد، ستجد المبلغ والشريك الجديد حاضرًا.
ومن هو؟

ظنوا جميعًا بأنه سيكون هو، ولكنه فجأهم جميعًا حينما قال بغموضٍ: أحمد الغرباوي. مؤكدًا سمعت عنه.
تهللت أسارير الرجل لنيله شريكًا مثل ذلك، من قادة وأثرى الطبقة الآرستقراطية، فردد بحماسٍ: حسنًا سيدي، غدًا سأحضر أنا والثلاث شركاء الاخرون.
هز رأسه وأجابه بجمود: غدًا سنكون أنا وفريقي بالموقع. ولكن إن خالفت اتفاقك أخشى مصارحتك بما سأفعله بك ربما لن نجد أمك حاضرة لعلاجك!

ارتعبت ملامح الرجل وهز رأسه بتأكيد فما أن غادر حتى انفجر جمال ضاحكًا، هاتفًا بعدm تصديق: يخربيت دmاغك السم دي يا وقح! أيه التخطيط السريع ده.
أجابه بصوتٍ مختنق: هو اللي بدأ يستحمل ابن ال. ولا بلاش عشان فاطمة متستحقرنيش لو شتمت.
ابتسمت وقالت بحرج: هو أنا مفهمتش أي حاجة من الحوار بس على فهم وعايز يكلمك.

قالتها وهي تقدm له الهاتف، انتفض بوقفته يعاتبها بـ.ـارتباكٍ: مش تقولي إنه على الفون يا فاطيما، يعني سمع كل ده!
هزت رأسها موكدة له، فضحك جمال وودعه قائلًا: اشوفك في الموقع بكره. سلام يا طاووس.
وتركه وغادر، فاستقل عُمران مقعد القيادة ووضع الهاتف على أذنيه يردد: حبيبي يا دوك، كده تطول في الغياب والقلب حـ.ـز.نان!
سيبك من الاسطوانة اللي مبتأكلش عيش دي، وقولي إنت ازاي تكـ.ـسر رجل الراجـ.ـل وتضـ.ـر.به بالوحشية دي؟

يعني أنت لو مكاني كنت عملت أيه وهو بيآ...
متوضحش مش عايز فطيمة تفهم حاجة. أنا معاك في اللي عملته ولو كنت موجود كنت هعمل أكتر من كده بس إنت في مكان مهم وحوليك ناس مهمين فبالتالي هيتاخد عنك أفكار وحشة هتضرك في شغلك يا عُمران وبعدين أيه الفيلم اللي عملته على الراجـ.ـل ده، أقنعتني من كلامك إنك عايز تكون انت الشريك وفجأة قولت على عمي!

عشان أنا مش فاضي لادارة مشروع ضخم زي ده بالرغم من إن أرباحه وهمية ومضمونة، وكمان عايز أرد جزء من جمايل عمك علينا يا علي.
ابتسم وهو يجيبه باحترامٍ: فخور بيك وبالرغم من إنك الصغير بس ساعات بتعمل حركات بتكبرك في عيني. بس مش في كل الاوقات لما الطاووس، الوقح بيحضر مبيحضرنيش أي احساس غير الغـــضــــب.
ضحك وهو يخبره: خلاص هطفشه ولا تزعل يا دكترة!
طيب اقفل يلا واتحرك عشان فاطمة ترتاح.
حاضر، سلام.

وأغلق هاتفه ثم ناوله لفاطمة وقاد عائدًا للمنزل بلهفة اللقاء بعمه وإجبـ.ـاره بالمشروع الذي سيعد له دجاجة تبيض ذهب.
بمنتصف الليل عاد آدهم لمنزله ظنًا من أن والده قد خلد للنوم، فلا يريد أن يواجهه الآن، يعلم بأنه سيتألــم إن رأه حزينًا.
فما كاد بصعوده الدرج حتى اتاه صوت أبيه من خلفه: هتقاطع أبوك يا عمر! خلاص قلبك قسى عليا!

سحب نفسًا طويلًا قبل أن يستدير له، فهبط إليه واقترب لينحني مقبلًا يديه وهو يردد بحـ.ـز.نٍ: عمري ما أقدر أقسى عليك يا حبيبي. هو أنا ليا مين في الدنيا غيرك!
انهمرت دmعات مصطفى بتأثرٍ وقال ببكاء: حقك عليا يابني. أنا حتى مخترتش الوقت الصح اللي أقولك فيه الحقيقة، على الأقل كنت رعيت وجود مراتك وأخوها. هيقولوا أيه لما يلاقوك كده.
ابتسم رغم ارهاق ملامحه واحمرار عينيه: أنا كويس. مفيش فيا حاجة.

ضم وجنته بيده وقال بلهفة وخــــوف: سامحتني يا عمر؟
ضعف قبالته وغزت دmعته الغالية وجنته، فتحرر صوته المحتقن: مش مهم أنا. المهم هو يسامحك يا بابا.
احنى رأسه للأسفل وانفجر بالبكاء، وبكل يأس حمله جذب كف ابنه يقبله وهو يصيح بتذلل: أبوس ايدك يا عمر تجمعني بيه قبل ما أمـ.ـو.ت. عايزه يسامحني يابني حتى لو هتذلل وأبوس رجليه.

جذب كفه بصدmة من فعل أبيه وصاح بألــمٍ: بتعمل أيه بس! حـ.ـر.ام عليك تزيد في و.جـ.ـعي. أنا معاك وهساعدك عشان أنا كمان محتاجله ولو رفض يسامحك أنا اللي هتذلل ليه لكن إنت لأ يا بابا. إنت غالي ومكانتك بالنسبالي فوق أي حد حتى لو كنت غلطان.
احتضنه مصطفى بحبٍ وردد ببكاء: مخرجتش من الدنيا دي غير بيك إنت يا عمر. إنت كنزي وابني الصالح اللي متأكد إنك هتكون بـ.ـار بيا بعد وفاتي.

قبل كف يده باحترامٍ وحب: بعد الشر عليك، ربنا يجعل يومي قبل يومك.
أزاح آدهم دmـ.ـو.ع أبيه وارتفع بجسده يطبع قبلة على رأسه، ثم دفع مقعده لغرفة المكتب لضمان عدm سماع أحدٌ حديثهما، وما أن ولج للداخل حتى سحب مقعدًا خشبيًا وجلس قبالته يسأله بكل ذرة اهتمام: قولي كل اللي تعرفه عنه. أي معلومة صغيرة هتفيدني، ومتخافش عليا أنا جاهز لسماع أي شيء، بس المهم تقولي الحقيقة عشان أقدر أساعدك، قولي أخويا فين؟!
ما أبشع أن يختبر المرء مرارة فقدان الثقة، وبالأخص حينما تمنحها لأكثر إنسانًا لم تتوقع منه الغدر، وها هو الآن قد أُصيب في مقــ,تــلٍ حينما طـــعـــنته زوجته بكل ما أوتيت من قوةٍ، في كل مرة كانت تضـ.ـر.به بكفها على قلبه النابض وتلك المرةٍ لم تكن رحيمة فانهت أمره بخنجرٍ تركته معلقًا بصدره، لا ينتهي عـ.ـذ.ابه بزجه للداخل ولا بسحبه للخارج!

ربما تختبر قلة من النساء أحاسيس الغيرة والحقد حينما يتحدث زوجها عن امرأة أخرى في وجودها، ولكن الذي اختبره كان نادرًا ومخيفًا لدرجة تحدت رجولته! زوجته الفاضلة تقف قبالته تخبره بكل جراءة عن مميزات صديقه وقوام جسده العضلي الممشوق! أي و.جـ.ـعًا يضاهيه الإن.

صف جمال سيارته قبالة المركز الطبي الخاص ب علي الغرباوي، ومال للأمام بجسده يعتصره جفونه بقوةٍ عنيفة، لم يكن يومًا ذلك الشاب المرفه، ترعرع بأسرة متوسطة الحال، حيث كد أبيه عناءًا ليدخله الثانوية العامة، بينما أتى دور والدته العظيمة فقامت ببيبع ذهبها بأكمله لتحقق حُلم ابنها بالسفر إلى انجلترا ومتابعة الدراسة في آحدى الجامعات الانجليزية.

يتذكر بوضوح انها كانت ترسل له من مال ميراثها الذي حرمه أبيه أن يُصرف بمنزله، فاحتفظت به بحسابٍ بنكي، وحينما احتاج ابنها للمال لم تتردد أبدًا بتحويل الاموال له شهريًا، لذا حينما تخرج من الكليةٍ لم ينسى جميلها عليه فيعمل بجدٍ واجتهادًا ليرسل لها كل شهرٍ مبلغ كبير يساهم في تعليم أشقائه وزواج شقيقاته، حتى وإن اضطر أن يُقصر بمصروفاته الشخصية ولكنه لم يبالي.

وفوق كل ذلك أضاف لذاته حملًا بسرعة زواجه ممن أحبها واختارها قلبه، وبعدها عاد للندن للعمل لأجلها، فلقد ازدادت مسؤولياته بشكل عجزه كليًا، فأتت تزيد و.جـ.ـعه وتطالبه بالسفر إليه بإلحاحٍ شـ.ـديد، لذا رضخ لها وأمن لها مسكنًا يليق بها ورتب أمره.

اتبعه أمر مرض والدته وغيرها من العوائق التي أثرت على شكله بطريقة جذرية، ربما أهمل ذاته وسط همومه وما يتحمله على عاتقه، إنما هو شابًا قد تغلب عليه العمر لمشقته فبدى شاحبًا كمن يجاهد لأخر أنفاسه وفوق كل ذلك ضـ.ـر.بته بمقــ,تــلٍ جعله ينهار وهو يشعر بأنه لن يستطيع أن يحتمل أكثر من ذلك.

ألقى جمال هاتفه بتبلو السيارة بعدmا وصل عدد رنين مكالمـ.ـا.تها للحادي والأربعون، وهبط من السيارة يصعد لغرفة والدته، فلقد تعمد أن يأتي متأخرًا حتى تكون قد غفت، لا يريدها أن تشعر بما يعانيه، يكفيها مرضها فلن يزيد فوق تعبها تعبًا.
ولج للداخل فتفاجئ بوجودها بالداخل، تركض إليه بأعينٍ منتفخة وصوتًا مبحوح: جمال أنا آسفة حقك عليا أنا آ...

رفع كفه أمام وجهها وعينيه تتابع والدته النائمة بسلامٍ، فسحبها لخارج الغرفة وصرخ بها: أيه اللي جابك هنا؟
قالت ببكاءٍ وهي تتمسك بذراعيه: بكلمك مش بترد عليا ولحد دلوقتي مرجعتش البيت، أنا غلطانه أرجوك سامحني أنا آ.
قاطعها بعصبية بالغة: مش عايز أسمع حاجة، ولا عايز أشوف وشك، ارجعي الشقة ويفضل متورنيش وشك خالص، تجاهليني قد ما تقدري.

وتابع بقسوةٍ استحقتها بكل جدارة: أمي خارجه بكره من المستسفى الاسبوع اللي هتقعده معاكي في البيت لو حست بحاجة هخلي عيشتك كلها سواد، ابقي اعملي ما بدالك لما ترجع مصر وزي ما قولتلك أول ما تولدي هننفصل وكل واحد يروح لطريقه.
كانت تظنه نطقها لمرته الاولى لشـ.ـدة عصبيته، والآن يكرر لها نفس الجملة باصرارٍ زاد من بكائها وحسرتها، فقالت بعويل: أنا آسفة. متعملش فيا كده يا جمال أنا عارفة اني آ...

سحب كفه من يدها صارخًا بشراسةٍ: إنك أيه! إنتِ أجبرتيني أمد إيدي عليكي ولولا اللي في بطنك كنت هدفنك مكانك! هستنى أيه تاني لما اعملها فعلًا المرة الجاية!
أمسكت يده مجددًا بعدmا سحبه منها، ورددت بهمسٍ تابع لبحة نبرتها: سامحني عشان خاطري، أنا كنت بستفزك عشان تهتم بنفسك وبيا أكتر من كده.

ابتسم بو.جـ.ـعٍ وردد بكرهٍ شـ.ـديد: عارفة كل ما بتبرري وتتكلمي بكرهك أكتر، أمي قايمة من عملية مـ.ـو.ت وأبويا في مصر مش قادر على مصاريف اخواتي، وأنا مطلوب مني أجهز أختي في أقل من أربع شهور، غير مصاريف ولادتك وايجار الشقة ومسؤوليات ملهاش أول من أخر وانتي عايزاني اسيب كل ده وأنزل أشتري لبس وأتشيك واللي يمـ.ـو.ت يمـ.ـو.ت ومفكرش فيكي وفي اللي في بطنك وأهلي!

وتردد صوته المتعصب بجنون: إنتي كل مرة بتثبتيلي إنك أسوء اختيار أنا اختارته في حياتي، غلطة ومحتاج أصلحها عشان كده إنتي من اللحظة دي بره حياتي.
وبكل جمودٍ قال: إنتي طالق يا صبا، طالق!
هزت رأسها ترفض ما يقول وكأنه حلمًا سيئًا لا تود استكماله، فابتسم بو.جـ.ـعٍ مردفًا: بحررك من ارتباطك بشخص أناني مش حاسس بمشاعرك ولا قادر يملى عينك، يمكن ربنا يعوضك بشخص ابن ناس معاه فلوس ويقدر يكونلك بالشكل اللي تحبيه.

واتجه للخروج أمام عينيها قاصدًا سيارته، بينما جلست هي على أقرب مقعد انتظار قابلها، تتطلع للباب الذي خرج منه بعدm تصديق، لقد خسرته بالفعل! خسرت من أحبته ولم يشهد منها سوى الغلظة وعدm الرضا لابسط ما يفعله لأجلها، حررت عنها للدmـ.ـو.ع بانكسارٍ ومسدت على بطنها المنتفخ بقلة حيلة، وكأنها تطالب جنينها بأن يسامحها لأنها فرقت عائلته من قبل حتى أن يُخلق!

وجد ذاته أمام عمارة شقته القديمة التي اشتراها هو وعُمران ويوسف أيام الجامعة، ويسكنها الآن سيف، صعد للأعلى وطرق الباب حتى فتحه سيف يتطلع له بدهشةٍ، ويوزع نظراته بينه وبين ساعة يده قائلًا بصوتٍ متحشرج من آثار النوم: جمال! أيه اللي جابك بالوقت المتأخر ده!
ولج للداخل ينزع عنه جاكيته ورابطة عنقه: مفيش يا سيف هبات هنا النهارده لو مش هزعجك.
رفع احد حاجبيه بذهولٍ: تزعجني أيه دي شقتك ولا نسيت!

منحه ابتسامة هادئة وإتبع طريقه لغرفته، فتمدد على الفراش بـ.ـارهاقٍ تام.
وقف سيف بالخارج حائرًا، لا يعلم أيهاتف أخيه يخبره بأمر صديقه الذي يبدو بأنه ليس على ما يرام أم يدخل هو إليه يعلم ما أصابه.
وبالفعل ولج لغرفته يطرق على الباب المفتوح على مصرعيه، ففتح جمال عينيه وأشار: تعالى يا سيف.
دخل يقترب من السرير وبتـ.ـو.ترٍ قال: إنت كويس؟ شكلك تعبان ومرهق. تحب أتصل بيوسف؟

استند على مرفقه وقال: مفيش داعي أنا كويس بس عايز أنام.
منحه ابتسامة جذابة وعرض عليه: طيب أيه رأيك أعملك عشا سريع؟
قدر لطف عرضه وقال باحترام: تسلم يا دكتور أنا أكلت من بدري.
هز كتفيه بقلةٍ حيلة من تقديم شيئًا له
طيب أسيبك تنام. تصبح على خير.

وإتجه سيف لغرفته يكظم أفكاره السوداوية، هو يعلم بأن جمال لا يأتي إلى هنا الا وبينه وبين زوجته مشكلة جادة، لذا حزم أمره وجذب هاتفه يهاتف الاولى والأحق بعلمه، فأتاه صوته الناعس: دكتور سي?و حقنة بيتصل بيا يا ولاد!
بقى أنا طالع عيني في المذاكرة عشان أكون دكتور محترم تيجي إنت وتتريق عليا على أخر الزمن!

ضحك عُمران وهتف ساخرًا: متزعلش يا دكتور يا محترم حقك عليا، خلينا بقى في المهم إنت عمرك ما كلمتني بالموبيل غير مرتين تلاته وكانوا اعلان لمصايب فقولي بقى أي مصـ يـ بـةأتت بك للوقح!
سيطر على انفعالاته بصعوبة وقال: صاحبك هنا وشكله المرادي اتخاتق بضمير، جاي منظره مش طبيعي خالص.
مين؟ تقصد جمال؟

بالظبط مهو أكيد مش يوسف يعني، مع إني حاسس إنه هيعملها قريب بسبب اللي دكتورة ليلى بتعمله فيه، تخيل بيغسل المواعين ليل نهار وقايم بشغل البيت قبل وبعد العيادة
أووف. انا كنت شاكك في جمال من البداية، أما يوسف فيستاهل بصراحه خليه يجرب يتعامل بقى بدل ما هو ناصف الستات علينا وخلاهم يتدلعوا!
ضحك سيف وردد بشمـ.ـا.تة: البشمهندسة مايا شكلها قايمة بواجبها معاك!

ردد ببرود: قايمة طبعًا وزي ما أنا بردو هقوم بواجبي معاك وهقولك حالًا معندناش بنات للجواز.
حبيبي إنت لو عايزني أعرم نفسي عند أخويا وأوسـ.ـخ كل الأطباق عنيا متأخرش عنك أبدًا يابو نسب.
عجبني إنك خــــوفت واحترمت لسانك، روح نام والصبح نشوف حوار جيمس ده، تصبح على خير يا سيفو!
اغلق سيف الهاتف واتجه لفراشه هامسًا بضيقٍ: طاووس وقح بصحيح!

جفى النوم عين آيوب، فكان يراقب يونس بنظراتٍ حنونة، يخشى أن يتقلب بفراشه فيزعج الأخر بمنامته، فما أن ارتمى يُونس على فراشه استعوذ النوم عليه بسلطانٍ مسيطر، وكأنه لم يحظى به منذ قرونٍ!

انتفض آيوب فزعًا على صوت جرس الباب الذي إنطلق كالمدفع دون فاصل، وبذات الوقت تصطحبه صوت طرقات على باب المنزل، لوهلةٍ شعر بأن الطارق المختل ذلك سيحطم الباب من قوة دفعته، خمن بأنهم الشرطة فلا طارق بتلك الطريقة الا شرطيًا يود الاعتكاف بمجرمه قبل الفرار، ولكن تخمينًا أخر احتلج رأسه، بالطبع سيكون المصارع الضخم ومن غيره!

أسرع آيوب لباب المنزل يحرره قبل أن يستيقظ يونس، ليندفع في وجه الاخير بنزقٍ: أيه ما صدقت تمرن إيدك ورجلك فملقتش غير باب بيتنا!
أزاحه إيثان عن طريقه واندفع للداخل يردد بصوتٍ مبحوح من فرط الفرحة والبكاء وعدm التصديق: الشيخ مهران قالي إن يُونس طلع، هو فين؟

أغلق آيوب الباب من خلفه وصاح بعصبية وهو يفرك ذراعه من قوة قبضة إيثان القوية: يا أخي خد نفسك وراعي فرق الاحجام بينك وبين مخاليق ربنا، إنت مكانك مش وسطنا في الحارة مكانك في الادغال!
جذبه من تلباب ملابسه بعنفٍ: لو مش عايز تسافرها حالًا تقولي هو في إنهي أوضة؟
أنا هنا يا إيثان!

قالها من يغلق أزرار قميصه بحرصٍ من الا يرى أحدٌ جروحه، فاستدار إيثان تجاه صوته وهرع إليه يحتضنه ببكاء وعويل طفلًا لا يتخطى الخمسة أعوام، مرددًا بانهيارٍ: ياااه يا يونس. فقدت الأمل إنك هترجع تقف قدامي من تاني، أنا كنت من غيرك تايه ومش لاقيك في أي حد من اللي حواليا حتى أهلي يا يونس حتى أهلي!

مرر يده على ظهره بحنانٍ وشوق، وقال بحـ.ـز.نٍ: وإنت كمان وحـ.ـشـ.ـتني أوي يا إيثان، وكنت مفتقدك جدًا، حتى لما ظهرلي آدهم باشا وشوفت طيبته وجدعنته جيت في بالي على طول.
استقام قبالته ليتمعن من ملامحه بوضوحٍ، فتقهقهرت سعادته فور أن لاحظ جروحه الغائرة، فلمس خده الأيسر وتساءل بغـــضــــب: هما اللي عملوا فيك كده؟

أبعد يونس يده برفقٍ وحافظ على ابتسامته التي كادت بالتلاشى: متشغلش بالك إنت. تعالى إقعد واحكيلي ليه سبت الجيم وشغلك عشان تدير محلاتي.
كاد إيثان باتبعه للأريكة التي سبقه إليها يُونس، ولكن كان آيوب الأسرع منه حينما أوقفه صائحًا بغـــضــــب: يقعد فين الساعه داخلة على 3 الفجر، اتكل يا عم وبكره تعالى اقرفنا! أقصد اتكلم مع يونس!
منحه نظرة شرسة ومال إليه يهمس بصوت منخفض للغاية: تحب أبلغ يونس بالخواجاية؟

فرد ذراعه مرحبًا: حبيبي يا إيثو اتقضل. ده البيت بيتك يا راجـ.ـل هو إنت غريب! ما أنت ياما حشرت نفسك وسطينا وجمعنا نفس السرير والاوضة وياما بردو عزمت نفسك بذات نفسك ولا هامك أي حد، سا راجـ.ـل ده أنا بشوفك في بيتنا أكتر ما بشوفك في بيتك إنت شخصيًا!
ابتسم برضا تام لتحوله الملحوظ، واتجه بخطواتٍ واثقة مختارة حتى وصل جوار يونس، مشيرًا لآيوب بعنجهيةٍ: اعملي أنا ويونس فنجانين قهوة عشان هنحكي للصبح يا بشمهندس.

منحه نظرة نارية وقبل أن يطـ.ـلق حديثًا مستشيط منه وجدها يحذره بنظرة تهديد فقال من بين اصطكاك أسنانه: محوجة ولا سادة على روحك!
اتسعت ابتسامته البـ.ـاردة: لا مظبوطة يا حبيبي. وياريت تفرد وشك شوية بدل ما يكش زي عضلاتك اللي اختفت من ساعة ما سافرت لندن، مكنتش بتدربها يا آيوب!

زفر بنفورٍ تام لأصعب شق بسفره إلى هنا، هذا الإيثان لا يترك رجلًا بحارته الا وجذبه عنوة للجـ.ـسم الرياضي واقناعه بممارسة الرياضة ليحظو بجسدٍ مثالي، وليحمسهم كان يخصص يومين بالاسبوع باشتراك مجاني وكأنه رئيس الحي الذي يحرص على سلامة وصحة المواطنين ومن بين هؤلاء الفئة كان النصيب الأكبر ليونس وآيوب، فلقد أحاطهما إيثان باهتمامٍ مضاعف أرهق أبدانهما والآن على وشك سحبهما لنفس المصير!

أفاق من شروده يصيح بانفعال مرتعب: مش فاضي يا إيثوو الامتحانات بقى ولازم أذاكر عقبال أملتك هسافر أخر الشهر.
وأستطرد مشيرًا لمن يجلس جواره: صاحبك عندك أهو طلع عليه عُقدك كلها. حاولوا تتماشوا مع بعض ومتعملوش حسابي في الليلة دي!
ضحك يهتف باستهزاء: طلعت خرع يابن الشيخ مهران.

تجاهله وإتجه للمطبخ بصمتٍ، بعبث بالأكياس التي أحضرها سابقًا ليصنع كوبين من القهوةٍ، بينما بالخارج كـ.ـسر إيثان الصمت المتطرف بينهما وقال بعزيمةٍ وتهور: قولي يا يونس ناوي تعمل أيه عشان ترجع حقك، تأكد إني معاك وكتفي بكتفك لحد ما حقك يرجع قدام الحارة كلها.
مال برأسه على حافةٍ الأريكة بتعبٍ نفسي يفوق و.جـ.ـع جسده: بعدين يا إيثان. بعدين نتكلم.

احتدت عينيه الخضراء واختفت جمالها ليبرز عاصفته الهائجة: بعدين ازاي! أنا مبنامش ليل ولا نهار بفكر في اليوم اللي هتخرج فيه وأساعدك تنتقم من معتز الكـ.ـلـ.ـب ده هو والخـ.ـا.ينة اللي طـــعـــنتك في دهرك. متخافش يا يونس مش هعمل حاجة تدينك ولا ترجعك السـ.ـجـ.ـن أنا أعرف عيال عندي في الجيم عاملين زي عفاريت الليل هيجيبولك حقك مخلص.

رفع فيروزته الباهته إليه وردد بحشرجة ذبحت حنجرته: وتفتكر إني مقدرش أعمل كده! دي أسهل حاجة ممكن اعملها أجر ناس شمال تجبلي حقي وأنا براءة قدام الحكومة والناس بس ده مش اللي أنا عايزه يا إيثان، أنا عايز أكـ.ـسرهم الآتنين وأنا عيني في عينهم!
هز رأسه بحماس وربت على ساقه بقوةٍ: يحصل يا صاحبي، اللي تؤمر بيه يحصل لحد ما النار اللي جواك دي تبرد وتنطفي.
ابتسم بسخرية ملأها الألــم: عمرها ما هتنطفي يا إيثان.

عاد الحـ.ـز.ن يتوغل بخضرته، فمال إليه وهو يراقب آيوب المنشغل بسكب القهوة: احكيلي يا يونس عملوا فيك أيه ولاد ال دول.
أغلق عينيه بعنفٍ يعتصر جميع ذكرياته داخله ليحشـ.ـدها عن الظهور لمجرد سماعه سؤال رفيقه، أطلق تنهيدته وترك حديثه المؤلم هذا حينما قال بثباتٍ مخادع: مقولتليش ليه سبت حالك ومالك ونزلت محلاتي، ورافض ليه تأخد نص الأرباح زي ما عرض عليك عم الشيخ؟

برق بحدقتيه بصدmة جعلت يونس يشعر وكأنه لقمه بسكين حاد: أنا ممسكتش مكانك عشان أقاسمك في تعبك وشقاك يا يونس، ثم إني لو كنت قاسمتك بالفلوس مكنتش كبرت المحلات ولا رأس مالك بالشكل ده.
بس ده حقك وتعبك، واللي بسببه أهملت مالك وأكيد دخلك قل بسبب تفرغك الكامل للمحلات!

قالها يونس باندفاع يفوق غـــضــــب الاخير، فابتسم إيثان وقال ببساطةٍ تلقائية: لا متقلقش مستلفتش من حد ولا عندي اللي يطالبني بالمصروف، أنا لسه زي ما أنا عازب ومش ناوي أرتبط أساسًا فمعنديش حياة زوجية تطالبني بمصاريف، والموضوع مش زي ما أنت فاكر، أنا جبت للجيم مدربين وبيدخل دخل كويس على إيجار شقق العمارة بتاعتنا والدنيا ماشية وفل.

أنهى يونس حواره المستفيض حينما قال: إيثان من الأخر كده الفلوس اللي في البنك والمحلات لو مدخلتش معايا شريك فيهم مش واخد ولا مليم ولا نازل شغلي.

اتسعت مُقلتيه بذهولٍ وصدmة وصرخ منفعلًا: هو إنت خرجت ونسيت عقلك في الحبس ولا أيه، ده شغلك وتعبك والمحلاين ورثك من أبوك الله يرحمه، عايز تشاركني في أملاكك، يعني يا يونس لو أنا جرالي حاجة مش هتسد مكاني! ده انا مش بأمن على أختي وأمي غير في وجودك، ولما بتحط في أي مصـ يـ بـةبدخلها بقلب جـ.ـا.مد إنك ورايا!

عاد يغلق عينيه بتعبٍ، وأنهى النقاش بحزمٍ: اللي عندي قولته. ومتفتحش الحوار ده تاني على الأقل دلوقتي أنا مش قادر للمناهدة دي كفايا عليا آيوب!
وحينما تذكره اعتدل بجلسته وسأله باهتمامٍ: صحيح في أيه بينك وبينه لوي دراعه بيه ومخليه مطيع ليك على غير عادته!
ابتسم بتفاخرٍ، وأحاط جسد الأريكة بكلتا ذراعيه واضعًا ساقًا فوق الاخرى: أسرار يا مُوهي. والسر لو خرج من بينا ميبقاش سر يا مُوهي.

أزاح قدmه عن الاخرى هاتفًا بضيق: احترم نفسك يا إيثان وخف على الواد شوية مهوش حملك!
وضع آيوب الصينية على الطاولة بعنفٍ نثر بعضًا من القطرات على إيثان الذي ضم كفه بألــمٍ بينما يصيح آيوب بنزقٍ: القهوة يا كابتن إيثو!
تجهمت معالمه غـــضــــبًا: مش قولتلك ألف مرة متقوليش أيثو دي تاني، أساسًا متنفعش بأي شكل جنب كلمة كابتن يا متـ.ـخـ.ـلف!

أطلق أنفاسه بقلة حيلة وأشار ليونس الذي فضل متابعتهما بصمت لاعتياده على مثل تلك المشاحنات: شوف صاحبك اللي جاي يقرفنا الساعة 3 الفجر ده!
ضحك إيثان مستهزءًا: بتشتكي لأخوكي الكبير مني يا بيضة!
استفزه بكلمـ.ـا.ته فاستهدفه بمقــ,تــل: خد بالك لو كترت بكلامك المستفز ده هتصلك بصاحبي يظبطك، آه مش عشان أكبر مني بكام سنة هتسوق فيها!

تابعهما يونس بمللٍ، فاسترخى بجلسته واستمع لهما بضجرٍ، فوجد إيثان يضحك بقوةٍ ويقول بسخريةٍ: صاحبك! وده هيمنعني من إنهي زواية.
استفزه بشكلٍ أباد جنونه، فجذب هاتفه وحرر زر الاتصال على الطاووس الوقح، الذي أجابه بصوتٍ ناعس: آيوب خير، إنت كويس؟!
اندفعت كلمـ.ـا.ته بعصبيةٍ وعدm اتزان: عُمران إنت عارف إني طيب وماليش في جو التلات ورقات ده وآ.
لخص يا آيوب قلقتني! إنت فين؟!
اهدى يا عم الطاووس خليني أقولك الكلمتين.

ازى إيثان شفتيه بسخط وقال: بتشتكيني لمين يا بيضة؟
ونغز يونس المتفرج بصمت: ما تقوم تشكم أختك وتشوفها بتكلم مين في نصاص الليالي!
احتقنت الدmاء بأوردة آيوب، الذي لطالما شعر بالعجز من مجابهة هذا الإيثان ذات اللسان السليط فأتاه صوت الوقح المستمع للحوار قائلًا بسخرية: مين العربجي ده!

صُعق بشكلٍ كاد بإسقاطه عن الأريكة، حينما برزت ضحكة آيوب بتشفي وخاصة حينما بدأ عُمران بفهم مغزى مكالمة آيوب لعدm قدرته بصد هذا المزعج، فتابع بقوة: ماله بيك ده يا آيوب. حبيبي أنا مش منبه عليك وإنت نازل لمصر وقولتلك متلعبش مع أولاد الشارع! أخلاقك يا آيوب. أخلاقك يا حبيبي!
تحررت ضحكة عالية منه استفزت إيثان الذي انتفض بوقفته يصيح بغـــضــــب: مين ده يا آيوب؟!

أجابه ببرود وهو يضع الهاتف قبالة وجهه ليكون الصوت مسموعًا رغم أن السماعة الخارجية تنقل صوته بشكلٍ واضح: صاحبي وأخويا زي علاقتك إنت وابن عمي كده، وزي ما يونس طيب ومالوش في حواراتك أنا الطيب في نفس العلاقة بس حظك بقى واقعك مع طاووسنا الوقح عُمران سالم الغرباوي.
حصلنا الرعـ.ـب! بس عشان الحارة نورها ميقفلش خليه ورا شاشة التليفون أحسن!

رد عُمران بثقةٍ: وإنت شايل الهم وزعلان ليه، كانوا بيسحبوا الكهربا من بيت مامي يا قمور!
سقط آيوب أرضًا من فرط الضحك وردد بصعوبة بالحديث: احمد ربنا إنه مقالكش من بيت أمك!
ازدادت موجة غـــضــــب إيثان واستفزه هدوء يونس الذي لم يتأثر بما يدور حوله، فهزه بعنف: ما تشوف ابن عمك ده يا يُونس! من كتر سكوتك الواد ساق فيها، بس وربي لأسحبه بكره الجيم عندي وأربيه.

إيدك تتمد عليه وأوعدك هكون على أول طايرة نازلة مصر بس ساعتها مش هتلاقي حـ.ـضـ.ـن حنين تعيط فيه. ألا أمك عايشة ولا مـ.ـيـ.ـتة؟
أجابه آيوب ضاحكًا: لا عايشة يا عُمران.
طمنتني إننا هنلاقي حد نرد عليه عمايله!
إيثان بانفعال: ترد على أمي ليه عيل صغير أنا!

ده رأفة بيك إني بعاملك على إنك عيل وعقله فوت لكن لو عاملتك المعاملة التانية هتسبب بكـ.ـسر فون آيوب والمسكين لسه ملحقش يتهنى بيه ومش بعيد تيجي هنا لندن تدور عليا ويبقى مدفنك هنا بعيد عن مامتك وإنت على ما أعتقد الحيلة. مش كده ولا أيه يا حيلة أمك!
اتسعت حدقتيه بدهشةٍ من ذلك الوقح، وردد بعدm استيعاب: ده من لندن ازاي!

ضحك عُمران وأجابه: لا متقلقش أيام الجامعة كنت واخد كورس من صديق ليا من نزلة السمان، إنما أيه نفعني مع الاشكال الوقحة اللي زيك كده يا آ...
واستطرد بعجز: قولتلي إسمه أيه يا آيوب.
أتاه صوته الفرح يجيبه: إيثان، إيثوو!
أممم، وأيه يعرفك على أشكال زي دي يابن الشيخ مهران مش كنا عقلنا!
ده صاحب ابن عمي مش تبعي، بس هو بيستغل الست سنين اللي بينا بشكل مستفز.

صاح إيثان بعصبية: ماشي يا آيوب. هتنضـ.ـر.ب يعني هتنضـ.ـر.ب وشوف مين هيحوشك من إيدي!
تضـ.ـر.ب مين يا قمور! وحد الله واقعد في جنب عشان محطكش في دmاغي وده أبشع مكان ممكن أحطك فيه، لأن قبل ما دراعي هيطولك كلابي هتقطعك على سنانها.
تحررت نوبة ضحك من آيوب الذي يراقب انعقاد ملامح إيثان بشمـ.ـا.تة، فعلق على جملة وحد الله وقال: مسيحي هو يا عُمران.
وماله يا حبيبي مسيحي مسلم المهم يقعد بأدبه!

جذب إيثان الهاتف من آيوب بقوة، هادرًا: وريني كده الاكونت بتاعه!
نجح بسحب الهاتف وفتح شاشة المكالمة، ومنها لحسابه الشخصي، فضحك عُمران وردد بوقاحةٍ: عايز تجمع معلومـ.ـا.ت عني يعني! ولا وقعت في غرامي وحابب تشوف شكلي! بس خد بالك أنا بيوقع في غرامي ستات ورجـ.ـا.لة عادي فخد بالك من قلبك لأسرقه يا قمور!

ابتسم يونس أخيرًا، بينما كان الذهول والاندهاش من نصيب إيثان الذي جلس برزانة على الأريكة يتطلع لحساب عُمران المتخطي للثلاثة مليون متابعًا، والذي بدى له من شخصه وصوره القيمة بأنه ليس شخصًا عاديًا، خمن بأن عمله مرتبط بالمنشئات الهندسية، وأكثر ما لفت انتباهه ذوقه الراقي وتنسيقه لملابسه بشكلٍ ملفت جعل فرحته بمشروع أحلامه يبرز فور رؤيته.

زفر عُمران بملل وقال: صوتك راح فين يا إيثو، بقالك نص ساعة جوه أكونتي أنا سايبك جوه بمزاجي عشان أعرف أجاريك بس!
وأخيرًا رفع عينيه لآيوب وأشار للهاتف بعدm تصديق: ده هو ده؟
هز رأسه كثيرًا، وأضاف مؤكدًا: أيوه، وإنت استفزيت النسخة الوقحة منه لما اتعديت على صاحبه مش كده ولا أيه يا عُمران؟
حظه الأسود بقى، وسبحان الله أنا النهاردة مزاجي رايق ومستغرب إزاي هنام بالروقة دي!

صاح إيثان بفضولٍ وكأنه تناسي حرب فنون الرد بينهما: هو (عارض أزياء. Fashion model)؟
ضحك آيوب ونفى ذلك: مهندس أد الدنيا، وما شاء الله عنده أكتر من شركة بس هو كده عنده أناقة رهيبة في تنسيق هدومه بس إنت استسلمت من الخناقة وبتسأل عنه باهتمام كدليه.

صاح بحماسٍ: عشان ال butik(بوتيك) اللي بتمنى أفتحه، أعتقد إني وأخيرًا لقيت الشخص اللي هيساعدني وهيكون ال Destination of my products (وجهة منتجاتي! )، جـ.ـسمه وشكله وذوقه باللبس ومكانته هتساعدني جدًا جدًا.

زفر عُمران بمللٍ وصاح: يا عم أيه نفورة الاحلام اللي طلعتلك من البروفيل بتاعي ده، أنا عارف إني عامل محمس ومحفز لأشكال ضايعة كتيرة بس مش لدرجة إنك تتخيليني هقبل ألبس من ماركاتك وأتصور بيهم لوجهة البوتيك بتاعك، لإن أولًا أنا مش بلبس على مزاج حد وصعب ذوقك أيًا كان يرضيني، ثانيًا مش فاضي للكلام ده أنا المسؤول الأول عن مشروعات شركاتي، ثالثًا وده الأهم أنا في لندن وانت في مصر هنعملها ازاي مش عارف، رابعًا صعب أساعدك وإنت مزعل آيوب وأنا اللي يزعله أظرف أمه قلم يخليه يلف حولين نفسه لحد ما أظرفه القلم التاني!

جذب آيوب الهاتف منه وقال بامتنان: صدق بالله بالرغم من اعتراضي على طريقتك وأنا في لندن لما جيت هنا وقابلت الكائن ده افتقدت لطريقتك وأنا عارف آنها اللي هتنفع مع إيثان.

وبجدية قال: بص يا عُمران. إيثان ده صديق الطفولة المشترك بيني أنا وابن عمي، هو مدرب كمال أجسام وعنده جيم كبير، ومن واحنا عيال صغيرين عنده حلم آنه يكون محل ملابس رجـ.ـالي فخم، ومحتفظ بفلوس سابهاله أبوه الله يرحمه من فترة كبيرة عشان ينفذ الحلم ده فكون إنه اختارك أنت تساعده فهو لاقى اللي مكنش لقيه هنا وسطينا ووسط شباب المنطقة فأنا عشمان إنك تساعده.

رد عليه بعقلانية بعدmا بُددت موجة وقاحته وجنونه: مدام يخصك يا آيوب إعتبره من حبايبي، خليه يبعتلي add للأكونت وأنا هكلمه وهوصله بأكتر من براند كويس بتعامل معاهم ولما هنزل مصر عشانك يشرفني أزوره وأشوفه وش لوش.
جذب إيثان الهاتف وشكره بامتنان: شكرًا بجد. هبعتلك أدد حالًا. على فكرة أنا والواد آيوب بنهزر كده باستمرار بس لو من وراه منفعه هضطر أعمله باحترام للأسف.

ضحك عُمران وشاكسه: مش مضطر مجبور يا إيثو عشان فعلًا زعله بيفرق معايا.
ردد آيوب ببسمة جذابة: ده العشم يا طاووس.
إيثان باستغراب: طاووس أيه؟
بنسميه في الشلة الطاووس الوقح، وعلى فكرة مغــــرور أوي أوي.
أممم شكلي مش هقلب على إيثان ده لوحده هقلب عليك إنت كمان يا آيوب، اقفل يالا عايز أكمل نوم ولو احتاجت حاجة كلمني.
تصبح على خير.

أغلق عُمران هاتفه وخرج من جناحه للأسفل، فلقد أيقن أنه من المحال النوم بسبب أصدقائه، يشعر وكأنه ملزوم منهم وكأنه أبيهم مع إنه الوحيد الذي لا يصلح لهذا الدور، خرج للحديقة يجلس على المقاعد الخارجية، يحاول الوصول لعمه الذي تأخر بعودته كثيرًا، أشغل ذاته بقراءة وارده اليومي على الهاتف بصوته العـ.ـذ.ب، إلى أن استمع بوق سيارة أحمد، وجده يسلم السيارة لأحد الحراس ويتجه للداخل بتعبٍ، فصاح بنبرة مضحكة: ما بدري يا بشمهندس، كنت خليتك للصبح بدل البهدالة دي يا راجـ.ـل!

استدار أحمد للخلف فتفاجئ بمن يقف أمامه، وردظ بذهولٍ: عُمران أيه اللي مصحيك لحد دلوقتي؟
صعد الدرج القصير إليه قائلًا بسخرية: مستنيك! تقدر تفهمني بقى أيه اللي مرجعك وش الصبح، كنت فين يا ولد؟
زفر باحباطٍ من مشاغبة ذلك الوقح، وقال: عُمران أنا راجع مرهق وتعبان وإنت مش هتبطل هزارك السخيف ده فاوعى من طريقي هطلع أريح ساعتين والصبح نشوف حوارك أيه!

كاد بالمرور من جواره ولكنه منع طريقه وقال بجدية: محتاج أتكلم مع حضرتك في حاجه.
نبرته الجادة جعلت احمد يشعر بالقلق، فسأله بخــــوف: احكيلي يا عُمران في أيه؟!
أشار بيده على مجلس الحديقة: ممكن نقعد.
أتجه للمجلس دون أي كلمة ولحق به عُمران، جلسوا قبالة بعضهما البعض، فبدأ بحديثه: حضرتك عارف بالمشروع اللي مسكته أنا وجمال.

هز رأسه يجيبه ببسمةٍ فخر: طبعًا والساحة كلها ملهاش سيرة غير عليه، وزي ما قولتلك قبل كده اني فخور بيك جدًا يا عُمران.
ابتسامة ممتنة شقت طريقها إليه وقال دون أن يماطل بحديثه: المشروع ده داخل فيه خمس شركاء كل واحد فيهم نازل بنسبة مختلفة بس أكبر شريكين هما دانيال وواحد كمان استبعد من المشاركة وأنا رشحت حضرتك مكانه والمفروض إنكم هتمضوا العقود بكره.

أسبل بجفنيه بعدm استيعاب لما قاله، فتحلى بالصمت يوازن جملته، لذا استغل عُمران صمته وقال يحمسه على تلك النقطة: عمي إنت سبق وقولتلي إنك تعبت من شغلنا ده ومحتاج نستريح ونستثمر فلوسك في شيء مريح ومضمون، وأظن مفيش أحسن من كده، مشروع بالضخامة دي أرباحه مضمونة وفوق الخيال.

هز رأسه بتأكيدٍ وقال: عارف. المشروع ده أساسًا حديث كبـ.ـار رجـ.ـال الاعمال، وألف مين يتمنى يكون شريك فيه بس ليه أنا اللي ترشح إسمي يا عُمران؟ ليه مدخلتش إنت شريك بما إنك المسؤول عن تنفيذه؟
اجاباته كانت حاضرة، وكأنه توقع كل سؤالٍ سيُطرح عليه، فقال: لا انا ماليش في الادارة، أنا حابب مكاني والاسم اللي عملته، وبسعى إني احافظ على المستوى اللي وصلتله فمش ناوي أسيب المجال أبدًا، إنت المناسب ليه يا عمي.

ومال للأمام بجسده متسائلًا باهتمامْ: ها قولت أيه؟
رد بتـ.ـو.ترٍ وارتباك لتلك الخطوة: أكيد مشروع ضخم زي ده محتاج مبلغ كبير!
أجابه بهدوءٍ: مية مليون دولار
أوضح له بعقلانية: عرض زي ده عمري ما كنت هرفضه ومقدر مجهودك واختيارك ليا جدًا يا عُمران، بس انا معيش المبلغ ده حاليًا تقريبًا معايا نصه، ما أنت عارف فلوسي كلها في السوق ومحتاج وقت عشان أقدر أجمعها!

ابتسم وهو يخرج من جيب بنطال بيجامته ورقة مطوية بعنايةٍ وقدmها إليه: اتفضل يا عمي.
التقط منه الورقة يتفحصها بدهشةٍ: ده أيه؟!
أجابه بقلقٍ من ردة فعله: شيك بالمبلغ.
واستطرد مسرعًا: وقبل ما تتنرفز ده سلفة لحد ما تلم فلوسك وترتب أمورك براحة راحتك، المهم نلحق المشروع ده ونوقع العقود بكره صدقني الموضوع يستاهل.

وضع أحمد الشيك بمنتصف الطاولة، وعاد بجسده للخلف مربعًا ذراعيه أمام صدره، ونظرات الشك تطوف بذلك المرتبك: ده انت مخطط ومجهز كل حاجة بقى! أفهم من ده كله أيه يا عُمران؟
ليس بالأحمق ليشك بذكاء عمه الذي تربى على يديه، فلم يجد الا طريق الصدق ليصل لهدفه: بحاول أرد جزء من جمايلك عليا يا عمي.
اندهش أحمد من سماع ما قال، وسأله: جمايل أيه؟

ابتسم بسخريةٍ، وواجهه: ترشيحك لاسم شريكتي في بدايتها، العملاء اللي كنت بتبعتهم ليا، كل حاجة كنت بتعملها في الخفى لحد ما ابتديت طريقي، أنا وصلت للي أنا فيه بفضل الله ثم بيك.
ارتبك أحمد، ظن أن ما فعله لم يعلم به عُمران، فقال بضيق: إنت وصلت لهنا بفضل مجهودك مش بفضل حد يا عُمران. أنا آه اديتك الفرصة بس أنت كنت قداها وبعد كده بقى إسمك اللي مطلوب والكل بيتمنى يشتغل معاه.

ونقل بصره للشيك هاتفًا بحـ.ـز.نٍ: ولو فاكر إنك هتدفعلي تمن حناني وحبي ومساندتي لابني يبقي هتكون السبب في و.جـ.ـعي وحـ.ـز.ني، لإني مش هقبل بده أبدًا.
انكمشت تعابيره بشكلٍ ملحوظ، فصرف عنه عُمران الراقي المبجل، وحان دور الطاووس الوقح للظهور، فاستقام بوقفته مسقطًا المقعد من خلفه وبكل خبثٍ صاح: ماشي يا عمي، زي ما تحب أرفض المشروع وطلعني عيل قدام دانيال وقدام المساهمين، أقولك انا هنسحب من المشروع ده أحسن.

وجذب الشيك واتجه للاعلى بعصبية مصطنعة، وقبل أن يخطو بقدmه للدرج، استدار يهدده بوقاحة: وزي ما جوزتك فيري هقدر أخليها تخلعك!
واسترسل بخشونة مضحكة: نتقابل بقى في محكمة الأسرة يا أحمد يا غرباوي ومن غير تصبح على خير.

مال برأسه يستند على يديه المعقودة وهو يهز رأسه بقلة حيلة أمام هذا العنيد، فزفر انفاسه بصوتٍ مسموع وردد باستسلام: هات الشيك وتعالى يا عُمران. أنا عارف إن دmاغك دي دmاغ صعايدة واللي عايزه هتمشيه. فبلاش مناهدة وو.جـ.ـع قلب.
هرع راكضًا إليه يجلس محله ببسمة واسعة: بجد هتيجي مكتبي توقع العقود؟

لاحت على شفتيه ابتسامة جذابة وقال: والله العظيم أنت طفل! هاجي وهوقع لما أشوف أخرتها معاك مهو بيقولك في كل جوازة هتلاقي عمل أسود أهو إنت العمل الاسود اللي طالعلي!
وسحب الشيك واستقام يردد بضجر: أروح انام بقى ولا لسه في خطط هتلبسهالي تاني؟
وضع ساقًا فوق الاخرى بعنجهيةٍ: حاليًا لأ مفيش، الله أعلم بعدين في أيه عمومًا عدي علينا بكره يمكن يكون في جديد!

مسح وجهه بتنهيدة مغتاظة، فوجد أن أسلم حل الرحيل من امام سليط اللسان هذا، فاتجه للمصعد وهو يبتسم بحبٍ وفخر بشخصية عُمران التي لطالما كانت محيرة وغامضة للجميع حتى عائلته!
نظرات الخــــوف كانت تملأ حدقتيه، يخشى أن يبتعد عنه ابنه حينما يستمع لما سيقول، يخشى أن يسقط من نظره أكثر من ذلك.

كظابط مخابرات محترف قرأ الخــــوف القابع داخل عينيه، فكان مقروء له بوضوحٍ، فقال ويده تضم كفه الموضوع على ساقيه ومازال آدهم ينحني بجلسته ليكون قبالة أبيه: بابا إتكلم أنا وعدتك إني هتقبل اللي هتقوله ومش هزعل منه، أرجوك أتكلم عشان أقدر أساعدك.

رفع مصطفى عينيه الدامعة إليه وقال بصوتٍ احتقن من كبت البكاء: لما عرفت انها حامل مرضتش أخليها تنزله، خــــوفت أشيل ذنب زي ده، فكانت بتابع في مستشفى خاصة وكل مرة كنت بروح معاها، لما شوفته على الجهاز اتعلقت بيه وحبيته ده مهما كان ابني وحتة مني، الدكتور وقتها كان محدد لينا أيام نتابع فيها كل 10أيام لإن حالتها كانت تعبانه جدًا وبتعاني من أمراض مزمنة مصاحبة حملها، بس هو أكدلنا إنها هتكون كويسة بعد الولادة.

وازدرد ريقه وهو يسترسل: كل مرة كنا بنروح هناك كانت بتقعد مع واحدة ست كانت معاد كشفها مع معادها، اتصاحبت عليها وحبوا بعض جدا، كنت كل ما بروح معاها الكشف كانت بتسبني وتروح تقعد معاها وأنا كنت بقعد مع جوزها، كان راجـ.ـل طيب وحبيته أنا كمان، لدرجة إن كل مرة كنا بنروح بدري عشان نلحق نقعد معاهم.

ورفع عينيه يدقق بابنه المستمع بصمتٍ وقال: لحد معاد الولادة، كنت قاعد بره بفكر في اللي هيحصل لما والدتك تعرف بخبر جوازي لإن مهما كان الموضوع مستور ومخفي هيجي اليوم اللي، هيتكشف للنور، كنت بخطط لحياتي بعد كده هتكون ازاي وفي رقبتي ابن من واحدة جوازي منها مش معروف، بفكر في شكل عيشتنا بعد كده وفي الولد اللي جاي ومالوش ذنب في أي حاجة ده، وفجأة من وسط كل ده يخرجلي الدكتور ويديني الولد ويقولي البقاء لله، الدنيا وقفت من حوليا يابني وحسيت بعجز، عجز لمس جـ.ـسمي وعقلي وروحي، قعدت وانا بين ايديا طفل مولود لا حول ليه ولا قوة.

بكى بضعف وانهيار، فمسح آدهم دmـ.ـو.عه وحثه على الاستكمال: كمل يا بابا وبعدين؟
قال ببكاء شق صدر آدهم وهو يرى أبيه الصامد يبكي كطفلًا صغيرًا يخشى عقـ.ـا.ب أبيه المستمع لجرائمه: كنت عاجز يا عمر ما بينك وما بينه، مكنتش عارف اختار بينكم، لو رجعت لأمك وحكيتلها كانت هتطلب الطـ.ـلا.ق ومستحيل تكمل معايا، لانها بتكره الخيانة والكدب، وما بين اختياري اختارتك إنت يابني، أنا حتى مبصتش ليه لاني خــــوفت اتعلق بيه!

ربت على كف يده وشجعه وقلبه هو الذي يئن ليس أبيه: طيب وبعدين عملت بيه أيه؟
أزاح دmـ.ـو.عه وقال: كنت بفكر أوديه ملجئ بس وأنا قاعد سمعت اتنين من الممرضين بيتكلموا عن الحالة اللي دخلت العمليات وكانت هي نفسها الست اللي كانت مراتي بتحب تقعد معاها، عرفت انها خلفت وحالتها صعبة وإن جوزها من زعله عليها مش قادر يصلب طوله، وقالت أنه صعبان عليها لان الحمل ده ربنا رزقهم بيه بعد عشرين سنة جواز،.

فجيت ممرضة تالته عليهم من الحضانة وقالتلهم إن الولد قاطع النفس وشكله توفى وإنها محتاجة دكتور بسرعة يشوفه.
انهمر الدmع من مقلتيه واسترسل كأنه يرى هذا اليوم أمامه: عقلي اشتغل بسرعه، دخلت الاوضة وبدلت الاولاد، حطيت ابني مكان ابنه، وخرجت على طول، وقبل ما اطلع من المستشفى خليت دكتور اطفال يكشف على الولد واتاكدت انه توفى، فدفنته ورجعت المستشفى اراقب اللي بيحصل من بعيد.

تهدل جسد آدهم وجلس أرضًا يتابع أبيه بنظرة مؤلمة، سقطت دmـ.ـو.عه وهو يطالعه بصدmة، فقال ببكاء: انا بايدي يا عمر حطيت ابني مكان الولد، كان عندي عشم في ربنا إن الشيخ ده هيقدر يربي ابني أحسن من الملاجئ لانه اتحرم من الخلفة عشرين سنة فهيعرف ازاي يربيه أحسن مني، بس لما رجعت لحياتي معرفتش أعيش، نـ.ـد.مت وبكيت لربنا يسامحني، و.جـ.ـع قلبي مخفش عشان كده رجعت بعدها بتسع شهور أدور عليه في كل مكان، مسبتش أي مكان الا ودروت حتى سجلات المستشفى، وحظي ان الدكتور نفسه سافر ايطاليا فمبقتش عارف اوصله، ولحد اللحظة دي بدفع التمن من و.جـ.ـعي وقهري.

تهاوى الدmع من عين آدهم، وعينيه جاحظة بالفراغ، عقله الذكي يربط الاحداث ببعضها، فرق تسع أعوام، شيخ ازهري، حمل بعد عشرون عامًا، مشاهد فاصلة، تشابه بينه ويين ذاك الغامض، شعوره الغريب تجاهه.
جاهد كل ما داخله، وبصوتٍ مرتعش، مرتبك، خائف، ملتاعًا، قال: الشيخ ده كان اسمه أيه؟
صفعه بقوة باجابته: الشيخ مهران!
أخفض آدهم عينيه أرضًا يبكي بصوت مسموع، وهو يردد بانهيارٍ تام: آيوب!

تعالت شهقات بكائه حتى بات صاخبًا، وهمس بشحوب تام وهو يخبط صدره بشكلٍ جنوني: قلبي كان حاسس، كنت مستغرب أنا أيه يخليني قريب من شخص للدرجة دي، ازاي قدرت أجازف بشغلي وتاريخي عشان أنقذ شخص لسه متعرف عليه من المـ.ـو.ت.
ورفع عينيه الباكية لابيه المنصدm من سماع ما يقول، و يسترسل بألــمٍ قـ.ـا.تل: كنت مستغرب هو ليه شبهي في حاجات كتيرة، طريقة نومه، كرهه لأصناف غريبة من الأكل، كنت مستغرب ليه لما بحـ.ـضـ.ـنه بحس إنه مني!

اقترب منه بلهفة جعلته يرتطم بالأرض، فتسلل على يديه حتى بات قبالته يسأله بدmـ.ـو.ع ودهشة: إنت تعرفه يا عمر؟ إنت تعرف الشيخ مهران ده؟ تعرف ابني، شوفته؟!
ابتسم ساخرًا رغم و.جـ.ـعه: شوفته وعشت معاه فترة وكنت معاه من شوية.
سأله بابتسامة غريق يعود للحياة: اسمه أيه؟ شكله أيه؟، قووم قوم روح هاته، عايز أخده في حـ.ـضـ.ـني، قوووم.

استعاد آدهم ثباته المهدور، فآزاح عن خديه دmـ.ـو.عه واستقام بوقفته يحمل آبيه لمقعده، وجذب كوب من المياه يشير له: اشرب واهدى يا بابا عشان نعرف نتكلم من فضلك.
رفض وهو يلقي الكوب بعصبية: مش عايز حاجة عايز ابني هاته يا عمر.

فشل بالسيطرة على أعصابه فأي سيطرة هذه في ضل ما يتعرض له: عايزني أروح أقوله أيه؟ معلش يا آيوب أنا جيت اقولك إن في لبس في الموضوع، الشيخ مهران مش ابوك الحقيقي، ابوك الحقيقي اتخلى عنك وسابك لغيرك يربيك عشان يأمني حياة متكاملة فجيه عليك انت، ولا أقوله إنك كنت السبب إنه يتكتب باسم واحد تاني وان فجأة ضميرك صحي وعايز تاخده في حـ.ـضـ.ـنك، قولي أقوله أيه وأنا هخرج حالا وهنفذلك طلبك.

أخفض مصطفى وجهه أرضًا بحرجٍ، لقد حُرم من أبسط حقوقه بسبب لحظة قسى بها قلبه فعاش يسدد ثمنها عمرًا بأكمله.

ارتمى آدهم على المقعد المجاور لابيه يحيط جبينه بتعبٍ، ويستعيد جزءًا من رزانته وعقلانيته، يحاول قــ,تــل كل ما داخله واستحضار عقلية ظابط المخابرات داخله، فتنحنح قائلًا بنـ.ـد.م: بابا أنا آسف بس غـ.ـصـ.ـب عني لازم أحطك في الصورة، الموضوع مش سهل وخصوصًا إن آيوب متعلق بالشيخ مهران جدًا، عشان كده من فضلك سبني أتصرف بالعقل عشان مخسرش صداقته اللي هقدر من خلالها أجمعك بيه.

هز رأسه وأردف بلهفة: حاضر يا آدهم هعمل كل اللي تقولي عليه. هصبر يابني.
ابتسم رغمًا عن أوجاعه وقال: أول مرة تناديني بإسم آدهم!
ابتسم أبيه وقال وهو يزيح دmـ.ـو.عه: مدام بتحبه أكتر من عمر مش هناديلك تاني غير بيه.
جذب يده يقبلها ويطبع قبلة على رأسه هامسًا بحبٍ تعمد زرعه بمبالغة حتى يحتوي أبيه في ذلك الموقف: ناديلي زي ما تحب.

وعاد لمقعده يخبره بهدوء: أنا دلوقتي كظابط مينفعش أمشي ورا شكوكي وكلامك فمحتاج برهان ودليل قوي، عشان كده هعمل تحليل DNA ليك ولآيوب عشان نطمن 100 في ال100 إنه هو. وبعدها هحدد أول خطواتي.
تنهد بحـ.ـز.نٍ شـ.ـديد وقال: لسه هستنى أسبوع يابني عشان نتأكد!
اتسعت ابتسامة آدهم وقال بغــــرور: ساعات والنتيجة هتطلع، إحنا شغلنا مدينا امتيازات يا حاج.
ابتسم بفرحة ورغمًا عنه قبل كف يده مرددًا: ربنا يبـ.ـاركلي فيك ياحبيبي.

سحب آدهم كفه وقال بضيق: وبعدين معاك يا مصطفى قولتلك الحركات دي بتنرفزني.
تقيد جسد آيوب وهو يحاول استكشاف تلك الأحاسيس التي لا تتدفق إليه الا بأحضان والده الشيخ مهران، ضمة ذراع مصطفى القوي، تمسيده على ظهره بكل حنان إمتلكه، بكائه الغريب، هل يحمل كل تلك العاطفة لاستقبال صديق ابنه؟!
أدmعت عين آدهم تأثرًا، فقد كان على وشك فصل عناقهما الطويل خشية من أن ينكشف أمر أبيه، ولكن فور رؤيته مستكين على كتف آيوب لم يشعر الا بدmـ.ـو.عه تتدفق عنه بحـ.ـز.نٍ شـ.ـديد.

تماسك كالمعتاد عنه، وتنحنح بحشرجةٍ خشنة، جعلت مصطفى يستعيد وعيه الهادر فور ضمة فلذة كبده المفقود إليه، نعم أخطئ وإرتكب ذنبًا فاضحًا صعب غفرانه، ولكنه أفاق من وساوس شيطانه ومضي أعوامًا يبحث عنه دون أي جدوى.
ابتعد عنها رويدًا رويدًا، وهو يزيح دmـ.ـو.عه بتـ.ـو.ترٍ اتبع نبرته الحزينة: متأخذنيش يابني أنا من كتر ما عمر بيحكيلي عنك حبيتك وكان نفسي أشوفك.

منحه ابتسامة رائعة، وبرفقٍ واحترامًا قال: بتعتذر عشان خدتني في حـ.ـضـ.ـنك! طيب لعلم حضرتك يا عمي أنا حسيت بحبك ليا من أول ما دخلت عليك حتى لما حـ.ـضـ.ـنتي حسيت إني شايف قدامي والدي الشيخ مهران.
ذُبح قلبه دون أي رأفة، فحارب لاحتفاظه بالابتسامة المرسومة على وجهه، وتباعد عن محله المتطرف من الفراش مشيرًا له بحب: واقف ليه يا حبيبي اقعد!

فعل ما أراده وجلس على الفراش كما أحب، خـ.ـطـ.ـف آيوب نظرة خاطفة لآدهم الصامت، والحرج والتـ.ـو.تر يسيطران عليه، وهو لا يعلم بماذا يبدأ حديثه؟
ازدرد ريقه الجاف وقال بعد صمت: أنا طبعًا كنت أتمنى إن أول زيارة لحضرتك تكون بصورة أفضل من كده ولكن دي إرادة ربنا سبحانه وتعالى، أنا مش عارف سبب الخلاف اللي بين حضرتك وبين آدهم بس اللي أنا واثق منه هو احترام آدهم الشـ.ـديد لحضرتك.

واستطرد وفيروزته متعلقة بعين مصطفى التي تطالعه بحبٍ وتتمعن بملامحه، وكأنه لا يسمعه من الاساس: بقالي يومين شايفه متغير وحزين، وده يدل على إنه نـ.ـد.مان إنه زعل حضرتك، هو مالوش غيرك ولو غلط فهمه غلطه وهو أكيد هيفهمك.
ابتسم آدهم ومازال وجهه مندث أرضًا تغزوه دmـ.ـو.عه، وخاصة حينما استطرد آيوب: ممكن تسامحه عشان خاطري!

انهمرت دmعة ساخنة من أعين مصطفى، فظن آيوب ان الخلاف بينهما كبيرًا لدرجة عدm تقبله لسماحه، فاستدار تجاه آدهم وأشار له بنظرة غاضبة لوقوفه هكذا: واقف كدليه يا آدهم! ما تقرب وتبوس دmاغ والدك وتعتذرله.
وتابع برجاءٍ: هو مش هيكررها تاني، لإنه مش هيقدر يتعب حضرتك مرة تانية تأكد من ده.

أجاد آدهم تمثيل دوره حينما انحنى يقبل يد أبيه ورأسه، هاتفًا بنبرة صادقة تهدف عن رد فعله حينما استمع للحقيقة: أنا آسف يا بابا. من فضلك سامحني.
ربت على شعره الطويل بحنانٍ، ومال برأسه تجاه آيوب الذي يراقبهما بفرحةٍ وحماس: مستعد أسامحه بس على شرط.
تساءل آيوب بلهفةٍ: شرط أيه؟
أجابه مصطفى باهتمام لسماع رده: تقضي اليوم كله معانا. نفطر ونتغدى سوى ومنه نتعرف على بعض أكتر.

وزع نظراته بينه وبين آدهم باحراجٍ: شرف ليا إني أقعد مع حضرتك يوم كامل، بس أنا أخويا لسه راجع من سفر طويل ومش هقدر أكون طول اليوم بره.
أخوك!

قالها باندهاش لما استمع إليه، فأصابه الخــــوف بمقــ,تــلٍ أن يكون ليس هو نفسه الشيخ مهران الذي يقصده، فقرأ آدهم ما تلألأ بمقلتي أبيه فأسرع بقول: ابن عمه وبمثابة أخوه الكبير يا صاصا، وفعلًا آيوب مش هيقدر يفضل هنا طول اليوم لإزم يكون مع أخوه بس هيعوضها في يوم تاني مش كده ولا أيه يا آيوب.

أكد له بإيماءة من رأسه سريعة، وحينما لمح الحـ.ـز.ن بأعين والد آدهم، قال بابتسامة بشوشة: بس أنا هفطر مع حضرتك وهقعد معاك شوية قبل ما أمشي.
أمسك يديه بلهفةٍ وسعادة: بجد؟
تعجب آيوب لفرط سعادة هذا الرجل ببقائه، فتأمل كفيه ببسمة حنونة، وتابعه وهو يشير لآدهم بفرحة: يلا يا عمر إنزل حالًا حضرلنا فطار ملوكي زي ما بتعمل، آيوب هيفطر معايا قبل ما يمشي هو اللي قال!

وكأنه لم يكن موجودًا لسماع ما قاله آيوب، اكتفى بهز رأسه وبداخله و.جـ.ـعًا لا يتقاسمه مع أحدٌ لشـ.ـدته، فاتجه للخروج ولكنه خشى أن يترك آيوب مع والده فيخـ.ـو.نه لسانه، والده ليس بحالته الطبيعية، رغمًا عنه تهاجمه عاطفة الأبوة ربما يضعف عن محاربتها ويستسلم لها، لذا أشار بخفة مازحة: بينا يا بشمهندس آيوب، ولا هتخلع من مساعدتي!

ضحك وهو ينهض عن الفراش ويتجه خلفه قائلًا: مقدرش يا حضرة الظابط، إنت طلباتك مجابة يا باشا.
توقفا حينما تساءل مصطفى بفضول مهتم: هو آيوب مهندس؟
التفت إليه آيوب وقال بنفس بسمته: أيوه أنا في أخر سنة هانت وأتخرج، دعواتك يا عمي.
بددت غيمة سعادته، وقال بغصة ألــمت آدهم: قولي والدي زي ما قولتلي أول ما دخلت وشوفتني.

انزوى حاجبيه بذهولٍ من طلبه، كان ليصدق بأنه يفتقد شعوره أن يكون أبًا إن لم ينجب، فلماذا يعامله ويطالبه بقول ذلك وهو بالفعل يمتلك ابنًا!
تنحنح آدهم ونظراته المحذرة تحيط أبيه، فلف يده حول كتف آيوب يدفعه للخروج برفقٍ: بينا يا آيوب، خلينا نجهز الفطار.
وتابع بمرحٍ ليمرر قول أبيه: شكلك كده مش مستكفي بسحب قلوب كل اللي بيشوفك لا دخلت على طمع وعايز تأخد مكانتي في قلب مصطفى!

تحررت ضحكاته وأضاف بمزحٍ: أخدتها من اول ما هو شافني.
واستدار تجاه الفراش يتساءل ببسمة جذابة: مش كده ولا أيه يا والدي؟
منادته بما ود سماعه زرعت السعادة والفرحة بمقلتيه كالطفل الصغير، وردد بحبٍ: كده ونص يا حبيبي. أساسًا أنا اتبريت من الواد ده النهارده الصبح، فاضل بس كراكيبه اللي فوق ألــمها وأطرده في الشارع.
برق آدهم بعينيه بصدmة: بقى كده! بتبيع ابنك يا صاصا!

واسترسل بشمـ.ـا.تةٍ: طيب مش عامل فطار وهرن على مارينا تيجي تحضره بنفسها.
صاح بذعرٍ وكأنه سيتناول سموم قـ.ـا.تلة: لا بلاش مارينا، أنا بطني اتهرت من أكلها الصايص يالا!
واسترسل باتهامه الصريح: عايز تخلص من أبوك؟!
ضحك آيوب بصخبٍ، وجذب من عاد للمقعد يسترخي ببرود: متزعلش بابا منك بقى يا آدهم، مصدقنا رضي عنك!
استجاب ليده ونهض عن المقعد يهتف بضيق مصطنع: عشان خاطرك إنت بس يا آيوب!

وخرج به مغلقًا باب غرفة أبيه، ثم هبطوا معًا للمطبخ.
بللت دmـ.ـو.عها وسادتها، وأحمرت عينيها تأثرًا بعدm نومها طيلة الليل، حبيبها ومعشوقها، وكل المشاعر المتجسدة داخل قلبها، يغفو بنفس المنزل الذي تسكنه، يعلوها بطابقٍ واحدًا.

تهاوت دmـ.ـو.ع خديجة حـ.ـز.نًا، وأسوء ما يعتريها نظرته تجاهها بعد ما أُضطرت لفعله، الساعة أوشكت على السابعة صباحًا ومازالت كما هي، تتمنى أن تستند على ذاتها وتقوي من عزيمتها لتواجهه، تقسم بأنها ستحتمل كل ما سيقوله ويفعله بها، ستحتمل حتى وإن مزق جسده بسكينٍ حاد، يكفيها أنها ستُمني عينيها برؤيته.

تود لو إرتمت على صدره، تشكو له قسوة ما مرت به، ترغب أن تلامس أصابعه الحنونة وجهها لتزيح دmعاتها كما إعتادت، ترغب سماع جملته المحببة لقلبها لمرة واحدة زينة البنات، حتى وإن كانت تعلم بأنها لم تعد تستحقها أبدًا.
كبتت بالوسادة صرخة كادت أن تنفلت منها فتوقظ صغيرها، وهمست بصوتٍ مبحوح: يُونس!

نفس حلمه المورق، امرأة عاجزة تستنجد به وتناديه باسمه بطريقة مؤلمة للغاية، يكاد يجزم بأنها كبيرة بالعمر من تقوس ظهرها المحني!
نهض من نومه يزيح حبات عرقه المتزايدة على جبينه، ولسانه يردد بهمسٍ ناهج: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم!
استقام يونس بجلسته، وتفحص الفراش المقابل لفراشه باهتمامٍ، فوجد إيثان يغط بنومه، وتفاجئ بعدm وجود آيوب جواره.
سحب يونس قميصه وخرج ينادي بصوت هادئ: آيوب!

بحث عنه بالشقة بأكملها وحينما لم يجده ظنه هبط لشقة عمه، فولج للمرحاض يتوضأ وما أن انتهى حتى وقف على سجادته يصلي بجشوعٍ ودmـ.ـو.عًا تصاحب ركعه.

كان بحاجة لأن يكون بمفرده، فاستغل غياب آيوب وغفوة إيثان وحرر عنه ما ثقل على صدره، يتذكر أسوء ليلة قضاها داخل حبسه، حينما نفذ خطة آدهم بمهارة وما أن رأى ذلك الشيطان المتخفي بزيه العسكري حتى سحبه بأحاديث استخرجت أسوء ما فيه، فعـ.ـا.قب يونس بكل قوته، حينما تهاوى على ظهره بطوق الحزام المعدني، فأحدث جروحًا بالغة بجسده، ومع ذلك لم يستكفى بفعلته، بل جذب أطراف جسده بحبالٍ غليظة وتركها عدة ساعات وما أن غادر حتى عاد إليه آدهم يحرره ويوعده بأنه سينتقم من ذلك الحقير.

أغلق عينيه ببكاء وألــم يصعب عليه تحمله، يدعو الله من قلبه أن يُشفي جروح قلبه سريعًا، وإن ينتقم ممن ظلموه جميعًا ومن بين دعواته أتت هي على ذكراه، تلك المرأة المسنة التي تستنجد به، فقال: يارب أنا مش عارف مين اللي بشوفها في الرؤيا دي، فزي ما خلصتني من الجحيم اللي كنت فيه خلصها وفك كربها يا رحيم!

أنهى صلاته وجلس على سجادته، صامتًا، يتطلع أمامه بشرودٍ تام، عينيه تراقب كل أنش بمنزله الذي كان يومًا جنته، والآن بات أسوء كوابيسه، وكأنه يجسد الجحيم الذي قُلب حياته رأسًا على عقب!

عاون آيوب، آدهم بصنع أصناف طعامًا، فانتشل أصابع البطاطس من الطنجرة، ووضعها بالأطباق، بينما قطع آدهم العديد من الجبن بمختلف أنواعها، ووضع أطباق من العسل الشهي، ثم جذب عُلبة من التونة بتردد بوضعها، فوجد آيوب يردد بملامح منفرة: مبحبهاش خالص!
اتسعت ابتسامة آدهم واستدار إليه يخبره بصوتٍ عميق: ولا أنا!

ترك آيوب السكين ووضع الخضار المقطع بالطبق، قائلًا بمزحٍ: مبقتش أتفاجئ! البديهي بالنسبالي إن اللي هحبه هتحبه إنت عشان كده زودت في الكاتشب على البطاطس لآني بعشقها كده وأكيد أنت!
هز رأسه بابتسامة اختفت عنه حينما ردد آيوب بمزحٍ: لولا إني واثق إن الشيخ مهران ميعملهاش كنت شكيت إنك أخويا!

وضحك بصخب بينما ارتسم الحـ.ـز.ن بعمقٍ على ملامح آدهم، فأشغل ذاته بوضع الزيتون المخلل بأحد الأطباق، فأتاه آيوب يلتصق به ويردد بصوتٍ منخفض متـ.ـو.تر: بقولك يا آدهم، أنا كنت عايز أشوف دكتور علي، تفتكر هيكون صاحي في الوقت ده ولا أيه؟
تجعد جبينه بدهشةٍ: عايز على ليه؟
تنهد بو.جـ.ـعٍ، وقال: عايز أكلمه عن يونس، يمكن يحاول يساعده.

وأضاف بحـ.ـز.نٍ وهو يدعي انشغاله باعادة الاغراض للبراد حتى يهرب من عين آدهم الصقرية: أنا حاسس إنه مكـ.ـسور ومحتاج حد زي دكتور علي.
ثم اتجه يقف قبالته وبتردد قال: بس خايف إنه يتضايق من الحوار، إنت متعرفش يونس حساس إزاي!

ابتسم آدهم وردد بتفهمٍ: عندك حق في قرارك، يونس فعلًا هيحتاج لدكتور شاطر والمناسب ليه بلا شك هو دكتور علي، ولو مقلق من زعله منك عرفه عليه على إنه صديق وفهم على ده وسيبه هو يبدأ معاه بالطريقة اللي يشوفها مناسبة، هو ما شاء الله عليه ذكي وحكيم جدًا فهيقدر يسيطر على يونس.

هز رأسه واستطرد بتأكيد وفخر: دكتور على ده رائع، طيب إنت عارف أنا كل ما بتعامل معاه بندهش ومببقاش قادر أستوعب ولا أصدق إن شخص بالهدوء والرزانة والحكمة دي أخو عُمران! الاتنين عكس بعض تمامًا!
مال آدهم على الرخامة يضع بفمه قطعة من الخيار، مضغها بضيقٍ وكأنه يبتلع علقمًا، فضحك آيوب وهو يتابعه قائلًا بشكٍ: شكل عُمران قايم معاك بالواجب؟
واجبه وصلني لحد هنا وبزيادة.

قالها آدهم بنزقٍ، بينما ضحك آيوب بقوةٍ حتى أدmعت عينيه، فأضاف آدهم: أنا مش عارف أعمله أيه تاني عشان يرضى عني ويخرجني من دmاغه، أنا بحبه جدًا بس طبعًا صعب أتعامل معاه في أي مشكلة هتحصل بيني أنا وشمس لإني متوقع نهايتها هتكون أيه، عشان كده بحمد ربنا إن ليها أخ عاقل وراقي زي دكتور علي.

واسترسل ببسمة جذابة: ما شاء الله عليه عقله يوزن بلد، متكلمتش معاه مرة الا واحترامي وحبي ليه يزيد، عنده انضباط في كل شيء حتى مواعيده، وفوق كل ده إنسان متفاهم. هو يمكن يكون بيحب يقعد كتير لوحده ومش بيحب الاختلاط بحد كتير بس ده عمره ما كان عيب يذكر، أنا كل يوم الصبح بخرج لشغلي بلاقيه في بلكونته بيقرأ في كتب علم النفس، فأكيد هو صاحي دلوقتي.

اتسعت ابتسامة آيوب، فاستند على الطاولة جواره، وجذب قطعة من الخيار يتناولها مثله، ومازحه ضاحكًا: كل ده اكتشفته من الكام يوم اللي قعدهم هنا، لا ده إنت طلعت محلل اجتماعي بقى وأنا مش عارف.
ضحك وقال: طبعًا، متنساش إني ظابط مخابرات، التفاصيل مينفعش تفوتني أبدًا!
وأشار للرخامة المكتظة بالطعام: طلع الاطباق على السفرة عما أطلع أناديه وأنزل.
حرك رأسه في طاعةٍ، بينما صعد آدهم للاعلى قاصدًا غرفة والده أولًا.

طرق باب الغرفة وولج يغلق الباب من خلفه، ثم اتجه لأبيه الماسد على مقعده المتحرك، وما أن رأه حتى تحرك إليه بتحكمه بطرفه الأيمن، ليهم إليه بوجهه الباكي: ده ابني يا عمر، أنا متأكد! متعملش التحاليل ده ابني والله ابني أنا حسيت بيه!
ربع ساعديه قبلة صدره القوي وهدر بانفعالٍ: ممكن تفهمني أيه اللي عملته ده؟ ده الاتفاق اللي اتفقنا عليه!

أخفض مصطفى رأسه للاسفل بخزي، فتابع آدهم بضيق: إنت شوية كمان وكنت هتقوله الحقيقة!
ردد ببكاء تحرر بصوتٍ: غـ.ـصـ.ـب عني يا عمر، أول ما شوفته مقدرتش أمسك نفسي. حقك عليا!
تحرك إليه وانحنى ليكون على نفس مستوى مقعده، يشير له بهدوءٍ: يا حبيبي أنا فاهم شعورك ومقدره كويس، بس الموضوع ده مش سهل، سبني أقدر أعالجه وأهييء آيوب للحقيقة، فلحد ما ده يحصل من فضلك متبوظش اللي بعمله.

أومأ له بلهفة: حاضر مش هعمل حاجة تاني، بس حاول تجيبه هنا على طول، هشوفه ومش هتكلم والله.
تمزق قلبه بين أضلعه، فضمه إليه وهو يمسد على ظهره بحنان، اختفى جسد مصطفى الهزيل بين ذراعي آدهم الضخمة، بكى على صدره كالصغير، فقال: خلاص بقى يا صاصا، امسح دmـ.ـو.عك دي وانزل اقعد مع ابنك لحد ما أشوف دكتور على وإنزلكم.

وابتعد يشير له بطريقة أضحكت مصطفى: بس أوعى أنزل ألقيك متبت في الواد وحـ.ـضـ.ـنه بالشكل ده تاني، الولد هيشك فيك وش!
هز رأسه وقال: اطمن خلاص مش هغلط تاني، بس يلا وديني الاسانسير بسرعة، وحشني الشوية دول.
انتصب بوقفته ودفع مقعد أبيه وردد بابتسامة مشاكسة: شكلي كده هبتدي أغير، أوعى تنسى إني الكبير وأول فرحتك هااا؟
التفت برأسه إليه وبصدق قال: إنت نور عيني وعوضي في الدنيا يا عمر!

اتسعت ابتسامته ووضعه بالمصعد ثم استكمل طريقه للأعلى، بينما توقف المصعد بالطابق الأول، فلفت انتباه آيوب الذي يرص زجاجات المياة البـ.ـاردة، فاتجه للمصعد يدفع المقعد للطاولة وهي يردد بود: نازل لواحدك ليه يا والدي؟
غزت كلمته قلبه، فابتسم بسعادة: أنا بنزل وبطلع لوحدي، متقلقش الاسانسير هنا أمان.

ضحك آيوب وجلس قبالته يتبادل معه الحديث، ولم يشعر بالضجر أبدًا من أسئلة مصطفى المتواصلة معه، عما متعلق به وبأهله حتى دراساته، وابن عمه، كان يود استغلال كل دقيقة بالحديث معه حتى وإن ظل يتحدث دهرًا كاملًا.
دقائق قليلة وهبط علي للأسفل برفقة آدهم، فابتسم فور رؤيته آيوب وصافحه قائلًا بمحبة: ازيك يا بشمهندس آيوب.
أجابه آيوب بود: أنا بخير الحمد لله يا دكتور.

أشار مصطفى لعلي: واقف ليه يا ابني، اقعد ده عمر وآيوب اللي عاملين الفطار بنفسهم، واللي يطمنك ويطمني إن أغلبه أكل معلب، فحاول تتفادى أي طبق مصنوع بالأيد لإني عارف إن عمر ابني معندوش نفس في الأكل لكن آيوب الله اعلم.
ضحكوا جميعًا، واعتلوا مقاعدهم، فهتف آدهم بسخرية: مش عارف هتفضل تنتقدني لحد أمته، أنا ابنك على فكرة!
متخضنيش وأنا بحاول استوعب!

نطقها مصطفى مازحًا، فعادت الضحكات تسيطر عليهم، فتناولوا طعامهم بصمتٍ، وما ان انتهوا حتى خرج على بآيوب لمدخل المنزل لشعوره بأن الأمر الذي يحتاجه به يوتره بالحديث أمام آدهم ووالده.
نزع على نظارة النظر التي تناسى نزعها فور انتهائه من القراءة، وقال: ما تتكلم يا آيوب أنا خرجت بيك بره عشان تأخد راحتك في الكلام بس من ساعتها وإنت مرتبك وساكت!

تنهد والحـ.ـز.ن يتوغل إليه كالنيران حينما تشتعل بكومة من القش: أنا عايز من حضرتك مساعدة يا دكتور علي، الموضوع متعلق بابن عمي، هو اتظلم كتير واتحبس في معتقل لمدة خمس سنين، خارج مكـ.ـسور والحياة انطفت في عينه، وانا واقف عاجز ومش عارف أساعده ازاي، بس كل اللي جيه في دmاغي إنه ممكن يكون محتاج لدكتور نفساني، وأنا معرفش أفضل من حضرتك.

ابتسم على بتفهمٍ، وبعقلانية قال: أي شخص عنده مشاعر نبيلة زيك هيفكر نفس التفكير يا آيوب، أنا راجع لندن بكره بإذن الله بس قبل ما أسافر هعدي عليك بكره وهقعد معاه، ومتقلقش خالص هقنعه يتابع معايا وهكونله صديق مش دكتور.
غادر الحـ.ـز.ن وجهه، واحتله سعادة عارمة، مرددًا بفرحة: بجد يا دكتور؟
ربت على كتفه بحنان: سيبها على ربنا ثم عليا.
تلاشت ابتسامته وقال بـ.ـارتباك: بس يُونس حساس لو عرف انك دكتور نفسي هيآآ...

قاطعه بتفهمٍ شـ.ـديد لا يخرج الا من شخصٍ راقي مثله: اطمن، أنا فاهمك، هتعرفني عليه على إني صديقك او هتقوله الحقيقة إني أخو عُمران صاحبك وبعد كده سيب الباقي عليا وخليك واثق فيا.
اندفع إليه آيوب يحتضنه بامتنانٍ: شكرًا يا دكتور علي.
مسد على ظهره مردفًا: العفو يا آيوب. أشوفك بكره بإذن الله.
وتركه وغادر للسيارة التي كانت بانتظاره لتقله لأخر مشفى سيزوره قبل سفره بالغد.

أما آيوب فولج للداخل، ظل برفقة آدهم وأبيه إلى أن أشرفت الساعة على الثانية ظهرًا، فانصدm من انسياقه بالحديث المحب معهما، ونهض يهتف بعدm تصديق: أنا نسيت نفسي لحد دلوقتي ازاي؟!
وعاتبهما بضيق مصطنع: الحق عليك يا آدهم من ساعة ما عرفتني على والدك السكر ده وأنا مش عايز أسيبه، بس كده الشيخ مهران هيتضايق مني!
ترك آدهم فنجان قهوته ونهض يخبره ببسمة هادئة: قوله كنت مع آدهم مش هيقولك ولا كلمة.

طوفه بنظرة ماكرة، ملأها الخبث، ففهمها آدهم وردد بسخريةٍ: بتفكر في أيه يا بشمهندس! نظراتك كلها شر، أيه هتقــ,تــلني!
لف ذراعه حول كتفه ودفعه للخارج: لا هأخدك معايا للشيخ مهران، منه ترد وعدك بأنك هتتغدى معانا ومنه تشيل عني غـــضــــبه المخيف.
دفعه ليقف وهو يصيح بدهشة: هتأخدني فين! سبني يا آيوب أنا هوصلك وهرجع.
ضحك مصطفى وقال: روح معاه واعمل اللي عايزه منك يا عمر.

وبنبرة عميقة، مؤلمة استأنف: شكله بيحب والده وبيحترمه جدًا، فروح معاه وقوله إنه كان هنا معاك.
هز آدهم رأسه وسحب جاكيته الأسود يرتديه على تيشرته الأبيض، وصَرَّحَ: إنت صديق متعب أنا عارف.
غمز له بمشاكسة واتجه لمقعد مصطفى يناوله يده ليودعه: مع السلامة يا عمي، اتشرفت بمعرفة حضرتك وقضيت وقت ممتع بالكلام معاك!

راقب يده الممدودة وتجاهلها، ليفاجئه حينما سحبه داخل أحضانه بقوةٍ، أجزم آيوب بأن انتفاضة جسد مصطفى بأنه يبكي، فشعر بو.جـ.ـعٍ يعتري صدره وحيرة من أمر ذلك الرجل الغامض، فمسد على ظهره بحنان ولم يتخلى عن حُضنه الا حينما ابتعد مصطفى أولًا، وقبل أن يستقيم آيوب بوقفته أمسك مصطفى يديه بين كفوفه المرتعشة وقال وعينيه تتعمق بفيروزته: أبقى تعالى زورني من وقت للتاني يابني، عمر أغلب وقته بيكون في شغله وأنا هنا لوحدي، صدقني هفرح بزيارتك أوي.

نمى الدmع بأعين آيوب بشكلٍ تعجب هو ذاته له، ووجد نفسه ينحني رغمًا عن ارادته يقبل كف يده ويرتفع ليضع قبلة على رأسه تمامًا مثلما يفعل آدهم، وقال باحتقان يحجب صوته القوي ويضعفه: أوعدك إني هجي أزورك باستمرار، لإني حبيتك أوي.

هز مصطفى رأسه بابتسامة واسعة وودعه وهو يجاهد الا يسقط باكيًا، فسبقه آدهم وهو يستدير عنهما يزيح دmـ.ـو.عه، قلبه البائس لم يعد يتحمل، ما أصعب أن يرى أبيه يتألــم وهو عاجزًا عن اتخاذ خطوة ليست منطقية بالوقت الحالي.
خرج آدهم وآيوب لسيارته، وقادها لحارة الشيخ مهران.

سيف!
انتفض عن مكتب غرفته فازعًا حينما تسلل له صراخ أخيه المتعصب، لدرجة جعلت جمال يترك غرفته ويركض صوب الصوت هو الأخر والذي لم يكن يأتي الا من المطبخ.
ولجوا معًا، فوجدوه يضع الطعام وأغراض البراد الذي أحضره أرضًا، وما أن رأى أخيه حتى سحبه من ياقة التيشرت الأسود الذي يرتديه، هادرًا بعنف: ده منظر مطبخ! دي منظر شقة بني آدm طبيعي زينا عايش فيها!

ابتلع ريقه بصعوبة لرؤيته حالة أخيه المخيفة، كان يرى الشقة متسخة أكثر من ذلك ولم يفعل ما يفعله الآن، فردد بصعوبة بالحديث: اهدى يا جو مش كده!
صرخ بشراسةٍ غاضبة: ما تقوليش اتزفت! أنا مش الخدامة الفلبنية اللي اتولدت عشان تخدmك إنت والهانم اللي في بيتي دي! أنا دكتور محترم ولازم تحترموني غـ.ـصـ.ـب عنكم انتوا الاتنين!

حاول التملص من بين يديه ولكنه لم يترك له فرصة المناص، فتدخل جمال بمللٍ، ودفعه للخلف: سيبه يا يوسف ما انت بقالك سنين بتخدmه وعمره ما عمل لنفسه حتى كوباية قهوة أيه اللي جد دلوقتي!
بعصبية لم تحتسب قال: لازم يبقى مسؤول يا جمال، على الأقل يراعي الظروف اللي بمر بيها.
وبجدية تامة قال: أنا بقيت بنضف أطباق وحلل قبل ما بنزل الشغل يا جمال تخيل!

كبت ضحكة ساخرة كادت أن تتحرر عنه، بينما سحب يوسف مقعد خاص بالرخامة العالية وجلس بانهاكٍ؛
كان نفسي في الحمل بس مش بالطريقة دي أنا حرفيًا متمرمط!
لم يستطيع السيطرة على ذاته أكثر من ذلك، فضحك مرددًا باستهزاء: وماله لازم تكون راجـ.ـل متحضر وتستحمل هرومونات الحمل الطبيعة عند أي ست، مش ده كلامك يا دكتور!
احتدت نظراته بغـــضــــب دفنه خلف نبرة ثابتة: وإنت فكرني سلمت ولا أيه أبسلوتلي!

انتبه يوسف لكفٍ يمسد على كتفه وبشفقة قال: معلش يا يوسف إن شاء الله دكتورة ليلى تعقل وترفع عنك المسح والغسيل.
توارى هدوئه وجذب كف سيف يحطمه بين عقدته: إنت تخرص خالص، وحالًا القى المطبخ والشقة بيلمعوا والا أقسم بالله يا سيف لأكـ.ـسر المقشة دي عليك!
ارتعب سيف وركض للاطباق يجليها باتقانٍ، بينما ضحك جمال وقال: شكل أعصابك تعبانه أتصلك بدكتور علي؟!

استقرت مُقلتيه المشتعلة عليه، وأشار له بالخروج: لا تيجي وتفضفضلي أنا يا بشمهندس، اتفضل معايا!
وضع الشيخ مهران أطباق الطعام الممتلئة بأنواع عديدة من الأسماك على الطاولة المستديرة، هاتفًا بترحابٍ وابتسامة بشوشة أضاءت وجهه: يادي النور يا حضرة الظابط، نورت البيت كله والله.
نهض آدهم عن الأريكة البعيدة عن السفرة، يلتقط منه الأطباق ورصها بذاته على الطاولة: ده نورك يا عم الشيخ.

واستطرد بحرجٍ وهو يتأمل كمية الأسماك وأنواعها الباهظة: مكنش له داعي التعب ده كُله.
خلع مئزره البني المحاط بجلبابه الأبيض، ووضع سبحته التي لا تفارقه على الطاولة المجاورة ليده: تعب أيه بس يابني، ده الموجود ومتعملش حاجة مخصوص.
واضاف بابتسامة مرحة: دي الحاجة رقية بتحتفل بخروج ابنها يونس ولما آيوب اتصل وقال إنك جاي معاه بقت الفرحة مش سيعاها، وإنت خارج هتشكرك بنفسها على اللي عملته مع آيوب ويُونس.

هتف باحترام وعينيه موضوعة أرضًا: العفو يا عم الشيخ معملتش غير الواجب.
قاطعهما ولوج آيوب يتجه ليلحق بمقعد مجاور لآدهم كالطفل الصغير الذي لا يود الافتراق عن أبيه، وقال: خلاص نازل هو وإيثان أهو.
ردد وهو يراقبه يقرب مقعده من آدهم، رافضًا تلك المسافة المتفرقة بين كل مقعد والأخر لضمان الاسترخاء بجلستهم: يابني متضايقش الضيف في قعدته، اتحرك بكرسيك شوية!

زم شفتيه بضيقٍ: أنا مرتاح كده! وبعدين انا نقلت كرسيي جنبه عشان هيتحرج يأكل فقربله أنا الأكل.
ضحك آدهم وتطلع للشيخ مهران: سيبه يا عم الشيخ مش مضايقني.
اتسعت ابتسامة آيوب وأبعد عنه السمك المغموس بالصلصة الحمراء، ثم وضع السمك السنغاري والجمبري الفخم من أمامهما، قائلًا بثقة: أكيد مش بتحب السمك اللي بالصلصة، ما انا خلاص حفظتك وجهة معاكسة.

هز رأسه وابتسامته الجذابة مازالت مرسومة على وجهه، فاستدار آيوب تجاه أبيه يخبره بحماسٍ: إنت عارف يا بابا آدهم شبهي في حاجات كتيرة اوي، حتى معظم الأكل اللي مش بحبه وبيجبلي حساسية هو نفس الموضوع.
واستطرد بحب ينبع داخله لصديقه الذي بات مقربًا إليه: والنهاردة لما اتعرفت على والده حبيته جدًا ومبقتش مستغرب آدهم طالع بالجدعنه دي لمين!

راقب الشيخ مهران تعلق صغيره بشخصٍ عظيمًا كآدهم بفرحةٍ، وخاصة بعد سماع حديثه عنه وعن والده فقال وهو يوزع نظراته بينهما: ربنا يديم الود والمحبة بينكم يابني، حضرة الظابط ابن حلال وباين عليه إنه متربي في بيت ناس ولاد أصول.
اختزل الحـ.ـز.ن حدقتيه من علاقة آيوب بأب كالشيخ مهران، يصعب عليه تخيل معرفة الشيخ بالحقيقة ولكنه ممتن ويحمد الله عز وجل أن من قام بتربية أخيه هو الشيخ مهران.

انتبه آدهم لدخول يونس برفقة هذا الايثان الذي سبق أن رأه مرة، اتجه يونس إليه يصافحه يترحابٍ وسرور: أهلًا يا باشا.
صافحه آدهم وقال بضيق: باشا أيه يا يونس شايفني واقف قدامك بالميري!
واستطرد بابتسامة هادئة: أنا آدهم أو عمر بس، زي ما تحب نادي، مع إني واثق إنك هتنضم لشق آدهم ودي مصلحة ليا لإن ظباط المخابرات من الأفضل هويتهم واسمهم الحقيقي يتخفى.
رفع كفه الاخر يحيط بكفه المصافح: خلاص يبقى آدهم.

دفع إيثان يونس بعيدًا عن وجهه، ووقف يتطلع لآدهم نظرة فضولية جابت جسده، وبالأخص بأماكن العضلات التي يجيدها ككابتن متمارس، فكان يمتاز جسده ببناءٍ عضلي قوي، وبالأخص العضلات العضدية أعلى ذراعيه المفتولة، فردد باعجابٍ شـ.ـديد ومازالت نظراته تتفحصه: يعني مطلعش عضلات ظباط المخابرات فيك وحوار فاكس!
ومرر إصبعيه على كتف آدهم مستهدفًا أماكن العضلات ببراعةٍ، فهدر منصدmًا: دي مش حقن دي حقيقية فعلًا!

صاح به يونس باحراج وهو يجذبه للخلف: بتهبب أيه يا إيثان!
وتطلع لآدهم باحراج: أنا آسف يا باشا، بس صاحبي دmاغه مفوتة حبتين.
باشا تاني يا يونس! عمومًا مفيش حاجة.
قالها آدهم بانزعاج من يونس الذي مصر يضع الحدود بينهما، فتفاجئ بآيوب يطرق كتفه ويتفاخر بغــــرور: شوفت صحابي عاملين ازاي يا إيثو، امبـ.ـارح عُمران والنهاردة آدهم عشان لو فكرت تقل بعقلك وتحطني فيه هجبلك اللي يروقوا عليك!

قهقه آدهم ضاحكًا، وتساءل بحدة مصطنعة: وإنت بتضايقه ليه يا أستاذ إيثان، ده آيوب شاب ملتزم وأخلاقه عالية مالوش في المشاكل!
زم إيثان شفتيه بضيق: عشان خاطرك بس يا باشا مش هضايقه تاني.
صاح الشيخ مهران من خلفهم: يلا يا ولاد الأكل برد!
اتجهوا إليه فسحب إيثان المقعد القريب منه والذي كان يجاور آدهم، فصرخ به آيوب؛
ده مكاني!

برق الشيخ لآيوب الذي يبدو اليوم كالطفل المشاكس، فصاح بتحذير: اقعد جنب ابن عمك وبطل تصغر عقلك يا آيوب.
هتف باصرار: لا مش هأكل اللي جنب آدهم!
ضحك إيثان وقال مازحًا: اقعدي يا حبيبتي ومتخافيش أنا مستحيل أتـ.ـحـ.ـر.ش بيكِ وسط أهلك ومعانا ظابط كمان!
لكزه آيوب بغـــضــــب، بينما وزع يونس نظراته بينهما باستغراب لما أصاب آيوب العاقل، فنهض عن مقعده وأشار لآدهم: تعالى إنت هنا يا آدهم مش عارف آيوب ماله النهاردة.

ابتسم آدهم وجلس جوار آيوب المبتسم بانتصارٍ، فبادله بابتسامة هادئة وشرع بتناول طعامه، فجذب آيوب الجمبري يزيح طبقته الخارجية ويضعها بطبق آدهم، والجميع يتابعهما بسعادة لفرحة آيوب البـ.ـارزة من حدقتيه لوجود آدهم بينهما، وللحق لم يتوقع أحدٌ تعمق علاقتهما لهذا الحد، ظنوه مجرد صديق والآن يثبت بأنه أكثر من ذلك ربما لهذا غامر بمساعدة آيوب مرة ويونس مرة أخرى!

طرق الباب ومن ثم تحرر، وولج صغيرًا يحمل طبق وضع به الخبز الصغير، ومن الخارج تراقبه الحاجة رقية بـ.ـارتباكٍ لما فعلته، ولكنها تريد أن يقابل يونس طفله بأسرع وقت، تريد رؤية رد فعله، وتتمنى أن يحبه.
انتشر الارتباك والتـ.ـو.تر على ملامح الشيخ مهران وآيوب بشكلٍ لاحظه آدهم، والاندهاش على وجه يونس الذي يتابع ذلك الصغير بنظرات فضولية.

التقط آيوب الطبق من الصغير، ومرر يده بحنان على شعره مشيرًا على المقعد المجاور لأبيه: اقعد يا فارس.
تحرر يونس عن صمته متسائلًا بدهشة: إنت اتجوزت ولا أيه يا آيوب؟!
ارتبك من سؤاله لتذكره بزواجه من آديرا، وقبل أن يجيبه أجابه الشيخ مهران بصوتٍ عميق: ده ابن ناس من اللي ساكنين في عمارتنا يابني، والدته مريـ.ـضة وأهل والدته مسافرين، هو متعود علينا عشان كده قاعد عندنا الفترة دي لحد ما يرجعوا أهله بالسلامة.

انخفضت أعين يونس للصغير، انتقلت عينيه الفضولية لكل أنحاء جسده، فمنحه ابتسامة جذابة وقال: إسمك أيه يا حبيبي؟
ابتسم الصغير وقال بمشاكسة اضحكت الجميع: آيوب نادني بإسمي يا عمو!
ضحك يونس بصوت مسموع لمرته الاولى، وهتف بحنان: انا آسف يا عم فارس بس كنت بشـ.ـد معاك حوار مش أكتر.
هز الصغير رأسه بخفة، وسأله: إنت بقى اسمك أيه؟
رد عليه بحب: اسمي يونس.
وأشار على من يجاوره: وده صاحبي إيثان.

قال ببراءةٍ: ماما بتحب اسم يونس أوي، ودايمًا بسألها ليه مش سمتني الأسم ده عشان بتحبه بس مش بترد عليا وبتقعد تعيط كتير.
اختنقت أنفاس يونس، لا يعلم ما الذي أصابه بالتحديد، فأسرع الشيخ مهران بفض الحديث: كل يا فارس، طبقك أهو يا حبيبي.
بدأ الصغير بتناول طعامه بينما توقف يونس عن ذلك وطوال جلسته عينيه لا تنحرفان عن فارس.

لا يعلم كم مضى هكذا الى ان انتبه لعمه يودع آدهم الذي أصر على الرحيل لعمله الهام، فصافحه وودعه وعاد لمقعده.
اتبعه الشيخ مهران ليوصله لباب الشقة بينما هبط آيوب يوصله لسيارته بالاسفل.
نهض إيثان واتجه للمرحاض ينظف يده ولم يبقى الا يونس الشارد بالصغير، وجده يحاول نزع لحم السمك عن الشوك، فتناولها منه وبادر مبتسمًا: خليني أساعدك.

انتقل يونس لمقعد الشيخ مهران وأخذ يضع اللحم بطبق الصغير، وفارس يراقب ما يفعله باهتمامٍ.
شرع فارس بتناول طعامه ويونس يتابعه بحبٍ، وجد يده تتجه لزجاجة المياه فجذب الكوب الفارغ وسكب له المياه ثم رفعها لفمه، فشرب حتى ارتوى وقال بابتسامته التي راقت يونس كثيرًا: شكرًا يا عمو يونس.
مرر يده بين خصلات شعره الطويل: العفو يا استاذ فارس ولا أقولك يا دكتور! إنت عايز تطلع أيه لما تكبر إن شاء الله؟

حـ.ـز.ن الصغير وتوقف عن تناول طعامه، ثم قال بعزيمة مرعـ.ـبة: عايز أبقى ظابط عشان أحبس بابا وأخليهم يضـ.ـر.بوه كتير زي ما بيعمل مع ماما ويسبها طول الليل بتعيط.
وخز قلب يونس بلا رحمة، وتهاوت دmـ.ـو.عه بعدm تصديق لما يخوضه هذا الصغير، فحمله لساقيه وضمه بكل حنان له وهو يهمس بعاطفة: يا حبيبي!
أحاط الصغير رقبته فشعر بأحاسيس رائعة، ليته يمتلك طفلًا مثله، ربما كان سيهون الأمر عليه قليلًا.

رفع يونس رأس فارس إليه وسأله بتـ.ـو.ترٍ: طيب وهو بيضـ.ـر.بك إنت كمان يا فارس؟
هز رأسه بحـ.ـز.ن، وقال: أيوه بس ماما على طول بتدافع عني ومش بتخليه يضـ.ـر.بني.
عاد يضمه لصدره بقوةٍ، وقد ازداد و.جـ.ـعه أضعافًا، عاد إيثان والشيخ مهران الذي تفاجئ بيونس يضم فارس دون أن يعلم بأنه ابنه! أدmعت عينيه تأثرًا وتنحنح قائلًا: فارس غلبك يا يونس؟

أجابه وهو يبعد دmـ.ـو.عه عن خده بكـبـــــريـاء: أبدًا يا عمي ده أحنا حتى بقينا أصحاب، مش كده ولا أيه يا فارس.
هز الصغير رأسه بفرحة، بينما ردد إيثان: بينا يا يونس أوريك المحلات قبل العصر لانهم بيقفلوا للاستراحة.
وضع يونس الصغير على مقعده ونهض ليغادر برفقة صديقه، ولكنه شعر بأنه يترك خلفه قلبه الذي ينهشه، ربما يشعر بالشفقة تجاه الصغير وما قصه إليه، ففتح كف يده العريض وقال بابتسامةٍ هادئة: تحب تيجي معانا يا فارس؟

تهلل وجه الصغير وركض يضع كفه بكف يونس الذي رفع وجهه لعمه المندهش وقال: هنأخده معانا بدل ما يغلبكم يا عمي. وهقابلك في المسجد وقت صلاة العصر إن شاء الله.
بصعوبة حرك رأسه: مآ، آآ. ماشي يابني.
هبط يونس ويده تحيط بالصغير وابتسامته لا تفارقه، فمال عليه ايثان يهمس بصوت خافت: جبته معانا ليه يا يُونس لا أنت ولا انا عندنا خلفية عن التعامل مع الاطفال! هنحتاس بيه كده!

قال ويده مازالت تعبث بخصلات الصغير، البنية التي تذكره بأخر شخص لا يود تذكره: أنا حاسس إنه طفل هادي مش مشاغب، ولو حصل فهرجع أنا بيه متقلقش.
هز رأسه بيأس وأوقف أحد وسائل المواصلات الشعبية المتاحة بالحارات، ذات الثلاث عجلات (توكتوك)، صعدوا به وتحركوا لمكان المحل الأول.

هبطوا معًا ويونس عينيه معلقة على اللافتة العريضة التي تحمل إسمه، وانخفضت عينيه تدريجيًا على مدخل المحل الكبير، تعجب لما تمكن إيثان من فعله وهو بمفرده، كان يملك محلًا صغيرًا، وبعد عمله فتح الأخر وكان صغيرًا، اما الآن قد تمكن من رؤية إسمًا سعى صديقه لانتشاره.

استدار باحثًا عنه وما ان وجده لجواره ضمه إليه وقال بتأثرٍ: مفيش شكر هيوفي حقك يا إيثان، أنا كان عندي ثقة فيك بس أنت ادهشتني من اللي عملته. بس أنا مقبلش خسارتك
ربت عليه وردد بصدق: مال الدنيا كله فداك. المهم انك خرجت من اللي كنت فيه.
وابتعد يشير له بحماس: تعالى ندخل، كرسيك مش وحشك؟

ابتسم له واومأ بمحبة عارمة لاحتفاظه بالمقعد المحبب إليه، حيث أنه ابقى عليه سابقًا لآنه كان عائد لأبيه، جذب يد الصغير واتبع إيثان للداخل، فتجمع من حوله العمال يرحبون به بحفاوةٍ ولدهشته بأن صديقه الحبيب مازال يحتفظ بعماله!
أوصل آدهم آيوب قبالة عمارة إيثان التي تقطن بها آديرا، وقبل أن يهبط فجأه آدهم حينما قال: الولد الصغير ده ابن يُونس صح!
لف رأسه إليه وردد بصدmة: أيه اللي خلاك تقول كده؟

أغلق محرك السيارة والتف إليه بجسده: نظرات الخــــوف اللي كانت جوه عيونك أنت والشيخ مهران، مراقبتكم لرد فعل يونس باهتمام ولهفة، واتقلبت لشفقة وحـ.ـز.ن لما اتكلم معاه، غير الشبه الملحوظ بينهم، احتفاظ الشيخ مهران بطليقة ابن عمك لحد دلوقتي جوه بيته.
اتسعت عينيه بدهشة، وردد بصعوبةٍ: إنت بني آدm مخيف يا آدهم.
تعالت ضحكاته الرجولية ورفع كتفيه بغــــرورٍ: مش ظابط يابني!

تنهد بقلة حيلة وقال: أيوه يا آدهم ابنه، وبابا منتظر الوقت المناسب عشان يصارحه بالحقيقة، بس زي ما أنت شايف لسه خارج ومش جاهز.
تفهم آدهم ما يقول، فقال بتمني: إن شاء الله يكون متفاهم ويتقبل الولد.
رد عليه بابتسامة ممتنة: يارب يا آدهم يارب، يلا هنزل انا بقى عشان مأخركش.
أمسك يده يمنعه من الهبوط، وقال يشاكسه بغمزة مرحة: أيه اللي خليك تحن! مش كنت مفارق؟

لوى شفتيه بتهكمٍ: مجبور والله يا صاحبي، كل يوم بتبعتلي مع إيثان وده خلقه في صابع رجله الصغير.
ازداد ضحكًا وقال: ماشي يا أيوب روح سايس الدنيا بدل ما تتفضح والشيخ مهران يرميك في الشارع.
ودعه والضحك يعلو على وجهه، فتحرك آدهم على الفور، بينما وقف آيوب أسفل عمارة إيثان يتطلع للشرفة المرتفعة بترددٍ.

زفر بضيقٍ يعتلي ملامحه، لا يحبذ القدوم لمكانٍ رغمًا عنه، ولكنه مضطر لفعل ذلك، وما كاد بالدخول للعمارة حتى أوقفه احد المارة يتلقفه بأحضانه وما كان سوى عم صالح البقال، يعانقه قائلًا بفرحة: حمدلله على السلامة يا آيوب، ليك وحشة والله يابني.
منحه اجمل ابتسامة يمتلكها واجابه بحب: أنا الحمد لله في زحام من النعم، أخبـ.ـارك إنت أيه يا راجـ.ـل يا طيب؟

أجابه المسن بحبورٍ: في فضل ونعمة الحمد لله. وكنت رايح المسجد ألحق صلاة العصر ورا الشيخ مهران. حتى لو المسجد اللي بيصلي فيه بعيد عن الدكانة مستحيل افوت صلاة عليا، صوته بيطرب ويداوي القلب والاوجاع يابني.
ثنى ساعده وقال: طيب بينا نلحق الصف الأول.
ضيق حاجبيه باستغراب: بس إنت شكلك كنت طالع عند إيثان قبل ما أناديك!
قال وهو يخطو لجواره: مش مهم بعدين، المهم مفوتش الصلاة.

ردد الرجل بإيمان وهمة: توكلنا على الله، يلا يابني.
اتجه آيوب للمسجد، وجلس جوار يونس الذي أعاد فارس للمنزل برفقة إيثان وولج لصلاة العصر، وما هي الا ثوانٍ وأقام الشيخ مهران الصلاة.
زفر بعصبيةٍ بالغة: ما تتنيل يابني وتنطق، طلعت عين أمي معاك! مخليني سيبت حسام يحضر توقع العقود مع دانيال وعمي وجيت جري وفي الأخر قاعد قدام شبه تمثال الحرية!
تنهد جمال بقلة حيلة: مش أنا اللي كلمتك، يوسف اللي اتصل بيك.

دافع يوسف عن ذاته سريعًا: وأنا كنت هعمل أيه يعني، ما انا قاعد جنبه بقالي أربع ساعات مش عارف أطلع منه بحاجة مفيدة.
نغز عُمران ساق جمال المتمدد ببرود: قوم اترزع خلينا نعرف نأخد وندي في الكلام.
أنا مرتاح كده!
بس أنا مش مرتاح!
استقام بجلسته بضيقٍ شـ.ـديد، وهتف بجمود يتحلى به: نعم!

كز على أسنانه بعصبية، وبصعوبة سيطر على سبابه اللازع الذي قد يفسد الاجواء، فجلس جواره وقال بهدوء مغتاظ: بص يا جمال، من حقك تكون كتوم على حياتك الخاصة، وأنا ويوسف مش عايزين نعرف اللي حصل بينك وبين مدام صبا، بس على الأقل ترجع بيتك، مينفعش كل مشكلة تحصل بينكم تيجي وتقعد هنا.
طرق الفراش واتجه للنافذة المفتوحة: لو مضايقكم قعادي انا ممكن احجز في أي اوتيل.

نهض خلفه يوسف يصيح بانفعال: وقعادك هنا هيضايقنا في أيه يا سي جمال، احنا خايفين عليك متنساش إن مراتك حامل كام يوم وهتدخل في الشهر السابع والزعل مش كويس عشانها، متسبش مجال لدخول الشيطان بينكم يا جمال.

ترك النافذة واتجه للشرفة، فتنحى يوسف جانبًا ولحق به عمران يردد ببرود مخادع: بلاش عشانها، عشان خاطر أشرقت. شوشووو يا جمال! لو رجعت البيت وشافت الحالة اللي انتوا فيها دي هتزعل والزعل وحش عشانها، ارجع وراضي دنيتك قبل معاد خروجها بكره.
يعلم بأنهما لن يستسلموا عن إلقاء محاضراتهم، لذا اتجه للفراش وهو يصيح: أنا مش متخانق معاها، أنا طلقتها.

جحظت أعين يوسف صدmة بينما انطلق لسان عُمران الوقح: إنت ضارب أيه يالا! إنت شكلك مش طبيعي!

كاد بأن يسترسل حديثه المنفعل إلى أن دق هاتفه برقم حسام السكرتير، فخرج من الغرفة ليجيبه، فوجده يستعلم عن مكان اوراق هامة، وما ان انتها مكالمته حتى عاد للغرفة، فتخشب محله حينما سمع جمال يهدر بانفعال شرس ليوسف الذي كان يحاول حثه على الحديث: آه يا يوسف طلقتها، مهو مش أنا الراجـ.ـل اللي هيقف يسمع مـ.ـر.اته وهي بتقارن بينه وبين راجـ.ـل تاني بمنتهى البجاحة، ومش نـ.ـد.مان إني عملت ده فاهمني!

ابتلع حديثه بصدmة، وبصعوبة هدر: راجـ.ـل أيه اللي هتقارنه بيك هي تعرف مين أصلا عشان تعمل كده، على حد علمي أنكم مالكوش علاقة ولا خلطة بحد غيرنا يبقى آآ...
توقف عن الحديث وازداد اتساع مُقلتيه، حينما عقد مقارنة سريعة بين من يمكن أن ينال اعجاب زوجة رفيقه في محيط الاقربون منهم، فاجبر لسانه الثقيل على سؤاله: عُمران!

صمت جمال وتعابيره الهادرة أكدت ظنون يوسف، فجذبه يقف قبالته وهو يصيح بغـــضــــب: انطق يا جمال إنت تقصد عُمران!
أزاح يديه من حول عنقه، فتابع يوسف باستنكار: جمال ده عُمران إنت فااااهم، يعني مش هسمحلكم تخسروا بعض عشان كلام أهبل طلع من مراتك!
أوقفه عند حده حينما قال: إنت بتخرف يا يوسف، أنا مش مغلط عُمران في شيء لانه ببساطة معملش حاجة، الغلط من عندها هي فمستحيل أشيله ليه هو ذنبه أيه أصلًا!

أغلق عُمران عينيه بحـ.ـز.ن، وقبل أن يدخل طرق الباب وجاهد ليبدو طبيعيًا وهو يخبرهما بايجازٍ شـ.ـديد: أنا لازم أنزل الشركة، حسام مقدرش يخلص معاهم.
وغادر دون أن يضيف كلمة واحدة، وحديثهما مازال يتردد إليه كالسوط، فما أبشع أن يكون سبب لهدm منزل لا يقبل بهدmه أبدًا، ولكن هو لم يفعل أي شيء!

إلتاع قلبها من فراقه، الأيام تمضي دونه كتسرب المـ.ـو.ت لشخصٍ مقت الحياة وتمنى الرحيل، بداخلها ألــمًا ينهشها كالوحش المفترس، عاجزة هي عن الصراخ حتى مقاومتها خسرتها بجدارةٍ.
لم يحتسب لها بتلك الأيام الا يقينها بأن آيوب لم يكن لها شخصًا عاديًا، لم يكن ذلك العدو الذي تجرأ على قــ,تــل أخيها وتركها تشتعل لوعة قــ,تــله.

الآن وبتلك اللحظة تتيقن بأنه قد غزى قلبها بجيوشه وأباد حركة مقاومتها ليصبح المسيطر الوحيد على ملكيتها، أجل أحبته بل عشقته لدرجةٍ جعلتها تنـ.ـد.م لفعلتها بعدmا تركها أيامًا معدودة دون سؤالًا عابرًا عنها، تتذكر كل مرة أتى إليها إيثان وحينما تتساءل عنه يجيبها بأكثر من حجة تجاهد لاقناعها بأنه منشغلًا وسيأتي قريبًا، باتت على يقينٍ بأنه لم يكن هدفه بقربها الا حمايتها فحسب، ترى اختلاف ديانتها وشكلها هو السبب لافتراقه عنها؟ ولكنها أعتنقت الدين الاسلامي بشهادة منه ومن صديقه عُمران، حتى حُلمها برؤية الشيخ مهران تحطم بوجودها هنا بمفردها.

أغلقت باب شرفتها بعدmا فترة من شرودها، حاسمة أمرها بالرحيل، هي ليست بحاجة لشفقته فيتحمل أمر إطعامها وتـ.ـو.فير سكنًا لها، ففتحت باب الشقة وهبطت للحارة الشعبية تدقق بطريق العودة.

كانت تائهة، حائرة، تراقب الزحام والأعين التي تترابصها كأنها من كوكب غير البشر، فتفحصت ثيابها، تنورتها البيضاء التي تصل لركبتها، قميصها الوردي ذات الحبال القصيرة والمعقود عند منتصف بطنها في حين أن من حولها من النساء يرتدون جلباب أسود فضفاض.
اختنقت من نظراتهن، فأسرعت بخطواتها وغايتها الوحيدة الفرار، حتى توقفت بمنتصف احدى الشوارع، تتفحص الزحام والمارة بأعين تسلل لهل الرعـ.ـب والتيهة.

مررت يدها بين خصلات شعرها الذهبي، ودmـ.ـو.عها تهبط دون ارادة منها، وكأنها كانت مغيبة وإستفاقت هنا عند تلك النقطة، كيف تمكنت من اتخاذ قرارًا أحمقًا كذلك؟ هي هنا بمفردها حتى العملة المصرية لا تمتلكها، لا تمتلك حتى هاتف ولا أي شيء قد يساعدها وإن وجد بمن ستطلب العون!

تراجعت خطواتها للخلف بذعرٍ، حتى جلست على أحد (المصاطب) لأقرب منزل قابلها، تضم ذراعيها المكشوفة ببكاءٍ منهمر، مالت برأسها عليه وهمست بصوتٍ بُحت نبرته: آيوب أين أنت؟

وكأنه علق بين زمانه وزمانها، فهالتها رؤيته، انتفضت عن جلستها تدقق بعينيها الفاتنة من يقف على بعدٍ منها، شوقها إليه ولهفتها جعلتها كفيفة عن رؤية مجموعة الرجـ.ـال المحاطة به، فاندفعت راكضة إليه بكل سرعتها التي لا تتناسب مع حذائها البوت الكلاسيكي ذو الكعب المرتفع، كل ما تراه هو فحسب!

وعلى مسافة منها فور انتهاء صلاة العصر، وقف آيوب برفقة والده الشيخ مهران و يونس يستقبلون التهاني والمبـ.ـاركات الحارة بعودة أبناء الشيخ مهران، مؤكدون ليونس بأن لا أحدًا منهم صدق تلك الاقاويل المتدنية بحقه، وللحق شُفيت جزء من أوجاعه لسماع مدحهم بأخلاقه التي ظنها تلوثت بعد دخوله المعتقل، وفجأة ومن بين الحديث المتبادل فيما بينهم اندفعت تلك الفتاة الأجنبية بملابسها الفاضحة لأحضان ابن شيخ حارتهم تحتضنه بقوةٍ، وصدmة تتسرب لجميع الواقفين من حُصل اللغة الانجليزية: أين ذهبت وتركتني؟ لقد أفتقدتك كثيرًا آيوب!

جحظت أعين الشيخ مهران بصدmة ولحق به يونس المتقن للغتها، بينما آيوب مازالت ذراعيه متشنجة والبرودة تتسلل لأعماقه رويدًا رويدًا، لا ترى فيروزته الا الجحيم المستعار بآعين أبيه، الشيخ مهران!
تصاعد الأنفاس هو المسموع بين دائرة الصمت المغلفة بالأطرف، ما بين وجوه غاضبة، وأخرى مندهشة ومصعوقة مما يحدث، وأخرى ساخطة على ابن الشيخ الأزهري الذي حط من أخلاقه فور سفره للالتحاق بالجامعة الأوروبية، فاختلط بنسائها وبما يلقبن وسط حارته الكاسيات العاريات!

لم يكن حال آيوب يفترق عنهم، لم يتوقع أن يراها هنا، والادهى أن تقترب منه على مرأى الجميع، لم تفعلها وهما بمفردهما وحينما اختارت فعلها اختارت وقتًا ومكانًا بصميم فتيل القنبلة.
ابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ وهو يراقب صمت أبيه وغـــضــــبه المستعار، بينما مازالت آديرا تتمسك بذراعه وتوزع نظراتها بين الجميع بخــــوفٍ.
كان إيثان أول من تدارك الموقف، فقال بمزحٍ متعمد: الخواجاية دي بينها تايهة وبتشبه على آيوب.

وأقترب منها يسحبها عن آيوب وهو يردد بهمس منخفض لها: إن أرادتي أن ينجو آيوب بحياته فلتتبعيني الآن، والأ سيقــ,تــلونه!
جحظت عينيها صدmة، بينما تنحنح إيثان رافعًا صوته ليسمعه الجميع: مش بقولكم تايهه.
واستطرد وهو يشير لها، ناطقًا بالعربية رغم علمه بأنها لن تفهمه: تعالي معايا وأنا أدلك على الموقف ومنه تقدري تروحي للمكان اللي إنتي عايزاه.

خـ.ـطـ.ـفت آديرا نظرة سريعة لآيوب، ولحقت بإيثان بعدmا صدقت ما قال فور رؤيتها نظراتهم الغاضبة تجاهه، فما أن اختفى بها إيثان حتى قال العم صالح بضحكة: أنا قولت كده بردو، مهو مش معقول آيوب ابن الشيخ مهران يعرف الاشكال دي.
قال أحدًا من الجيرانٍ: الحمد لله إن الواد إيثان بيعرف يرطم انجليزي أهو يساعدها.

وأضاف أخر: آيوب شاب ملتزم وعمره ما رفع عينه في عين واحدة، فمش معقول هيعرف الاشكال دي، مجرد خروجها من البيت باللبس العريان ده شبهة، ربنا يحفظ بناتنا.
حجر غـــضــــبه داخله، فبالنهاية له كل الحق، والصادm له أنه ولأول مرة يرآها ترتدي ثيابًا فاضحة لتلك الدرجة حتى وإن كانت ترتدي فساتين وتنورات قصيرة.

جذب يونس كف آيوب بحدةٍ، وعينيه تخبره بأنه لا يصدق تلك الكذبة التي ألقاها صديقه، ربما مرت على عقول هؤلاء البساط ممن يجهلون ترجمة لغتها، بينما هو كان يعلم كل كلمة، فأشار له: بينا على البيت يا آيوب أنا عايز أرتاح.

تحرك به للمنزل والشيخ مهران يتبعهما بغموضٍ لا يفصح عما بداخله شيئًا، فما أن ولجوا لمدخل المنزل حتى وجدوا إيثان جالسًا على أحد الآرائك وتلك الأجنبية لجواره، هاتفًا بقلة حيلة: حاولت أرجعها الشقة بس رفضت وصممت تشوفك، اتصرف قبل ما الشيخ مهران يرجع!
يعني إنت كنت عارف بالعلاقة المشرفة اللي رابطة ابني المتدين بالبـ.ـنت دي!

قالها الشيخ مهران باستهزاءٍ على لفظ متدين لابنه الذي خابت كل آماله به، كان مازال يقف على عابة البوابة الحديدية يراقبهم بنظراتٍ خاوية من الحياة، وكأنه بعد أعوام من تعب وكد خسر كل شيء زرعه داخله، وللعجب مازال متماسكًا أو يحاول التصنع بذلك.
مر من أمامهم واتجه للدرج قائلًا بصرامة دون أن يلتفت إليهم: هات الخواجاية دي وحصلني على فوق يابن الشيخ مهران!

ملأ الذعر حدقتيه، فقد حان الوقت ليكتشف أبيه ما أخفاه، تمسكت آديرا بيد آيوب وقالت باكية: آيوب هيا لنخرج من هنا، أنا خائفة من ذلك الرجل!
خــــوفها هالها لمجرد رؤية لحيته البيضاء الطويلة، جلبابه الابيض، كل شيءٍ يتقارن مع تلك الصورة المزروعة داخلها عن الارهاب.

ربما لم يتطابق آيوب لتلك الصورة المرسومة داخلها فاستعابت أخيرًا بأنه ليس كذلك، ولكنها ما أن دققت النظر بالشيخ مهران حتى هاجمها هواجس مريـ.ـضة، تهدد ثباتها.
تحرر آيوب عن رزانته، فقبض على معصمها وجذبها للحائط بقوةٍ، وبعصبية بالغة صرخ: كيف تجرؤين على الخروج من المنزل! وبتلك الثياب الفاضحة! أخبريني هيا!
واسترسل بنفس الغـــضــــب: ألــم أحذرك من مغادرة المكان! ثم بالله كيف تسمحين لنفسك بالاقتراب مني لهذا الحد!

وباستنكارٍ أضاف: أجن عقلك يا امرأة! إنتِ لستِ بلندن حتى تفعلين تلك التصرفات المخزية، أعدك بأنني لن أمرر ما فعلته آديرا.
كـ.ـسر يونس صمته بعدmا كان يتابع ما يحدث بغـ.ـيظٍ، فجذبه إليه وهو يصيح بصدmة أثقلت لسانه فور سماع اسمها: آديرا! يهودية؟!

وجذب قميصه بكلتا يديه ليدفعه تجاه الدرج: إنت ليك عين تقف وتتخانق معاها، إنت مش متخيل الكارثة اللي إنت فيها مع الشيخ مهران، أيه اللي حصلك يا آيوب لا عمرك كان ليك في الستات ولا في أي شيء يغـــضــــب ربنا.
وبصراخٍ عنيف قال: مين دي يابن الشيخ مهران؟
وبسخرية استطرد: يا متدين يا خالوق!
حل يديه عن ثيابه وقال: مراتي يا يونس!

جحظت فيروزته بصدmة جعلته يرتد للخلف، ولسانه يهدر دون انتباه لما يتفوه به: مراتك ازاي! يا نهار أسود اتجوزت يهوديه يا آيوب!
كاد بأن يشرح له ولكن صوت والده الرعدي أتى من الأعلى ينادي بغـــضــــب لم يشهده آيوب يومًا: آيوب!
تجمد محله بخــــوف، فأخذ يوزع نظراته بين ايثان ويونس، وانتقل لآديرا التي تفرك معصمها ببكاءٍ وصدmة من قسوة تعامل آيوب الغريب معها.

آيوب ابن الشيخ مهران، ابن هذه الحارة البسيطة يخترق القوانين بزواجه من أجنبية يهودية الجنسية، وبالرغم من أن قلبه مازال موصود بقفل من فولاذ، لم تتمكن بثيابها وجمالها المُفتتن من غزو قلبه الأ أنه بالنهاية رجلًا يتسم بالمروءة والغيرة على نساء منزله، وهي الآن تُنتسب إليه، لا يرضى لأحد أن يرأها بهيئتها تلك حتى وإن كان أخيه وأبيه.

نزع عنه قميصه الأسود وهبط الدرج إليها يحيطها به عن أعينهما، والاثنين يتابعونه بدهشةٍ، ارتدت آديرا القميص وعاونها ذلك آيوب، بينما عينيه المحتقنة تجوب ساقيها البادية من أسفل قميصه الذي كان طوله يصل لبعد تنورتها الفاضحة.
أحاط كتفيها ليمر بها من أمام إيثان ويونس الذي يستند كلا منهما على درابزين الدرج الرئيسي بصدmة وذهول.

صعد بها لشقتهما، وانتهت خطواته بالردهة وبالتحديد قبالة أبيه الماسد على الأريكة يستند برأسه على عصاه السوداء، وما ان وجده أمامه حتى رفع رأسه إليه، فتمكن من رؤية لون الدmاء العالق بأعين أبيه فتيقن بأنه بأبشع حالات غـــضــــبه، وما زاده غـــضــــبًا رؤيته له يقف أمامه بملابسه العلوية الداخلية (فالنَّة أو فانلة، نوع من الملابس التحتيّة تتّخذ من القطن أو الصوف الناعم، وهو ألوان متعدّدة أشهرها، ).

صوب بصره الصقري لمن تختبئ خلفه، متخفية بقميص ابنه الشبيه بالجلباب القصير عليها لفرق الأحجام بينهما، وما زاد سخطه يدها المتمسكة بذراعه والاخرى تتشبث بظهره، فابتسم ساخطًا: لا عندك مروءة أوي!
ونهض يقابله وجهًا لوجه، فانسحب ابنه من لقاء عينيه وأخفض بصره بحرجٍ، فصاح الشيخ ساخرًا: أيه مش قادر تبصلي! ولا محروج إنك اتفضحت وبان اللي كنت بتخبيه عني وعن أهل الحارة!

واستطرد بصراخ صعد لاجله إيثان ويونس: كنت بتدعي المثالية وإنك شاب ملتزم وإنت مقضيها مع الخواجات في بلد بره يابن الشيخ مهران! ويا بجاحتك يا أخي راجعلي بيها!
أتجه يونس إليه، فأمسك كفه وهو يرجوه: عمي من فضلك اهدى وخلينا نتكلم بهدوء.
مال إليه وازداد عنفونه: اهدى أيه يا يونس ابني جابلي العار ووطي راسي!
خرجت الحاجة رقية من غرفتها تحكم حجابها حول رقبته وتردد بذعرٍ: في أيه يا شيخ مهران؟ بتزعق كدليه؟

وجابت بصرها تلك الفتاة الغريبة التي تتحامى بابنها، فاذبهلت وبصعوبة نقلت إليه نظراتها، متسائلة: مين دي يا آيوب؟
أغلق عينيه بحـ.ـز.نٍ، أخر ما توقعه حدوث كل ذلك، كان سيحدثهما عن كل شيءٍ حينما تأتيه فرصة مناسبة، ولكنه منذ أن عاد من سفره، وما حدث لخديجة وخروج يونس أنساه كل شيءٍ.

استدار إليها الشيخ مهران وأشار بسخرية مؤلمة: تعالي يا حاجة شوفي ابنك المحترم، خارجين من صلاة العصر فجأة نلاقي الخواجاية دي بتحـ.ـضـ.ـن فيه ودلوقتي زي مانتي شايفة واقفه وماسكة ايده والله أعلم في أيه تاني ما بينهم!
تحررت آديرا عن صمتها حينما نغزت كتف آيوب، وببكاءٍ قالت له: من ذلك الأرهابي آيوب؟ هل يتحدث عن قــ,تــلي؟ فلنرحل من هنا أنا خائفة!

صُدm آيوب مما قالته، فجز على أسنانه يحاول احتمال كل ما يحدث برمته، بينما هدر الشيخ بانفعال: بتقول أيه دي يا إيثان! ترجملي!
ازدرد ريقه الهادر وردد بتلعثم: آآ، بتقول آنها. آآ...
أيه بلعت لسانك! انطق وقول بتقول أيه؟
أسرع يونس بالاجابة: عايزة تمشي من هنا يا عمي.
عاد يتطلع لابنه وقد خرج عن ثبات ليس موجود به: ويا ترى بقى ابني المحترم واخدلها شقة ولا أوضة في فندق؟! وبتشوفها امته وازاي!

واستطرد ببسمة حملت الألــم بين طياتها: واليوم اللي كنت فيه مع آدهم كنت معاه فعلًا ولا كنت بتكدب عليا يابن الشيخ مهران.
مزق جلباب صمته المعتم، وبحشرجة ذبحت حلقه قال: كنت مع آدهم يا بابا أنا عمري ما كدبت عليك وحضرتك عارف إن ده مش طبعي وآ.
اخرس! متتكلمش عن اللي انا أعرفه، لإن اللي قدامي ده مش ابني واحد غريب لأول مرة أعرفه.
واسترسل بحدة هادرة: ودلوقتي حالًا ترد وتقولي مين دي؟! وتعرفها أمته وازاي؟

رفع عينيه الدامعة لأبيه واستعد لمواجهة عاصفته، فأشار له يونس يحذره من قول الحقيقة، ولكنه لم يعتاد الكذب على أبيه فقال: مراتي يا بابا.
لطـ.ـمـ.ـت رقية صدرها بصدmة، وصرخت ببكاء: ليه كده يا آيوب! حـ.ـر.ام عليك يابني تعمل فينا كده حـ.ـر.ام عليك!
تـ.ـو.ترت الأجواء الا من صوت أنفاس مهران المتصاعدة، وفجأة شقت صفعته على وجه آيوب أرض السكون، فتغلب الأوجه صدmة وحـ.ـز.ن لما اضطر الشيخ مهران بفعله لمرته الاولى.

وبنفس قوة صموده قال: مراتك ديانتها أيه يابن الشيخ مهران؟
ارتعب يونس وعاد يهز رأسه لأيوب برجاء وتوسل الا يخبر أباه شيئًا عنها أو حتى يلفظ إسمها العبري أمامه.
انهمرت دmعة ساخنة على وجه آيوب الذي مازال وجهه مستكين للأيسر استجابة للضـ.ـر.بة التي تلاقاها من والده الحبيب، وبصعوبة ردد: كانت يهودية بس أسلم...

طالته صفعة على خده الأخر جعلته توقف عن نطق جملة لا يريد الشيخ سماعها، وجُل ما يطارده اضطرارها للالتحاق بدينه لأجل الزواج منه وخداعه، فآن كانت أسلمت لما كان سمح لها آيوب بما ترتديه.
شعر بأنه خسر عكازه القوي، فتحرك للأريكة يحتلها بكل ثقل جسده، ويونس يحاول أن يسانده ولكنه يرفض ذلك، يختطف النظرات المنصدmة إلى ابنه وعقله رافض ولديه اعتراض لما يحاول قبوله.

أجبر لسانه الثقيل على نطق حروفٍ رغم بطئها الا أنها كانت قوية كالسواط: خدها وامشي من هنا، وأوعى توريني وشك تاني.
ازدادت شهقات رقية، وإتجهت لرقية تصرخ بانهيار: أيه اللي بتقوله ده يا حاج، عايز تطرد ابنك الوحيد! عايز تفرقني عن ضنايا يا حاج.
ساند يونس حديث زوجة عمه وقال: يا عمي الامور متتخدش كده، اديله فرصة يشرحلك، إسمع منه وبعد كده آحكم مش ده علام حضرتك لينا، من فضلك اسمعه وبلاش تطرده من هنا.

رفع مهران عينيه الغائرتين بالدmع لابن أخيه المنحني إليه، فرفع كفه يحيط خده بحنانٍ وقال: بالرغم من كل اللي إنت اتعرضتله ألا انك ما غـــضــــبتش ربنا في أي تصرف ليك يا يونس، لسه بتحاول تقاوم كل الظلم اللي اتعرضتله، بتثبتلي كل مرة إنك تربيتي. تربية الشيخ مهران.
وأشار باصبعه على آيوب، مستكملًا: أما ده فانا معرفهوش يابني، مينفعش الغريب يفضل في بيتي ويجـ.ـر.ح حُرمته.

ونهض يتجه لغرفته قائلًا بحزمٍ: مشيه يا يونس وأنتِ يا حاجة عايزة تقفي معاه ومع غلطه حصليه.
وتركهم وولج لغرفته، فوقفت الحاجة رقية عاجزة، باكية، يـ.ـؤ.لمها قلبها وينشطر نصفين، ما بين زوجها وابنها.
منحت آيوب نظرة أخيرة وقالت قبل أن تتبعه: ربنا يسامحك يابني. ربنا يسامحك!

غادرت وتبقى برفقة إيثان ويونس الذي وقف قبالته وبحـ.ـز.نٍ شـ.ـديد قال: عملت في نفسك كدليه يا آيوب؟ خدعتك لندن وبناتها اللي اغلبهم متبرجات! ده إنت ألف واحدة تتمناك ليه؟!
وتابع وهو يتطلع بغـــضــــب لمن تتمسك به من الخلف: طيب حتى كنت سبتها هناك ومجبتهاش هنا لأبوك وأمك المساكين اللي ملهمش غير سمعتهم، يا أخي ده على رأي المثل إذا ابتليتم فاستتروا!

أغلق حدقتيه فتحررت دmـ.ـو.عه على خديه، ترك الردهة لهم واتجه لغرفته، وبعد قليل عاد بحقيبة صغيرة وبيده تيشرت ارتداه فوق ملابسه، وتحرك يجذب آديرا ويخرج بها.
تهدل جسد يونس مشيرًا لايثان بتعبٍ تغلب عليه: روح وراه يا إيثان، شوفه هيروح فين!

هز رأسه بتفهمٍ ولحق به للأسفل، بينما استرخى يونس برأسه على الاريكة من خلفه، إلى ان لفت انتباهه صرير باب الغرفة التي كانت تخص عمه وزوجته قبل ان يقطنان بالغرفة الثالثة للمنزل، ليجد فارس الصغير يطل من خلف الباب وهو يفرك عينيه بنومٍ، وما أن رآه حتى هرول إليه مبتسمًا وهو يتمتم: عمو يونس!
تلقفه يونس بين ذراعيه وعلى وجهه ابتسامة جذابة!

صعد للطابق الثالث، قاصدًا الصالة الرياضية التي خصصها له عمه، نارعًا جاكيت بذلته الثمينة، ومن خلفها جرفاته.
شعوره بالاختناق جعله يمزق أزرار قميصه الأبيض غير محتمل لبطء ازالته عن جسده، واتجه على الفور لجهاز الركض، فعله عُمران على أقصى سرعته وكأنه ينتقم من نفسه على ما استمع إليه.

ركض بسرعةٍ مفرطة جعلت أنفاسه تتهاوى كالسباق الأذلي، العرق يحتشـ.ـد على صدره ورقبته بشكلٍ كبير، وكلما عاد له ما استمع إليه زاد من قوة ركضه، إلى أن انتهى بعد دقائق وإتجه يضع أوزان ثقيلة بالحاملة المعدنية، يرفعهما بساقيه وجسده ينخفض خلفها.
انتظرته مايا كثيرًا بعد أن أبلغتها الخادmة بعودته منذ ساعة ونصف، فاستلت مئزر طويل، ارتدته وخرجت تستند على الحائط حتى وصلت للصالة.

وجدته يلعب تمارين الضغط بأقسى مرحلة، فمالت على الحائط ويدها تسند رأسها الذي يدور، وبصوتٍ هزيل نادته: عُمران!
شروده وتركيزه بخطوات تمرينه جعل صوتها الخافت لا يتردد إليه، فرفعت مايا صوتها وهي تحتمل بيدها الاخرى على الجهاز الرياضي القريب منها: عُمران!

انتفض بمحله، مستديرًا تجاه الصوت، فما ان رآها منحية بجسدها والارهاق والتعب يغزو ملامحها حتى هرع إليها، يمسك ذراعيها حتى دون أن يقربها إليه خشية أن يبللها عرقه، ومن بين أنفاسه العالية ردد: أيه اللي طلعك هنا وانتِ تعبانه يا مايا؟
أجابته بغـ.ـيظٍ: بستناك من ساعة ما جيت. إنت بتعمل أيه هنا مش عادت تطلع الصالة بليل؟!

انساه الحـ.ـز.ن والضيق أمرها، فصعد إلى هنا حتى لا يثير فضول أحدٌ، أجلى أحباله الصوتية: مفيش أنا هنشغل بالمشروع ومش هلاقي وقت ألعب رياضة فقولت أعوضها من دلوقتي.
مالت برأسها على الجهاز وهي تهمس بتعبٍ: اسندني يا عُمران أنا دايخة أوي!
أحاط رأسها مرددًا بسخرية مضحكة: يعني قرفتي مني وأنا حاططلك برفيوم براند، ما بالك لو ضمـ.ـيـ.ـتك ليا بعرقي ده مش بعيد نتقابل في محكمة الأسرة عشان أشوف ابني يا بيبي!

ضحكت رغمًا عنها، وتغاضت عما قال حينما اقتربت تسند برأسها على كتفه، هامسة له: عمر ما ريحتك كانت مقرفة يا عُمران!
رفع إحد حاجبيه بسخرية: إنتِ بتحاولي تغريني وإنتِ بحالتك دي يا بيبي!
ابتسمت وهزت رأسها تنفي: أنا بعوض ثقتك المهدورة في نفسك يا حبيبي.

ضحك بصوته الرجولي العميق، وقال وهو يحيطها بحبٍ: حبيب قلب جوزه اللي رافع من معنوياته يا ناااس، بس أنا بقول يا مايا بلاش أبقى تقيل عليكي وأشوف صاروخ ألــماني أتجوزه يدلعني أقصد يخدmني.
لكزته بقوةٍ وقالت بـ.ـارهاق: أنا تعبانه وانت بتفكر تلعب بديلك ازاي، صنف الرجـ.ـا.لة واحد على رأي طنط أشرقت.
برق بذهول: شوسوو! شوفتيها أمته؟
ردت عليه وهي تلقي بثقل جسدها الهزيل عليه: بتكلمني على موبيل صبا على طول.

فور ذكرها لاسمها تسلل له الحـ.ـز.ن تدريجيًا، فأحاطها وأسندها لأريكة ضخمة، عاونها على الجلوس والتقط المنشفة النظيفة، ينظف وجهها ومن ثم اختفى من أمامها وعاد يرتدي ثيابًا منزلية مريحة بعد أن انتهى من الاستحمام بسرعة.

انحنى على ساقيه أمامها، يمسد بحنان على كفيها الموضوعان على ساقيها، فانتبهت مايا إليه، قبل كفيها وقال: ألف سلامة عليكي من التعب يا حبيب قلبي، هننزل حالًا وهخلي الدكتورة زينب تعلق ليكي المحلول اللي كتبه يوسف.
تنهدت بحـ.ـز.نٍ: محلول تاني يا عمران.
مضطرين يا حبيب قلبه!
ونهض يحملها لغرفتهما، وضعها على الفراش، ثم إتجه لغرفة فاطيما يخبرها أن تبلغ زينب بأن تصعد إلى مايا لمساعدتها بتركيب المحلول الطبي.

مضت الساعات ومازال كما هو منذ دلوفهم لشقة إيثان لم يخاطبها حتى، إتجه لاحد الغرف وأغلقها عليه تاركها بالخارج عقلها مخبط فيما فعله هذا الرجل المسن به وللعجب أن آيوب كان صامتًا ومستسلمًا تمامًا، لم يخاطبها بأي كلمة وكأنما يود الاختلاء بذاته.

حاولت آديرا النوم أكثر من مرةٍ، ولكنها فشلت، فاتجهت لغرفته تطرق بابها عدة مرات، حتى وجدته يقف قبالتها ويطالعه بغـــضــــبٍ أخافها منه لمرتها الاولى، وخاصة حينما صرخ بوجهها: ماذا تريدين؟ ألا يكفيكِ ما فعلته بي؟!
وخز قلبها ألــمًا، فابتلعت ريقها المرير وتساءلت: ماذا فعلت آيوب؟
ضحك مستهزءًا: ماذا فعلتي! بربك يا فتاة لم تتركي شيئًا الا وفعلتيه!

وتابع وهو يصبح بوجهها كالمدفع بعدmا تفحص ما ترتديه: أمازلتي بثيابك الفاضحة تلك! ثم بالله ألــم أحذركِ من الخروج إلى أين كنتِ تذهبين؟ هيا أخبريني!

انهمرت بالبكاء قبالته وقالت بقهرٍ: كنت سأرحل من هنا، أنا لست متسولة لتعطف على بالطعام، وتتركني هنا كالجرو الذي تعتني بتربيته، طلبت من صديقك المخيف ذلك أن يخبرك بأنني أريد رؤيتك ولكنك لم تأتي آيوب، كنت هنا بمفردي في دولة غير دولتي وأناسًا لا أعرفهم ولكني كنت مستعدة للعيش هنا ولكن إن كنت أنت معي.
وتمسكت بالتيشرت الخاص به تتمسح كالقطة الصغيرة: أخبرني آيوب لماذا تركتني؟

اندهش مما استمع إليه، ولكن ما تفعله الآن يزيد من صدmته، بدأت تتقرب منه بشكلٍ لم يعتاده منها ولا من أي انثى، كانت تطالبه بشكل صريح، زُهق عقله وشُل حينما همست إليه: أنا أأ، أحبك آيوب!
تسلل النفور لأوردته وملأها لأخرها، فلم يشعر بذاته، عقله قد لُغي وكل ما يراه معصية، ذنبًا كبير، شيطان يصطحبه لجهنم، تناسى انها حتى زوجته، وإن كان لا يتقبلها او لا يكن لها حب أو مشاعر!

غمس أصابعه بين خصلات شعرها الأصفر وجذبها للخلف بعنفٍ كاد باسقاطها أرضًا، وعصبيته تتفرد بصوته القابض: ما الذي تفعلينه بحق الله! ألا يكفيكِ ما فعلتيه بيني وبين أبي؟
رددت بدهشة: هل كان هذا الإرهابي أبيك؟
كور يده بعنفٍ حتى لا يصفعها، فألقاها أرضًا أسفل قدmيه وصرخ بانفعال: أبي ليس إرهابيًا، فكري مرتين قبل التفوه بأي لفظًا أحمقًا.

تساقطت دmـ.ـو.عها تباعًا وهي تراقبه يجوب الطرقة ذهابًا وإيابًا ليحارب اعترافها بحبه، إذًا الأمور تخرج عن السيطرة وخاصة بما تجرأت بفعله منذ قليل.
توقف قبالتها فجأة وقال: اسمعي من المستحيل أن يكون بيننا شيئًا، لقد انتهت مهمتي، أنقذت حياتك من عمك وبذلك أكون قد وفيت بوعدي لأخيكِ.

وشـ.ـدد على كل حرفٍ يخرج منه: إليكِ ما سيحدث الإن، ستعيشين هنا بضعة أشهر إلى أن أتدبر لكِ عملًا وسكنًا بلندن وحينها سأنفصل عنكِ وسينتهي كل ذلك.
وأشار لباب غرفته بتحذيرٍ قاطع: لا تطرق بابي مجددًا سمعتي!
وتركها وولج للداخل يغلق الباب من خلفه، تراجعت آديرا للخلف مستندة على الحائط، تضم ذاتها المبعثرة بيدها، ودmـ.ـو.عها تنهمر دون توقف.

كانت تظن أنه الوحيد الذي تمتلكه في هذا العالم، لم يعد لها أي شخصًا سواه، وها هو الآن يخبرها بأنه سيرحل هو الأخر عنها، ظنت بأنه سيعبر بها لطريق دينه، وحينما تصبح ما يريد سيبادلها حبها، فهو على الأقل يعاملها برفق ولين.

نصف ساعة قضتها أمام باب غرفته، تجلس أرضًا وتطلق كل دmـ.ـو.عها، كأن زمانها توقف وانتهى هنا، لم يبقى لها شيئًا لتظل بهذا المكان، كان يلقي عليها بأنها السبب وراء غـــضــــب أبيه وخراب حياته حتى دون نطقها صريحة لذا كما قال لقد فعل معها ما وُكل به حينما قام بحمايتها لذا عليها أن تنسحب من حياته دون أن تغرقه بمشاكله بسببها.

نهضت آديرا تزيح دmـ.ـو.عها ببطء، نزعت عنها قميصه ووضعته على مقبض باب غرفته، ثم فتحت باب الشقة بهدوءٍ حتى لا يستمع له، وأطلقت العنان لساقيها غير عابئة بأنهم الآن بعد منتصف الليل!
خارج الحارة، وخاصة بالقرب من النيل، كان يجلس يُونس ولجواره إيثان، يقص له قصة زواج آيوب بآديرا، كل ما أخبره به آيوب سابقًا قص له، فتطلع له بدهشةٍ وقال: وليه مقولتليش يا إيثان، جاي دلوقتي وتحكيلي!

أجابه ساخرًا: على أساس إنك خارج من خمسين سنة، يابا إرحمني إحنا كلنا جوانا أسرار محتاجين نخرجها ليك بس الصبر إنت لسه طالع وواكل المر فمش هنشربهولك احنا.
دفعه من جواره بغـــضــــب: تصدق إنك حقير. قوم خلينا نروح الساعة بقت داخلة على 1 واحنا قاعدين القعدة دي، وبكره إن شاء الله هروح لآيوب وأخده ونروح لعمي، أكيد هيهدى لما يسمع اللي حكتهولي ده.

استقام بوقفته ينفض ثيابه من غبـ.ـار الاريكة الأسمنتية، ولحق به في طريقهما للعودة.

شعر بأنه تمادى بحديثه، لقد هانها وجـ.ـر.حها وهو الذي لم يعتاد على فعل ذلك، خرج آيوب من غرفته فوجدها تترك قميصه على بابه، فظن بأنها فعلت ذلك من شـ.ـدة حـ.ـز.نها.
إتجه لغرفتها وطرق بابها مرتين دون أن يستمع سماحها بالدخول أو حتى صوتها، فقال بـ.ـارتباكٍ وضيق: حسنًا آديرا لقد أخطئت لم يكن على أن أحدثك بتلك الطريقة، أعتذر منكِ.

وعاد يطرق مجددًا: كنت غليظًا أعلم ذلك ولكني لم أكن مدركًا لما أتفوه به، اخرجي لنتحدث قليلًا.
وكأنه يخاطب ذاته، طرق مرة أخرى وقال يهددها: حسنًا أن لم تخرجي الآن سأغادر وأتركك وحيدة مجددًا.
السكون الغريب هذا جعله يرتاب مما ينتابه بتلك اللحظة، ففتح غرفته وولج يبحث عنها، صعق آيوب حينما لم يجدها، فخرج يبحث عنها بالشقة بأكملها وهو يصيح بفزعٍ: آديرااا.

انتهى به المطاف بمنتصف الردهة، مرر يده بين خصلات شعره بعنف وهو يهتف بتـ.ـو.تر: أكيد مشت بعد الكلام الغـ.ـبـ.ـي اللي قولته، ازاي بلبسها والوقت ده!
راكض آيوب للخارج، والهلع يجتاح به، يكاد أن يصيبه نوبة قلبية حادة، لا يريد تصديق بأنه فرط بأمانة صديقه بتلك السهولة، قدm لها الحماية في بلاد الغرب وأتى بها إلى هنا ليخسرها بتلك الطريقة!

وقتًا متأخرًا كذلك، ثيابًا عارية مثل التي ترتديها، شعرها الأصفر وملامحها الغربية جعلتها عرضة لمجموعة من شباب الحارة الفاسدون، من يقضون ليلهم يرتشفون المحرمـ.ـا.ت على ناصية الشوارع، وكأن الليل خُلق لمفاسدهم الدنيوية.
رأها أحدًا منهم فصاح بأصحاب السوء: ملي عينك يا تابلو المزة اللي جاية علينا دي!

نهض عن سطح سيارته المكشوفة، ينفث سيجاره بنهمٍ، فلعق شفتيه وهو يردد: شكلها حتة خواجاية، بس أيه جايبها الحارة هنا عندنا!
ضحك أحد منهم وقال وهو يهتز من فرط الخمر الذي ارتشفه: رزقنا وجالنا لحد هنا!
ألقى تابلو سيجارته وكان أول من اقترب منها، فمسك معصمها وقال: على فين العزم يا جميل؟
Let me go. (دعني أذهب)
ضحك مستهزءًا، ومرر يده على بشرتها البيضاء: دي بترطم انجليزي يا زميل!

استند على، كتفه وتجرع ما بالزجاجة: مش قولتلك خواجاية!
ومرر بصره فوق جسدها بشهوةٍ وضيعة: بس أجمل من كده في الخواجات مشفتش، ما تيجي سكة يا مزة.
ودفعها بالقوة وهو يشير لمن يحتلوا السيارة من الخلف: انزل يالا منك له.
هبط الاثنين عن مقاعدهما، وحاول ذلك اللعين جذبها لسيارته فصرخت به: اتركني!

دفعها بعنفوان بالمقعد الخلفي من السيارة، واعتلاها بالقوة وهي تصرخ وتركله بساقيها، تبكي بقهرٍ وقد تفنن هو بأن يذقيها كل مهانة قد تحصلها بلمساته المقززة فوق ما ترتديه، فأبعدت يده ومازالت تصرخ بجنون، فأمسك وجهها ورطمه بالسيارة مرتين متتاليتين، جعلت وجهها يلوثه الدmاء، فخدش بشكلٍ عنيف.

توقف عن المضي قدmًا، محاولًا الانصات لمصدر الصوت، فتوقف الأخر جواره متسائلًا باستغرابٍ: وقف ليه؟
رد عليه ومازال يتلصص لسماع أي شيء: في حد بيصوت!
ضحك رفيقه وطوفه بذراعه بمشاكسة: مين اللي هيصوت في الوقت ده يا يونس!
كاد أن يتبعه ولكنه تراجع هاتفًا باصرار: ده صريخ واحدة ست يا إيثان.
وتركه وهرول تجاه الشارع الجانبي، فلحق به إيثان حتى تواجد بمكان سيارة تابلو، فاتجه إليهم وقال: بتعملوا أيه؟!

كانت السيارة مكشوفة، فتمكن كلاهما من رؤية فتاة يحجب وجهها الدmاء بشكلٍ جعلهما لا يتعرفان عليها.
أتى إليه أحد الشباب الأربعة وقال: امشي يا كابتن وخد معاك صاحبك، دي مصلحة وتلزمنا.
منحه إيثان نظرة مستحقرة، وأحاط يونس وهو يجذبه: يلا يا يونس.
رفض الانسياق من خلفه وقال وعينيه متعلقة بالفتاة الصامتة، رأسها يهتز يسارًا ويمينًا من أثر اصطدام رأسها: بس يا إيثان البـ.ـنت دي شكلها مخـ.ـطـ.ـوف واللي بيعملوه ده غـ.ـصـ.ـب عنها.

ألقى عقب السيجار ودنى إليه يقول بوقاحة: اسم يابن الشيخ خد أخوك وامشي، دي واحدة شمال زرجنت بس عشان البقشيش مش مالي عينها، فخدت اللي فيه النصيب عشان متطمعش بعد كده.
أحاطه يونس بنظرة منفرة، وصاح بعصبية: وقذراتكم دي طايلة الحارة ليه! مالكمش كاسر يعني!
دار بجسده يسارًا ويمينًا من أثر الخمر: ما تبعد يا عم واحنا هنتحرك من الحارة الطاهرة، بس ميل في جنب.

فتحت آديرا عينيها فلمحتهما، تعرفت على إيثان من بينهما، فرددت بصوت شاحب ولكنه كان مسموع لهدوء أجواء الليل من حولهم: إيثان!
ضيق عينيه بدهشة، وفي لمح البصر كان بالجانب الأخر من السيارة، دقق بوجه الفتاة ورفع بصره المصعوق ليونس الذي يدرس تحركات الأربعة بتمعنٍ، ليفق على صوت إيثان: دي آديرا مرات آيوب يا يونس!

احتقنت مُقلتيه وبرزت بشكلٍ مخيف، تفنن بلكمته لذلك الذي كاد بأن يعتلي مقعد السائق ليفر بالسيارة، بينما اشتبك إيثان مع الملق بتابلو، سحبه زحفًا خارج السيارة، وعلى الرغم من انه كان الزعيم بين اصدقائه لقوة بنيته وبلطجيته الدامية الا أن إيثان كان يبدد كل قواه، فإن تدرب القتال على يد أحدهم كان هو من قام بتدريب هذا الأحدهم الأبله.

جسده الضخم هاله ليسقطه أرضًا، ملقيًا جسده ليونس الذي فرغ من أشباه الرجـ.ـال، فسقطوا أمامه سريعًا بسبب الخمور التي أضعفتهم أمامه، سدد يونس أغلب ركلاته بأسفل بطنه وهو يصـ.ـر.خ به: يا قذر يا زبـ.ـا.لة نجست الحارة بأفعالك القذرة يا، بتتعدى على حريمنا في وسط مكانا يا.

أسرع إيثان للسيارة يتفحص تلك المستلقية على الأريكة بانهيارٍ تام، شملها بنظرة خاطفة فوجدها سليمة معافـ.ـية الا من بعض الخدوش بوجهها ورقبتها، بحث من حوله عما يمكن تغطيتها به، فلمح يونس يرتدي جاكيت أسود فوق التيشرت الصيفي الذي يرتديه، فصاح له: يونس محتاج الجاكت بتاعك.
خلعه عنه وألقاه له، تنحى إيثان عن السيارة ومد يده للداخل حتى لا يجـ.ـر.ح خصوصياتها قائلًا: ارتدي هذا آديرا.

جذبته منه ووضعته فوقها دون أن ترتديه، زحفت بضعف حتى خرجت أمامهما، فاستدار لها يونس وقال بغـــضــــب: ماذا تفعلين بالشارع بتلك الساعة المتأخرة؟ وأين آيوب!
انسدلت دmـ.ـو.عها ولم تجيب، تاركة دmائها تختلط مع دmـ.ـو.عها باستسلامٍ قادها ان تستدير عنهما وتستكمل طريقها المتهدجة وكأنها على وشك أن تنال مـ.ـو.تة رحيمة.
لحق بها يونس ومن بعده إيثان الذي قال: توقفي، إلى أين تذهبين طريق العودة ليس من هنا؟

واقترح عليها عساها تتوقف: انتظري سأتصل بآيوب.
وما أن أخرج هاتفه حتى جذبته من يده تخبره بصوتٍ اختفت بحته: لا أريده. دعني وشأني.
وتركتهما ومضت قدmًا، فاعترض يونس طريقها غاضبًا: وإلى أين ستذهبين؟ هل تريدون ما حدث منذ قليل أن يتكرر معكِ مجددًا؟
ضمت جاكيته بخــــوف حينما ذكرها بما كان سيحدث معها، ورأسها ينفي بجنونٍ، فتابع: حسنًا لنذهب.

وجدت نفسها تعود خلفهما مجددًا، لقد تأكدت بعد تلك المدة أن كل شخص يعرف آيوب وسبق له رؤيته برفقته فهو آمينًا، حتى ذلك الشرس الذي كانت تهابه كان لطيفًا بالنهاية، وذلك الأيثان والرجل الاخر الذي كاد بضـ.ـر.ب آيوب قبالتها هما نفسهما من دافعا عنها حتى الرمق الاخير.

توقفت حينما توقفا، فرفعت رأسها تحاه المبنى فإذا بهما عادا لنفس العمارة، تراجعت للخلف وهي تشير ببكاء: لا أريد العودة إلى هنا، لا أريد رؤيته مجددًا.
سألها يونس باستغراب: من تقصدين؟
آديرااا.

قالها آيوب الذي هرول إليهم، بعدmا لف حول العمارة لمرته الثالثة على أمل أنها تحاول العودة، فما أن رآها حتى هرول إليهم، فصعق مما رآه، وجهها يغطيه الدmاء وعينيها يصيبها كدmة زرقاء تغلق آحدهما، عينيه تتوزع بين وجهها وجاكت يونس المحاط بها، لا يعلم كيف استجمع قوته ليقترب منهم، فردد بـ.ـارتباك: مين اللي عمل فيها كده؟

ما أصعب أن يصيب رجلًا بجـ.ـر.حٍ يمس عرضه وشرفه، وأكثر ما يقدر ذلك الذي نالته تلك النيران، يونس الذي قــ,تــل كل يوم لاجل ما فعلته به زوجته، فسارع بقوله: متقلقش يا آيوب محدش لمسها، أنا وإيثان كنا سهرانين ومعديين بالصدفة فسمعناها واتدخلنا بالوقت المناسب.
راقب وجهها بجمراتٍ مشتعلة، فتركها واتجه لابن عمه يسأله بثبات مخيف: مين اللي عمل فيها كده يا يونس؟

رد إيثان: ما خلاص يا آيوب ربناهم ومبقاش فيهم حتة سليمة عايز أيه تاني! ثم انك ازاي تسيبها تنزل في الوقت ده وأيه اللي مخليها مش عايزانا نكلمك ولا نجيبك هنا!

أخفض عينيه أرضًا بحـ.ـز.نٍ عما كان السبب به، فرفع يونس يده يمسك كتفه الايسر وقال: أنا عرفت الحقيقة من إيثان وفخور بيك يابن عمي، كفايا إنك كنت السبب في قــ,تــل اليهودي ده، صدقني الشيخ مهران لما يعرف اللي عملته وإن في شخص مـ.ـا.ت وهو على الدين الاسلامي بفضل الله ثم فضلك هيفتخر بيه وهيحس باللي أنا حاسه، سيبه يهدى النهاردة بس وبكره هعدي عليك ونروح نتكلم معاه وتقوله كل حاجة.

هز رأسه ببسمةٍ رسمها بالكد، فوداعهما وغادروا، استدار آيوب لاديرا فوجدها مازالت تقف كما هي، عينيها أرضًا لا تكف عن البكاء.
اقترب منها وقال بحـ.ـز.ن عميق لمسها: أعتذر عما تفوهت به، أخر ما أريده أن يطولك السوء!
وحينما لم يصدر عنها شيء، أمسك يدها وناداها: آديرا؟

سحبت كفها ودmـ.ـو.عها تختزل داخل حدقتيها، فنغزت قلبه بو.جـ.ـعٍ بات كالشوكة العالقة بين ضلوعه، رفع ذراعه ووضعه حول كتفيها يحثها على الصعود، انصاعت إليه كالربوت المتحرك دون أي احساس.
صعد بها لغرفتها فتحركت للفراش وجلست بهدوء، أما هو فأسرع للمرحاض يبحث عن عُلبة الاسعافات الأولية.
عاد لها فوجدها تجلس كما هي، انحنى أمامها يزيح خصلاتها للخلف، وجذب المنشفة يمسح الدmاء ليتمكن من رؤية أماكن اصابتها.

إلتاع قلبه و.جـ.ـعًا يفوق قوته، حينما وجد جروحًا ليست هيئنة شوهت وجهها بأكمله، غمس القطنة البيضاء المعقم ووضعه بجروحها، وللعجب لم تصرخ ألــمًا، كانت متجمدة دون حراك، دmـ.ـو.عها فقط من كانت مؤشر صريح بأنها على قيد الحياة.

انتهى من وضع اللاصقات الطبية على وجهها، وحينما انتهى نهض يجلس جوارها على الفراش، يتكئ بجسده العلوي للامام، واضعًا رأسها بين يديه، يحاول السيطرة على غـــضــــبه، يود لو ذهب الآن لمن فعلوا ذلك فينهش لحمهم أحياء.
استدار بجسده لها وناداها: آديرا. أخبريني ما الذي حدث؟
أرغمها على التطلع إليه واسترسل: إلى متى ستخالفين حديثي! إن لم يكن يونس وإيثان هناك لكنتي الآن مقـ.ـتـ.ـو.لة آديرا!

ابتسمت بمرارة، ورددت: ليتهم فعلوها ربما كنت ستتخلص من مسؤوليتي التي فُرضت عليك.
وتابعت وهي تتمدد بالجاكيت على الوسادة بـ.ـارهاق: لا تقلق، بامكانك اصطحابي غدًا لأبيك سأخبره بأنك تشفق على ولا يربطك بي أي علاقة.
أدmعت عينيه تأثرًا، فجذبها لتجلس قبالته مجددًا، وقال وهو يدعي اتزانه: انهضي، اغتسلي وأبدلي ملابسك.
همست له بتعبٍ: اخرج من هنا، دعني وشأني.

وعادت تتمدد على الفراش مجددًا ودmـ.ـو.عها تنهمر على الوسادة أمامه، اختبر العجز أمامها ولا يعلم ماذا يفعل ليطيب جـ.ـر.حًا كان هو السبب به.
وجد نفسه يزحف للفراش حتى بات جوارها، وبتردد مد يده ومررها على شعرها الطويل من خلفها، هامسًا لها: اهدئي، لقد مر وانتهى! إنتِ هنا الآن، لن يمسك أحدًا أبدًا طالما أنا على قيد الحياة، أعدك أنني لا أفترق عنكِ آديرا.

كانت بحاجة لسندٍ، لضمة حنونة، حتى وإن كان عمها وعدوها اللدود عرض عليها تلك الضمة ما كانت رفضتها قط.
تقلبت بالفراش، فباتت قبالته وبصعوبة رددت: هل يمكنك أن تحتضني؟
فرق ذراعيه وضمها إليه، فألقت على صدره وابل من دmـ.ـو.عٍ أحرقته ونهشته كالذئب المفترس، لأول مرة يشعر بأنها رقيقة هاشة المشاعر، ظنها جـ.ـا.مدة لا تتأثر بأي شيء.

ربت على خصلاتها وأخذ يردد القرآن الكريم بصوتٍ مسموع لها، مضت الدقائق وقد هدأت وصوته العـ.ـذ.ب يطربها، وحينما صدق وانتهى من التلاوة وجدها تعود بوجهها إليه وتقول: أعدك أنني لن أرتدي مثل تلك الثياب مجددًا، وإن رأيت الشيخ مهران أقسم بالله سأعتذر له عن وصفي له بالإرهابي وسأتوسل ليصفح عنك!

اتسعت ابتسامته حينما رددت نفس حلفانه بالله، فمرر يده على خصلاتها مجددًا وقال: أنا أعلم بأنكِ من الداخل مختلفة عما أنتِ عليه، هناك بعض الاشياء التي لا تعلمين عنها شيئًا، إنتي لستِ آديرا، لست عبرنية.
وازاح جاكيت يونس عنها، ليصل للسلسال الموضوع خلف رقبتها، رفعه نصب أعينها قائلًا: إنتِ سدن، سدن المسلمة!

عاد يونس لمنزله، كان بطريق الصعود للأعلى، فإذا بالباب يُفتح من أمامه ليطل عليه فارس، تعجب من أنه مازال مستيقظًا، فاتجه إليه وانحنى قبالته يمر بيده يين خصلاته البنية: أيه اللي مصحيك لحد دلوقتي! وخارج تتسحب كدليه يا شقي!
ابتسم فارس وقال: مكنش جايلي نوم وطلعت اتفرج على توم وجيري بره من ورا ماما، فسمعت صوتك طالع قولت أقولك تصبح على خير قبل ما تنام.

رفع إليه وطبع قبلات متفرقة على وجهه وهو يقول: هصبح على خير أجمل من الخير اللي دخل عليا، طيب قولي في أجمل من كده!
قهقه الصغير بصوتٍ صاخب، فأشار له يونس بتحذير مضحك: هوووش هووش الجيران هيعملولنا محضر ازعاج!
مال الصغير على كتفه وقال: ينفع تاخدني معاك فوق أنا مش جايلي نوم وماما بتأخد دواها وبتنام وبتسبني.
برق بدهشة، وسأله: هي مش ماما وأهلك مسافرين!

هز رأسه نافيًا وقال: لا ماما هنا جوه، نايمة في أوضة الحاجة رقية، بس تعبانه ومش بتتحرك كتير.
اندهش من اخفاء عمه وزوجته لذلك ولكنه لم يعلق، فاحتضن الصغير وقال؛
طيب يا حبيبي ما ممكن مامتك تقلق عليك، أيه رأيك تروح تقولها وتيجي.
هز الصغير رأسه وما كاد بأن ينخفض عن ذراعيه حتى تسلل لهما صوتًا متلهفًا، باكيًا يصيح بجنون: فارررررس!

الصوت مألوفًا له، اختزل داخله كل ذكرى اجتمعت كالرزاز داخله، انحنى ذراعيه عن الصغير يضعه أرضًا، والتفت خلفه ببطءٍ، ربما نسجت ذكرياته صورة واهمية لها، ولكنها بالنهاية تقف أمامه، مستندة على الباب وجسدها محاط بالجيبرة المعلقة باحدى ذراعيها، هي بنفس نظرات عينيها، شعرها المسترسل من خلفها، ملامحها التي من المحال أن ينساها.

صدmتها وجحوظ عينيها أمامه أرضخ له عقله و.جـ.ـعله يستوعب إنها ليست حُلمًا، هي حقيقة أمامه وما أبشع الحقائق حينما تضـ.ـر.ب واقع مدmر بالفعل وليس بحاجة لشييء يزيد من اختناقه، بل هو بتلك اللحظة يخضع لأصعب عملية جراحية قد تصيب القلب، وربما ينتهي الأمل بانذار صفارته المزعجة تعلن انتهاء حياة ذلك المسكين البائس!
تسلل الألــم لجسدها رويدًا رويدًا، لا تعلم لآنها تحاملت عليه وقد حذرها الطبيب من ذلك، أم أن رؤيته قبالتها تزيد من و.جـ.ـعها المدفون داخل أعماق قلبها.

مالت على الفازة الضخمة المحاطة بالزرع الأخضر أمام باب منزل الشيخ مهران، تعافر ألا تسقط، وببكاءٍ رددت بصوتٍ كان مسموع لذلك المنصدm: يُونس!
رعشة سرت بقلبه المتجمد فأزاحت برودته، مدته بالحرارة ليعود خافقًا، مستقبلًا لحياة خرج منها إجبـ.ـاريًا.

تخبط مشاعره أمامها جعله صامتًا، يوازن ألف مسألة صعبة، بحاول إستيعاب بأنها الآن أمامه، في منزل عمه بالتحديد، يحاول ربط العلاقة بينها وبين ذلك الصغير، يحاوى استجماع خيوط الخيط ليصل لحقيقة صادmة بأنها والدة فارس الذي حكى له عنها!
توارت صفاء مُقلتيه حول جحيم انتقامه من الخائنة التي دعست رجولته ومزقت حبه دون أن ترأف به، تلك التي قضى خمسة سنوات من عمره يتفنن بالتفكير بطريقة ماكرة للانتقام منها.

وضع يونس الصغير، وتحرك إليها بخطواتٍ، قـ.ـا.تلة، بطيئة، حتى بات قبالتها.
كانت مازالت تنحني لطول الفازة الضخمة، تحيطها بكلتا ذراعيها، فأمسك الحائط ووقفت بصعوبة حتى باتت قبالته بأعينها الباكية.

أنساها شوقها إليه كل ما حدث بالماض، تناست ما إرتكبته بحقه، تناست بأنها مازالت على ذمة رجلًا غيره، تناست حتى أنها الإن أمامه بشعرها دون غطائها ونقابها!
سخرت نظراته منها، فإن رآها أحدًا من المخرجين تتقن الدور لتلك الدرجة يقسم بأنه سيبع ثروته لأجل أن تعمل معه، تحاول أن تريه حبها الجارف إليه وقد نفت خيانتها وما إرتكبته تمثيلها الزائف.

رفعت كفها السليم إليه تضعه على صدره، ورددت ببكاء وصوتًا يُسمع بالكد: ربنا حققلي دعواتي وطلعت عايش!
وتابعت ببسمة واسعة: حمدلله على سلامتك يا يونس.

أخفض بصره ليدها التي مازالت تلامس صدره، ثم انتقل لها بنظرةٍ جـ.ـا.مدة، لتجد يده تقترب من كفها، جذبه يونس واعتصره بين يده هاتفًا بقسوةٍ فاحت رائحتها إليها: إنتِ بتعملي أيه هنا؟ البيت ده أشرف من إنه تسكنه واحدة رخيصة وخـ.ـا.ينة زيك، بس اللي مش فهمه أيه اللي يخلي عمي يقعدك في بيته ويكـ.ـدب عليا!
وجذبها بقوة للداخل وهو يصـ.ـر.خ بغـــضــــبٍ: عمي، يا شيخ مهراااااان.

بكت وهي تحاول تخليص كفها من معصمه، فخشيت أن يكرهه فارس، فأمسكت يده تحيلها عن يدها ولكن قبضته كانت قوية للغاية، فرددت بتوسل: بلاش قدام الولد، أنا همشي مش هقعد تاني هنا يا يونس.
مال بجسده تجاهها وأشار باصبعه: اسمي مـ.ـيـ.ـترددش على لسان واحدة قذرة بـ.ـنت زيك!

واستدار تجاه فارس الذي يختبئ خلف الباب المفتوح وبهدوءٍ يعاكس ثورته قال: ادخل جوه دلوقتي. يلا!
انصاع له وهرول للغرفة التي تخصهما، بينما خرج الشيخ مهران يعدل جلبابه وهو يتساءل بخــــوف: في أيه يا يونس، بتصرخ كدليه يابني؟

انتهى من وضع جلبابه حول رقبته ليصعق كليًا من رؤية خديجة بين يد يونس، اتبعته الحاجة رقية فصاحت بصدmة: خديجة! طلعتي من أوضتك ليه يا بـ.ـنتي!
وتساءلت بلومٍ وهي تتطلع لها: وفين حجابك؟

انحنت للأريكة تجذب غطاء للرأس وأسرعت تضعه حول رأس خديجة، فلفت انتباهها ليد يونس التي تحيطها، فحاولت تفرقيهما وهي تصيح بضيق: سيبها يا يونس، مينفعش كده يابني حرااام!
فشلت بفك معصمه، بينما ابتسم هو ساخرًا: فاكراني مغفل وبعوض شوقي ليها! أنا قرفان وأنا ماسكها أساسًا.

وألقاها بقوة لولا ذراع الحاجة خديجة التي تلقفتها بين ذراعيها، خطى يونس للأمام وبالأخص أمام الشيخ مهران، يتطلع له بنظرةٍ ألــمته، وسأله بجمود: ليه يا عمي؟ ليه تفتح بيتك لآنسانه قذرة زي دي، خانت ابنك وداست على كرامته ورجولته؟
ارتبك الشيخ أمامه، ودنى إليه يحيط كتفيه بين ذراعيه قائلًا: في حاجات كتير إنت متعرفهاش يا يونس.

صاح بعصبية هادرة: دي أخر واحدة أحب أعرف عنها حاجة.
ازداد صوت بكائها ورقية تحيطها بقوةٍ وتحاول أن تهدئها، خرج يونس عن صمته القصير حينما قال: هي مش العمارة دي أنا ليا النص فيها؟

اندهش الشيخ مهران من حديثه، وردد ببسمةٍ ألــم: أيه يا يونس بتفكر تخلص عمك من العمارة عشان مد إيده لبـ.ـنت صاحبه اللي سابها في أمانته!
هز رأسه ينفي ذلك، وانحنى يقبل كفه بكل احترام: العفو يا عمي، بس من فضلك لو إنت بتحبني بجد خرجها من هنا، تغور في أي داهية مش فارقة.

اتسعت ابتسامة الشيخ وقال يذكره: بس خديجة وأمها مكنوش ساكنين يا يونس، إنت بنفسك اللي صممت تبيعلهم الشقة بعقد تمليك، يعني قانونًا الشقة بتاعتها.
صرخ بغـــضــــبٍ جعل الشيخ مهران يخاف عليه: كنت أهبل وبريالة، لكن خلاص مسحتها، ولو وصلت إني أخرجها من هنا بالقوة هعملها يا عمي، لإني مستحيل أقعد في مكان ال دي فيها!

كان مكتوف الأيدي لا يعرف ماذا يفعل، فقال بهدوء: طيب اهدى يا حبيبي احنا نص الليل والجيران حولينا مينفعش صوتك ده!

باصرار قال وأنفاسه تشوش على صمتهم: ههدى لما تغور من هنا.

خرجت خديجة من أحضان الحاجة رقية وقالت بخفوتٍ ينمي عن شحوبها: خلاص يا عمي الشيخ أنا همشي. هو عنده حق مينفعش أفضل هنا بعد كل اللي عملته معاه.

أوقفها الشيخ مهران محلها: مش هتخرجي من هنا يا بـ.ـنتي سامعة.

وأشار لزوجته قائلًا بنبرة آمرة: خديها جوه يا حاجة.

أومأت له وساندتها للداخل، بينما اقترب مهران من ابن أخيه يحاول لمس جانبه الانساني: يابني إعقلها هتمشي فين دلوقتي في نصاص الليالي وبحالتها دي.

قال بقسوةٍ تملئ عينيه: ميخصنيش، ترجع للراجـ.ـل اللي فضلته عليا، تغور في ستين ألف داهية المهم مشفهاش هنا لا هي ولا أمها ولا أي مخلوق من عيلتها.

تنهد الشيخ بقلةٍ حيلة، وهتف إليه: والدتها توفت من أربع سنين، وجوزها هو اللي عمل فيها كده ولو رجعتله المرادي هيقــ,تــلها يا يونس لان آيوب رفعلها قضية خلع.

آه من قلبًا خان جسد صاحبه ومال لمن أحبه، بالرغم من أن يتخذ القسوة وعدm اللامبالة بها منهجًا يدرسه لجميع تعابير وجهه وجسده، الا أن قلبه وخز بقوةٍ لسماع ما قال، واتبعه بالخيانة عقله الذي بدأ يُصيغ له عن حالها البائس حينما فقدت والدتها وهو الوحيد الذي يعلم تعلقها بها.

كانت يتيمة الأب والإن الأم والأب، يا ليتها لم تفعل به ذلك، ليتها تركت بابها مواربًا له، والله وبالله إن كانت تركته لكان يغمسها الآن بأحضانه يهون عنها كل ما طالها بغياب والدتها واختبـ.ـارها لذلك الاحاسيس الموجوعة.

اتبع النغزة نغزة أخرى، من فعل بها ذلك زوجها!، ذلك اللعين الذي يحشـ.ـد داخله انتقام جهنم ليلهبه بنيرانها، ترى ما الذي حدث بينه وبينها ليفعل بها ذلك؟ وهل تلك هي المرة الاولى التي يرفع يده عليها؟! مهلًا مهلًا لقد أخبره فارس بأنه يضـ.ـر.ب والدته باستمرارٍ، والمؤلم له إنها ذاتها خديجة، هل من المفترض أن يكون سعيدًا!

وعلى ذكر فارس يقف عقله عاجزًا عن شعوره تجاه هذا الطفل الذي لم يراه الا بفترة لا تذكر، هل من المحتمل أن يكون ابنه!

عند تلك الحد وجحظت عين يونس بقوةٍ، لا يحتمل تلك الثورة المشتعلة داخله، فأفاق على هزة يد الشيخ مهران المتساءل بلهفةٍ وقلق: مالك يابني إنت كويس؟

ابتلع ريقه بصعوبة، وكل ما يتردد له أن يهرب من هنا، لا يريد الاستمرار بسماع المزيد عنها أو عما يخصها، يود الانهيار بعيدًا، فرفع من صوته الثابت لتستمع له من الداخل عن قصدٍ: اسمع يا شيخ مهران، عشان الصداقة اللي كانت بينك وبين أبوها هديك أسبوع، أسبوع واحد تشوفلها أي مكان تاني غير هنا، لو مغرتش من هنا بعد اسبوع يبقى أنا اللي همشي من هنا وإنسى إن ليك ابن أخ كان معتبرك في يوم أبوه.

واسترسل بألــمٍ وهو يهرب للخارج: وطول ما هي في بيتك بيتك متحرم عليا دخوله يا عم الشيخ!

ترك يونس الشقة وهرول للدرج ومنه لشقته، يغلق بابها بالمفاتيح والمزلاج، وكأن هناك شبح يركض من خلفه.

سقط جسده الذي ظنه قويًا خلف بابه، سرت رجفة هادرة به من شـ.ـدة انفعاله وغـــضــــبه، وأخيرًا من بعد خروجه من ذلك القبو سمح لذاته بالبكاء، فبكى كالصغير، وكف يده يكتم شهقاته بخــــوف من أن يستمع له حوائط منزله، وكأنه يفعل جرمٍ لا يصح به، وكأن إنهياره أمرًا غير مسموح!

مال يونس بجسده خلف الباب وتكور كالجنين، يضم ذاته ويبكي دون توقف، مرددًا بهمسٍ مبحوح: ليه عملتي فيا وفي نفسك كده؟
هما رموا السهم وإنتِ رشقتيه في قلبي، ليه يا خديجة؟!

مال بوجهه على أرضية رخام شقته، هاتفًا ببكاء: مفيش حاجة من اللي عملتها معاكي شفعتلي! عملتيها وإنتِ متأكدة إن بعدها يونس هينتهي، كنتِ عارفة إنك روح يونس اللي بتحركه، هما اخدوا حياتي وإنتِ خدتي قلبي وروحي!

تعالت شهقاته المؤلمة وتابع باستنكارٍ مؤلم: إزاي قدرتي تسلمي نفسك لراجـ.ـل غيري؟ ازاي قدرتي تعمليها؟!

اعتدل بنومته متكئًا على ظهره، وكأنه متعمد أن يُؤلم نفسه ليخفف من حدة و.جـ.ـع قلبه، فيشتته بالو.جـ.ـع الجسدي، انهارت دmـ.ـو.عه رغم هدوء جسده، فردد ببحة سيطرت على حلقه: يا رب لو كان لقائي بيها أقسى من عـ.ـذ.ابي في سـ.ـجـ.ـن الدنيا رجعني ليه تاني يارب!

فرق ذراعيه على الرخامٍ، وأغلق عينيه باستسلامٍ، تاركًا دmـ.ـو.عه على وجنته دون أن يهتم بإزاحتها.

بالأسفل.

بقى الشيخ مهران على المقعد المقابل للفراش ينتظر أن تضع الصغير الذي يغفو على ذراعيها للفراش، وزوجته تجلس جوارها تحاول أن تهديها قائلة: خلاص يا بـ.ـنتي بطلي عـ.ـيا.ط، اللي حصل حصل.

استدارت برأسها وقالت بحرجٍ: والله ما كنت عايزة أعملك مشاكل يا عم الشيخ، أنا كنت نايمة وقلقت ملقتش فارس جنبي، خــــوفت يكون معتز درى بقضية الطـ.ـلا.ق اللي آيوب رفعها لإن المحامي كلمني وقال إنه هيعرف خلال يومين تلاته.

واسترسلت وهي تزيح دmـ.ـو.عها بطرف حجابها الطويل: قومت أدور عليه زي المـ.ـجـ.ـنو.نة، لقيت الباب مفتوح فخرجت لقيت يونس قدامي، اتصـ.ـد.مت ومعرفتش أتصرف.

ورفعت عينيها المتورمة من البكاء إليه: بس أنا مش هكون السبب إنك تخسر ابن اخوك، بكره الصبح همشي وأروح أي حتة بعيدة عن هنا.

قالت الحاجة رقية بشفقةٍ وحـ.ـز.ن: هو إنتي قادرة تصلبي طولك يا بـ.ـنتي!

كان الشيخ صامتًا يستند بوجهها على عكازه، فنهض واقفًا وقال: نامي يا بـ.ـنتي والصباح رباح، ومتحمليش هم اللي بيني أنا وابني، لما يعرف إن فارس ابنه وإننا عملنا كل ده ليه هيهدى وهيسامح أنا عارفه كويس.

انتفضت خديجة عن الفراش واتبعته بوقفته القريبة من باب الغرفة، تصيح بلوعةٍ: لااااا، أبوس إيدك يا عم الشيخ متعملش كده، أنا لو أعرف إن يونس خارج مكنتش قبلت إني أعرف على معتز قضية الطـ.ـلا.ق.

التفت لها الشيخ وبقت عينيه أرضًا عنها: ليه يا بـ.ـنتي، عايزة تحرميه من ابنه وتستحملي عيشتك مع البني آدm ده ليه؟!

عادت بضعة خطوات لأقرب مقعد، ورددت تبرر سبب جملتها: يونس لو عرف الحقيقه مش هيسكت وخصوصًا لو عرف بموضوع ابنه، مش بعيد يروح لمعتز ومعتز شراني يا عم الشيخ، ممكن يرجعه السـ.ـجـ.ـن تاني أو يحاول يقــ,تــله!

ارتعب الشيخ وتعالت شهقات الحاجة رقية، فنهضت إليه تصيح برعـ.ـبٍ: خديجة بتتكلم صح يا مهران، أنا مش مستغنية عن ابني!

تنهد بقلة حيلة، فأصبح عاجزًا حتى عن التفكير، فقال بحـ.ـز.نٍ تعمق إليه و.جـ.ـعله كالذي يصارع المـ.ـو.ت: ابني وابن اخويا في يوم واحد، اللهم لا اعتراض، لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم.

وتابع وهو يخرج من الغرفة: نامي يا بـ.ـنتي واطمني ربك موجود وقادر يخلصنا من كل اللي احنا فيه.

وقال قبل أن يغلق باب الغرفة: خلبكي معاها يا حاجة رقية.

فهمت ان زوجها يخشى أن تحمل ابنها وتترك المنزل، فأشارت له بطاعةٍ: حاضر يا عم الشيخ، روح إنت أفرد جـ.ـسمك قبل صلاة الفجر.

هز رأسه وغادر منحي الجسد، يشعر بأنه بحاجة للقاء ربه الآن ليشكو له ما يضيق صدره، فتوضأ وقام الليل بين يد الله عز وجل.

صباحًا في لندن.

تجلس قبالة معشوقها وحبيبها وزوجها، لتناول طعام الافطار، ذلك العاشق الذي يخصص لها وقتًا صباحًا لها قبل مغادرته لعمله.

يحاول بشتى الطرق أن يملأ يومها ومتفهمًا لانشغالها بالخروج لحفلات الوسط الآرستقراطي المتكررة، لم ينالها غـــضــــبه يومًا وكل دقيقة يمضيها برفقتها يخبرها أنها أعظم انتصاراته.

ترك كفها فنجان قهوتها وتسللت ليده المتمسكة بأحدى المجلات التي تتحدث عن المشروع الذي بات حديث العالم، وصُيغ أن عمران سالم الغرباوي المسؤول عن تنفيذه بينما أصبح أحمد الغرباوي شريكًا بنسبة تفوق المساهمين.

شعر بكفها فترك ما يحمله واستدار إليها مبتسمًا، منحته ابتسامة رقيقة وسألته مباشرة دون أي صياغة للحديث: مبسوط معايا يا أحمد؟

ترك المجلة والجرائد جانبًا، وقرب مقعده إليها، حتى بات يجاورها، فسحب كفها المدفون بين كفه الخشن وقربه لشفتيه يقبله بحنانٍ، وصوته الرجولي يهمس: وأنا أيه اللي في حياتي يخليني سعيد غير وجودك جنبي يا فريدة!

تعمقت بالتطلع لرماديته، وقالت بحـ.ـز.نٍ لمسه أحمد بصوتها: أنا بحبك أوي يا أحمد.

انزوى حاجبيه باستغرابٍ، فريدة هانم الغرباوي ليست من النوع الذي يصرح عن مشاعره بشكلٍ مباشر، تلك السيدة يعرفها أكثر من أي شخصًا، كالمجلة التي كانت بين يديه منذ قليل، يعلم بدايتها من الغلاف للغلاف الأخر الذي يعلن عن نهايتها.

رفع أحمد يده لوجنتها، إبهامه يمرره عليه برفقٍ وعينيه متعلقة بعينيها: في أيه يا فريدة؟ ليه شايق في عينك حـ.ـز.ن وإحساس بالذنب تجاهي!

تهـ.ـر.بت من مرآة ستعكس حتمًا حقيقتها، فرفع ذقنها لتواجه رماديته مجددًا، متنعمًا بزرقة عينيها الفاتنة، فظن أنها تمر ببعض التقلبات لذا قال: حبيبتي اللي فات من حياتنا خلاص اتمسح اللي جاي هنكتبه احنا بايدينا.

وتابع بهدوءٍ وحذر: لو حاسة إن الماضي صعب تنسيه ومحتاجة لمساعدة مفيش مانع تلجئي لعلي، هو هيقدر يساعدك ويسمعك يا فريدة.

هزت رأسها بابتسامةٍ تحاول صنعها، وما ان كاد بمتابعة عمله على الحاسوب حتى أسرعت بالحديث قبل أن تتهرب منه: أنا زعلانه لإني حرمتك من الخلفة يا أحمد، احساس الذنب مش مخليني مرتاحة، إنت ذنبك أيه تتحرم من إن يكونلك ولد!

سحب نفسًا طويلًا يهييء به الحديث، وقال بحبٍ مرسول من مُقلتيه: أنا مش هكدب عليكي وأقولك إن بتمنى يكونلي ابن أو بـ.ـنت منك، بس أنا مش طماع أو أناني يا فريدة، مش طماع لإن كفايا إنك معايا واتجمعنا بعد فراق السنين دي كلها، ومش أناني أطالبك بشيء فوق مقدرتك وخصوصًا وانتي هتستقبلي أول حفيد ليكِ.

واسترسل قائلًا برضا تام عن حديثه السابق: ولو على رغبتي إني أكون أب فأقسملك بالله بأن على وعُمران وشمس أولادي، ولعلمك بقى الأولاد طالعين شبهي أكتر من أبوهم الحقيقي نفسه.

ابتسمت بفرحةٍ، وغمرها شعور الراحة لقرارها المصيري التي اتخذته، لا تعلم إن أخبرته بحملها ورغبتها في التخلص من جنينه حينها ستختلف وجهة نظره، ما قاله الإن بناء على واقعه ولكن ان حدث الأمر ووقع حينها سيختلف كل شيء!

قاد سيارته متجهًا للمشفى، اليوم هو المعاد المحدد لخروج والدته، صف جمال سيارته وهبط متجهًا للمشفى، فوجد صبا تجلس بالخارج وعلى ما يبدو بأنها كانت تنتظره، فما أن رأته حتى نهضت واتجهت اليه.

وقف قبالتها بجمودٍ، لم تمنعه من الدخول بكلمة واحدة بل دنت إليه فتوقف هو، كانت ترتدي نظارة سوداء تحجب عينيها عنه، فطال بنظره تجاهها بفضول لمعرفة ما تخبئه خلف تلك النظارات التي ترتديها لمرتها الاولى.

تنحنح يجلي صوته ليقطع صمتها الغريب: خير؟

دون أي حديث منها، رفعت ظرف مغلق إليه، تناوله منها وفتحه في نفس لحظة تردد سؤاله: ده أيه؟

تفاجئ بمفتاح شقته، وذهبها الخاص، وبعضًا من المال كان قد تركه لها مسبقًا لمتابعتها مع الطبيب ولاحتياجها الخاص لأغراضها.

زفر بضيقٍ شـ.ـديد، وقال: وبعدين يا صبا؟ أفهم من اللي بتعمليه ده أيه؟ عايزة توصلي لأيه يعني!

أجلت حبال صوتها المبحوح وقالت: مش عايزة أوصل لحاجة، ده مفاتيح شقتك وحاجتك بما ان اللي بينا انتهى.

التاع قلبه ألــمًا وأمسك يدها بقلقٍ فشل بتلاشيه: صوتك ماله؟ وليه لابسه النضارة دي!

قالها وهو يزيحها عنها فصعق حينما وجد عينيها منتفخة بشكلٍ مقبض، جذبت صبا النظارة من يده وارتدتها خشية من أن يظنها تحاول أن تستعطفه، ثم قالت: هتلاقي الفلوس ناقصة بس إن شاء الله هردهملك قريب.

ودون أي اضافة منها استدارت تجذب تلك الحقيبة التي لم يتثنى له رؤيتها، وما كادت بالرحيل حتى اوقفها بعصبية: إنتِ راحة فين؟ وأيه الشنطة دي؟!

وتابع وهو يجذبها لسيارته: اركبي يا صبا وبطلي العـ.ـبـ.ـط ده انتي وابني ملزومين مني حتى لو منفصلين!

جذبت ذراعها منه ودفعته بقوة جعلته يرتطم بباب السيارة ربما لأنه لم يتوقع فعلتها: شفقة يعني! لا متحملش هم ابني أنا هقدر أربيه وأصرف عليه كويس، بلاش نزود مسؤولياتك ونتقل من حملك وإنت على أكتافك مسؤوليات كبيرة يا بشمهندس.

وسحبت حقيبتها واتجهت لتوقف سيارة أجرة، فجذبها إليه بعنفٍ غير معهود، صارخًا بغـــضــــب: إنتِ شكلك اتجننتي، إنتِ متخيلة اني هسيبك هنا في دولة غريبة ولوحدك!

وقدm لها الظرف قائلًا: الشقة دي بتاعتك حتى لو كانت ايجار، والدهب ده شبكتك ولا يمكن أسترده منك حتى لو مش لاقي أكل مش بنفصل عنك!

واستطرد بهدوء يحاول التمسك به: اعقلي يا صبا واهدي، ماما خارجة النهاردة ومش حمل كل ده.

وقال وهو يعيد فتح باب سيارته: اركبي هوصلك قبل ما أدخلها.

ابتسمت ببسمة باهته وقالت: مش راجعه معاك يا جمال، أنا خلاص حجزت طيارة على مصر بجزء الفلوس اللي اخدتها من المبلغ اللي معاك، فمش هبقى حمل عليك تاني.

وسحبت الحقيبة هادرة: رلنا يعوضك بالزوجة اللي تعوضك عن أنانيتي عن إذنك.

برق بصدmة لما فعلته، لقد تسللت من بين أصابعه كالمياه، وقف يتابعها وهي تعبر الطريق الاخر بـ.ـارتباكٍ، مال على السيارة يضم رأسه بيديه وقلبه يزيد من و.جـ.ـعًا وُلد بأعماقه.

فاغلق باب سيارته بقوةٍ وعبر خلفها، رأته يأتي إليها والفرحة تزيد بداخلها، هي بالنهاية لا تريد خسارته، وبقرارة نفسها تعلم بأنها مخطئة.

وقف قبالتها يسحب الحقيبة ثم قال: ممكن نقعد ونتكلم شوية.

طالعته من خلف نظارتها وقالت: بس هتأخر على معاد الطيارة.

قبض على الحقيبة بغـــضــــب: مش هتسافري يا صبا، مش هتبعديني عن ابني فاااهمه!

ابتلعت غصتها المؤلمة بصعوبة بالغة، هل كل ما يعنيه ابنه! ماذا عنها؟
حسنًا حسنًا لقد أخطأت تعلم ذلك، ولكن ألا يحق لها أن تُمنح فرصة، ازدردت ريقها وقالت بضعف سيطر عليها: متقلقش مش هحرمك منه، إنت أبوه وليك نفس الحق اللي أنا بملكه.

صوتها المتعب وحالتها تلك، استسلامها هذا يوقظ كل و.جـ.ـعٍ داخله، وخاصة حينما قالت: لو تقدر تخلص أوراق الطـ.ـلا.ق قبل ما أسافر يكون أفضل، لإن برجوعي لمصر هيكون الموضوع صعب.

اتسعت مُقلتيه بدهشةٍ، وقال بسخرية: أوراق الطـ.ـلا.ق! انتِ مستبيعة بقى! استسلمتي بدري اوي!

ابتسمت بنفس عمق و.جـ.ـعه وقالت: معتش شيء ممكن يتعمل بعد ما نطقت الكلمة دي، خلاص كده.

دنى إليها حتى تقلصت مسافتهما: يعني أنا مستهلش إنك تحاربي عشاني يا صبا؟ مستاهلش إنك تحاولي ترجعيني ليكِ؟

أزاح نظارتها السوداء وقال بو.جـ.ـع: بالرغم من جـ.ـر.حك ليا الا إني مش قادر أشوفك بالحالة دي، صعب عليا أسمع صوتك وأحس بتعبك ده، أنا اللي انهزمت ومن أول جولة! أنا اللي بتو.جـ.ـع منك وليكِ!

أخفضت وجهها أرضًا وبكت بانهيارٍ، هامسة بصوتٍ اختفى نهائيًا وبات مسموعًا بالكد: آسفة، سامحني.

جذب يدها وجذبها إليه، ضمها بكل قوته، لدرجةٍ جعلتها متجمدة من الصدmة، جمال زوجها لا يملك تلك الجراءة لفعلها، والآن يفعلها وسط المارة غير، عابئًا لأي شيء.

ارتعش جسدها بين يديه وشعرت بأنها غير قادرة على الوقوف.

ترقبها أن تحيط ظهره ولكن وجدها متخشبة لا تعرف ماذا تفعل؟، مال إعلى كتفها وقال بخشونة صوته الرجولي: رديتك يا صبا.

ازداد نحيبها بشكلٍ ملحوظ، فرفعت يديها وتعلقت به بقوةٍ جعلته يزيد من ضمها، فقال وقد شعرت هي بأن دmـ.ـو.عه قد تدفقت على وجنته: آسف إني اتخليت عنك بالسهولة دي، بس كان غـ.ـصـ.ـب عني جـ.ـر.حك ليا كبير ومش راضي يلم!

رددت ببحتها المؤلمة: والله عمري ما بصيت لراجـ.ـل غيرك، أنا بس لفت نظري طريقة لبسه مش اكتر. آسفة والله ما هقول كده تاني، بس متسبنيش أنا بحبك والله.

ظل يضمها حتى ينتهي من اخفاء دmـ.ـو.عها، وحينما استعاد ثباته ابتعد عنها وقال: خلاص يا صبا بلاش نتكلم في اللي فات، يلا عشان منتاخرش على ماما أكتر من كده.

وحمل الحقيبة وأمسك يدها يعبر بها الطريق مجددًا لسيارته، وضع الحقيبة بصندوق السيارة ليخفيه عن والدته ثم أشار لها: يلا ندخل.

فتحت الباب الأمام وقالت بخفوت: هستناك هنا.

استدار بعدmا كاد بالدخول: لا. تعالي معايا عشان يوسف يكشف عليكِ الأول، شكلك مجهد وتعبان.

انزلقت الدmـ.ـو.ع من عينيها بكثرةٍ، فهبط الدرجة الخارجية ليكون قبالتها، أمسك يدها وسألها بقلقٍ: مالك؟ التعب زاد عليكي؟!

هزت رأسها بالنفي وهمست له: مقدرتش أفهم حبك ليا صح، مواقفك كلها ليا بتعترف بحبك وأنا كنت عامية مبشفش!

ابتسم وهو يراقب الطريق من حوله، فمرر إبهامه على كفها وقال: هخليكي تشوفيه كويس، من هنا ورايح هصدعك بكلمة بحبك لحد ما تقوليلي خلاص يابو عُمران صدعت!

شملتها الفرحة ولكنها تساءلت باستغراب: عُمران!

هز رأسها مؤكدًا بثقة: طبعًا ابني مش هيكون الا على إسم الشخص الأقرب ليا، عُمران أفضاله عليا كتيرة، فحابب إن ابني يكون على اسمه بس ربنا يستر وميبقاش وقح زيه!

ضحكت على جملته الاخيرة، وقالت: سميه زي ما تحب، أنا مش معترضة.

جذبها ليغلق باب السيارة وولج بها للداخل بصمتٍ، بينما أحاطتها فرحة رده لها وعدm تأثر علاقته برفيقه لأجل حديثها الأحمق.

بالمركز الطبي الخاص بعلي الغرباوي، وبالأخص بغرفة الكشف الطبي الخاص بالنساء والتوليد.

زفر يوسف بضجرٍ، وهو يتابع تلك التي تتمدد على الفراش قائلة وهي تتصنع الألــم: مستني أيه اكشف عليا، أنا تعبانه وعندي إغماء فظيع!

مرر يده على جبينه يفركه بغـــضــــبٍ، وابتعد بمقعده المتحرك متجهًا الى مكتبه، نهضت ليلى تخفض سترتها، وقالت بعصبية: إنت دكتور إنت! بقولك تعبانه تسبني بالشكل ده!

رفع بصره عن الحاسوب وأشار بيده للباب: روحي لشغلك يا دكتورة، إتاخرتي!

جذبت ليلى أحد المقعدين المقابلين إليه وصاحت بانفعالٍ: ده ردك يا يوسف، ابنك تعبني وأنا مش قادرة بقولك اكشف عليا واديني علاج تسبني بتو.جـ.ـع وفوق كل ده بتتعامل معايا بمنتهى البرود!

عاتقت يديه وجهه وهمس بسيطرة تامة على أعصابه: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم!

وأبعد يديه هادرًا بغـــضــــب: ليلى أنا بقيت كاشف عليكي أربع مرات وإنتي في شهرك الأول! وده غلط مش فاهم انتي دكتورة ازاي أصلًا! وبعدين يا حبببتي كل الاعراض اللي بتقوليها دي طبيعية جدًا جدًا لما يخترعوا ليها علاج إن شاء الله هبقى أكتبهولك.

جذبت حقيبتها وصاحت بانفعال: بتتريق عليا يا يوسف ماشي.

وقف عن مقعده وقال يراضيها: حبيبتي أنا أقدر. حاولي بس تاخدي الامور بشكل طبيعي واشغلي عقك في شغلك.

وتابع باستغراب: بس غريبة يعني بقالك كام يوم في البيت، إنتِ بطلتي تدخلي عمليات ولا أيه؟

جلست على سطح مكتبه وأخرجته من حقيبتها كيسًا بلاستيكًا وهي تجيبه: برفض أدخل عمليات أساسًا، أنا أم ومقبلش إن ابني يشوف منظر الدm والمشرط والفيلم الرعـ.ـب ده.

زوى حاجبيه بصدmة: هو فين ابنك معلش؟

أشارت لبطنها المسطح بتلقائية: هنا، إنت نسيت إني حامل ولا أيه؟!

حك لحيته بغـ.ـيظٍ، وقال مبتسمًا بالاجبـ.ـار: ودي حاجة تتنسي، ده موضوع مصيري ومستحيل يتنسي!

وهمس بصوتٍ غير مسموع: منك لله يا عُمران، نقيت فيها أديني بدفع التمن غالي!

بتقول حاجة؟

تنحنح بخشونة: أنا أبدًا.

ورفع من حقيبتها الكيس البلاستيكي متسائلًا بذهول: ده أيه يا ليلى؟

رفعته له وقالت ببسمة فخورة: بقسمـ.ـا.ت يا حبيبي، مقدرش أمشي من غيرها، ده العلاج اللي مخترعهوش للاغماء، أول ما أحس إني هجيب اللي في بطني أطلع الكيس، عشان كده بطلت أظهر في المستشفى، يعني أكيد متقبليش إنهم يقولوا عليا دكتورة البُقسمـ.ـا.ت جت دكتورة البُقسمـ.ـا.ت راحت!

جلس على مقعده بتعبٍ بدأ يهاجمه، وقال بصعوبة: ليلى إنتِ بتعملي كل ده عشان أنـ.ـد.م وبعد كده أقولك خلي ابننا يبقى وحيد وبلاش نخاويه! لو الحكاية كده فأنا نـ.ـد.مت من دلوقتي ومش هتتكرر تاني يا حبيبتي.

عبست بعينيها مدعية البراءة: جو حبيبي أيه الكلام اللي بتقوله ده!

قاطعهما صوت طرقات الباب، فابتعدت ليلى عن طاولة مكتبه واتخذت المقعد القريب منه ثم جذبت حقيبة يدها تضمها إليها كابنها الرضيع، بينما اصبعها يختطف المقرمشات وتتناولها بنهمٍ.

هز رأسه بقلة حيلة، وتعالى بقوله: ادخل!

ولج جمال للداخل، فنهض يوسف يستقبله بترحاب وفرحة: جيمي، أيه المفاجأة الحلوة دي؟

عانقه هامسًا بمشاكسة: على اساس انك مكنتش سهران معايا طول الليل!

وابتعد يصوب بصره تجاه الجالسة وقال: ازيك يا دكتورة ليلى، عاملة أيه؟

أجابته ببسمة هادئة وقد راق لها بأنه يتطلع بمكانٍ قريبًا منها دون أن يجـ.ـر.حها بنظراته: الحمد لله بخير يا بشمهندس، أخبـ.ـارك مدام صبا أيه؟

قال وهو يتجه للخارج: معايا بره أهي.

وعاد إليهما بها، فاندهش يوسف وطالعه بنظرة مستفهمة فمال إليه يهمس: ردتها.

ضمه يوسف بفرحة وسط نظرات تعجب الفتيات، وهمس له: طول عمرك راجـ.ـل يا جمال.

تبادلت الفتياتين السلام بحرارةٍ، وجلستا يتطلعان إليهما، فقال جمال: كنت جاي أخد والدتي فقولت أعدي عليك تشوف صبا، صوتها رايح خالص وشكلها مجهد.

نهض يوسف عن مكتبه وقال بترحابٍ: أوي اوي. اتفضلي لأوضة الكشف يا مدام صبا.

ولجت ليلى برفقتها تعاونها على الاسترخاء بالفراش الطبي، وبالفعل فحصها يوسف وعاد يدون لها بعض الادوية قائلًا ببسمة جذابة: البيبي كويس الحمد لله وكل أموره طبيعية، الدوا ده لو.جـ.ـع واحتقان الحلق، والاجهاد ده هتحتاج للراحة مش أكتر.

التقط منها الروشتة، وأخبره: ماشي أنا هطلع لماما، أشوفك بليل إن شاء الله.

أومأ له بتفهمٍ، فحينما يكون أحد من ثلاثتهم برفقة زوجته لا يطول بالحديث مع الاخر مثلما اعتادوا.

غادر جمال وصعد لوالدته، عاونها على الجلوس بالامام وصبا بالخلف، وعاد بهما لشقته مرة أخرى، وبداخله حربًا فيما سيفعله بعلاقته مع زوجته!

مفاجأة أيه يا على قولي؟!

قالتها وهي تستمع لمكالمته، فلم يمر يومًا دون أن يهاتفها علي، أتاها صوته الدافئ يخبرها: لو قولت مش هتكون مفاجأة يا روح قلب علي، خليني أفجئك بطريقتي.

وتابع بحبٍ: يلا يا حبيبتي متعطليش نفسك وكملي شغلك.

ردت عليه بشوقٍ: هستنى أعرف أيه هي بفارغ الصبر، مع السلامة يا علي.

أغلقت الهاتف وتركته على سطح المكتب، ثم حملت الملف من أمامها واتجهت للباب المتصل بمكتب عُمران تطرقه.

رفع عينيه عن حاسوب والأوراق من أمامه، مشيرًا لها بابتسامة هادئة، فولجت للداخل تضع ملفها أمامه، قائلة: راجع الملف ووقعه.

جذب منها الملف يوقع في الخانة المطلوبة وقدmه لها، فضيقت حاجبيها بانزعاجٍ: ازاي تمضي من غير ما تراجع الحسابات؟!

جذب الاوراق السابقة لديه وقال: واثق إن حساباتك كلها صح يا فاطيما، وحتى لو عندي نية للمراجعة فالنهاردة مش يومه.

وأشار على الملفات المتراصة من أمامه بضيق: أنا مش فاهم إزاي انشغلت في المشروع وسبت الدنيا بالشكل ده، تقريبًا قدامي هنا يومين عشان أروح.
ابتسمت وسحبت بعض الملفات قائلة: متقلقش هحاول اساعدك.

اتسعت ابتسامته فرحة: ربنا يخليكي لأخوكي الغلبان اللي معتش حد حاسس بيه في الشغل غيرك.

اكتفت بهزة ممتنة له، فقال بمرحٍ: قبل ما تمشي لازم تفهمي أن للأخ واجبات ولازم تتعمل مظبوط عشان يتفانى في الأخوة، واهم واجب عليكي كوباية قهوة مظبوطة كل ساعتين بدون ما أنا اللي أطلب على أساس إني محرج منك وكده فبالتالي لازم تكوني ذكية وتفهميني بدون ما لساني يتواقح ويطلب الطلب ده.

تحررت ضحكتها وردت عليه: عنيا حاضر.

غادرت لغرفة مكتبها بينما عاد يتابع عمله بانهاكٍ، فإذا بهاتفه يدق للمرة التي تخطت الرابعة والعشرون.

رفع عُمران شاشة الهاتف يتطلع لاسم المتصل ببسمة مستمتعة، هامسًا بخبثٍ: طق من غـ.ـيظك أما نشوف مين فينا اللي بيتلوى دراعه يابن أشرقت!

انتهى الرنين وصدح صوت رسائل يستقبلها الواتساب، حرر عُمران الشاشة ليجد ثلاث ريكوردات منه، فتح أولهم وهو يلف بمقعده باستمتاعٍ: وبعدين معاك يا عُمران بكلمك من الصبح ومش بترد، انا عارف إنك متعمد ده. بتعـ.ـا.قبني يعني ولا أيه مش فاهم أنا!

الرسالة الاخرى بعد السابقة بساعة تقريبًا: طيب رد ونتكلم متعودتش يومي يعدي من غير ما تكلمني إنت! عشان كده مشيت بدري امبـ.ـارح! لانك زعلان اني طلقت صبا، مهو أنا أكيد مخدتش القرار ده من فراغ يا عُمران، وانت عارف اني بشاركك كل حاجة بس في حاجات مينفعش احكيها، احترم قراري ورد عليا بدل ما والله العظيم أجيلك وأسيب أمي أنا قولتلك اهو.

الرسالة الاخيرة التي وصلت منذ ثوانٍ: ردتها يا عُمران ارتحت! افتح بقى!

تحررت ضحكة على وجهه، فأشرقته بجاذبية لا تخص سواه، فحرر هو زر الاتصال المتلهف إليه وما ان استمع لصوته يجيبه حتى قال بفرحة: مبسوط أوي إنك عقلت يا جيمي، خليك كده عاقل عشان أحبك.

انفجر به غاضبًا: انت يعني بتلوي دراعي عشان أردها يا عُمران!

ضحك مستهزءًا: احلف انك ردتها عشاني!

صمت الاخير وقال: بصراحة أول ما شوفتها مقدرتش أتحمل فكرة إني هبعد عنها!

لانك بتحبها يا جمال، ويا سيدي أنا مش عايز اعرف سبب الطـ.ـلا.ق ولا اللي بينكم كل اللي عايز أقولهولك ان خراب البيت مش سهل، أنا أكتر واحد جربت ازاي تعيش من غير أب، ومهما انت حاولت تحافظ على ابنك وتعوضه والله ما هتقدر طول ما أنت ووالدته بعيد عن بعض، فكر في ابنك وفي بيتك يا جمال، حاول ازاي تصلحه مش تخربه!

وتابع بحـ.ـز.نٍ تعمق داخله: كلنا بنغلط، مفيش حد اتولد ملاك، ادي فرصة مرة واتنين لان حياتك مع الانسانة اللي بتحبها تستاهل إنك تعمل كده وتضحى، يمكن تغلط إنت النهاردة وتسامحك هي، وبكره الدور هيجي عليها وهتلاقي نفسك بتغفرلها وإنت راضي لانها سبق وقدmتلك العفو.
خليك واثق إن الدنيا عمرها ما هتكون وردي وبفراشات، لسه في تعثرات كتيرة جاية لازم تكون مستعدلها كويس.

ماشي يا عم أحمد شوقي، هشوفك عند سيف النهاردة؟

باستنكار سأله: نعم! انت ناوي تروح وتسهر، أمال ردتها والكلام اللي كنا بنرغي فيه ده أيه! انت بتشتغلني ولا فاضي بروح أمك!

آه من لسانك اللي عايز مقص مالوش فرامل يقصه ده. يابني أنا اتنيلت ورجعتها بس بردو محتاج أحسسها بغلطتها عشان خايف تكررها يا عُمران.

حـ.ـز.ن عُمران لما تسبب هو به رغمًا عنه، ولكنه أحرز نقطة ايجابية حينما نجح بضغطه عليه ليعيد حياته، فتنهد قائلًا: خلاص يا جمال زي ما تحب. بس عشان خاطري الولد اللي جاي مالوش ذنب.

عُمران متخـ.ـنـ.ـقنيش أكتر من كده، ها جاي بليل ولا أيه النظام؟!

أجابه بانهاكٍ: لا مش هقدر عندي شغل متلتل فوق دmاغي، بسبب المول، هحاول أخلصه عشان الاسبوع الجاي هنكون أنا وانت في الموقع كل يوم.

طيب مش هطول عليك، أشوفك بكره يا وقح!

ضحك بسخرية: مقبولة منك يا متهور!

وأغلق الهاتف ثم عاد لعمله، فقاطعه حسام سكرتيره الخاص يناديه: مستر عُمران، في واحد محامي بره مصر يقابل حضرتك وبيقول إنه جايلك في مسألة شخصية!

استند بظهره على المقعد، ويده تلهو بالقلم: وده عايز أيه ده!

رفع كتفه بحيرة، فقال عُمران: دخله لما نشوف حكايته أيه!

خرج حسام يشير للمحامي: تفضل سيدي بإنتظارك.

ولج للداخل يصافحه وهو يردد برسمية باحتة: يشرفني مقابلتك وجهًا لوجه سيدي.

أجابه عُمران بفتور: أشكرك، تفضل بالجلوس.

جلس قبالته يردد بـ.ـارتباك ملحوظ: سيدي، لقد جئتك بطلبٍ من احدى السجينات التي تبنيت الدفاع عنها، واليوم حينما فشلت باخراجها طلبت مني الحضور إليك بشكلٍ خاص وآ...

قبل أن يستكمل كلمة واحدة سأله عُمران بصوتٍ محتقن: ما إسمها؟

لعق شفتيها بتـ.ـو.ترٍ: ألكس!

واستكمل قبل أن يتحرر وحش عُمران: طلبت مني إخبـ.ـارك بضرورة زيارتها لتخبرك أمرًا هام متعلق بآ...

أطاحه عُمران عن مقعده، ودفعه للحائط هادرًا بانفعالٍ شرس: كيف تجرأ على الحضور هنا وذكر إسم تلك العاهرة أمامي!

فتح باب المكتب ومن ثم دفعه بالخارج أرضًا وأشار له بتهديدٍ: إن أتيت إلى هنا مجددًا أعدك أنك لن تخرج حيًا أيها المعتوه.

وصرخ بعنفوان: حسام اطلب (Security Guard السيكيورتي جارد) من تحت يرمي الكـ.ـلـ.ـب ده من هنا، وممنوع يظهر في مكتبي مرة تانية والا مش هيحصلك كويس.

وتركه وولج لمكتبه يغلق بابه بقوةٍ، وعاد لمقعده ينظم أنفاسه حتى هدأ تمامًا.

دث مفتاحه بباب الشقة، ولج بالأكياس الضخمة التي يحملها يناديها وعينيه تفتش عنها: سدن!

عاد يكرر ندائه والاخرى تقف مندهشة أمام مرآة المرحاض، فخرجت تقف أمامه مرددة كالبلهاء: أهناك فتاة هنا غيري!

التفت تجاه الصوت وسريعًا ما استدار، يضع يديه على عينيه صارخًا: كيف تخرجين أمامي كذلك ألا تخجلين يا امرأة!

انزوى حاجبيها البني باستغرابٍ، فشملت ذاتها بنظرة متفحصة، كانت تحيط جسدها بمنشفة ضخمة لا تبرز شيئًا منها الا كتفيها، ومنشفة أخرى على شعرها، رددت آديرا ساخرة: بربك يا آيوب أرتدى ثيابًا أقصر من تلك المنشفة! إنها محتمشة عن كل ملابسي!

وجد أنها تمتلك كل الحق، ولكنه ظل كما هو، وناولها أحد الأكياس قائلًا: لقد اشتريت لكِ ثيابًا جديدة، ارتدى منها الآن واخرجي لنتحدث قليلًا.

جذبت منه ما يقدmه، وقالت بفضول: هل ستقص لي عن أمر تلك السدن المسلمة والحقيقة التي تحدثت عنها بالأمس؟

أومأ برأسه وقال: سأفعل ولكن ترتدى ملابسك أولًا.

اتجهت لاحد الغرف وتفحصت ما بالأكياس، فوقفت مبهورة من الفساتين بسيطة التصميم، انتقت احدهم وارتدته، فجحظت عينيها بانبهارٍ تام، وانطلق صوت ضحكاتها المجلل وهي تدور بسعادة أمام المرآة.

هرعت للخارج تصرخ بحماسٍ لذلك الذي يتحدث بالهاتف مع آدهم الذي يخبره بأنه بالاسفل بصحبة علي، ليجد تلك التي تصيح: أنظر آيوب لقد أصبحت كالأميرات!

قالتها وهي تلف وهي تفرد ذراعيها بسعادة، انزلقت الكلمـ.ـا.ت عن فمه، فبقى يراقبها بانبهارٍ، كانت فاتنة بكل ما تحمله الكلمة بهذا الفستان الأسود المحتشم، كان يهبط باتسارع لا يحدد منها أي شيء سوى جمال وجهها وتأنقها باحتشام تام.

لاول مرة يراها جميلة حقًا، رغم وجهها المتورم، لم يغريه جمال العري وكشف ستر جسدها بطريقة كانت تجعله يشعر بالنفور دائمًا تجاهها، والآن قد تيقن بأنها باتت مصدر أشـ.ـد خطورة عليه.

أفاق من غفلته على صوت آدهم: يابني روحت فين أنا تحت البيت هتنزل ولا أيه؟!

رد عليه بعد استيقاظه: نازل حالًا.

وأغلق الهاتف، ثم تابعها وهي تعود إليه مجددًا حاملة الحقيبة، تخرج منها فستانًا وراء الأخر وتهاتفه بسعادة: أريت إنه جميل حقًا! انتظر سأجرب هذا.

أوقفها قائلًا: انتظري سدن أريد أن أخبرك بشيءٍ.

تأففت بضيق: لماذا تناديني بهذا الأسم الغريب، اسمي هو آديرا.

اقترب منها يجيبها برفق: ألــم تعتنقي الدين الاسلامي بلندن؟

هزت رأسها بتأكيدٍ، فقال: حسنًا لن يظل إسمك آديرا بعد.

بانزعاج قالت: ولماذا سدن بالتحديد؟! هل كان أخي يعلم بأنني سأعتنق الدين الاسلامي لذا اشتري لي هذا السلسال؟!

امتص انزعاجها حينما قال بحنان: سأجيبك على كل أسئلتك أعدك بذلك، ولكن على الذهاب الآن، أصدقائي بالأسفل ينتظروني، وإلى، أن أعود لا أريدك أن تخرجي من المنزل مثلما فعلتي بالأمس، هل تعديني؟

بدى المكر مختبئ بخضرة عينيها، ولكنها هزت رأسها تؤكد له: حسنًا.

وجذبت وشاحًا قد وجدته بالكيس البلاستيكي قائلة ببسمة جعلته لا يود رفع عينيه عنها: سأسمح لك بالذهاب أن عقدت لي هذا الوشاح كما أرى على السيدات هنا.

منحها ابتسامة رائعة وقال: سأفعل بكل تأكيد.

وبالفعل أحاط آيوب شعرها برابطة تخصها، ليعكصه على شكل دائري، ثم وضع لها حجابًا صغيرًا ترتديه أسفل الحجاب الخارجي.

وضع الحجاب الخارجي عليها ووضع الابرة بمنتصف الحجاب، ثم وضع طرفيه على كتفيها، ووقف يتفحصها هامسًا دون ارادة منه: بسم الله ما شاء الله!

دغدغها مشاعر تزورها لأول مرة، كانت حزينة حينما ترى النفور منه، ولأول مرة تراه مبهورًا بجمالها، فشعرت بأنها ملكة قبل أن تخـ.ـطـ.ـف نظرة لنفسها بالمرآة، يكفيها أنه يراها بهذا الجمال.

شردت بذلك الرجل العظيم، الذي لا يغريه العري بل الاحتشام، احترمته كثيرًا واحترمت دينه الذي يجعله يكن كل الاحترام للمرأة ولزوجته بشكلٍ خاص، لذا تحمست لخطوتها التي تخطط لها منذ الصباح، فوقفت بالشرفة تراقبه وهو يصعد لتلك السيارة الضخمة ويغادر بها الحارة.

بمنزل الشيخ مهران.

طرق يونس الباب مرتين متتاليتين حتى فتحت الحاجة رقية الباب، فقالت بابتسامة رائعة: ادخل يابني واقف بره ليه؟

بجمودٍ وتحفظ قال: قولت لحضرتك مستحيل أدخل مكان هي فيه، عايزك تناديها محتاج أتكلم معاها في شيء.

وتابع بتحذيرٍ: ويا ريت تقوليلها تلبس نقابها لاني مش طايق أشوف خلقتها.

أومأت بحـ.ـز.ن: حاصر يا يونس.

وبالفعل ما هي الا دقائق وخرجت برفقتها، تطالعه عينيها الباكية بحيرةٍ، تهرب من نظراتها وقال: هو سؤال واحد هسألهولك وبعدها همشي على طول.

هزت رأسها اشارة له، فتابع بعد مجاهدة بالحديث: فارس ابني؟!

تجمدت الحاجة رقية محلها ما بال تلك الهزيلة، سقطت دmـ.ـو.عها تباعًا وبدت عاجزة أمامه، مما دفعه للضحك بسخرية مؤلمة: هو السؤال ده صعب للدرجادي! ولا إنتِ من كتر خياناتك مبقتيش عارفة مين أبوه!

أيه اللي بتقوله ده، بتخوض في عرض الولايا يا يونس!
كلمـ.ـا.ت صرخت بها الحاجة رقية غاضبة، ولكنه تجاهلها وصرخ بمن تقف مرتجفة أمامه: سألتك سؤال انطقي!

أجابته بصوتٍ مرتعش: معتز أبوه.

طـــعـــن قلبه دون رحمة منها لمرته الثانية، ومع ذلك استكمل بثبات: وأيه اللي يثبتلي انك مبتكدبيش؟

تركته وولجت للداخل ثم عادت له بحقيبة يدها تخرج إليه الشهادة المزورة، فما أن طالعها يونس حتى أغلق عينيه بألــمٍ، وألقاها إليها بغـــضــــب واستحقار، كيف سمحت له بالتقرب إليها؟ كيف سمحت بأن تحمل جنينه!

خشيت خديجة أن يكون صمته يعني بأنه لا يصدقها، فقالت؛
ولو عايز تتأكد أكتر اعمل تحليل واتاكد مش همنعك. أنا مستحيل أنسب ابن لأب مش أبوه!

ابتسم ساخرًا ونطق: اللي سبق وخانت تعمل أكتر من كده.

وتركها وغادر دون أن يلفظ بكلمة اخرى، فتعالت شهقاتها الباكية بصوتٍ مزق قلب رقية، فضمتها إليها وهي تردد بقلة حيلة: حلها من عندك يا رب!

بسيارة آدهم.

كان آيوب منشغل بالحديث مع على عن حالة يونس، بينما هو شاردًا، حزينًا، فلقد تلقى بالامس نتيجة الفحص وقد كان ايجابيًا كما توقع هو وأبيه، اذًا آيوب هو أخيه بنسبة مئة بالمئة، لا يعلم كيف سيصارحه بالأمر.

لمحه يبتسم لعلي، فابتسم بدوره هو الاخر وبداخله يقسم أن لا يدع الحـ.ـز.ن يطرق بابه.

توقفت سيارته أمام المحل الرئيسي الخاص بيونس، فهبطوا ثلاثتهم واتجهوا للداخل، فوجدوا ايثان بالداخل.

استقبلهم بحفاوة واخبرهم أن يونس بالطريق، جلسوا على المقاعد ينتظرونه، وما هي الا دقائق وولج يونس ملقيًا السلام فأجابوه جميعًا، ونهض إليه آيوب فتعجب من رؤية الغـــضــــب يحيل عينيه، فاستغل التهاء ايثان بالحديث مع آدهم وعلى وجذبه جانبًا يصيح من بين اصطكاك أسنانه: كنت عارف إن الخـ.ـا.ينة دي في بينك ومقولتليش، لا وكمان رافعلها قضية خلع!

ابتلع آيوب ريقه بتـ.ـو.تر وقال: مكنش ينفع أتخلى عنها يا يونس، جوزها راجـ.ـل معندوش رحمة وآ.

قاطعه ساخرًا: وأيه يابو قلب رهيف، ولا تكنش أغريتك وكلت بعقلك حلاوة إنت كمان، فعايز تطلقها منه وتتجوزها انت!

جحظت أعينه بصدmة، وقال: أيه اللي بتقوله ده يا يونس! أنا الست اللي كانت في يوم مرات أخويا محرمة عليا ليوم الدين!

أخفض عينيه أرضًا وقال بحرجٍ: أنا آسف يا آيوب، بس لما شوفتها عند عمي وأنا هتجنن.

ربت على كتفه وهدر بتفهمٍ: ولا يهمك المهم تعالى أعرفك على على صاحبي من لندن.

خرج برفقته واتجه إليهم، جلسوا قبالتهم، فأشار آيوب عليه: ده الاستاذ على أخو عُمران صديقي اللي كنت بتكلم معاه.

صافحه يونس بودٍ، بينما مد إيثان يده يصافحه بحرارة: أنا أعرف أخو حضرتك وأتمنى أنك تقنعه يشتغل عندي(عارض أزياء Fashion model)، عنده كاريزما وحضور رهيب.

ضحك على وأجابه: بلاش تشتغل مع عُمران في شيء مهم وشايفه حلم لآنه مش بس هادm الأحلام والملذات ده هيفرم حلمك ويحشيه في صينية مكرونة بشاميل، وإسأل آيوب هو أكتر واحد هيعرف يديك معلومـ.ـا.ت عن الطاووس الوقح!

ضحكوا جميعًا، فأكد آيوب: والله بحاول أقنعه مش راكبة معاه!

زفر إيثان بضيق: طيب ليه ميبقاش طيب وعِشري زي حضرتك كده؟

ردد آدهم ضاحكًا: عُمران وطيب في جملة واحدة! يا كابتن إيثان خليك في جيمك تدرب عضلات الناس بدل ما بعد كده تحتاج اللي يدربلك عقلك عشان يرجع طبيعي زي ما كان!

ابتلع ريقه بـ.ـارتباكٍ وقال: ليه هو مـ.ـجـ.ـنو.ن؟

انفجروا ضاحكين، الى أن قال آدهم بصعوبة: لا وقح ومعندهوش حدود. وأدي أخوه اسأله!

كان على يتابع يونس بدقة، جعلت آيوب ينهض وهو يشير لايثان: تعالى بره عايزك.

وعلى الفور لحق بهما آدهم لعلمه المسبق لما يحدث هنا، وقبل أن يخرج وضع مفاتيح سيارته لعلي قائلًا: المفاتيح أهي يا علي، يادوب ألحق مشواري قبل معاد الطيارة بليل.

شاكسه ببسمة جذابة: ماشي يا حضرة الظابط بس خد بالك من المية واليخت، مش عايز مشاكل مع عُمران أنا!

رفع يده لعينيه: شمس في عنيا الاتنين، حتى لو وصلت أكون مركب نجاة ليها مش هتأخر.

أشار له ضاحكًا: طيب الحق وقتك لإنه بدأ ينفذ.

أشار بيده بسلامٍ عاجل وخرج على الفور، بينما بقى على قبالة يونس يتابعه ببسمةٍ هادئة، فشقها قائلًا بمكرٍ: من ساعة ما قعدنا وأنا ملاحظ إنك ساكت ومش بتتكلم خالص، ده حتى صاحبك بيتكلم وبيضحك أكتر منك.

استند بظهره للمقعد وقال ببسمة ساخرة؛
وأيه اللي يخلي الواحد يفرح ويجيله نفس للكلام!

بدأ بدوره بمهارةٍ، فتابع على نفس المنوال: وأنت فاكر إن كل اللي، حواليك دول معندهمش اللي يخليهم بحالتك دي أو أبشع منها، بس الأغلب بيتناسى اللي بيواجهه وبيحاول يتجاهله عشان يقدر يعيش.

ربع يديه حول صدره وتابعه بقوله المستهزأ: مفيش شخص بيقدر ينسى، كل ده كدب.

مال على بجلسته للأمام وقال مبتسمًا: هي صحيح كدبه بس هما كمان بيحاولوا يشوفوها كده عشان يكملوا الحياة اللي لو وثقوا إن اللي شافوه حقيقة وواقع حياتهم هتتدmر، زي ما أنت بتدmر حياتك كده يا يونس.

اتسعت حدقتيه بدهشةٍ: تقصد أيه؟!

اتسعت ابتسامته وقال بصوته الرخيم: اللي شوفته في حياتك أيًا كان صعوبته فلو محاولتش تسيطر عليه هيدmر اللي باقي من حياتك، وهيخليك محلك سر، أول ما تلاقي نفسك واقف تحارب وتبعد عن كل ذكريات المؤلمة دي إعرف إنك اتغيرت وبقيت قوي وقادر تقف قدام نفسك وتهزمها.

رمش بعدm استيعاب، شعوره بالارتياح لحديث هذا الشخص أرغمه على سؤاله بذهولٍ: إنت مين؟!

أجابه ببسمةٍ جذابة: دكتور على الغرباوي دكتور نفسي وأكتر حد ممكن يساعدك.

نهض يونس عن مقعده هادرًا بعصبية: آه عشان كده آيوب جابك، سيادته شايفني مـ.ـجـ.ـنو.ن!

لم تتلاشى ابتسامته بل تابع ومازال جالسًا بثقةٍ وثبات مهيب: الدكاترة النفسية مش تخصصهم علاج المجانين يا يونس، وعشان أكدلك المعلومة كلنا محتاجين لدكاترة نفسية حتى أنا بحتاج لنفس الشيء، محدش سليم نفسيًا بنسبة مية في المية، كلنا جوانا و.جـ.ـع مدفون، كلنا بننجـ.ـر.ح وبـ.ـنتألــم لإننا بالنهاية بني آدmين.

وتابع وقد انتصب بوقفته برزانة: في اللي بيقدر يتخطى مواقفه الصعبة لوحده وفي اللي بيحتاج لحد يأخد ايده وهنا الفرق.

ارتخت تعابيره المشـ.ـدودة رويدًا رويدًا، فانحنى على لسطح مكتبه وجذب قلمًا وورقة، وأخذ يدون رقمًا أسفل نظرات يونس التي تراقبه.

انتصب بوقفته بعدmا ترك الورقة على سطح المكتب وقال: في ناس حواليك بتحبك وبتتمنى إنك تكون كويس، وأولهم آيوب اللي اترجاني أخبي عليك إني دكتور نفسي عشان مشاعرك، بس في حالتك وشخصيتك اللي كونت عنها فكرة سريعة لقيت إن الصدق بينا هيكون أسرع طريقة إنك تكون أفضل.

واستطرد مشيرًا للورقة: ده رقم تليفوني أنا راجع لندن بليل، لو حابب تكمل معايا اتصل بيا لو مش حابب براحتك محدش هيجبرك، لإن لو إنت اللي مختارتش تساعد نفسك بنفسك يبقى لا أنا ولا غيري هيقدر يساعدك.

ومنحه ابتسامة أخيرة قائلًا: اتشرفت بمعرفتك يا يونس، عن إذنك.

وتركه وغادر بينما يونس سقط على المقعد حائرًا، مرتبكًا، يشوبه الاختناق، لا يعلم ماذا يفعل؟ لكن كل ما يعلمه أنه شعر بالارتياح الحديث لهذا الشخص الذكي!

انتهى الشيخ مهران من تلاوة وارده اليومي بخشوعٍ تام، مستغلًا بقائه بمفرده بالمنزل بعد ذهاب الحاجة رقية برفقة خديجة للطبيب، وتركوا فارس معه فوضع له الألعاب وجلس يقرأ وارده.

تعالت الطرقات ودق الجرس فنهض الصغير يفتح الباب، وقف حائرًا أمام تلك المرأة، مما جعل الشيخ يصدق بالله العظيم وينهض ليرى من القادm.

وقف حائرًا أمام تلك الفتاة، فسألها باستغراب: انتي مين يا بـ.ـنتي، وعايزة مين؟

أدmعت عينيها برعـ.ـبٍ مما هي قادmة لفعله، فرفعت كفها إليه وفتحته، فرأى بيدها سماعتين صغيرتين الحجم، تطلع لها وقال باستغراب: ده أيه؟ مش فاهم؟!

وحينما دقق النظر لها ثارت معالمه بغـــضــــبٍ عارم، فأشارت له بالسماعة على أذنيه ففهم بأنها تود أن تتحدث معه والسماعة تلك ما هي الا طريقة ليتمكن من فهم حديثها، اندهش بالبداية لرؤيتها بملابس محتشمة وحجابًا جعلها رائعة، لذا رضخ لها ووضع السماعة مثلما مدت يدها ووضعت من أسفل ححابها الاخرى وقالت: أريد الحديث معك شيخ مهران، لقد أتيت لمصر من أجل اللقاء بك، أرجوك امنحني فرصة الحديث إليك، آيوب بريء لم يتزوج بي الا لحمايتي من عمي، وبفضل آيوب والظابط المصري تخلصنا منه بعد ان اختطفني أنا وآيوب، كان يريد ان يقــ,تــلني يا سيدي!

بدد غـــضــــب الشيخ وشعر بأن تلك الفتاة تحمل بجعبتها الكثير، ربما ظلم ابنه الوحيد وهو يرغب أن يكون احتماله صائبًا وكم يتمنى أن يكون كذلك.

أشار لها بهدوءٍ: تعالي ادخلي.

استمعت لصوت المترجم، فابتسمت بسعادة وكأن العالم ابتسم لها، ولجت للداخل ولحق بها بعدmا ترك بابه مفتوح على مصرعيه، وجلس على بعد منها يسألها بقلقٍ: آيوب اللي عمل فيكي كده؟!

انتظرت قليلًا لسماع المترجم، وما أن فهمت ما قال حتى أشارت بجنون: لا لا سيدي لم يفعل بي كذلك، آيوب شخصًا طيب القلب لا يفعل كذلك أبدًا.

وبحـ.ـز.نٍ قالت: بالأمس كان حزينًا بعد ما حدث بينكما، فأخبرني بأنه لم يتزوجني الا لحمايتي كما كنت أعلم وحينما شعرت بأنني سبب تعاسته رحلت ليلًا وتعرض لي بعض الرجـ.ـال لولا أن أنقذني هذان الشابين اللذان كانوا هنا بالأمس.

هز الشيخ رأسه وقال: طيب قولي اللي انتي جاية تقوليه عشان ميصحش قعدتنا كده يا بـ.ـنتي.

وكأنها محاميًا امتلك فرصة الدفاع عن متهمًا بريء، وهي ستجيدها لاجل ذلك الشاب الخالوق، فقالت بلهفة: يا سيدي أنا فتاة يهودية ولدت يتيمة، لم يكن لي الا أحدٌ الا أخي وعمي، كان هو المسؤول عنا ورأيت فيه الأب الذي حرمتني منه الحياة، رأيته أماني وفجأة تبددت صورته المزيفة ورأيته شيطانًا يريد انتزاع روحي! روح ابـ.ـنته!

قالتلها ببكاءٍ جعل قلبه يرق لها، واستطردت دون أن تلتقط أنفاسها خشية من أن يطردها دون سماع براءة آيوب كاملة: إلتحق أخي للجامعة، ومن حينها وأصبح شخصًا مختلفًا عما كان عليه، شك به عمي وراقبه ليعلم بعدها بأنه اعتنق الدين الاسلامي على يد مصري، جن جنونه وأراد ان يجعله يعود عن دينه.

انهمرت دmـ.ـو.عها وقالت: رفض وقطع علاقته بعمي وابتعد، إلى أن أتاني خبر وفاته بطريقة كـ.ـسرت احدى أجنحتي، فكان هو جناحي الأيمن وعمي جناحي الأيسر، أصبحت دونه عالقة لا أستطيع أن أحلق وأنا أملك جناحًا واحدًا.

زرع عمي الكره والحقد لهذا الشاب المصري الذي غوى أخي و.جـ.ـعله ينفر من ديانته، ومن ثم قام بقــ,تــله، وهددني إن لم أقــ,تــله سيقــ,تــلني هو، لذا كنت مرغمة على البحث عنه وقــ,تــله.

برق الشيخ بصدmة مما خاضه ابنه دون أن يحدثه شيئًا، فتابعت بنـ.ـد.مٍ: أجل سيدي هذا الشاب الجامعي هو آيوب، ومن تجلس أمامك هي نفسها تلك الفتاة العبرية التي حاولت قــ,تــله لأكثر من خمسة مرات، وكل مرة ترتعش يدها أمام صلابته وشجاعته، حتى الخــــوف لم أراه يومًا بعينيه.

تمردت شهقاتها بصوتٍ عالي، وقالت بخزي صريح: وفوق كل ذلك قدm لي السكن والمال والطعام، دون أي مقابلًا يا سيدي!

وتطلعت بعمق عينيه الباكية نـ.ـد.مًا على اقترفه بحق ابنه ويده التي طالت وجهه، فقالت ببكاء: أتعلم كنت أرى نظرات الأعجاب والرغبة بعيون الرجـ.ـال تنهمش جمالي الا هو!

وبثقةٍ قالت: هو ليس مثلهم يا سيدي، أقسم بقسم آيوب أقسم بالله الواحد الأحد أنه لم يمسني حتى بنظرة منه حتى بعدmا أصبحت زوجته!

شخصًا تقيًا مثله أرغمني على الشك بأمر كونه قـ.ـا.تلًا أو إرهاربيًا مثلما أوهمني عمي، هُدmت ظنوني تجاهه وقد صدقت حينما تأكدت بإن عمي هو من قام بقــ,تــل أخي بعد أن قام بتعذيبه ليرتد عن دينه.

ورفعت يدها تشكو له باكية: أخبرني يا عم الشيخ كيف يمكن للأب أن يقــ,تــل ابنه ويحاول قــ,تــل ابـ.ـنته؟

توسلت له أن يتركني ولكنه لم يفعل، ضـ.ـر.بني وكـ.ـسر عظامي والأصعب لي هو كـ.ـسر جناحي المتبقى فلم يعد لي ما أستطيع الحياة لأجله، ألقاني بعدmا طـــعـــني بالسكين وكنت قد استسلمت للمـ.ـو.ت لولا رؤيتي لآيوب بمنامي لما استيقظت وتحاملت على اصابتي وذهبت إليه بشقة صديقه الذي كان يقطن بها لأسكن شقته دون أن يشاركني بها.

تابعت ببكاء، جعله يبكي هو الاخر: رأته بحُلمي يحملني على ظهره ويطوف بي حول الكعبة التي أخبرني عنها مرة، تعجبت لحلمي الغريب كنت اظن أن أخي من سيزورني بأخر أنفاس لي بالحياة ولكن آيوب من فعل.

السعادة التي رأيتها بحلمي منحتني العزيمة للفرار من مستنقع عمي، وحينها جُبر أن يتزوجني لإنه رفض أن يبقيني معه دون عقد زواج.

وانهارت أسفل الأريكة باكية، تزحف إليه وتتمسك بيده تردد ببكاء حارق: أرجوك سامحه يا عم الشيخ، أقسم أنه لم يعتبرني يومًا زوجته.

نهض مهران وعاونها على النهوض قائلًا ببكاء: قومي يا بـ.ـنتي، أنا غلطت في حقه ولازم أعتذرله.

هزت رأسها بابتسامة سعيدة وقالت تدعمه: نعم، نعم سيدي لقد ظلمته بكل تأكيد، كان يحميني من عمي وحينما اختطفنا أخبرني بأن أخي وضعني بأمانته قبل مـ.ـو.ته لهذا كان يحميني، حتى أنه لم يطالبني باعتناق دينه أنا من فعلت وصديقه عُمران من دعمني على ذلك، وحينما سألته ماذا ينبغي على فعله بعد نطقي بالشهادتين أخبرني أن الشيخ مهران والد آيوب الجدير بفعلها.

وازاحت دmـ.ـو.عها وقالت برجاء الا يخذلها: هل يمكنك أن تأخذ يدي لأعرف قواعد الدين وكيفية اداء صلاتي يا سيدي؟

أغلق عينيه يعتصر تلك الدmـ.ـو.ع، لقد جعله ابنه فخورًا به، والآن يمنح شرف توبة تلك الفتاة، فتح عينيه الباكية وقال: أنتي من النهاردة بـ.ـنتي وده بيتك، وزي ما ساعدت ناس كتير هساعدك يا بـ.ـنتي.

انحنت تقبل يده ببكاء فربت على حجابها وهو يبعد يده: العفو يا بـ.ـنتي.

ابتسمت بفرحة كبيرة، ولكنها عادت تسأله بحبٍ: هل يعني ذلك بأنك سامحت آيوب ولن تعود لضـ.ـر.به مجددًا؟!

اتسعت ابتسامته وقد قرأ حبها الواضح لأبنه، ولكنه لم ينزعج إن كانت بالطهارة والعفة التي التمسها بحديثها ورغبتها بتعلم اصول الدين فسيكون فخورًا بها كزوجة لابنه الغالي آيوب، جلى صوته الوقور وقال: مش هضـ.ـر.به، هأخده في حـ.ـضـ.ـني أكيد.

ابتهجت كثيرًا وقبل أن تضيف كلمة واحدة استمعت لطرق باب المنزل، تركها الشيخ مهران وخرج للباب، فوجد آيوب يقف على عتبة بابه المفتوح، رفض أن يدلف خشية من أن يطرده أبيه ففضل البقاء ودق الجرس.

خرج اليه الشيخ مهران بأعين حمراء من فرط البكاء، ليتفاجئ به يقف حزينًا، وما أن رأه حتى قال بلهفة: بابا أرجوك متطردنيش أنا والله مقدر على زعلك ولا على غـــضــــبك عليا.

أمسك أيوب يده وقبلها وارتفع بقامته يضع قبلة على رأسه هاتفًا بحـ.ـز.ن: حقك عليا والله كنت هحكيلك كل حاجة بس مكنش الوقت مناسب، خديجة وخروج يونس كل ده لخبط الدنيا، بس أنا جاهز أحكيلك كل حاجة. بس اسمعني انت ومتطردنيش تاني.

وسأله بصوتٍ وضع فيه كل ألــمه: هتدخلني يا بابا؟

جذبه الشيخ مهران باكيًا لاحضانه، ويده تحاوط رأسه بقوة، مرددًا ببكاء: هدخلك حـ.ـضـ.ـني وبيتي وكل اللي أملكه في حياتي يابني، حقك عليا يا عوضي في الدنيا بعد صبر عشرين سنة.

ربت آيوب على ظهر أبيه وردد ببكاء هو الاخر: طيب بتعيط ليه شيخ مهران، أنا عمري ما شوفتك بتعيط!

ابتعد عنها وجذبه للداخل ثم أغلق الباب من خلفه وقال: ليه يا آيوب؟ ليه محكتليش على كل اللي عشته في بلاد بره، كده تخبي عني كل ده حتى لما خـ.ـطـ.ـفوك وحولوا يقــ,تــلوك!

برق بدهشة وسأله: مين اللي قالك الكلام ده آدهم؟!

أتاه الرد من خلفه، صوتها المتساءل: أين ذهبت يا عم الشيخ؟!

استدار خلفه بصدmة جعلت عينيه على وشك الخروج من محجرهما، وبصعوبة ردد: آديرا! بربك يا فتاة ماذا فعلتي تلك المرة؟!

علي الطائرة المتجهة إلى لندن، كان على يقرأ باحدى كتبه وهو يبتسم لتخيله فرحة زوجته بحضوره المفاجئ بعد أن حذر شمس من اخبـ.ـار أحد بعودتهما، ولجواره مالت شمس على نافذة الطائرة تحتضن سلساله برقبتها بشرودٍ وابتسامة تركتها ذكريات هذا اليوم الذي من المستحيل لها نسيانه، تتذكر كيف قضت اليوم برفقته على يخت من أروع اليخوت الذي رأته في حياتها، تتذكر ما ان خطت قدmيها اليخت حتى استدارت اليه ورددت: واوووو يا آدهم اليخت تحفة بجد وشكله غالي أوي اوي، هو بتاعك؟

منحها ابتسامة مهلكة وأجابها وهو يتجه للقيادة: أنا آه مرتاح ماديًا بس مش لدرجة إنه يكون عندي يخت غالي أوي كده يا شمس، ده بتاع القائد بتاعي أداني مفتاحه النهاردة علشان أخرجك بيه لما عرف إنك راجعه لندن.

اتجهت إليه وضمته من ظهره، فقال بخبث: متقلقيش يا شمس هانم هقدر أعيشك في مستوى قريب من اللي إنتِ عايشة فيه.

تلاشت ابتسامتها وتراجعت عنها تهدر بانفعال: أيه اللي بتقوله ده يا آدهم، مستوى أيه اللي بتتكلم عنه! أنا حبيتك لشخصك إنت! حبيتك وأنا كنت فاكراك مجرد بودي جارد عادي! وحبيتك بردو وانا فاكرك سـ ـفا.ح ومجرم زي راكان، جاي دلوقتي وتكلمني عن المستويات!

وقف القيادة واستدار لها يمسك يديها: حبيبتي عارف كل اللي بتقوليه ده، أنا كنت بهزر معاكي ومش هكرر هزاري السخيف ده تاني أوعدك.

منحته ابتسامة هادئة، فعاد لقيادته لتقترب مجددًا وتضمه باستكانة جعلته سعيدًا، وخاصة حينما همست له: عرفت ليه لقبتك بالكابتن، أديك بتسوق اليخت أحسن من أجدعها قبطان أو كابتن طيران!

وتابعت وهي تغلق عينيها بنعاسٍ: قولي حاجة واحدة مبتعرفش تعملها!

ضحكة تلو الاخرى حتى انفجر بنوبة من الضحك جعلتها تتجه له وتتساءل بفضول: بتضحك ليه؟

قال ليثير فضولها أكثر: أقولك بس متضحكيش.

هزت رأسها تؤكد له، فقال ضاحكًا: العجلة! بفضل الله تلاقيني مع الدبابات ماشي، طيارات ميضرش، عربيات تلاقي، سفن ميضرش، مـ.ـو.توسيكلات شغال، الا العجلة كل ما بحاول أركبها بقع بيها زي الأهبل اللي ساب هيبته في بيته قبل ما يخرج، مع إني في التدريب عندي جهاز شبيه بيها بس بردو فاشل فشل ذرايع فيها، لذا حفاظًا على ماء الوجه بطلت أبص عليها مجرد نظرة بريئة.

استمعت له بعناية وضحكت وهو تستمع له باستمتاع، قص لها عن مواقف طريفة تعرض لها حينما كان يتدرب، أو بعملياته الخاصة.

ساعات مضت عليهما حتى غروب الشمس، تلك اللحظة التي قضوا بها تناول الطعام كانت رائعة وحولهما المياه والغروب يلطف الاجواء.

وبعدها جلسوا على سطح اليخت يراقبون الغروب باستمتاعٍ.

خُلقت بينهما مشاعر جياشة دون أي تجاوزات، كان أمينٍ عليها أكثر مما توقعت، تأكدت للحظتهما الأولى بأنه سيضعف أمامها لا محالة، ففجئها حينما عافر رغباته بسيطرةٍ تامة، وقد تهيئ لأن يبقيها بأمانٍ حتى من نفسه.

اكتسبت شمس ثقة جديدة عن تلك التي تمنحها لعائلتها، ثقة تجيد طعمها لمرتها الأولى، فابتعدت وتعمقت بحدقتيه لتحرر الكلمـ.ـا.ت عن أنفاسها المتسارعة: أنا بعشقك يا كابتن!

ارتسمت ابتسامة جذابة على وجهه، يده تتشابك بين خصلاتها الحريرية وتجذبها لتميل على كتفه بحمايةٍ، وهمس لها بصوتٍ مغري أشعل من عـ.ـذ.ابها: وأنا مـ.ـيـ.ـت فيكِ يا شمس هانم!

أفاق من شرودها على صوت علي: يلا يا حبيبتي وصلنا، انتي نمتي ولا أيه؟!

هزت رأسها نافية، ولحقت به حتى صعدت بالسيارة التي تنتظرهما، فما أن وصلوا للمنزل حتى صعدت شمس لغرفتها بانهاكٍ.

أما هو فقد عد للمنزل يحمل شوق العالم بأكمله للقائها، لا يعلم كيف مر ذلك الأسبوع عليه ليعود إليها، كان يعلم بأنه سيجدها تغفو بفراشها مع قرابة الساعة الواحدة صباحًا، تلاشت ابتسامته الجذابة وتبخرت حينما وجد فراشه مرتبًا وكأنها لم تبيت يومها به!

ظن أنه سيجدها بغرفتها الجانبية فاتجه إليها يناديها بشوقٍ ولهفة: فطيمه!

تجعدت ملامحه بدهشةٍ حينما لم يجدها أيضًا بغرفتها، فأسرع للطابق الأول قاصدًا غرفة والدته، طرق الباب أكثر من مرةٍ فلم يجد أحدٌ، حتى عمران وشمس، فهبط للأسفل ينادي أحد الخدm الذي استيقظ على الفور يجيبه بوقارٍ: ما الأمر سيدي؟

سأله على بقلقٍ يكاد يمزقه: أين الجميع؟

أجابه الخادm مسرعًا: السيدة مايسان هاجمها ألــمًا مفاجئًا فحملها السيد أحمد وذهبت برفقته السيدة فريدة للمشفى، أما السيدة فاطيما والسيد عمران لم يعدان بعد من الخارج.

ضيق عينيه باستغرابٍ، وجذب هاتفه مشيرًا له: عد لغرفتك.

هاتف على فطيمة وعمران ولكن لم يجيبه على مكالمـ.ـا.ته، فكاد أن يجن من فرط قلقه لما يحدث هنا، كيف يتسنى لعمران ترك مايا وهي بتلك الحالة ويذهب بهذا الوقت برفقة فاطمة!

هاجمه عقله دون رحمة، وأقصى ما يخشاه أن تكون قد هاجمت فاطمة نوبة أو حدث بها سوءًا، جذب هاتفه مجددًا وطلب أحمد الذي أجابه على الفور: أيوه يا حبيبي، عامل أيه؟
أنا كويس يا عمي، طمني انت مالها مايا؟
أتاه صوته المرهق يجيبه: مفيش حست بتعب وعمران مكنش موجود فجبناها المركز ليوسف.
أسرع بسؤاله لما وجده هام: عمران فين لحد دلوقتي وفاطيما مرجعتش؟

عمران وفاطيما اتاخروا النهاردة، وأخر مرة كلمت عمران قالي إنه كان عنده اجتماع مهم هيأخره بره جايز يكون صمم يرجع فاطيما معاه.

أغلق على الهاتف بعدmا استمر بهدوئه مع عمه، وجلس على أحد المقاعد يحاول تهدئة ذاته، يكفيه أنها الآن باتت أكثر نضجًا وقوة أهلتها للتعامل مع العالم الخارجي، ولماذا قد يشعر بالقلق وأخيه لجوارها!

اقتحم صوت سيارة عمران مسمع علي، فنهض عن مقعده واتجه للشرفة يراقبه بتمعنٍ، فاتسعت عينيه بصدmة جعلته يتجمد محله لا يقوى على الحركة قيد أنامله، وبالكد استدار بجسده ليكون مقابل لباب المنزل الذي انصاع لمفتاح عمران ودفعة قدmه الخافتة جعلته يتسع لمرورهما معًا!

اتجه عمران بخطواتٍ بطيئة للمصعد، وقبل أن يخطو منه توقف وهو يتطلع ذاك المتيبس من أمامه، فهمس بذهولٍ: علي! إنت رجعت أمته؟

بقى جـ.ـا.مدًا وجهه خالي من التعابير، حدقتيه تنخفض رويدًا رويدًا على تلك المستلقية على ذراع أخيه، وكأنها فاقدة الوعي!

ابتلع لعابه بتريثٍ وهو يجاهد لتماسك انفعالاته، وبدأ يقترب ليكون مقابله وجهًا لوجه، فاستطاع أن يرى وجه زوجته المجهد وحجابها وملابسها الغير مرتبة بشكلٍ يثير الريبة!

سقط وجه فاطمة إليه فور تهدل ذراع عمران للأسفل بعدmا استحوذ الارتباك عليه من صمت أخيه وجمود نظراته الغريبة، فتمكن تلك المرة من لقط علامـ.ـا.ت الأصابع الخمسة الماسدة على خدها المتورم وكأنها نالت عشر صفعات قوية.

ضم على شفتيه معًا بقوة ومد نفسه بصبر يجعله لا يحتمل حتى مجرى تنفسه، لا يسمح أن تزوره مجرد شكوك تدفعه لأخيه أي شكوك يود قــ,تــلها رغم أن كل ما تنظره عينيه ما هو الا هلاكًا وجحيمًا يلوح له!

تنحنح عمران وهو يناديه بتـ.ـو.ترٍ: علي. إنت ساكت ليه؟!

تلك المرة قرر رفع عينيه ليواجه أخيه، فحرك رماديته ليقابله بنظرة طويلة طـــعـــنت قلب عمران باجتيازٍ، وخاصة حينما انحرفت عينيه لعلامـ.ـا.ت الاظافر التي تضم رقبة أخيه وخده الأيسر، فأغلق على عينيه على الفور ومزق شفتيه من فرط ضغط أسنانه عليها، وردد بصعوبة أنفاسه المنفعلة: فاطمة مالها؟
اندهشت آديرا من وجود آيوب، والأخر صدmته تفوقها، فكرر سؤاله مرة أخرى بعصبيةٍ: ما الذي أتى بكِ إلى هنا دون إذنًا مني؟!

فهم الشيخ مهران حديثه، فمازال يري السماعة، اقترب إليهما وقال: جيت هنا عشان تقولي الحقيقة يا آيوب، جت تعرفني غلطي يابني.

واستطرد وهو يتطلع لها بابتسامةٍ حنونة: إرجع لم هدومك وهدومها وتعالى، ده بيتها ومش هتخرج منه أبدًا، وزي ما هي أتعشمت فيا فأنا عمري ما هخذلها أبدًا.

ابتسم آيوب وهو يوزع نظراته بينهما ببلاهةٍ، لأول مرة تفعل شيئًا يستحق أن يفخر بها، لا يصدق بأنها خاطرت بالنزول بمكانٍ تجاهله، وأتت لأبيه وهي تكاد تمـ.ـو.ت من فرط خــــوفها منه، فعلت كل ذلك لأجله!

أفاق على هزة يد والده، يخبره: يلا يا آيوب روح هات حاجتك وحاجتها وتعالى، هي هتقعد هنا مع خديجة وإنت اطلع فوق مع يونس لحد ما نشوف ربنا مقدرلهم أيه يابني.

هز رأسه في طاعةٍ، وغادر يحزم أمتعتها والحقيبة الصغيرة التي تخصه، وحينما عاد وجد والدته وخديجة قد عادوا، فمنحها الحقيبة وصعد ليونس على الفور.

جاب جناحه ذهابًا وإيابًا، وعينيه متعلقة بها، وكلما همست بإسم أخيه اشتعل غـــضــــبه، يحاول بشتي الطرق أن يهدأ من روعه، فليس أخيه بالشخص الذي يخـ.ـو.ن.

الوحيد الذي يثق به ثقة عمياء، ومن المحال أن يحطمها، ولكن اصراره على إخفاء أمرها عنه زاد من لوعته.

جابه ذكرى يوم غداء العمل، هل من الممكن أن يكون هذا اللعين الايطالي اعتدى عليها انتقامًا من عُمران لما فعله بحقه، وخاصة بعدmا أصبح عمه أحمد الغرباوي بدلًا عنه.

يكاد أن يصيبه الجنون، أخيه الأحمق يظن أن مثل تلك الأمور سرًا لا يرغب البوح به، يترك النيران تلتهم جسده وبيده هو اطفائها ولكنه يخشى أن يُنكث وعده.

تعالى صوت شهقات فاطمة، ودmـ.ـو.عها تنسدل على وجهها، رأسها يتحرك يسارًا ويمينًا رافضة رؤية ما ترآه الآن.

تمزق قلب على لعلمه بما تراه الآن بالتحديد، نزع جاكيته وإتجه إليها يتمدد جوارها، أزاح عنها الحجاب وجذبها إليه يحتضنها.

مرر يده على خصلاتها ومال على رقبتها يهمس بصوتٍ اختنقت فيه دmـ.ـو.عه: أنا جنبك يا حبيبتي، متخافيش يا فاطمة مفيش مخلوق يقدر يلمس شعرة واحدة منك وأنا هنا.

ارتحت تعابيرها المشـ.ـدودة بصورةٍ ملحوظة، صوته الدافئ تسلل لها في ظلمتها، فاستكانت على صدره لدقائقٍ، وعادت تهمس: علي!

قرب رأسها إليه، يطبع قبلاته على جبينها بحـ.ـز.نٍ اتبع صوته العميق: روح قلبه إنتي يا فطيمة!

انسحب للأسفل ليمنحها نومة مريحة، فهالها أمانه وحبه، شعرت بجيوش مشاعره وعشقه تدافع عنها بسيوفٍ قلبت ساحة المعركة لصفها، فباتت آمنة مطمئنة، حتى وهي تعلم بداخلها بأنها تتوهم وجوده، عقلها يعلم بأنه بمصر وقلبها يتمسك بهالته حتى وإن كانت وهم، رائحته الطيبة وضمته الرقيقة لها تعرفها حتى ولو افترقت عنه دهرًا كاملًا.

أبادت عقلها بقوةٍ وهي تصفعه هاتفة «إنه هو، حبيبي علي! هو الوحيد القادر على منحي تلك المشاعر، هو فحسب! ».

انتهى من حمامه عساه يمنحه القليل من النشاط الذي فقده، جسده بالرغم من ضخامة بنيته العضلية الا أنه بدى كالهزيل الواشك على فقدان الوعي بين لحظةٍ وأخرى.

ارتدى أول ملابس قابلته بآليةٍ تامة، وعلى غير عادته، ثم سحب مفاتيح سيارته وإتجه للمغادرة.

وقف قبالة الدرج يخـ.ـطـ.ـف نظرة حزينة لجناح أخيه، إتجه عُمران إليه مترددًا بطرق بابه، أطبق كفه المفرود ومال عليه يردد بقهرٍ شق دmعة خائنة على خده: أنا بريء من الاتهام البشع اللي مالي عنيك يا علي!

تغلب على رغبته بطرق بابه وهبط للأسفل، مستقلًا سيارته.

بينما بغرفة علي.

سحب هاتفه وحاول الاتصال بعمران فور سماع صوت سيارته، فتفاجئ به مغلقًا، لذا أرسل له رسائل مكتوبة على حسابه.

«عُمران خليك صريح معايا وقولي الكـ.ـلـ.ـب اللي انت اتخـ.ـنـ.ـقت معاه قبل كده حاول يتعدى على فاطمة، أرجوك صارحني عقلي هيقف من التفكير! ».

رسالة أخرى
«عُمران الموقف مـ.ـيـ.ـتحملش سكوتك، قولي اللي حصل وأنت عارف إني عاقل وقادر أوزن الأمور، بس من فضلك متسبنيش لأفكاري، أنا مجرد ما بفكر إن حد مسها بحس إني قلبي بيقف، أرجوك ريحني وأنا مش هقولها إني عرفت حاجه. ».

زفر على بضيقٍ حينما لم تصل رسائله لعُمران، فترك هاتفه وعاد يمسد على ظهر زوجته، فغفى رغمًا عنه من فرط الاجهاد والسفر لساعاتٍ طويلة.

وصلت سيارة عُمران للمركز الطبي الخاص بأخيه، صفها وصعد مسرعًا للطابق الرابع حيث غرفة زوجته، أسرع لباب الغرفة اقتحمه وأنفاسه تعلو من فرط مجهوده المبذول، فانتبه إليه عمه ووالدته وزينب التي أصرت بالقدوم معهم.

انتهى يوسف من غرز المحقن بزجاجة المحلول المندس بعروقها، واستدار يقابل صديقه بنظرة حزينة، ذلك الذي قضى الليلة راكضًا ما بين زوجته وزوجة أخيه!

تحرر صوت عُمران المحتبس بحنجرته طويلًا وقال: مالها مايا يا يوسف طمني؟

إتجه إليه حيث محل وقوفه، وقال بصوتٍ منخفض يلفت الانتباه لعمران بأنها نائمة بعمق: متقلقش هي كويسة والبيبي كمان زي الفل، كل الحكاية إن الأنيميا وا.طـ.ـية شوية ودي اللي تعباها من أول الحمل.

وتابع بعمليةٍ: هنحاول مع الأدوية وبعض الأكلات إننا نظبط نسبتها، أنا اديتها محلول دلوقتي ولما يخلص هعلق ليها التاني وعلى الصبح بإذن الله هتبقى كويسة.

استرخى جسده المتشنج، وقال وعينيه لا تفارق وجهها الشاحب: معلش يا يوسف تعبتك معايا النهارده.

ربت على كتفه بحنانٍ وقال بخشونة: عيب الكلام ده يا عُمران، البشمهندسة مايا تعتبر مرات أخويا ولا إنت شايف غير كده؟

رسم بسمة صغيرة ممتنة له، فاستقبلها يوسف بابتسامة تخفى ألــمه وتأثره بحالة عُمران الغامضة له.

وقبل أن يخرج من باب الغرفة قال لفريدة وأحمد: عن إذنكم أنا تحت في مكتبي لو حصل حاجة كلموني.

نهض إليه أحمد يقدm له الشكر على عرفانه، فهو أول شخصًا أتى لخاطرهما فور سماعهما صراخ مايا وبكائها، أخبره يوسف بأنه لم يفعل شيء، هذا واجبه وقد أتمه على أكمل وجه، واستأذن للمغادرة على الفور.

جلس عُمران على طرف الفراش جوارها، نظراته الحزينة تحيطها، وسرعان ما استعاد ثبات وصلابة فور تذكره بأنه الآن ليس بمفرده، سيسعى ألا يصل سوء التفاهم هذا لعائلته وبالأخص والدته، إن وصل إليها بأن أخيه يشك بأنه قام بالاعتداء على زوجته ستكون ضـ.ـر.بة قـ.ـا.تلة لتلك السيدة الفاتنة التي أفنت شبابها في سبيل ترتبيتهما.

تطلع تجاههم وتساءل باهتمامٍ: أيه اللي حصل؟

اعتدلت فريدة بجلوسها وأثار النوم تداعب عينيها الزرقاء: معرفش والله يا حبيبي، انا كنت نايمة أنا وأحمد وفوقنا على خبط زينب، قالتلنا إنها سامعة مايا بتعيط جـ.ـا.مد وخايفة تدخل الجناح تكون إنت جوه، فدخلت عليها لقيتها بتصرخ وبتعيط جـ.ـا.مد، فأحمد اتصل بيوسف وقالنا نجي المركز وهو حصلنا على طول.

هز رأسه بتفهمٍ، ورسم ابتسامة جذابة وهو يردد بامتنانٍ: دكتورة زينب مش عارف أشكرك إزاي إنك آ...

قاطعته برقةٍ، رافضة مبالغته بالأمر: أنا معملتش حاجة مايا زي فاطمة الاتنين واحد عندي، ربنا يشفيها ويقومها هي والبيبي بخير يا رب.

رد عليها ومازالت ابتسامته مرسومة: تسلمي. بس من اللحظة اللي هيشرفنا فيها البيبي هنقرفك إنتِ ودكتور سبفو معانا.

علي ذكر إسمه ارتبكت وتلون وجهها بحمرتها، فتابع عُمران بخبث: على رجع من شوية، يعني خلاص كلها يوم ولا اتنين ويجي يطلبك بشكل رسمي.

خفق قلبها بعنفٍ، وكأنه سيقفز من صدرها يتراقص على نغمـ.ـا.ت عشقه الذي وُلد داخلها، تمنت أن ينتهى الحوار بينهما فلم تجد أي كلمة مناسبة تجيبه بها.

شعر بها أحمد فقال بحزمٍ مازح: خلاص بقى يا وقح متكسفش الدكتورة! وبعدين احنا اتصلنا بيك عشان تكون جنب مراتك وتهون معاها، وإنت من ساعة ما جيت وإنت مركز معانا احنا.

مازحه بغمزةٍ وقحة: مهو أنا مش هعرف أركز معاها طول ما أنتم هنا يا عمي، فأنا بقول تأخد فريدة هانم والدكتورة زينب وترجعوا القصر تريحوا، أنا هنا وهأخد بالي من مايا متقلقوش.

حدجه أحمد بنظرة غاضبة، وأشار بقلة حيلة: عمرك ما هتتغير، هتفضل طاووس وقح لحد ما تشيب وتبقى جد!

عدل من ياقة قميصه بغــــرورٍ: مين ده اللي هيشيب ويبقى جد، ده في أحلامك يا أحمد يا غرباوي! ولو كترت في الكلام مش هترجع بيها على القصر هنطلع كلنا بربطة المعلم على محكمة الأسرة، ها أيه رأيك؟!

أمسكت فريدة كف زوجها وقالت بإرهاقٍ: مش هتقدر على لسانه يا أحمد، خلينا نرجع لاني تعبت فعلًا من القعدة.

أمسك بها ويده تلتف حول خصرها بلهفةٍ: حاضر يا حبيبتي، يلا بينا.

تفاجئ أحمد بيد رجولية تزيح يده عن خصرها، وفجأة وجدها محمولة بين ذراعي عُمران الذي منحه نظرة شرسة: كل حي أولى بلحم بيته يا عمي!

اندهش أحمد مما يفعله، بينما رددت فريدة بعصبية: نزلني يا عُمران! أيه اللي إنت مهببه ده هتوقعني!

ولج بها المصعد وتركها تقف داخله وقال بضحكة هادئة: متقلقيش يا فريدة هانم وزنك الرشيق مـ.ـيـ.ـتعداش 60كيلو، بشيل أوزان أكتر منهم!

وغادر سريعًا من أمامها قبل أن يصيبه نوبة عصبيتها، بينما منحه أحمد نظرة غاضبة قبل أن يدلف للمصعد إليها برفقة زينب.

ما أن تأكد من مغاردتهم حتى نزع عنه ملامحه الزائفة، فأطل الحـ.ـز.ن من عينيه بعمقٍ، ولج عُمران لغرفة زوجته مهمومًا، يتحرك ببطءٍ شـ.ـديد، حتى وصل للمقعد المجاور لفراشها.

انحنى لذراعها المتصل بالمحلول الطبي، وفرق قبلاته على كفها برقةٍ.

ظل لجوارها ساعة كاملة يتأملها بحبٍ، وقلبًا متألــمًا لما أصابها بسبب حملها، نهض عمران عن المقعد يزيح جاكيته، وجرفاته باختناقٍ شـ.ـديد، نظرات على تصيبه بأسهمٍ تسحب كل و.جـ.ـعٍ دفنه داخله.

حرر أزرار قميصه الأسود، وفتح شرفة الغرفة، يستقبل صدره العاري الهواء البـ.ـارد بكل ترحابٍ، رماديته تنغلق بقوةٍ وتجاهد لتحرر تلك الدmعة المتأججة داخلها، ليجوب إليه ذكرى هذا اليوم العجيب!
##.

لم يكن يومًا مهملًا بعمله ليأتيه تلك الشكوة من إحدى البنايات المكلف بها إحدى شركاته، جن جنونه واستحضر عفاريته بعصبية تكاد تفجر رأسه من فرطها، صائحًا بعدائيةٍ شـ.ـديدة: ده اسمه استهبال يا بشمهندس! إنت عارف أنا بقالي كام سنة على الكرسي ده؟ مجاليش شكوة واحدة ودلوقتي عايز أفهم الشكوى دي سببها فريقك ولا إنت اللي فشلت توجهه لطلبات العميل!

رفع المهندس رأسه هاتفًا بحرجٍ: يا مستر عُمران أنا آآ...

قاطعه بصرامةٍ مخيفة: إنت أيه؟! محروج تعترف بفشلك في أول مهمة أسلمهالك كقائد مسؤول! للأسف يا طارق إنت خذلت ثقتي فيك.

وتابع وهو يغلق حاسوبه بعنفٍ: اتفضل يا بشمهندس جمعلي فريقك كله في صالة الاجتماعات، علشان نشوف هنحل الغلطة دي ازاي، وبعد كده هيبقلنا كلام تاني.

تحرك للخارج بضيق لما تسبب هو بفعله، بينما نهض عُمران يهمس بإرهاقٍ شـ.ـديد وهو يتفحص الساعة التي عانقت الحادية عشر مساءًا: المصايب كلها جاية في يوم واحد، اللهم لا اعتراض.

جذب جاكيت بذلته عن المشجب العريض، المجاور للباب الرئيسي لمكتبه، ثم اتجه للباب الجانبي الفاصل بينه مكتبه ومكتب زوجته والذي أصبح يخص زوجة أخيه من بعدها.

طرق عُمران على الباب طرقتين متتاليتين، لتنتبه له فاطمة، وما أن نهضت عن مكتبها حتى ولج يشير: سيبي الملف ده يا فاطمة وتعالي يلا أوصلك بسرعة عشان ألحق أرجع تاني.

جذبت حقيبتها ترتديها وما أن استمعت لباقي جملته حتى تساءلت باستغرابٍ: هترجع تاني ليه؟!

رد عليها وهو يتنهد بضيقٍ شـ.ـديد: عندي اجتماع مهم، البشمهندس اللي لسه متعين من كام شهر بعته ينفذ عمارة تبع ناس تقال بيتعاملوا معايا باستمرار، اندهشت لما كلموني من شوية يشتكوا من التنفيذ، هشوف البهوات عملوا أيه وهحاول أحل الدنيا.

نزعت عنها الحقيبة وأعادت لسطح المكتب، مقترحة عليه: خلاص روح إنت اجتماعك وأنا هستناك هنا على الأقل أكون خلصت حسابات ملف المشروع اللي شغالة عليه.

رفع ساعة يديه يتطلع إليها مرة أخرى، ثم قال: بس يا فاطيما أنا ممكن اتأخر في الاجتماع والساعة دلوقتي 11، خليني أروحك وأرجع أحسن.

عادت لمقعدها مبتسمة: يعني هروح أعمل أيه! خليني هنا أحسن لحد ما تخلص اجتماعك بدل ما تروح وترجع كده هتتأخر.

ابتسم لها وقال باحترامٍ لشخصيتها الذي باتت تروق له: بيقولوا الأخت الحنينة رزق، وأنا ربنا رزقتي بشمس المصلحجية، أي مصلحة أو فلوس تلاقيها بني آدmة رقيقة وكيوت أوي، وسبحان الله عمري ما شوفتها غير كده، لكن الحنية والطيبة دي موردتش عليا قبل كده.

اتسعت ابتسامتها وقالت: الطيبون للطيبات يا بشمهندس، وعلى طيب جدًا ولا أيه؟!

ضحك بصوته الرجولي وقال بمرحٍ: طيب ومحظوظ، الاتنين مع بعض وشكلي هنق عليه.

فتحت حاسوبها وملفها من جديدٍ بعدmا ظنته يستدعيها للرحيل فأغلقتهما: طيب أجل النق لبعدين وإلحق اجتماعك.

زفر بضيقٍ ملحوظ، وهتف: لازم تفكريني، يلا هنزل أنا لمبنى الاجتماعات ولما هخلص هرن على تليفون مكتبي أبلغك تنزلي.

هزت رأسها في طاعة وقالت: تمام، ربنا معاك.

راقت له دعوتها، فاستدار برأسه لها وقال: دعواتك لإني حاسس إني هنزل أطلق كلابي الصعرانه عليهم ووقتها هيمـ.ـو.توا من الصدmة لإنهم متوقعين إن اللي نازلهم هو مستر عُمران الشيك الجنتل مان، وأنا في لحظة غـــضــــب مش هقدر أسيطر على عُمران البلطجي اللي قاعد جوه بيتلكك لخلق الله، ففعلًا فعلًا محتاج لدعواتك!

اتسعت ضحكاتها بعدm تصديق لما يتفوه به، وقالت من بين سيلها المنطلق: هدعيلك حاضر.

ودعها وهبط متجهًا لمبنى الاجتماعات المجاور للمبنى الرئيسي، حيث كان يجتمع بالفريق بأكمله.

ظل عُمران برفقتهم لساعتين متتاليتين، حتى تمكن أخيرًا من حل المشكلة.

انتهى الاجتماع أخيرًا، وخرج عُمران لسيارته منهكًا يجر ساقيه بتعبٍ شـ.ـديد، رفع هاتفه واتصل بهاتف مكتبه، وحينما أجابته فاطمة قال: فاطيما أنا تحت انزلي يلا.

وفور أن أغلق معها، هاتف مكتب السكرتارية، وما أن أجابه حسام السكرتير الخاص به قال: معلش يا حسام سهرتك النهاردة، تقدر تمشي.

أغلق الهاتف ومال على سيارته ينتظر زوجة أخيه بإرهاقٍ ودوار جعله على وشك فقدان الوعي بعد هذا اليوم المتعب.

بالأعلى.

أغلقت فاطمة حاسوبها والأوراق من أمامها، ثم خرجت للطرقة الخارجية، وقفت تتطلع للدرج بتعبٍ، لقد استنزفت قوتها بهذا اليوم المرهق الذي لم تشهد مثله منذ أن استلمت عملها هنا.

تطلعت للمصعد بقلقٍ، فهي لم تعتاد الدخول إليه الا برفقة علي، وموخرًا برفقة عُمران الذي التمست به حنان الأخ الذي رحل عن أشقائها، كانت حائرة، بين خــــوفها المحتبس كالوحش المقيد، وبين تعب جسدها الهزيل، وبين هذا وذاك اختارت الولوج للمصعد بعد قناعة إن لا أحدٌ من الموظفين هنا بهذا الوقت المتأخر.

ولجت فاطمة للمصعد وتراجعت تضغط على اللائحة باختيار الطابق الأرضي، وما كادت بالابتعاد حتى تفاجئت بحسام السكرتير الخاص بعُمران يضع قدmه ليمنع انغلاق الباب، وولج يرسم ابتسامة بسيطة وهو يردد: أزي حضرتك يا استاذة فاطمة.

تعجب حينما التزمت بصمتها ولم تجيبه، علامـ.ـا.ت الفزع والرعـ.ـب على وجهها جعله يتابعها بدهشةٍ، بدى إليه وكأنها ترى شبحًا أمامها.

لوهلة شعر بأن به خطبًا ما، فاستدار تجاه اللوح الزجاجي من خلفه يتفحص ذاته ليتأكد من سلامة مظهره.

وحينما لم يجد شيئًا غريبًا استدار تجاهها يتساءل بقلقٍ: حضرتك كويسة؟

لم تجيبه وكأنها لم تسمعه من الاساس، تركيزها منصوب على اللوحة المضيئة أعلى المصعد، تعد الطوابق المتبقية للنجاة من هنا.

إن كانت تعلم بأنه سيصعد برفقتها لما كانت استلقت المصعد حتى وإن كانت ستمـ.ـو.ت تعبًا، ارتعشت يديها بشكلٍ ملحوظ، ضغطها العصبي على الحقيبة بين يديها جعل حركت جسدها تهتز بعنفٍ، وفجأة توقف المصعد بهما، وكأن الظروف تكاتفت لتصيبها بنوبة شرسة.

تراجعت فاطمة للخلف بذعرٍ، فتنحنح حسام وهو يتجه للهاتف الموضوع جوار اللائحة قائلًا ببسمةٍ يرسمها بالكد لغموض تلك الفتاة: الظاهر إن في مشكلة، بس متقلقيش المشاكل دي بتتحل في دقايق.

لم تكن تسمعه من الأساس، كانت ترى فحيح الماضي السام يتسلل لها رويدًا رويدًا، بقائها بمكانٍ محكم كهذا برفقة رجلًا كان أسوء حلمًا لا تتمنى أن يزورها.

تحدث حسام مع الأمن والعاملين بالأسفل وأكدوا له بأن المصعد سيعمل خلال ثلاث دقائق كحد أقصى، فوقف بعيدًا امام باب المصعد بالتحديد ليضمن بقائها بحرية عنه.

تسلل لها ظل لثلاثٍ رجـ.ـال، هم نفسهم من قضوا عليها بدmٍ بـ.ـارد، أحدهم يمزق ثيابها، والأخر يلطم وجهها لتكف عن الصراخ، بينما ثالثهم كان يقيد حركتها الشرسة، تخدر جسدها ولم تعد ساقيها تحملها، فجلست على ركبتيها تنتفض بقوةٍ جعلت جسدها كالهيلام المتحرك.

جسدها حاضر وعقلها غائب، ها هي هنا بينما روحها تعـ.ـذ.ب هنالك، بين ثلاث ذئاب بشرية، ينهشون لحمها دون رأفة بصراخها، دmائها تنهمر من بين مخالبهم وقلوبهم قد تغلفت بحجارةٍ فجعلتهم قساة كالفولاذ.

عاد الضوء للمصعد، فابتسم حسام بفرحةٍ واستدار ليطمئنها، ولكنه صعق حينما وجدها تجلس أرضًا، بأعينٍ جاحظة، جسدها يرتجف بالرغم من إن انعزالهم بالمصعد وضيقه جعل الحرارة ترتفع بشكل جعله يتصبب عرقًا.

ارتبك للغاية وعجز عن فعل شيء، فبقى محله وسألها بتـ.ـو.ترٍ: استاذة فاطمة إنتِ كويسة؟!

ظلت كما هي، وكأنه اليوم غير مرئيًا لها، توقف المصعد بالأسفل، وانفتح بابه حيث كان يقف عُمران بانتظارها.

رآها تجلس هكذا وصوت أنفاسها المحتبسة تعلو دون توقف، هرع للداخل يتفحصها بلهفةٍ، واستدار لحسام يسأله بنظراتٍ قـ.ـا.تلة: مالها؟

إتجه عُمران إليها يناديها: فاطيما، سمعاني؟! أيه اللي حصل؟

كانت تنظر أمامها بصمتٍ تام، انتفاضة جسدها وتمسكها بالحقيبة هو البصيص لأمل أنها مازالت على قيد الحياة، تركها عُمران وهرع إليه يهدر بغـــضــــب: عملت فيها أيه؟!

ابتلع حسام ريقه بتـ.ـو.ترٍ، وحاول استدعاء بحة صوته الهادرة رعـ.ـبًا منه: معملتش حاجة!

احتدت مُقلتيه، واندفع يلف ذراعه حول رقبته بعنفٍ اتبع صراخه: يعني هتوصل للحالة دي لوحدها! انطق يا حسام والا هتمـ.ـو.ت في إيدي!

التقط أنفاسه بصعوبة وقد يكون يلفظ أخرها، فقال بسعالٍ حاد: والله العظيم مجت جنبها يا مستر عمران، هي أول ما الاسانسير عطل وهي بقت بالحالة دي.

تعمق بالنظر داخل حدقتيه فوجد الصدق لا غيره، هدأ عُمران قليلًا فحسام يعمل معه منذ سنواتٍ ولم يرى منه أي شيئًا يدينه أخلاقيًا، حرر ذراعه عن رقبته وتركه يهنـ.ـد.م ثيابه.

خـ.ـطـ.ـف عُمران نظرة حائرة لزوجة أخيه، فوجد أن يمسك العصا من المنتصف لحين تأكده من براءته كاملة، فخرج من المصعد يصـ.ـر.خ بعصبيةٍ: فين الأمن اللي في المخروبة دي؟!

خرجوا تباعًا من غرفة السيكيورتي، فأشار لأحد منهم على حسام: فرغولي كاميرات الاسانسير ده حالًا، وخدوه جوه لحد ما أتاكد من كلامه.

ووجه حديثه إليه بوعدٍ مخيف: ادعي ربنا إنك تكون بتقول الحقيقة لإن لو ثبت عكس ده صدقني هتكون لندن هي قبرك، مش بداية لمستقبلك زي ما بتتمنى!

غادر رجـ.ـالين من الأمن بصحبة حسام، بينما ذهب البقية لتفريغ كاميرات المصعد بسرعةٍ كبيرةٍ خشية من غـــضــــب عُمران الذي يشهده الجميع لأول مرة.

عاد عُمران للمصعد المفتوح على مصرعيه، فوجدها مازالت تجلس محلها، إتجه إليها ينحني قبالتها يناديها بهلعٍ: فاطمة اتكلمي أذاكِ؟ عملك أيه الكـ.ـلـ.ـب ده؟

بقيت كما هي، دmـ.ـو.عها تنساب، عينيها لا ترمشان، جسدها يزيد انتفاضه، اضطر عُمران أن يحرك جسدها عساه تفيق من حالتها الغامضة تلك.

مسك يدها وهو يناديها: فاطمة!

لمسته تلك كانت كالصاعقة التي جعلت عقلها يعود لعمله، هو ليس حُلمًا ووهمًا بل حقيقة، تستطيع الشعور الآن بلمسة يد خشنة تحيط ذراعها، فانتفضت صارخة بصوتٍ كُتم لفترة لا تعلمها، ورفعت كفها تخدش وجه هذا الحقير الذي تجرأ على لمسها.

أصابت أظافرها وجه عُمران ورقبته، فتأوه ألــمًا، ومع ذلك لم يعنيه الا الاطمئنان عليها، فقال وهو يحاول أن يكتف حركتها المنفعلة: فاطيما اهدي أنا عُمران!

كلما حاول السيطرة على يديها كانت تزداد رجفتها ويزيد جنونها، لذا فرق ذراعيه عنها ليجعلها تهدأ، هاتفًا بصوتٍ هادئ: اهدي مفيش حد هنا غيري، أنا بعيد أهو بس اهدي!

تطلعت له كثيرًا وكأنها تتحقق من ملامحه وتتأكد من صحة حديثه، اعتدلت فاطمة بجلستها وضمت ركبتها بيديها إليها، وصوت بكائها يعلو تدريجيًا.

شيئًا داخلها قد حُطم، كانت تظن بأنها تعافت بشكلٍ كليًا والآن عادت لنقطة الصفر مجددًا، راقبها عُمران بحيرةٍ، لا يعلم ما الذي عليه فعله، فاقترب منها مجددًا يناديها: فاطمة.

رفعت عينيها الباكية إليه، فسألها بلهفةٍ: إنتِ كويسة؟

هزت رأسها بالنفي، فعاد يسألها: حسام عملك حاجة؟

تهدل كتفيها بعدm علمها، فتبابع بهدوءٍ واتزان: ولا يهمك المهم انك تهدي، يلا نخرج من هنا، بره هترتاحي أكتر.

حركت رأسها بموافقة لحديثه، فتحاملت على مسند المصعد المطول، فانتابها دوار حاد، جعلها تترك حقيبتها وتضم رأسها بألــمٍ.

انحنى عُمران يلتقط الحقيبة، وسألها: قادرة تقفي؟

أحنت رأسها ببكاءٍ، وهي لا تعلم بما تجيبه، فتح كفه بترددٍ وحذر: تسمحيلي أساعدك؟

وزعت نظراتها المرتبكة بينه وبين يده الممدودة، وبتـ.ـو.ترٍ وقلة حيلة وضعت كفها إليه، فساندها وهو يحرص بقائه بعيدًا عنها قدر المستطاع، تاركها تحتمل على يده وجسده ينفصل عنها بمسافةٍ.

شعرت فاطمة بأنها على وشك الاستسلام للنوبة، فساقيها باتت ثقيلة لا تنصاع إليها، الظلام بدأ يسيطر على حدقتيها بشكلٍ مقبض، مالت بجسدها على ذراع عُمران، فالتقطتها قبل أن تلامس الأرض وهو يصـ.ـر.خ بقلقٍ: فاطمة!

فتحت عينيها إليه ورددت بهمسٍ باكي: متقولش لعلي حاجة، متقولوش!

أجابها وهو يحاول جعلها تستقيم بوقفتها: مش هقوله حاجة. وعد.

أغلقت عينيها مستسلمة للضباب، وبالرغم من ذلك مازالت قدmيها تنساق خلفه، ساندها عُمران لاحد غرف الأمن، وضعها على الفراش وسحب أحد الاغطية يداثرها جيدًا.

اغلق باب الغرفة وأشار لأحد الرجـ.ـال الذي تتبعه للداخل: خليك قدام الباب هنا، وأوعى تدخل جوه لو حصل حاجة تيجي تبلغني أخر حل تعمله دخولك جوه ليها فاهم؟

هز الاخير رأسه يجيبه: تحت أمرك يا باشا.

إتجه عُمران للغرفة المتحكمة بشاشات المراقبة، ولج الداخل ينحني تجاه احدى الشاشات الموضوعة من امام أحد موظفي الأمن يشير له بأنه قد حلل المقطع المطلوب.

طالبهم عُمران بالخروج وظل بمفرده يراقب ما حدث باهتمامٍ، فوجد أن حسام صادقًا وإنه لم يمسها، لقد انتابتها النوبة منذ دخوله للمصعد، صم كفيه لوجهه وهمس بغـــضــــب: ما في أربع أسانسير غيره ملقتش غير اللي ركبت فيه يا غـ.ـبـ.ـي!

زفر عُمران بغـــضــــب لما كان على وشك فعله به، أكثر ما يزعجه أن يظلم أحدًا يومًا، ترك غرفة المراقبة وإتجه لاحد الغرف السفلية حيث يُحتجز حسام بها.

أشار للحارسين قائلًا: بامكانكما الذهاب.

رحلوا من أمامه، بينما قام هو بفتح الباب وولج للداخل، وجد حسام يجلس على الفراش حزينًا، فجلس جواره وهو ينتهد بضيقٍ، والأخر ينتظر سماع ما سيقول، وحينما تأخر حديثه قال بحـ.ـز.ن: راجعت تسجيلات الكاميرات يا باشا.

ضم شفتيه يعتصرهما بألــمٍ، واستدار إليه يمنحه نظرة حزينة، ودون أي مقدmـ.ـا.ت ارتفع برأسه يقبل جبهة حسام مرددًا بحرجٍ: حقك عليا يا حسام، أنا غلطت في حقك.

وتابع بنـ.ـد.مٍ: انت شغال معايا بقالك أربع سنين مشفتش فيهم منك حاجة وحشة بس صدقني كان غـ.ـصـ.ـب عني، فاطمة حالتها كانت صعبة وأي شخص مكاني كان ظن فيك كده.

هز رأسه بابتسامةٍ هادئة: عارف ومقدر ومش زعلان من حضرتك، المهم إن الهانم بخير.

ربت على ساقه بامتنان لتقبله أسفه قائلًا: بخير الحمد لله، وعشان جدعنتك دي أحلى مكافأة هتتصرفلك ومش بس كده إنت مش كنت مقدm على اسبوعين اجازة عشان فرحك، مني ليك فوقهم اسبوعين للمالديف بتذاكر محجوزة واقامة جوه الفندق على حسابي، ها مرضي يا عم؟

اتسعت ابتسامته بفرحةٍ ونهض يحتضنه بسعادةٍ، ربت عُمران على ظهره هامسًا: ربنا يفرحك يا عريس، أينعم هتفخت الاربع اسابيع دول من غيرك لإن صعب حد من السكرتارية يفهم دmاغي زيك بس عشان خاطر العروسة نستحمل.

تعالت ضحكاتهما الرجولية، فابتعد عنه عُمران وطرق على كتفه بقوة وصرامة مضحكة: يلا بقى على بيتك هتقف تحكي معايل لنص الليل وأنا مش قادر أصلب طولي، مانت بروح أمك هاريني من الصبح ملفات وشغل متكوم من سنين!

برق بدهشة من تحوله السريع الذي من المفترض أن يكون اعتاد عليه، فمازحه عُمران: هتمشي ولا أطلق كلابي الصعرانه عليك!

جذب جاكيته الملقي على الفراش وهرول من أمامه قائلًا بضحك: تصبح على خير يا مستر عُمران. أشوفك بكره.

ودعه عُمران وما أن تأكد من رحيله حتى عاد لغرفة فاطمة مهمومًا، لا يعلم كيف سيتعامل معها الآن، حالتها تزداد سوءًا، رجفتها، اختناق تنفسها، كل تلك الامور جعلته عاجزًا.

أخرج هاتفه من جيب سرواله وهو يهمس بسعادة كأن الحل كان غائبًا عنه: علي! أكيد هيساعدني وهيقولي أتصرف ازاي!

حرر زر اتصاله، مرة، اثنان، ثلاثة اتصالات وهاتفه كل مرةٍ خارج نطاق التغطية، عساه يعلم بأنه الآن على متن الطائرة لذا لم يستطيع الوصول لخطه المصري.

مرر يده على جبينه بتعبٍ، لا يعلم ماذا سيتوجب عليه فعله الآن، جاب الطرقة الخارجية ذهابًا وإيابًا حتى استقر بتفكيره على يوسف صديقه، هو المناسب الآن لحالة فاطمة.

اتصل به عُمران فاذا به يجيبه بمرحٍ: شكلك كده غيرت رأيك وهتيجي تسهر معايا أنا وجمال، احنا بعتنا سيف يجبلك أكل جاهز هتصل بيه وأخليه يزود عشانك.

أكل أيه يا يوسف، بالله عليك ركز معايا.

في أيه يا عُمران قلقتني!

فاطمة مرات أخويا تعبانه جدًا ومش عارف أروح فين؟

تعبانه مالها يعني!

زفر بغـــضــــب، لم يكن يود كشف سرها لأحدٍ، فاكتفى بقوله: هي كانت بتمر بحالة نفسية والمفروض انها اتخطتها انا حاليًا في الشركة ومش عارف أروح لمين ولا فين!

خلاص خلاص هاتها وتعالى شقة سيف، وأنا هشوف هقدر أجهز أيه لحد ما تيجي.

أغلق الهاتف ووضعه بجيب بنطاله، ثم مال عليها يناديها: فاطمة. لازم نتحرك. قادرة تقفي معايا؟

كانت تراه صورة مشوشة من امامها، وجدت يد تمتد لها فابتسمت وهمست بحبٍ: علي!

ارتبك عُمران وخشى أن تعامله كزوجها، فأمسك يدها واسندها حتى تمكن من معاونتها بالجلوس بسيارته.

وصل بعد دقائق معدودة لشقة سيف، فوجد يوسف وجمال بانتظاره، عاونها حتى تمددت على الاريكة الخارجية، ففتحت عينيها تحاول التقاط تلك الاصوات المحاطة بها.

ارتعبت فاطمة حينما وجدت جمال ويوسف وعُمران من حولها، يعيد المشهد تجسيد ذاته من جديدٍ، ازدادت النوبة بحدتها، انتفضت بصورة مخيفة، ودmـ.ـو.عها انهمرت دون توقف.

رفعت أصابعها المرتجفة تجاه عُمران تناديه ببكاءٍ: عُمران!

ترك عُمران يوسف وجمال وهرع إليها فقالت بعويلها المؤلم: مين دول؟ أنا خايفة روحني!

ربت على يدها وقال بحنان: متخافيش يا فاطمة ده دكتور يوسف صاحبي، هيحاول يساعدك لاني مش هقدر اروحك كده. متخافيش.

وأشار لجمال قائلًا: معلش يا جمال ادخل اوضتك.

هز رأسه بتفهمٍ وغادر على الفور، بينما دنى يوسف إليها يحاول استكشاف ما يصييها، حدة نوبتها، فجذب أولًا جهاز الضغط يقيسه، فأذا بها تبعد ذراعها برهبةٍ وتتشبث بذراع عُمران، هاتفة بصراخ جنوني: أنا عايزة أمشي.

ومالت برأسها على حافة الاريكة بتعبٍ، تردد بعدm وعي: محدش يقرب، سيبوني!

ابتعد يوسف عنها بدهشةٍ أصابته كليًا، بينما عاونها عُمران على التمدد وهو يهمس لها: متخافيش يا فاطمة انا جنبك، ارتاحي شوية وهنتحرك على طول، اتفقنا؟

وجدها قد انـ.ـد.مست بظلمتها، مغلقة عينيها باستسلامٍ، مددها وأحاطها بغطاء خفيف قدmه له جمال والتقط الورقة التي قدmها له يوسف قائلًا: جمال بسرعة هات الحقنة دي من أي صيدالية بسرعة من فضلك.

أومأ إليه واتجه للأسفل، بينما اقترب عُمران من يوسف يتساءل: طمني يا يوسف، فاطمة مالها؟

رفع عينيه إليه وقال مندهشًا: عُمران هي فاطمة حد اعتدى عليها قبل كده؟

ابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ، وخـ.ـطـ.ـف نظرة حزينة لها ثم قال: يوسف أنا مينفعش أتكلم معاك في حاجه تخص على ومـ.ـر.اته، بس إنت دكتور وفاهم فاعتبر اجابتي واضحة.

ارتسمت ابتسامة متفاخرة على وجه يوسف وقال بذهولٍ: أنا دايمًا بسمع من الدكاترة زمايلي عن شطارة دكتور على وأد أيه هو دكتور ممتاز، النهاردة بس شوفت بعيني إنه عبقري، كون إنه يتعامل مع حالة فاطمة بالشكل والحذر ده يعني إنه أستاذ! حرفيًا أنا مندهش، أنا بالرغم من إن عندي خلفية بسيطة عن الطب النفسي بس أجزملك بنسبة مية في المية إن حالة زي الحالة اللي بتمر بيها فاطمة دي من رابع المستحيلات إنها تتجوز وتعيش مع راجـ.ـل أصلًا!

تأفف عُمران بضيق وهتف يستنكر حالة الاطراء الذي يخوضها يوسف في ظل تلك الظروف: وبعدين يا يوسف، فهمت خلاص ان أخويا دكتور محصلش، اتصرف وشوف هتتعامل معاها ازاي انا أعصابي متدmرة ومش متحمل!

ربت على كتفه بحنان: طيب اهدى، انا بعت جمال يجيب حقنة مهدئة هتاخدها وهترتاح لحد بكره الصبح.

تنهد بحـ.ـز.نٍ وسأله: وده مضمون ولا أيه يا يوسف؟ يعني لو حامل او كده؟

منحه ابتسامة هادئة وقال متفهمًا: متقلقش.

استقبل هاتف يوسف رسائل على حسابه الخاص، فرفع هاتفه ليتفاجئ بأحمد الغرباوي يخبره بتعب مايا وحاجتهم الماسة إليه، رفع بصره عن هاتفه وتطلع لصديقه بحـ.ـز.ن، يراه مهمومًا على زوجة أخيه فماذا اذا أخبره بتعب زوجته؟

اجابهم يوسف برسالة تنص على توجههم للمركز وسيلحق بهم على الفور، وقرر عدm اخبـ.ـار عُمران الآن، يكفيه ما يمر به.

عاد جمال يناوله الكيس البلاستيكي، فأفرغ محتوياته وعبئ الأبرة، ثم دنى إليها.

نوبتها كانت شرسة لا ترأف بها بنومٍ مريحًا، كانت تستفيق لدقيقةٍ أو اقل منها ثم تغلق عينيها لأكثر من خمسةٍ دقائق، فتحت فاطمة عينيها تلك المرة فتفاجئت بيوسف يجاورها، ارتعبت وتراجعت لأخر الأريكة، فما أن مالت للجانب الاخر حتى وجدت عُمران ينحني إليها يخبرها بهدوء: متخافيش يا فاطمة، يوسف هيديكي مهدء وهنمشي على طول، متخافيش.

أمسكت يده تشـ.ـدد عليه برجاء ودmـ.ـو.ع: عُمران. عايزة أمشي من آآ...

سحبت كلمـ.ـا.تها مع انتهاء يوسف من دس الأبرة، فشعرت بدوار مضاعف ونادته بهمسٍ باكي: عُ، مر، ا. ن!

اسمه أخر ما رددته قبل أن تفقد وعيها نهائيًا، استجابة للأبرة، حينما كانت تسترد وعيها وتجد ذاتها بنفس الشقة ونفس الوجوه كانت تناديه عساه يخرجها من هنا، فوجود يوسف وجمال أرعـ.ـبها وجدد من خــــوفها.

باحتباسها بالمصعد مع ذلك الرجل بمفردها، زارتها أصعب نوبة اختبـ.ـارتها، وببقائها بشقة غريبة بوجود شابين لم يتبين اها ملامحهما ولكن وجود عُمران كان داعمًا لجزء من الأمانٍ داخلها، لذا كل مرة يزداد خــــوفها كانت تردد اسمه عساه يفهم عليها ويخرج بها على الفور.

ما أن انتهى يوسف ألقى الابرة بسلة المهملات، وأخبره: المهدئ ده هيخليها تنام لبكره الصبح وهيهديها متقلقش.

رمش بدهشة حينما فهم الامر وقال: يعني أيه؟! هرجع بيها ازاي وهي نايمة بالشكل ده؟

زوى حاجبيه بدهشة: وانت جيت بيها هنا ازاي؟

اجابه وهو يعتصر رأسه بضيقٍ: كان يعتبر مغمي عليها بس كانت ماشية معايا دلوقتي بقى مش عارف هعمل أيه؟

بتلقائية أجابه: خلاص سبها هنا للصبح مدام مش هتقبل تشيلها.

صاح بغـــضــــبٍ: اسيبها فين يا يوسف وانت شايف حالتها دي! لو صحيت لقت نفسها بالمكان ده مش بعيد تمـ.ـو.ت فيها.

تطلع إليها قليلًا يحسم أمره، فانحنى يرفعها إليه وحملها متجهًا للأسفل ولسانه لا يكف عن استغفار ربه لما اضُطر إليه.

عاد بها عُمران وهو يتمنى ان لا يراها أحدًا بتلك الحالة، فأتاه القدر بمفاجأة صادmة فور أن رأى أخيه يقف قبالته وجهًا لوجه.

عاد من شروده على صوت تأوهات زوجته الخافتة، فاتجه يجلس جوارها، يناديها بلهفةٍ: حبيب قلبي اللي مدوخني وراه من أول شهر حمل، وبعد كده الله أعلم هنام فين تاني؟!

منحته ابتسامة ساحرة، ورددت بعدm تصديق: عُمران!

مال إليها يبعد خصلات شعرها بعيدًا عن عينيها وهمس بحبٍ: أه على اللي بيحصل لعُمران لما بيشوف الابتسامة والجمال ده كله، خفي على قلبي الاغراء مش مفيد لا له ولا ليكِ صدقيني!

لكزته بيده بضيقٍ: اغراء أيه اللي بتتكلم عنه، أنا بمـ.ـو.ت!

ارتعبت معالمه وانحنى يقبل كفيها بحبٍ: ألف بعد الشر على حبيب قلبي وعيوني، طيب يرضيكِ تمـ.ـو.تي ومالقيش حد أدلعه وأقوله حبيب قلب جوزه! طيب فين فضولك إنك تشوفي انتاجنا يا مايا، مش حابة تشوفي البيبي هيطلع لمين؟

ابتسمت رغمًا عنها على حديثه، فمال يستند برأسه على رأسها ومازال همسه الدافئ يتردد: يا ترى هتطلع بـ.ـنت هادية ورقيقة ليكِ، ولا ولد مشاغب ووقح زيي؟!

صرخت بانفعالٍ: لأ. كفايا عليا إنت. حبيبي لازم تعرف إن أخر حاجة بتمناها ان ابني يطلعلك، آه ممكن يكون عندي حلم بسيط إنه يورث عنك شياكتك واهتمامك بنفسك لكن كشخصية يؤسفني اقولك إني بتمنى ابني يطلع في أخلاق وهدوء على أخوك، عشان كده لو ربنا كرمني بولد هسلمه لعلي من على باب العمليات بره، مهو انا مش ست مفترية عشان أرازي الخلق بنسختين اوقح من بعض.

جحظت عينيه بصدmةٍ مضحكة، فتابعت تشير بيدها بسخرية: ثم آنك سبق وقولتلي إنك قطعة نادرة مالهاش كتالوج! لو اتكررت تاني يبقى إنت مش نادر وجودك يا عُمران يا غرباوي!

تعالت ضحكات عُمران بصخبٍ، فضمها إليه وصوت ضحكاته جعلتها تشاركه الضحك، تمدد جوارها وحملها لتغفو على صدره، فأخذ يربت على شعرها بهدوء سيطر عليه.

خشيت أن يكون انزعج من حديثها، فرفعت رأسها إليه تسأله بخــــوف: عُمران إنت زعلت مني عشان قولت إني عايزاه يطلع لعلي، أنا بهزر على فكرة وآ.

أحاطها إليه وقال بابتسامة سحرتها: بس أنا نفسي بتمنى إنه يطلع لعلي يا مايا، وحتى لو مكنتيش بتهزري أنا مش أهبل عشان ازعل منك في شيء زي ده، لإني أكتر واحد عارف طبيعة علاقتك بعلي، عارف أد ايه بتحترميه وبتعتبريه أخوكي الكبير، وكنت دايمًا بستغرب ليه نظرتك ليا مختلفة عنه واحنا تقريبًا متربين سوا.

تعمقت برماديته وسألته باستياءٍ: وعرفت؟

اتسعت ابتسامته ومال إليها يقبل جبينها: عرفت إن ليا مكانة صعب حد يأخدها. صحيح زمان كنت غـ.ـبـ.ـي وأهبل بس دلوقتي قلبي وأنا كلي ملكك يا مايا!

تعلقت به وهمست إليه بعاطفة: أنا بحبك يا عُمران، متبعدش عني ممكن؟

دفن رأسها بصدره وقال وهو يغلق عينيه استسلامًا للنوم بين ذراعيها: ولو بعد مـ.ـو.تي روحي مش هتفارقك!

استجابت لنومٍ هادئ بين ذراعيه، متناسية آلآم جسدها بينما تناسى هو و.جـ.ـع قلبه الدامي، كلاهما يستمدان قوتهما من حبهما الذي ازداد بحملها لجنينٍ يشهد على عشقٍ ترسخ بينهما!

خرج من الحمام بعدmا اغتسل بحمامٍ بـ.ـارد غير مباليًا ببرودة الاجواء، جلس على يتطلع لها مطولًا، الحـ.ـز.ن والضيق يسيطران عليه بقوةٍ.

نهض عن الاريكة واتجه لخزانته يرتدي ملابسه، بينما بالخارج فتحت عينيها بعد أن قضت أسوء ليلة لها.

تفحصت فاطمة الجناح بنظراتٍ مندهشة، ورددت بصوتٍ خافت وهي تشم ملابسها المحتفظة برائحته: علي!

خابت آمالها حينما لم تجده بالغرفة، فضمت قدmيها إليها وقالت بحـ.ـز.نٍ: إزاي! أنا كنت حاسة بيه طول الوقت.

لإني كنت جانبك ومسبتكيش غير من دقايق!

اجابها وهو يستند على باب الخزانة مربعًا يديه أمام صدره، ويتطلع لها بابتسامته الجذابة.

أزاحت فاطمة الغطاء وهرولت راكضة إليه تصرخ بحماس غلبه دmـ.ـو.ع فرحتها: علي!

إلتقفها بين أحضانه فتشبثت برقبته بقوةٍ جعلته يرفعها عن الأرض لتكون على نفس مستوى طوله، يهتف بشوقٍ: حشـ.ـتـ.ـيني و  يا فطيمة، حشـ.ـتـ.ـيني و  أوي!

ابعدها عنه وحافظ على ثباته بكل طريقة امتلكها، لا يود اخافتها عما حدث بالامس ولكنه سيمـ.ـو.ت قهرًا إن لم تقص له سريعًا ما حدث لها.

فور ان تقابلت عينيها به، رددت بتلعثم وحيرة فيما يفترض قوله: حمدلله على سلامتك. إنت جيت أمته؟!

ضم جانب وجهها بيده: جيت امبـ.ـارح.

رمشت بخــــوفٍ ملحوظ، بينما هو يدرس كل تفاصيلها، فهتفت بتـ.ـو.تر: امبـ.ـارح. آآ. أمته؟

قال ومازالت ابتسامته الثابتة على وجهه: بليل يا فطيمة، واستغربت جدًا لما لقيتك نايمة بلبس الخروج وبالححاب كمان.

وبذكاءٍ يمتلكه كطبيب قال: للدرجادي تعبتي بالشغل حتى مقدرتيش تغيري هدومك؟

استدارت تجاهها تنفي بـ.ـارتباكٍ اقلقه: لأ يا على متعتبش من الشغل أنا بس كنت آآ، آآ...

ضم وجهها بيديه معًا وبحنان واحتواء قال: اهدي حبيبتي أنا مقصدش حاجة أنا بكلمك عادي.

أبعدت يديه عنها واتجهت للاريكة تجلس بتيهةٍ، وفجأة بكت بكاءًا مزق قلبه بين أضلعه، فلحق بها وانحنى قبالتها يتساءل بقلقٍ: في أيه يا فاطمة؟ احكيلي يا حبيبتي إنتِ عمرك ما خبيتي حاجة عني.

اعترضت على طلبه بالحديث وقالت: خايفة أحكيلك يا علي.

لعق شفتيه الجافة بلعابه وهو يحاول الاتزان بمعالمه وطريقة حديثه، بداخله وحشًا عتيًا يدافع عن أخيه بكل ذرة يمتلكها، لا يريد سماع اي شيء يدينه، عقله الذكي يخبره بأنه الاحتمال الأخر، ربما ستخبره بأن ذلك الحقير حاول مضايقتها وحينها يتعهد بأنه سينفيه من على وجه الحياة.

جلس على جوارها، ومسد بإبهامه على يدها قائلًا ببسمةٍ يجاهد لبقائها: خايفة مني أنا يا روح قلب علي، ده أنا عمري ما اتعاملت معاكي بشكل يخليكي تخافي وتقلقي من الكلام معايا.

تقابلت عينيها المتورمة بعينيه وقالت ببكاء: أنا مخفتش يا علي، أنا لسه زي ما أنا.

وانهارت بالبكاء الحارق تخبره بجمل غير مرتبة تخرج بها اختصار لما يتردد لذاكرتها رويدًا رويدًا: امبـ.ـارح ركبت الاسانسير لوحدي، وبعدين ركب معايا السكرتير بتاع عُمران، الشاب ده مشفتش منه أي شيء وحش يا علي، بس بمجرد ما بقيت معاه لوحدنا في الاسانسير وكل شيء اتهدm جوايا، كنت فاكرة إني بقيت قوية يا على بس دي كانت كدبة كبيرة اوي بكدبها على نفسي.

ارتكن بظهره للاريكة يلتقط انفاسه براحةٍ كبيرة، بددت كل شكوكه المؤلمة، يغلق عينيه باسترخاءٍ اتخذ منه دقيقتين حتى استعاد كامل صلابته، فعاد يستقيم بجلسته إليها، يضمها بحبٍ ويمسد عليها: الكلام ده مش صح يا فاطمة لو متعالجتيش ازاي قدرتي تتقبليني كزوج ليكي؟ ازاي قدرتي تتأقلمي بعيشتك معايا هنا ومع عيلتي؟ ازاي قدرتي تتقبلي عُمران وتتقبلي تنزلي معاه الشركة وتساعديه؟

وأبعدها ليجعلها ترى عينيه بوضوحٍ: اللي حصلك دي مشكلة بسيطة وهتتخطيها، بس بعدها مش هترجعي لنقطة الصفر، هيكون موقف مش لطيف في ذكرياتك لكن مش هيكون له توابع.

هزت رأسها بابتسامة صغيرة، فجذبها لاحضانه مجددًا، فوجدها تخبره بحرجٍ: أنا اللي مزعلني إني خربشت عُمران جـ.ـا.مد وكنت هضـ.ـر.به وهو بيحاول يساعدني أخرج من الاسانسير! مش عارفة ليه كل مرة بوقع نفسي في مواقف محرجة أكتر من الاول!

أغلق عينيه بقوةٍ حرر بها دmعة انسدلت على وجهه، وقبل أن تصل لكتفها أزاحها وقابلها بابتسامته: لا متقلقيش عُمران مننا وعلينا.

وصل لمسمعه صوت بوق سيارة أخيه، فجذبها على وهو يشير لها على الخزانة: يلا خديلك شاور وغيري هدومك دي، وأنا هنزل أشوف فريدة هانم وعُمران.

انطلقت للخزانة بخنوعٍ، بينما خرج على ينتظر عُمران أمام جناحه الخاص.

ترك عُمران مايا بالمشفى واتجه للمنزل ليبدل ثيابه، وأخبرها بأنه سيعود لها في الموعد الذي حدد لها يوسف الخروج، فلم يتركها الا بعدmا وصلت زينب بعد جامعتها للمشفى للاطمئنان عليها.

رفض الصعود لجناحه وأتجه لغرفة شقيقته بشوقٍ لرؤيتها، ولج عُمران لغرفتها، فوجدها تغفو بعمقٍ.

ضحك رغمًا عنه وهو يتأمل مظهرها الفوضوي، قدmيها بمقدmة الفراش ويده أعلى الكومود، بينما رأسها منسدل أرضًا.

هز رأسه بقلة حيلة أمام جنون تلك الحمقاء، وإقترب إليها، حملها وأعادها بالشكل الصحيح ثم فرد الغطاء من فوقها.

جلس جوارها يمسد على شعرها، ففتحت شمس عينيها بانزعاجٍ، وما ان رأته حتى رددت بنومٍ: عُمران وحـ.ـشـ.ـتني أوي.

رفع حاجبيه بمكر: آه ما أنا عارف يا بكاشة إني وحشتك لدرجة إنك كنتي بتزني ليل نهار عشان ترجعيلي، بس على مين أنا مش هطلعك من البيت ده تاني يابت، هجوزك هنا عشان تكوني تحت عنيا زي فريدة هانم، عجبه الكلام يبقى على بركة الله معجبهوش نرجعله حاجته وكل شيء قسمة ونصيب.

تثائبت بنعاسٍ، وقالت: أنا معاك في كل قرار تتخذه يا بشمهندس، بس سبني أنام أنا بقالي إسبوع مش عارفة أنام هناك من غير أوضتي وسريري، هريح عشر ساعات كمان وبعدها هجيلك ونخطط وندبر مع بعض.

قهقه ضاحكًا، وأردف بخبث: كده تعجبيني، نامي وارتاحي وبعد كده لينا كلام تاني.

وتركها وإتجه لجناحه ليبدل ملابسه، ويستعد للخروج برفقة جمال قبل أن يتجه لزوجته.

تخشبت يد عُمران على مقبض الباب حينما استمع لصوت على من خلفه يهتف: كنت فين كل ده؟

استدار إليه يواجهه بنظرة انطفئ بها وميض الحياة، وقال: خير يا علي، لسه في اتهامـ.ـا.ت تانية حابب توجهها ليا، أعتقد أن زمان فاطيما فاقت وتقدر تعرف منها اللي حصل كله، عمومًا أنا طلبت نسخة تسجيل باللي حصل من السيكيورتي ولما يبعتهولي هبعتهولك تتأكد.

والتفت للباب سريعًا قبل أن يرى دmـ.ـو.ع عينيه، كاد بغلق بابه ولكن قبل ان يفعلها دفع على الباب بقدmيه، وجذب عُمران من جاكيته بعنفٍ، يقول بصدmة: قصدك أيه من كلامك ده؟!

أبعد يديه عن جاكيته وقال بثبات: قصدي معروف ومش محتاج شرح يا علي، نظرة الشك اللي كانت في عنيك دي مش هنساها عمري كله.

وتابع ببسمةٍ ألــم: تعرف إنك أخر واحد ممكن أتخيل إنه يبصلي البصة دي في يوم من الايام!

مرر اصبعه أسفل أنفه وهو يستطرد بو.جـ.ـعٍ: أنا مبقتش مستبعد أي حاجة خلاص.

ودنى عُمران إليه يتطلع لعينيه مباشرة وقال بانكسارٍ: أنا عايز أعرف نظرتك عني أيه يا علي؟ أخوك زمان كان زنى وشرب خمرة ويمكن يكون ارتكب معاصي كتيرة بس عمره ما كان خـ.ـا.ين يا علي!

كاد أن يقاطع حديثه فرفع عُمران كفه يمنعه وهو يستكمل بابتسامة شملت و.جـ.ـع العالم بأكمله: الا الخيانة. سامعني يا على الا الخيانة!
كنت أنا الحائر من بين تجمع العائلة الذي لا يحدث عادة الا بوجود احتفالًا آرستقراطي راقي، والآن أقف حاملًا لعبتي الصغيرة المفضلة، كانت احدى أنواع السيارات التي كنت أحلم يومًا بامتلاكها.

أوجه الجميع كانت حزينة لدرجةٍ جعلتني أرتجف رعـ.ـبًا مما يحدث، ظننت ببدء الأمر أن والدتي قد أصابها سوءًا، ريثما تبكي لهذا، ولكن بعد قليل تسلل لآذني جملة واحدة «لقد توفى سالم»، حسنًا الآن وجدت جوابًا واضحًا لأسئلتي، لقد مـ.ـا.ت أبي!
مـ.ـا.ت وتركني صغيرًا لم يعتاد المضي بين سرداب الحياة المخيف، لم يترك لي نصائح حتى لم يوصيني على شيءٍ ربما لإنني صغيرًا.

لقد حملوه وبعد قليل عادوا دونه، وكأنه مر عابر سبيل بتلك الحياة الفانية، تاركًا من خلفه ثلاث أبناء، وكان هو منهم.
ضمة يد رغم لينها الا أن قوتها أرضخته أن يلتفت لصاحبها، فوجد أخيه يقابله بنظرةٍ لو مر عمرًا فوق عمره لن ينساها أبدًا، وكأنه يخبره بأنه من تلك اللحظة سيصبح أبيه وشقيقه، بالرغم من أن فرق السن بينهما ليس كبيرًا.

ضمته الهاشة بجسده الطفولي منحت عُمران الذي يصغره أمانًا، جعلته ممتن لوجوده الآن لجواره، توالت الأيام ومضى العمر ومازال علي سكنًا، وأمانًا، جابرًا لخاطره وكـ.ـسرته، كان له قبضة قوية تحيطه قبل السقوط بعرجلةٍ ومَزَالِقُ الطريق، حتى ذكرياته شاركه بها بدوره المثالي الداعم له، الخلاصة كلمة لا ثاني لها علي!

ادmج الحـ.ـز.ن مُقلتيه، فكل مقارنة دخلها خرج خاسرًا أمام أخيه، فوجد ذاته يبدل ملابسه ويسرع متلهفًا للأسفل حتى يلاقاه، ألقى غــــرور الطاووس الوقح جانبًا وسعى أن يقدm اعتذاره أولًا حتى وإن كان سيتطلب الأمر للاهانة سيفعلها بالتأكيد.

هبط عُمران للأسفل، متجهًا لغرفة مكتب أخيه، وقف أمام بابه الغير موصود، يتطلع أمامه بـ.ـارتباكٍ، ابتسامة صغيرة شقت طريقها إليه حينما داعبت أنفه رائحة القهوة المميزة التي يعدها أخيه بنفسه، واكتملت اطلالته المعتادة له فور رؤيته يستكين على مقعد مكتبه، هائمًا بأحدى الكتب كما توقع عُمران.

اقترب منه وهو يحرص كل الحرص الا يشعر به، فتفحص اسم الكتاب الذي يستمد كل تركيزه، لم يندهش كثيرًا حينما وجده يقرأ أشعار نزار القباني، فأخيه مهوس بالقراءة حد النخاع، وربما ذلك ما أكتسبه تلك الخبرة التي تفوق عمره عمرًا، علي الحكيم، المتفوق بدراساته منذ صغره، وبالرغم من اتقانه لذلك الا أنه كان يجد أوقاتًا للممارسة هوايته المفضلة القراءة.

كان أكثر ما يقرأ به الكتب المتفرعة بعلم النفس، أفاق من شروده على صوته الساخر ومازال منغمس بقراءة الكتاب: بتفكر ازاي تجبر نفسك تعتذر ولا، جاي تكابر؟
جذب المقعد المقابل لمكتبه الصغير، وجلس قبالته يتنهد بضيقٍ ملحوظ: لا دي ولا دي يا دكتور، وبعدين إنت أيه اللي، جرالك من أمته وإنت مغــــرور كده يا علي؟!

أغلق الكتاب من أمامه، ثم انتزع عنه نظارته الطبية ليمنحه نظرة ساخرة: ومين قال إني مغــــرور؟
رفع عُمران أحد حاجبيه باستنكارٍ: الكلام اللي حضرتك قولته فوق من شوية!

ضم كفيه معًا واستند برأسه عليهما، محدقًا به بنظرةٍ ثابتة: ولما إنت مش مقتنع بكلامي نازل عندي وواقف بقالك ساعة بره ومتردد تدخل ليه؟!
اشرأب الغـــضــــب من رماديته، فردد بغـ.ـيظٍ: بطل تحلل تصرفاتي بعين الدكتور النفسي اللي جواك ده!

ضم علي شفتيه معًا وعاد لمقعده يهزه ببرود: أممممم، شكلك كده مش ناوي تكون ولد مطيع وتعتذر، هتلجئ للعند اللي سايقه على كل اللي حواليك.
استنكر جملته وهدر بانفعالٍ: أيه ولد مطيع دي شايفني عيل قدامك! على أنت مش شايفني كويس ولا أيه؟ ده اللي يشوفني جنبك بيفكرني أخوك الكبير! راعي فرق الاحجام بينا يا دكتور!

لم تهتز به شعرة، وأجابه بابتسامة استفزت الاخير: يا مغــــرور إنت عمرها ما بتتقاس بالعضلات بتتقاس بده.
قالها وهو يشير على عقله، فتنهد الاخير بقلة حيلة: احنا مش في تحدي الذكاء بينا، إنت اللي مصمم تحسيني اني طفل والفرق بينا مش كبير أصلًا!

واستطرد بدهشةٍ غاضبة: وبعدين ازاي تكلمني بالشكل ده إنت طول عمرك متواضع يا علي!
نهض عن مقعده وصوت ضحكاته المسموع يزعج عُمران الذي يشعر وكأنه يتعرف على أخيه لمرته الأولى.

إتجه إليه علي، بجلس قبالته على المقعد، ودنى بجسده تجاهه يقول بهدوء: عُمران لو الفرق ما بينا شهرين حتى فمش هتنكر حقيقة إنك حطتني في مكانة بابا الله يرحمه، فتقدر تقول إني اللي مربيك ده أولًا، أما اجابة أسئلتك الكتيرة عن غــــروري اللي اكتشفته مؤخرًا فده بيتلخص في جملة تلخص اللي مدفون ورا تربيتي للطاووس اللي فاكر هيتواقح عليا!
زوى حاجبيه متسائلًا بسخريةٍ: وأيه هي الجملة دي بقى يا دكتور علي؟

عاد للخلف يضع قدmًا فوق الاخرى وببسمةٍ خبيثة قال: أنا بابا يالا!
راقبه عُمران قليلًا بصدmة، وبعدها تحررت ضحكاته والاخير يشاركه الضحك بقوةٍ أدmعت عينيه، وبصعوبة قال عُمران: هما عملوا فيك أيه في مصر؟ ده مكنش أسبوع ده؟!

قهقه ضاحكًا وقال: سيب المدفون مدفون جوايا وخليني ملهي بالكتب بدل ما أكرهك في اليوم اللي حاولت تكون فيه مغــــرور ووقح! فاعقلها كده بالعقل يا بشمهندس!
غادرت ضحكاته وجهه الوسيم، وقال بجدية تامة: على متزعلش مني على الكلام اللي قولتهولك فوق، أنا بس الموقف كله كان مخليني متـ.ـو.تر، حاولت اتصل بيك أكتر من مرة على رقمك المصري، ولما معرفتش أوصلك ملقتش غير يوسف اللي ممكن أمنله على حالة فاطمة.

عاد لجديته التامة، وأجابه بحبٍ: مش زعلان من اللي حصل أكتر من تأثري بكلامك عن نفسك يا عُمران، ليه دايمًا شايف نفسك وحش وبتحاول تظهر عيوبك اللي خلاص ربنا سبحانه وتعالى ستر عليها تقوم إنت تكشف ستره! كل مشكلة ترجع للماضي ليه؟!

انحنى برأسه للأسفل بحـ.ـز.نٍ التهمه دون رحمة، فقرب على مقعده منه وقال بعد تفكيرٍ ذكي: عُمران إنت اتعرضت لموقف من قريب فكرك باللي حصل زمان عشان كده أخدت الأمور بحساسية زيادة عن اللزوم؟

رفع عُمران ذراعه ونهض، هادرًا بصدmة زائفة وهو يتطلع لساعته: أووبس إتاخرت على جمال جدًا، ده هينفخني أوي ما يشوفني.

بنفس ثباته وجموده ردد: اقعد يا عُمران.

جلس محله مجددًا ينتهد بقلة حيلة، وبضجرٍ قال: على وحياة الست الوالدة عندك يا شيخ تبطل تمارس مهنتك المعقدة دي عليا، أنا مش مـ.ـجـ.ـنو.ن ولا بعاني من أي مشكلة الحمد لله.

أشار على ذاته باستنكارٍ خبيث: أنا! ليه بتقول كده يا عُمران شايفني قولتلك قوم إرتاح على الشازلونج أو حاولت أهديك وانت بتشـ.ـد في شعرك! أيه اللي يمنع الأخ يدردش مع أخوه شوية ولا ده حرموه على الدكتور النفسي!

مرر يده على جبينه بـ.ـارهاقٍ وقال: وبعدين معاك بقى يا علي، بقولك متأخر على صاحبي! ولا إنت عشان معندكش أصحاب مش فارقلك!

يعلم بما يحاول ذلك المتحاذق فعله، ومع ذلك حافظ على اتزانه ببراعةٍ: مين قالك إني معنديش اصدقاء؟ وبعدين مش معنى إني معرفتكش عليهم زي ما انت بتعمل يبقى معنديش! مش شرط إنك تنتظر رد فعل مماثل ليك من الشخص اللي قدامك.

تغاضى عن جملته الطويلة، وقال بنزقٍ: ومعرفتنيش عليهم ليه بقى؟

ابتسم بخبثٍ، ودنى إليه يردد بجدية زائفة: وتفتكر هقولهم أيه؟ يا مساء المربى أقدmلكم أخويا اللي عايز يتربى!

احتدت نظرات عُمران إليه، وهدر منفعلًا: ونسيت تضيف إن في جواه بلطجي مدفون، وشكله كده هيطـ.ـلقه دلوقتي!

وضع ساقًا فوق الاخرى، ومال على يده يتفحصه بنظرة هادئة: خلينا نتكلم في المفيد، هتعتذر شفوي ولا تحريري؟

يحاول قدر الامكان احتباس غـــضــــبه داخله، فابتسم على واعتدل بجلسته قائلًا: مفيش داعي لاعتذارك أصلًا، الهزار التقيل ده كله عشان أخلص حقي منك لإني متغاظ وهطق من طريقة تفكيرك الغـ.ـبـ.ـية، قوم يا عُمران عشان متتأخرش على جمال، واطمن عمر ما مشكلة تافهة زي دي هتفرق بينا أو هتخليني أزعل منك.

ونهض يتجه لمقعده الرئيسي، يعود لكتابه من جديد، فإذا بالاخر يقترب منه، وانحنى يقبل رأسه وهو يردد بنـ.ـد.مٍ: لا أنا غلطت يا علي، حقك عليا أنا والله كنت خايف إن فاطمة تفقد الثقة فيا، ومكنتش عارف هي مش عايزة تبلغك ليه؟

ضمه على إليه وقال بحبٍ: يا أهبل أنت أخر شخص في الكون ممكن أتوقع منه الخيانة، خلاص بلاش نتكلم في اللي فات آحنا في النهاردة.

اتسعت ابتسامة عُمران، فقال على بحنانٍ: روح لصاحبك وأنا هعدي على المركز لو اتاخرت كلمني وأنا هرجع مايا معايا.

هز رأسه وفرحته تعيد البهجة لحدقتيه، حنان علي المفرط لطالما أشبع النقص الذي يخوضه عُمران، وكلما اعتمره الحـ.ـز.ن والضيق في كل مرةٍ واجه بها الصعاب وجد أن الأمور لا تحدث الا لتعلقه بأخيه وتزيد من رابطهما.

انحنى يلتقط فنجان أخيه، ارتشفه بجرعة واحدة وأشار له يودعه، وزع على نظراته البائسة بين أخيه الذي يغادر وبين فنجانه الفارغ، فزفر بيأس من تغيره ثم عاد لنظارته وكتابه.

سرقته أبيات الشعر وألقته بمغارتها الثمينة، يكتشف كنوزها ويجني ما يتلقفه، وحينما لمسته أبياتًا منها حتى وجد معـ.ـذ.بة فؤاده ترنو إليه، متسائلة ببسمتها الرقيقة: بتعمل أيه يا دكتور علي؟

مد يده لها فوضعتها بكل حبٍ، مرر ذراعه من فوق المكتب، فحملت طرف فستانها الوردي وانساقت خلف حركة ذراعه حتى باتت تجاور مقعده فابتعد للخلف وجذبها تستند على المكتب من أمامه، تقابل نظراته الهائمة بجمالها الرقيق، وهمس لها بصوتٍ قشعر جسدها استجابه إليه: ثُوري!

أحبّكِ أن تثُوري، ثُوري على شرق السبايا والتكايا والبخُورِ، ثُوري على التاريخ، وانتصري على الوهم الكبيرِ، لا ترهبي أحداً فإن الشمس مقبرةُ النسورِ، ثُوري على شرقٍ يراكِ وليمةً فوقَ السرير. (نزار قباني).

وتابع بابتسامةٍ: شوفتك بين سطورها، حسيت إن كل كلمة موجهة ليكِ، حفظتها بقلبي قبل عيوني.

أطبقت أصابعها بين أصابعه بقوةٍ، كأنها تضمه، فاستقام بوقفته واقترب منها يردد بابتسامةٍ خبيثة: حاسس إنك مفتقدة الأمان في بعدي، فأيه رأيك تقربي؟

كانت مرحبة لما هو شعر به، فضمها إليه تستمد طاقتها الأمنه منه، رائحته، دفئه، تفتقد كل شيءٍ به.

تعلقت به بقوةٍ، وهمست بصوتٍ منخفض: وجودك جنبي بعد اليوم الصعب ده كان الخلاص ليا من العـ.ـذ.اب اللي هشوفه يا علي، خايفة أحتاجك ومتكنش جنبي، أوعدني إنك مش هتسبني تاني.

أبعدها عنه وأحاط وجهها بيده فصرخت وهي تضم وجهها بألــمٍ، أبعد يده وسألها بفضولٍ اعتلاه منذ أمس: اللي في وشك ده من أيه يا فاطمة؟

لعقت شفتيها بـ.ـارتباكٍ، فقال بهدوءٍ: هنرجع للخــــوف تاني! عمرك ما هتلاقي حد يفهمك غيري يا فاطمة فمتتوقعيش إني ممكن أتضايق منك أبدًا.

ابتلعت ريقها الجاف وقالت بحرجٍ: مكنتش شايفة حد قدامي غيرهم يا علي، مكنتش سامعة عُمران ولا حاسة بيه، وبعد كده لما ابتديت أفوق كنت ببعده عني لدرجة اني جـ.ـر.حت وشه فأكيد الجـ.ـر.ح اللي في وشي ده وهو بيحاول يسيطر عليا.

طوق رقبتها بيده وقربها إليه مجددًا، فتعلقت به بسعادةٍ كونه لم يتعمق بالحديث عما يحـ.ـز.نها، ووجدته يخبرها بحنان: عدت ومش هتتكرر تاني يا قلب علي!

انتهى آدهم من وضع مقادير الكعك بالخلاط الكهربي، ومازال يتابع على شاشة اليوتيوب الطريقة، فأتى آيوب من خلفه يحمل ثلاثة صواني مستديرة، يسأله بجدية تامة: ها يا آدهم أيه يناسبك في دول؟

شمله بنظرة ساخرة، وصاح بتهكمٍ وهو يلقي الملعقة جانبًا: يعني فلحنا في مقادير التورتة عشان تطلعلنا في مقاس الصينية يا آيوب!

ضحك آيوب حتى أحمر وجهه، وردد بصعوبة بالحديث: أيه الاستسلام السريع ده يا حضرة الظابط؟

هز كتفيه بغـ.ـيظٍ: أنا اللي مش فاهم اصراره الغريب إني أعمله تورته بنفسي! كان زماني طلبتها من أي محل شيك وانتهينا!

جذب الملعقة وقال وهو يعيد الحاسوب مستكملًا الطريقة بدلًا منه: والدك بيحبك وبيتدلع عليك فيها أيه دي؟!

مال على الرخامة المربعة التي تتوسط مطبخه الضخم هامسًا بضيق: وإنت الصادق واخدني كوبري عشان يجيبك هنا كل يوم!

بتقول حاجة يا آدهم!

تساءل آيوب بدهشةٍ، فسحب الحليب والكريم، ثم بدأ بالخفق ليصنع فوم كريمي لتزين قالب الكعك: كنت بقولك إنت اللي اديت رقمك لبابا وكل يوم والتاني قرفك معانا.

قلب المقادير على الدقيق وبدأ بالخفق، قائلًا: هتصدقني لو قولتلك اني اتعودت على مكالمـ.ـا.ته ولو اتاخر بتصل بيه أنا.

ابتسم آدهم وردد بسخرية مرحة: أيه قصة العشق الممنوع ده؟ لو الوضع واصل بينكم لكده هات هدومك وتعالى اقعد معاه.

تعالت ضحكاته بصخبٍ: كان هيحصل والله بس الحمد لله آديرا عملت حاجة صح في حياتها وحلت الموضوع بيني وبين الشيخ مهران.

رفع آدهم الملعقة يتذوق ما صنع وقال: كنت هاجي اصالحك عليه زي ما عملت معايا أنا وبابا، محلولة يعني.

شاكسه بضحكٍ: عينك للتقيلة يا حضرة الظابط.

وإتجه للفرن الساخن يضع الصينية به، وقال بتريثٍ: بتمنى انها تنجح!

ترك آدهم الكريمة وأشار له مازحًا: متقلقش أنا عامل حسابي.

سأله باستغراب: مش فاهم!

فتح آدهم احدى الخزانات وجذب عُلبة حلوي كبيرة، مغلفة بشريك أسود أنيق، وغمز له بمشاغبة: اتعلمت إن دايمًا يكون في حل بديل وخطة تانية استبن!

نزع المريول عنه بضيقٍ: يعني انت محتفظ بيها وسايبنا نجاهد هنا في سبيل الله! وبالنسبة للمطبخ اللي اتبهدل ده مين هينضفه يا باشا عشان لو كده أخلع بدري بدري قبل الحفلة بتاعتكم دي.

فتح آدهم باب منظفة الاطباق وصاح متفاخرًا: متقلقش في دي. هنلم كل البهدالة دي ونرميها فيها وبقدرة قادر هترجع بتلمع وفريش.

قهقه آيوب بصخبٍ وقال: طيب وبالنسبة لسجادة المطبخ اللي بهدلتها كلها دقيق هناخدها فومين ولا هنلفها كادو لوالدك!

زفر بمللٍ: خلاص يا آيوب مكنتش سجادة يعني!

أجابه بمرحٍ: عندك انت مجرد سجادة، لكن عنده هتبقى ثروة قومية، أصلك متعرفش اللي فيها، انا لما الحاجة رقية بتتعب وأدخل أنضف المطبخ مكانها والقى علبة حلاوة فاضية ولا برطمان مربى مكركبين المطبخ، فبذكائي كراجـ.ـل بيكره الكراكيب وعدm التنسيق ألــمهم وأرميهم في اقرب بسكت زبـ.ـا.لة، تاني يوم بالظبط بقوم من نومي على طبلة صريخ يقطع الخلف وبعدها ممكن تفضل مقطعاني سنتين تلاته، لحد ما الشيخ مهران يتدخل ويروح يشتريلها علبتين حلاوة واربع برطمانات مربى ونقعد أنا وهو نأكلهم عافـ.ـية لحد ما نرجعلها البرطمانات الفاضية!

وتابع والاخر يتطلع له بصدmة: فمش قادر اتخيل رد فعلها لو كنت إنت اللي في بيتنا وبوظت السجادة بالمنظر ده، أقسم بالله محد كان هيعرف يخلصك منها حتى الشيخ مهران نفسه.

انفجر بنوبة من الضحك، فشاركه آيوب هو الاخر، ومصطفى الذي يجلس أمام المطبخ يراقبه دون أن يلفت الانتباه لوجوده.

أخرج آيوب قالب الكعك وتشاركا هو وآدهم بتزينة، وخرجوا معًا لمصطفى الذي قال بابتسامةٍ ملأها الحب: شكلكم فلحتوا.

أجابه آيوب مؤكدًا: الريحة وسمك الكيك وكل شيء يدل على ذلك فاضل الطعم بس يا ولدي العزيز.

رد عليه وهو يتعمق بالنظر إليه: ولو وحشة ومعجنة هأكلها بردو، اديني حتة يا آيوب.

جذب السكين وقطع قطعة مثلثية الشكل ثم قدmها إليه، فتناولها منه بامتنان، بينما اكتفى آدهم بمراقبتهما، فرفع له آيوب طبقًا قائلًا باستهزاءٍ: انت مستني حد يعزم عليك ولا أيه يا آدهم.

مال عليه يهمس بضحك: لا وانت الصادق خايف أكلها وأجري على الانعاش، المفروض إني عريس وداخل على جواز وكده واخد بالك؟

غمس شوكته بقطعة صغيرة، مدها لآدهم فتناولها بابتسامة هادئة، وأشار باعجاب: شكل في شيف مدفون جواك يا آيوب.

ضحك وكاد بأن يشاكسه ولكنه وجد هاتفه يعلو رنينه، وضع الطبق من يده ثم حرر زر الاتصال يجيب: آيوه يا إيثان؟

أتاه صوته اللاهث: آيوب، الواد حمادة العجلاتي اتصل بيا من شوية وقالي إنه شاف معتز طالع العمارة عندكم، شكله عرف بقضية الخلع اللي انت رفعتها عليه وجاي لخديجة، والمصـ يـ بـةإن يونس لسه في الشقة فوق منزلش الشغل، تعالى بسرعة شكلها هتبقى مجزرة!

برزت معالمه ارتباكًا ملحوظ، فهدر مصطفى بقلق: في حاجة يابني؟

دث هاتفه بجيب بنطاله الجينز، وقال وهو يجاهد لثبات ملامحه: مفيش يا والدي ده صاحبي مستنيني تحت البيت، لازم أمشي حالًا وأوعدك هجيلك مرة تانية.

ارتسم الحـ.ـز.ن في مُقلتيه، ولكنه أومأ له دون أن يثير غـــضــــب آدهم: ماشي يا حبيبي، بس يا ريت تعملها وتيجي لوحدك من غيى ما اتصل بيك.

انحنى لمقعده وقبل رأسه باحترامٍ: أوعدك إني هجي من نفسي ومن غير مكالمتك.

تفحصه آدهم بنظرةٍ دقيقة، فوضع طبقه وجذب مفاتيح سيارته: يلا هوصلك.

لا يريد اقماع آدهم بالأمر، يكفيه ما فعله لأجله، فقال: خليك مع والدك يا آدهم، أنا هأخد تاكسي وهروح على طول.

تزايدت شكوكه حول تلك المكالمة التي درس بها انفعالاته جيدًا، فاتجه للخروج قائلًا باصرار: يلا يا آيوب، وعلى الطريق احكيلي اللي بتحاول تخبيه عني!

تراجعت للخلف بذعرٍ حينما رأته يقف أمامها، أغلق معتز باب المنزل، واقترب منها وعينيه تشع بالكراهية والشر، سقطت عنها الحقيبة وتراجعت خديجة للخلف بهلعٍ، جسدها لم يتعافى بعد من تباعات ما تعرضت له على يد ذلك الذئب البشري، وها هو يشهر مخالبه أمامها مرة أخرى.

سابقًا كان ينتابها الضعف والقهر أمامه، بدون يونس كانت تشعر بأنها يتيمة، معدومة، وبوجوده بنفس المنزل التي تقبع به تشعر بقوةٍ غريبة.

لم تشعر باقترابه الا حينما جذب معصمها بقوةٍ، ليطـ.ـلق سبابه الوضيع: بقى انتِ عايزة تخلعيني يا بـ.ـنت ال، ده أنا اللي معلمك تعمليها مع الكـ.ـلـ.ـب اللي كنتِ على ذمته، عايزة تعمليها فيا أنا!

أبعدت يده بقوةٍ لا تعلم كيف افتعلتها: اللي بتتكلم عنه ده أرجل راجـ.ـل أنا عرفته في حياتي كلها، الكـ.ـلـ.ـب ده هو اللي بيتشطر على واحدة ست وبيحاول يبينلها أد أيه هو راجـ.ـل وهو ناقصله حجاب ويبقى واحدة ست.

هوى على وجهها بصفعةٍ جعلت الدmاء تنسدل من جانب شفتيها، فلم تترك له أي فرصة للهجوم عليها، ودفعته بكل قوتها بعيدًا عنها، ثم ركضت تجاه باب الشقة تصرخ مستنجدة بجيران الطابق الذي تقطن به، حيث كان يضم كل طابق ثلاثة شُقَقٌ.

خرج الجيران مسرعين على صوت استغاثتها، فأحاطوا معتز بقوة قبل أن يصل لها، أشارت لها احد السيدات بالخروج من المبنى، لعلمهم بهمجية زوجها المعتادة بالمبنى.

عدلت خديجة نقابها على وجهها جيدًا، وهرولت للأسفل راكضة، فوجدت فارس بطريق صعوده للأعلى، صرخت به: فارس تعالى بسرعة.

ركض إليها الصغير فضمته إليها ووقفت توزع بصره بين الدرج السفلي والعلوي بحيرةٍ، إن هبطت للأسفل سيلحق بها على الفور وستعرض الشيخ مهران وزوجته الحاجة رقية لمشاكلٍ لا غنى عنها.

تعلقت عينيها ببابه الموصود، فتحرك جسدها دون ارادة منها إليه، تطرق بابه بعنفٍ وتارة تدق الجرس، وما أن فُتح بابه ليرى القادm حتى دفعته وولجت بصغيرها للداخل مغلقة الباب وجسدها ينتفض برعـ.ـبٍ بينما تراقب العين السحرية بالباب.

اندهش يُونس من فعلتها، كيف تجرأ على الصعود لشقته ودفعه بتلك الطريقة، وفوق كل ذلك لم تبرر تقف وتراقب الطريق بجراءةٍ جعلته يهدر بغـــضــــبٍ: إنتِ مبتفهميش مش أنا سبق وقولتلك مش عايز أشوف خلقتك تاني! طالعلي وداخلة شقتي بمنتهى البجاحة!

استدارت تجاهه وأنفاسها الهادرة تجعل صدرها يعلو ويهبط دون توقف، وبتوسلٍ قالت: شوية وهطلع بس من فضلك وطي صوتك.

شملها بنظرة مستحقرة وصاح بانفعالٍ: أنا اعمل اللي انا عايزه، مش مستني أخد أوامر من واحدة رخيصة زيك، وحالًا هتطلعي من شقتي ومن بيتي كله.

وأشار عليها بكرهٍ شـ.ـديد: أوعي تفكري إن أسلوبك ووشك القذر ده هتقدري تخدعيني من تاني زي ما عملتي مع ابن عمي والشيخ مهران، يونس الأهبل اللي كنتي ت عـ.ـر.فيه الله يرحمه، اللي قدامك أسوء إنسان ممكن تقابليه في حياتك.

اقتربت منه ووقفت بمسافة معقولة منه، قائلة ببكاءٍ لمع بعينيها وصوتها المتحشرج: يُونس اللي حبيته ممـ.ـا.تش، موجود جواك حتى لو بتحاول تدفنه ومتعترفش بوجوده أنا قادرة أحس بيه وأشوفه.

تهدلت شفتيه بسخرية، وشملها بنظرة جابتها من رأسها لأخمص قدmيها، ومال يهمس لها حتى لا يستمع فارس لما سيقول: مستعد أكون هو لو مفتقداه أوي كده، ومتقلقيش سرك هيفضل في بير ميرضنيش أخرب جوازتك من الآريل اللي متجوازه.

برقت بعينيها بصدmةٍ جعلتها تشعر وكأن روحها قد سُلبت منها عنوة، انهمرت دmـ.ـو.عها وبصعوبة رددت: أيه اللي بتقوله ده؟!

حقيقتك!

قالها بقوةٍ وصلابة، وتابع: حقيقتك اللي مكنتش قادر أشوفها، مهو مش معقول واحدة محترمة جوزها دخل السـ.ـجـ.ـن ترفع عليه قضية خلع وبعد عدتها بيوم ترتبط بواحد تاني الا لو كانت مقضياها معاه من قبل جوازها وكانت مستنية الطريق يخلى ليه، أو يمكن هي اللي عملت فيه كده وساعدت عشيقها في خطته الوضيعة عشان تخلص من جوزها المغفل.

هزت رأسها تنفي بشراسة ما يوجهه لها، فتابع بهدوءٍ مخيف: اسمعي اللي فات اتدفن ولو اتفتح دلوقتي مش هتخرجي من هنا على رجلك، فخدي ابنك واتفضلي من هنا.

بقيت محلها دون أن يهتز لها جفن وقالت: مهما حاولت تبين كرهك ليا، عمرك ما هتنجح يا يونس، إنت لسه بتحبني وآ.

صرخ بجنونٍ وعصبية بالغة: كنت بس وحياة كل نبضة نبضها قلبي ليكِ لأخد حق كل يوم قضيته وأنا مخلص لحبك، أقسملك إني هكـ.ـسر قلبك زي ما كـ.ـسرتي قلبي، وهدفن جواه حبك الأعمى. هزله بكل دقة دقها لواحدة رخيصة وخـ.ـا.ينة زيك!

وتابع وعينيه لا تحيل عنها: هدفن اللين والرأفة اللي جوايا ومش هيكون عندي ليكي غير جبروت وقسوة وكره، هنتقم للأيام اللي قضيتها بين أربع حيطان عاجز وموجوع من اللي عملتيه.

وفتح باب شقته صارخًا بغـــضــــب: اطلعي من هنا ومتورنيش وشك تاني لا انتي ولا ابنك!

هرعت راكضة تغلق الباب وتتخفى خلفه برهبةٍ، فتعالت شهقات بكائها الواصل لإذنيه رغم أن ملامحها مختبئة خلف نقابها الأسود، ويدها تضم صغيرها المتمسك بساقيها برعـ.ـبٍ من خوض تلك الأحداث المضطربة، تحرر صوتها أخيرًا تتوسل له باكية: أبوس إيدك متخرجنيش دلوقتي. أوعدك إني هخرج من حياتك ومش هضايقك تاني لا أنا ولا ابني بس استنى لما معتز يمشي من العمارة وهخرج على طول. لو شافني هنا هيأذيني!

ابتسامة ساخرة تسللت على شفتيه، فطوفها بنظرةٍ مستحقرة جابتها من رأسها حتى أخمص قدmيها.

تراجعت للحائط من خلفها وهي تبتلع ريقها برعـ.ـبٍ من نظراته الغامضة، فانحنى بقامته الطويلة ليصل إليها وحرر صوته المبحوح من فرط صراخه بها: ولو قــ,تــلك تفتكري هيفرق معايا!

وجذب ذراعها واتجه ليفتح بابه فترجته باكية وهي تضم صغيرها إليها: بالله عليك وحياة أغلى حاجة عندك!

استدار لها ويده تشـ.ـدد حول معصمها بقوةٍ جعلتها تتأوه ألــمًا، بينما يهتف هو بجمودٍ: مـ.ـا.تت. أغلى حاجة في حياتي مـ.ـا.تت واندفنت ومبقاش ليها رجوع تاني.

وانهى كلمـ.ـا.ته وهو يدفعها خارج شقته، يطالعها بنظرة حملت كره وحقد لم تتوقعه يومًا، فاحتضنها صغيرها وهو يبكي بانهيارٍ بين ذراعيها وانتقل كل شعورٍ بالحب تجاه يُونس داخل الصغير إلى كره شـ.ـديد لما يتسبب به لوالدته، فتركها أرضًا واندفع تجاه ذاك العملاق يسدد له ركلات بساقيه الصغيرة وهو يصـ.ـر.خ بها ببكاء: أنت وحش وحش. أنا بكرهك!

أخر حاجة كنت أتوقعها انك جوه عنده يا بـ.ـنت ال.

صوتًا صاخبًا اقتحم مشهدهم جعلها تنتفض برقدتها، فدفعت جسدها الهزيل للخلف وهي تتطلع لمن يهبط الدرج مسرعًا حينما تسلل له صوت الطفل.

جحظت عينيها صدmة وخاصة حينما جذبها من حجابها بقوةٍ جعلت نقابها يرتخي عن وجهها وصرخ بها باستحقارٍ: عشان كده مكنتيش عايزة ترجعيلي واتجرأتي ورفعتي قضية خلع عليا! وديني لاقــ,تــلك يا فاجرة.

صرخت وهي تحاول تفادي ضـ.ـر.باته القاسية، تصرخ بكل ما فيها عسى ذاك أن يتحرك ذلك القاسي لنجدتها، ولكنها لم ترى بعينيه سوى نظرة مستمتعة لما يقع عليها، ويده تلتف على صغيرها الذي يجاهد لنجدتها من ذلك المتوحش مرددًا ببكاء: ماما، ماماااا.

ورفع الصغير وجهه إليه يتوسل له: ابعده عنها أرجوك!

انحنى بقامته الطويلة ليكون على نفس مستوى الصغير، أحاط وجهه بيديه معًا ومسد على شعره بحنانٍ وهو يخبره: صدقني متستاهلش حبك وخــــوفك عليها، مامتك دي حرباية هتعرف تخلص نفسها وتتلون للون اللي هيرضيه!

وانتصب بوقفته يطالعها بنظرة أخيرة قبل أن يجذبه عنوةٍ ويتجه به لشقته تاركها تعافر بقوةٍ، حتى ارتخى جسدها على الدرج ومع ذلك لم يرحمها، حرر حزامه الجلدي ليلقنها ضـ.ـر.بات قـ.ـا.تلة جعلت الأخير يحارب لأن يغلق بابه وهو يرى ما يفعله ذلك الآرعن، مقيدًا داخله غـــضــــبه العظيم ومطالبة عاجلة للقصاص لما فعله به، يحاول بكافة السبل أن يجعلها تثق بأن حبها قد قُتل داخله.

نظرة عينيها الواثقة بأنه سيهرع لنجدتها قيدته بقسوةٍ ليريها كيف يكون الخذلان؟ يريدها أن تذق القليل مما جعلته يتناوله، ولكنها لم تكن لتشاهد ما حدث له ولقلبه المسكين، صرخاته الصاخبة ليلًا باسمها، تواسلاته المتكررة أن لا تترك يده وتتحلى بالصبر حتى يحرر الأغلال عن يده، فأتته بطـــعـــنةٍ أكثر من سابقتها حينما علم بأمر زواجها منه.

كل ليلة قضاها يتخيلها بين ذراعيه بفراش ذلك الحقير كان يمـ.ـو.ت ألف مرةٍ، لدرجة جعلته يدعو بكل صلاة أن يقبض الله روحه المعـ.ـذ.بة، وها هي الآن قابعة بين ذراع جلادها الذي فضلته عليه هو، قهرته وانتزعت رجولته دون رحمة، والآن حان وقت الخلاص لروحه وقلبه المتعبان!

أغلقت عينيها تستعد لمصيرٍ قاسٍ، وقبل أن تطولها أول ضـ.ـر.بة من حزامه تفاجئت بأحدٍ يمسك الحزام بقوة، ويسدد له ضـ.ـر.بة بعصاه الغليظة، تطلعت بصدmة لمن يقف خلفه، فرددت ببكاءٍ خافت: شيخ مهران!

حانت من ذاك الشيخ الموقر نظرة تجاه من يقف أمام باب شقته يتابع ما يحدث بجمود، فاتجه بعصاه العتيقة ليقف قبالته يحدجه بنظرة قـ.ـا.تلة وبخشونة قال: يا خسارة تربيتي فيك! أخر حاجة كنت أتوقعها إنك تقف تتفرج ببرود على واحدة ست عاجزة تدافع عن نفسها.

عاتبه بنظرة مطولة وقال يذكره: أدافع عن دي! انت ناسي اللي عملته فيا. دي أخر واحدة ممكن أدافع عنها، أنا لولا أخلاقي اللي بتتكلم عنها كنت أنا اللي عملت فيها كده مش هو.

قاطعه بطرق عصاه أرضًا صارخًا بعصبية بالغة: يُونس!

ابتلع كلمـ.ـا.ته بجوفه وتحلى بالصمت، نهض معتز عن الارض بغـ.ـيظٍ مما فعله هذا العجوز الكهل، فانحنى يحمل عصاه الملقاة أرضًا واتجه إليه ليبرحه ضـ.ـر.بًا، وما كاد برفعها حتى وجد ثقل جاسم فوق طرفها.

استدار للخلف ليتقابل مع نظرات يُونس المحتقنة، حرر وحشه المعقود بسلساله مطالبًا بالثائر للماضي والحاضر والمستقبل الذي سيحمل وصمة ذلك الحقير بذكرياته.

ألقى يونس العصا أرضًا وقابله بلكمةٍ قاسية أطاحته أرضًا، فلم يترك له فرصة المناص من شراسته، جلس بركبتيه عليه وسدد له لكمـ.ـا.ت متفرقة استهدفت وجهه بأكمله وهو يصـ.ـر.خ به بجنون ودون وعي لما يتفوه به: بتتشطر على الحريم يابن ال، جيت لقضاك برجليك يا، اللي عملته كوم واللي كنت هتعمله في عمي كوم تاني يا حقير، وأقسم بالله لتخرج منها على نقالة.

قال كلمـ.ـا.ته الاخيرة وقد جذبه ليقف قبالته عنوة، يخرج كل ما كبت داخله، ويحركه بعصبية مفرطة: دافع عن نفسك يا سبع الرجـ.ـال ولا خلاص لسانك اتقطع!

سقط جسد معتز أرضًا في حالة من عدm اللاوعي، ومازالت خديجة تجلس على أول درجات الدرج العلوي تضم ابنها وتتابع ما يحدث بابتسامة واسعة، رلما كانت تخشى ذلك المشهد كثيرًا، ولكن بمجرد رؤية ما يحدث لزوجها المعتوه شُفيت جروحها بأكملها، أيامًا وسنوات مضت عليها تختبر بها شعور العجز أمام قوته التي يتباهى بها، وقد أتى يونس يحطم له غــــروره وكبريائه الزائف.

ابتسم الشيخ مهران وهو يرى غيرته وغـــضــــبه الجحيمي، يعلم جيدًا بأنه كان يتحجج ليدافع عنها وحجته قد أتت له على طبقٍ من ذهب، ضـ.ـر.به المبرح لمعتز لم يكن طبيعيًا، أول جملة تحررت على لسانه ذاكرًا ضـ.ـر.به للنساء برهنت سبب غـــضــــبه الحقيقي، ولكن الآن عليه التدخل سريعًا والا سيقــ,تــله.

أسرع إليه وحاول ابعده من فوق جسد معتز، هادرًا بصرامة: خلاص يا يونس، سيبه.

فشل بالفصل بينهما، او حتى باقناع يونس بتركه، كان لا يرى أمامه من فرط النيران التي تلتهمه فتركها تشعل غريمه بحقد دافين.

بالأسفل وخاصة بمطبخ شقة الشيخ مهران.

جلست الحاجة رقية تطوي الأرز بالرقائق، لتصنع أصابع من (المحشي)، ومن ثم تضعها بالوعاء أمامها، مرددة مع صوت الشيخ محمد رفعت لتراجع وردها خشية من أن تنسى حفظها للقرآن الكريم.

حجة ركيا (حاجة رقية)
اقتحم مطبخها المفعم بصوت القرآن المرتفع صوت نداء مضحك من آديرا التي تتابعها بمللٍ، فأخفضت المذياع الصغير الموضوع على الطاولة جوارها، مدmدة باستهزاءٍ: ركيا! الله يسامحك يا آيوب يابني، أنا كنت ناقصة فقعة مرارة!

وتطلعت لها تشير وهي تجتهد لتجعلها تفهم ما تقول: عايزة حاجة؟

عبست بضجرٍ وقالت بعربية مضحكة: أنا عاوز يخرج!

ضحكت رغمًا عنها على نبرتها وهمست: والله كلامك زي السكر وشكلي كده هحبك يابت، بس لو ربنا هداكي وبقيتي على الصراط المستقيم وفكيتك من حوار ي. هودية دي هحبك بضمير.

رفعت كتفيها بضيق: أنا لا أفهم ما تقولينه؟

ورددت بصعوبة جعلتها تشعر بالضيق: الشيخ مهران راحت فين؟

قهقهت ضاحكة حتى احمر، وجهها الممتلىء، ورددت بضحكات مجلجلة: يخيبك ده لو سمعك هيروح فيها!

وحاولت التمسك قائلة بلومٍ: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، طيب دي أتكلم معاها ازاي دي يا ربي، هو أنا فالحة في العربي لما يجيبولي اجبنية!

وجذبت المنشفة تزيح بقايا الطعام عنها وهي تخبرها: استني أما انادي البت خديجة تيجي تترجملك لحسن أنا ضغطي عالي وعندي القولون ملتهب.

وتركت المطبخ واتجهت لغرفتها تتمتم بضيق: والله أنا مش عارفة هأكلها أيه خايفة اديها محشي كرومب تروح فيها وأتسـ.ـجـ.ـن أنا! أبقى أعملها دقية ورق عنب اهو خفيف وهيتهضم معاها مع صاروخ حاجة ساقعة هتبقى زي الفل بإذن الله.

فتحت باب غرفتها وهي تصيح: الله يسامحك يا آيوب يابن بطني!

ورددت تنادي فور رؤية الفراش فارغًا: خديجة، تعالي يا بـ.ـنتي شوفي الخواجاية دي عايزة ايه لحسن دmاغي و.جـ.ـعتني!

لم تجدها حتى بالحمام الملحق بالغرفة، فأسرعت للغرف بأكملها بقلقٍ توغل لها، وخاصة حينما تسلل لها صوت صرخات تأتي من الاعلى.

جذبت حجابها الاسود الطويل وارتدته، ثم خرجت باتجاه الدرج، فتفاجئت بآيوب وصديقه يهرعان للأعلى، أوقفته تسأله بخــــوف: في أيه يا آيوب؟

ربت على كفها وهو يركض للاعلى: مفيش يا ماما، خليكي جوه متطلعيش.

وتركها حائرة وأكمل طريقه للأعلى راكضًا ومن خلفه آدهم، ليتفاجئوا معًا بيونس الذي يلف ذراعه حول رقبة معتز المستسلم للمـ.ـو.ت بعد معاناة بالدفاع عن نفسه للفكاك من يد ذلك الشرس.

كان آدهم الأسرع من آيوب باستيعاب الأمر، وجذب يُونس للخلف بقوة أحكمت سطوتها عليه، حاول المناص منه وهو يصـ.ـر.خ بانفعال: سني همـ.ـو.ته عشان ناري تبرد، هأخد حقي بدراعي!

صاح آدهم بعصبية بالغة وهو يقيد ذراعيه خلف ظهره بتحكمٍ: حقك هيرجعلك أنا وعدتك يا يونس!

ردد بغـــضــــب جحيمي: أنا مش هطاطي قدامه تاني، هقــ,تــله يعني هقــ,تــله. مش عايزك ترجعلي حقي يا باشا أنا اللي هرجعه وبدراعي.

وقف آيوب في مواجهته يردد باندفاع: يُونس آنت مش قتال قــ,تــلة فوووق من الجنان ده، خلاص حقك هتاخده بالقانون مش بالطريقة دي!

وتابع بهدوء يحاول التمسك به: صدقني لو عملتها وايدك طالتها النـ.ـد.م مش هتعرف تعيش ولا هتتقبل اللي إنت عملته، فوق يا يُونس احنا مش شبهه ولا دي تربيتنا يابن عمي!

أثرت كلمـ.ـا.ت آيوب به، فهدأ تدريجيًا، وصل ايثان للأعلى واندفع تجاه يونس يتساءل وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة: في أيه يا يونس، الكـ.ـلـ.ـب ده عملك حاجة؟

استغل معتز وقوف إيثان وآيوب أمام أعين يونس وآدهم والشيخ مهران، واستل من جيبه سكي. نه الصغير المطوي، حرره ونظراته الشريرة تحيط جسد يونس المقيد بفعل قوة ذراعي آدهم القوي.

كان هدفه محدود وملقن، ولا أحدٌ يرى استقامة جلسته وهمه بالوقوف والتقدm تجاهه سوى تلك الجالسة من خلفه على الدرج.

أبعدت خديجة ابنها عن احضانها وانفلتت دmـ.ـو.عها دون أي حديثًا يذكر، نهضت تحتمل على و.جـ.ـع جسدها بصعوبة، ولا تعلم كيف تجسدت قوتها المهدورة إليها، فهرعت راكضة تلقي ذاتها من أمامه لتكن درعًا واقي لصدره المستهدف، تتعلق برقبته بقوة وصرختها تعلو ناطقة بإسمه بجنون: يُونس!

إلتحم خنجره بظهرها بسرعة الريح، وقلبه العاشق طاله النصل قبل أن يطولها، تعلقت عينيه بها ولسانه يهمس بحروفٍ قرأتها باستمتاعٍ وحب: خديجة!

منحته ابتسامة ونظرة لمع بها حبه الصريح، واستسلمت ركبتها لتعانق الأرض أسفل قدmيه.

ذُهل الجميع مما يحدث، وكل شيء يحدث بسرعة لا يستعبها أي منهم، ترك آدهم يونس الذي سقط أرضًا جوارها، وأسرع تجاه معتز يقيد حركته بركبته التي تضعط على ظهره ويديه تتقيد من خلفه.

تعالى صراخ الحاجة رقية بجنون فور رؤيتها لخديجة تجلس أرضًا على ركبتها والدmاء تنهمر من ظهرها بغزارةٍ.

أخرج ايثان هاتفه يطلب الاسعاف بعدmا صرخ به آيوب، أما يونس فقبض على كفها وعينيه الدامعتان تراقبها كأنه يرطم ذاته لتقبل ما فعلته وأصابها.

تمسكت خديجة بكفه ورفعت وجهها إليه تهمس بروحٍ تزهق انفاسها الأخيرة: أنا بريئة يا يونس، والله العظيم ما خونتك ولا عملت كده آآآه، آآنا، آنااااأ...

ابتلعت كلمـ.ـا.تها بصرخة كتمتها بجوفها، فاستقام بجلسته يرفع ذراعيه في محاولة لضمها إليه، ولكنه توقف بعجز أمام حقيقة كونها محرمة عليه.

أجلى صوته الباكي بثبات يجاهد له رغم انهمار دmـ.ـو.عه على وجنته: ليه عملتي كده؟ أنا كده كده مـ.ـيـ.ـت ضـ.ـر.بته مش هتقصر فيا.

هزت رأسها ويدها تكبت جنبها النازف، ناطقة بأنفاسٍ متحشرجة: أنا اللي همـ.ـو.ت يا يونس! مكنش عندي أي دليل يأكدلي إنك عايش، كنت عايشة مـ.ـيـ.ـتة من غيرك فمستحيل هرجع للأيام دي تاني وآ، آآآه.

ترجتها الحاجة رقية وهي تحاول ان تساندها: اسكتي يا بـ.ـنتي انتي تعبانه اسكتي.

مسكت خديجة يد يونس وتابعت لتبرأ نفسها قبل أن تلقي حتفها، بينما الاخير يراقب جـ.ـر.حها الذي يزداد نـ.ـز.يفه بو.جـ.ـعٍ يتلخص بقطرات دmـ.ـو.عه المنهمرة، ليفق على كف يدها ورجائها بأن يستمع لحديثها.

قاطعهم إيثان هادرًا بلهفة: الاسعاف وصلت.

صرخ آيوب بيونس: ساعدها يا يونس مفيش وقت!

أبعد يونس زوجة عمه وحملها سريعًا متجهًا للأسفل، بينما أمسك الشيخ مهران فارس قبل لحاقه بهم، وصراخه الباكي يمزق القلوب.

مالت خديجة على صدره، صرخاتها تخترقه مستهدفة قلبه دون عوائق، يدها مازالت تلتف حول رقبته، همسها يصل له فيويد من بكائه وألــمه: مش إنت لوحدك اللي كنت في السـ.ـجـ.ـن يا يونس، أنا كمان كنت عايشة في سـ.ـجـ.ـن، أنا كمان اتظلمت واتهانت أنوثتي على ايد كـ.ـلـ.ـب عرف ازاي يجبرني إني أبعد عنك ويعيشني عنده زي الجواري.

ورفعت وجهها الثقيل إليه لتتمكن من رؤية عينيه لمرتها الاخيرة فوجدته يبكي ويقول برجاء: كفايا، كلامك هيتعبك أكتر، عشان خاطري اسكتي يا خديجة.

هزت رأسها نافية وبابتسامة شملت معنى مبطن من الو.جـ.ـع قالت: كان بيعت. دي عليا يا يُونس! كان بيستمتع لما بيلاقيني بصرخ وبطلب منه الرحمة!

تهدل رأسها للخلف وأخر ما رددته: قــ,تــل. ني يا يُونس!

ارتخى ذراعيه فاستند بها على حائط الدرج، وانهار باكيًا بصوتٍ يصمم الآذان، يشعر بأنه يفقد قوته حتى بحملها رغم وزنها الذي بات هزيلًا للغاية، هبط آيوب من خلفه يتأمل حالتها الغريبة بدهشة، فصرخ به: انت لسه هنا! هتم. وت في ايدك يا يونس، انزل بسرعة!

استيقظت قوته المهدورة، استعاد عقله بعد جملته، روحه سيخسرها إن حدث لها سوءًا، ضـ.ـر.بته كلمـ.ـا.تها في مقــ,تــل فنهشت المتبقى به، ود لو تركها لآيوب وصعد ينهش لحم هذا المقيت نهشًا.

ضمها يُونس إليه واستكمل الدرج الاخير، فاستقبله رجـ.ـال الاسعاف بالسرير المتحرك، وضعها من فوقه وحزموا الاحزمة من فوقها ومن ثم دفعوها للأعلى.

وقف يونس عاجزًا، يتطلع تجاه مدخل البناية بعزيمة العودة وقــ,تــل ذلك المتبجح وبينها، فإذا بها ترفع رأسها إليه وتفرد ذراعها مشيرة له بعدm تركها.

صعد يونس من خلفهما، وإتجه يجلس جوار الفراش الرفيع الذي يتوسط سيارة الاسعاف، تحركت بهم على الفور والمسعفان يحاولان تقديم الاسعافات الاولية لايقاف النـ.ـز.يف ومنحها قناع الاكسجين الذي رفضته رفضًا قاطع، ومالت بوجهها ليونس تجاهد لنطق الكلمـ.ـا.ت الثقيلة عنها فلقد ازداد و.جـ.ـعها عن سابق وفقدت كل قوتها: يُ. و، نس.

مال إليه باكيًا: حطي المسك يا خديجة، بعدين هنتكلم في كل حاجة يا ست البنات!

ابتسمت بتعبٍ مرهق، وهمست له: وحـ.ـشـ.ـتني الكلمة دي.

سعلت بقوةٍ موحشة، فانحنى بقدmيه أرضًا يتشبث بكفها برعـ.ـبٍ، وتوسل لها: خليكِ قوية عشاني، أنا مش حمل كـ.ـسر تاني يا خديجة، اتكـ.ـسرت في بعدك والمرادي مش هيكونلي قومة.

وقبل كفها ببكاء: قومي عشان خاطري.

أطبقت على كفه وعينيها تجاهد الظلام الذي يبتلعها، فأسرع المسعف ليضع قناع الاكسجين لها، ليتفاجئ بحركة يدها الضعيفة تبعده عن وجهها ومالت ليونس تهمس له: فارس.

ظنها توصيه على ابنها فأسرع بنطق: متقلقيش فارس معانا مش هسمح إن الكـ.ـلـ.ـب ده يقرب منه وآ...

ابنك!، فارس ابنك يا يُونس!
استند على ظهر سيارته يراقب ساعة يده بضجرٍ، فجذب هاتفه يحاول التواصل معه، فإذا بسيارته القاتمة تحذوا بالقرب منه، فأشار له جمال بضيقٍ: بقالي ساعة الا ربع واقف مستني حضرتك!

انخفضت نافذة سيارته ليطل بوجهه إليه، نازعًا نظارته الشمسية: إركن عربيتك وتعالى اركب.
اندهش من طلبه الغامض، واتجه إليه ينحني للنافذة قبالته: يعني أنت مصحيني من النجمة وقايلي أنزلك ضروري ودلوقتي واقف تتكلم بالألغاز! ما تلخص وتقولي في أيه يا عُمران؟

ضم شفتيه بقوةٍ وهتف بتبجحٍ: ما تخلص في يوم أمك ده يا جمال! قولتلك اركن واركب مش فاهم أيه اللي مش مفهوم في كلامي أنا!
رفع حاجبيه باستنكارٍ لطريقته، فزفر الاخير متمتمًا بحنقٍ: استغفر الله العظيم يا رب.

ومال إليه يحاول الثبات على أخلاقٍ يجاهد التمسك بها: جمال أنا مفيش قدامي غير ساعتين فانجز نقضي الكام مشوار ده قبل ما أعدي على مايا بالمستشفى.
زم شفتيه ساخطًا من غموضه، فتركه واتجه لسيارته يصفها على طرف الطريق، تأكد من انغلاقها بالريمـ.ـو.ت الالكتروني، ثم اتجه ليجلس جواره فتحرك الاخير على الفور.

راقب جمال معالم عُمران التي يبدو عليها الضيق، لذا حاول أن يحترم صمته لحين أن يتحدث بالأمر، فذاك الوقح لا يزعجه الا الأمور التي تستحق ذلك.
وصل عُمران أمام أحد محلات الملابس الرجـ.ـالي المعروفة بلندن وانجلترا بأكملها، ذات البراند الشهير الذي يتعامل معهم، أطفئ محرك السيارة وقال بحزمٍ: انزل.

تفحص المكان وتساءل بحيرةٍ: هنا!
هز رأسه مؤكدًا، وبهدوءٍ قال: أيوه يا جمال، انزل.

ضيق عينيه باستغراب: وانت جايبني هنا ليه يا عُمران؟
زفر الاخير بنفاذ صبر: يا أخي انزل وهنتكلم! أنا سبتك ومشيت يعني!

أطلق زفرة حارة، وانصاع إليه صافقًا الباب بعنفٍ، جعل عُمران يخرج رأسه من نافذة السيارة هاتفًا بتوعدٍ: إنت قد رزعة الباب دي يالا! وحياة أمك لمكـ.ـسرلك بابين عربيتك!
كبت جمال ضحكة كادت بالانفلات منه وتصنع الجدية والثبات هادرًا: ولو منطقتش وقولت ناوي على أيه مش هيعجبك ردود أفعالي يا وقح!

صف السيارة وهبط له يكز على أسنانه بغـــضــــب، كور يده ليلكمه ولكنه تراجع فما يحتاج له الآن أن يكسبه بالود لعلمه بالعناد الساكنة لرأس جمال الحجري، لذا فتح ذراعه المتكور ورسم ابتسامة صفراء تخفي غـــضــــبه الجم، ليحيط صديقه الذي يجاهد لفهم غموض عمران الغير مفهوم بالمرةٍ، بينما ردد الاخير ببراءة لا تمت لشخصه بصلةٍ: أيه يا جيمي شـ.ـدة الأعصاب اللي إنت فيها دي، حبيبي والله صاحبك مطحون ما بين هرمونات حمل ونوبات والذي منه فمش مستحمل عصبيتك وطخن دmاغك النهاردة.

منحه نظرة ساخرة وقال: يبقى ترسيني على الحوار وتقولي جايبني هنا ليه؟

ربت على كتفه بقوة وهو يتصنع حنانه، قائلًا بخبث: القصة وما فيها إن الممول بعتلي دفعة كبيرة من الفلوس، فقولت أدلع نفسي وأنزل أشتري شوية هدوم وقولت أخدك معايا بالمرة تساعدني.
ردد باستهزاءٍ: أساعدك! أنا! هو إنت بتلبس على ذوق حد عشان تلبس على ذوقي!

ورفع يده على جبينه يتحسسه بدهشةٍ: عُمران إنت كويس؟

منحه نظرة غاضبة وبات على وشك كـ.ـسر رقبته بتلك اللحظة ولتذهب صداقتهما للجحيم، ولكن أهدافه عادت تلمع من أمامه فقال بابتسامة يرسمها بالكد: مهو أنا مش جايبك عشان تساعدني لقدر الله، أنا جبتك لانك شريكي في المشروع وفي الارباح فقولت أديك نصيبك وأجبرك تشتري منهم بدلة شيك كده عشان افتتاح المركز الطبي لعلي بكره، ومفيش مانع نجبلك شوية لبس على ذوقي لانك بصراحة يا جمال ذوقك في اللبس معفن ومبيعجبنيش، بتروح تصرف فلوسك على تلوث بصري بيأذيني كل ما بلمحك قدامي.

وتابع بغـــضــــب مضحك: وأنا زي ما اتنيلت وقولت محتاج أعصابي تكون فريش على الاقل لو مش في البيت يبقى في الشغل، وبمناسبة اننا للاسف بقينا شركا فهضطر أشوف خلقة أمك كل يوم تقريبًا، عشان كده قررت أظهرك بالصورة اللي تريح بصري المسكين.
ورفع اصبعه يشير له بتحذير: مش لأجلك لأجلي!

احتدت نظرات جمال غـــضــــبًا، وصاح بحدة: ولما أن تلوث بصري بالنسبالك بتعرفني ليه! أنا غلطان إني سمعت كلامك من الأول، أنا راجع عربيتي.
أمسك ذراعه يوقفه هادرًا بملل: وبعدين معاك بقى يا جمال، بقولك مش فايقلك الدنيا هرساني وعمال اطلع من مصـ يـ بـةأقع في التانية فبالله عليك يا شيخ مش ناقص، أنا جيت أفضي دmاغي وأعمل حاجة بحبها، وحبيت تكون معايا لو مش هتستحمل هزاري السخيف ولساني الوقح امشي يا جمال.

وتابع بمكرٍ داهي وهو يصعد الدرج الفخم للمبنى العتيق: امشي وصاحبك محتاجلك.
وتركه وصعد للأعلى وابتسامة الخبث تشق الطريق على وجهه الوسيم، فتطلع من فوق كتفه ليراه يقف حائرًا، مترددًا بالرحيل، فاستكمل طريقه بثقةٍ من أن انضمامه السريع إليه.

ركل جمال الأرض بغـــضــــب، وهو يتفرس بباب الاتليه لدقائق، فحسم أمره ولحق بالاخير للداخل.
رآه عُمران وهو يجذب أحد التيشرتات المعلقة ويتظاهر بانشغاله بتأمل الموديل، وبأنه لم يراه منذ دخوله، كبت جمال حنقه واتجه ليقف جواره ناطقًا بغـ.ـيظٍ: ماشي هبقى معاك لحد ما تخلص بس أنا مش عايز اشتري حاجة تمام؟

منحه نظرة مغــــرورة، واشارة عدm اللامبالة لقراره، اختار جمال الجلوس على المقعد الذهبي الوثير، بينما ترك عُمران يمضي رحلة البحث بين الملابس بمفرده.
صدح صوت هاتف جمال بعدة رسائل، ليجدها من زوجته، تأفف بضيقٍ ومرر فتحها على مضضٍ، ليجدها تكتب له.

«ممكن أفهم إنت مبتردش على مكالمـ.ـا.تي ولا بترجع البيت ليه؟ طيب لو لسه زعلان مني ردتني ليه يا جمال؟ وليه قولتلي انك سامحتني!، أنا حاسة انك متعمد تبعد عني، بتعـ.ـا.قبني يا جمال! أنا اعتذرتلك واعترفتلك اني كنت غلطانه من فضلك ارجع البيت».

اعاد هاتفه لجيب بنطاله الجينز بوجومٍ، ونهض يخطو وهو بتفحص المكان بمللٍ، بحث عن عُمران فوجده بالطابق العلوي منشغلًا باختيار الملابس بدقة وتركيزًا جعله مندهشًا للغاية.

اندفع باب الاتليه الضخم وولج للداخل رجلًا ملامحه مألوفة له، يضم خصر فتاة بجراءة مقززة، عاد ببصره لوجه الرجل فرمش بدهشةٍ.

صعد جمال للأعلى واتجه لعُمران الذي أشار للعاملة التي تحاول اقناعه بأن القطعتين على بعضهما مناسبة للغاية، فقال باعتراضٍ: لا أريد هذا البنطال، أنا سأختار أخر.

تعجبت للغاية من اصراره، وتفاجئت حينما جذب سروالًا أخر بلون جريء، وفقهما على بعضهما بطريقة أبهرت تلك العاملة التي تيقنت ذوقه الرفيع الذي يبدأ من طريقة ارتدائه لملابسه وينتهي بذوقه الآنيق.

نغز جمال كتف عُمران هادرًا باهتمامٍ: عُمران بص كده!

انتصب بوقفته يطالع رفيقه، فوجده يشير للأسفل قائلًا: مش ده تايمون!

بدى منعقد الملامح فتابع بايضاح: اللي كان معانا في الجامعة، اللي كنا مسمينه مـ.ـجـ.ـنو.ن جورينا البـ.ـنت اللي كان بيعشقها وكل يوم والتاني عامل حوار في الجامعه عشانها، افتكرته؟

هز رأسه دون مبالاة: أيوه، ماله يعني؟

عاد يشير بضيق: داخل وقافش في واحدة كده وشكلهم استغفر الله مقضينها.

تركه واتجه خطوة ينتقي جرفات يناسب البذلة التي اختارها، قائلًا: مش فاهم يعني أيه الملفت في كده؟

مشى على محاذاته قائلًا بانزعاج: يعني كنت فاكر إن قصة الحب الاسطورية دي هتنتهي بالجواز!

منحه بسمة ساخرة وقال: دول معندهمش جواز يا جمال، سبق وقولتلك ان الحكاية دي هتتلخص بعلاقة وبعدها هيحصل زي ما أنت شوفت بعينك، ولو كان حصل واتجوزها فعلًا ممكن يكون بيلفت نظرها دلوقتي بعلاقته الجديدة.

لوى شفتيه بتهكمٍ: يعني الراجـ.ـل عشان يلفت نظر مـ.ـر.اته ليه لازم يزني يعني.

حل الخبث رماديته، لقد قدmت له الصدفة فرصة على طبق من ذهبٍ، ولابد له من اغتنامها، فقال وهو يدعي انشغاله بتفحص الملابس المعلقة من أمامه: لأ احنا لينا بقى وضع تاني نقدر نلفت بيه النظر من غير ما نزني أو نغـــضــــب ربنا!

وتركه مشـ.ـدوهًا لكلمـ.ـا.ته واتجه للركن البعيد عنه وهو يتابعه ببسمة ماكرة، فإذا بالاخير يلحق به ويناديه بتـ.ـو.ترٍ: عُمران.

كبت ابتسامته الخبيثة وهمم وهو يجذب أحد القمصان: أمممم.

لحق به وقال وهو يدعي فضوله فقط للعلم بالشيء: تقصد أيه بأننا ممكن نلفت الانتباه بدون ما نعمل حاجة حـ.ـر.ام؟

تحررت ابتسامة جذابة على وجه ذلك الماكر، واستدار يقابله وهو يقول: الست العربية ست بسيطة يا جمال، أقل شيء بيعمله جوزها بيلفت إنتباها ليه.

واسترسل وهو ينتقل لحاملة الجواكت المقابلة له: يعني لو الراجـ.ـل غير مثلًا تسريحة شعره او حلاقة دقنه هيلفت انتباهها، غير في شكله أو في لبسه مش بس هيلفت انتباهها ده هيثير حرب الغيرة والافتراضات عندها، إنه يكون مثلًا بيعرف ست غيرها.

وتابع مدعي المرح والمزح: يا أخي الست دي كائن غريب، تهتم بنفسها وتقف قدام المرايا بالساعات وعادي بالنسبالها مأجرمتش لكن وقت ما تلاقي وقفة جوزها طولت قدام المرايا واهتم بنفسه شوية يبقى بيلعب بديله وفي حياته واحدة تانية.

أشعل فتيل القنبلة وتركه وغادر مبتسم بانتصار، تركه لعشر دقائق يدور حديثه برأسه ويستخرج معناه المبطن، ليفق من شروده حينما قال بمكرٍ: ها يا جيمي هتقيس البدلة اللي اختارتهلك؟

اتجه إليه باستسلامٍ غريب، وانتشل منه ما قدm له يتفحص ذوقه بدهشةٍ: بس البنطلون ده مش هيليق على الجاكت والقميص يا عُمران!

أشار له باصرار: البسهم وهتتفاجئ بتناسقهم على بعض، ولو معجبكش أوعدك هسيبك تنقي اللي يعجبك.

هز رأسه بعدm اقتناع بما قال، وولج يجربه حتى يغلق مناقشة عريضة قد تفتح بينهما، يتأمل بأنه حينما يراه بعدها يتأكد من حديثه، ولكن فور أن ارتدى جمال ما اختاره عُمران حتى وقف مندهشًا من اتقان تناسق طالته، واختياره الذي ناسبه بكل المعنى الحرفي، فاكتشف بتلك اللحظة أنه يمتلك جاذبيته لم يكتشفها بنفسه، فقد جعلته تلك الملابس يصغر عن عمره بما كان يرتديه.

خرج جمال للخارج تجاه عُمران الذي ابتسم فور رؤيته، وتفاجئ جمال باندهاش أوجه المشتريين، حتى أن البعض منهم طلبوا من العاملات تقديم نفس البذلة بنفس الاختيارات التي نسقها عُمران.

اقترب من رفيقه وسأله وهو يتصنع عدm الاهتمام حتى لا تفشل مخططاته: ها يا جيمي عجبتك؟

هز رأسه وقال بحرجٍ: هأخد منها اتنين كمان، لانها عجبتني بصراحة.

اتسعت ابتسامة عُمران وقال وهو يشير للعاملات اللاتي يحملن العديد من الحقائب: اختارتلك فعلا أكتر من استايل وكام طقم تاني على ذوقي، جربهم وهيعجبوك جدًا.

توسعت مقلتيه وهو يتفحص حجم الحقائب بصدmة: أيه كل ده؟! انت متخيل إني هشتري كل ده؟!

إتجه إليه يجيبه ببسمة واسعة: متقلقش أنا ليا هنا (discount خصم) خاص بيا لاني يعتبر اللي مشغلهم المكان، فاديني الفلوس وأنا هحاسب أنا.

رمقه بنظرة شك، فزفر بغـــضــــب: أوووف منك! تعالى معايا وشوف بنفسك يا جمال!

لحق به جمال، وبالفعل تأكد من صحة حديثه، فلقد أظهر المالك احترامًا كبيرًا لعمران، مشيرًا بأنه من أهم الزبائن لديه، وبالفعل قدm له خصمًا كبيرًا.

حمل الأكياس الكبيرة ولحق به للخارج، بينما يمضي الطاووس الوقح مبتخترًا، طالقًا صفيرًا مستمتعًا لتحقيق أول أهدافه، فتح صندوق سيارته وأشار لجمال الذي يلحق به بغـ.ـيظٍ، أن يضع ما يحمله بالداخل.

ألقى جمال الحقائب ووقف قبالته متأهبًا لجدالٍ مشحون: أنا شايفك خارج برنس من المحل ومشترتش حتى جوز شربات! أمال احنا جايين هنا ليه؟!

نزع نظارته القاتمة وأشار له ببرودٍ: مفيش حاجة عجبتني المرادي، لما الCollection الجديد يوصل هيبعتولي.

وتركه يكظم نفسه غـ.ـيظًا واتجه لمقعد القيادة، فلحق به جمال صافقًا باب السيارة بعنفٍ، جعل الاخير يصـ.ـر.خ بجنون متوعدًا: وديني لأدشملك عربيتك، صبرك عليا يابن أشرقت!

جذب جمال نظارته الشمسية، يرتديها ببرودٍ يجابه الاخير وردد بجمود: اطلع على أي مطعم هادي نأخد كوبيتين قهوة تعدل دmاغي اللي اتعوجت منك على الصبح دي.

مزق شفتيه السفلي بين أسنانه، فنزع نظارته واستدار تجاهه يحذره باشارة يده: جمال مش عايز أسيب لساني الوقح عليك، بس لو محترمتش نفسك هآ.

هتطلق كلابك الصعرانه! مممم غير الاسطوانة واطلع دmاغي اتفلقت منك!

قالها وهو يسترخي على المقعد جواره، فجذبه عُمران من تلباب قميصه هادرًا بانفعالٍ: هظبطلك أمها الوقتي ومن غير قهوة يا حبيبي، يا سلام غالي وصاحب الطلب رخيص.

وأشار بيده وهو ينحني لتابلو السيارة: اديني بس ثانيتين وهظبطك على الأخير.

ابتلع جمال ريقه بتـ.ـو.ترٍ جلي، وتساءل: بتعمل أيه يا عُمران؟

مال للأسفل بجسده أكثر من السابق وهمس له: هي راحت فين! أهي لقيتها!

هي أيه؟
تساءل بـ.ـارتباك، فاتاه الرد حينما سلط سكينه على رقبته ونهض عن مقعده ليحيط بالاخير بسرعة فجئت الاخير و.جـ.ـعلته يهدر برعـ.ـب: عُمران إنت بتعمل أيه؟

وزع نظراته بينه وبين يديه التي تحيط رقبة جمال، وأجابه ببراءةٍ شيطانية: مثبتك يا جمال! هكون بعمل أيه يا حبيبي؟!

ومال عليه يهمس من بين اصطكاك أسنانه: مش أنا من ساعة ما شوفت خلقة أمك وأنا بحذرك مني! قولتلك إني(خارج المود Out of mode) النهاردة، نبهتك ولا لا يا جيمي؟

لعق شفتيه وهو يراقب مدته (مطوة) بصدmة، فصاح الاخير: رد يا حبيبي، نبهتك ولا لا؟

هز رأسه وعينيه معلقة على ما يحمله، فاسترسل بغـــضــــب: ولما هو آه بتستحضر عفاريتي ليه بروح أمك! قولتلك أنا على أخري كفايا كل الضغوطات اللي في حياتي هتزيد عليا هحط عليك يابن آشرقت.

زفر بقلة حيلة وقال: يا عُمران إنت بشمهندس محترم، سيبك بقى من اسلوب البلطجية ده واعقل!

حرك عُمران رأسه لليسار واليمين مطلقة طقطقة لطالما كانت مرعـ.ـبة لمن أمامه، أخفض سلاحه وعاد لمقعده وهو يردد: استغفر الله العظيم يا رب، بيخرجوني عن شعوري وأنا إنسان آرستقراطي مهذب!

راقبه جمال ساخطًا من جملته الاخيرة، فتابع عُمران وهو يتفرس بملامحه الساخرة: حبيب قلبي يا جيمي، عايز تشرب قهوة؟ عيووووني هاخدك على حتة مكان تشرب فيه قهوة وبالمرة أظبطلك دقنك وحلقة عب حليم حافظ اللي معتزلي بيها دي، بس استأذنك الأول أروح بيتنا القديم أجيب منه أدوات الحلاقة وال(سكين كير Skincare) بتاعي، بس للأسف الشـ.ـديد هروح لوحدي وإنت هتستناني في مكان ظريف هيعجبك أوي أوي.

صعق مما يقال أمامه، لم يترك له عُمران فرصة الغـــضــــب على جملة الا وانتقل على جملة أخرى جددت له نوبة غـــضــــبه، فصاح بعصبية: حلاقة أيه ومكان أيه اللي هتوديني ليه، عُمران في أيه يا عُمران وفكك من هزارك السخيف ده وكلمني؟!

قاد السيارة مدندنًا احدى الاغاني الاسلامية التي لا تتناسق مع سطوة لسانه المستبد على رفيقه، فلكزه جمال بغـــضــــب: ما تكلمني يا عم الشيخ!

استدار له يدعي دهشته: بتناديني يا جمال؟ خير يا حبيبي طمني إنت كويس؟ مش مرتاح في الكرسي هنا؟ تحب أقف على جنب لحد ما ترجع تمدد ورا؟ ولا سحبت هوا المخيف فتحب أنزل سقف العربية ونخليها بحري؟

جحظت أعين جمال بصدmة جعلته لا يجد ما يجيب به على ذلك الطاووس، فاسترخى بمقعده محافظًا على أخر ما تبقى لديه، أعصابه المهددة أمام كتلة برود عُمران سالم الغرباوي!

من قال أن بعد المـ.ـو.ت راحة؟!
كان يظن بأنه نالها بعدmا قُتل قلبه، ومـ.ـا.تت مشاعره، لقد أصبح كالخرقة البالية لا يعني أي مكان سيتلقفه، ولكن الخواء الذي شعر به بتلك اللحظة أبشع من أي ألــمًا خاضه بحياته بأكملها.

تفرقت يده عن يدها، الازدحام يحيط به من كلا الجانبين، وهو شاردًا لا يستطيع رؤية أي شيء، الضباب الأسود يحيط بمُقلتيه، يشعر بمرور الناس من جواره وهو لا يراهم، يصطدm جسده بأكثر من أحد يقدm اعتذاره له وهو المخطئ والغير مدرك لمكان وقوفه.

تزلزل كلمـ.ـا.تها أعماقه بقوةٍ، هل تظن بأنه سيحصل على الخلاص فور أن تخبره الحقيقة، لا والله لقد ألــمته بمنتصف صدره وإنتزعت أخر ما تبقى لديه!

شعورًا غريبًا يستحوذ عليه بتلك اللحظة، من المفترض أن يكون سعيدًا بما سمعه، حبيبته تؤكد له بأنها ليست خائنة، ليست كما ظن، ولكن ما أبشع أن يحصرها المشهد في دور المظلومة وليست الظالمة، ما أبشع أن يتخيل الآن معاناة تلك الضعيفة بين يد ذلك الهمجي الذي لم يسلم لشره.

يقال أن قهر الرجـ.ـال لا مثيل لو.جـ.ـعه، ولكنه بتلك اللحظة يصعب عليه تحمل و.جـ.ـعها فور تخيلها لما تلقته من ألــمٍ وضـ.ـر.ب وإهانة، إهانة استهدفت جسدها لتحطم أنوثتها وتزلزل كيانها الضعيف، وهو الوحيد الأدرى بضعف بنيتها الجسدية، هو الوحيد الذي كان يهتم لأصغر تفاصيلها، هو الذي كان يحرص على الاحتفاظ ببخاخ أكسجين احتياطي بجيبه حينما يصطحبها للخارج حتى إن مسها السوء يمدها بالتنفس حرصًا على بقائه هو على قيد الحياة، هو الذي كان يحميها حتى من هفوة دخان عابرة قد تهيج حساسية صدرها المزمنة، هو يُونس الفتى الذي غرق في عشق ذات الجديلتين منذ الطفولة!

هو الذي قسم على أن يذيقها من الألــم بأبشع ما قد ذاقته بحياتها، وهو نفسه الذي وقف عاجزًا أمامها بأول لقاء، مع أنه كان يحمس نفسه لأن يبرحها ضـ.ـر.بًا يشفي غليله، ولكن جسده الخائن تراجع عن أوامره برفع يده لصفعها أو لكمها!

شعر يُونس بيدٍ تحيط به وتبعده عن الطريق، وتسنده للمقاعد المعدنية المتطرفة، دقق به وبصوته المسموع فوجده آيوب ولجواره الحاجة رقية الباكية، بقى صامتًا يتطلع للأمام وصوتًا يصل لمسمعه ويتكرر بقلقٍ: يُونس إنت كويس؟

تمعن بحركة شفتي آيوب وعينيه في محاولة لسماع وفهم ما يقول، ولكنه على الأرجح فقد كل شيء، وبدون أي مقدmـ.ـا.ت سقط عن مقعده أرضًا مستسلمًا للغشاوة التي تقبض روحه مشفقة على معاناته بينما قلبه يبتعد عن محل جسده عدة أمتار.

التقطت عينيه الناعسة صراخ آيوب بالأطباء، وجه آدهم القريب منه بعدmا وصل للتو بعدmا أودع معتز للشرطة، ومعاونته لآيوب بحمله لاقرب فراش، تجمهر الاطباء من حوله، ضوءًا يسلط على فيروزته، أصواتًا تتباعد ببطءٍ، ظلامًا دامس، هدوء مخيف، صمتًا تامًا!

هبطت بفستانها الرمادي تتهادى بخطواتها حتى لا تدعس طرفه الطويل، تخـ.ـطـ.ـف النظرات المهتمة لمن ينتظرها فاتحًا باب سيارته بذوقه الرفيع، جلست فاطمة بالمقعد فإذا به ينحني ليضع طرف الفستان جوارها في لافتة لطيفة منه أسعدتها.

استقل على مقعده وقاد السيارة متجهًا للمركز الطبي، ليشرف على التجهيزات النهائية قبل حفل الافتتاح غدًا، بينما تذهب فاطمة للاطمئنان على مايسان وقد حملت لها بعض الملابس والأغراض الشخصية.

وصل للمركز سريعًا فلقد كان لا يبعد عن منزله كثيرًا، هبطت فاطمة واتجهت لتجذب الحقائب الصغيرة، فإذا به يجذبها قائلًا بابتسامة هادئة: عنك يا حبيبتي.

وأشار بأن ترافقه للمصعد: يلا.

تعجب على من توقفها عن إتباعه، وتسمرها بالخارج قبالته، منع الباب من الانغلاق ومد كفه لها: فطيمة متخافيش أنا معاكي!

ابتلعت ريقها بـ.ـارتباك فذكريات الأمس القريب لم تكن لتنساها بتلك السرعة، ولكن جملته المحببة لقلبها شرعت لها بمد كفها الرقيق بين كفه، واتبعته للداخل.

وجدت الارتباك والتـ.ـو.تر ينعزل عنها نهائيًا في حضرته، ولتكن صادقة لم يمدها على بالأمان فحسب، منحها إياه عُمران ومن قبله منحته لها تلك المرآة الارستقراطية الراقية فريدة هانم، كذلك مايسان وأحمد بظهوره القليل بحياتها ولكنها لا تخشاه أبدًا.

خرج على بالطابق الأول مشيرًا لها بحماسٍ: قبل ما نطلع لمايا حابب أوريكِ مكتبي ومكتب فريدة هانم.

غمرتها السعادة باهتمامه لإن يشاركها تفاصيل مغيبة عنها، مضت معه من غرفة للأخرى، حتى أراها الغرف بأكملها، الاستقبال، جناح الجراحة، الحضانات المخصصة بقسم النساء والتوليد، غرف الاطفال المجهزة لاستقبال المولود، لم يترك مكان الا وآراه لها، سعدت كثيرًا لتحقيقه حلمه الوحيد، سألها على وهو يتجه بها لغرفة زوجة أخيه: مقولتليش رأيك يا فطيمة؟

توقفت عن المشي وضغطت على كفه الماسد بين كفيه لتسترعى اهتمامه لنقطة كانت تود البوح بها: جميل يا علي، كل شيء معمول بحب كبير أوي بس إنعكاس الفرحة اللي في عنيك هو اللي مبهر بالنسبالي، أنا عارفة إن ده حلمك من زمان، كنت بتيجي وبتحكيلي أول بأول، وفاكرة كمان لما كنت زعلان إنك فشلت في ادارة المستشفى لوحدك لإنك كنت مشغول معايا أغلب وقتك، بصراحة كنت بسمعك وأنا حاسة بالذنب بس دلوقتي بعد ما اتحقق حلمك بشكل إنت نفسك مكنتش متوقعه خلاني سعيدة ومبسوطة أوي عشانك يا علي.

أشرقت ملامح وجهه بفرحةٍ وعشق تعدى أفاقه، فرفع كفها يقبله بحبٍ: حلمي هو حلمك يا فاطمة، ده مش مكاني لوحدك ده مكانك معايا، اللي يخصني يخصك واللي أملكه إنتِ تملكيه. يعني برأيك بعد ما ملكتي قلبي وشاركتيني فيه مش هتشاركيني بكل حاجة ليا.

اتسعت ابتسامتها بشكلٍ جعلها فاتنة بكل معنى الكلمة، فأكدت له بحماسٍ: أول ما مايا تقوم بالسلامة هاجي اشتغل معاك، فريدة هانم قالتلي وأنا وعدتها.

سعد لقرارها هذا، ولكنه تساءل بدهشة: وليه لما مايا تولد؟

ردت عليه باستنكارٍ: عُمران هيبقى كده لوحده هو طلب مني أساعده لحد ما مايا ترجع لشغلها.

هو بتلك اللحظة فخور بها وبتعبه الذي جعلها تتخطى مراحل هامة برحلتها، ظنها ستتأثر بما حدث وسترفض العودة للعمل بشركات عُمران، وها هي تخرج بقوة من نوبتها وكأنها لم تمر بها من الأساس.

رنا إليه يطبع على جبينها قبلة تعبر عن احترامه وحبه الكبير لها، هامسًا: مكان ما تكوني مرتاحة أنا مش ممانع يا حبيبتي.

كسى وجهها حمرة يعشقها هو، فدفعته بخفة وهي تأنبه بحرج: بتعمل أيه يا علي!

ضحك بصوته كله وأشار على الغرفة القريبة منه هادرًا بمزح: هنا عادي الكلام ده، بس أنا دكتور محترم ومعملتش حاجة تذكر يعني!

كلما تطلع لصدmتها تعالت ضحكاته دون توقف، طرق على باب الغرفة مرتين متتاليتين وما أن استمع لصوت زوجة أخيه تأذن للطارق بالدخول، حتى ولج يردد: نورتي المركز كله يا بشمهندسة، كنت أتمنى إن زيارتك ليه تكون بشكل ودي مش مرضي بس مش مهم المهم إنك شرفتينا.

ابتسمت مايا بفرحةٍ وقالت بلطفٍ: علي! حمدلله على السلامة.

اقترب من فراشها وأجابها ببسمة هادئة: الله يسلمك. طمنيني أحسن النهاردة ولا لسه تعبانه؟

أشارت على يدها المنغرز بها الأبر الطبية: حاسة إن المحاليل اللي دكتور يوسف عالقهالي دي فوقتني الحمد لله.

وانحنت برأسها تلمح تلك الواقفة بـ.ـارتباك خلفه، مرددة بابتسامة واسعة: وفاطمة كمان جاية تشوفني بنفسها لا أنا كده هفضل يومين هنا.

صعدت فاطمة جوارها على الفراش وقالت بحرج: أنا آسفة إني مكلمتكيش إمبـ.ـارح ولا جتلك بس أنا كنت آ...

قاطعتها وهي تربت على كفها المسنود على ساقها: عارفة يا حبيبي انك رجعتي انتِ وعُمران متأخر من الشركة، وبعدين احنا بينا الكلام ده يا فاطمة! أنا كده كده الحمد لله كويسة وبخير، وزينب الله يبـ.ـاركلها مسبتنيش لحظة والله.

سألها على باستغراب: وهي فين؟

ردت عليه فاطمة: كانت مكلماني من شوية وقالتلي آنها في الجامعة النهاردة أخر يوم ليها في الامتحانات، وبعدها هتأخد الاجازة.

رد بتفهمٍ: ربنا معاها، الاجازه دي تلزمني أوي، المركز محتاجلها.

مازحته مايا بمرحٍ: حيلك يا دكتور إنت هتجمعنا كلنا هنا حوليك ولا أيه؟

تعالت ضحكاته الرجولية وصاح: ده اللي هيحصل، بس إنتِ للأسف هتكوني شبه مقيمة هنا لحد ما حبيب قلب عمه يشرف على خير، شوفت رؤيا من كام يوم إن هيجلكم ولد.

مسدت على بطنها الذي بدأ بالظهور وقالت بتمني: أنا متحمسة أعرف نوع البيبي بس أنا راضية سواء بـ.ـنت او ولد المهم بالله عليك ما تسيبه لأخوك هيطلعه وقح زيه وأعصابي هتبوظ بينهم الاتنين.

ضحكت فاطمة بقوة حتى أدmعت عينيها، بينما ابتسم على وأشار بكتفيه بحيرة: مش عارف يا مايا، مسبقش إني اتوليت تربية بيبي صغنن، مش بعرف أتعامل معاهم وهما حتت كده، لكن وعد لما يقف على رجله ويمسك نفسه كده هكون جنبه وهحميه من الطاووس الوقح اللي داير يطـ.ـلق لسانه السليط على العيلة ده!

أد كده اشتاقــ,تــلي ومش قادر على بعدي! أنا جيت ألبي النداء من أول ندهة!
قالها ذلك المستند على باب الغرفة، مربعًا يديه أمام صدره، ونظراته تتفرسان بأخيه، تنهد على وردد بقلة حيلة: جالك كلامي يا مايا!

هزت رأسها تؤكد له وهي تتابع زوجها بنظرة مغتاظة، فتحرك ببرود تجاهها، وانحنى يقبل جبينها متسائلًا باهتمام بدى رغم بروده: أخبـ.ـارك أيه النهاردة يا حبيبي؟

ابتسمت رغمًا عنها وقالت: الحمد لله بخير.

جلس على نهاية طرف الفراش باتجاه زوجته، بينما جلس على بالمقعد القريب من باب الغرفة، اتجهت نظرات عُمران لفاطمة التي تتحاشى التطلع إليه، فنقل بصره لعلي يشير بكف يده عن طريقة تعامله، فأشار له الاخير بالتعامل بطبيعته فقد تجاوزت الامر، لذا قال بمزحه المعتاد: أيه يا فاطمة إنتِ ما صدقتي إني أزوغ من الشغل فقعدتي إنتي كمان، يرضي مين الكلام ده؟

رفعت رأسها إليه وقالت بلهفة: أنا! لا والله مكنتش أعرف إنك مرحتش الشركة النهاردة، بس على لسه راجع فمحبتش أنزل وأسيبه في أول يوم كده.

اشتعلت خجلًا حينما نطقت بتلقائية جملتها، ففركت أصابعها بتـ.ـو.تر جعل مايا تنفجر ضاحكة وتلكز زوجها بحدة: بس بقى كسفتها الله، واحدة جوزها راجع من سفر شغل أيه اللي تروحه؟!

رمق أخيه بنظرة ساخرة، وهدر: هو يعني كان مسافر الهند! ثم ان كلهم على بعضهم سبع أيام!

زوى على حاجبيه بنزقٍ: ولو كترت في كلامك ده هقعدها خالص وتيجي تساعدني، جوزها أولى بيها يا بشمهندس.

تحداه ببسمةٍ شرسة، واستدار لفاطمة يخبرها: حقا يا فاطمة هتسبيني غرقان في الحسابات وهتيجي وسط المرضى والدm والمحاليل!

ابتسمت وتطلعت لزوجها تخبره: أنا مرتاحة في شغلي يا علي، وقولتلك الكلام ده من شوية.

تطلع عُمران لأخيه وصاح بانتصار: قوم يا دكتور شوف شغلك، ومتشغلش بالك بموظفيني!

ضحك على ونهض عن مقعده يغلق جاكيت بذلته السوداء: ماشي يا وقح، هعديها بس عشان اللي عملته في المركز يستاهل إنك تتكافئ مش تتعـ.ـا.قب، الديكورات وتنفيذ الاستقبال كل شيء معمول باتقان عالي، تسلم إيدك انت وفريقك.

تمدد للخلف قليلًا يجذب هاتفه من جيب بنطاله، ثم نهض لاخيه يخبره وهو يعبث بشاشة الهاتف: ولسه لما تشوف الدعايا اللي اتعملتلك على صفحة البشمهندس عُمران سالم الغرباوي، الفيديو لوحده اتخطى ال15 مليون مشاهدة.

التقط منه على الهاتف، يتطلع للفيديو الملتقط لمدخل المركز الطبي وتصميمه الداخلي، تفاعل الجماهير وتعليقاتهم على اناقة وذوق المركز الطبي، ابتسم وهو يخبره: حلو الشغل ده، وأخيرًا استفدنا من صفحتك دي بشيء بعيدًا عن أغلب كومنتات المعاكسة على صورك الاستعراضية الشبيهة لغــــرورك.

التقطت آذنيها سماع أخر جملته، فرددت بتحفز: معاكسات أيه يا علي؟

منحه عُمران نظرة تهديد صريحة، فدنى إليه يهمس: هنقذك المرادي بس عشان جمايل فيديو الدعايا، لو مخفتش من حوار تغير صورة البروفيل كل ساعتين دي هقول لمايا ووقتها هتطلق هرموناتها عليك.

واستدار تجاه مايا يردد بهدوءٍ وثبات مخادع: أي معاكسات! أنا بتكلم عن حاجة تانية يا مايا، ارتاحي وأنا هنزل أشوف الترتيبات.

اتبعه عُمران يناديه، وبجدية قال: على بما إن فاطمة هنا مع مايا، إبقى خدها وانت راجع، أنا عديت عليها أشوف لو كانت جاهزة أخدها في طريقي لكن كده هتأخر على جمال.

استدار عن الدرج يسأله باهتمام: ليه هو جمال فين؟

ارتسمت الابتسامة الخبيثة على وجه عُمران واحتفظ بصمته بينما يغادر بمشيته الثابتة، تاركًا على أعلى الدرج يجتاحه القلق حول صمت الطاووس الوقح! وعقله لا يتوانى عن التفكير، ترى أي مصـ يـ بـةيفتعلها ذلك الوقح الآن!

فتح عينيه على صوت رجولي يناديه باستمـ.ـا.تة وقلق: يُونس!

تشوش رؤيته بالبداية، ولكنه تمكن من التقاط ملامح وجه آيوب القريبة منه، فهمس بخفوت: آيوب.

استطاع سماع همسه الخافت: الحمد لله، قلقتني عليك يا يونس.

استعاد عصبة تفكيره الهادر، فتحمل على حواف السرير المعدني ونهض يردد بذعرٍ: أيه اللي حصلي! خديجة! خديجة عاملة أيه؟ خرجت من العمليات؟!

ربت على صدره وهو يحاول أن يحجب حركته: اهدى يا يونس، الابرة هتطلع من وريدك.

تطلع تجاه ما يشير فوجد أحد المحاليل ينغرز بوريده، فنزعها عنه وهو يصيح بانفعالٍ: أنا مش تعبان، عايز أطمن عليها هي فين يا آيوب.

نهض آدهم عن المقعد المقابل لفراشه وقال: مينفعش الطريقة دي يا يونس احنا في مستشفى حكومي، شـ.ـدة أعصابك خليتك بالحالة دي فممكن تهدى شوية.

وتابع بهدوء: خديجة في الاوضة اللي جنبك ومعاها والدة آيوب، اطمن جـ.ـر.حها سطحي والدكتور لسه مأكد لآيوب من شوية.

عاد بجسده للخلف، واضعًا رأسه على الوسادة براحةٍ، فعاد آيوب إبرة المحلول لوريده وربت عليه بابتسامة بشوشة: عدت يا يونس، والكـ.ـلـ.ـب ده اتقبض عليه.

واستطرد ليفرح قلبه: آدهم قدm كل الادلة اللي كانت معاه ضده وضد الحقير سند والاتنين دلوقتي بياخدوا جزاتهم واللي يستحقوه.

أغلق عينيه بقوةٍ، وردد: ياريتني كنت قــ,تــلته ومسمعتش كلامكم، لو كنت أعرف باللي عمله مكنش فلت من تحت ايدي.

مال آدهم على الحائط المجاور لفراشه، مربعًا يديه أمام صدره، يحدجه بغـــضــــب: وبعدها هتفرق أيه عن أي مجرم! هترتاح لما ايدك تتلوث بالدm؟

شرد بالفراغ يفكر بحديثه، سحب يونس نفسًا كبيرًا عساه يهدأ عصبيته، ثم أجابه: لا يا باشا مكنتش هرتاح بعدها، أنا دلوقتي بقى عندي بصيص أمل أعيش عشانه.

سأله آيوب باهتمامٍ لمعرفة مغزى حديثه: تقصد أيه؟

تعمق بالتطلع إليه وقال: فارس!

انفرجت شفتيه بصدmة، فاعتدل يونس بمرقده يلقط كل رد فعل للأخر، فردد بصعوبة بالحديث: متقوليش إنك كنت عارف إنه ابني ومتكلمتش يا آيوب!

أخفض وجهه عن مواجهة ابن عمه، فهز رأسه بصدmة: لأ!

ازدرد ريقه متابعًا بشكٍ: وعمي عارف؟

صمته المطول جعل الاجابات واضحة للاخير، فابتسم بو.جـ.ـعٍة، تدخل آدهم على الفور حينما وجد أخيه في مأزقٍ فقال بخشونة: وكنت عايزهم يقولولك أيه يا يونس؟

أجابه بغـــضــــب وجمود: الحقيقة يا باشا! أنا خارج من السـ.ـجـ.ـن مـ.ـيـ.ـت وحاجة زي دي كانت هتحيني!

رد عليه ببساطةٍ وعينيه لا تفارق خاصته: يونس متخليش عصبيتك وغـــضــــبك يخلوك غـ.ـبـ.ـي! أب عظيم زي الشيخ مهران وأخ زي آيوب مستحيل يقبلوا يرجعوك جهنم تاني.

استطاع أن يثير، حفيظته تجاه كلمـ.ـا.ته الغامضة فتابع: لو حد فيهم كان صارحك إنك عندك ولد واتاخد منك بالطريقة دي وهما عارفين إنك خارج عشان تنتقم من اللي عمل فيك كده فاسمحلي أقولك إن اللي رباك كان مجرد عم ليك مش أب، لكن اللي الشيخ مهران عمله يخليك تحترمه كأب خايف يخسر ابنه بعد فراق وو.جـ.ـع.

اخفض عينيه بخزيٍ من تسرعه، فاستطرد آدهم ببسمة واثقة: وعلى فكرة شهادة ابنك الاصلية مع الشيخ مهران، وهو بنفسه اللي مطلعها ومحتفظ بيها، كان ييحميك وبيحمي ابنه التاني في نفس الوقت، لانه مش من المنطق انه يوقفه في حرب بيلعب القذر فيها على الطرفين، هيكون بيقدm ابنه التاني للمـ.ـو.ت يا يونس.

نهض يخفض ساقيه عن الفراش، فأصبح يجاور آيوب، استدار بوجهه له ومنحه ابتسامة هادئة جعلت الاخير يتهلل أساريره لظنه بأنه سيقاطعه بعد معرفته بأنه يعلم بالحقيقة.

رفع يونس ذراعيه يحيط به آيوب المتعلق برقبته، مربتًا بقوة على كتفه، ثم أشار له: شيل الكانيولا هروح أبص على خديجة.

أومأ له وانتزاعها منه برفقٍ، مسددًا قطنه صغيرة توقف نـ.ـز.يفه المؤقت، فتركهما ورحل من الغرفة التي تحيط بعدد من المرضى.

نهض آيوب يمسك يد آدهم بفرحة: مش عارف من غيرك كنت هعمل أيه؟ أنا كنت شايل هم اللحظة دي أوي، آدهم أنت ملاكي الحارس!

تحررت ضحكاته تباعًا، فراقبه الاخير باستغرابٍ، كبت ضحكاته مرددًا: آسف. بس الجملة دي اتقالتلي كتير قبل كده من شمس!

وتابع ببسمةٍ صغيرة وهو يربت على كتفه: كل مرة تبالغ وأرجع أقولك انك اخويا! يلا ألحق اروح انا قبل ما مصطفى يلتهم التورتة لوحده ووقتها هجري بيه طول الليل بالمستشفيات!

شاركه الضحك قائلًا: لازم يأكلها كلها مش عمايل ابن الشيخ مهران ولا أيه!

تلاشت ابتسامة آدهم وحل الو.جـ.ـع بين سكنته، منذ أن علم بحقيقته وانقطع عن قوله لتلك الجملة، ما أبشع أن يكون أخيك قبالتك وأنت عاجز عن ضمه، عاجز عن أن تبوح له بحقيقتك!

أفاق من شروده على هزة يده وسؤاله: آدهم روحت فين؟

منحه ابتسامة صغيرة، وقال: معاك يا آيوب، همشي بقى ولو احتاجتني متترددش وإتصل.

هز رأسه بتأكيد، فاستأذن آدهم بالانصراف على الفور.

بحث عنها بين أَسِرَّة المرضى، حتى لمح الحاجة رقية تجلس على مقعد خشبي يقابل الفراش وتقرأ بصوتها العـ.ـذ.ب بالمصحف الصغير، وتتمدد هي بشحوبٍ تام، شاردة بالفراغ ودmـ.ـو.عها تنهمر على الوسادة.

تواثبت دقات قلبه بدفٍ يعلمه جيدًا، مالت برأسها للجانب الاخر وفور أن رأته حتى أزهرت وجوم تعابيرها، وهمست بصوتٍ كان مسموعًا: يُونس.

أغلق عينيه بقوةٍ مستمتعًا بصوتها الذي يشفيه من آلامه رويدًا رويدًا، ليتها تنطق إسمها خمسون مرة، أو خمسمائة حتى تدmل جروحه بأكملها.

الآن بات أمام فراشها، عينيه موضوعة أرضًا لا تتطلع إليها، اختزل الحـ.ـز.ن تعابيرها وهي تظن أنه لا يحبذ رؤيتها، فإذا به يردد: ازاي سايباها قاعده من غير نقابها يا مرات عمي!

نهضت عن المقعد تجيبه بابتسامة هادئة: يابني دي لسه خارجه من العمليات وانت عارف إنها عندها ضيق تنفس، فقولت اسيبها تستريح شوية ولما تفوق ألبسهولها.

قال ومازالت عينيه أرضًا: طب لو سمحتي لبسيها.

انحنت للكومود الصغير جوارها تلتقط نقابها: حاضر يا حبيبي.

وبالفعل عاونتها على ارتدائه، ثم جذبت حقيبتها البلاستيكة وقالت: خليك معاها يا يونس، هخرج ألحق آيوب قبل ما يروح أقوله يحط حلة المحشي في التلاجة لتحمض!

بالرغم من صعوبة ما يتعرض له الا أنه رغمًا عنه اضحكته بساطة زوجة عمه التي لا تتفانى بالتفكير عن أصغر ما تنجزه، رآها تخرج من العنبر بأكمله، فتحرك للمقعد بآلية تامة.

أدmعة أعين خديجة وهي تراقبه باشتياقٍ وترقب لاول كلمة، تنتظر أن يأخذ أول خطواته إليها، فوجدته يرفع رأسها إليها ويردد بصوت الحنون: حمدلله على سلامتك يا ست البنات.

اتسعت ابتسامتها ودmـ.ـو.عها تنهمر دون توقف، لا تعلم فرحة بسماعها لقبه المحبب لقلبها أم حـ.ـز.نًا على ما أصابهما.

باغتته حينما تمسكت بيده المسنود على الكومود هاتفة بعاصفة دارمة من الحب: يُونس.

اقشعر جسده بأكمله يعلن حالة الطوارئ لنجدة قلبه المسكين، سحب كفه سريع قائلًا بتوسلٍ: عمري ما أقبل أشيلك ذنب زي ده يا خديجة، انتِ لسه على عصمة راجـ.ـل غيري، فعمري ما أقبل أعمل فيكِ كده.

وتابع بضيقٍ مما فرض عليهما: وجودي هنا في حد ذاته غلط، بس والله ما قادر أمشي من غير ما أطمن إنك بخير.

يا ويلها من تلك الآلآم التي استنزفت روحها الهالكة، أيخاف عليها لتلك الدرجة ولم تترك له ما يدفعه لذلك.

انخرطت خديجة بموجة من البكاء، انهيارًا سحبها من خلفه لدرجة جعلته ينتفض عن مقعده، مقتربًا منها، يتساءل بفزعٍ: مالك؟ حاسة بأيه؟ اهدي طيب هنادي للدكتور حالًا، متخافيش.

ما كاد بالرحيل الا وأمسكت يده توقفه، هامسة بنـ.ـد.مٍ وو.جـ.ـع: سامحني يا يونس. سامحني على ضعفي وقلة حيلتي قدامه. بس مكنش عندي حل تاني.

عاد لمقعده يجلس ويتطلع لها، بينما تخبره ببكاء: هددني لو مرفعتش عليك القضية هيسقطني، وجاب ستات شكلها بشع كنت همـ.ـو.ت تحت ايدهم لو موقعتش على الاوراق.

إلتاع قلبه وذرف دmـ.ـو.ع الخزي والو.جـ.ـع، بينما تتابع وهي تميل بوجهها الباكي على كفه، فأغرقته بالدmـ.ـو.ع: مكنتش عايزة أفرط في الحاجة الوحيدة اللي فاضالي منك يا يونس، آآ، أنا. أنا بريئة من اتهامـ.ـا.تك آه أنا مخونتكش أنا مش وحشة يا يونس أنا مش رخيصة، أنا عملت كل ده عشان أحمي ابني، علشان احميه.

رفع يده الاخرى وكاد بأن يضم وجهها ولكنه أخفضها حينما تذكر بأنها ليست زوجته، فانحنى أسفل فراشها يحاول سحب يده الاخرى ولكنها تزيد من تمسكها به وهي تصرخ بو.جـ.ـع: لأ. لأ. مش هتمشي يا يونس هتسمعني وهترجعني ليك تاني، أنا معتش قادرة أستحمل أعيش مع الشيطان ده ثانية واحدة، إنت أملي الوحيد، متبعدش عني تاني، متسبنيش يا يونس، أرجوك.

أبوس ايدك متسبنيش!
قالتها وهي تقبل كف يده، فانهارت دmـ.ـو.عه وقال وهو يسند جبينه على فراشها هامسًا بصوتٍ مبحوح: كفايا يا خديجة، ارحميني عشان خاطري! أنا عاجز ومش عارف أتعامل معاكي.

ورفع عينيه الغائرة إليها يخبرها: مينفعش أقرب افهمي!

تعمق بها الحـ.ـز.ن والو.جـ.ـع فبات وجهها يشمل كل العتاب له، فأسرع يستكمل: آدهم قالي إنه هيقدر يخلصك منه في وقت قليل، بعد ما عدتك تخلص هنتجوز على طول.

وتابع وهو يتطلع لها بحبٍ فشل بكبته: اللي ملحقناش نعيشه هنعشه من تاني وابننا معانا يا خديجة، ولحد ما ترجعي تقفي على رجليكي وتنتهي شهور العدة هجهزلك الشقة بعفش جديد عشان يليق بيكِ يا ست البنات.

وتابع يمازحها: بس المرادي مش هخاف يطلع حاجات أحدث لإنهم 3 شهور مش سنين الدراسة.

ضحكت حينما فهمت مغزى ما يقصد بحديثه، تذكرت كم كان حزينًا كلما طُرح لمحلاته أجهزة عصرية، كان يود الاحتفاظ بها لشقتهما ولكنها تعود وتخبره بأنها مازالت بالثانوية فمن المؤكد بأن الشركة ستطرح الاحدث.

تخاذلت السعادة داخلها وتطلعت له بنظرة منكـ.ـسرة جعلته يطالعها باهتمامٍ لمعرفة ما ستقول، فتركت كفه ورددت: لا مش هينفع تتجوزني، لأ. أنا منفعكش!

اندهش مما أصابها وتساءل باستغراب: أيه اللي بتقوليه ده يا خديجة؟

تصاعدت شهقاتها بانهيارٍ تامة، وهمست بصوت مذبوح: أنا اتشوهت يا يُونس! مينفعش تتجوز واحدة مشوهة!

اعتصرت قلبه بين أضلعه، يا الله ما الذي اختبرته تلك المرأة بالتحديد؟ يزداد واردة أوجاعه وتزداد الفاتورة ويده مغلولة عن السداد، فابتسمت وهي تستكمل بدmعة تخزلها: ده كان تمن اخلاصي ليك ولحبك، ده دليلي الوحيد إني كنت بعافر لأخر يوم قضيته مع الحقير ده وآ.

ترجى بانهزامٍ تام: كفايا أرجوكي كفايا، متزديش و.جـ.ـعي بالله عليكِ اسكتي، المـ.ـو.ت أهون ألف مرة من اللي بسمعه، ارحميني يا خديجة!

أمسكت يده بقوة وقالت: خلاص مش هتكلم. مش هقول حاجة عن اللي فات بس متسبنيش، متمشيش وتبعد عني تاني يا يُونس، سامحني وخليك جنبي.

وتعمقت بالتطلع له قائلة برعشة ورعـ.ـب: إنت زعلت من كلامي؟ هتمشي وهتعـ.ـا.قبني بفراقك تاني صح؟ لو عملتها وسبتني المرادي مش هحارب تاني يا يُونس، همـ.ـو.ت نفسي سااامع والله لأمـ.ـو.ت نفسي!

قبض أخيرًا على يدها التي تتمسك به، وقال: أبعد ازاي وانتِ اللي رجعتيني لحياتي يا خديجة، أنا عقلي وقف من كتر ما بحاول أنسى كلامك اللي قولتيه وأنا شايلك للاسعاف، صعب عليا أشوفك بترمي نفسك قدام المـ.ـو.ت عشاني وبعدها اكتشف اني ظالمك!

واستطرد وهو يشرد بنقطة فارغة: لو كنت عرفت الحقيقية مكنتش هسامحك عمري كله يا خديجة بس بعد اللي عملتيه ده أثبتيلي انك لسه بتحبيني، ساعدتيني أغفر اللي فات وإني أحاول.

وسحب كفه عنها ثم انتصب بوقفته يتأملها بنظرة عاشقة: أنا لازم أمشي عشان أشوف فارس، متقلقيش اطمني عليه، ولحد ما عدتك تخلص هنقلل مقابلاتنا وكلامنا، وبعد كده نخلي عتابنا في بيتنا!

اتسعت ابتسامتها فرحة، فمنحها ابتسامة جذابة ثم غادر برفقة آيوب على الفور تاركها لزوجة عمه تعتني بها.

مضى آيوب برفقته شاردًا بمكالمة آبيه، فقد أخبره بأن يعود للمنزل ليبت برفقة آديرا، وأرغمه بحزم أن يصارحها بحقيقتها، ويسلم لها دفتر والدتها، لتكتشف حقيقتها، وحقيقة ما خبأه آيوب عنها، حسنًا هو مجبر الآن على المواجهة، مجبر على كـ.ـسر قلبها حينما تكتشف كيف قــ,تــلت عائلتها، مجبر أن يحتويها ويمدها بما قد ينزعج بفعله!

بحث عنها بلهفةٍ، كعادته بعد أي امتحان لها لا يغادر الا حينما يتأكد بأنها لم يواجهها عقبات، لمحها سيف تخطو تجاهه برشاقة ورقة تجعله يود لو تزوجها في الحال ومنعها من الخروج أبدًا.

رنا إليها يتساءل متلهفًا: ها يا زينب طمنيني عملتي أيه؟

منحته ابتسامة صغيرة، وقالت: الحمد لله كان سهل جدًا.

ابتسم هو الاخر وردد: المفروض أفرح بس للأسف أنا زعلان لإن ده أخر يوم هقدر أشوفك فيه جوه الجامعة، لكن براها هشوفك كل دقيقة، في المركز وفي البيت.

رمشت بصدmة: بيت أيه!

ضحك وهو يمازحها: بيتنا يا دكتورة، هو مش دكتور على رجع من السفر! معقول تكوني نسيتي اتفاقنا!

تلونت الحمرة على خدها، فضمت الكتب إليها وأردفت بتـ.ـو.ترٍ: آآ، أنا لازم أمشي. اتاخرت.

هرع للاريكة المعدنية يجذب كتبه والبلطو الطبي: طيب استني هوصلك.

استدارت زينب إليه لتخبره بأنها مصرة على الرحيل بمفردها ولم ترى ذلك الذي يكاد يصطدm بها، وفي لمح البصر قبض سيف على معصمها يبعدها عن هذا الصدام معتذرًا للطالب بايجازٍ.

سحبت يدها من احكام قبضته بخجلٍ وخرجت توقف سيارة أجرة، اعتلتها وعينيها لا تفارقه، وأكثر ما يزعجها ابتسامته وتفهمه لربكتها بوجوده جوارها.

مالت على الشرفة تبتسم بعشق تربع داخلها إليه، وترسم مشاهد مختلفة لها برفقته بعد أن تصبح زوجة له، فإذا بصوتٍ جهوري يقتحم عالمها الوردي.

«عجبتك لمسته المقززة لايدك!، مخــــوفتيش مني ولا من عقـ.ـا.بي! قولتلك أنا جنبك ومعاكي حتى لو مكنتش موجود وعقـ.ـا.بك حاضر يا زينب ووقتي! ».

تراجعت للمقعد بذعرٍ وهي تراه عبر شاشة الهاتف الذي يسلطه لها سائق السيارة، ارتعبت وحاولت فتح الباب بصراخٍ جنوني فاذا به لا ينصاع لها، أسرعت للباب الاخر تحاول فتحه وقد انفطرت بالبكاء الحارق.

لحق السائق بها ليضع الهاتف بوجهها، فوجدته يضحك وهو يخبرها بجنون: مينفعش تنزلي من غير العقـ.ـا.ب، عشان بعد كده تقدري تحافظي على نفسك يا زينب!

واستطرد بصرامة وفحيح سام: نفذ في الحال. احرص أن تزيل أثار هذا الكريه عنها!

انصاع له السائق فاذ به يخرج من جيب سرواله، زجاجة قاتمة، فور ازاحة غطائها انتفضت بمقعدها لعلمها بمكنون ما تحتويه كطبيبة متخصصة، فصرخت بجنون: لا يا يمااااان، أنا آسفة مش هعمل كده تاني، خليه يسيبني أرجوك!

حدقها بسخرية وأردف: مضطر يا روح قلبي عشان تتأكدي إن كلامي مش تهديد، وإنك لو فضلتي تشوفي الحقير ده هتتعـ.ـا.قبي، وعقـ.ـا.بك هيكون على قد ما تتمادي، المرادي مسك ايدك المرة الجاية هيوصل لاوضة نومك لو مخدتش ليكي وله راجع.

واستطرد بوجومٍ مقبض: أفعلها الآن.

تعالى صرخها بفزعٍ وهي تعافر للخلاص، وأخر ما رددته دون ارادة منها كان اسمه هو، صارخة دون توقف لعل قصر المسافة بينها وبينه تجعل صداه مسموع لها، فرددت: سيف!
حاولت أن تدفعه عنها بكل قوتها، ولكنها هزيلة أمامه مهما حاولت، قوتها كأنثى لا تضاهي قوة جسده الذكوري، أغلقت زينب عينيها مستسلمة لمصيرٍ قاسٍ ينتظرها، تركته يمسك يدها وهي تعلم بأنه يتعمد احداث اصابة بنفس المكان الذي إلتف معصم سيف من حولها.

ترقبت لحظة مس يدها بالماء المعتج بالنيران، فلم تشعر بقطراته ولا بيد هذا اللعين تحيطها، أبعدت كفها الرقيق عن وجهها لتتفحص الجزء الأمامي للسيارة، فوجدت بابها مفتوح على مصرعيه وأحدهم يلقي بالسائق أرضًا ويكيل له اللكمـ.ـا.ت القاسية.
ارتعش جسدها بعنفٍ، وحاولت فتح الباب الموصود جوارها ولكنه لم يفتح، ومع محاولاتها المستمـ.ـيـ.ـتة تمكنت أخيرًا من العبور خارجًا.

كادت أن تلوذ بالفرار من ذلك الشارع المظلم ولكنه توقفت فور أن تمعنت بظهر المستلقي فوق الرجل، تعرفت على جاكيته الأزرق المميز، مرددة بهمسٍ منخفض: سيف!
ناله لكمة أخيرة أفقده بها الوعي ووقف يجذب كتبه الملقاة أرضًا، وقبل أن يمر إليها ركله ببطنه بعنفوانٍ.

اقترب منها يسألها وهو يتفحصها بلهفةٍ: حاجة وقعت عليكي؟! طمنيني!
نفت بهزة بسيطة من رأسها، بينما البكاء يفترسها، وعينيها لا تفارق مقعد السائق الذي انتزعت المياه جلده المتين لحظة سحب سيف له للخارج فسُكب محتوياته عليه، متخيلة ماذا كان سيصيبها إن لفحتها تلك المياه الحارقة.

اجتاحها فكرة الفرار من كل ما يحيط بها، استدارت زينب وأطلقت لساقيها العنان، تاركة سيف يراقبها بدهشةٍ، فانحنى يجمع أغراضه وكتبها وحقيبتها الملقية أرضًا، أسرع خلفها يناديها وكأنها باتت صماء لا تسمعه من مسافته القريبة منها.
قبض على معصمها يوقفها صارخًا بها: ممكن تقفي وتكلميني مستحيل بعد اللي حصل ده أسيبك تروحي لوحدك، أنا هوصلك.

هزت رأسها بجنونٍ وكلمـ.ـا.ت يمان تسيطر عليها كالتعويذة السحرية: لأ، لأ، إبعد عني، متقربليش تاني هيقــ,تــلني!
وتابعت وهي تنفض كفه عن ذراعها: ابعد عني!

ارتعش جسدها لدرجة خيل لها بأنها لن تقوى أن تتقدm خطوة أخرى، فجلست على مقاعد المرور المنجرفة بجانب الطريق، تنحني بجسدها على ذراعيها، تبكي بحرقة ولسانها يهمس: مش عايز يسبني في حالي ليه؟! الحب مش بالعافـ.ـية! أنا محبتهوش ولا قادرة أحبه، قلبي اختار شخص غيره هيفهمها ازاي!

جلس سيف على مقربة منها، وتغاضى عما مروا به وما سيخوضه لاجلها، وبالاحرى لا يعنيه حتى وإن قــ,تــل، تستحق أن يهدر روحه لاجلها، فشاكسها ببسمته وسؤاله المخجل: مين الشخص اللي اختاره قلبك؟

رفعت عينيها إليه مندهشة من ابتسامته ونظراته المتغزلة بها غير مبالي بما مروا به منذ قليل!
أزاحت زينب دmـ.ـو.عها بأصابعها ونهضت تتجه إليه، تقابله بجلسته: سيف أنت لازم تبعد عني، يمان مبعدش زي ما توقعنا، كلمني فيديو على موبيل السواق اللي ركبت معاه، يمان محاصرني ومش هيتخلى عني بسهولة.

نهض قبالتها يهدر منفعلًا: ولا أنا هسيبك يا زينب، والكـ.ـلـ.ـب ده مهما حاول يفرقنا مش هديله الفرصة ينجح بده
رفعت كفيها تحتضن وجهها، تردد ببكاءٍ: لو اتاخرت كان شوهني.

رق قلبه لها، فوقف عاجزًا عن احتوائها بين ذراعيه عساها تستمد الأمان منه، ولكنه مازال يحافظ على مسافته بينهما قائلًا بحب: زي ما حمـ.ـيـ.ـتك دلوقتي هحميكِ منه، عيني هتكون دايمًا عليكِ.
وتابع وهو يراقب وجهها بعشقٍ بعدmا أبعد كفيها: لو محاولاته نجحت ترعـ.ـبك بالشكل ده فأنتِ بتحقيقله اللي هو عايزه يا زبنب، انسيه وفكري في اللي إنتِ عايزاه، وأنا أوعدك إني هكون جنبك ومش هتخلى عنك أبدًا.

تعمق بعينيها الساطعة بحبه، وعينيه تضمها داخلها بحنانٍ، فنطق بترقبٍ وخــــوفٍ: موافقة نواجه الحقير ده وإنتِ مراتي وعلى ذمتي يا دكتورة؟
رفرفت بأهدابها الثقيلة من دmـ.ـو.عها بـ.ـارتباكٍ، تركته وتوجهت للمقعد مجددًا، فأغلق عينيه بحـ.ـز.نٍ على حالتها، لا يعلم إن لم يلاحظ نظرات هذا السائق الوضيع وانجراف السيارة عن طريق منزلها ماذا كان سيحدث لها؟

أفاق من شروده على صوتها الذي تحرر أخيرًا: مفيش داعي إننا نعمل فرح، ولو هنكتب كتابنا يكون في السر عشان ميحسش بينا.
ابتهجت معالمه بفرحة، فاتجه يجلس جوارها، متسائلًا بضيق: مش عايزة فرح؟!

هزت رأسها تنفي اقتراحه، فتابع باستغراب: ليه يا زينب؟
اجابته ببكاء وهي تحاول السيطرة على رعشة ذراعيها: مش عايزاه يعرف بحاجة يا سيف، كده أفضل، أنا هبلغ قراري لعلي وإنت كلمه ورتب معاه.

ردد بحـ.ـز.نٍ: بس أنا مش موافق على قرارك ده يا زينب، إنتِ مش ناقصك حاجة عن البنات عشان معملكيش فرح وآ.
قاطعته بحزمٍ: سيف من فضلك أنا مش عايزة أعمل فرح، مش هقدر أكون مبسوطة وأنا عارفة إنه في لحظة ممكن يبوظ الفرح أو يعمل أي شيء يخليه أسوء ذكرى ليا. أنا عايزة أكون معاك فخلينا نتمم كل حاجة في السر.

تفهم سبب خــــوفها، وبعد تفكيرًا وجد أنه الحل الأنسب، فازدرد ريقه هادرًا: زي ما تحبي، المهم تكوني مرتاحة وسعيدة.
وتابع بهدوءٍ: يوسف كان واخدلي شقة جنبه في العمارة اللي اتجوز فيها هو ودكتورة ليلى، هي جاهزة بس ناقصها شوية حاجات.

رددت دون مبالاة: مش مهم، هنبقى نجهزها مع بعض بعد الجواز.

وأي سعادة ستطوف به بعد سماع اصرارها ورغبتها بالبقاء معه، منحها ابتسامة جعلتها لا تود ترك ضمة عينيه العاشقة، تطالبه بأن يكون لجوارها، يحطم تلك الحواجز لتصبح زوجته.

رافقها حتى المنزل، وأصر على مقابلة على وعمران وأخبرهما على ما حدث، ورغبة زينب بأن يتم الزواج سريعًا بسرية تامة، فاتفقوا على أن يتم الزواج بعد ثلاثة أيام من الآن، بعد أن تأكد على من رغبتها في ذلك.

بقيت الحاجة رقية برفقة خديجة، وعاد يونس و آيوب للمنزل، صعد متلهفًا للقاء ابنه، جذب مفتاح المنزل من ابن عمه ليفتحه سريعًا، وولج يناديه بلهفةٍ: فارس!

إلتقطت أذنيه صوت الشيخ مهران يرتل القرآن الكريم بصوته الخاشع، فاتبعه حتى وصل لغرفة الضيافة ومن خلفه آيوب، فوجده يجلس أرضًا ومن أمامه آديرا وفارس، يستمعون إليه بانصاتٍ تام.

تنحنح يونس بخشونةٍ وتراجع للخلف فور رؤيتها، بينما استكمل آيوب طريقه للداخل بابتسامةٍ تسللت إليه، فوقف يتابع أبيه وهو يبدأ بأول دروسه عن الدين الاسلامي لها، وللعجب يراها تنصت باهتمامٍ وانبهارًا تام، عينيه غائرة بدmـ.ـو.عٍ وابتسامة لا تفارق شفتيها.

وفور أن انتهى من حديثه المسموع لها عبر السماعة قالت بتردد واضح: سيدي الشيخ كيف أثق إن دينكم هو الدين الحق؟

وبـ.ـارتباكٍ استكملت: أنا لا أقصد اهانتك ولكني أخشى أن أكون مخطئة، حسنًا أن أشعر براحة غريبة من اتخاذ قرارًا مثل هذا، ربما لإنني تأثرت بأيوب وربما لرغبتي بالالتحاق بالدين الذي مـ.ـا.ت عليه أخي وقد تحمل ظلم عمي ليبقى عليه ولكن آآ.

قاطعها الشيخ مهران وابتسامته البشوشة لا تفارقه: فاهم يا بـ.ـنتي، عشان كده هجاوبك بآيات من القرآن الكريم، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} [آل عمران: 19]. وقال تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ } [آل عمران: 85].

فالإسلامُ دين جميع الأنبياء والمرسلين، وإن اختلفت شرائعهم وأحكامهم، فإنّهم متفقون على الأصل الأول، وهو التوحيد والإسلام، فمثلاً:
أخبر الله عن نوح عليه السلام: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ } [يونس: 72].

وأخبر عن إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } [البقرة: 131].

وأخبر عن موسى عليه السلام: {يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ } [يونس: 84].

وأخبر عن حواريي المسيح: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا واشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [المائدة: 111].

وأخبر عن سليمان عليه السلام على لسان ملكة سبأ: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [النمل: 44].

وأخبر سبحانه وتعالى عن الأنبياء الذين تقدmوا: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44].

واستطرد باستفاضة: أصل الدين واحدٌ، بعث الله به الأنبياء والمرسلين جميعاً، واتفقت دعوتهم إليه، وتوحّدت سبيلهم عليه، وإنّما التعدّد في شرائعهم المتفرعة عنه، و.جـ.ـعلهم الله سبحانه وسائطَ بينه وبين عباده في تعريفهم بذلك، ودلالتهم عليه، لمعرفة ما ينفعهم وما يضرّهم، وتكميل ما يصلحهم في معاشهم ومعادهم، بُعثوا جميعاً بالدّين الجامع، الذي هو عبادةُ اللهِ وحده، لا شريك له، بالدعوة إلى توحيد الله، والاستمساك بحبله المتين، وبُعثوا للتعريف بالطريق الموصل إليه، وبُعثوا ببيان حالهم بعد الوصول إليه، فاتّحدت دعوتهم الله تعالى في إثبات التوحيد، وتقريره، وعبادة الله وحده لا شريك له، وترك عبادة ما سواه، فالتوحيدُ دينُ العالم بأسره من آدm إلى آخر نفسٍ منفوسةٍ من هذه الأمة.

بدت حائرة غير مستوعبة لما قاله، فتسائلت بأكثر ما يتردد لها: هل يقبل الله توبتي يا عم الشيخ؟

ابتسم الشيخ مهران وقال: ربنا سبحانه وتعالى عمره ما قفل باب التوبة في وش عبد من عباده يا بـ.ـنتي، قال سبحانه وتعالى
بسم الله الرحمن الرحيم
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَائِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا.
صدق الله العظيم.

ارتاح بالها واطمئنت لما أقدmت عليه، فقالت بحماسٍ: علمني كيف أصلي؟

ابتسم الصغير وقال: جدو هي ازاي مش بتعرف تصلي! أنا أصغر منها بكتير وبعرف، أنا شاطر عنها.

ضمه الشيخ بين ذراعيه وقال: واحنا هنعلمها مع بعض يا فارس بس لما عمك آيوب يرجع ويعلمها ازاي تتوضى وتغتسل.

تجهمت تعابيرها وأردفت بحـ.ـز.نٍ: وإلى متى سأنتظر؟

اقتحم صوت آيوب مجلسهم: لن أدعكِ تنتظري بعد الآن، هيا لنذهب.

اتسعت ابتسامتها بفرحةٍ، وهمست بحبٍ ملحوظ للشيخ مهران: آيوب!

نهضت واتجهت إليه فقال: انتظريني بغرفتي، سأنضم إليكِ بعد قليل.

هزت رأسها في طاعةٍ واتجهت للغرفة، حرك آيوب يده على شعر الصغير وقال: عمو يونس عايزك ومستنيك قدام الباب.

كشر الصغير ولوى شفتيه بغـــضــــب: مش طالع ومش عايز أتكلم معاه تاني.

نهض الشيخ مهران واتجه إليهما يعاتبه بلطف: ميصحش كده يا فارس، احترم الأكبر منك ده اللي علمتهولك في دروس القرآن؟

أخفض وجهه بحـ.ـز.نٍ، وقال: حاضر يا جدو هروح أشوفه.

قبل وجنته بحنان: روح يا حبيبي.

غادر أمامهما فتابعه الشيخ مرددًا بحـ.ـز.ن: ربنا يصلح لك الحال يا يونس يا ابني.

واستدار لابنه فوجده مرتبكًا للغاية، وما أن تلاقت أعينهما حتى نطق بتـ.ـو.تر: مش جاهز أواجهها بالحقيقة دلوقتي، خايف الموضوع يقصر فيها لما تعرف إن عمها قــ,تــل أمها وأبوها.

أجابه بحزمٍ ينهي تردده: لازم تعرف أصلها يابني، إنت مخبي عنها ديانتها وحقيقتها، إنت سمعت بنفسك إنها لسه مترددة من قرارها لازم تأكد لها إنها مش عبرية الأصل.

ورفع يده يمسك كتفه بقوة وابتسامة أدهشت آيوب: عايزك تجهز شقتك اللي فوق، عشان بعد امتحانانك نعمل فرح اسلامي في الحارة وربنا يكرم وصاحبك يقدر يخلص موضوع معتز لو كده نخلي الفرحة فرحتين بعد ما عدة خديجة تخلص.

وتابع بدهشة: سبحان الله ربنا عادل، معتز حبس يونس واستني لحد ما خديجة ولدت وخلصت عدتها واتجوزها والزمن يعيد نفسه ويتحبس هو ويرجع الحق لصاحبه!

كان شاردًا لا يستمع لما يقول، يتوقف استيعابه عند أول جملة نطق بها الشيخ مهران، فلعق شفتيه الجافة متسائلًا: أجهز شقتي لمين؟

منع تلك الابتسامة من الظهور، وبجدية تامة قال: لمراتك والا هتفضلوا قاعدين هنا معانا، لو هي موافقة أنا معنديش مشكلة.

وكأنه أصابته لعنة الغباء بهذا اليوم، فقال بدهشة: هنا فين! يا عم الشيخ أنا حكيتلك طبيعة العلاقة بينا!

تهدلت شفتيه بابتسامةٍ هادئة، ورد عليه: لما حكيتلي اللي حصل مع أهلها واسمها الحقيقي شوفت رؤيا ليكم في بيت ربنا، سدن نصيبك يابني.

كان أبيه صالحًا، أحلامه أغلبها يتحقق، والآن يخبره بأن رؤيته قد جمعته بسدن زوجة له، فتخلد يقينه بأنها ستكون إليه سكنًا ومسكنًا.

ثقة حديث الشيخ مهران أكدت لآيوب رضاه التام عن زيجته، ربما لمس معدن سدن الذي التمسه آيوب منذ رؤيتها لأول مرة.

إتجه للغرفة فوجدها تنتظره ومازالت ترتدي اسدالها، فأشمر عن ساعديه وأخبرها أن تلحقه للمرحاض ليعلمها أول خطوات الوضوء.

وجده يستند على درابزين الدرج، فدنى إليه يربع يديه أمام صدره وبنزقٍ قال: نعم آيوب قال إنك عايزيني!

استدار خلفه بلهفة وابتسامة واسعة، انحنى إليه يجذبه بقوةٍ لصدره ويده تحتوي رقبته ليضمن عدm ابتعاده عنه، همس بصوتٍ احتقنته الدmـ.ـو.ع: فارس!

انصاع الصغير أمام ضمته الحنونة، فلف ذراعيه حوله رغم استيائه منه، طالت بهما الدقائق، فأزاح يُونس دmـ.ـو.عه وتلبس الثبات راسمًا ابتسامة عـ.ـذ.باء يقابله بها، وهو يرفع إليه كيس بلاستيكي ممتلئ بالحلويات والعصائر المعلبة قائلًا: جبتلك كل الحاجة حلوة اللي بتحبها.

شمل بصر الصغير ما يحمله بدون اهتمام، وقال بوجومٍ: شكرًا مش عايز حاجة.

استدار ليغادر، فأوقفه يونس وأعاده إليه قائلًا بحـ.ـز.نٍ: أنا عارف إنك زعلان مني عشان اللي حصل، بس أنا مسبتهوش وأخدت حق مامتك منه، انت كنت واقف وشوفت.

طالعه بنظرة أو.جـ.ـعت يونس وقال: عشان كده أنا طلعت أشوفك عايز أيه، بس أنا لسه زعلان منك ومن كلامك.

أخفض يونس رأسه أرضًا بحرجٍ منه، رفع كفيه الصغيران يقبلهما وهو يردد: أنا آسف، متزعلش مني.

انسدلت دmـ.ـو.ع الصغير وقال ليصدmه: مش عايزك تكون زيه عشان ماما بتحبك ولو عملت زيه هتكرهك يا بابا.

أطاحته صدmة مهلكة، رغم حلاوة كلمته، فرفع يديه يضم وجهه ودmـ.ـو.عه تغزو لتغرق وجهه: بابا! إنت عارف؟!

هز الصغير رأسه وقال: ديجا قالتلي من أول ما رجعت هنا بس أنا وعدتها إني مش هقولك حاجة لحد ما هي تقولك.

جذبه لاحضانه بقوة وتحرر صوت بكائه المدفون، هامسًا بانكسار: ياريتك اتكلمت وقولتلي.

وتابع وهو يمسد على ظهره بحنان: عمري ما هبعد عنك أبدًا، هعوضك عن كل اللي شوفته مع الكـ.ـلـ.ـب ده، إنت عوضي بعد سنين العـ.ـذ.اب اللي قضتها جوه الحبس يا فارس.

وابتعد يقبل وجهه بحنان ويعيده لصدره بقوةٍ، ثم حمله بين ذراعيه وجذب الكيس البلاستيكي: مش هتخلى عنك أبدًا، مكانا مع بعض، هتقعد معايا فوق.

تعلق برقبته وفور سماع ما قال ردد بتـ.ـو.ترٍ: وماما؟

منحه ابتسامة هادئة، وقبل رأسه مردفًا: ماما بعد ما تخرج من المستشفى هتفضل هنا عند جدو الشيخ مهران لحد ما نشتري أنا وانت عفش جديد ونجدد البيت اللي هنقعد فيه كلنا مع بعض.

وسأله بمكر: ها هتكون راجـ.ـل وتساعد أبوك ولا هتبقى طفل صغير لازق في أمه ومش عايز يسيبها.

أجابه بحماس وهو يضمه بقوة: لا هكون راجـ.ـل وهساعدك.

ربت على ظهره بحب، وصعد به للأعلى.

وقفت خلفه تقلد حركاته وتردد الآيات القصيرة التي عاونتها الحاجة رقية وخديجة بحفظها، وما أن انحنى آيوب ساجدًا، اتبعت حركته لتزيد تلك القشعرة والرجفة التي لمست قلبها وضـ.ـر.بته في مقــ,تــلٍ، ذبذبة أرغمتها على البكاء، لمست الخشوع التام والقناعة بأنها تقف الآن بين يد الله عز وجل.

انتهت صلاتهما فاستدار آيوب للخلف، فوجد عينيها انتفخت من البكاء ووجهها تطوفه حمرة جعلتها رقيقة للغاية، الآن بات يتمعن بها، يلاحظ تفاصيلها بتمعنٍ.

ابتسم حينما وجدها تمسح دmـ.ـو.عها بكم الإسدال الفضفاض، فأخرج من جيبه منديلًا ورقيًا وقدmه لها.

التقطته منه ورددت ببكاءٍ: ليه آديرا مش اتولد مسلم زيك آيوب؟

جلس على سجادة الصلاة بشكلٍ مريح وأجابها بابتسامة جذابة: ومين اللي قالك إنك متولدتيش مسلمة؟

زوت حاجبيها بدهشةٍ: إنتي بتقولي أيه؟

ضحك رغمًا عنن وابتعد عن سياق الحديث الجدي هادرًا: اسمها إنت مش انتي!

زحف حتى وصل إليها، ارتبكت من قربه الغريب لها، لم تعتاد منه على الجراءة، مد يده يبعد حجابها ليجذب السلسال المحاط حول رقبتها، وعينيه تراقب ملامحها باهتمامٍ لما سيقول: إنتِ مش آديرا العبرية، إنتِ سدن المسلمة اللي اتولدت في آسرة مسلمة.

جحظت عينيها بصدmةٍ، ورددت: آيوب إنتِ بتكدبي! أنا آآ، آآ، لقد ولدت بأسرة يهودية، أمي وأبي وأخي وآ...

صدmها بما حرره لها: مش صح، والدتك مسلمة وباباكِ بسببها اعتنق الدين الاسلامي، عشان كده عمك قــ,تــله وقــ,تــلها، وأخدك إنتِ ومحمد ورباكم زي ما هو عايز.

لعقت شفتيها الجافة وهي تزدرد ريقها بصعوبة، فنهض آيوب عن محله واتجه لاحدى الخزانات الجانبية، يجذب الدفتر المحظور لها، وعاد يضعه على ساقيها قائلًا: هنا هت عـ.ـر.في الحقيقة كاملة، وهتتأكدي إنك سدن مش آديرا.

تناولت منه الدفتر بأصابع مرتجفة، وفتحت أول صفحاته لتمضي رحلتها بالكشف عن الحقيقة الصادmة!

اقتحم عُمران غرفة شمس، فوجدها مازالت تغفو بفراشها بتكاسلٍ زاد من شكوكه، نزع عنها الغطاء مشيرًا لها: قومي يا هانم.

تفاجئت به شمس، ففركت عينيها بنعاسٍ: أيه يا عُمران؟ بتقومني الساعة 12 ليه؟!

ربع يديه أمام صدره بسخرية: على أساس إنك مطبقة بقالك إسبوع! إنتِ من ساعة ما رجعتي وإنتي نايمة يا حبيبتي!

تمددت مجددًا جاذبة الوسادة لأحضانها، وهمست وهي تتثاءب: مرهقة أوي يا عُمران، مكنتش عارفة أنام في بيت آدهم، ممكن لإنه مكان جديد عليا.

أطبق على شفتيه بعنفٍ، وأخذ يجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا مفكرًا بما يتردد إليه، فاستل هاتفه من جيب بنطاله وأرسل رسالة لعلي، وما هي الا دقائق حتى ولج للداخل يتساءل: في أيه؟!

بشقة سيف.

خرج من المطبخ حاملًا لوحًا اضافيًا من الثلج، مده لأخيه الذي التقطه منه وانحنى يضعه على قدm جمال المتورمة، فتأوه الاخير بألــمٍ وتمتم بغـــضــــبٍ جحيمي: الوقح الحقير! أشوفه بس هشرب من دmه.

كبت يوسف ضحكاته بصعوبة بالغة، وتابع تدليك كتفيه مرددًا بثبات مهتز: وإنت أيه بس اللي خلاك تسمع كلامه وتروح معاه الجيم؟

استدار برأسه تجاه يوسف الذي يباشر عمله بينما يقف سيف حاملًا صينية الثلج يتابعهما بمللٍ، وصاح بانفعالٍ: معرفش ازاي أقنعني! قال أيه الهدوم اللي نقاها مينفعش ألبسها وأنا بكرش!

واستشهد بهما مشيرًا على بطنه: بذمتكم أنا عندي كرش!

واساه سيف مربتًا على كتفه: استهدى بالله يا بشمهندس هو الطاووس الوقح ده محدش مالي عينه الا عضلاته.

انحنى بظهره للأسفل يفرك قدmيه المتورمة، مستطردًا بغـ.ـيظ: مصمم إني طلعلي كرش بعد ما أمي جت هنا، بيقولي بكل بجاحة من ساعة ما أمك جت وطلعلك كرش يا جمال!

وتمعن بيوسف الذي احتقن وجهه من فرط الضحك، هاتفًا باستنكارٍ: إنت بتضحك يا يوسف، البيه رماني مع الكابتن الهمجي ده أربع ساعات ولولا كلمتك تجيني كان زماني مرمي في أي مستشفى وبتضحك!

وتابع من بين اصطكاك أسنانه: ومصمم يوديني تلات أيام في الاسبوع! ده منظر الكابتن نفسه يفزع النفس ويقطع الخلف، تحسه لودر منحرف الزوايا، ماشي يحدف في خلق الله شمال ولمين!

سحب يوسف المقعد المقابل لمقعده، جلس وهو يتطلع له بهدوءٍ زرع القلق بجمال الذي تساءل: في أيه إنت التاني بتبصلي كدليه؟

أراد أن يكون بمفرده برفقته، أشار لسيف بعينيه فانسحب لغرفته، فصاح بضيقٍ: ممكن تسيبك من تفاهتك مع عُمران وتقولي حكايتك أيه بالظبط؟

أخفض ساقيه عن الطاولة الزجاجية متسائلًا باستغرابٍ: حكاية أيه؟

رد عليه بحدةٍ: حكايتك مع مراتك يا جمال، في أيه ردتها وفي أيه قاعد هنا مع سيف ليل نهار!

أطلق تنهيدة عميقة لخوضه نقاشًا لا يفضله، فوجد أن الانسحاب هو الحل الأمثل، استقام بوقفته واتجه لغرفته بعيدًا عن صراخ يوسف المنفعل: كل ما أكلمك في الحوار ده تسبني وتمشي! عيل صغير انت!

ألقى بثقل جسده على الفراش هادرًا بانفعال: يوسف أنا راجع مدشمل وعايز أرتاح، بكره نتكلم.

حدجه بنظرة نارية وبسخرية هتف: هنتكلم أمته ان شاء الله؟ بكره افتتاح المركز ومش هكون فاضيلك!

وضع الوسادة أعلى رأسه قائلًا بنعاسٍ: يبقى بعد بكره تعالى ونتكلم، أنا قاعد ومرتاح هنا مع دكتور سيف، إنسان هادئ ومحترم بصراحة هو الوحيد اللي يستحق الثناء لإنه بيفهمني كويس أوي فعلى قد ما بيقدر بيتجاهل وجودي وده مخليني مستلطفه ودلوقتي عايزك تقفل النور وتشـ.ـد الباب في ايدك، تصبح على خير يا جو.

وسحب الغطاء على رأسه هاتفًا من أسفله: متنساش البقسماط وإنت مروح لدكتورة ليلى تشرحك عملي!

حدm غـــضــــبه المستعار وكمد غـ.ـيظه، فأغلق الضوء وسحب الباب بعنف كاد بإيقاعه، واتجه للخروج قبل أن يفتك بذلك المتحاذق، فإذا بأخيه يلحق به وقد عقد نيته للتحدث بأمر شقته، فأوقفه يوسف قائلًا: ارجع أوضتك يا سيف وبكره هنتكلم في حوار الشقة والجواز.

انصاع إليه مرحبًا بتقبله لفكرة زواجه السريع بينما مضى يوسف بطريق عودته لشقته.

بتتكلم بالألغاز إنت ولا أيه؟ ما تنطق يا عُمران قصدك أيه؟!

صاح بها على بنفاذ صبر، بعد فشله بفهم ما يود أخيه البوح به، فلكزه عُمران بغـــضــــب وانفجر بعصبية أدهشت علي: هو أيه اللي مش مفهوم يا دكتور! بقولك إنت كنت واخد بالك من شمس كويس ولا كنت ملهي في المستشفيات والعيانين اللي مش هنخلص منهم أبدًا.

واستطرد وهو يلكم الحائط بغـ.ـيظٍ: أنا كنت عارف من الأول إنك مش الشخص المناسب اللي ينفع يشـ.ـد عليها، رختلها الحبل واديها رجعت بالكارثة!

هز على رأسه بصدmة وحيرة: كارثة أيه يابني آدm، فهمني شمس مالها؟

ابتلعت شمس ريقها بتـ.ـو.ترٍ، وتعلقت بذراع على تهمس برعـ.ـب: هو في أيه يا علي؟ أنا همـ.ـو.ت ولا أيه؟!

ضمها على لصدره مربتًا عليها بحنان: بعد الشر عليكي يا حبيبتي، إنتِ عارفة إن ربنا ابتلانا بطاووس وقح ضيفي عليهم مـ.ـجـ.ـنو.ن ومختل عقليًا، بإذن الله علاجه على ايدي.

احتدت رماديته بقسوةٍ وهدر:
بقى أنا مـ.ـجـ.ـنو.ن ومختل! يا أخي بدل طولة لسانك دي كنت حافظت على أختك وحطيت حد للسـ.ـا.فل اللي استغلها ده يا آآ. ياخويا يا كبير!

ترك على شمس واندفع تجاه أخيه، يلف يده حول رقبته بنفاذ صبر: يا تنطق تقصد أيه بكلامك السخيف ده يا تبلع لسانك الوقح.

أبعد كفه عنه بنزقٍ: الهانم من ساعة ما رجعت من السفر وهي نايمة.

رمش بعدm استيعاب، متسائلًا بصدmة عساه لم يلتقط مفهوم حديثه: بتقول أيه؟

صرخ بحنقٍ: نايمة بقولك!

عبثت معالم على بحـ.ـز.نٍ بعدmا تأكد بأن أخيه فقد عقله، وبدى حائرًا ما بين أن يعالجه بنفسه أم أن حالته تستدعي وجوده بمشفى الأمراض العقلية.

اندهش عُمران من صمته وحـ.ـز.نه الغائر، فظنه قد التمس حجم الكارثة فقال بحدة: حالًا تتصلي بيه أقسم بالله لاسافرله وأخليه عبرة لمن يعتبر، مش أخت عُمران سالم الغرباوي اللي يتضحك عليها يا علي.

اتجهت إليه شمس تحاول استيعاب حديثه فظنته يتحدث على رحلة اليخت وقد أصر على وآدهم الا تعلمه بذلك، فقالت بضيق: هو مضحكش عليا يا عُمران أنا روحت معاه بمزاجي.

تزاحمت النيران في مقلتيه، وصاح من بين اصطكاك أسنانه: اخرسي يا شمس، هعتبره ضحك عليكي.

تشوش رأس على من محاولة فهمه فابتلع ريقه هادرًا: أفهم أيه اللي مضايقك في نومها ويوصلك للشكل الجنوني ده؟

زفر بضيق: الحوامل بيناموا كتير كده يا علي، الكـ.ـلـ.ـب ده استغل انها مـ.ـر.اته وغواها.

برق على بصدmة، لوهلةٍ ظن بأنه سيترنح للخلف، فأسرعت شمس إليه تسانده وهي تتساءل بحيرة: هو إنت فهمت عُمران ماله! لو متضايق من نومي هشرب قهوة وأسهرله!

بصعوبة استدار لها يهمس: روحي اوضتك يا شمس وآ.

صاح بغـــضــــب: لا مش هتمشي غير لما تتصلي بالبيه ده وآ.

كمم على فمه وقال بصدmة: أوعى تقول الكلام الاهبل ده قدام أختك، إنت مش وقح إنت غـ.ـبـ.ـي وحمار يا عُمران!

اقتربت منهم تزفر بمللٍ: حد فيكم يقولي في أيه؟

واتجهت عينيها لعمران تردد: إنت زعلان عشان ركبت مع آدهم اليخت لوحدينا يا عُمران! خلاص متزعلش المرة الجاية هخدك معايا.

منح أخيه نظرة يملأها الاتهامـ.ـا.ت وهدر بعصبية: الله الله يخت كمان! لا ده شغل على نضيف.

واستدار لاخيه يصبح بتهكم: وإنت كنت فين وهو بيستفرض بيها في عرض البحر يا دكتور يا محترم!

جلس على بمقعده متخذًا من يديه حاجز يمنع به عينيه من رؤية أخيه الذي استفز كل خلية داخله، تاركًا شمس بمواجهة الطاووس الوقح يخبرها ببسمة مخيفة: ها يا شمس كنا واقفين عند مرواحك اليخت وبعدها حصل أيه؟

قلقت من طريقته الغريبة فتطلعت تجاه أخيها الأكبر مطالبة برجاءٍ: علي! الحقني يا علي!

نزع يده عن جبينه ونهض يفصل بين عناقهما، مقبلًا جبهتها وبابتسامة رسمها بتمكنٍ قال: روحي نامي يا حبيبتي وسبيلي البيه ده لينا حسابات تانية مع بعض.

ولف ذراعه حول رقبة عُمران ثم دفعه خارج غرفتها، محافظًا على ابتسامته المزيفة حتى لحظة انغلاق بابها فاستدار يقابل الاخير بجفاءٍ وصاح به: عُمران خرج شمس وآدهم من دmاغك، حاول تتقبل إنها أختك مش مراتك!

جابهه الاخير بغـــضــــب: ولو أختي مينفعش أحافظ عليها يعني!

مرر يده بين خصلاته الطويلة مرددًا بتنهيدة: لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، يا حبيبي افهم ده جوزها وكلها أيام وهتسافر تعيش معاه، حاول تستوعب ده!

إنت بتقول أيه يا على تسافر فين؟! شمس هتتجوز وهتقعد هنا معانا ولو الكلام ده مش عاجب البيه يخليه زي مهو وكل شيء قسمة ونصيب.

تحرر حديثه المتعصب ليصدm على صدmة جعلته يتجه لأقرب براد مياه يرتشف كوبين جرعة واحدة وعينيه لا تنجرفان عن أخيه الذي يطالعه بقوة وتبجح وكأنه صاحب حق.

ترك الكوب من يده ثم قال: الوقت اتاخر روح نام يا عُمران ونبقى نتكلم في المصـ يـ بـةاللي بتخططلها دي بعدين.

واتجه لغرفته هادرًا بانفعال: ومن غير تصبح على خير لانك متستحقهاش!

وضع يديه بجيب جاكيته متمتمًا بغــــرور: أستحق ولا مستحقش اللي بقوله كده كده هيتنفذ!
استند على الكومود يتابعها بحـ.ـز.نٍ وهي تتنقل بين صفحات الدفتر بلهفةٍ ودmـ.ـو.عها تغزو وجهها، وُلد الألــم بين أضلعه، وقد رق القلب لتلك العبرية التي قذفتها الحياة إليه وهيئتها لتكن أكبر لغزٍ خاضه بحياته.

هو الابن المتدين للشيخ الأزهري مهران، حياته كانت مسالمة بشكلٍ مريبًا، حتى تعرقل بها فأيقن بأنه كان يتهيء لاختبـ.ـارٍ قاسٍ.

والآن ينجرف بطريقه خلف تلك النبضة الغريبة التي خفقت داخل صدره، اختناقه لرؤيتها تبكي يجعله يخشى أن يكون قد فعلها وسقط في الحب المحظور!

نهض آيوب عن الفراش وإتجه للأريكة التي تحتلها، جذب منها الدفتر بعدmا وصلت لنصفه، وقال بنبرة حنونه: كفى، فلنذهب للنوم وغدًا بإمكانك أن تستكملي.

حاولت سحب الدفتر من بين يديه قائلة: سبيه آيوب أنا مش خلص قراية.

أبعد يدها وقال بأمرٍ قاطع: سدن.

استنكرت ندائه الغريب لها ولكن بعد قراءة النصف الأول من الدفتر باتت تصدق كل ما يخبرها به، حتى ذلك الأسم العربي، تركت ذراعه واتجهت بخطواتها البطيئة للفراش، جلست تضم وجهها بيديها وتبكي بانهيار تتمنى أن يريح ألــم قلبها، فما أصعب ما تلقته من صدmـ.ـا.تٍ ذبح فؤادها.

راقبها آيوب وقد تخلل له الشعور بالنـ.ـد.م لمساعدتها بمعرفة الحقيقة، فجلس جوارها ورفع يده يطبطب على ظهرها مرددًا: ماذا عساي أن أفعل سدن؟ لقد أوصاني محمدًا أن أسلمك الدفتر بعد مـ.ـو.ته ومع ذلك لم أفعلها حتى لا تظنيني أفعل ذلك لأرغمك بأعتناق الدين الاسلامي.

استدارت إليه بعينيها المنتفخة ورددت بصوتٍ بُحت نبرته: أنا لست بخير. ضمني إليك آيوب.

احتواها بين ذراعيه بقوةٍ فانفجرت مرددة ببكاءٍ: بالله عليك أخبرني ما الذي يدفع الأخ إلى قــ,تــل أخيه؟! كيف فعلها؟

لقد ظننت أنه يتألــم بعد مـ.ـو.ت أبي، ظننته يعوض شوقه إليه فيقوم بتربيتي أنا وأخي.

ورفعت رأسها القريب منه تخبره بو.جـ.ـعٍ: منذ أن ظهرت بحياة أخي وقد انكشف عنه وجهه الحقير، لقد أرسلك الله لنا لتخلصنا من هذا الشيطان آيوب.

مسد على ظهرها هامسًا برخامة صوته المحبب لها: اهدئي فحسب، لا أريد أن أشعر بالذنب لاخبـ.ـارك بالامر، أرجوكِ!

ابتعدت عنه قليلًا هادرة بلهفة وهي تزيح دmـ.ـو.عها بيديها معًا: أنا مش عيط. شوف!

كلما تحدثت بكلمتها العربية تضحكه رغمًا عنها وعنه، يشعر وكأنها طفلة تحاول نطق كلمـ.ـا.ت تفوقها، تنحنح بخفوتٍ وسألها بدهشة: لماذا تبقين لهذا الوقت بإسدال الصلاة؟

اتجهت يدها تلقائيًا لحجابها مرددة ببلاهة: لإنك مازلت هنا!

تسللت الدهشة لتعابيره، فاستكملت باستفاضة: الحجة ركيا قال مش أقلع حجابي قدام أي راجـ.ـل عشان حـ.ـر.ام.

سقط بنوبة من الضحك وانبثقت كلمـ.ـا.ته بصعوبة: قدام أي راجـ.ـل لكن أنا جوزك فحلال عادي.

مسكت طرف الحجاب وتساءلت بقلقٍ: يعني أقلع حجاب عادي؟

هز رأسه مؤكدًا ومازالت ضحكاته تتعالى حتى أدmعت عينيه، توقفت عن فك حجابها وقد ساورها الشك تجاهه، فتركت الفراش ونهضت تتجه للخارج، فسألها بذهول: انتِ راحه فين؟

قالت دون النظر إليه: إنتي بتكدبي عليا، الشيخ مهران هتقول الحقيقة.

وتركته مصدومًا وإتجهت لغرفة الشيخ مهران تطرق بابه، أفاق آيوب من صدmته، فهرع خلفها يناديها بحزمٍ: سدن توقفي الآن!

تريث بخطواته فور أن انفتح باب غرفة أبيه، فامتقع وجهه حرجًا لما قد يظنه به فإذا بالشيخ مهران يتساءل: خير يا بـ.ـنتي في حاجة؟

أجابته بنبرتها الشبه مفهومة: آيوب عايز آديرا يقلع حجاب، الحجة ركيا قال آديرا مش اقلع حجاب قدام راجـ.ـل، وآيوب قال اقلع!

احتقنت نظرة الشيخ تجاه ابنه الذي يود أن تنشق الأرض وتبتلعه، فأجبر لسانه المصعوق على استجابة أوامره فنطق: هي تقريبًا فهمتني غلط يا عم الشيخ، أنا كل اللي قولته تقلع الطرحه وتنام مهو مش معقول هتنام وهي متكفنة كده!

بقت نظراته محيطة بآيوب بشكلٍ أقلقه للغاية، فلعق شفتيه بـ.ـارتباكِ: مصدقني يا حاج؟

سند كفه على الكف الأخر ووقف يراقبهما بثباتٍ تضاعف به ارتباك آيوب الذي يتابع والده بحرجٍ، إلى أن مزق جلباب صمته مردفًا: خد مراتك وارجع أوضتكم، وقبل الفجر تنزل على وضوء صلاة الفجر يابن الشيخ مهران.

رسالة صريحة باطنها يعلمه آيوب، فهز رأسه مؤكدًا له، وأشار لتلك التي تترقب سماع اجابة سؤالها: فلنذهب هيا.

لحقت به للداخل بعد أن رأت حالة الصمت المطبقة على الشيخ، أغلق آيوب الباب خلفهما واستدار يقابلها بضيقٍ: بربك يا فتاة أي حماقة حلت عليكِ!

هزت كتفيها ببراءةٍ: مش عارف إنت بتتكلمي عن أيه؟

إنت وبتتكلمي! يا صبر آيوب صبرني على ما ابتليتني بيه!

هدر بها منفعلًا، اتجه للفراش ينحني للأمام بجسده، فإذا بها تجلس جواره، تراقبه بضيقٍ لظنها بأنه حزين من فعلتها، فقالت ويدها تنزع الحجاب عنها: متزعليش آيوب قلعت حجاب.

لف رأسه لها مستنكرًا جملتها، مسح بيديه وجهه هامسًا بنزقٍ: هتجلطني!

تنهد وقال بقلة حيلة: مش زعلان، يلا اطلعي نامي.

هزت رأسها ونزعت عنها السماعة الصغيرة بآذنيها، بينما نهض آيوب واتجه لخزانته، يجذب بنطال وتيشرت مريح، وخرج للحمام الرئيسي ثم عاد لها فوجدها مازالت تجلس بنهاية الفراش، تغفو وهي تضم ذراعيها لساقيها بنومة غير مريحة بالمرة، حملها وإتجه ليضعها على الوسادة بشكلٍ مريحًا، فتعلقت برقبته بفزعٍ حينما شعرت بذراعيه، ردد بنبرةٍ جذبتها إليه: أنا كنت بعدلك. متخافيش!

تطلعت لفيروزته بانجذابٍ، ولمرتها الثانية لا تخجل من تصريحها بحبه الشـ.ـديد، فقالت بالعربية: أنا بحبك آيوب.

ازدرد ريقه الهادر بصعوبة، فاستدار ليجلس هو على الفراش ووضعها أمامه، لا يعلم كيف استيقظ قلبه واعترف بسطوة حبها المستحيل، احتضن وجهها بيده واختلفت نظراته لها، تقسم بأن حبها بات يتلألأ بمُقلتيه كسطوع البدر في ليلة تمامه، مالت بوجهها على كفه وأغلقت عينيها بحبٍ وعاطفتها تتحرك إليه، تود أن ينزع عنها الألــم ويطيب جـ.ـر.حها الغائر، عساه هو بلسم أوجاعها مثلما كان لأخيها.

كأجنبية تمنت خوض تجربة عاطفية مع شخصٍ تحبه، ولكن لم يحالفها الحظ مثلما وصفته، وها هي الآن تختبر أول قطفة من درب الغرام على يد زوجها.

أغلقت عينيها بقوةٍ تواجه تلك المشاعر الجديدة عليها، لا تعلم لما يخفق قلبها بكل هذا العنف، ربما لآنه لم يكن أي شخص، المؤكد لها لما تختبره من عاطفة وأحاسيس خاصة كانت لإنه آيوب الذي أحبته بصدقٍ، أحبت ذلك الشاب الذي خاض تسعمائة وتسعة وتسعون معركة وإنتصر بها بمعركته الألف، هو الذي قذف الحب بقلبها رويدًا رويدًا، لم تكن مفتونة به ولا بجاذبيته، بل ما جمعها به رغبة الانتقام والكره، الحبل الرفيع ما بين الحب وقد تمزق ليختل توازنها.

أفاق آيوب من انزلاقه خلف طوفان مشاعره التي تفاجئ بأنه يحملها لها، فابتعد عنها في الحال قبل أن يتطور بهما الامور.

وقف يلتقط أنفاسه بأعين متسعة، غير مصدق لما فعله الآن، يتطلع لها بنظراتٍ عبر فيها عن أسفه، فاستعاد ثباته وانتظام أنفاسه قائلًا: لا يمكن أن يحدث شيئًا بيننا سدن، آآ. أنا. لا أريد أن أرتكب حماقة الآن، لست جاهزًا على تحمل مسؤولية كبيرة مثل هذه الآن، أنا لم أنهي دراستي بعد وآآ...

اعتدلت بجلستها والألــم يتسلل لتعابيرها ببطءٍ، شعور أنه مرغم ليكون معها طـــعـــنها بقسوةٍ، فرددت وهي تعتدل بنومتها لتحتل الجانب الأيسر من السرير: لا عليك. أنا أتفاهمك.

لعن نفسه لما تفوه به، نظرة الانكسار بعينيها كـ.ـسرته هو، ولكنه عاجز عن أن يشرح لها، بالنهاية ليست ملمة لتفاصيل عالمه، أن فعل ذلك لن يسامح ذاته أبدًا، عليه أن يجد عملًا مناسبًا أولًا وأن يعلن زواجه بها بالحي الذي يسكنه ثانيًا، عليه أن يقدm لها مسكنًا مناسبًا، وحفل زفاف حتى وإن كان بسيطًا، ليست لانها وصية صديقه، لإنه إن أحبها بصدق عليه أن يكرمها ويمنحها كرامة العيش وسط عالمه كما فعلها حينما اندث بعالمها الغربي.

وقف بمنتصف الغرفة حائرًا، يود الذهاب والنوم بغرفة والده ولكن ساقيه اللعينة لا تنساق إليه، عينيه الخائنة لا تكف عن التطلع لرجفة جسدها من أسفل غطائها، قلبه الاحمق يزيد من وتيرة دقاته وكأنه يعـ.ـا.قبه على ما ارتكبه.

تمدد آيوب جوارها، وبدون ارادة منه لف يديه من حولها ليعيدها لاحضانه مستنشقًا رائحة الزيوت المنعشة المنغمسة بخصلاتها الصفراء، هامسًا لها بنبرة جعلتها تحلق بسمائه: وذلك الإرهاربي أحبك رغمًا عن أنفه!

لوهلةٍ ظنته حلمًا يعوضها عما لاقته، ولكن رائحته وأنفاسه القريبة تفصلها عن أي تفكيرًا أحمق، استدارت تواجهه وخضرتها تواجه فيروزته بكل جيوشها، ازدادت حدة أنفاسه فقال ومازال يغرق بجنتها: كفى! أقسم أنني سأنسى حتى إسمي إن بقيتي تنظرين لي بتلك الطريقة.

ابتسمت ودmـ.ـو.عها تنهمر دون توقف، فإذا به يزيحها عنها هاتفًا: بالله عليكِ توقفي عن البكاء، سدن أنا أحبك ولكن هنا الحياة محتلفة عما اعتدتي بالخارج، هنا إن لم أكن جاهز لتحمل مسؤوليتك كاملة فأنا لست مؤهلًا لكِ، إن أحببتيني بصدق فلتنتظري حتى أنهي دراستي وحينما أنتهي من تجهيز منزلي أعدك بأنني سأتزوج بكِ هنا في حفل يشهده عائلتي وأهالي الحي بأكمله.

تحمست لسماع الجزء الاخير من حديثه فقالت بفرحة: هل يعني ذلك بأنني سأرتدي فستان زفاف؟

هز رأسه يؤكد لها، مضيفًا: وهل ينقصكِ شيئًا عن الفتيات لترتديه!

طوقت عنقه بسعادة، وهي تردد دون توقف: أحبك آيوب، أحبك!

نزع يديه من حول رقبته هادرًا بتـ.ـو.تر: حسنًا لنعقد اتفاق بيننا، لا تقتربي مني لهذا الحد مجددًا والا سأسحب وعدي لكِ وحينها لا يوجد زفاف ولا فستان.

سحبت ذراعيها وتراجعت للخلف فجذبها مجددًا مرددًا بخبث: ليس لهذا الحد، بامكانك النوم بين أحضاني ولكن بحذر يا فتاة!

كبتت ضحكاتها بصعوبة وأشارت له بموافقتها على اقتراحه، ضمها آيوب إليه وتصنع نومه حتى غفت مبتسمة، ففتح فيروزته يطالعها بحبٍ، وهمس لذاته ساخرًا: مطلعتش جـ.ـا.مد زي ما كنت متخيل، وقعت يابن الشيخ مهران!

بصق الدmاء من فمه بعدmا تجرع أبشع أنواع العـ.ـذ.اب، وها هو الآن يواجه ذلك الوجه الذي يصعب عليه نسيانه، سند طوله بصعوبة ليصل لطرف الحبل المعلق بسقفية المعتقل مرددًا بأنفاسٍ شاحبة: الرحمة يا باشا.

ابتسم من يقف أمامه بكـبـــــريـاءٍ، فنهض عن مقعده ودث يده بجيب بنطاله الأسود، ثم دار من حوله بخطوات كانت تزلزل جسد غريمه، وبالأخص حينما قال بصوتٍ جهوري: طالب مني الرحمة طيب قولي إنت رحمت مين عشان أرحمك؟!

فتح معتز جفنيه المشقوق من أثر ذلك الجـ.ـر.ح الغائر وسأله بخــــوفٍ: يونس اللي زقك عليا يا باشا؟

تعالت ضحكات آدهم وانحنى بقامته الطويلة قبالة وجهه المحني: تفتكر يونس ليه في قذارتك دي؟! معتقدش إن تربية الشيخ مهران تبقى بالدناءة اللي اتربيت عليها يا معتز.

وانتصب بوقفته بعنجهيةٍ لا تليق الا سواه، مرددًا بقوة: العدالة الربانية قانون وداير، و.جـ.ـعت في يوم حد هيجي اليوم وحد هيوجـ.ـعك وهيدوسك بالجـ.ـا.مد، ظلمت ودلوفتي بتتظلم وبتدوق من نفس الكأس ال اللي دوقته ليونس.

وتابع وعينيه تحدج به بشراسة: اللي كنت بتتحامى فيه ومشغله لاعمالك القذرة مرمي في زنانة جنبك فبهدوء كده هتنفذ كل اللي هقولك عليه والا إنت متتوقعش اللي ممكن أخليه يعملوه فيك.

ابتلع ريقه القاحل بصعوبة بالغة، وهدر برعـ.ـب: هعمل كل اللي هتقول عليه يا باشا، أنا خدامك!

منحه ابتسامة خبيثة وردد: بدأت تعجبني!

سيطرت الشمس بأشعتها الذهبية على ظلام الليل الدامس، وتباهت بضيائها الذي تفرد ليعلن بكـبـــــريـاء بداية صباحها.

وبغرفتها كعادتها المزعجة مؤخرًا، تقيأت ما بجوفها صباحًا وهي تدعو الله أن لا يشعر زوجها بها، فتحطم أملها مع سماع طرقات باب الحمام وبعدها انطلق صوته الرجولي الحنون يتساءل: فريدة أنتِ كويسة؟

جذبت مناديلًا ورقية تجفف بها قطرات المياه المنتشرة على فمها، فتحت الباب فاندفع إليها يساند خصرها باحكامٍ وهو يتساءل بهلعٍ: إنتِ شكلك لسه تعبانه؟ كنتِ بتضحكي عليا وبتقوليلي بقيتي كويسة أديكي لسه تعبانه اهو.

جاهدت لتنطق بثبات: أنا كويسة.

انحنى يرفع ساقيها للفراش جاذبًا الغطاء عليها: لا يا فريدة مش كويسة، بقالك كام يوم على الحال ده وكل ما أكلمك تقوليلي أخده برد!

باصرارٍ استرسل: هروح أطالبلك دكتور حالًا.

تمسكت بيده قبل أن يتجه لهاتفه وقالت: مالوش داعي يا أحمد، أنا كلها ساعتين وراحه المركز عشان الافتتاح هخلي حد من الدكاترة يكشف عليا.

وتمايلت على الوسادة بتعبٍ ورددت: أنا بس عايزة أنام شوية، من فضلك خفف الاضاءة.

جذب الريمـ.ـو.ت الالكتروني يستجيب لطلبها، ثم فرد الغطاء عليها ومال يمسد على خصلاتها القصيرة المنثورة على الوسادة، هامسًا بعشقٍ: ارتاحي يا حبيبتي!

بعد ساعات بغرفة زينب.

أنا عايزة أفهم أيه اللي يخليكي متسرعة في قرار جوازك من دكتور سيف وانتي كنتي رافضة الموضوع من كام يوم بس؟! قوليلي يا زينب إنتِ بتحاولي تخبي عني أيه، اتكلمي!

كلمـ.ـا.ت تحررت بغـــضــــب على لسان فاطمة بعدmا علمت بقرار زواج زينب، توقفت زينب عن لف الحجاب لاستعدادها للذهاب برفقتهم للحفل.

استدارت تواجه شقيقتها باستسلامٍ، كانت تعلم بأن هذا اليوم قادmًا لا محالة، لذا رددت بحـ.ـز.نٍ: قررت ده عشان بحبه يا فاطمة وعشان أتخلص من علاقة حب مريـ.ـضة بتطاردني لحد النهاردة.

زوت حاجبيها باستنكارٍ: علاقة حب! تقصدي أيه يا زينب؟

فركت أصابعها بتـ.ـو.ترٍ مما ستخبرها به، فتركت مقعد السراحة واتجهت لمحلها قائلة: كان في شخص في حياتي قبل ما أسافر على هنا، بس مع الوقت اكتشفت انه انسان مش طبيعي ومتملك بشكل مـ.ـجـ.ـنو.ن، كنت فاكرة اني لما أسافر على هنا عمره ما هيوصلي بس كنت غلطانه، عرف مكاني وهددني كذه مرة ودكتور على عارف الحوار ده.

واسترسلت باصرار: ودلوقتي عايز يفرقني عن سيف لانه بيراقبني وعارف كل تحركاتي عشان كده اتمسكت بيه لإني حبيته يا فاطمة ومش عايزة أبعد عنه.

صعقت مما استمعت إليه، خاضت شقيقتها حربًا نفسيًا طاحنة وهي أخر من يعلم بها!، ضمتها فاطمة لاحضانها بقوة، ولم يسعها الا أن تضمها ودmـ.ـو.عها تنهمر رغمًا عنها، لم تملك حتى جراءة المعاتبة لاخفائها الأمر لأنها تعلم بماذا ستجيبها، ولكن ما عليها الا لتطمنها فقالت: لو جوازك منه هيسعدك فاتجوزي وعيشي حياتك يا زينب، أنا كل اللي يهمني إنك تكوني مبسوطة وسعيدة في حياتك.

ضمتها بقوة ورددت: هكون سعيدة طول ما انتي جنبي يا فطيمة.

أبعدتها عنها وقالت وهي تزيح دmـ.ـو.عها: يلا كملي لبس عشان منتاخرش عليهم.

هزت رأسها بابتسامة رقيقة، وهبطت فاطمة للاسفل تنتظر هبوط باقي أفراد العائلة.

انتهى من عقد جرفاته بحرفيةٍ جعلته أنيقًا كعادته، وفور أن انتهى من ارتداء حذائه حتى خرج من الخزانة يناديها: حبيب قلبي خلص لبس ولا لسه؟

زحفت لحافة الفراش تطالعه بضجرٍ، فتطلع لها بدهشة: إنتِ لسه (بالbijama. بالبيچامة)!

ضمت الدmية إليها، ثم مالت بجسدها للأمام مستندة عليها، وبإرهاقٍ قالت: مش قادرة أقوم من مكاني فقولي هلبس ازاي!

واسترسلت بحـ.ـز.نٍ: أنا حتى وشي بقى مجهد وبقيت مش بقدر أقف ولا أتحرك زي الأول. حتى لو بصيت لواحدة غيري هسامحك لاني شكلي بقى بشع جدًا!

جلس عُمران أمامها، وقال وهو يعقد خصلتها حول أصبعه: طيب ومين السبب في اللي انتِ فيه ده مش ابني!

راق لها ان وجد من يعلق تهمتها عليه، فهزت رأسها مؤكدة له، هبطت يده لتحتضن جنينها ثم انحنى يحدثه بأوامرٍ مضحكة: ممكن حضرتك تفهمني أيه اللي إنت عامله في حبيب قلب جوزه ده! متخلنيش أزعلك مني وأحرمك من صوتي الحنين ده، فاهدى على مامي كده ومتعـ.ـذ.بهاش معاك عشان بابي يحبك ويدلعك لما تيجي.
الاشمئزاز والتقزز يحيطان بجسده فور رؤيتها تقف قبالته، يمر عليه ذكرى الأربعة مرات اللاتي أغـــضــــب فيهم الله واهتز عرشه غـــضــــبًا لما اقترفه بحق نفسه، لم يحتمل بقائها قبالته وكأنها سهام تهدد باختراق جسده.

كأنها تحمل شاشة تعرض له مفتطفات جريمته وذنبه الذي يحاول جاهدًا نسيانه، حشـ.ـد قوته واستعد لسانه السليط لتلك المواجهة الذي كان يعلم بأنها أتية لامحالة، أشار بأصبعه يصرف الحارس والخادmة، وأجلى صوته بقوةٍ وصلابة: أي جراءة وعهر تمتلكينه لتأتي وتقفي أمامي بكل هذا التبجح!

اتسعت ابتسامتها وتغندجت بخطواتها وهي تتجه إليه، أحاطها بنظرة ساخطة بداية من تنورتها القصيرة والتوب الذي لا يخفى شيئًا من جسدها، فاستغلت صمته ظنًا بأنها عادت لتفرض سطوتها عليه مثل السابق وطوفت رقبته بذراعيها قائلة بدلالٍ وضيع: اشتقت لك كثيرًا، ألــم تشتاق لي؟

نزع ذراعيها عن رقبته دافعها بكل قوته للخلف، وباستحقارٍ قال: لستُ أحمقًا لأشتاق لحية تنتظر فرصة بخ سمها اللعين.
اشتعلت غـــضــــبًا فتابع ببسمةٍ ساخرة: لا أعلم كيف تظلين على قيد الحياة وبداخلك كل تلك السموم؟!

صرخت غاضبة: هل أصبحت أنا الأفعى الآن! إنت من تخلى عني بعد ما فعلته لأجلك ولأجل أن أخلصك من زوجك من تلك المصرية الحقيرة.
لأول مرة يفعلها ويطـ.ـلق غـــضــــبه على امرأة، ولكنها أذهبت عقله للجحيم وأبقت وحشه ثائرًا يتربص لها، طالتها لطمة من يده القوية أسالت الدmاء على جانب شفتيها هادرًا بعنفوان تشهده لأول مرة: إياكِ وذكر زوجتي بالسوء والا نحرت عنقك أيتها ال.

ضمت جانب وجهها وأنفاسها المنفعلة تصل لمسمعه، فحررت ما احتبس داخلها حينما قالت بحقدٍ: حسنًا عُمران. أنا الآن أتيت لك بنفسي أطالبك بأن نعود مثل السابق، سننسى الماضي وسنبدأ من جديد، رغم إنك رفضت رجائي بأن تخرجني من السـ.ـجـ.ـن وطردت المحامي الخاص بي ولكني أسامحك الآن.

تمردت ضحكاته بشكلٍ جنوني، فراقبته بغـــضــــب من استهزائه بطلبها، وخاصة حينما قال باستهزاء: أعتذر ولكني لا أمتلك الوقت لسماع تلك التراهات، عائلتي تنتظرني وعلى الذهاب إليهم، هل سترحلين الآن أم أنكِ بحاجة لمساعدة الحرس؟

احتشـ.ـد الغـ.ـيظ داخل حدقتيها المحتقنة، فصرخت به: أنا لم أتى إلى هنا لتستهزأ بي عُمران، اسمعنى جيدًا لقد ساعدني عدوًا لك بالخروج من السـ.ـجـ.ـن قبل أن أقضي مدتي على أمل أن أسلمه ما معي ضدك وبالرغم من ذلك أتيت إليك لأنني مازلت أحبك وأرغب بك.
واسترسلت بغلٍ وتملك: أعدك بإنك إن لم تخضع لي لن أتردد لأضع رقبتك تحت قدmيه، لقد سبق لي وقــ,تــلتك حينما شعرت بأنني خسرتك، كن ذكيًا الآن باختيارك والا سأقدm الفيديو إليه.

رمش بعدm استيعاب لما يحاول عقله تفسيره، فردد بتبهةٍ: عدو! عن أي فيديو تتحدثين؟! ما هذا الهراء!

اتجهت لحقيبتها الموضوعة على المقعد، سحبت الهاتف من حقيبتها واتجهت إليه ببسمةٍ انتصار، حررت زره وقدmته إليه فالتقطته بعنفٍ، تراخت أعصابه رويدًا رويدًا، خفف نبضات قلبه المتسارعة، جحظت عينيه في صدmة حقيقية جعلته يشعر بتراخي جسده القوي ليصبح كالهلام المنهزم للسقوط، وهو يشاهد أخر ما توقعه، فيديو مسجل له وهو برفقة تلك الوضيعة، بينما الاخيرة تراقبه بابتسامة انتشاءٍ لتأكدها بأنها الإن تحمل نقطة من نقاط ضعف عُمران سالم الغرباوي، إن نشر فيديو كذلك إليه سيهتز إسمه بسوق عمله وإسم عائلته الآرستقراطية المعروفة.

رفع عينيه عن الهاتف إليها بصعوبة، كيف لامرأة أن تصور نفسها بتلك المشاهد الحميمة القذرة، كيف تتأجر بنفسها بتلك السهولة، كل مرةٍ يزيد كرهه لنفسه بأنه سمح لتلك الحقيرة بالدخول لحياته، كل مرةٍ يتأكد بأنه كان أحمقًا قذرًا.

قذف الهاتف بعرض الحائط فسقط منكـ.ـسرًا أسفل قدmيها، وطالتها يده جاذبًا إياها من خصلاتها صارخًا بغـــضــــب جحيمي: أيتها القذرة اللعينة، هل تظنين بأنكِ ستهدديني؟! أفعلي ما شئتي مهما فعلتي مستحيل أن أنخضع لكِ مرة ثانية، محال أن أدنس نفسي بعلاقة وضيعة مثل تلك.

وقذفها أرضًا يشير بعنف: اغربي عن وجههي والا سأقــ,تــلكِ في الحال.
نهضت تمرر يدها على ذراعها بألــمٍ ومع ذلك مازالت ابتسامتها الخبيثة تعلو ثغرها، فحملت هاتفها وحقيبتها وقبل أن تتجه للخروج قالت: سأتركك تفكر بالأمر، أنا عاهدتك ذكيًا عُمران لست أحمقًا لتختار الفـ.ـضـ.ـيحة لك ولعائلتك.

وتابعت بابتسامة ماكرة: لقد سمعت أن زوجتك حامل وحملها متعب للغاية فكر بالأمر ماذا إن وصل مقطع الفيديو لها؟
وتابعت وهي تخرج بثقة وغــــرور: إن حسمت أمرك فأنا بانتظارك غدًا بنفس الفندق الذي كان يجمع غرام أيامنا معًا.

رحلت وتركته يشتعل من فرط عصبيته، دفع عمران الطاولات الزجاجية وهو يصـ.ـر.خ بجنون: رخيصة!

سقط على المقعد يشـ.ـدد على خصلات شعره بعصبيةٍ مفرطة، يحاول أن يهدأ انفعالاته ولكنه كان خارج السيطرة، بقى ساعة كاملة محله لا يقوى على التفكير أو اتخاذ قرارًا مناسبًا، لا يعنيه أن يتعرض للخسارة بعمله فهو يمتلك من المال والثراء ما يجعله سيدًا عمرًا بأكمله، ولكن ما يقلقه هي مايا، إن كره نفسه أضعافًا لمجرد رؤيته لمقطع الفيديو ماذا سيحدث لها؟!، حتى وإن كانت على علم بما فعله سابقًا ولكن رؤيته سيكون مؤلمًا لها، يحمد الله بأن الأجنحة مزودة بكاتم الصوت والا كانت ستستمع لما يحدث الآن بالأسفل، ولكن مدة ذلك السكون مؤقتة، الخــــوف كل الخــــوف من القادm!

احتشـ.ـد المركز بأعداد غفيرة من أعيان الطبقة الآرستقراطية، منهم من خص السيدة فريدة هانم الغرباوي واخرون أتوا خصيصًا لمجاملة أحمد الغرباوي و عُمران، وأغلبهم من الأطباء والمرضى الذين تم شفائهم على يد علي الغرباوي.

انتقلت العاملات بين الطاولات الطويلة، توزعن أجود أنواع العصائر على المحاطون للطاولات، فعدm وجود مقاعد حول الطاولات منحت القاعة اتساعًا ومساحة ضخمة للمارة.

وعلى مقدmة الطاولات حيث الطاولة المستطيلة الخاصة بآل الغرباوي، وقفت زينب جوار شقيقتها، وعلى الطرف الأخر تقف فريدة هانم جوار زوجها وابـ.ـنتها شمس، يراقبون الحفل باهتمامٍ، أما على المدخل الرئيسي فكان يقف علي ولجواره يوسف وعدد محدود من كبـ.ـار أطباء المركز يستقبلون المدعون بكل ترحاب.

توجهت النساء لتقديم المبـ.ـاركات لفريدة بشكلٍ خاص، معلنين سرورهم بتنظيم قسم خاص بالكشف التجميلي للنساء.

تبادل علي السلام الحار مع جمال وسيف، فقدmا الورود له ومضى للطاولة القريبة من وقوف على ويوسف.

بحثت عين سيف تلقائيًا عنها، فوجدها بالطاولة المقابلة له، وفور أن تعانقت أعينهما حتى تخلل له سماع دقات قلبها الفاضحة، وتورد بشرتها الملحوظ لفاطمة التي ابتسمت بسعادة لشقيقتها، وابعدت بصرها لزوجها فشرع الحب بأعناق مُقلتيها كالعلم المضاهي بعنجهيةٍ فوق سور المدينة، وقفته الثابتة، ثيابه المنمقة، نظارته الطبية التي تنجح دائمًا أن تصنع له وقارًا خاص به، خصلات شعره الفحمي التي تصل لأسفل رقبته، نهيك عن ابتسامته البشوشة التي ترغمها على متابعته بابتسامة حالمة، عاشقة لذلك المثقف المتواضع.

ارتبكت فاطمة فور أن أمسكت بها رماديته وهي تراقبه بتلك الحالمية، فمنحها ابتسامة لا تراها الا لها وكأنها صنعت لأجلها.

تصنعت انشغالها بترتيب باقة الزهور بالمزهرية المقابلة لها، وفور أن عادت بعينيها له وجدته مازال يتطلع لها، فابتسمت بخجلٍ.

مر الوقت بالحفل ولم بحضر عُمران، نهض جمال واتجه ليوسف وعلى متسائلًا بدهشةٍ: هو عُمران مجاش لسه؟

رد عليه على وهو ينزع هاتفه عن أذنه بقلقٍ: بكلمه بيكنسل ومش بيرد!

بدى القلق على الأوجه، فقال يوسف باستغرابٍ: وأنا كمان كلمته كذه مرة مردش، تأخيره مش طبيعي ربنا يستر.

سحب جمال هاتفه من جيب بنطاله واتجه للخارج ناطقًا: أنا هرن عليه من بره.

أشار له على مرددًا: لو رد طمني يا جمال.

هز رأسه ومضى للخارج، يعيد الاتصال به بقلقٍ وتـ.ـو.تر، فإذا به يمنع مكالمته من الوصول لهاتفه، أعاد الاتصال للمرة الرابعة فإذا بيدٍ تطرق على كتفه، استدار للخلف فتهللت أساريره هاتفًا بلهفةٍ: عُمرااان!

منحه نظرة ثابتة لا تجيد داخلها، وردد بنزقٍ: أيه حفلة المكالمـ.ـا.ت دي، حد فيكم هيطـ.ـلق تاني؟

زم شفتيه بسخطٍ: لسانك ده عايز الحرق، مبتردش على موبيلك وجاي متأخر ليه؟!

وضع يديه بجيب جاكيته الأبيض قائلًا بوقاحةٍ: قلقتي عليا انتي وضرايرك يا حبيبتي! متقلقوش مش هجبلكم الرابعة أنتوا عدmتوني العافـ.ـية وسديتوا نفسي عن جنس الحريم كله.

صاح بغـــضــــب: عُمران!

استكمل وصلته المنفرة: صوتك يا بيبي عيب!

اشتعلت نظرات جمال بغـــضــــب وصاح وهو يتركه: أنا غلطان إني طلعت أكلمك وقلقت عليك، أقولك حاجه تتفلق يا عُمران.

ابتسم وهو يتفحصه يبتعد عنه بخطوات منفعلة، فجلس على الاريكة الخارجية بصمت كان مريب لجمال الذي يجزم أن هناك أمرًا ما، فعاد إليه يشير: إنت لسه هتقعد! دكتور على مستنيك جوه وقلقان.

قال وهو يتطلع للفراغ: قوله إني جيت.

جلس جواره يتفرس بهدوئه المريب وصاح بشكٍ: مالك يا عُمران؟

أغلق جفنيه بقوةٍ ساندًا رأسه لظهر الأريكة المعدنية: مصدع ولو دخلت وسط الدوشة دي هيلموا المعدات الحديثة وهيتطوعوا يتدربوا عليا، أهو حفلة نظري وعملي على شخص فاقد الوعي!

وتابع وهو يبتسم ساخرًا: والله أعلم هيحولوني على دكتور مخ وأعصاب ولا على هيقوم بالواجب ويصعقني بالكهربا ويمكن يشوفلي سرير في جناح المرضى النفسيين تحت اشرافه.

أصر على وجود شيئًا أخر، فقال: لأ، في حاجة تانية مغيراك. في أيه؟

اعتدل بجلسته متنهدًا بمللٍ: مفيش حاجة مهمة، الحزبونه آلكس اقتحمت فجأة في حياتي، في الأول بعتتلي محامي طلب مني أخرجها من الحبس ولما طردته وبهدلته اتفاجئت بيها النهاردة واقفة قدامي وبتقولي إن في عدو ليا خرجها من الحبس في مقابل إنها تفضحني.

اعتدل بجلسته مبرقًا بصدmةٍ بينما الاخير يبلغه بما حدث بمنتهى الجمود التام وكأنه يخبره إنجازًا فعله، فصاح بصدmة: تفضحك ازاي؟!

استدار إليه يريه الألــم المتلألأ بحدقتيه رغم جفاء نبرته: الهانم مصورنا مع بعض.

صعق جمال وتجمد محله لوهلةٍ قبل أن يهمس: يا نهار أسود! إنت ازاي مخدتش بالك من النقطة دي!

ربع يديه أمام صدره وعاد يستند برأسه للخلف متأملًا السماء بتفحصٍ: يعني كنت هأخد بالي ازاي يا جمال! همسح الأوضة من الكاميرات ولا هفتش في كل زواية! أنا كنت واثق إن اللي حصل زمان مستحيل يعدي من غير عقـ.ـا.ب.

وتابع بحـ.ـز.نٍ: العقوبة لو هتمسني لوحدي فأنا راضي، لكن أنا مش هقبل أو.جـ.ـع مايا بعد كل اللي عشته وعدته معايا، مش هسمحلها تنفذ اللي في دmاغها حتى لو هقــ,تــلها بإيدي.

انقلبت معالمه بتقزز من تلك الشخصية المقيتة، وسأله باستفهامٍ: لو عايزة قرشين أرميهملها وخلاص.

ضحك بصوتٍ ساخرًا ومال برأسه المستكين إليه: تفتكر إنها لو كانت طلبت ثروتي كلها كنت هعترض؟

زوى حاجبيه بدهشةٍ: أمال عايزة أيه؟

اتسعت ابتسامته وبخبث قال: اشتاقت لليالي القذرة وبكل بجاحة عايزاني أكون معاها!

أوعى يا عُمران، أوعى بعد ما توبت ترجع للطريق ده!
نطقها فازعًا لفكرة عودة رفيقه لطريق الشيطان المحفور بالهلاكٍ، مرر عُمران يده على جبينه بـ.ـارهاقٍ وبهدوءٍ قال: عمري ما هعملها حتى لو كان التمن دmار حياتي يا جمال.

وبإيمانٍ تام قال: أنا واثق إن ربنا سبحانه وتعالى بيختبرني، بعد فترة من المذاكرة جيه وقت الامتحان ومستحيل هسقط فيه.

وفتح عينيه يتطلع للسماء الصافية من أمامه وهو يستكمل بهمسٍ خافت: سبحان من قذف بقلب عبده حلاوة التوبة والبعد عن المعصية، حاشة أن يعود لطريق المعاصي وارتكاب الكبائر!

ارتسم الحـ.ـز.ن بعمقٍ على ملامح جمال، فربت على ساقه وقال بثقةٍ وإيمان: ربنا عمره ما هيتخلى عنك يا عُمران، أكيد هتلاقي مخرج منها بس المهم تدور وتشوف مين اللي وراها.

شامم ريحته من على بعد!
قالها وعينيه تراقب ذلك البغيض الذي يهبط من سيارته ويتجه إليهما من على بعدٍ، فاراد ان يبدل الحديث.

رمق جمال بنظرة جـ.ـا.مدة والاخير يترقب أن يستكمل حديثه حول هذا العدو المنشود، ليفاجئه بانجرافه حول الحديث الهام لسؤالٍ طرحه بجدية مضحكة: ملبستش من الهدوم اللي جبناها ليه يا جمال؟ مصمم بردو تلبس زي البلياتشو!

كز على أسنانه بغـــضــــبٍ، وقبل أن يقذف إليه كلمـ.ـا.ته وجده يستطرد ببرودٍ: ادخل اغـــضــــب جوه وأنا شوية وهاجي أصالحك.

رمش بعدm استيعاب وردد: انت مش طبيعي أقسم بالله.

وضع عُمران ساقًا فوق الاخرى وعاد برأسه للخلف هامسًا بسخرية: الحق عليا بنقذك من سماجة نعمان الملزق، خليك قاعد يا جمال أهو ينوبك من الكوباية شفطتين.

استدار جمال تجاه طريق السيارات فوجد المزعوم يقترب منهما، انتفض بجلسته هادرًا بوجومٍ: والنبي ما ناقصة على المسا، هستناك جوه أحسن.

وتركه وهرول للداخل، فسبق لجمال رؤية الكره والاحتقار يملئ أعين هذا البغيض تجاهه، حتى وإن جمعهما أي ندوة أو عملًا مشترك كان ينزعج من كلمـ.ـا.ته المبطنة والتي تقلل من شأنه، ولكن لم يفكر بالأمر كثيرًا فبالنهاية نعمان هو نفسه المقيت الذي يكره الجميع تواجده بأي مكانٍ.

همس عُمران من بين اصطكاك أسنانه: كانت نقصاك هي!

اندفع إليه كالبركان الثائر، فتأكد بأنه لم يأتي للحفل كما توفع، بل كان اللقاء به هو غايته الوحيدة، وقد صدق حدثه حينما ألقى جواره عدد من المجلات بانفعالٍ، سحب بصره عنه يتطلع للمجلات الملقاة جواره، ثم رفعهما إليه وببرودٍ قـ.ـا.تل قال: خير أيه اللي مولعك المرادي؟

انحنى نعمان يلتقط احدى المجلات، يفتح إحدى الصفحات ووضعها نصب أعين عُمران هادرًا بحقدٍ: ممكن تفهمني أيه ده؟

أدلى شفتيه للاسفل مردفًا بشفقة: يا حبيبي جاي المشوار اللي قطع نفسك ده كله عشان تخليني أقرلك الخبر اللي نازل! هو إنت مش معين عندك حد بيعرف فرنساوي ولا أيه نعمان؟

اكتظ من الغـ.ـيظ بدرجة جعلت وجهه يكتسيه حمرة قاتمة، فانحنى عُمران على المجلة يقرأها بثبابٍ كاد أن يصيب الأخير بذبحةٍ صدرية: فيما يخص مشروع المول التجاري الضخم فلقد تم استبدال أحد الشركاء بالمهندس أحمد الغرباوي بنسبة تعد الأكبر بين الشركاء وتقدر ب30 وآ...

كور المجلة بين يده وألقاها أرضًا صارخًا بجنونٍ: متستفزنيش يابن فريدة!

وضع ساقًا فوق الاخرى يرمقه بنظرات ثابتة: إنت اللي بتنهار بسرعة أعمل لأمك أيه؟!

وجز على شفتيه السفلية هادرًا: خلتنا نتكلم على الاموات الله يسامحك، محضرك هو اللي مستفز!

تغاضى عن وقاحته وصرخ به بحقد: إنت مستكتر عليا أدخل في مشروع مهم زي ده، رايح تديه لاحمد الغرباوي! طيب على الأقل اديله عشرة في المية وأنا عشرين، أنا مش فاهم هو عاملك أيه!

وتابع يبخ ما بداخله من غـــضــــب: ده أنا حتى خالك وأقربلك في صلة الدm أكتر منه، هو عاملك أيه مش فااااهم!

وصرخ بانفعالٍ: أخدت تصميم المشروع لجمال صاحبك ودخلت أحمد الغرباوي شريك فيه وأنا فين من حساباتك!

انتصب بوقفته قبالته يرمقه باستحقارٍ وكره، وباستنكارٍ شـ.ـديد قال: أيه كمية الكره والحقد اللي جواك دي! طايق نفسك ازاي؟، يا أخي اللي بيقسمها فوق فواقف وبتحاسبني على أيه؟! أنا مشفتش في بجاحتك!

أجابه بكل تبجح: أيوه من حقي أحاسبك، إنت ناسي إني خالك!

ضحك بصوته كله حتى أدmعت عينيه، وتلاشت عنه فجأة ليردد بسخريةٍ: من أمته ده؟! فاكرني يمكن أنا عندي فقدان ذاكرة مؤقت!

زفر الاخير بضجرٍ، ووجد ان أسلم حل اتخاذ الطرف السلمي عساه يحصل على مبتغاه: طيب مش مهم اللي فات، أنا عرفت إن مركز إيفرينا اختارك عشان تكون المسؤول عن المركز الطبي اللي هيتعمل بعد ما نشرت فيديو مركز علي، خليني أدخل معاك فيه، من وقت انسحابك من الشركة والخساير نازلة ترف عليا وهيلينا طلباتها مبتنتهيش!

التقط نفسًا مطولًا وزفره على مهلٍ، هادرًا: كنت متوقع ايه بعد انسحابي من الشركة الأم؟! إنت صممت وأنا نفذت جاي دلوقتي تتكلم في أيه؟! ثم إنك موصلتش للخساير دي بسبب انسحابي وصلت لكده بسبب اللي اتجوزتها وسبتلها السايب في السايب وأنا سبق وحذرتك منها وقولتلك هي تمامها معاك أيه، بس إنت مبتثقش غير في دmاغك اللي هتسوحك إن شاء الله.

بغـــضــــبٍ صاح: خلصنا من حوارها لاني مش هتكلم فيه، اعمل حسابك أنا داخل معاك في مشروع المركز ده، محتاج أرجع بتقلي في السوق.

زفر بنزقٍ وأجابه: بس المشروع ده داخل معايا فيه شريك ومطلوب معايا بالإسم وتقدر تتأكد بنفسك.

زوى حاجبيه بوجومٍ ضاري، ونطق بحدة: الجربوع اللي مصاحبه مش كده!

رفع اصبعه يشير له بحزمٍ قاطع: إلزم حدك يا نعمان بدل ما وربي أتحول عليك.

صرخ بنزقٍ وشرارة طالت ألهبتها العنان: مش دي الحقيقة، الجربوع اللي من الشارع ده لف عليك وقدر يملي دmاغك ويشاركك في كل شغلك، بس المرادي مش هتراجع يا عُمران انا اللي هكون معاك في المشروع ده غـ.ـصـ.ـب عنك وعن اللي يتشـ.ـددلك.

احتدت مُقلتيه إليه، فهز رأسه بعدm استبعاب: إنت أيه بجد! إنت ازاي فيك كل الحقارة دي!

خرج عن طور هدوئه ولم يبقى له ذرة عقل، في تلك اللحظة خرج علي يبحث عنه فور أن أبلغه جمال بجلوسه بالخارج، فصعق حينما استمع لأصوات صراخهم، اندفع إليهما يفرقهما وهو يتساءل برهبةٍ: في أيه يا عُمران؟ في أيه يا خالو؟

أشار عليه بفظاظة: شوف اخوك يا على والا والله العظيم لأنسى إنه ابن اختي وأذيه بجد.

ابتسم ورد ببرود: تقصد الفيديو اللي بسببه خرجت العاهرة دي من الحبس!

وأبعد أخيه من المنتصف، ليجابهه رأسًا برأس وبابتسامة أرعـ.ـبت الاخير قال: تو تو إلعب غيرها يا نعمان يا غرباوي ولا هيهز فيا شعرة، ولو على مايا مراتي فاطمن بيت عُمران الغرباوي مش مبني من ازاز عشان تيجي طوبتك وتهدmه.

ابتلع ريقه بصعوبة من سهولة كشفه لما فعل، بينما استدار على لأخيه يسأله بدهشة: أيه اللي بتقوله ده يا عُمران؟ هي آلكس خرجت من السـ.ـجـ.ـن؟

ضحك باستهزاءٍ: إسأل اللي واقف يتباهى ويفكرني بصلة القرابة اللي بينا.

وتابع بتحدٍ صارخ: اسمع بقى يا نعمان يا غرباوي، شغل معايا تاني تنسى، وللمرة المليون هقولهالك ابعد عني عشان مدmركش وإنت عارف إني بمكالمة تليفون واحدة قادر أقعدك في بيتك زي الولايا!

اندفع تجاهه يقول بكره: متقدرش تعملها يابن فريدة، ومدام اللعب بقى على المكشوف فاستقبل اللي جاي، هتدفع التمن غالي أوي إنت والجربوع اللي فضلته عليا.

احتقنت اوردة على من فرط الغـــضــــب والصدmة، فتخلى عن هدوئه وصاح بعنف لا يتواجب مع شخصه الهادئ: إنت بتهدده وفي وجودي! هتعمل ايه يعني؟! أنا اللي يمس شعرة واحدة من أخويا أردmه بالدm ولا هيفرق معايا إنت مين؟

تراجع نعمان للخلف بدهشة من عدائية نبرة على الجديدة بينما ابتسم عُمران وتابعه بدهشة وحماس كأنه يشاهد فيلمًا صادmًا، فتابع علي: انا بحاول بقدر الامكان أحترمك ومقلش من كرامتك اكرامًا بس لفريدة هانم لكن لو فاكر إن سكوتي ده ضعف تبقى مبتفهمش! أنا يوم ما أخويا يتخدش او تبصله بس بطرف عينك هصفهالك، اتعلم بقى تشتغل بنزاهة، الغيرة بتنهشك من كل اللي حوليك من اول عمي لحد أخويا الصغير اللي من دور عيالك! فوق لنفسك قبل ما الغيرة تحرقك!

ومد ذراعه تجاه الرصيف الاسمنتي: ودلوقتي اتفضل من هنا ميشرفنيش تواجدك بمناسبة عائلية زي دي، وحط في دmاغك كلامي عشان هتحتاجله في يوم من الأيام.

وزع نظراته الشيطانية بينهما بكره، واتجه بخطواته المتعصبة للخارج، هدأ على من انفعالاته فأزاح جرفاته عن عنقه بغـــضــــب، لا يصدق أن الحقارة وصلت بخاله لتلك الدرجة التي يهدد أخيه نصب عينيه.

ارتعب عُمران من رؤية على يتصبب عرقًا وينتفس بعنفٍ هكذا، فاندفع إليه يمسك يده بخــــوف يناهز طفل صغير: على ماللك؟

استقام بوقفته المحنية وقال: انا قدامك كويس أهو، المهم بلاش تقول لفريدة هانم حاجة.

هز رأسه بتأكيد فتابع وهو يراقب مغادرة سيارته: خد بالك منه يا عُمران، شكله ناويلك على الشر.

ابتسم ساخرًا: الشر موجود جواه من زمان يا علي، ربنا يهديه لنفسه.

جذبه للاريكة المعدنية متسائلًا باهتمامٍ: احكيلي حوار آلكس وفيديو أيه اللي بتتكلم عنه!

وقف قبالة محله الرئيسي يتابع العمال، وهم يثبتون اللافتة الضخمة التي ضمت إسمه ومع إسم إيثان، مشيرًا أن سلسلة المحلات تابعة إليهما، وعلى ذراعه يحمل ابنه فارس ويسأله بحبٍ: ها أيه رأيك؟

أجابه وهو يلتهم لوح الشوكولا بنهمٍ: أحلى من القديمة عشان دي مطبوعة عليها صورتي في الجنب.

ضحك يونس وقبل وجنته أكثر من مرةٍ قائلًا: طبعًا لازم تكون أحلى عشان صورة الدكتور فارس منورة.

ضم وجهها بيديه وقال بطفولية: انا بحبك اوي عشان من الصبح بتجبلي كل الحاجات اللي بحبها، لبس وحاجة حلوة كتير من الحلوة وكمان حطيت صورتي في الحارة. بس أنا آآ...

ارتباكه دفع يونس يتساءل بلهفة: إنت أيه يا فارس اتكلم!

أدmعت أعين الصغير قائلًا بخــــوفٍ: عايز أشوف ديجا وخايف تزعل مني.

وخز قلبه ألــمًا، فضمه لصدره مربتًا على ظهره بحنان: خايف ليه يا حبيبي، دي أمك ومستحيل افرقك عنها.

وأبعده عنه يطالعه بفيروزته الشبيهة له: وبعدين مش أنا قولتلك إن أنا وماما اتصالحنا ومعتش بينا زعل، وكلها كام يوم وهنعيش كلنا مع بعض؟

هز رأسه يؤكد له بتذكرٍ، فابتسم وهو يعيد تقبيله، ثم تركه أرضًا وأخبره: طيب اطلع يلا لأيوب خليه يغيرلك هدومك اللي اتبهدلت من الشوكولاته دي وتعالى عشان أخدك تزور ماما في المستشفى.

ابتهجت معالم الصغير واندفع يقبل كل انش بوجه أبيه هاتفًا بحماس: انا بحبك اوي يا بابا. أنت طيب وجميل أوي أوي!

ضحك على لفظه الطفولي وابتعد بوجهه للخلف هادرًا بانزعاجٍ: هتبهدلني بالشوكولاته يا فارس انا غلطان اني اشترتها!

ضحك وهرول لعمارة الشيخ مهران، بينما اتجه يونس لمحله بابتسامة هادئة وهو يزيح بقايا الشوكولا عن وجهه.

لم يمضي الا دقائق واستمع لصوت رفيقه المتعصب يصيح وهو يندفع داخل المحل: عملت اللي في دmاغك يا يُونس؟ ارتاحت انت كده يعني؟!

تنهد بـ.ـاريحية مستفزة للاخير: جدًا، حاسس براحة وسعادة بالقرار اللي أخدته، وإنت واثق ومتأكد إنك مهما تعمل مش هتقصر فيا شعرة، فاعقل واقعد تابع الحسابات والشغل لحد ما أوصل للمستشفى وأرجعلك.

جذب إيثان المقعد واتجه يجاوره بالمقعد الرئيسي للمكتب، هامسًا بمشاكسةٍ: مستشفى! زياراتك الغرامية كترت ياسطا يونس! مش خير؟!

تـ.ـو.ترت معالمه فادعى انشغاله بسحب مبلغ من المال من درج الخزانة قائلًا: فارس مصر يروح يزورها، وانا وافقت دي مهما كانت بردو مامته.

مال على ذراعه يغلق عينيه ويتنحنح بسخرية: أممممم، قلبك رقيق ياسي يُونس، الله يرحم لما كنت حالف لتسحلها على أسفلت الحارة وتلعب في وشها البخت!

أغلق باب الخزنة بغـــضــــب مصطنع يجاهد للتشبث به: وبعدين معاك بقى يا إيثان نازل من الصبح نحنحه وتلسين كلام ليه! ما قولتلك الواد اللي مصمم يشوفها، بتهري ليه في الفاضي!

أشار له ضاحكًا: طيب خلاص اهدى احنا هنتعارك ولا أيه يابو فارس؟

تلاشى غـــضــــبه وحلت ابتسامة صغيرة، مرددًا بشرودٍ بحلاوة الاسم: أبو فارس!

ابتسم إيثان وهو يتابعه، فربت على كتفه بحبٍ: أيوه أبو فارس معلش الكلمة هتكبرك شوية بس الحقيقة اننا معندناش صغيرين يا يونس.

راقب ملامحه بابتسامة هادئة، وقال باهتمام: طيب أيه؟ مش ناوي ولا لما تبقى في سن جدو!

ارتبكت ملامح إيثان أمام رفيقه، وقال: لا يا يونس مش ناوي، وبطل تتكلم قي الحوار ده كتير عشان زي ما قولتلك مفيش عندي نية.

طيب ليه؟!

وبشكٍ قال: إيثان إنت في واحدة في بالك؟

تسلل الحـ.ـز.ن رويدًا إليه وبحـ.ـز.نٍ قال: اللي في دmاغي الفرق بيني وبينها فرق السما من الأرض يا يونس، إن يجمعنا طريق مشترك مستحيل!

لف مقعده إليه وبضيق قال: ليه بقى ان شاء الله؟ إنت ما شاء الله مبسوط فأكيد لو عشان الفرق الاجتماعي بينكم فميذكرش لانك آ...

قاطعه ببسمة ساخرة: ياريتها كده بس الموضوع أكبر من كده.

قذف الدفتر بعصبية: ما تنطق بقى يا إيثان غلبتني يا أخي!

استجمع شجاعته ليبصق كلمـ.ـا.ته بخــــوف من رد فعل الاخير: اللي أنا بحبها تبقى. آآ، يُونس أنا بحب آآ...

صاح به منفعلًا: القطة كلت لسانك يالا! ما تتزفت تتكلم.

هدر الاخير يخلص نفسه: أنا بحب بـ.ـنت مسلمة وتبقى بـ.ـنت الشيخ عثمان!

توقع أن ينصدm مما بصقه إليه، ولكنه وجده يربع يديه أمام صدره ويسأله ببرود: وبعدين؟

رمش بـ.ـارتباك وقال: المعنى؟! ثم انك مش مصدوم يعني ولا قافش من الحوار!

ابتسم ساخرًا: لا مهو أنا من بعد آيوب مش هتصدm تاني!

ألقى سلة الاقلام عليه بغـــضــــب: بتهزر وأنا ببوحلك بأعظم أسراري!

مال إليه يهمس له باستهزاء: مهوش سر ولا هي عقبة، خد نفسك وخليك راجـ.ـل وروح للشيخ عثمان وقوله الحقيقة.

برق بحدقتيه بصدmة: هي الشمس ضـ.ـر.بت دmاغك ولا أيه يا يونس، أروح أقوله انا بحب بـ.ـنتك جوازهاني! لا يجوز في أي حال من الاحوال.

تابع ببسمة خبيثة وعينيه لا تنجرفان عنه: لا يا إيثان أنا أقصد حقيقتك اللي فاكر إنك قادر تخبيها عن الشبخ مهران وآيوب وعن كل اللي حواليك حتى عني يا صاحبي.

وتابع بخبث: مهو مش منطقي اهتمامك الزايد بكل المتعلق بينا لدرجة إنك أشطر من الشيخ مهران نفسه في أصولنا.

جحظت عينيه حتى كادت بالخروج عن محجرهما، فلعق شفتيه وجاهد لرسم بسمة باهتة: آآ، أنت تقصد أيه؟

تعمق بحدقتيه قائلًا: حقيقة إنك مسلم يا إيثان!
تجمد محله فور سماعه ما قال، فلجم صمته وتطلع له بصمتٍ، يحاول به استيعاب ما نطقه للتو، لعق شفتيه القاحلة وردد بتلعثمٍ: أيه اللي بتقوله ده يا يُونس؟!

انحنى بجسده لدرج الخزانة الأخير، يجذب حزمة الكتب الإسلامية، ثم دفعها قبالته على المكتب، قائلًا بابتسامة صغيرة: بيعملوا أيه دول في درج المكتب يا إيثان؟
رمش بتـ.ـو.ترٍ هادرًا: عادي يعني، إنت عارف إني انسان فضولي حبتين فآآ.

اتسعت ابتسامة يونس الخبيثة قائلًا: يعني إنت بتثقف نفسك بأكتر من 28كتاب! على بابا يالا!
التفت خلفه يتفحص وجوه العمال بضيق، وجذب منه الكتب صارخًا بعصبية: هتفضحنا يا أخي! ما تطلع تنشر الخبر بره في الحارة.

رمش بعدm استيعاب، وبصدmة تساءل: إنت أسلمت فعلًا يا إيثان؟
أطاح صدmته فور نطقه لغزًا جديدًا: مش بالظبط كده.

نهض قبالته مرددًا من بين اصطكاك أسنانه: هو لغز! ما تنطق بتهبب ايه بالكتب دي كلها؟!
مرر يده على طول شعره، ممسدًا رقبته وعقله يبحث عن حجةٍ مقنعة، فهمس بمكرٍ: لقيتها.

وتنحنح يرفع من صوته بعنجهيةٍ: مش أنا كنت بحضرلك مفاجأة بس إنت خرجت من السـ.ـجـ.ـن على غفلة ومكملتش للأسف.
ربع يديه أمام صدره بسخريةٍ: أممم والله! ده على أساس إني كنت في السعودية بعمل عمرة وراجع!

وحرر ذراعيه ليجذب الاخير من تلباب قميصه بعصبيةٍ بالغة: متلفش وتدور عليا وقولي الحكاية أيه؟
انحنى خلف يده هامسًا بغـــضــــب متخفي خلف نبرته المتوسلة: السلسلة هتتقطع يا يونس، كريستينا أمي هتبهدلك.

ترك قميصه ومد يده ينتشل سلساله، فتفحصه متسائلًا بخبثٍ: عيار كام دي يا إيثو؟
انتصب بوقفته يجيبه باستغرابٍ: 21 ليه؟

نزعها عنه وأخذ يلهو بها بين لائحته بمكر: تلزمني، صاحبك مزنوق في قرشين.
وتركه واتجه لغرفة المكتب الداخلية، فلحق به يصيح بانفعالٍ: رجع السلسلة فورًا يا يُونس، أمي هتمـ.ـو.تني لو ملقتهاش في رقبتي!

وضعها بجيب جاكيته الجلدي، وتمدد على الشازلونج الجانبي، مستندًا برأسه على ذراعيه: مستكتر في صاحبك حتة سلسلة يلبسها!
كشر عن أنيابه بغـــضــــب: من أمته والرجـ.ـا.لة عندكم بتلبس سلاسل ودهب يابن الشيخ مهران.

تحررت ضحكة صاخبة منه، فنهض يستقيم بجلسته تجاهه، يلعب على أعصابه بحذاقةٍ: شوفت ده انت حتى دي مش فايتة منك! هتقول الحقيقة ولا آ.!
تنهد بنزقٍ، واتجه بخطواته المتهدجة يجلس جواره بصمتٍ، قاطعه يونس بملل: هنفضل قاعدين نبحلق في خلقة بعض كده كتير! انجز يابا زمان الواد نازل!

زفر بنفاذ صبر: عايز أيه يا يُونس مانا اتزفت وقولتلك بحب بـ.ـنت الشيخ عثمان.
تلاشت معالم المرح عن وجهه، فأمسك ذراعه وهزه بعنفٍ: يعني أيه؟!

واسترسل بصدmة وغـــضــــب عاصف: أوعى تقولي إنك عايز تدخل الاسلام عشان تتجوزها! إنت مش هتخدع ربنا يا إيثان!
صاح به يوقفه عما تردد له: حيلك حيلك، الموضوع مش كده.

كز على أسنانه بغـ.ـيظٍ: هتنطق ولا آ.
أسرع بالحديث بحرجٍ عما لفظه إليه: دي الطريقة الوحيدة عشان أشوفها، لانها واقفة في مكتبة بتبيع الكتب الدينية، فكل اسبوع بتحجج وبروح اشتري منها كتابين تلاتة عشان أشوفها!

وزع نظراته المنصدmة بينه وبين الفراغ، وبصعوبة استجمع كلمـ.ـا.ته: طيب سيبك من النص الاول للمصايب اللي بتعملها ونيجي للنص التاني، معلش يعني في السؤال أنا وإنت وهي وناس حارتنا الجميلة دي عارفين انك مسيحي، أيه وضعك قدامها وإنت بتشتري الكتب دي أفهم؟!
ابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ، وتسلل يبتعد عن مجلسه مرددًا: مهو آآ، مهو. آآ...

شعر بأنه أرغمه بالفيلم الهندي الذي يجيد تمثيله، فنهض يتجه إليه، يحاول محاصرته حول الطاولة والاخر يفر من أمامه، فهدر يونس منفعلًا: مهو أيه؟

توحشت ملامحه بشكل رعـ.ـب إيثان، فالقى قنبلته إليه مرة واحدة: في الأول كنت بقولها بشتريهم هدية لآيوب وكانت منبهرة بيا جدًا وبأخلاقي، وبعد ما سافر عشان جامعته اضطريت أقولها اني بشتريهم ليك عشان وإنت في السـ.ـجـ.ـن محتاج كتب دينية تسليك في محنتك السودة دي مع إن محدش كان يعرفلك طريق جرة ولا إذا كنت عايش ولا مـ.ـيـ.ـت، عشان كده ندرت إنك لما تخرج أهديك بيهم واعملك مكتبة صغيرة هنا ولو كنت مـ.ـيـ.ـت كنت هطلعهم رحمة ونور على روحك!

قست تعابير يونس، مشيرًا على ذاته باستنكارٍ: رحمة ونور عليا أنا!
هز الأخير رأسه مؤكدًا بوقاحةٍ: أكيد عليك إنت إحنا معندناش الكلام ده!

احتشـ.ـدت أوردته من فرط العصبية، وكلما حاول أن يمسك به ركض للجانب الأخر من الطاولة المربعة، فجذب يونس حزمة من دفاترٍ الحسابات ودفعها تجاهه، انحنى أسفل الطاولة ليتفادى ما قذف إليه، فإذا بآيوب يظهر على عتبة الباب يتلقف نصيب إيثان مما دفع إليه.

تأوه بألــمٍ والتف ليتفادى فارس الضـ.ـر.بة، وقال بخــــوف لعلمه تلك حالة ابن عمه جيدًا: طيب يا حبيبي، ابنك اهو لبسته وخلتهولك برنس أتوكل أنا على الله وأشوفك بكره لو خلقك يسمح.

كـ.ـلـ.ـبش إيثان جسد آيوب الهزيل مقابل جسد الاخير الضخم، هاتفًا بهلعٍ: على فين يابن الشيخ مهران! هتسبني مع المتوحش ده لوحدينا ده حتى ميصحش!

تململ بين ذراعيه المحتجزة جسده العلوي هاتفًت بحنقٍ: سبني يالا يخربيتك مش قادر أخد نفسي!

تمسك به باصرارٍ، فدفعه آيوب للخلف قائلًا بغـــضــــب: أوعى يا أخي، بتتحامى فيا وإنت شبه درفة الدولاب!

جحظت أعين إيثان الذي يتابع يونس المنحني خلف باب الخزانة المطولة ينتقي يدًا خشبية (يد مكنسة أرضية. مقشة) بعناية فائقة، وحينما وجد غايته استدار ليجده يختبئ خلف آيوب ويدفعه تجاهه، ابتلع آيوب ريقه الهادر بصعوبة: اهدى يا يونس مش كده، انتوا كبرتوا على جو المقشات والكلام ده!

بهدوءٍ مخيف هتف: ميل في جنب يا آيوب.

استدار برأسه لإيثان الذي همس له: أوعا تسيب مكانك يالا فاهم!

عاد يتطلع ليونس الذي يلاعب عصا(المقشة) بين يديه والشر يتراقص بين مُقلتيه كسطوع الشمس، رفع آيوب يده يحاول استجداء عاطفة ابن عمه: في أيه يا يونس؟ العمال بره يا حبيبي لو شافوكم وانتوا طايحين في بعض كده هيستهيفوكم!

بنفس ذات الهدوء قال: ميل على جنب بدل ما تتروق معاه يا آيوب!

بنفس الهدوء قال إيثان: أوعا.

محاولة أخيرة لجئ لها آيوب فقال: مش ده صاحبك اللي وقف أسد في دهرك وإنت غايب!

همس له ايثان بضيق: متفكرهوش باللي فات هيفتكر اللي قولته من شوية وهيزود العيار!

مرر يونس عصاه، واتجه لفارس الذي يراقب ما يحدث بدهشةٍ، دث يده بجيب سرواله الجينز ثم حمل ورقة من النقود من فئة العشرون جنيهًا، أهداها للصغير قائلًا بابتسامة نجح برسمها على ملامحه الشريرة: روح اشتري عصير وشبسي قبل ما نمشي يا فارس.

التقط الصغير المال وغادر بسعادة، فما يحدث داخل الغرفة لا يعنيه بتاتًا، بينما ردد إيثان بذعر: وزع الواد! يبقى ناوي على نية سودة!

لف رقبته له يسأله بـ.ـارتباك: إنت هببت أيه حوله كده؟

ببراءة بلهاء قال: ولا حاجة كنت ناوي أطلع رحمة ونور على روحه بذمتك غلطت؟

اتسعت حدقتيه بصدmة، وخاصة حينما استرسل ايثان: خليه يديني سلسلتي يا آيوب، أمي مش هتدخلني البيت! آ، آآآه!

ابتلع باقي جملته فور هبوط أول ضـ.ـر.بة على ظهره مستغلًا انشغاله بالحديث مع آيوب، فصرخ بو.جـ.ـع: ايه الهزار التقيل ده يا يونس، ضهري اتقسم نصين يا جدع!

ونغز آيوب الحائل بالمنتصف: ما تتصرف يا آيوب الواد خارج عقله طق!

لف له يخبره من بين اصطكاك أسنانه: اخرس متعصبهوش أكتر!

واستدار ليونس يخبره ببسمة يرسمها بالكد: يا معلم يونس عمالك برة هيقولوا أيه وهما سامعين صراخ إيثو المريب ده! اعقل يا حبيبي وخد فارس وشوف مشوارك، انا كمان اتاخرت وآدهم مستنيني بره على الحارة عشان نروح نحجز القاعة لفرحه.

لطمه إيثان على رقبته بغـــضــــب: فرح أيه دلوقتي! أوعى تتنقل من مكانك قبل ما تهدي ابن عمك!

تحرر صوت يونس أخيرًا: لا هو ولا بلطجي حارتنا هيخلصك من تحت ايدي النهاردة، ومتقلقش بفلوس السلسلة هعملك تلاجة مية في الحارة صدقة جارية على روحك بإذن الله.

ازدرد ريقه بتـ.ـو.تر من وعيده القاطع، وبدأت المعركة تحتد بينهم، وآيوب عاجزًا عن الفصل بينهما، فلقد احتدت ضـ.ـر.بات يونس ويحاول إيثان وآيوب تفاديها حتى انكـ.ـسر أكثر من أربع مقشات خاصة بالعمال، ومع ذلك لم يستسلم ابدًا فبحث عن عصا تخص أداة مسح الأرضية وانطلق من خلفهما.

تعالى رنين هاتف آيوب، فلقد طال انتظار آدهم بعد ان أكد له آيوب انه خرج من المنزل وسيصل لأول الحارة بعد عشرة دقاىق، وها قد مر ثلاثون دقيقة ولم يخرج إليه.

حرر آيوب هاتفه يستغيث بآدهم قائلًا وصوت أنفاسه اللاهثة تصل للاخير: الحقني يا آدهم، يونس مش قادر اسيطر عليه.

وتابع وهو لا يستمع لصوته من صوت صرخات إيثان: بقولك أيه اقتحم محل يونس اللي تحت بيتنا ولو معاك مسدسك ميضرش الوضع حرج!

قالها وأغلق هاتفه يعيده لجيب قميصه العلوي، ثم اندفع يحاول تخليص ايثان بعد ان دفعه يونس فوق الاريكة ومال عليه يحيط برقبته.

تأوه آيوب ألــمًا حينما ركله إيثان بقدmه صارخًا بعصبية: ده وقته تليفونات، ابعد الطور ده عني هيزهق روحي يالا!

انحنى يقتحم بينهما، يبعد تلاحم يونس عنه صارخًا بـ.ـارهاق: خلاص بقى يا يونس هو كان قــ,تــلك قتيل!

فشل بابعاده عنه، والاخر لديه رغبة ملحة بالحصول على رقبة إيثان هادرًا بعنف: واخدني كوبري عشان تشوفها يا حقير! وبكل بجاحة تقولي رحمة ونور على روحك!

سأله آيوب بفضول: قولي بس هو عمل أيه ومتقلقش هكتفهولك!

لكمه إيثان بوجهه قائلًا بانفعال: تكتف مين! ده انا اطوحك أنت وهو هنا، أنا مش جاي من قلبي أمد ايدي عليه ده صاحبي وأخويا وانت بدل ما توزعه عني عايز تكتفني يابن الشيخ مهران!

ضم آيوب عينيه بألــمٍ فألقى يونس عصاه وإتجه إليه يتفحص عينيه متسائلًا بخــــوف: و.جـ.ـعتك؟! أنا عارفه ايده تقيلة!

استند آيوب على ذراعه واتجه معه بعيدًا عن ايثان الذي يعيد ترتيب ملابسه وقميصه الذي فتحت أزراره.

جلس يونس جوار آيوب الذي همس وهو يكبت ضحكاته بصعوبة: ولما انت عارف إن ايده تقيلة داخل في عركة معاه ليه يا يونس؟ ده لو نفخ فينا هيطلعنا شقتك في الدور الرابع فوق!

أدmى شفتيه السفلية وعينيه مسلطة على ايثان البعيد عنهما: استفزني وكنت عايز انتقم منه بس أنا اللي فرهدت!

ضحكوا معًا وإيثان يتابعهما وهدر بغـــضــــب: خلصت الطاقة السلبية اللي عندك اول اليوم رجعلي سلسلتي بقا بمنتهى الهدوء.

كاد بأن يجيبه ولكن اقتحام آدهم المفاجئ للمكان جعلهم بتابعونه باستغرابٍ، وخاصة ملامح الفزع والخــــوف التي تحتل ملامح وجهه الوسيم.

بحث بينهم بلهفةٍ حتى وقعت عينيه على آيوب، اندفع إليه آدهم راكضًا يقول بصعوبة من فرط التقاطه لأنفاسه: طمني انت كويس؟ أيه اللي حصل؟

اتجه اليهم ايثان، فمال بذراعه يستند على كتف يونس الذي يتابع حالة آدهم بدهشة، ابتسم ايثان وأحاط كتف يونس هامسًا بمزحٍ: الباشا شكله بيحب أختك أوي ما تجوزهاله واكسب ثواب يا يونس!

منحه نظرة محتفنة وبكوعه سدد له ضـ.ـر.بة ببطنه مرددًا: ايدك عني حسابك لسه معكوك!

تما تسيقه بديتول!
قالها وهو يضـ.ـر.به بالكف وصوت ضحكاته أرغمت يونس على الضحك فانخرطا معًا بنوبة من الضحك الرجولي، بينما تقتاد نظرات آيوب إليهما، فقال لآدهم الذي مازال ينتظر سماع أي اجابة منه يطمئن بها عليه: متقلقش يا آدهم ده قلب بهزار قدامك اهو، الاخين دول كانوا من شوية بيقطعوا في لحم بعص ودلوقتي زي ما أنت شايف كده.

استعاب الأمر ومعه استعاد كامل ثباته، فأشار لآيوب قائلًا بخشونة: يلا هنتأخر.

هز رأسه وسبقه للخارج، بينما وقف آدهم يراقبهما بنظرة ضيق، فاتجه ليغادر قائلًا ليونس: حوارك خلص يا يونس، من بكره اعتبر اجراءات الطـ.ـلا.ق خلصانه.

وتابع وهو يمنحه ابتسامة ماكرة: ابقى شوف رسايل الواتساب، بعتلك هدية عليه النهاردة الصبح.

وتركه مبتهجًا بما قال وغادر دون ان يمنحه فرصة الشكر، رفع ايثان يده يستند على كتف يونس الشارد بابتسامته الحالمة، ليفق على صوت إيثان الخشن: ابن بلد الباشا ده، جدع وبيفهم كده، وقعتوه ازاي ده يا يونس؟

اذا بيونس يستعيد وعيه فيدفع ذراع إيثان عن كتفه قائلًا بتذكارٍ: اطلع بره، في مكتب بره خليك فيه مش عايز ألــمحك هنا تاني.

سحب المقعد قبالته هاتفًا بتعب: خلاص بقى يا يونس، أنا أساسًا بقالي شهرين مرحتش ليها المكتبة.

ليه معتش لاقي حجج مناسبة ولا ثقافتك عليت واستكفت بال28 كتاب؟

قالها ساخرًا، فردد الاخير بجدية تامة: منعت نفسي أعمل كده لإنها مستحيل هتكون ليا في يوم من الايام فبلاش أعلق نفسي في امل مزيف. خــــوفي من إني أعمل شيء مش عايزه ارغمني على البعد، بتمنى اقابل الانسانة المناسبة ليا.

ردد يونس بنفس جديته تاركًا مزحه جانبًا: ده عين العقل يا إيثان، لو كنت واخد قرار الإسلام بغرض جوازك منها فده مش مقبول، إنت صديقي بقالنا أكتر من عشرين سنة وعمرنا ما حاولنا نتكلم في حوار الدين، بس اسمعها مني نصيحة هقولهالك وتحطها حلقة في ودنك كل ما تحس انك هتضعف وتمشي ورا قلبك افتكر اللي هقولهولك كويس.

واستند بجسده العلوي على المكتب الفاصل بينهما ليكن قريبًا منه: يا إيثان أنا كصديقك من قد إيه عمري ماجيت قولتلك تأسلم علشاني او علشان حد، سايب الجزء دا ليك و مش عايز اضغط عليك في حاجة زي دي؛ لأن لا أنا هتحاسب مكانك ولا العكس، من حبي فيك بدعيلك دايمًا بالهدايا، وبتمنى ربنا سبحانه وتعالى ينور بصيرتك، ممكن خبر زي ده يفرحني جدًا جدًا، بس لو جيت في يوم تقول عايز أأسلم علشان بـ.ـنت فأنت كدة عايز تعك، مينفعش تأسلم عشان حد، أنا بنصحك لو حبيت تعتنق الإسلام بجد تقرأ و تبحث وفي كلتا الأحوال أنا جنبك ومعاك.

واستطرد بحبٍ و: بالنسبة إنك بتحب والكلام ده، فليه متحاولش تدي لنفسك فرصة مع بـ.ـنت خالتك، سبق وقولتلي إنها بتحبك ورافضة تتجوز لحد الآن وعندها أمل إنك تحس بيها.

تنهد والحـ.ـز.ن بات يشع كالشرارة على ملامحه: مش هقدر يا يونس، صعب ارتبط طول العمر بواحدة محبتهاش ولا هحبها!

رد عليه ببلاغةٍ: وهو إنت كنت إدتلها فرصة او حتى لنفسك! إنت عامي عنيك عنها يا إيثان، وبعدين يا سيدي مش بجبرك تكون معاها هي بالذات شوف غيرها المهم إنك تدي لنفسك فرصة وإنت مقتنع إنك مستحيل هتكون مع اللي حبيتها.

هز رأسه باقتناعٍ، وأردف بمرحٍ ليقطع جدية مجلسهما الغير معتاد: وماله نسعى من أجل الطرف الطري، بس عهد عليا اللي هتدخل ده مرة تانية مش هتخرج منه أبدًا غير بكـ.ـلـ.ـبشة الجواز.

قالها وهو يشير على موضع قلبه، مستطردًا بمزحٍ: آه بس ألقيها بس وساعتها هستلف منكم حتة الحجاب دي لإني هغير عليها من طوب الأرض.

طرق يونس كف بالأخر هادرًا بسخطٍ: يا أخي لقيها الأول وبعدين أبقى اتنيل غير!

وترك المكتب يشير له بانزعاجٍ: تابع انت بقى هشوف فارس ونروح المستشفى، وأرجع ألقيك متصرف بالكتب دي عشان مطلعهمش على روحك الطاهرة.

تساءل بحيرة: أتصرف فيهم ازاي!

أجابه وهو يستعد للرحيل: روح للشيخ مهران واديهمله هو هيرتبهم بمكتبة المسجد، سلام يا آ، كابتن إيثووو.

حدجه بنظرةٍ مشتعلة بينما رحل الاخير مبتسمًا بانتشاءٍ.

تركت هاتفها على الكومود باكية، لا تعلم لماذا يفعل بها هكذا، ظنته قد تناسى الأمر وصفح عنها ولكن ما يحدث الآن ما هو الا عقـ.ـا.بًا قاسيًا عليها.

أسرعت بمسح دmعاتها فور استماعها لطرقات الغرفة الخافتة، وبصوتٍ جاهدت لأن يكون ثابتًا قالت: ادخل.

فتحت أشرقت باب الغرفة وتساءلت بحنان: صحيتك يا بـ.ـنتي؟

نهضت صبا عن الفراش تجيبها بابتسامة هادئة: أبدًا، أنا كنت صاحية يا ماما، اتفضلي.

ولجت للداخل بخطواتٍ متريثة، حتى احتلت المقعد المقابل للسراحة، طالعتها بنظرة ثابتة حتى جلست قبالتها بنهاية السرير، فأجلت صوتها مرددة: بصي يا صبا أنا مش صغيرة ولا بريالة، أنا حاسة يا بـ.ـنتي إن علاقتك إنتي وجمال مش زي الأول، ده حتى معدش بيجي البيت وآ.

قاطعتها صبا بتـ.ـو.ترٍ: أيه اللي بتقوليه ده يا ماما! إنتي عارفة إنه بيحب يقضي وقت مع عُمران ويوسف أصحابه وآ...

ربتت على ظهر يدها المسنود على ساقيها بحنان: متخبيش عني أنا زي أمك وهقدر أفهمك.

انهمرت دmـ.ـو.عها بانكسارٍ، ورددت وهي تلتقط شهقاتها بصعوبة: والله حاولت أصالحه كتير بس هو مش مديني الفرصة، كنت هنزل مصر عشان أريحه مني ويرجع شقته بس هو رفض وأصر أكون هنا.

وتابعت وهي تزيح دmـ.ـو.عها باحدى المناديل الورقية: مبقتش عارفة هو عايز أيه؟ ولا لسه زعلان مني ولا لا.

وبحرجٍ شـ.ـديد قالت: يعني كان حصل حوار كده بينا ولما صالحني ورجعني الشقة ومنع سفري قولت انه خلاص مش زعلان مني.

احترمت أشرقت عدm رغبتها بالبوح عن تفاصيل مشاجرتهما، وقالت: طيب متزعليش نفسك عشان اللي في بطنك، هو جمال ابني كده يزعل ويعبي بس مبيحبش الفراق ولا بيبعد، كرامته عنده فوق الكل.

وربتت على ساقيها من جديد قائلة بحكمة: لكن في النهاية بيحبك وميقدرش يستغنى عنك يا عبـ.ـيـ.ـطة، طب ده مستناش وبعت خدك بعد الفرح بكام شهر على طول، واديكي قولتي أهو إنه مرضاش يسفرك وعايزك هنا!

وتابعت بلسانها الطيب: هو بس هتلاقيه واخد على خاطره منك وهيصفى متخافيش، أنا بكره هكلمه وهخليه يجي جري، وكلها يومين وهنزل مصر وإنتي بقى اتشطري كده واتنحنحي زي بنات اليومين دول.

وتشـ.ـدجت مردفة باستنكار: أصلك مشفتيش النسوان اللي هنا عاملين ازاي! ده اللي في عمري تحسي اني أمهم، حكم أنا محبش حد يعلي عليا وأهو حصل واللي ما تتسمى اللي اسمها فريدة دي علمت بالجـ.ـا.مد، فلزمن ولابد أول ما ارجع مصر أعمل ريجيم واهتم بنفسي، ففرصة يا بت اول ما تخلفي ألحقي نفسك وخليكي سمبتيك كده.

وضمت يديه لوجهها بخــــوف: مصـ يـ بـةلواحدة توقع الواحد هتهببي أيه ساعتها؟!

جحظت عين صبا صدmة، فهدرت بانفعال: واحدة مين دي! ده انا كنت قرقشتها على سناني!

ضحكت أشرقت بابتهاجٍ وباستحسانٍ رددت: جدعة يابت!

عاد الجميع للقصر بعد انتهاء الافتتاح الا عُمران، أبدلت شمس ملابسها وهبطت للأسفل حينما لمحت فاطمة ومايا يجلسان بالحديقة.

مسدت مايا على بطنها بألــمٍ وقالت: كويس إنك نزلتيني هنا يا فاطمة، كنت حاسة إني هتخـ.ـنـ.ـق فوق.

وتساءلت بدهشة: هو عُمران مرجعش معاكم ليه؟

ردت عليه فاطمة وهي تجذب طبق الفاكهة إليها: مش عارفة، سمعته بيقول لعلي إنه لازم يروح الشركة ضروري.

التهمت قطع الفروالة وقالت وهي تلوك قطعها: طيب ليه طلب مني استناه؟ الرجـ.ـا.لة دي عاملة زي سلسلة الألغاز.

أتت من خلفهما بخفتها، تردد بفرحةٍ: مصدقتش عنيا لما شوفتكم من فوق، ها ايه سر القعدة دي أو بالمعنى الأدق بتنموا على مين يا حلوين؟

التفتت لها مايا تلطم صدرها بطريقةٍ درامية: العروسة أخيرًا طلعت من حبسها الانفرادي!

حدجتها بغـ.ـيظٍ من طريقتها، فجلست قبالتهما تشير لفاطمة: شوفتي يا فاطمة بتتريق عليا ازاي! مكنش يومين يعني اللي ريحتهم، أنا مكنتش عارفة أنام في Egypt.

ابتسمت فاطمة ورددت: يا حبيبتي محدش يقدر يعترض على أي تصرف عروستنا تعمله، اتدلعي وأعملي كل اللي في نفسك إنتي عروسة.

نهضت إليها تنحني على الاريكة وتضمها بحب: حبيبتي فطوم، أنا بحبك أد الكون كله، وبصراحة بقى عايزاكِ معايا عشان ناوية أعمل الحنة على الطريقة المغربية وألبس قفطان زي اللي كنتي لابساهم في فرحك كانوا شيك جدًا جدًا.

أحاطت رقبتها بذراعها قائلة: عيوني يا شموسة، هنزل معاكي وهجبلك كل اللي انتي عايزاه.

وزعت نظراتها بينهما، وقالت بحنق: كده يا شمس، بقت هي حبيبتك وانا بقيت بـ.ـنت الناني يعني! إخص عليكي يا ناكرة الجميل، ده انا كنت بلف وراكي في المول لحد ما كعب جزمتي ينكـ.ـسر كل ده اتنسى لمجرد إني مفرهدة من الحمل حبتين تلاته يعني!

شعرت بالذنب لما اقترفته، حتى وإن كان الأمر فكاهي بينهن، فتركت فاطمة واتجهت اليها تمنحها ضمة مماثلة لزوجة أخيها، قائلة بشيء من النـ.ـد.م: أبدًا والله يا مايا، أنا أكيد مش هتحرك خطوة من غيرك إنتي كمان، هي في إيد وانتي في ايدي التانية آه هنضطر نريح كتير بسبب البيبي المتدلع ده بس its okay.

مسدت على بطنها المنتفخ قليلًا: مش بيتدلع هو تقريبًا وارث غــــرور أبوه وهيبقى طاووس نمبر2.

ضحكت شمس ومازحتها: لا انا كده لازم اتحرك بسرعة وأسرع معاد الفرح عشان أجبله عروسة كيوتة كده تخـ.ـطـ.ـفه، لاني من زمان بحلم بعريس شبه عمران، يبقى لازم نستغل الفرصة بحيث نقوي النسل.

ضحكت فاطمة حتى أدmعت عينيها، ومازحتها قائلة: ما يمكن أعملها وأسبقك يا شمس واجيبله بنونة كيوتة وعسل بردو ويغير رايه!

تابعت مزحها المضحك قائلة: هتبقى مشكلة فعلًا وبكده مش هيكون في غير حل واحد، إن مايا تلحق وتجبلنا كمان بيبي في اسرع وقت.

جحظت عين مايا من هول صدmتها، فجذبت علبة المناديل وقذفتها عليها هادرة بانفعال: ليه ياختي شايفاني أرنبة داخلة قفص اختبـ.ـار!

وحاولت جادة النهوض عن الاريكة، مشيرة لفاطمة: قوميني بسرعة يا فاطيما عايزة اهبش في زمارة رقبتها، تعالي سانديني مش ههدى اللي اما أجبها من شعرها.

هرعت شمس تختبئ خلف الاشجار، بينما ساندت فاطمة مايسان ونصحتها بضحك: إنتي مش قادرة تصلبي طولك، في وضعك ده المسامح كريم صدقيني.

نهجت بتعب وهمست لفاطمة: قعديني تاني يا فاطيما، فرهدتني بـ.ـنت فريدة هانم!

عاونتها على الجلوس مجددًا، فرددت مايا بتعب: أيوه كده، هاتي بس المخدة دي ورا دهري وحطي التانية تحت رجليا الشمال.

كبتت فاطمة ضحكاتها وقالت بجدية مصطنعة: هو انتي كنتي هتربيها ازاي وانتي مش قادرة حتى تحركي رجلك!

أجابتها بقلة حيلة: والله ما أعرف بس نرفزتني، أنا في الحالة المذرية دي بسبب اخوها وتقولي هاتيلي بيبي تاني! أنا عايزة ريست عشر سنين على الأقل عشان اقوم وأفكر في النقطة دي!

سقطت على المقعد من فرط ضحكاتها، وخاصة حينما صرخت مايا لشمس التي تحاول الفرار من خلف الشجرة: شوفتك، لو جدعه اطلعي وشوفي هعمل فيكي ايه؟ خليكي متزنبة كده لبكره الصبح عشان تعيدي نظر في كل كلمة تقوليها بعد كده.

حاولت فاطمة استمالتها: ميصحش كده يا مايا دي بردو عروسة.

عروسة على نفسها يا حبيبتي! هتسوق الهبل عليا مش هسكتلها مش كفايا عمايل اخوها وابن اخوها هتزيد عليا بفرد تالت!

قالتها بعصبية مضحكة، فإذا بالخادmة تطل من شرفة شمس العلوية، تشير بالهاتف مرددة: شمس هانم موبيل حضرتك بيرن.

خرجت من خلف الشجرة تهرول للاعلى وهي تنطق بهيامٍ وفرحة: دي رنة آدهم حبيبي!

تابعتها فاطمة بابتسامة هادئة بينما رددت مايا بسخرية: اجري ياختي، كان غيرك أشطر بكره يجيبك على بوزك وهتجري بردو نفس الجرية.

قهقهت فاطمة ضاحكة وقالت: مايا من أمته وانتِ قلبك أسود كده؟

ضمت يدها لصدرها وقالت بدهشة: مش عارفة بس تقريبًا ده اللي بيسموه هرمونات حمل متعصبة!

وتابعت بابتسامة رقيقة: بقولك أيه يا فطوم.

ارتبكت فاطمة من تحولها المفاجئ، ولكنها قالت: قولي!

تنحنحت بـ.ـارتباكٍ وقالت: أنا في سر عايزة اقولك عليه بس وحياة على مت عـ.ـر.فيش حد وتستري عليا.

انزوى حاجبيها باستغراب، وبقلق قالت: قولي يا مايا قلقتيني.

أشارت لها بالقدوم، فنهضت وانحنت لاريكتها فاذا بها تهمس: أنا بتوحم على حاجة غريبة مخلياني خايفة من نفسي ومن اللي في بطني.

تساءلت باستغراب: حاجة أيه دي؟

اابتلعت ريقها بتـ.ـو.ترٍ وقالت: أنا يعني آآ، بصي مش انا اللي بتوحم دي طلبات البيبي وهو شغله هيطلع ما شاء الله دmاغه عالية ومتكلفة.

بنفاذ صبر قالت: ما تقولي يا مايا؟

رددت بـ.ـارتباك: عايزة أشم ريحة سجاير!

برقت الاخيرة بصدmة من طلبها بينما عادت مايا تهز رأسها موكدة لها تمام ما استمعت إليها، عادت فاطمة لمقعدها بنفس ملامح الصدmة، فلعقت شفتيها ورددت: أنا بسمع إن اللي بيتوحم بيكون بيتوحم على أكلة معينة ممكن شيء مالح أو حلو، لكن يشم وريحة سجاير دي موردتش عليا نهائي!

استقامت بجلستها ودنت إليها تلتفت حولها بريبة: والله ما أعرف ازاي بس من إمبـ.ـارح والموضوع بيلح عليا، فعايزاكي تساعديني.

ازدادت صدmـ.ـا.تها وبنفس الذهول قالت: نعم! اساعدك ازاي! دي مضرة جدًا وحـ.ـر.ام يا مايا.

صاحت بها بحدة: هو أنا بقولك هشربها انا عايزة اشمها بس! يرضيكِ الواد يطلعله سجارة في وشه ولا قفاه!

رمشت بعدm استيعاب وقالت: بصي هي حاجة مضرة فالافضل تصرفي نظرك عنها، وبعدين لو افترضنا اني هساعدك هعملها ازاي! على مش بيدخن ولا جوزك حتى بيدخن، فقوليلي هجبلك سجاير منين ولو حصل وجبتها مين هيشربها عشان حضرتك تتكيفي من الريحة؟!

حكت مايا خدها بحيرة وهي تفكر بالأمر، ومن ثم فرقعت أصابعها: الحرس، أنا بشوفهم على طول بيشربوا سجاير، ولو على مين يشربها فاحنا هنولعها كأنها عود بخور!

ابتلعت فاطمة ريقها الجاف بصعوبة وقالت: بلاش يا مايا دي هتضرك صدقيني.

باصرارٍ قالت: بالله عليكي يا فاطمة تتصرفي انا عارفة انه هبل بس والله ما اعرف مالي، بحب أشم الادخنه الغريبة وحتى حبيت ريحة الدهان الجديدة في الجناح بشمها شبه الهيروين!

انتابها خــــوف من حالتها الغريبة، فقالت: طيب ما تروحي تكشفي عند دكتور يوسف ليكون الامر خطير.

زفرت بنفاذ صبر: يووه بقى يا فاطمة، هتحلي الموضوع ولا اتصرف لوحدي.

ضمت شفتيها ببراءة وقالت: طيب قوليلي هعمل ايه؟

بمكتب عُمران.

الظلام الدامس كان يحيل به، بعد ان انصرف الموظفين بأكملهم ولم يبقى سواه، يتلاعب بمقعده والابتسامة الخبيثة تحتل شفتيه، وها قد أتت المكالمة المنتظرة من الرجل الذي خصه بالمهمة المطلوبة.

رفع الهاتف إليه فإذا بالرجل يخبره: تحصلنا على ارقامهم جميعًا سيدي، بماذا تأمر؟

رفع ساقيه لسطح المكتب وارتخى بجسده باستمتاعٍ مرددًا: أرسل موقع سكنها إليهن جميعًا، واحرص أن تذكرهن بما ارتكبته بعد ان تسببت بطـ.ـلا.قهن، لا أريد ان تنالها الضـ.ـر.بات زد بالنيران لتحرقها حية إن شئت.

فلنفعل إذًا!

اغلق عُمران هاتفه بابتسامة انتصار، فحمل مفاتيح سيارته وهبط للاسفل يطـ.ـلق صفيرًا رائق، قاد سيارته عائدًا للمنزل وهو لا يكف عن الدندنة احتفالًا بتفكيره الخبيث بالانتقام من أول افعى هاجمته!

ارتدى على بيجامة من الستان الأسود، وخرج يبحث عن هاتفه الذي استقبل للتو رسالة أخيه ردًا على رسالته، قراها ليجده يكتب له
«متقلقش يا علي، أنا كويس وفي الطريق، لما أوصل هقولك عملت أيه عشان تكون فخور بتفكير أخوك، مع كامل تحياتي واحترمـ.ـا.تك لشخصية الطاووس الوقح ».

ألقى الهاتف على الفراش ساخرًا بحنقٍ: مغــــرور حتى في حل مصايبه!

اقترب من الشرفة فوجده قد وصل للقصر، فهبط على للأسفل ليكون بانتظاره، فلم يحتمل حتى دخوله إليه واندفع للبوابة الخارجية ينتظره، فاذا به يلمح فاطمة تخرج من الغرفة المخصصة للحرس، تتلفت يسارًا ويمينًا بخــــوفٍ، ويدها مندثة خلف ظهرها.

نظراتها المريبة تشبه ذلك السارق المتخفي، أمرها برمته اثار شكوكه، وقبل أن يخطو إليها وجد عُمران يقترب إليه قائلًا بابتسامة واسعة: كويس إنك موجود تقرى الفاتحة معايا على روح الحيزبونة ألكس، جنازتها بكره الساعة عشرة وعشرة.

اندهش من صمود ملامح أخيه امامه، اختفى فضولها عن الأمر وعلى ما يبدو بأن هناك ما يستحوذ على اهتمامه، اتبع مسار نظراته فانتبه لفاطمة التي تتسلل على أطراف أقدامها، ومازالت يدها تختبئ خلف خصرها.

وقف جواره يهمس له: هي فاطمة بتتسحب شبه الحـ.ـر.امية كدليه؟ شكلها كانت خارجة من أوضة الحرس!

هز على رأسه مؤكدًا، وقال: خــــوفها وحرصها ان محدش يشوفها قلقني!

هز رأسه هو الاخر، مردفًا: أنا كمان قلقت.

وتابع ومازالوا يراقبنها بصمت: طيب ما تروح تسألها ولا تتصرف، مش آنت دكتورها وجوزها؟ لتكون داخلة على نوبة قلبت بسيناريو اللص والكتاب؟!

استدار إليه يهدر بعصبية: تسمح تبلع لسانك ده شوية وتسبني أعرف أفكر!

اشار له مستنكرًا هدوئه؛
هي دي محتاجة تفكير يا دكتور! اهجم واقفشها متلبسة لتكون سارقة الصاعق الكهربائي أو سلاح من بتوع الحرس مهو ده اللي مالي الاوضة جوه!

وتابع بشك وهو يتعلق بذراعه: على انت متخانق معاها؟! انا دلوقتي مستحيل اسيبك تروحلها لتضـ.ـر.بك طلقة وأتيتم أنا!

دفعه على بغـــضــــب: يا أخي إبعد أنا في أيه ولا أيه؟

كاد بأن يتحدث مجددًا فأشار له بحزمٍ: اخرس وسبني افكر.

ابتلع جملته ووقف يراقبها في صمت، إلى ان وجده يتسلل خلفها بحرصٍ فخشى أن تصيبه فاطمة بما جاب عقله من ظنونٍ مضحكة لذا تسلل خلف أخيه بحذرٍ.

اختبئوا معًا خلف احدى الاشجار الضخمة، لتتضح لهما الرؤية كاملة، فاذا بفاطمة تلقي ما بيدها على مايا المتمددة براحةٍ، وهي تصرخ بغـــضــــب: اتفضلي ومتطلبيش مني الطلبات دي تاني، أنا مش مصدقة إني بقيت حـ.ـر.امية بسببك! بقى إنتِ تخليني أدخل اوضة الحرس وأسرق سجارة! مفكرتيش في منظري لو اتقفشت جوه!

اعتدلت مايا بجلستها تراقب الغنيمة بلهفة، غير مبالية بغـــضــــب فاطمة المشتعل، وما زاد حنقها حينما تساءلت مايا وهي تراقب السيجار بين يدها: نوعها أيه دي؟! وبعدين بعد كل النصايح والخطط دي وراجعالي بسيجارة واحدة؟! حـ.ـر.امية نزيهة ولا بتتقي الله في المسـ.ـر.وق!

كزت على أسنانها بغـ.ـيظ: انتي مش طبيعية والله العظيم! بقولك أنا بقيت حـ.ـر.امية سجاير بسببك!

نهضت قبالتها تصرخ بانفعال: ما خلاص يا ستي الطاهرة، مصيري هردهالك وبعدين قوليلي انتي سارقة السيجارة من غير ولاعة هولعها انا باية دلوقتي! مهو مش معقول هدخل المطبخ وفريدة هانم تقفشني بيها جوه، يبقى مشفهمش وهما بيسـ.ـر.قوا شافهم وهما بيولعوا!

صفقت كف بالاخر وهي تراقبها بصدmة، بينما من خلف الشجرة يبرقان كلاهما بصدmة، فردد عُمران بعدm استيعاب: مراتك حـ.ـر.امية ومراتي بتدخن؟! شيء عظيم، تحب نطلب الاحداث ولا نطلب فريدة هانم تنزل تربيهم أحسن.

مازالت الصدmة تؤثر على على بشكلٍ مقبض، لا يعلم أينفرط من فرط الضحك أم يظل متخشبًا من فرط صدmته.

تخطى عُمران الأمر اسرع منه وخرج إليهما يهتف بسخرية: مدوخة نفسك ليه يا بيبي ما كنتي طلبتيني وكنت جبلتك علبة وولاعة بالمرة عشان تتكيفي صح وتكيفي الواد!

جحظت اعينهما صدmة، فالقت مايا السيجار أرضًا ورددت بتلعثم وهي تختبئ خلف فاطمة: عُمران! لا انت فهمت غلط أنا آآآ...

ابتسم ساخرًا: أيه السلك لمس ولا دmاغك لسه متعمرتش يا بيبي! طيب مش تقوليلي على الأقل متفاجئش لما القى ابني طالب حجرين!

مدت رأسها من خلف فاطمة تبرر: لا إنت فهمت غلط أنا كنت عايزة اشم ريحتها بس، أكيد مكنتش هشربها يعني!

وتابعت تبعد التهمة عنها: ابنك اللي عايز كده.

قال وابتسامته المخيفة تزداد: وماله يا حبيب قلبي هربيه وهربيكِ معاه أهو أكسب فيكم ثواب.

خرج على من خلف الشجرة، يكتم ضحكاته بصعوبة، فتنحنح قائلًا بجدية مضحكة: سجاير يا مايا، سجاير!

وتابع وهو يشير على زوجته التي تتمنى ان تنشق الأرض وتبتلعها: وكمان بتحرضي فطيمة الملاك البريء على السرقة!

طلت من خلفها تخبره بضيق: هديها وعديها يا دكتور!

أشار عُمران لفاطمة: جنب شمال كده يا فاطيما، محتاج الهانم في كلمتين.

كادت بالتنحي جانبًا، ولكن مايا لم تسمح لها بذلك، تمسكت بها وبرجاءٍ قالت: اوعي تبعدي يا فاطمة.

ربع يديه أمام كتلته العضلية مستهزأ بها: يعني كده مش هطولك مثلًا! انتي بالبلونة دي مش هتقدري تجري تلاتة سنتي يا بيبي!

نقلت بصرها لعلي تستنجد به: على الحقني يا علي، والله كنا هنولعها زي عود البخور.

اهتز جسد على من فرط الضحك، فأزاح دmـ.ـو.عه وهو يجاهد ليتحدث بشكلٍ طبيعي: هو أكيد خايف عليكي يا مايا، الله أعلم المرة الجاية يمكن تتوحمي على هيرويين!

قالها وانخرط بضحكه مجددًا، فأشار عُمران لها بتحذير: هتيجي ولا أناديلك فريدة هانم تشهد على الواقعة بنفسها.

صرخت برعـ.ـب: لااا كله الا فريدة هانم، أنا طالعه معاك. اتفضل اسبقني وأنا شوية وهحصلك.

رمش بذهولٍ: أسيبك عشان تولعيها! انا أسف يا حبيب قلبي على عيني أحرمك من الكيف بس ده خطر على ابني لذا وبكل حزم اتفضلي قدامي بدل ما نتحاسب هنا وعلى الملأ!

أنكست رأسها بخيبة أمل، واستدارت تستكمل طريقها للأعلى، وهو من خلفها.

تبقت فاطمة امام علي، تراقبه باحراجٍ وحـ.ـز.ن، بينما هو لا يتمالك نفسه من فرط الضحك، فاتجه لها يردد بضحك: حـ.ـر.امية سجاير يا فاطمة!

رددت بنبرة أشبه للبكاء: والله يا على صعبت عليا، خــــوفت تطلع للبيبي في وشه وآ.

قطعت عبـ.ـارتها حينما سقط يستند على حافة الاريكة من الضحك، وقال: يعني أنا كنت بفكر اهاديكِ كتب للشعراء المفضلين عندي، بعد اللي حصل ده هقدmلك كتب تتعلمي ازاي تسرقي باحترافية لان ملامحك وانتي خارجة من الاوضة فضحتك فـ.ـضـ.ـيحة علنية!

انكمشت تعابيرها بحـ.ـز.نٍ وقالت: كده يا علي، بتتريق عليا وانا زعلانه إني عملت كده.

سيطر على ذاته بصعوبة ولف يده حولها: خلاص يا حبيبتي مش هضحك تاني بس الموقف نفسه يفصل!

رفعت عينيها لشرفة جناح مايا وسألته بخــــوف: هو عُمران هيعمل أيه معاها؟

استدار ومازالت يده تضمها واليد الاخرى بجيب سرواله، متابعًا معها شرفة أخيه: اعتقد إنه هيعالجها قبل ما توصل لمرحلة الادmان!

ردت عليه بضيق: هي مبتشربش هي بس كانت عايزة تشم ريحتها.

فشل بالسيطرة على ضحكاته فهتفت بغـــضــــب: متضحكش يا علي، هزعل منك بجد.

هز رأسه بجدية وعاد للضحك مجددًا، وانحنى يحمل السيجار الملقي أرضًا يرفعها قبالتها ويقول: بقى دي اللي اتسببت في الخناقات دي كلها.

لمعت عين فاطمة بفرحة وقالت: الحمد لله إنها معاك.

وتابعت بنبرة زرعت فيها خبث الأنثى بدلالها: على هو أنا ممكن أطلب منك طلب؟

قال بصدmة مازحة: أيه عايزاني اولعهالك تاخدي نفسين إنتي كمان؟!

هزت رأسها تنفي ذلك وقالت بتلعثم: عايزاك ترجعها مكان ما أخدتها لاني حاسة بالذنب ومش هسامح نفسي!

برق بها لدقيقةٍ كاملة، ثم انطلقت ضحكاته بصوتٍ يعلو سابقه، ومن بينها قال: نعم! عايزة أيه؟! يعني أروح أقول للحارس اتفضل المدام بس كانت بتجرب نوع جديد ومعجبهاش النوع بتاعك، ولا اقوله كابتن سيجارة واقعة منك! انتي بتهزري يا فاطيما!

ربعت يديها أمام صدرها وتابعته بنظرات خيبة أمل جعلته يتساءل بدهشة: ده انتي بتتكلمي جد بقى!

هزت رأسها تؤكد له، وبرجاء قالت: بالله عليك يا علي!

وزع نظراته بينها وبين غرفة الحرس هاتفًا: صعب يا فاطمة! انتي عايزة تهزي مكانتي ولا أيه أنا دكتور محترم مش مصلح لسرقة السيجارة!

استندت على ذراعه وبحب قالت: ولو قولتلك عشان خاطري!

نظراتها وطريقتها تلين الصلب إن أرادت، ابتسم لها وهز رأسه بموافقة رغم سذاجة الموقف.

اتجه على لمكان تجمع الحرس وهو يمرر يده على شعره الطويل بحيرةٍ وحرج.

وقف يتنحنح أكثر من مرة، مستحضرًا ثباته وخشونة صوته، ليشير لاحدهم فأتى يهرول إليه قائلًا: هل هناك خطبًا ما سيدي؟

قال ومازال يمرر يده على خصلاته: وجدت هذه هنا، خذها من هنا واحرص الا تسقطها مجددًا، أنا أكره رائحتها ولا أريد أن ينتزع مرائي برؤيتها.

التقطته منه ولم بستطيع اخفاء معالم دهشته ومع ذلك ردد بكل احترام: حسنًا سيدي، سنحرص الا يتكرر الأمر.

أشار له بخفة وعاد لها يكبت ضحكاته، وخاصة من رؤية ابتسامتها المشرقة وكأنه كان يعيد كنز من الذهب لصاحبه وليست ثقب سيجار مسـ.ـر.وقة تعاد من سارقها! أغرب سرقة على الاطـ.ـلا.ق!

بالاعلى.
تتراجع مايا لحافة الفراش، بينما يصيح عُمران
بغـــضــــب: بتشربي سجاير يا مايا هي حصلت! عايزة الواد يبقى خمورجي وبتاع سيجارة!

صعدت فوق الفراش تركض للجهة الاخرى قائلة بخــــوف: محصلش والله زي ما قولتلك كنت هولعها كأنها عود بخور، صدقني مش انا اللي عايزة كده أنا مؤدبة يا عُمران! مؤكد دي طلبات ابنك القليل الادب!

صعد على الفراش خلفها يصيح: متغلطتيش في ابني قداااامي! وبعدين هو لو طلبت معاه حشيش هجيبك من أنهى ظار!

أشارت تنفي مقولته: لا إن شاء الله مش هتوصل لكده أبدًا.

وانا لسه هستنى لما توصل! مش بعيد ألقيه نازلي بسيجارتين في ايده وبيمسي عليا بيهم!

هبطت من الجانب الاخر ببطءٍ مضحك، وبتعبٍ قالت: ما تيجي ننام ونأجل الخناق لبكره والله تعبت من الجري، فرهدت!

دنى إليها بنبرة خطيرة: ما كانت صحتك حاضرة من شوية وكنتي هتهفي السيجارة تحت، مش عارف عقلك كان فين! انتي أساسًا من اول الحمل وانتي من سرير المستشفى للبيت ما بالك لو كنتي نفذتي اللي في دmاغك كنتي هتنامي فين المرادي! عارفة فين؟

هزت رأسها تنفي معرفتها بالامر فمال عليها يهمس: القرافة يا مايا، لسه فاكراها ولا فريدة هانم مسحت مصطلحاتك الشعبية!

مسدت بيدها على بطنها بـ.ـارهاقٍ وقالت: فاكراها، سبني أريح بقى بدل ما اروحلها بحق وحقيقي.

ابتعد عنها قليلًا، فتمددت على الفراش باسترخاءٍ، تركها واتجه يخلع قميصه ليستعد لتبديل ملابسه وقبل ان ينتهي من ذلك خرج لها مغتاظًا: ثم اني مش قولتلك تقعدي وتستنيني! غيرتي فستانك ونزلتي ليه؟

قالت وهي تتناول من طبق الكاجو جوارها: لو متخيل اني هقعد استناك اربع ساعات بالفستان التقيل وببطني المنفوخة دي تبقى لسه مش مقدر امكانيات حالتي البائسة.

مزق شفتيه السفلي من فرط ضغطه المتعصب وهدر بغـ.ـيظٍ؛
لا مقدر جدًا، مهو انتي بقيتي صاحبة مزاج بقى!

وتركها وعاد يستكمل ارتداء ملابسه، ليطل من جديد هاتفًا بحنق: بقى تقرفي من ريحتي أنا وتحبي ريحة السجاير!

والقى حذائه أرضًا بعصبية: هتجنن!

ابتلعت العصير وقالت وهي تلتهم الشوكولا: خلاص بقى يا عُمران متكبرش الموضوع.

اتجه إليها يجذب التسالي الذي قد سبق وأعدها لها قائلًا بنزق: هو كبير أصلًا يا بيبي!

وتمدد جوارها يشير بانفعال: ودلوقتي هتيجي تننامي في حُضني ولا أستبدلك بالمخدة؟

أسرعت إليه تهمس بذعرٍ: أجي مجيش ليه!

كبت ضحكاته على هلعها البادي بمُقلتيها، فاحتواها بين ذراعيه وغفى قرير العين بعد أن انتهى من اول عدو لدغه دون حقًا.

انتهى آدهم من مكالمته اليومية مع شمس، وما ان استعد للنوم حتى تفاجئ بوالده يدخل بمقعده المتحرك بملامح واجمة للغاية، اعتدل بفراشه يفتح زر الانارة مرددًا بتعجب: إنت لسه صاحي يا بابا!

احتفاظ عينيه باحمرارها أوضح لآدهم حالة ابيه، استقام بجلسته أمامه متسائلًا باهتمام: مالك؟!

تحرر عن صمته أخيرًا مرددًا بانهزام غزى روحه قبل أن يمس جسده: وبعدين يا عمر؟ هفضل مفترق عن ابني كده كتير؟ بشوفه ومحروم من اني اضمه او أسمعه بيناديني باللي المفروض بينادي بيه غيري! هفضل ساكت وانا شايفه مكتوب على اسم حد تاني!

وتابع وقد ترقرقت دmـ.ـو.عه بغزارة: يابني أنا صبرت بما فيه الكفايا، بتقطع وأنا شايفه قدامي وبسمعه بيتكلم عن أبوه، ببقى نفسي أصرخ وأقوله أنا أبوك!

زفر آدهم بضيق من خوض ذلك الحوار المتكرر، فقال: يا حبيبي انا فاهمك وعارف إنه صعب، أنا كمان بخوض نفس احساسك وأنا شايفه قدامي ومش قادر أقوله اني أخوك، بس صدقني ده لمصلحته ولمصلحتك، آيوب متعلق جدا بالشيخ مهران، ممكن يبيع الكون كله عشانه، غير انه عمره ما هيتقبل اللي انت عملته!

ردد بقوةٍ: مش مهم انه يتقبل أو لا المهم انه يعرف الحقيقة.

لو حققــ,تــلك رغبتك هتكون بكده بنخسره بشكل نهائي!

هداه عساه يتراجع ولكنه أصر بقوله: مش هيبعد لإن لا أنا ولا إنت هنسمحله يبعد.

وببكاءٍ حارق قال: يابني معتش باقي في عمري كتير، عايز أكفر عن ذنبي قبل ما أمـ.ـو.ت، عايز أصحح غلطتي بنسبه لحد تاني، عايزه يسامحني قبل ما أمـ.ـو.ت.

انحنى يقبل يديه معًا وبتاثرٍ قال: بعد الشر عليك يا حبيبي متقولش كده عشان خاطري، حاضر أنا هتصرف وهشوف طريقة مناسبة اقوله بيها الحقيقة، اديني فرصة أخيرة.

تمسك بيده يضغط عليها بتوسل: اوعدني يا عمر.

هز رأسه بابتسامةٍ محبة: أوعدك يا صاصا!

صباحًا بالمركز الطبي الخاص بدكتور علي الغرباوي.

تلقى يوسف مكالمة هاتفية جعلته يجيب بابتسامة واسعة: بشمهندس آيوب بنفسه بيكلمني؟!

دكتور يوسف إزيك أخبـ.ـارك ايه؟

أنا الحمد لله في فضل ونعمة، طمني عليك إنت أمورك تمام؟

الحمد لله يا دكتور، بصراحة ومن غير لف ودوران أنا مكلمك عشان حوار قد يكون تافهه بس يفرق معايا.

ضحك يوسف وردد بتخمين: سيف مش كده؟

من بعد ما نزلت مصر أول اسبوع كان بيكلمني عادي وجيت بعد كده كنت مشغول في حوار ابن عمي ومعرفتش ارد عليه فاتفجآت بيه مبلكني من كل الحسابات والنهاردة لقيته فكك الحظر وبعتلي إنه هيتجوز بعد بكره وقبل ما ارد او أستفهم لقيته بلكني تاني!

تعالت ضحكاته صاخبًا، وقال بمرحٍ: عشان كده مكتئب ومالي الفيسبوك منشورات كآبة عن غدر الاصدقاء!

ضحك آيوب هو الاخر وقال: شوفت يا دكتور! أنا حقيقي مش فاهم غلطت في أيه؟ خليه يكلمني عشان أصالحه حتى لو مغلطتش هخده على قد عقله!

والله انتوا الاتنين نكتة، بتفكروني بنفسي وانا في الثانوي! عمومًا حاضر لما هرجع بليل هتصل بيك وهخليه يكلمك.

تسلم يا دكتور يوسف، وبعتذر لو عطلتك.

لا يا حبيبي انا تحت أمرك إنت وتفاهة سيف أخويا.
ضحكوا معًا وأغلق يوسف هاتفه، فاذا بالممرضة تخبره: السيدة فريدة بالخارج تريد رؤيتك سيدي.

اندهش من الأمر، ورغم غرابته الا انه قال: ادخليها.

طلت فريدة بجاذبيتها ورقتها المعهودة، تجلس قبالته بكل عنجهية، وقبل أن تمنحه فرصة الترحاب بها قالت: في موضوع مهم عايزاك فيه يا يوسف، وبتمنى يكون بينا ميعرفهوش مخلوق!

وقفت سيارة الأجرة أمام منزل الشيخ مهران، تراجـ.ـل منها يونس الذي يجلس بمقدmة السيارة حاملًا فارس الذي غفى على ذراعيه بعد ان قضى الليل برفقة يونس، بعدmا اكدت له الطبيبة خروج خديجة في صباح اليوم التالي فظل بالاستقبال حتى انتهت من محلولها الاخير.

هبطت الحاجة رقية تساند خديجة التي تتألــم بخفوتٍ يمزق قلبه دون رأفة بحاله، يود لو يحملها بين ذراعيه ولا يتركها تخطو خطوة واحدة تزيد من جـ.ـر.حها.

صعدت للطابق الاول بصعوبة وبطئ، حتى ولجت لغرفة آيوب بمساعدة رقية وسدن التي اندفعت اليهما بلهفة وحـ.ـز.ن على حال تلك الفتاة التي سبق لها رؤيتها.

ظلت سدن برفقتها، وخرجت رقية تشير لصبيانها فاجتمع آيوب ويونس حولها، فصفقت بيدها بطريقة كوميدية: يلا يا جميل منك له، مشفش واحد فيكم هنا، آيوب هدخل ألــملك هدومك في شنطتين بلاستك وتطلع في ايد أخوك على فوق.

زم شفتيه ساخطًا: اخرتها بتطرد بشنطتين بلاستك!

واستدار ليونس يلكزه بعنجهية: عشان تعرف أنا مضحي عشانك ازاي!

ردد بنزق: يا شيخ اتلهي ما انت هتطلع تقرفني فوق بكتبك ومذكرتك!

لف يده حول كتفه بسعادة: وده أهم ما في الموضوع، زي مانت عارف امتحاناتي على الابواب ومحتاجلك عن أي وقت يابو فارس.

منحه نظرة محتقنة وقال بسخرية: هات الهدmتين بتوعك وحصلني.

أوقفه الشيخ مهران مبتسمًا: مش هتأخد الاستاذ فارس ولا مش محسوب من صنف الرجـ.ـال؟ أنا عن نفسي هنزل الدكانة ومنها للمسجد.

اتجه يونس إليه ينحني على الاريكة التي يغفو عليها، طبع قبلة عميقة على خده وهو يردد بابتسامة جذابة: راجـ.ـل وسيد الرجـ.ـال كمان.

وحمله واتجه لعمه الذي ربت على كتفه بحبٍ: ربنا يحفظهولك ويبـ.ـاركلك فيه يا حبيبي.

قبل جبينه باحترام: ويبـ.ـاركلنا في عمرك يا عمي.

أشار لآيوب فحمل الأغراض من والدته ولحق به للأعلى.

مضى علي بين الطوابق مباشرًا عمل الاطباء وفريق التمريـ.ـض برضا تام عن اختياره، إلى ان تفاجئ بأخيه يجلس على مقاعد الانتظار المعدنية المتطرفة بانحاء المركز.

رؤيته بالمركز كان مفاجأة صادmة إليه، فدنى إليه يتساءل باستغرابٍ: عُمران بتعمل أيه هنا؟

مازالت الصدmة تستحوذ على معالمه، فاستدار يتطلع لعلي بنظرة مطولة وكأنه يحاول بها استكشاف من يتحدث معه؟ فتابع على بقلقٍ: مالك؟

خرج عن صمته يخبره ببسمةٍ بلهاء: أمك.

تابع الاخير بدهشةٍ: مالها.

اجابه بنفس الابتسامة الحمقاء: حامل!

جحظت أعين على بصدmة وهو يراقب عمران الذي مازال يجلس على المقعد المعدني كأنه فقد القدرة على استخدام ساقيه، استغل عمران صدmة اخيه وألقى اليه قنبلة أخيرة بسخرية: وجاية تسقط عند يوسف من ورا عمك!، معطلها جوه على أمل إني أدخل أقنعها وأنا من الصدmة قاعد محلك سر، اقعد جنبي بسرعة.

جلس على جوار عمران يحاول استيعاب ما ألقى عليه منذ الصباح، فضحك عمران ساخرًا: يعني أنا المفروض أعمل أيه أدخل اقولها سبيه وهربيه مع ابني! ولا همشي ازاي أنا! هشيل ابني اللي مستنيه كمان كام شهر على ايدي واخويا على الايد التانية ولا هعمل أيه بالظبط؟!

والتفت بجسده لعلي يصيح به بعتاب: انت السبب قعدت تقولي نساعد عمك يتجوزها وادي النتيجة هنبقى مسخرة يا علي!

وتطلع امامه يردد بهمس منصدm: ازاي مفكرتش في الكارثة دي!

وصاح في اخيها بتعصب: انت ساكت ليه ما تتنيل تقولي هنهبب أيه، ولا هنمنعها ازاي من قرار التخلي عن البيبي. يوسف مبطلش رن عليا وانا بقالي ساعة مرمي قدام مكتبه معنديش الجرأة اوجهه هو شخصيًا!

وحينما لم يجد رد فعل من اخيه هزه بقلقٍ: على مالك؟

وبتخمينٍ قال: انت زعلان انك بدل ما تستقبل خبر حمل فاطمة جالك خبر أمك من حيث لا تحتسب! انت دكتور نفسي وقادر تساعد نفسك فساعدها وانجز خليها تقولي هنعمل ايه نتصل بعمك نجيبه ويعرف بمصيبتها ويطـ.ـلقها ونخلص ولا نعمل ايه؟
يستكين رأسها على سرير العمليات، عينيه تغدقان بالدmـ.ـو.ع المائلة على جانبيها، عاشت طوال عمرها بصورة مخادعة، مشوشة عن طباعها، فلم تكن تلك القوية الشامخة، بل كانت امرأة مقهورة، مجبورة على كل شيءٍ.

قــ,تــل قلبها وفي نفس اليوم أُجبرت على أن تُقحم قلبها شخصًا أخر، زرع نطفة داخلها بالأجبـ.ـار، بل فعلها ثلاث مرات وبالرغم من قسوة فعلتها الا أنها رزقت بأجمل ثلاث أبناء.

علي ابنها الأكبر، ينبوع الحنان والاحتواء، صديقها الذي لم تمتلكه يومًا، وبالرغم من كونها تكبرها فوق العمر عمرًا الا أن عقله يفوقها، حبه الشـ.ـديد للقراءة وتنظيم حياته المنمق وبالأخص العملية، قرارته التي تميل أغلبها لقلبه، ربما لا يشبهها ولكن أكثر ما تحبه به بأنه النسخة المصغرة عن معشوقها، وكأن أحمد تجسد فيه ليعوضها فراقهما!

عُمران الابن الثاني لها، طفلها المشاغب، لم يكن هادئًا بطفولته مثل علي، وبالرغم من أنه عنيدًا صعب المراس الا أنه كان يتفق معها بأغلب الاشياء، كطريقة ارتدائه للملابس الباهظة، حنكته ورقيه بالتعامل، اهتمامه بالرياضة كما تعشق هي، أحيانًا تشعر حينما يضمها بأنها ابنة أبيها المدللة، داخل حـ.ـضـ.ـنه تشعر بأنها طفلة صغيرة، وكثيرًا ما تخجل بأنه والدته، ولكنها على ثقة بأنه كان وسيظل دومًا لجوارها.

شمس طفلتها الثالثة، اشتق قدومها من اسمها فأشرقت حياتها المظلمة بها، طفلتها الجميلة، رقيقة القلب والمشاعر، شبيهتها المتطابقة لها، فلقد كان مناصفة غير عادلة حينما شبه علي أحمد، وورث عُمران ملامح والده، فأتت شمس نسخة عنها بأغلب ملامحها وبكل طباعها تقريبًا، لذا كانت تخشى عليها أن تلقى مصيرها، ربما اتخذت بحقها قرارات حاسمه ولكن بالنهاية فور أن خفق قلبها لشخصٍ دعمتها دون حتى أن تستعلم عنه شيء.

حياتها برمتها كانت مرهقة، شاقة، والآن قد تنعمت بين أحضان معشوقها، من حُرمت منه رُد لها، فهل ستقــ,تــل ثمرة حبهما بيدها!
وضعت فريدة يدها على بطنها، تهز رأسها بجنون وكأنها استشعرت الآن فضاحة ما ستفعله، كيف ستصبح قـ.ـا.تلة؟ كيف وهي لم تفعلها مع من كرهته فكيف ستفعلها مع من قُتلت عشقًا لأجله؟!

أزاحت الغطاء عنها ونهضت تخرج من جناح العمليات متجهة للخروج، فاذا بعلي يقف برفقة يوسف الذي وصل صوته لها: أنا كنت بحاول أكسب وقت لحد ما عُمران يوصل، بس بما إن حضرتك هنا فأرجوك تتصرف يا دكتور، فريدة هانم في أخر الشهر الثالث يعني عملية الاجهاض خطر عليها جدًا أخطر من خطورة الولادة في سنها ده، فمن فضلك يا دكتور على تحاول تفنعها لآنها مش مدياني فرصة، أنا حتى سايرتها بالكلام على قد ما أقدر وإنت عارف إني عمري ما عملت ولا هعمل العمليات دي.

أشار له بتفهمٍ، فتابع يوسف وهو يتجه للخروج: خد راحتك أنا مع عُمران بره.

تركه وخرج فاستدار على ليتجه لجناح العمليات، فاذا بها تقف أمام عينيه، همس بذهولٍ: فريدة هانم!
أخفضت عينيها أرضًا بحرجٍ، وعادت لغرفة العمليات لتحضر حقيبة يدها، ولج على خلفها، فوجدها تجذب حقببتها وتخرج منها مفاتيح سيارتها، وقبل ان تترك الغرفة أوقفها بقوله: ممكن نتكلم شوية؟ أنا مش هقدر اسيب حضرتك تخرجي من هنا وإنتِ بالحالة دي.

مالت برأسها من فوق كتفها قائلة دون أن تقابله عينيها: مش هخرج من هنا عند دكتور تاني، صرفت نظري عن الموضوع ده اطمن!
سبق خطاها ليقف في مواجهتها هادرًا بهدوءٍ: طيب وليه تاخدي قرار زي ده من البداية يا ماما! حضرتك عارفة لو عمي عرف اللي كنتِ عايزة تعمليه رد فعله هيكون أيه؟

رفعت عينيها الغائرة بالدmـ.ـو.ع إليه فتابع بحـ.ـز.نٍ: صدقيني ومن عشرتي ليه بأكدلك إنك كنتي هتخسريه خسارة أبدية.
أنكست رأسها أرضًا تخفي بكائها الخافت، فأحاط كتفها بكفه، يفرك بإبهامه عليه بحنان: مهما كانت أسبابك فصدقيني مش مضطرة لده.

خرجت عن صمتها قائلة ببكاء: انت وأخوك مبقتوش صغيرين يا علي، بالرغم من غرابة جوازي وأنا بالسن ده الا أنكم مكنش عندكم أي مشكلة، دلوقتي أزيدها عليكم بحملي ده! هكون أنانية يا علي!

رفع بإبهامه رأسها إليه، يسألها بدهشة وو.جـ.ـع مما تعانيه والدته من اكتئاب استطاع بكل براعة التعرف عليه، هالتها البادية أسفل عينيها، كل رد فعل صادر عنها يبرز له مدى معاناتها: ليه بتفكري بالشكل ده؟ تفتكري إن موضوع زي ده هيأثر علينا! حبيبتي إنتِ مأجرمتيش بجوازك من الانسان الوحيد اللي حبتيه! لازم تكوني فخورة بنفسك وباللي مريتي بيه، مفيش ست تقدر تستحمل ربع اللي استحملتيه، مستحيل تقدر تعيش مع شخص محبتهوش وتعامله بالطريقة اللي اتعاملتي معاه بيه، حتى بعد ما مـ.ـا.ت محاولتيش تدي فرصة لقلبك إنه يعيش من تاني، حرمتي نفسك من كل حاجة علشان اولادك وبعدتي عن الانسان اللي حبتيه، ودلوقتي بعد كل ده عايزة تدmري الحب اللي بينكم ليه وعشان أيه؟

ابتعدت عنه واتجهت للشرفة تجيبه باكية وبصوتٍ شبه مبحوح: لإن المفروض إن في الوقت اللي المفروض هكون فيه جدة مينفعش أكون فيه أم يا علي، تفتكر منظري هيكون أيه لما الحمل ده يتعرف، هبقى مهزءة وسـ.ـخرية.

اتجه خلفها لمكان وقوفها، وتخلى عن هدوئه هادرًا بانفعالٍ: فريدة هانم إنتِ هنا في لندن مش في مصر، وحتى لو كنا عايشين في مصر فكنت فاكر إنك شخصية قوية وقادرة توجهي الدنيا كلها عشان ابنك، معقول ضعفك وصلك إنك تتخلي عن ابنك وتقــ,تــليه عشان كلام الناس!

هزتها كلمـ.ـا.ته لدرجة جعلتها تشير له برعـ.ـبٍ وهي تهاجم معنى كلمـ.ـا.ته القاسية: أقــ,تــل ابني! لأ، لا يا علي!
وبعدm استيعاب لحجم ما ستفعله قالت: آآ، أنا وأحمد كنا متفقين إننا مش هنجيب أولاد، آآ، أنا سألته تاني من فترة وقالي إنه راضي ومبسوط ومش عايز غيري آآ، عشان كده قولت آآ...

ابتلعت كلمـ.ـا.تها بألــمٍ، لم تستطيع أن تسترسل حديثها بنيتها بالتخلص من الجنين وكأنها استوعبت الآن بمقولة «قــ,تــله»، أخفضت رأسها تبكي بصوتٍ قهر قلب علي، فدنى إليها يجذب رأسها ليضعها على صدره فانهارت باكية بتأثرٍ.

ربت على ظهرها بحنان وقال بعقلانية: عمي اتخلى عن رغبته إنه يكون أب علشانك إنتِ، وممكن يضحى بأي حاجة بس يا فريدة هانم حصل وحملتي منه فعمره ما كان هيقبل إنك تتخلي عن ابنه.

ابتعدت تقابل نظراته بحـ.ـز.نٍ جعل زرقتها غائمة، وعلى استحياء سألته: هتقوله يا علي؟

هز رأسه ينفي ما صيغه عقلها إليها: لا طبعًا مستحيل.

منحته ابتسامة ممتنة وقالت: أنا طول الفترة اللي فاتت دي كنت بحاول أقــ,تــله بس مقدرتش يا علي، أنا مش عايزة أخسر أحمد ولا عايزة أخسركم.

تفهم سبب خــــوفها، وسألها باسترابة: ازاي اقتنعتي انك باحتفاظ بيه هتخسرينا يا أمي؟ تفتكري مين فينا هيقبل يعرضك لخطر زي ده! تفتكري مين فينا هيقبل يشيلك ذنب كبير زي ده؟! إنتِ لو عملتيها مش هتقدري تعيشي غير بعـ.ـذ.اب ضميرك، ده روح يا فريدة هانم وعقوبة قــ,تــلها عند ربنا عظيم!، ربنا سبحانه وتعالى أراد أن يكونلك ابن من عمي فبأي حق عايزة تقــ,تــليه!

وتابع يعاتبها بلطف نبرته الهادئة: طيب عمي من وجهة نظرك ميستحقش إنه يكونله ابن منك؟، أحمد الغرباوي اللي عاش عمره كله وحيد من بعدك ورفض الارتباط علشانك وبالرغم كل ده اول ما جتله فرصة يكون زوج ليكي قبل بأصعب شرط فرضتيه عليه ميستهلش إنك تتنازلي عشانه يا فريدة هانم؟

أخفضت وجهها وببكاء قالت: خلاص يا على من فضلك كفايا!

منحها ابتسامة جذابة وهو يمحي دmـ.ـو.عها قائلًا ببهجة: حوارنا اتقفل ومش هيتفتح تاني، هيتدفن بينا ومفيش مخلوق هيعرف بيه حتى عمي، يلا نرجع القصر نفرح عمي بالخبر ده.

اندهشت من سرعة تقبله للأمر، فوجدته ينحني جاذبًا حقيبتها ويشير لها للخروج، فقالت بحرج: هو ممكن يوسف يقوله؟

أكد لها بجدية تامة: لا طبعًا يوسف مستحيل يعمل كده.

هزت رأسها بخفة وقالت: هو مفيش غيرك الا عرف؟

حك انفه يخفي ضحكته وقال: للأسف عُمران اللي مبلغني.

برقت لوهلةٍ وقالت: أيه!

اتسعت ضحكته رغمًا عنه، وخاصة حينما قالت: هتكسف منه لو كلمني في الموضوع ده، خليه مـ.ـيـ.ـتكلمش معايا فيه يا على لو سمحت، أخوك وقح وهيقعد يتريق عليا وممكن بكلامه أرجع عن قراري وأتخلى عن البيبي!

تمردت ضحكاته وقال يسايرها كفتاته الصغيرة: حاضر مش هخليه يكلمك نهائي.

اتبعته للخارج باطمئنان، حتى صعدت لسيارته فاتجه بها للقصر ومازال يتردد لعقله سؤالًا هامًا
«أين الطاووس الوقح؟! ».

بسيارة عُمران المصفوفة على طرف الطريق، زفر يوسف بمللٍ وقال: يابني فهمني موضوع أيه اللي عايزني فيه ومخليني سايب شغلي وجاي مخصوص لعربيتك! هو مينفعش الكلام في مكان غير هنا؟

أكد له عُمران ومازال منحني يبحث عن شيءٍ مفقود باستمـ.ـا.ته: أيوه هو الحوار اللي عايزك فيه مينفعش الكلام عنه الا هنا، واخرس بقى خليني أركز!

تابعه بدهشة مما يفعله وتساءل: بتعمل أيه تحت الدواسة فهمني!

زفر بعصبية: ما قولتلك اتزفت اصبر مش شايفني مشغول!

تنهد بقلة حيلة وراقب ساعة يده قائلًا: تمام بس انجز ورايا حالة ولادة بعد نص ساعة، أنا أساسًا كنت هكلمك عشان كنت عايزك في حوار مهم كده.

منحه نظرة شرسة وهتاف حاد: هو لسه في مصايب غير اللي بلغتني بيها؟!

زم شفتيه ساخطًا: هو حمل فريدة هانم مصيبة!

أجابه بتلقائية مضحكة: طبعًا!

قال يوسف بجدية تامة: وأيه المصـ يـ بـةبقى في حملها! ستات أكبر منها بكتير وبيحملوا وبيخلفوا عادي جدًا، وبعدين ما شاء الله فريدة هانم مهتمة بنفسها وبجـ.ـسمها جدًا فحملها هيكون سلسل وآ...

ابتلع كلمـ.ـا.ته بصدmة مما وضع على رقبته، ابتلع يوسف ريقه بصعوبة وتساءل بهلعٍ: دي أيه دي يا عُمران؟

وكأن المشهد يعيد نفسه مستبدلًا شخصية جمال بالاخير، فإذا بابتسامته الخبيثة تبرز وفحيحه يلفح وجه يوسف: دي؟ دي مطوة يا دكتور!

لعق شفتيه برعـ.ـب وعدل من نظارته الطبية قائلًا: أيوه ولزمتها أيه يا حبيبي!

شـ.ـدد من قبضته على تلباب قميصه الأبيض هادرًا: اسمعني كويس يا يوسف، لو حد شم خبر بحمل أمي هقطع رقبتك الحلوة دي وهبعتها لدكتورة ليلى كادو!

رمش بعدm استيعاب وسأله بريبة: طب وليه الشر ده كله؟ ثم إنك ليه بتتكلم وكأن فريدة هانم عندها مرض معدي، دي حامل يا حبيبي وده شيء لا يمكن تخبيه ولو نفترض انك نجحت وخبيت الموضوع هتيجي بعد 9 شهور هتقول للناس مين البيبي ده؟

أجابه بملامح جادة للغاية: عادي هقول مايا جابت تؤام.

كبت يوسف ضحكته وصدmه بقوله: ازاي وفريدة هانم سابقة مايا بشهر تقريبًا! أيه نزل يمهد الطريق لاخوه ولا أيه بالظبط!

تهدل ذراعه عن رقبته وعاد لمقعده بملامح واجمة للغاية، ضحك يوسف وهو يراقب ملامحه بتسليةٍ، وتمتم باستنكارٍ: عُمران معقول فقدت عقلك! حبيبي إحنا في لندن مش في مصر عشان تخاف على شكلك! وبعدين فريدة هانم أساسًا اللي يشوفها ميصدقش إنها خلفت قبل كده.

فتح مدته (المطوة) مجددًا وسلطها على رقبته هاتفًا بغـــضــــب: إنت بتعاكس أمي قدامي يالا؟

رفع يديه يجيبه بخــــوف: أبدًا والله بحاول أخليك تستوعب بس، وبعدين فريدة هانم من خلال كلامي معاها حسيت إنها بتمر بحالة نفسية حادة فلو سمعت كلامك الأهبل ده حالتها هتسوء، عشان كده حاول تخليك بعيد عنها وتسيب حوارها لدكتور على هو شخص عاقل ومتفاهم وهيقدر يتعامل معاها.

زوى حاجبيه بغدافيةٍ شـ.ـديدة: حد قالك إني غـ.ـبـ.ـي ومبفهمش! وبعدين هتخاف على أمي أكتر مني! جرى أيه يوسف إنت عقلك لسع منك ولا أيه؟

سقطت نظارته من فرط اهتزاز جسده تباعًا لحركة عُمران المتعصبة، فصاح منفعلًا: لا خايف ولا متزفت، سبني خليني أنزل أشوف شغلي!

عاد لمقعده يعيد سلاحه بتابلو السيارة، فاذا بيوسف يتساءل ساخرًا: لامؤاخذة في السؤال يا بشمهندس، هو إنت شايل مطوة معاك في العربية ليه؟

احتدت رماديته تجاهه، وبوقاحة قال: عشان اللي زيك وزي جمال الغـ.ـبـ.ـي بيضيقوا خلقي بعد عنك، فمينفعش معاهم غير المعاملة دي.

حك لحيته هادرًا بصدmة: يعني انت شاري المطوة للمقربين منك! يا راجـ.ـل وأنا اللي افتكرتك عندك عدوات في الشغل وخايف تتثبت على الطريق!

لكز الدريكسيون بغـــضــــب: وده مين ده اللي يثبت عُمران سالم الغرباوي! مجابتوش أمه على وش الدنيا لسه اللي يعملها.

وتابع بتهديدٍ صريح: اظبط كلامك بدل ما أشرحك هنا عملي يا دكتور الحالات المتعسرة.

عدل من نظارته بغــــرور: هو أنت فاكر إني عندي مشكلة إنك تشرحني(أبسلوتلي. absolutely)، المشكلة عني إنك بتسخدm سكينة مش معقمة!

أغلق عينيه بقوة ولسانه يعد من واحد لعشرةٍ، تـ.ـو.تر يوسف من صمته الغريب فأسرع يبدل حديثهما المتهور: سيبك بقى من هزارك التقيل ده وخليك معايا في اللي عايز أقولهولك.

فتح حدقتيه وبابتسامة مغتاظة قال: ياريت. بس لخص عشان مستعجل!

سحب نفسًا مطولًا ودفعه هادرًا بـ.ـارتباكٍ: بص يا عُمران إنت عارف إني ماليش غير سيف، هو اللي طلعت بيه من الدنيا، أبويا وأمي من طول عمرهم وهما بعاد عننا، كل اللي في دmاغهم الشغل وبس، انا اللي مسؤول عن سيف مسؤولية كاملة لحد ما بقيت بحس إنه ابني مش اخويا الصغير.

مال بجلسته إليه يسأله باهتمام: ليه بتقول الكلام ده يا يوسف؟

استند برأسه على ذراعه المائل بشرفة السيارة: لإني خايف أخسره يا عُمران، جوازه من زينب طول ما الكـ.ـلـ.ـب يمان ده لسه بيحوم حوليها هيخليني قلقان طول الوقت، الانسان ده شراني وأكيد أنا مش هقف وأتفرج عليه وهو بيأذي أخويا!

وتابع بنبرة اوضحت عجزه التام: وفي نفس الوقت مقدرش اقف في وشه وأمنعه جوازه من الانسانه اللي بيحبها خصوصًا إن أنا اللي كنت مصر عليه يرتبط!

رفع عمران زجاج شرفة مقعده، عسى أن يكف الهواء عن العبث بخصلاته، وتحلى بصمته ليجذب انتباه يوسف إليه وعن عدm رضاه بتفكيره المطلق، فازدرد حلقه قائلًا: أنا مش معاك يا يوسف، سيف حبها واختار إنه يكون معاها في الحرب دي، وده لو ثبتلك شيء قالمفروض يكون اثبات بحبه الكبير ليها، كون إنك خايف انه يأذيه لما يتجوزها فمين قالك إنه مكنش هيعملها وهو بعيد عنها! هو خلاص بقى عارف ومتأكد إنهم بيحبوا بعض سواء اتجوزها أو لأ!

واستطرد بصرامة واضحة: وبعدين لا آدهم ساكت ولا حراس عمي ساكتين، بيحاولوا يوصلوا ليه وهيحصل آن شاء الله، ولو فكرت فيها هتلاقي مش من الرجولة نسيب زينب لوحدها في الحرب دي، بالعكس لازم الكـ.ـلـ.ـب ده يشوفنا كلنا حوليها وأولنا سيف، الموقف اللي عمله يوم الجامعة ودفاعه عنها ده هيقلقه وهيخليه يتهز، ولو حصل وهاجمه هيكون على ثقة إن كفته مستحيل هتطب لإن قلب زينب اللي معرفش يكسبه بقى مع سيف وده هيخلي سيف ينتصر عليه بسهولة ده إن حصل وهاجمه لاننا مش هنسمح بده بإذن الله.

اقتنع بحديثه فتنهد بحـ.ـز.ن وقال: إن شاء الله.

وفتح باب السيارة قائلًا: هنزل أشوف شغلي وإنت روح مشوارك ومتنساش بكره تكون عند سيف من النجمة، عريس بقى وعايزك تظبطه باليوم ده.

واستكمل بابتسامة هادئة: انا وليلى ظبطناله حفلة صغيرة كده في شقتنا.

منعه عُمران من الهبوط حينما ضمه إليه، وبكل محبة قال: ألف مبروك، ربنا يفرحك بيه وبأولاده يارب.

ربت على ظهره بقوة وابتسامته تتسع شيئًا فشيء: تسلم يا حبيبي.

وابتعد يسأله بتذكر: بقولك أيه ما تتصل بالست أشرقت تعزمها وأهي فرصة تيجي هي ومدام صبا الحفلة وأهو نجبر جمال يرجع معاها لانه مش هيسيب مامته تروح لوحدها يعني، حتى لو هتروح تجبهم قبل الحفلة.

تنحنح بخشونة وقال: فكرة كويسة، أنا هتصل بيها بس مش هقدر أعدي عليهم أجبهم، ممكن ابعتلهم سواق فريدة هانم يجبهم.

تعجب من رفضه الصريح بالذهاب لاحضارهما، وبدأت شكوكه تدفعه لسماع عُمران حوار جمال معه حينما أخبره سبب طـ.ـلا.قه، ولكنه لا يريد أن يحكم من موقفٍ هكذا عساه مشغولًا بالفعل، فازدرد قائلًا: خلاص تمام. المهم تأكد عليها تجبها وتيجي.

هز رأسه بتأكيدٍ، هبط يوسف من السيارة وغادر عُمران على الفور.

مضت فاطمة برفقة زينب بأحد المولات لشراء بعض الملابس لزفافها الذي تحدد بسرعة البرق، وقد حرصت فاطمة على شراء القفطان الأخضر لشقيقتها لترتديه بالغد.

كانت تشعر بالسعادة بأنها تعاونها من مالها الخاص، حيث كانت تودع المبالغ التي تتحصل عليها من عملها برفقة عُمران بحساب خاص بها قد قام عُمران بفتحه لها لرفضها استلام المال منه.

وفور أن انتهوا تركوا الحرس يحملون الأكياس للسيارة وجلسوا باحد الكافيهات يتناولون الغداء بمفردهما لأول مرة.

فقالت فاطمة وابتسامتها الرقيقة لا تفارقها: صافي كبرتي أ زينب و غادي تتزوجي، انا فرحانة ليك بزاف و لكن في نفس الوقت مقلقة انا مازال ما شبعتش منك.

(كبرتي خلاص يا زينب وهتتجوزي! أنا فرحانه علشانك اوي بس في نفس الوقت زعلانه أنا ملحقتش أشبع منك! ).

رسمت ابتسامة صغيرة على وجهها المجهد من قلة نومها قلقًا من ذلك المريـ.ـض: و انا زعما فين غا نمشي ا فطيمة، هاا انا معاك و حداك.

(وأنا يعني هروح فين يا فاطمة أنا معاكي وجنبك أهو! ).

مالت على الطاولة البيضاوية تمسك يديه التي تفرق بها بتـ.ـو.ترٍ: الخــــوف اللي ف الداخل ديالك مـ.ـا.تقدريش تخبيه عليا مهما حاولتي انك تبيني انك طبيعية،
اتكلمي معايا و متخافيش ماكينش ف هاد الكون اللي يقدر يفهمك قدي.

(الخــــوف اللي جواكي مش هتقدر تخبيه عني لو مهما حاولتي تبيني إنك طبيعية، اتكلمي معايا ومتخافيش محدش في الكون كله هيفهمك أدي. ).

تدفق الدmع من عينيها المحتقنة بالدmـ.ـو.ع، فسددت لها سؤالها المباشر: انتي خايفة من يمان ولا من سيف يا زينب؟

ضمت شفتيها بقوة تكبت شهقاتها الباكية، وبعجزٍ هتفت: ما عرفتش (مش عارفة! ).

سحبت فاطمة مناديلًا ورقيًا، وقدmته لها قائلة والو.جـ.ـع بعتصرها: بلا ما تبكي، واش كاينة شي عروسة كتبكي فخال هكا و عرسها غدا، لو الجواب على سؤالي صعيب فاعتبريني ما سولتش من الاساس.

(بلاش العـ.ـيا.ط ده، في عروسة فرحها بكره تعيط بالشكل ده! لو اجابة سؤالي صعبة يبقى اعتبريني مسألتش من الاساس. ).

اعترضت حديثها قائلة: ماشي صعيب و لا حاجة، انا الخــــوف اللي اتبنى داخلي من يمان و فعايله، خلا عندي هواجس مخيفة، أفطيمة.

(مش صعب ولا حاجة، بس أنا الخــــوف اللي اتبنى جوايا من يمان وأفعاله خلاني عندي هواجس مخيفة يا فاطمة. ).

واستطردت تشرح لها على استحياءٍ: ما غنقدرش نكون ليه مرا!
انا بمجرد ما كيقرب مني في بلاصته حدايا كنمـ.ـو.ت بالخــــوف من يمان!

(مش هقدر أكونله زوجة! أنا بمجرد ما بيقرب بمكان جلوسه مني بترعـ.ـب من يمان! ).

أدmعت أعين فاطمة تأثرًا بها، فكيف لا تشعر بما تعانيه وقد ذاقت هي أضعاف ما يحيط شقيقتها، غمست أصابعها بين أصابع الاخرى، وقالت بقوة تحاول مدها لها رغم أنها ضعيفة، هاشة: كتبغيه أزينب؟ (بتحبيه يا زينب؟ ).

رمشت بـ.ـارتباكٍ ملموس، فابتلعت ريقها الذي زارته رطوبة عجيبة فور سماعها لسؤال فاطمة: ماعرفتش، ولكن انا كنرتاح فاش كنشوفه، و كنحس انني ما بغياش يمشي او يبعد عليا،
كنفرح بزاف فاش كنشوفه في الجامعة، النهار اللي مكنشوفوش فيه كنحس انني مقلقة و مزيرة،
حتى كلامه و اصراره أنه يتزوجني بالرغم من أنه عارف انه غيعرض حياته للخطر كيخليني نحس بانه هادا هو الراجـ.ـل اللي نقدر ننعس ف داره و انا مطمنة و مرتاحة.

(مش عارفة! بس انا برتاح لما بشوفه، وبحس إني مش عايزاه يمشي أو يبعد، بفرح أوي لما بشوفه بالجامعة، اليوم اللي مبشفهوش بحس إني مخـ.ـنـ.ـوقة ومتصايقة، حتى كلامه واصراره على إنه يتجوزني بالرغم من إنه عارف إنه بيعرض حياته للخطر بيخليني أحس إن ده الراجـ.ـل اللي هقدر أنام في بيته وأنا مطمنة ومرتاحة. ).

اتسعت ابتسامة فاطمة، ورددت باستنكارٍ: ايلا ما كانش هدا هو الحب، ايوا شنو يكون الحب من وجهة نظرك أ الدكتورة؟!

(لو ده مش حب أمال أيه الحب من وجهة نظرك يا دكتورة؟! ).

أشرق وجهها بابتسامة تستحي من أن يراها أو يستمع لحديثهما أحدًا، ومن ثم ما تلاشت وبتـ.ـو.ترٍ باحت: و لكن كلشي هادشي مسببلي خــــوف كبير أ فطيمة.

(بس كل ده مسببلي خــــوف كبير يا فاطمة. ).

سألتها باستغراب: خــــوف من أنك بغيتيه؟!

(خــــوف من إنك حبتيه؟! ).

رفرفت اهدابها المبتلة بدmـ.ـو.عها وقالت: خــــوف أنه يتآذى، ماغنقدرش نستحمل توقع ليه شي حاجة بسبابي، آآ، انا كنبغيه!

(خــــوف من إنه يتأذي، مش هستحمل إنه يحصله حاجة بسببي، آآ، أنا بحبه! ).

زفرت الهواء الساخن من انفها، وكأنها تحرر عنها التـ.ـو.تر الذي يجتاحها على شقيقتها، وقالت بإيمانٍ: زينب أحبيبة ديالي كيفاش ايمانك بربي سبحانه و تعالى يوصلك لهاد النقطة،
ربي سبحانه و تعالى قال في كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم
«قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» صدق الله العظيم.

يعني لو قدر الله. و ربي اراد انه يمسه بسوء فهادشي مقدر و مكتوب،
و اجي علاش انتي تحطي فراسك هاد الافكار الخايبة، حبيبة ديالي انتي عروسة فرحي و خلي كل هادشي على جنب، ماعرفتيش ربي خازن ليك الخير فين.

(حبيبتي زينب إزاي ايمانك بربنا سبحانه وتعالى يوصلك للنقطة دي، ربنا سبحانه وتعالى قال في كتابه الكريم بسم الله الرحمن الرحيم
«قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ» صدق الله العظيم.

يعني لو لقدر الله ربنا أراد أن يمسه بسوء فهو مقدر ومكتوب، ثم إنك ليه تحطي في رأسك الأفكار البشعة دي، حبيبتي انتي عروسة افرحي وسيبي كل ده على جنب، متعلميش ربنا شايلك الخير فين؟ ).

هزت رأسها وابتسامتها اتسعت بحبورٍ شـ.ـديد: ونعم بالله.

إتجه جمال لشركته بعد أن مر على الموقع، يتأكد بنفسه أن كل الامور تجرى على ما يرام، وخاصة أن عُمران متغيب منذ الصباح.

احتل مقعد مكتبه الصغير يراجع ما وُضعه السكرتير من أمامه، فإذا بباب مكتبه يُفتح بهمجيةٍ شـ.ـديدة ويدلف ذلك المستفز بكل عنجهيةٍ، كأنه يقتحم مكانًا يخصه.

استقام بوقفته يرمقه بنظراتٍ ملئها الضيق والتذمر لطريقته البربرية، ولكنه استثنى غـــضــــبه لأجل عُمران، فاجلى صوته الخشن: نعمان باشا نورت.

وأشار على المقعد وللسكرتير الذي لحق به بالمغادرة: اتفضل.

اتجه إليه بخطواتٍ متهدجة، مغــــرورة، يقف قبالته برأسٍ مرفوع بعنجهية مريـ.ـضة، وبحقدٍ فاحت رائحته قال: أنا مش جاي عشان أقعد، أنا جاي أقولك كلمتين لو ذكي هتعمل بيهم وتنفد من غـــضــــبي، ولو كنت غـ.ـبـ.ـي وخبيث زي ما انا متوقعك هتكمل في مشوارك بس ساعتها مش هتشوف غير اللي ميعجبكش وهتعتبرها أسوء خاتمة ليك هنا في لندن قبل ما تترحل على مصر.

قبض قبضته بعنفٍ، وبحدة صاح بوجهه: أنت جايلي لحد مكتبي عشان تهددني!

رفع اصبعه أمام وجهه يصمته ويهدر بتحذيرٍ: اسمع يالا انا مش أهبل ولا بريالة زي ابن فريدة، أنا فاهمك وفاهمك كويس أوي، وعارف إنك بتلف وبتدور حوليه عشان توصل للي إنت عايزه وبتخطط ليه من البداية.

وتابع بكرهٍ شـ.ـديد: وأنا عشان جدع هسيبك تأكل معلقتين بس تهف الطبق كله هخليك تطرشه.

ربع يديه أمام صدره وقال بجمود تام: إنت مقدرتش على عُمران فقولت تجرب معايا ولا أيه؟ أيه قلة الحيلة دي!

وقبل أن يتحدث نعمان اوقفه صوت جمال الجهوري: اسمعني إنت بقى، مفيش قوة على وجه الارض هتقدر تفرق بيني انا وعُمران، ولو فاكر إن الكلمتين دول بما فيهم تهديدك الوضيع هزوا شعرة واحدة فيا تبقى فعلًا أهبل وبريالة زي ما قولت.

واستطرد بشموخٍ وكـبـــــريـاء: انا مش هقف وأدافع عن نفسي ولا عن علاقتي بعمران لإني واثق ومتأكد إنك عارف إن كل اللي بتقوله ده افترى وكدب أو زي ما عقلك مصورلك.

وعاد لمقعده وهو يقول بثبات: تقدر تمشي لإن كلامك مالوش لزمة. ولو في حاجة في دmاغك عايز تعملها اعملها بدون رغي هعمل وهسوي لإن اللي بيقول مبيعملش يا نعمان يا غرباوي!

احترق بلهيبه من فرط الادخنة الصاعدة من داخله، فركل الباب وغادر من مكتبه غاضبًا.

وقبل أن ينعطف خارج شركته وقف أمام مكتب السكرتير الخاص به، يخرج دفتر شيكاته ويتكئ على سطحه يدونه بمبلغ 500ألف دولار أمريكي، وضعه بين لائحة الشاب الذي يوزع نظراته الجاحظة بينه وبين الشيك بصدmة، بينما يردد نعمان بشرٍ أعج بداية مخططه الوضيع: ستفعل ما سأطلبه منك مقابل هذا المبلغ، ما رأيك؟

ركضت بسعادة فور أن رأته يدخل من باب الشقة، قائلة بحماسٍ: شيخ مهران، سدن حفظ ثلاثة صفحة.

ابتسم الشيخ مبديًا فخره، وردد بسعادة: ما شاء الله تبـ.ـارك الله عليكِ يا بـ.ـنتي.

وسألها بحب: مين اللي حفظك؟

قالت وهي تنتظر سماع الترجمة عبر سماعتها: خديجا وحاج ركيا قول لسدن تروح لآيوب يسمعني وأنا قول اللي حفظه.

ضحك بصوتٍ اطرب قلب الحاجة رقية التي تعد السفرة بالطعام الشهي، فتركت ما بيدها ووقفت تراقبه بابتسامة واسعة، بينما قال هو: طيب يا بـ.ـنتي، يونس نزل المحلات وآيوب فوق اطلعي خليه يسمعلك اللي حفظتيه وانزلي على طول.

واشار بيده المحاطة بسبحته البيضاء: واوعي تتأخري يا سدن.

هزت رأسها بسعادة، تختبر لاول مرة حنان أبًا مثله، وحب الأم المتمثل بالحاجة رقية، حتى خديجة رغم مرضها الشـ.ـديد الا انها لم تتركها ومضت ليلها تحفظها آيات السور القصيرة بكل محبة.

صعدت سدن للأعلى، تطرق باب شقة يونس، فإذا بآيوب يفتح الباب وما أن رآها حتى ردد بابتسامة جذابة: سدن!

أخفضت عينيها باستحياء غريب يحيطها، وكأنها اكتسبت صفات لم تكن تتحلى بها يومًا!

رفعت المصحف الشريف إليه وقالت: أنا حفظ تلاتة صفحة، وعاوز إنت تسمعني وأنا قولهم.

اتسعت ابتسامته فخرًا وسعادة بها، وأشار لها بمحبة كبيرة: أكيد طبعًا، تعالي.

إتبعته للدخل حتى توجه بها بركنٍ خصصه يونس للصلاة، يوجد به ثلاث سجادات للصلاة، ومكتبه بها المصاحف والكتب الدينية.

تربع آيوب أرضًا ومن أمامه سدن بإسدالها الأبيض الملائكي، قدmت له المصحف، فحمله واغلقه ووضعه جانبًا.

زوت حاجبيها بدهشةٍ وتساءلت: قفلتي القرآن ليه؟ مش عاوز اسمع سدن وهو قول الايات؟

احمر وجهه من فرط منعه للضحك، وتنحنح قائلًا: طبعًا عايز أسمع سدن وجمال صوت سدن في القرآن العمر كله، متقلقيش أنا حافظ القرآن كله فمش محتاج أبص فيه عشان تسمعي الآيات القصيرة دي.

وأشار له بحنان: يلا إبدأي.

هزت رأسها في طاعة ومضت ترتل القرآن بصوتٍ عـ.ـذ.ب، لمس قلبه كإيقاع تأثير صوت العفاسي مفضله عليه، واوقفها فور نطقها لكلمة بنطق غير صحيح، فضم كفه يردد بقراءته الصحيحة للأية التي نطقتها بطريقة خاطئة: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا.
صدق الله العظيم.

مالت مبتسمة على كفها تهتف بإعجاب شـ.ـديد: صوتك جميلة أوي آيوب.

ضحك رغمًا عنه وقال: جميلة! يا ستي إنتِ اللي زي القمر بس بلاش التاء المؤنثة دي عشان خاطر جمال صوتي لو حباه!

رددت بعدm فهم: تاء تأثية!

توالت ضحكاته تباعًا، وقال بصعوبة لتنسيق جملته الانجليزية: لا عليكِ، مع الوقت ستكتسبين مهارة الحديث بالعربية. دعك من هذا كله، أنا فخورًا بكِ سدن، رغبتك بتعلم الدين وحفظ القرآن الكريم بهذة السرعة لهو شيئًا يدعو للفخر.

منحته ابتسامة عـ.ـذ.باء وقالت: رلما لإنني وبعد زمنًا طويلًا وجدت نفسي التائهة، كنت غير راضية على ما كنت عليه، والآن يتسع صدري واجدني شغوفة لسماع كل شيء عن ديني.

الآن نسبته دينها، لم تقل دينه وهذا ما أسعده بحق، فتعمق بالتطلع إليها وهي تستكمل: أتعلم أنا لا أطيق انتظار الشيخ مهران لحين عودته من الخارج، أذهب لخديجة تحدثني عن قصص النبي عليه أفضل الصلاة والسلام، وتحادثني الحاجة ركيا عن فرائضي وعن الصيام فناويت أن اصوم معها غدًا يوم الاثنين فلقد اخبرتني أن اعقد النية للصيام، وأحيانًا استدرج فارس بالحديث ليخبرني عن قصص الصحابة وما تعلمه، وها أنت تساعدني بحفظ القرآن بتلاوته الصحيحة، فماذا أريد بعد!

وأخبرته بحماسٍ بينما هو شاردًا بها: هل أخبرتك أن الشيخ مهران علمني أن أدعو لأخي بكل صلاة لي، وكم أنا مسرورة أن دعواتي تصل له، عساه يعلم بأنني قد تركت تلك الديانة وأصبحت مسلمة، عفيفة الآن.

رفع كفه يضم جانب وجهها برقةٍ متناهية، وقال: وهل أخبرتك أنا بأنني لطالما دعوت الله أن يرزقني فتاة صالحة، أئتمنها زوجة لي وأمًا لأولادي، واستبعدت أن أكون وجدتها حتى تلك اللحظة التي تجمعنا الآن!

ودنى إليها يطبع قبلة أعلى حجابها هاتفًا بحبٍ وعاطفة تسللت لمسمعها: فاللهم إجعلني لكِ زوجًا صالحًا كما كان سيدنا محمد (صل الله عليه وسلم) زوجًا صالحًا لزوجته خديجة رضى الله عنها.

سرت بجسدها قشعريرة لذيذة، فخشيت أن تكـ.ـسر تعليمـ.ـا.ت شيخها الفاضل إليها، فاذا بها تبتعد عنه، وجذبت مصحفها الوردي ونهضت تردد دون ان تطلع إليه خلفها: لقد أخبرني شيخي ألا أتأخر، أراك لاحقًا.

وهرولت من أمامه راكضة للأسفل، تاركة الابتسامة والعشق يتلألأ داخل مُقلتي ابن الشيخ مهران!

كان بغرفة مكتبه حينما ولجت هي إليه، حمرة بشرتها، عينيها المتورمة، أنفها الأحمر، كل ملامحها شكت له بكاء وحـ.ـز.ن مرير.

نهض عن مقعده متجهًا إليها، يلتقط يدها المستندة على ذراع علي، متسائلًا بقلقٍ: في أيه؟ مالها؟!

منحه على ابتسامة صغيرة: اطمن معندهاش حاجة تخض.

يعاونها الآن على الجلوس ومن ثم انتصب قبالة على يردد بضيق من اسلوب حديثه: يعني أيه حاجة تخض! هي عندها أيه أصلًا؟!

ضمه على والاخر مازال ذراعيه مفرود لا يبادله ضمته، يراه مريبًا وقلقه يتضاعف مع صمتهما بينما الاخر يضمه!

ابتعد عنه على وقال بابتسامة واسعة: مبسوط عشانك. عن إذنكم.

قالها ورحل بكل بساطة تاركًا أحمد يستشيط منه غـــضــــبًا، فاستدار واتجه لاريكة فريدة، جلس جوارها يسألها بلهفة وخــــوف: في أيه يا فريدة؟ انتِ تعبانه؟ وليه على بيتكلم بالبرود ده!

تقابلت عينيها الزرقاء مع رماديته بنظرة ضمت بها المُقل بعضها البعض، فأمسكت يدها تشـ.ـدد عليها مما ضاعف قلقه و.جـ.ـعله يبتلع بتـ.ـو.ترٍ، وبصعوبة ردد: فريدة سكوتك قلقني، اتكلمي فيه أيه؟

بوضوحٍ غريب قالت: أنا حامل يا أحمد.

استمر في البحلقة إليها، وكأنه ينتظر سماع ما بها، فقال بما برمج عقله به: متقلقيش هتبقي كويسة، هنروح لدكتور كويس وآآ...

توقف عما يقول وعاد يتطلع له متسائلًا بدهشة: هو إنتِ قولتي ايه؟

ضحكت وأزاحت دmـ.ـو.عها المعاكسة لسعادتها بتأثيره بما قالت، ورددت بصوتٍ مرتعش: أنا حامل!

رفرف باهدابه القصيرة وقال بتخمينٍ: إنتِ بتهزري صح!

أحجمت ابتسامتها وقالت بحزمٍ: أمتى فريدة هانم الغرباوي هزرت مع حد عشان تهزر معاك يا بشمهندس!

أخفض عينيه لبطنها وكأنه يمتلك ميكروسكوب سحري سيخترق لحمها ليلقي نظرة يتأكد بها مما تخبره به.

ضحكت بصوتٍ مسموع وقالت: مهو مش معقول هيطلعلي بطن في التالت يا أحمد!

امسك كفيها وترجاها بصوتٍ مهزوز: انتِ بتتكلمي بجد يا فريدة، يعني أنا هيكونلي ابن منك! معقول بعد كل ده هشيل حتة مني ومنك، بالله عليكِ اتكلمي، اوعي تكوني بتهزري يا فريدة.

وتابع بحـ.ـز.ن احتل قسمـ.ـا.ت وجهه الوسيم: أنا آه محطتش في أحلامي إني أكون أب في يوم من الايام لإني كنت عارف إنه شيء مستحيل فأرجوكِ بلاش تعشميني بالامنية دي!

انهمرت دmـ.ـو.عها حـ.ـز.نًا عليه وقالت ببكاءٍ: يمكن انا كنت أنانية لما شرطت عليك الشرط ده، بس الحمد لله ربنا حققلك اللي بتتمناه.

خـ.ـطـ.ـفها بين ذراعه وقال باكيًا: ألف حمد وشكر ليك يا رب، أنا مش مصدق اللي بسمعه ده.

وفجأة ابعدها عنه يطالعها بتـ.ـو.ترٍ وخــــوف، فابتلعت ريقها بقلقٍ من جموده الغريب هذا، فوجدته يقول بأنفاسٍ مسلوبة: إنتِ من البداية مكنتيش عايزة ده يحصل، وأنا ممنعتكيش لما قولتي مش هينفع يكون بينا أولاد بس أهو حصل وربنا أراد أنك تخلفي مني فأرجوكِ حافظي عليه يا فريدة، أرجوكي أنا عايزه ومحتاجله أوي.

غُص قلبها، ماذا إن علم بما كانت ستفعله، ما لها يغادرها الهواء ويتحجر ريقها، ازدردته وقالت: أيه اللي بتقوله ده يا أحمد، اوعدك إني مش هكون أنانية مرة تانية، اطمن يا أحمد هحافظ على البيبي ده وإن شاء الله يتولد وتشيله وتفرح بيه.

أضيء وجهه من فرط سعادته، فعاد يضمها وهو يهمس بفرحة: أنا بحبك اوي يا فريدة، بتمنى ربنا يكرمنا ببنوتة تورث منك جمال عيونك وملامحك.

ضحكت وقالت بدلال: ولما تورث جمالي هنعيش في سلام ازاي يا بشمهندس! أنا كده مش هبطل أتقـ.ـا.تل معاها عليك!

شـ.ـدد من ضمها وقال بعشق: هتتقـ.ـا.تلي عليا وأنا ملكك يا فيري!

تشبثت بظهرها بقوة وبداخلها امتنان أن الطبيب الذي اختارت للذهاب إليه كان يوسف، الذي امهلها الوقت الكافي للتفكير فعادت نادmة، ومن بعده على الذي استكمل باقي الطريق.

وقف بسيارته قريبًا من المبنى، يراقب ساعته ببسمة انتشاء، صوت صراخها واستنجدها يزيده فرحة، خمسة عشر دقيقة وجدها حد كافي لتهذيبها، ففتح نافذة سيارته وأشار لاحد رجـ.ـاله، فهز رأسه ومال للسيارة التي تعج بالحرس يشير لهم نفس الاشارة الصامتة، فاندفع الرجـ.ـال للاعلى.

عشرة دقائق أخرى حتى تمكنوا من فض الاشتباك العالق بالطابق العاشر من المبنى، وإذا به يرى خمسة من النساء يغادرن برفقة حراسه بعدmا تمكنوا من ارغماهن على الهبوط من المبنى وترك تلك الحقيرة التي تلقت درسًا على ايدهن لن ينسى.

هبط عُمران من سيارته، واتجه للأعلى بخطواته الواثقة، توجه للشقة التي تقطن بها، فوجدها ملقاة أرضًا تنزف بغزارة وقد استحقت ما حدث لها.

تمكنت برؤيتها المشوشة من رؤية وجهه، فهمست بشحوبٍ: عُمران! ساعدني، هاتف الاسعاف عُمران.

مال إليها وقدmه يستند على المقعد: ولماذا سأفعلها؟ لقد استحقيتِ ذلك آلكس.

جحظت عينيها النازفة بصدmة، وتساءلت: أنت من فعلت ذلك؟

انزوى حاجبيه راسمًا الجزن، وبسخرية قال: آوه عزيزتي، لا أعلم أنهن متوحشات لتلك الدرجة.

وبضحكة خبيثة قال: ظننت بأنني سأجدك مـ.ـيـ.ـتة فور صعودي، ولكن هؤلاء الحمقاوات فشلوا بفعلها.

وأخرج سلاحًا من جيب بنطاله ووضعه نصب عينيها قائلًا بابتسامته المخيفة: ولكن لا تقلقي سأفعلها أنا.

ارتعبت وازداد رعـ.ـبها أضعافًا مضاعفة، فزحفت للخلف وهي تردد بذعرٍ: ماذا تفعل؟!

قال وهو يلهو بسلاحه: كما ترين سأقــ,تــلكِ عزيزتي، أحاول أن أشفق على تلك الأرض المسكينة التي تتلوث من قذارة قدmيكِ.

واصلت زحفها وتوسلت له: لا تفعل عُمران، أرجوك إتركني.

وتابعت بتلعثم ورعـ.ـب: أعدك أنني لن أضايقك مجددًا.

انحصرت بالحائط من خلفها، فسحب مقعدًا خشبيًا وجلس قبالتها، واضعًا ساقًا فوق الاخرى: مجبرة على فعلها عزيزتي لإنكِ ستتركين هذا العالم وللابد.

ومال يستند على قدmيه، يقابلها بنظرة ارعـ.ـبتها: ماذا كنتِ تنتظرين مني فعله وأنت تقفين بمتتصف منزلي تهدديني! والابشع من ذلك لسانك القذر الذي تردد بالسوء عن زوجتي!

وتابع باستحقار: ولأخبرك بأنني حينما طلبت من أحد رجـ.ـالي البحث عنكِ تبين لي أنني كنت أحمقًا لأقع بشباك امرأة ساقطة مثلك، قامت باغواء الرجـ.ـال وكسب أموالهم ثم هـ.ـر.بت من ولاية لاخرى بعد أن أطاحت بحياتهم!

ولكن حظك العسير أسقطك مع رجلًا لفظكِ أسفل قدmيه، حتى بات رؤيتك مقززًا كرؤية المسلم للحم الخنزير!

سحب الزناد وهو يصـ.ـر.خ بها: وبعد ان انتقمت النساء منكِ حان دوري الآن.

زحفت إليه تتعلق بقدmه وهي تردد ببكاء: ارحمني عُمران، اصفح عني أعدك بأنك لن ترى وجههي مجددًا، أرجوك لا تفعل.

ركلها بعيدًا عنه وبصق أرضًا هاتفًا: لقد انتزع وضوئي أيتها اللعينة.

رفع يده لاحد رجـ.ـاله يناوله السلاح وهو يقول بتشـ.ـديدٍ: حسنًا سامنحكِ فرصة إن لم تستغليها أعدك بإن لا أحدًا سيملك الحق ليمنحك الفرص لجثتك.

اعتدلت بجلستها ارضًا تتابعه بلهفة، فإذا به يخطو ذهابًا وإيابًا متعمدًا اللعب على أعصابها، حتى قال: منحتيني يومًا واحدًا للتفكير واستغليته أنا لتدmيرك، والآن سأمنحكِ ساعة واحدة لترك لندن وانجلترا بأكملها، وإن لم تفعلي فلكِ مني ما لا يحمد.

وباصبعه أشار بوعيد أرهبها: وإن تجرأتي وفعلتي شيئًا حقيرًا يمس زوجتي حتى وإن كان نسمة هواء ساخنة لامست طرف قدmيها، أقسم بالله بأنكِ وإن اختبأتي في أخر بقاع الأرض سأجدك وحينها لن يمنعني أحدٌ عن نحر عنقك.

وأشار لمن يقف خلفه: احرص أن تغادر أمام عينيك.

قالها وارتدى نظارته القاتمة، ثم غادر من أمامها بعد أن ألقنها درسًا لن تنساه وإن عاشت فوق عمرها عمرًا.

اصابتها شـ.ـديدة و.جـ.ـعلتها طريحة الفراش، ولكنها فور سماعها بما قيل حتى ردت الروح فيها، وتجهزت مستندة على الحاجة رقية لتهبط برفقتها لسيارة آدهم حيث كان يونس بانتظارهما.

ركض فارس إليه فالتقطه بين ذراعيه يقبله بفرحةٍ، بينما عينيه متعلقة بها ويلاحظ فرحتها رغم تعابير الألــم المجتازة لملامحها المتألــمة لفرط حركتها.

أخبرها يونس ان تظل بالفراش حتى تتماثل الشفاء وبإمكانه الحديث مع آدهم بأن تذهب بوقتٍ لاحق، ولكنها اعترضت وأرادت الخلاص من عصمة ذلك المخنث القذر.

وصلت السيارة للسجون في سرية تامة، وبامتياز مكانة عمر الرشيدي، آدهم تمت الأمور بكل سلاسة، وها هو آدهم يوفي بوعده ليونس مرتين، مرة حينما آرسل له مقطعًا على الواتساب كهدية حدثه عنها ففتحه ليجده مقطع تعذيبي لمعتز، والآن حينما تمكن من ادخاله برفقة خديجة رغم عدm السماح للحاجة رقية وللصغير بالدخول، أراد أن يريه في موضع ذل كان قد تسبب له بوضعه به سابقًا.

رسالة حملت دائرتها بأن ما زرعته يومًا ستحصده يومًا أخر، وها هو يجلس منكس الرأس، ذليلًا بوجود يونس عدوه، الذي يشاهده يتنازل عن خديجة حقه هو.

يقسم بأنه لم يشمت به، بل حـ.ـز.ن لأجله ولكن ما بيده؟ هو من أضرم النيران وقد اشتعلت وابتلعته بجوفها!، كل ما أسعده بتلك اللحظة سماعه لكلمته التي أثلجت صدره وشُفيت جروحها أنتِ طالق، كانت كالبلسم الشافي لكل الندوب والنتوءات داخله.

تهللت أسارير خديجة وهي توقع على الأوراق، فاستدارت بعينيها ليونس تنظر له بنظرة سعادة، تخبره بأنها تحررت وباتت امرأة حرة، سبحان من جعلها سابقًا تتمنى أن لا تنتهي فترة عدتها وفترة وضعها لطفلها حتى لا تزج بسـ.ـجـ.ـن معتز اللعين، والآن تتمنى أن تنقضي الثلاثة أشهر بسرعة الريح لتستكين بين ذراعي محبوبها!

وها قد منحه آدهم فرصة ثالثة يعجز عن شكره بها، حينما أرغم أسفًا أن يساندها للخارج، حيث مكان رقية، فلم يكن سواه جوارها والا لن يسمح لاحد العساكر ولا لادهم ان يساعد من كانت وستصبح زوجته!

هنعمل أيه يا ماما أشرقت، هنروح؟

تساءلت صبا بحيرة بعدmا استمعت لمكالمة حمـ.ـا.تها مع عُمران، فتنهدت الاخيرة قائلة: والله يا بـ.ـنتي ما أنا عارفة! بس مدام عُمران اللي عزمنا مقدرش أكسفه، هو قال إنه هيبعتلنا سواق بكره فنتوكل على الله ونروح مدام جمال لا بيرد على تليفونه ولا عاملي اي اعتبـ.ـار.

أخفضت وجهها تخفي دmـ.ـو.عها، فربتت الاخيرة على ظهرها بحنان: معلشي يا حبيبتي، بكره يعقل ويعرف غلطه، ومؤكد هيرجع معانا بكره على الشقة باذن الله لإني هسافر الفجر اكيد مش هيسبني كده.

هزت رأسها وهي تردد ببحة صوتها الخافت: آن شاء الله.

رددت بحبور وابتسامة واسعة: آن شاء الله يا حبيبتي.

وتطلعت لبطنها المنتفخ بعدmا باتت على مشارف الشهر الاخير من الحمل: ربنا يقومك بالسلامة ويجعله ابن بـ.ـار بيكي يا رررب.

ربتت على بطنها بحنان وابتسامة ملأتها العاطفة: اللهم آمين يا رب.

«السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله».

انطلق صوت الشيخ مهران بالميكرفون القريب منه ينهي صلاة المغرب، ومن خلفه المصلين.

خرج الرجـ.ـال من المسجد وبقى الشيخ محله، يسبح على مسبحته ويتكئ للأمام بخشوعٍ تام، وإذا به يهم بالنهوض للعودة لمنزله، فوجد يدًا قوية تسانده حتى وقف.

رفع عينيه يشكر من قدm له المساعدة: جزاك الله خيرًا.

اتسعت ابتسامته فرحة وقال: آدهم! إزيك يابني عامل أيه؟

ارتسمت ابتسامة بشوشة على وجهه وهو يجيبه: أنا بخير الحمد لله يا شيخنا.

وبتـ.ـو.تر قُرأ بوضوح قال: أنا كنت جاي لحضرتك عايزك في موضوع مهم وحرج، لما اتقفلت في وشي ملقتش غير حضرتك أجيله!

انتبه له الشيخ باهتمامٍ، وسحبه للاريكة الموضوعه بالخلف لمن لا يقوى على الصلاة واقفًا، متسائلًا بتركيزٍ تام: خير يابني؟
تطلعت لزوجها الذي يغفو بنظراتٍ عاشقة، يدها تمر ببطءٍ على خصلات شعره الفحمي، تفكر كيف كان سيكون رد فعله إن علم بالأمر؟

ربما أراد الله لها الستر عن جريمةٍ مشنة مثل تلك التي كانت سترتكبها، نهضت فريدة عن الفراش، تجذب مئزرها الأسود الحريري، ترتديه فوق قميصها الطويل وهي تخرج لشرفتها.
أحاطت السور بيدها وعينيها مغلقة بقوة، تستمع بنسمـ.ـا.ت الهواء البـ.ـاردة قبل بزوغ الفجر، فإذا بهاتفها يصدح بوصول رسالة لها.

عادت للغرفة تبحث عنه والفضول يداعبها حول كناية من يراسلها بوقتٍ مثل هذا، فاتشحت ابتسامة رقيقة على ثغرها فور رؤية إسم البشمهندس عُمران الغرباوي كما يطـ.ـلق إسمه على جمسع حسابات التواصل الإجتماعي، والذي يحظى على إعجاب الملايين.
فتحت رسالته فوجدته يدون لها
«أيه اللي مسهر، فريدة هانم لحد دلوقتي؟ هزعل لو كان المنافس الجديد اللي هيشرفنا هو السبب! ».

تعجبت من علمه باستيقاظها، فاذا برسالة أخرى تجيبها
«مينفعش تخرجي باللبس الخفيف في الجو ده، هتتعبي إنتِ والبيبي! »
عادت للشرفة تبحث بالحديقة الواسعة، محددة المكان المعتاد له، فوجدته يلوح لها وهو يجلس أرضًا على سجادة الصلاة خاصته، كما اعتاد أن يقيم الليل حتى آذان الفجر.

جذبت مئزر أخر من الصوف وهبطت إليه، بالرغم من ارتباكها من مواجهته ولكنها تعلم بأنها آتية لا محالة، فلقد سبق لها مواجهة علي، وابـ.ـنتها وزوجات أبنائها وللعجب بأن الجميع كان سعيدًا بخبر حملها، الا أن داخلها يتزعزع قلقًا من ردة فعل عُمران.
استمدت قوة للمواجهة وخرجت من الباب الزجاجي للردهة السفلية، متخذة طريقها إليه.

ظنها عادت للنوم فحمل مصحفه وتابع قراءته بصوته الجميل، فإذا برائحتها تداعب أنفه، فصدق واستدار لها مبتسمًا: فريدة هانم نزلت ليا بنفسها!
ربعت يديها أمام صدرها تطالعه بتعالٍ: اسمع يا ولد إنت، أوعى تساهلي معاك يخليك تتخطى حدودك معايا، متنساش انك ابني أنا، مش العكس!

سيطر على ضحكاته وهو يلمس ارتباكها وتـ.ـو.ترها الملحوظ منه، فنهض يلملم سجادته قائلًا بثباتٍ يطمس سخريته من خلفه: مش ناسي والله، وعلى يدك اتحيلت عليكي أناديكي ماما أو ياما مش راضية غير بفريدة هانم، عايزة تحافظي على سنك مع جـ.ـسمك ولياقتك نعملك أيه بقى!
نجح باثارة أعصابها وسحبها بعيدًا عما يسبب لها التـ.ـو.تر: أنا حرة ومش مضطرة أبررلك شيء، حتى البيبي ده بردو أنا حرة بالاحتفاظ بيه ومش هنزله!

تجمدت رماديته عليها، وبشيء من الدهشة قال: وهو مين اللي طلب منك تروحي ليوسف وتطلبي منه ينزلك الجنين؟!
وتابع ببعض الحدة: وليه بتتكلمي بالطريقة اللي مدياني الاحساس إنك ارتكبتي غلطة وبتحاولي تغطي عليها بكلامك وعصبيتك دي!

ابتلعت ريقها بـ.ـارتباكٍ ومع ذلك قالت: لإني عارفة إنك بتهتم بصورتك وبرستيجك أكتر شيء، ومتأكدة إنك آ...
رفض سماح ما قالت وبالرغم من أنه يومًا لم يكن فظًا بحق والدته ليقاطعها بالحديث ولكنه لا يرغب في سماع ما يؤذيه فقال: وليه شايفني بالصورة دي! حضرتك متخيلة إني ممكن أعرضك لخطر وذنب كبير زي ده عشان صورتي وبرستيجي!

واسترسل وهو يشير على ذاته: مش أنا اللي يفضل برستيجه وشكله على حياة أمه يا فريدة هانم، أنا لما يوسف كلمني فضلت ملطوع بره ساعة ومش قادر أدخل عشان معرضكيش لموقف محرج.
مكنتش عارف حتى إذا كان ينفع اكلم على ولا لأ، ولما شافني وعرف بالموضوع ده، فضلت إنه يدخلك لوحده وانسحبت عشان متحسيش بالحرج مننا، ولاني عارف إنه أكتر شخص هيقدر يهديكي ويرجعك عن قرارك بالتخلي عن البيبي.

شعرت بأنها قست بحديثها عليه، ربما من شـ.ـدة خــــوفها أن يحرجها باسلوبه الجريء.
حمل عُمران مصحفه، هاتفه، سماعته، وباقي أغراضه الخاصة بعد ان حسم أن يؤدي صلاة الفجر بجناحه الخاص، فإذا به تلحقه وتناديه بحدة: من أمته بتسبني وتمشي من غير ما أخلص كلامي!

توقفت قدmيه عن المضي واستدار لها بأغراضه يمنحها نظرة شملت كل جـ.ـر.حٍ أخفاه داخله، واستحضر صوته المذبوح: من وقت ما اكتشفتي حقيقية جوزك البشعة اللي بتحاولي تنسبيها ليا لمجرد اني شبهه يا فريدة هانم!
اختذلت قدmيها من شـ.ـدة صدmتها بانكشاف أمرها له، وخاصة حينما استطرد: خــــوفك الوحيد في حوار الحمل ده مكنش عشان شكلك والكلام الفاضي ده خــــوفك كان من الماضي، من اللي عشتيه قبل كده.

وبألــمٍ تابع: قوليلي ذنبي أيه إني طلعت شبهه! أنا مش هو ولا هكون زيه في يوم من الايام.
وتركها ورحل للأعلى بصمتٍ، بينما جلست هي محلها تكبت شهقاتها بكفها، تبكي بانهيارٍ تام.

اتجه عُمران لجناحه وقبل أن تطول يده مقبض بابه وقف محله يمنع دmـ.ـو.عه من الهبوط، منذ لحظة رؤيتها بالاسفل ورؤية كل ذلك الخــــوف والكره يمليء عينيها وهو يمنع قلبه من الانشقاق ويلف جبيرة من فوقه، علم الآن السر وراء ارتباك والدته وخــــوفها!
ترك أغراضه فوق طاولة طويلة بأحد الطرقات، واتجه لجناح أخيه، يعلم بأنه يستيقظ بذلك الوقت استعدادًا لصلاة الفجر.

طرق الباب طرقة واحدة بخفوت تام حتى لا تنزعج زوجة أخيه، فإذا بصوت علي يرد ويظهر من خلف بابه مندهشًا: عُمران! خير في حاجة؟
حاول أن يخرج صوته طبيعيًا: فريدة هانم تحت جنب الpool، انزل شوفها.

وبدون أي إضافة أخرى تحرك لجناحه، خرج علي من خلفه يناديه: أنا مش فاهم حاجة! استنى فهمني! عُمران!

بإيجازٍ ودون أن يلتفت إليه أبلغه برغبته الصريحة بعدm الحديث: فريدة هانم محتاجالك تحت يا دكتور.

ومين قالك إني محتاجاله!

صوتها أوقفه عن استكمال طريقه، فاستدار صوب الدرج ليجدها تقف امامهما برأسٍ مرفوع، وقد استعادت قوتها وشموخها.

وزع علي نظراته الحائرة بينهما باستغراب، وخاصة حينما قالت والدته دون أن تحيل عينيها عن أخيه: ادخل نام يا على لانك هتقوم بدري تعمل اللي طلبته منك، لإن زينب ملهاش غيرنا.

احترم رغبة والدته بالبقاء برفقة أخيه، فعلى ما بدى له أن هناك أمرًا ما بينهما، فقال: متقلقيش يا حبيبتي أنا هنزل بدري أستلم الاوردرات اللي طلبتيها وهوصلهم أنا وفاطمة شقتها.

واضاف وهو ينسحب لجناحه: تصبحوا على خير.

تركهما وغادر لغرفته، فدنت إليه تحدجه بنظرة غاضبة لم يراها يومًا عليها: أيه التخاريف اللي قولتلها تحت دي؟!

وما كاد بالتحدث حتى أوقفته باشارة يدها الحازمة: كل اللي قولته ده مش صح يا عُمران، أنا عمري ما أخدتك بذنب حد، ولا الكلام الفارغ اللي قولته ده، أنا بس كنت محروجة منك إنت بالذات لإني عارفة انك مشاكس ومش هتعدي الموضوع ده من غير ضحكك وهزارك المعتاد وأنا مش متحملة أسمع حاجة من حد في الوقت ده.

وجد أنه قد بالغ بردة فعله وخاصة حينما صاحت فريدة بشراسةٍ: أوعى تشبه نفسك بيه أبدًا، إنت مفيش في حنية قلبك ولا طيبتك يا عُمران.

ودنت إليه تضم وجهه بين يديها وبدmـ.ـو.عٍ صادقة قالت: إنت محدش شبهك أبدًا.

وبابتسامة عاكست دmـ.ـو.عها وبكائها همست: أقولك على حاجة وتخليها سر بينا.

أدmعت رماديته تأثرًا بمشاعرها الصادقة، فهز رأسه ومازال ثابتًا أمامها: أنا لو بعتبر على صديق ليا زي ما قولت، فانت بحنانك عليا وطريقة معاملتك مخليني مش قادرة اشوفك غير أبويا.

وتابعت وهي تستدير تراقب الردهة بخــــوف من أن يستمع لها أحدًا: عشان كده بخاف أغلب الأوقات منك، حتى لبسي بقيت بنسقه أكتر من الأول من يوم ما كلمتني على الجيب القصير.

وتنحنحت بخشونة لا تليق بصوتها الرقيق: بس مش عشان قولتلك كده تسوق فيها وتتمادى بمعاملتك معايا، لأ أنا مامتك ويحقلك تحترمني ووقت ما أعوز أتعصب وأزعق تسمعني وصوتك ميطلعش وأوعى تسبني وتمشي زي ما عملت تحت من شوية، سامع!

قالتها بحدة وهي تشير له باصبعها، فضحك وهز رأسه يوافقها، مردفًا بنبرته المخملية: تحت أمرك فريدة هانم!

ابتسمت وهي تتطلع له برضا، ودون أن يفعل هو وجدها تميل إليه فضمها بصدرٍ رحب، ليجدها تهتف: اتعودت كل يوم بليل أشوفك بالجنينه بتصلي، بحس وقتها إني كنت مقصرة معاكم يا عُمران، بس أنا ازاي كنت هنصحكم وهوجهكم للصلاة وأنا نفسي مبركعهاش!

ابتعد عنها يطالعها بنظرات حنونة، وجذبها لأقرب مقعدين متطرفين: وده اللي نفسي أكلمك عنه ومتردد يا ماما، أنا مش قابل أشوفك تايهة في الدنيا وملكيش وجهة، صدقيني كل الاغراءات اللي حولينا في الدنيا فانية، الإنسان في لحظة بيسيب كل حاجة وبيبقى بين ايدين ربنا سبحانه وتعالى، ومفيش حوليه غير عمله!

وانحنى يقبل كفها وهو يضيف: طبيعي إني أخاف عليكي وواجب إني أنصحك، يمكن الظروف اللي مريت بيها هي اللي ادتني فرصة إني أفوق وأتوب من كل ذنوبي.

أنا واثق إن كل إنسان له أكتر من فرصة، فيه اللي بيتنازل عنها وفيه اللي بيتمسك بيها من أول مرة، بس الخــــوف إنه ميلحقش ينتهز فرصته الاخيرة!

تعمق بنظراته إليها قائلًا: أنا من حبي واحترامي الكبير لحضرتك مش قادر أشوفك بتضيعي فرصة ورا فرصة، اتمسكي بيها وصدقيني ربنا سبحانه وتعالى هيقوي عزيمتك.

أخفضت عينيها أرضًا حرجًا من صغيرها الذي يدعوها للصلاة بدلًا من أن تفعلها، فاخبرها بحبه الذي لا يتثنى أن يشعرها به لتستجيب لما يقول: الحجاب واللبس المحتشم عمره ما هيقلل من شياكة فريدة هانم، بالعكس زي ما ذوقك مميزة في اللبس ده هيكون مميز في اختيارك لبس واسع يليق بالحجاب.

منحته ابتسامة مشرقة وقالت: خلاص لما نرجع بكره من فرح زينب هنقعد أنا وانت نختار كام قطعة كده أون لاين ونجرب ونشوف.

جابهها بحماس مشجع: هنـ.ـد.مج ذوق فريدة هانم مع ذوقي فأكيد هنختار ديزين عظيم جدًا.

اتسعت ابتسامتها حبًا وامتنان له، وخاصة حينما قال: والأهم من ده كله الصلاة، أنا لو موجود هنا هنصلي مع بعض، لو كنت بالشركة هتصل بيكِ أفكرك كل آذان.

انطلق هاتفه بصوت الآذان يعلن عن صلاة الفجر، فأشار لها متسائلًا: نصلي مع بعض؟

استقامت بوقفتها وهي تشير له: هجيب اسدالي وجاية.

وما كادت بالرحيل حتى عادت إليه تضع قبلة ممتنة على جبينه، وغادرت لجناحها دون أن تضيف كلمة أخرى.

جالس على سجادة الصلاة بغرفة مكتبته الصغيرة منذ ما يقرب الساعتين، يده تتحرك على السبحة ولسانه يردد التسبيحات بخشوعٍ، وأكثر ما يردده
«لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم، اللهم أجرني في مصيبتي ».

تجمعت تكتلات المياه في حدقتيه حتى تحررت بخط من الدmـ.ـو.ع، وغصة قلبه تكاد تزهق روحه من فرط ألــمه، بينما يتردد له ما حدث.

##
حضرتك ساكت ليه؟

قالها آدهم مستريبًا من صمت الشيخ مهران المطول، فحشـ.ـد همته وقال بو.جـ.ـعٍ بح صوته من فرطه: بحاول أفهم اللي عايز تقوله من ورا قصتك دي يا حضرة الظابط!

يعلم بأنه شخصًا ذكيًا، لذا قال بهدوء: بس دي مش قصة يا شيخ مهران، ده حصل فعلًا وعشان كده بأخد رأيك فيه.

رفع عينيه إليه ومازالت حركة يده تتابع بانتظام فوق مسبحته: تأخد رأيي في أيه يا حضرة الظابط؟

ضم شفتيه بقوةٍ يحارب ما بداخله من هزيمة مصرحة وقال: في اللي حكتهولك، أنا عاجز ومش عارف أساعد صاحبي ازاي، والده مصمم إنه لازم يعرف أخوه الحقيقية وهو عاجز يقوله إن الشخص اللي رباه مش هو أبوه الحقيقي.

ارتسمت ابتسامة غامضة على وجه الشيخ مهران، وبصورة مباشرة قال: تقصد إن والدك بيضغط عليك إنت مش كده؟

ارتبك آدهم قبالته يينما تابع الشيخ بصلابة وقوة: قولي يا آدهم يابني إنت كنت قولتلي أبوك إسمه أيه؟

ابتلع وهو يجيبه بتـ.ـو.تر: مصطفى، مصطفى الرشيدي!

مال يستند على عكازه بجبهته، فنهض آدهم عن محله وانحنى على ركبتيه يناديه بقلقٍ من أن يكون تذكر الاسم: مالك يا شيخ؟ حضرتك كويس؟

رفع جسده عن انحناءته وسلط عينيه عليه صامتًا، يتزلزل إليه صوت ابنه بحديثه المقتطف
«أنا بحب آدهم جدًا يا بابا، بحس إنه بيشبهني في كل حاجة»
«لو عندي أخ مش هيعاملني زي ما آدهم بيعاملني! ».

«بمناسبة انك بقيت عارف حكاية آديرا، تخيل إن آدهم مكنش واخد أوامر باقتحام المبنى اللي خـ.ـطـ.ـفونا فيه وبالرغم من كده مهمهوش واقتحم المكان وأنقذني! ».

«عارف يا شيخ مهران، انا سبق وصاحبت كتير، منهم سيف وعُمران اللي حكيتلك عنه، والدكتور يوسف وإيثان وناس كتير جدًا عرفتهم في الغربة وفي مصر الا أن آدهم بحنيته بحس إنك إنت اللي جنبي، طيب عارف وأنا بره مصر كل ما كنت بتوحشني كنت بقوله يحُضني! ».

تهاوى الدmع تباعًا على وجهه المجعد لكبر سنه، وهز رأسه بخفوتٍ بينما يتحرر صوته: قصة صديقك دي ما هي الا باب مغلق من أبواب الحقيقة، الاسم اللي نطقته خلى ذاكرتي الضعيفة وجهتني للي حصل من أكثر من عشرين سنة، لليوم اللي خرجوا وقالولي فيه ابنك مـ.ـا.ت!

وتعمق بعينيه بجمود وهو يباغته بسؤاله: آيوب أخوك؟

نهض آدهم من اسفل قدmيه واستكان جواره، يردد بانكسار: صدقني أنا مجبور، مكنتش أتمنى أحطك ولا أحط نفسي في الموقف ده أبدًا.

ونكس جسده بانحناءة سفلية: أنا عارف إنه غلط لما عمل كده بس غـ.ـصـ.ـب عني ده بالنهاية أبويا مينفعش أقسى عليه وأفرقه عن ابنه وهو بأيامه الأخيرة.

وتابع يستعطفه رغم أن ذلك الاسلوب لا ينطبق على شخصه القوي: أرجوك تساعدني يا شيخنا، أبويا المرض بيأكل في جـ.ـسمه يوم بعد يوم، وامنيته الوحيدة إنك تسامحه إنت وآيوب.

وبقلة حيلة اضاف: أنا حتى معنديش الجرأة اوجهه بالحقيقة لإني أكتر واحد عارف مدى تعلقه وحبه ليك.

من قال إنه سيخوض يومًا قـ.ـا.تلًا مثل هذا؟!، والله إن قال له أحدٌ بإن أحدهم سيخبره بأن ابنه الوحيد ليس ابنه لاتهمه بالجنون، سبحان من انزل على قلبه الــســكــيــنــة والصبر، و.جـ.ـعل عقله يحوم بذكريات الماضي ما بين تذكره لذلك الرجل مصطفى الرشيدي.

وما ينغز قلبه بأنه يتذكر حكايته جيدًا، حيث أخبره ذات مرةٍ بحقيقة علاقته بتلك المرأة، وبأنه تزوج بها من دون علم زوجته، حتى ابنه الوحيد والقابع من أمامه الآن قد اخبره عنه سابقًا.

وبالرغم من أن آدهم لم يسرد له تفاصيل تبديل أبيه الاطفال، الا أن الشيخ مهران استطاع أن يرسم صورة تفصلية عما حدث.

طال صمته وعقله تعطل عن العمل عند استيعابه أن ابنه ليس ابنه!، كيف وقد جمعته به صفات مشتركة جعلته فخورًا كونه ابنه!

هو الآن عاجز، ولولا تلك الورقة التي يحملها بين يديها تؤكد له تطابق التحليل بين ابنه ومصطفى بنسبة تسعة وتسعون بالمئة لكان جن من فرط وضع الافتراضات.

طال صمته وآدهم يراقبه بقلقٍ، صمته وحديثه القليل استدعى قلقه، فناداه بوجلٍ: شيخ مهران؟

أفرغ رأسه مما يزاحمه وقال بوقار مازال يلتحف به: أجل كلامك عن الموضوع ده لحد ما ابني يمتحن ويتخرج، مش عايزه يتأثر بأي حاجة ممكن تخليه يدmر مستقبله يا حضرة الظابط!

نسبه له ابنًا وإن لم يكن ابنًا له، فكيف ألا يعتاد لسانه على نطق ابن الشيخ مهران! »، يتجرع أبشع أنواع الألــم بتلك اللحظة ومع ذلك يواجه بكل ثباته، فتابع ودmـ.ـو.عه تحجب عنه الرؤيا: بعد ما يمتحن هنعرفه الحقيقة وبعدها تبدا اجراءات تغير النسب، أنا عارف إنها مش صعبة على ظابط في مركزك لإني مش هتحمل أقابل ربنا عز وجل بذنب زي ده حتى لو تغير إسم أيوب هيسلخ روحي عن جـ.ـسمي!

تأثر آدهم بحالته التي لا يبدو بأنه على ما يرام مطلقًا، فقال ليرضيه: هعمل كل اللي حضرتك تطلبه بس انا حاسس إنك مش بخير.

رفع عينيه القاتمة له ومنحه ابتسامة موجوعة: ضهري اتكـ.ـسر يابني!

منع دmـ.ـو.عه من أن تهبط أمامه وقال وبسمته البشوشة تسيطر على ثغره: عايزك تسأل أبوك دفن ابني فين؟

وتابع وهو ينهض ليتجه لركن الصلاة: ودلوقتي استسمحك تسبني لوحدي قبل ما المسجد يزدحم لصلاة العشاء.

تفهم رغبته بالبقاء بمفرده، فأستأذنه بالانصراف وبداخله نـ.ـد.م لما فاض به، ولكنه كان مرغمًا على ذلك، بينما لجئ الشيخ مهران لربه يصلي ركعتين ويفيض دامعًا بما يضيق به.

وها هو قبيلة صلاة الفجر يجلس على سجادته، يتذكر ما حدث منذ ساعاتٍ معدودة ويردد بحـ.ـز.نٍ: اللهم لا إعتراض.

الردهة مكتاظة بعدد من الملابس، وبعض الحقائب الضخمة ذات الثلاث طوابق، أريكة ضخمة تحتل منتصفها انحرافًا عن موضعها الاساسي، يقبع فوقها جمال و يوسف و سيف، الثلاث شباب جالسون باسترخاء بينما يغطي أوجوههم طبقة سميكة من المسكات الطبيعية الخاصة بالرجـ.ـال.

وعلى بعد منهم يقف عُمران حائرًا باحتيار مكينة حلاقة مناسبة من بين الحقائب المفرودة بعرض الصالون، وقميصه الأبيض يشمر كمه لمنتصف ساعديه، مرتديًا مريول أسود مناسب للحلاقة، وقفازات سوداء ملتصقة بيديه كالجراح المحترف!

سئم جمال من تلك التكبيدة وصاح بفتور: وبعدين يا عم الوقح، هنفضل قاعدين كده كتير؟!

ردد يوسف غاضبًا: يا ابني تعالى شيل الزفت ده ورايا ولادة بعد ساعه، ثم إني موصيك على العريس مش علينا!

ابتسم بفخر فور عثوره على المكينة المناسبة، فاتجه إليهم ليبدأ بسيف الذي سئم من أخيه وأصدقائه ومن عُمران بالأخص.

وضع المشط الصغير على طرفي شعره وبدأ يمرر المكينة ببراعةٍ، وكلما مال للجانب يسحب رقبة سيف من خلفه بشكلٍ جعله يصـ.ـر.خ بضجر: سيب رقبتي واخدها وراك ليه مش فاهم أنا!

وصرخ بضيق: ما تشوف صاحبك يا يوسف، زهقني يا أخي!

أخيرًا تخلى الجليد عن بروده وردد بصوتٍ فكاهي: رجب خد صاحبك عني! رجب صاحبك جنيني! رجب قوله يسيب قلبي!

انفجر يوسف ضاحكًا وقال: بيكجولك وبيغنيلك أهو هتلاقي أحسن من كده فين؟ ده كفايا شغل الماكنة اللي شغالك بيها، دي لو حوشنا مرتبك على مرتبي لسنتين قدام مش هنشتريها يا سيفو!

نزع جمال عنه المنشفة الضخمة، هادرًا بانفعالٍ: طيب انا لزمتي أيه في الحوار ده، بيكجول أخوك وخدك وشين معاه بالمرة مجاملة لاخ العريس انا ليه بقى؟!

أجابه عُمران مضيقًا جفونه وهو يقوم بعملية تهذيب الخصيلات بتركيزٍ: عشان اللبس اللي هتلبسه النهاردة مينفعش مع حلقة حليمو اللي عاملها دي يا جيمي!

ضحك يوسف ساخرًا وهو يشير على تسريحته القديمة، فلكزه جمال بغـــضــــب: اخرس يا دكتور الحالات المتعسرة! حسابك جاي بعدين.

علي رنين هاتف يوسف، فنزع المنشفة ونهض يتطلع لاسم المتصل، هاتفًا بانزعاجٍ: أخوك بيتصل، أكيد اتاخرت عن الحالة وبيشوفني مجتش المركز ليه!

وتابع بانفعال: هقوله أيه بقى معلش عندي جلسة اسكين كير!

رد عليه عُمران ومازال ممعنًا التركيز بما يفعله: وتروح المركز في يوم مهم زي ده ليه؟! طنشه وإقفل تليفونك.

أشار له جمال متحفزًا: أوعى يا يوسف، ده فساد وعايز يخرب شغلك وبصراحة دكتور على ميستهلش منك كده.

أزاح المسك بالمنشفة التي يرتديها وقال: لا طبعًا لازم اروح، أنا اللي صممت أولد الحالة دي لإنها عندها سيولة وصعب حد يتعامل معاها من الطاقم الطبي.

مال كف عُمران وجه سيف ليهذب لحيته الخفيفة، قائلًا: يعني مش هتستنى أحلقلك يا دكتور؟

رتب ثيابه وهو يجيبه بابتسامة واسعة: كنت اتمنى يابني والله بس النصيب نجدني من تحت ايدك الحمد لله.

وتابع وهو يشير لجمال: بس متقلقش أخويا وجيمي موجودين، عايزك تخليهم بينوروا في الضلمة.

صرخ سيف مستنجدًا: متسبنيش معاه يا يوسف، كده هتبقى خارجتي مش دخلتي!

نغز خديه برفقٍ هادرًا بسخرية: هتخافش مني يا حبيبي أنا مبكلش العيال الصغيرين!

انتفخت أوردته من فرط الغـــضــــب، فمنح اخيه نظرة قـ.ـا.تلة استقبلها الاخير بعدm مبالاة: طول ما عُمران معاكم أنا مش هقلق عليكم أبسلوتلي!

وتركهم وغادر على الفور وهو يحمد الله أنه نجى.

مضت ساعة كاملة ما بين حتى سحب عُمران المنشفة من حول رقبة سيف وهو يضع المسك الاخير له قائلًا: كده أقدر أقولك مبروك يا عريس، شاور سخن على السريع وابتدى اجهز على طول.

نهض عن الاريكة يردد بخفوت: أشهد أن لا اله الا الله!

وإتجه لاقرب مرآة بالردهة، يلقي نظرة متفحصة على نفسه، فكان كل دقيقتين يستدير لجمال يسأله بتوسل أن يخبره ما يصنع عُمران به، وما جعله يجلس بصمت اشارة جمال له بإعجابٍ صريح بما يفعله الطاووس الوقح به.

برق سيف بانبهارٍ، ذقنه مهذبة بطريقة احترافية، لم يشاهدها يومًا على عُمران نفسه، وكأنه قدm له أفضل ما يمتلكه ويفضله على ذاته بما صنعه له.

شعره قد جعله جميعه بنفس الطول بعدmا كان يُفضل تقصيره من الجانبين فاعتاد على ذلك، وجده يبرع في تهذيبه بقصةٍ جعلته يبدو أفضل من السابق.

ولج لحمام الشقة يحمل اغراضه الخاصة، متلهقًا لازالة ذلك المسك الذي يحتل بشرته ليتأمل ماذا صنعته المنظفات الباهظة التي وضعها له.

بينما بالخارج.

تراجع جمال لنهاية الأريكة بـ.ـارتباكٍ من الألة الحادة التي يحملها عُمران ويدنو منه مرددًا بشر واضح: فضيتلك يا جيمي، ها تحب قصة معينه ولا تسيبلي نفسك أحسن؟

ابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ وقال: مش عايز أحلق يا عُمران، أنا لسه مشيك على شعري من كام يوم بس!

مرر رماديته على شعره بنظرة غير راضية بالمرة: مهو باين يا حبيبي! إنت شكلك كنت عند حلاق الخرفان والحمير ده عارفه؟

نزع المنشفة عن رقبته واستقام بوقفته يصيح بخشونة: أنا حطيت المسك الغريب ده وقبلت لكن شعري ودقني لأ وألف لأ يا عُمران!

انتهى سيف من حمامه فارتدى روب الاستحمام وخرج يبحث عن عُمران ليشكره بامتنان، وقف على مقدmة الردهة يردد بصدmة مما رآه: إنت حلقت دقنك يا بشمهندس جمال؟

استدار ذلك الماسد بين يدي عُمران إليه، وبأسفٍ قال: اليوم ده هيخلص من هنا وهقطع علاقتي بالمختل ده، تصور بيهددني بالمشرط اللي في ايده ده!

مال إليه عُمران بحـ.ـز.ن: عايز تقطع علاقتك بيا يا جمال؟

استجاب لمحاولته الخبيثة بالتأثير عليه فقال: مش بالظبط بس أنا قولتلك الا دقني وشعري!

أجابه وهو يتصنع الطيبة: شكلك هيبقى أحلى بالشنب بس، الدقن مش حلوة عليك، غلطت لما عايزك تبقى أصغر وأجمل!

اعاد التفكير بحديثه بتأنيب ضمير، بينما استغل عُمران هدوئه واستكمل عمله، ضحك سيف وقال: إنت خبيث وخطير يا عُمران! بس ما علينا أنا خرجت أشكرك على الحلاقة دي، صدقني بعد كده هسلملك رأسي وأنا مطمن!

رد عليه عُمران بغلظة: أنا لا عايز رأسك ولا رجلك، ادخل جوه إلبس لتأخد برد يا عريس!

ضحك سيف بعدm تصديق لرده، وعاد لغرفته يستعد لحفل زفافه.

انتهى عُمران من جمال بعدmا تفنن بجعله أنيقًا، جذابًا، فبعدmا أعاد شعره للخلف وقصره قليلًا بدا كأنه شاب عشريني.

موافقته الصريحة بالاهتمام بسيف كانت حيلة لأجل أن يهتم بجمال، ويعاونه بتغير طريقة خلاقته وتهذيب ذقنه.

ازاح جمال المنشفة وتطلع لعُمران بضيق، فربت على كتفه بابتسامة هادئة تناهز مشاكسته السابقة: ادخل خدلك شاور عما أجهزلك البدلة.

شعر وكأن به خطبًا ما، فسأله بجدية تامة: هو حد قالك إن أنا العريس النهاردة؟ تصرفاتك معايا غريبة النهاردة إنت حاسس إني همـ.ـو.ت ولا أيه؟ ولا يكنش نعمان الملزق قالك إنه هيقــ,تــلني!

سقط من يده المكينة فانحنى جمال يحملها لحقيبته مرددًا بضيق: ما تاخد بالك يا عم، ده يوسف لو شافها واقعه هيروح فيها بعد ما عرف سعرها!

جذبه عُمران من تلباب قميصه بيدٍ واحدة: أيه اللي قولته ده؟ نعمان جالك؟!

ارتبك أمامه وقال: متشغلش بالك بيه، ده آ...

ابتلع جملته فور أن صرخ الاخير بانفعال: ازاي متقوليش حاجة زي دي يا جمال!

رد عليه وهو يحاول أن يهدئه: مكنتش عايز أشغلك كفايا موضوع آلكس اللي طلعلك فجأة ده.

مشط الردهة ذهابًا وإيابًا، متمتمًا بوعيدٍ: هي وصلت لكده، ماشي يا نعمان!

وحينما استدار وجده بمحله يتطلع له بحـ.ـز.ن فصاح بضيق: انت لسه واقف مكانك!

هرول جمال للحمام دون ان يهتم حتى برؤية وجهه، بينما دفن عُمران غـ.ـيظه الشـ.ـديد من خاله واتجه لغرفة جمال يبحث عن الحقائب التي تحمل الملابس التي اشتروها مؤخرًا، وما أن وجدها حتى جهز له احدى البذلات التي سبق وانتقاها له تلك المرة، ممررًا مكوته الحديثة من فوقها وهي معلقة على المشجب.

ولج جمال للداخل يمسح وجهها، فوجد عُمران يكوي البذلة بنفسه، حتى أنه نثر من فوقها البرفيوم خاصته، حتى لا يترك مساحة للمشاجرة بينهما حينما يطالبه بالوضع منه فوضعه هو قبل أن يرتدي الملابس.

استدار للخلف وما أن رآه حتى تنحنح بخشونة: واقف كدليه؟ يلا إلبس عما أجهز أنا كمان.

اعترض جمال طريقه للخروج من الغرفة واستمد نفسًا مرهقًا قبل أن يسأله مباشرة: إنت سمعتني وأنا بتكلم مع يوسف؟

تـ.ـو.ترت ملامح عُمران وبالرغم من ذلك بقى ثابتًا أمامه قدر المستطاع: أمته ده؟! وأي كلام تقصد؟

تعمق بالتطلع إليه لكشف مدى صدقه ولكن الاخير انسحب وهو يشير له بملل مصطنع: بقولك أيه يا جمال أنا معتش قادر أقف، إلبس عما أريح جـ.ـسمي شوية وألبس أنا كمان. مش كفايا حوار نعمان الملزق ده عليا، ابعد من وشي انت التاني.

وتركه شاردًا وغادر لغرفة يوسف حيث يوجد ملابسه، فتمدد على الفراش يستكين قليلًا قبل أن يبدأ بتجهيز ذاته.

انتهى جمال من ارتداء ملابسه، ووقف أمام المرآة منصدmًا من مظهره، لم يكن اختيار عُمران للملابس رائعًا فحسب، بل طريقته بتنسيق ذقنه الحليقة وشاربه.

كان محقًا حينما أخبره بأن الشارب دون اللحية ستمنحه مظهر جذابًا، بل هو بتلك اللحظة يشعر وكأنه يصغر عن عمره كثيرًا.

ابتسم وهو يتابع وجهه وشكله، ولأول مرة يشعر بالفضول أن تراه زوجته بشكله الوسيم هذا، فلقد تحلى ببعض الثقة التي غادرته، وما تعجب له أنه وجد ذاته يحزم قراره بأنه سينتظم بالذهاب للجيم كما أخبره عُمران صديقه، الذي يمتن لأنه يمتلك صديقًا مثله.

خرج جمال للردهة فإذا بسيف يطالعه بانيهارٍ شـ.ـديد، ولسرعة تخمينه بمن بشقته قال: بشمهندس جمال! أقسملك بالله إني معرفتك! الاستايل ده جميل عليك جدًا وجديد.

وبتخمينٍ قال: عُمران مش كده؟

هز الاخير رأسه بإيماءة خفيفة، فابتسم سيف وبداخله يزداد احترام لشخص عُمران الذي رغم وقاحته وفنون رده النزقة الا أنه يستحق حب أصدقائه وأخيه إليه.

خرج إليهما عُمران بعد قليل، متألقًا ببنطال من القماش البني الفاتح، وقميصًا من نفس الدرجة، ومن فوقه جاكيت بدرجة أغمق، مصففًا شعره بتسريحته المعتادة، وبالرغم من اهتمامه بهما الا أنه لم ينسى الاهتمام بنفسه وبما سيرتديه.

قطع نظراتهما المعجبة به وقال: هنتحرك ولا هنقضيها نظرات!

طرق الباب مرتين بعكازه، ففتح آيوب الباب حاملًا كتابه بين يديه، وما أن رآى الطارق حتى ردد بفرحة: بابا!

أخفى الشيخ مهران دmـ.ـو.عه واحتبسها داخله، وبدون كلمة واحدة جذبه لأحضانه، يده تقربه إليه وكأنه يود أن يدخله لصدره، ويخفيه عن الأعين.

يشعر وكأن هناك من سيخـ.ـطـ.ـف منه ابنه، وبالرغم من أنه واثق بإن آيوب لن يتخلى عنه مطلقًا الا أنه كان خائف من فراقه، لم يكن يومًا بالأنانيًا ليفرقه عن ابيه الحقيقي، ولكن ما يكترث به هي زوجته التي أرضعته من حليبها، لم يكن ليظن يومًا أنه ليس ابنه لتظن زوجته هذا الأمر!

أبعده عنه وهو يرسم ابتسامة هادئة، منشبًا حوارًا طبيعيًا: عامل أيه يا حبيبي؟

أجابه وهو يشير له بالدخول: الحمدلله، ادخل يا بابا هنتكلم على الباب كده!

أشار له بابتسامته: لا يا آيوب انا نازل الدكان وقولت أعدي عليك قبل ما أنزل، مانا معتش بلمحك تحت.

برر له وهو يرفع كتابه: الامتحانات بعد اسبوعين يا شيخ مهران، وبنفذ تعليمـ.ـا.ت الحاجة رقية، إنت ناسي إني واخد أنا ويونس حظر عشان خديجة وسدن!

ضحك الشيخ ومسح على ظهره: ربنا يوفقك يابني ويبعد الغم والحـ.ـز.ن عنك وعن قلبك، يلا هسيبك أنا تركز في مذكرتك وهنزل الدكانه، سلام عليكم.

أجابه وهو يطالع هبوطه باهتمام: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.

وما أن غادر حتى ولج آيوب لشقة يونس يستكمل مذاكرته بينما ارتكن الشيخ مهران على درابزين الدرج يبكي ألــمًا ولسانه لا يغفل عن قول: لا اله الا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.

وصلت لمكان الحفل برفقة والدة زوجها باحدى سيارة عائلة الغرباوي، صعدت صبا تحمل طرف فستانها الكريمي حتى لا تتعثر بخطواتها.

ولجوا للمصعد وهي ترتب حجابها الأسود متسائلة بلهفة: ماما شكلي حلو؟

اجابتها وهي تشير بيدها: زي القمر يا بـ.ـنتي، جمال هيخـ.ـطـ.ـفك النهاردة ولو معملهاش باللي في رجلي وهنزل على نفوخه الخايب ده!

ضحكت من قلبها وشاركتها أشرقت الضحك، توقف المصعد بالطابق الثالث من المبنى حيث يقطن يوسف ولجواره سيف، بحث صبا عن اسم الشقة حتى وجدته فأمسكت يد أشرقت واتجهت للداخل، حيث تُرك الباب مفتوح لاستقبال الضيوف.

بالداخل.

بالرغم من بساطة تزين المكان، وعدد المدعوون القليل الا أن كل شيءٍ كان مثاليًا، حيث اجتمع الجميع حول طاولتيتن كبيرتين، احداهما للرجـ.ـال والاخرى النساء، ومن أمامهم وضعت ليلى ويوسف مقعدين مذهبين للعروسين، وطاولة صغيرة ومقعد مقابل خاص بالمحامي.

لحظة دخول أشرقت وصبا كانت هي نفسها لحظة امضاء العروس على قسيمة الزواج، وكلمة معتادة تنطق على لسان المحامي: بـ.ـارك الله لكما وجمع بينكما بالخير.

انطلقت الفتيات الاربعة مايا، فاطمة، شمس، ليلى يتجمعن من حول العروس، بينما ذهب الشباب يقدmون التهاني لسيف.

بينما اتجه يوسف يقابل السيدة أشرقت بنفسه، مرددًا بفرحة: نورتي المكان كله، كنت هزعل لو مجتيش.

ربتت على كتفه بحنان أمًا: ألف مبروك يا حبيبي، ربنا يفرحه ويرزقه الذرية الصالحة.

أجابها ببسمة ممتنة: اللهم آمين.

وأشار للطاولات: اتفضلي يا حاجة أشرقت، اتفضلي يا مدام صبا.

اتجهت للطاولات وعينيها تبحث عن جمال بلهفة بين الشباب، إلى أن وجدته يقف جوار عُمران يتهامسان وصوت ضحكاتهما يعلو الآذان، انفلتت شهقة خافتة منها وهي تطالعه بصدmة، احاط بها الانبهار والاعجاب الشـ.ـديد، لدرجة ان حمـ.ـا.تها جلست على المقعد وبقيت هي واقفة محلها تتطالعه بدهشةٍ جعلت من حولها يلاحظون ما تفعله.

رأها جمال فاندهش من وجودها هي ووالدته، وزع نظراته بينهما ولكن عينيها اللاتي تبرق به جذبت انتباهه فبادلها النظرات.

شعرت صبا بيد تجذبها للمقعد، استدارت فوجدت حمـ.ـا.تها تهمس لها بحنق: واقفة مبلمة قدام الواد كدليه، هتخليه يأخد مقلب في نفسه يا خايبة، اقعدي واتقلي كده وسيبي الحاجة أشرقت تلاعبه.

مالت إليها بفضول: هتعملي أيه يا ماما؟

مصمصت شفتيها بحركتها الشعبية وقالت: كتير يا قلب امك بس اتقلي انتي ومتدلقيش كده.

وجابت الجمع بنظرة شاملة، فانتفضت وهي تلكز ذراعها: فريدة هانم شرفت أهي، شوفتي الفستان اللي لابساه! مخليها ولا العروسة! يخيبها ولية!

أشارت له صبا وهي تتابع الاوجه: وطي صوتك يا ماما حد يسمعك!

ادارت وجهها عن محل جلوسها، ولكنها لم تستطيع كبت فضولها تجاه تلك المرآة، وخاصة حينما جلس هذا الشاب الآنيق جوارها، فاستفزها الا تعلم كنايته.

ترك عُمران المنصة واتجه لآشرقت يقبل يدها هاتفًا بمحبة: أيه الجمال ده كله يا شو!

ضحكت حتى بدت غمازاتها كسطوع شمس اليوم، وقالت: ازيك يا بكاش ياللي بطلت تسأل عني، ولا اهتمـ.ـيـ.ـت حتى تيجي تودعني، أنا مسافرة النهاردة الفجر.

أجابها بابتسامة جذابة: ازاي يعني مش هاجي ده انا قايل لجيمس ان محدش هيوصلك للمطار غيري، وقبل المطار، هاخدك حالًا وهنطلع مع بعض مشوار هيعجبك.

سألته بفضول: مشوار فين ده؟

أبعد المقعد وعاونها على النهوض: لما نروح هت عـ.ـر.في.

قالت وهي تتطلع للعروس: طيب استنى طيب ملحقتش أعين العروسة!

ضحك بصوته الرجولي وقال: قصدك ملحقتيش تنمي! ده انا بعمل فيكي خير وبنقذك من صحيفة أعمالك البلاك!

تمردت ضحكاتها عاليًا، ومالت عليه تهمس له: هي أمك مش عايزة تعقل! لابسة فستان مخليها ولا العروسة!

تمعن بوالدته بنظرة متفحصة، كان ممتنٍ انها نفذت اول نصائحه، فكانت ترتدي فستانًا أحمر اللون طويلًا يصل لنهاية قدmيها، ومن فوقه شال أبيض يحجب فتحة عنقها الصغيرة، وعلى رأسها تربون أبيض اللون جعلها مميزة للغاية، طبعت ابتسامة محبة لملامحها الرقيقة وهمس لها: مالها فريدة هانم زي القمر في تمامه؟

مالت إليه تراقب ما يراه وتساءلت: مين اللي جنبها ده، صاحبك!

استدار لها بدهشة: مش فاكراه! أنا سبق ووريتك صورته!

زمت شفتيها ساخطة وقد ظنته يؤكد لها اجابة سؤالها: ياخويا وسايب صاحبك لازق لامك كدليه، ده كل ودنها من كتر الرغي وهي نازلة ضحك ومرقعة روح لم أمك عليها الطمع يابني!

وتابعت بتعصب: وبعدين انت مش كنت قولتلي انك مجوزها لعمك فينه يلمها!

جحظت عينيه صدmة فور نطقها جملتها الاخيرة التي ولحظها السييء توقف بها الموسيقى الهادئة، فبرق بها الجميع.

رسم عُمران بسمة بلهاء وقال: كملوا سهرتكم يا جماعة أنا نازل مشوار سريع أنا وشوشو.

وأشار لها لتتقدmه، بينما تابعتهما صبا باستغراب، كانت مندهشة لمحل ذهابهما، فإلى أين سيذهب بها صديق زوجها؟

لم تلاحظ نظرات جمال المقتادة بالنيران إليها، فما أن لمحته حتى أخفضت عينيها بحـ.ـز.ن، فبالطبع يظنها تراقب عُمران! بعد أن ألصقت بها تلك التهمة بالطبع ستظل تخوض توابعها حتى المـ.ـو.ت!

بدأت الموسيقى واجتاح المنصة الثنائيات، ليلى ويوسف، على وفاطمة، احمد وفريدة، سيف وزينب، وبقيت شمس ومايا بمحل العروس.

انسحب جمال مرغمًا للطاولة حيث محل جلوسها، فقال بوجوم: مالك بتبحقلي في اللي حواليكي بالشكل ده؟

تعلم مقصده جيدًا، ولكنها ابتلعت غصتها وقالت بابتسامة واسعة: البدلة دي جميلة عليك أوي يا جمال، حتى طريقة حلاقتك بجد طالع جميل أوي ومميز النهاردة.

بالرغم من أن الاطراء قد نال ارضاءه ولكنه بقى متخشب الملامح، اختزلت تعابيرها حـ.ـز.نًا من طريقته، وقالت تستحثه على الحديث: مش هترجع معانا النهاردة، ده حتى أخر يوم لماما أشرقت على الأقل خليها تمشي وهي حاسة آن كل شيء بينا طبيعي يا جمال.

منحها نظرة واجمة، ومال على الطاولة الفاصلة بينهما يردد: بس مفيش شيء هيكون طبيعي بينا يا صبا، ردي ليكي لعاصمتي كان لسبب واحد وانتي عارفاه كويس.

وانخفض بنظره لبطنها المنتفخ: ابني هو السبب، وبعد كده صدقيني مبقاش يهم!

أدmعت عينيها تأثرًا بحديثه، فمدت يدها لكفه وهي ترجوه: اديني فرصة أقربلك مني تاني يا جمال!

سحب كفه بعنف منها، وعاد بظهره للمقعد يتابع الحفل بصمت ألــمها، فرسمت بسمة زائفة فور ان تقدmت ليلى ومايا إليها.

لم تزور الفرحة وجهها ولم تمس حتى قلبها، عينيها تتابع باب الشقة برعـ.ـب وكأنها تنتظر لحظة وصوله، كانت موجودة بجسدها وعقلها وقلبها غائبان عنها.

لاحظ سيف شرودها وسكونها العجيب فناداها مرتين ولم تلاحظه، فأمسك يدها وسألها باستغراب: مالك يا زينب؟

انتفضت بجلستها فزعًا، وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة: آآ، أنا كويسة يا سيف. بس كنت سرحانه شوية.

الشك توغل بحدقتيه فصاح: لا مش كويسة، إنتِ من الصبح مش طبيعية.

واستطرد بما يتردد إليه من تفسيرٍ: إنتِ نـ.ـد.مانه؟

نفت ذلك قائلة: أيه اللي بتقوله ده يا سيف، أنا بس مرتبكة شوية إنت عارف الموضوع جيه بسرعه كبيرة.

مررها حتى وهو لا يصدقها، حينما يصبحا بمفردهما سيتحدثان أفضل من حديثهما الإن.

بسيارة عُمران.

تعالت ضحكات أشرقت هاتفه بعدm تصديق: بقى ده عمك؟!

ابتسم وهو يتابعها تضحك من قلبها هكذا، وأضاف: أيه الغريب في كده! ما أنا وريتك صورته قبل كده؟!

كبتت ضحكاته وهي تقول: يابني هو أنا فاكرة أنا اتعشيت أيه امبـ.ـارح! طب تصدق بالله من كتر ما بنسى أنا كلت ولا لسه بقيت شبه الكرنبة!

قالتها وانتابتها موجة من الضحك، فضحك رغمًا عنه وهو يستمع لحديثها بينما يباشر قيادته، فهو يحبها كثيرًا ويشعر بالألفة حينما يراها، ربما لانها والدة صديقه الذي يعده أخيه.

توقفت عن الضحك وسألته باسترابة: قولي بقى واخدني على فين؟

اجابها بعدmا صف سيارته أمام أحد المحلات الفخمة الخاصة بأزياء المحجبات: مش أنا وعدتك إني هرجعك للحاج أبو جمال طلقة ألــماني تزلزله!

اعتدلت بجلستها تمازحه: طلقة! قول صاروخ جوي!

قالتها وضحكت فقهقه ضاحكًا وقال: طلقة، صاروخ مفرقتش المهم إنك تحافظي على الذخيرة عشان منشيعش الراجـ.ـل!

ضحكت حتى أحمر وجهها وقالت: يووه جتك أيه يا عُمران، يابني خلاص حملنا الاول والاخير بقى العيال.

استدار لها يخبرها: ومن بعد الاولاد هيبقى حملكم الاحفاد، هتفضلوا كده لنهاية العمر، عشان كده لازم تخـ.ـطـ.ـفولكم يومين لنفسكم.

وأشار لها وهو يغلق نوافذ السيارة أوتومـ.ـا.تيكيًا: يلا يا ست الكل انزلي عشان منتاخرش.

تردد بالنزول حرجًا وقالت: مالوش داعي للتكلفة دي يابني، جمال ربنا يسعده مش مخليني محتاجة حاجة والله.

زرعت بابنها الرضا بالقليل وهذا ما ميزه، لم يتطلع على ما يمتلكه غيره يومًا وهذا ما جعل عُمران يكن له مثل تلك المحبة التي شعر بها تجاه والدة صديقه.

تصنع بمداهمة الحـ.ـز.ن ملامحه وقال: كنت فاكر إنك بتعتبريني زي جمال، بس الظاهر كنت غلطان!

راقبت انقلاب معالمه بتأنيب ضمير، وقالت: يابني والله انتي عندي زيه وإنت عارف.

لو شايفاني زيه هتنزلي معايا وهتقبلي مني هديتي، اعتبريها تذكار مني عشان تفتكريني بيه بعد ما هترجعي للحاج ولا خايفة يعرف بعلاقتنا يا شوشو!

تحررت ضحكاتها على أخر حديثه ومازحته قائلة: موافقة بس بشرط.

بجدية تامة قال: أنا تحت أمر معاليكِ.

توردت بشرتها من فرط الضحك وهي تخبره: عايزة بورنطة زي اللي أمك بتلبسهم دول!

تمعن بها قليلًا وصعدت ضحكاته تزلزل، وبصعوبة قال: عنيا حاضر.

بدأ يوسف بتنفيذ الجزء الأخر من الخطة، مع انتهاء الحفل فدنى إلى جمال يهمس له: الحاجة أشرقت مع عمران مش هترجع دلوقتي، قوم روح مراتك هتسبها تروح في تاكسي!

زوى حاجبيه يسدده بسهامه الحارقة: رتبت إنت وهو الليلة وفكرين خطتكم هتدخل عليا صح؟!

ادعى برائته الكامنه مما نُسب إليه: ليلة أيه وخطة أيه يا جمال! قوم وبطل تفكر بعقل العيال الصغيرين دول.

نهض عن المقعد يلف بجسده إليه، صائحًا بانفعال: ما تحاولش تتذاكى عليا يا دكتور، ده أنا أكتر واحد قافشك إنت وهو.

حك رأسه وبنفاذ صبر قال: آه يا جمال رتبناها وهتقوم حالًا تأخد مراتك وتتعامل زي أي راجـ.ـل جنتل مان بيفتح باب عربيته لمـ.ـر.اته وبيرفعلها طرف الفستان.

وتابع يستفزه: وبالمناسبة الكلام اللي لسه رميهولك حالًا سابهولك عُمران بنفسه، فزي الشاطر كده تنزل وتفتح الباب لمراتك.

كز على أسنانه غـ.ـيظًا، فالتفت إلى محل وقوفها فلم يجدها، وكأنها سمعت نص الحوار فرفضت أن تكون همًا ثقيلًا عليه.

توقف المصعد فخرجت صبا تنتظر أي سيارة أجرة تمر من أمامها، ورغمًا عنها التقطت عينيها سيارة على وبجواره زوجته وسيارة أحمد الغرباوي وبجواره فريدة وبالخلف مايا وشمس.

لا تعلم لما افتقدت عائلتها بتلك اللحظة، والاصعب من ذلك بأنها تفتقد زوجها وهو لجوارها!

أزاحت صبا دmـ.ـو.ع عجزها، باتت مقيدة، لا تعلم ماذا يتوجب عليها فعله ليصفح عنها، أفاقت من شرودها على صوت سيارته، فوجدته يقف قبالتها ويشير لها بالصعود.

تعلم بأنه أُجبر ان يصلها، فطرقت على نافذة سيارته، فأخفضها لتتمكن من الحديث: تقدر تمشي أنا هركب اي تاكسي.

وبدون اضافات استقامت شامخة بوقفتها واتجهت لمحلها، قبض على الدريكسون بغـــضــــب كاد باقــ,تــلاعه، فهبط من سيارته واتجه اليها يجذبها بقوة: أنا مش عايز أتعصب عليكي، اركبي!

ارتخى جسدها للخلف فاصطدmت بسيارته، تأوهت ألــمًا وهي تضم بطنها بألــمٍ جعله يهرع لها مسرعًا متسائلًا بقلقٍ: أيه اللي حصل؟ اتو.جـ.ـعتي! وريني.

ابعدته للخلف وهي تصرخ به: إبعد عني يا جمال، روح شوف حالك مع اللي اختارتها.

ضيق عسليته باستغراب: اللي اختارتها!

أحاطته بنظرة مشتعلة بنيران الغيرة، جابته من رأسه لأخمص قدmيه، ويتهكمٍ قالت: مستغرب ليه! مش دي اللي غيرتك بالشكل ده وخليتك ترجع تهتم بنفسك وبلبسك!

كم أن صديقه خبيثًا، داهية، لم يتوقع أن تنزرع داخله الغيرة بتلك السرعة، ازدرد ريقه الجاف يجيبها: مش مضطر أبررلك، ودلوقتي اتفضلي اركبي بدون كلام مالوش أي تلاتين لزمة!

هزت رأسها وهي تزيح دmـ.ـو.عها، واتجهت للسيارة دون أن تضيف كلمة أخرى، فغادر بها للمبنى الخاص بشقتهما، وللعجب صعد معها للأعلى.

بشرفة منزل الشيخ مهران، حيث تقف سدن جوار خديجة التي تستند على السور ممسكة ملابس فارس الواقف على المقعد الخشبي يتابع المارة، فتقف جواره خشية من السقوط وبالجهة الاخرى تستمع لها سدن، بعدmا باتت الاثنتين مقربتين للغاية.

مالت سدن على ذراعيها تستمع لنهاية قصتهما بحـ.ـز.ن فائق، وقالت: انت تعبت اوي خديجا، ويونس كمان تعبت من اللي شافه، انت قصتك حزين جدًا.

ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيها لم تستطيع الاخرى رؤيتها من نقابها: ومستعدة أستحمل أكتر من كده بس أكون مع يونس بالنهاية.

غردت عينيها فراشات وسألتها: بتحبيها خديجا؟

استمعت لصوت ضحكاتها بوضوح وقالت: قصدك بتحبيه، وآه طبعًا بحبه جدًا، بحبه من اول ما وعيت على وش الدنيا وشوفته جنبي، اول ذكرى لأي شيء جميل جوايا هو وراها، بحب كل شيء فيه، طريقة حبه ليا وتشـ.ـدده وغيرته عليا، بحب كلمة ست البنات اللي بتخرج من بوقه زي السكر.

استدارت تجاهها فوجدتها تتابعها بضيق وأردفت: انتظري قليلًا لقد نسيت سماعتي بالداخل ولم أفهم نصف حديثك.

وتركتها وهرولت للداخل راكضة، فضحكت وهي تخبط جبينهه بقلة حيلة على تلك الاجنبية التي باتت ونيسة لها.

رفرف قلب خديجة حينما سمعت فارس ينادي بصوت متحمس: بابا.

استدار للخلف فاذا به يدخل الحارة برفقة إيثان، وما أن استمع لصوت ابنه حتى رفع رأسه تجاه الشرفة فوجدها تقف جوار ابنه، تطالعه من خلف نقابها.

نقل بصره عنها بصعوبةٍ مستغفرًا، وأشار لفارس بالهبوط، فتركها وهرول للأسفل راكضًا ومازالت تقف محلها تراقبهما بحب.

التقطته بين ذراعيه يقبله واتجه بها لمحل البقالة يشتري له ما لذ وطاب، وتركه يصعد بينما غادر برفقة ايثان الذي قرر التقدm لخطبة ابنة خالته، وصمم أن يرافقه يُونس.

بينما بالاعلى قدm لها فارس لوحًا ضخمًا من الشوكولا الباهظة قائلًا: بابا بعتلك دي بس، باقي الحاجة ليا.

تناولته منها خديجة بفرحة جعل قلبها يتراقص، فاتجهت بخطواتها البطيئة للشرفة على أمل ان تراه، ولكنها وجدته قد غادر.

مرت ساعة كاملة منذ أن ولجت لحمام الغرفة تبدل قفطانها، هاجمه القلق حيالها، طرق سيف باب الحمام يناديها برفقٍ: زينب محتاجة حاجة؟

انتفضت داخل الحمام محل جلوسها بملابس زفافها باكية، وبتـ.ـو.ترٍ قالت: لا.

رفرف بأهدابه بذهولٍ من طريقتها وقال: طيب بتعملي أيه جوه كل ده؟ إنتِ حتى ماخدتيش هدومك معاكي؟

واستطرد بمزحٍ: زينب انتي بتهربي مني؟!

مال على بابها يحاول استماع صوتها أو أي صوت لمياه، ولكنها فجأته حينما فتحت الباب تواجهه بعينيها المتورمة من أثر البكاء، ضيق حاجبيه دهشة: زينب!

تركته يقف مندهشًا واتجهت للفراش تبكي بصوتٍ مسموع، لحق بها ومازال يناديها: في أيه يا زينب؟!

أوقفته محله تصرخ به: متقربش أرجوك، خليك بعيد.

رفعت ساقيها إلى الفراش، تحاوط جسدها بيديها، وعينيها تراقب أنحاء الغرفة بخــــوفٍ قـ.ـا.تل، تهمس بخفوتٍ: يمان مش هيسيبني، هيقــ,تــلني لو سمحتلك تقرب. خليك بعيد.

صعق سيف من حالتها الغامضة، وخاصة حينما استمرت بهمسها وعينيها تتوزع بين شرفة الغرفة وبابها: هو قالي إنه هيقــ,تــلني! كان هيشوه ايدي عشان مسكتني، لو قربتلي هيقــ,تــلني.

عصف به الحـ.ـز.ن وألــمه، فقال: ميقدرش يعملها وأنا معاكي، هفديكِ بروحي يا زينب.

هزت رأسها ومازالت تصر على طلبها: سبني واخرج يا سيف، ابعد عني أرجوك!

لم يتخيل أن يصل به خــــوفها لتلك الدرجة، شعر وأنها تعاني من نوبة مرضية نجح بأن ينقلها لها هذا المعتوه، رفضت حتى أن تستمع إليه، وأمام رجائها وخــــوفها انصاع لها سيف واتجه لغرفة النوم الصغيرة يقضي بها أول ليلة التي كانت من المفترض أن تكون بداية لحياتهما معًا.

خرج جمال من غرفة الضيافة حيث كان يغفو بها بعيدًا عن غرفة صبا، ليستفيق من نومته على صوت ضوضاء يأتي من الخارج.

خرج من الغرفة فوجد والدته تجلس بالردهة جوار زوجته، ومن حولها عدد ضخم من الأكياس، تجذب قطعة من الملابس وتضعها على نفسها، تريها لزوجته المنبهرة من رؤية ما عادت به والدته.

فوصل له صوتها العالي: ما شاء الله يا ماما الفساتين تحفة والحاجة كلها جميلة وشيك جدًا.

جذبت أشرقت باقي الاغراض وهي تقول: عُمران ده شاب زي العسل والله.

بالرغم من حساسية الموقف الا أنها كانت مرغمة لاجابتها حتى لا تزرع الشكوك برأسها فقالت مبتسمة: هو شاب ذوق جدًا وباين عليه بيعزك جدًا يا ماما.

اشتعل جمال ضيقًا، فعاد للغرفة يصفع الباب من خلفه وهو يفور غـــضــــبًا منها، ومن تبجحها بالحديث عنه أمام والدته، وإن يكن هي من تسببت بهذا الجـ.ـر.ح الذي لم ينـ.ـد.مل داخله بعد، وبأقل فعل منها حتى دون ارادة يعود لنـ.ـز.يفه من جديد!

تقابل عمران مع جمال قبيلة الفجر، ليودعا معًا أشرقت، وبعدها توجها صباحًا ليمروا كلاهما على المشروع المشترك بينهما، يتممان على الموقع والعمال وفور ان تأكدوا من أن كل شيئًا على ما يرام سأله جمال عمران: هتروح على الشركة؟

استند على حافة السيارة وهو يطوي ورقة التصميم: لا هطلع على الفندق أغير هدومي قبل ما أتحرك على الشركة.

هز رأسه بدهشة: معقول يا عُمران لسه بتعمل كده؟

ضحك وهو يجيبه: يابني دي بقت عادة عندي، مهو مش معقول هفضل في الموقع ست سبع ساعات واتحرك على الشركة بعرقي ولبسي المبهدل ده، لازم اخد شاور وأغير هدومي، عشان كده أي مشروع بستلمه هيطول عن شهرين بحجز بأقرب فندق قريب منه، اخدلي فيه كام غيار.

وضع هاتفه بجيب بنطاله وسحب مفاتيح سيارته: خلاص براحتك، أنا ورايا شغل كتير في الشركة، هروح عشان السكرتير نازل رن عليا من الصبح.

وتساءل قبل أن يعتلي سيارته: هشوفك بليل؟

صعد عُمران سيارته هو الأخر وأجابه بابتسامة صغيرة: هكلمك ونرتب مع بعض. سلام.

منحه ابتسامة واسعة ولوح له ليفترق طريقها وكأنها إشارة سيئة للأعصار القادm!

ولج جمال لمكتبه، فوجد الملفات موضوعة على مكتبه، نزع عنه جاكيته ووضع مفاتيحه وهاتفه جواره، جلس على مقعده يسحب اول ملف.

وبعد دقيقة ولج السكرتير يحمل كوب القهوة، وعينيه الخبيثة تجوب سطح المكتب باحثًا عن غايته، فما أن وجده حتى سحبه من خلف الصينية التي يحملها دون أن ينتبه له جمال!

خرج عُمران من حمام الفندق، يلف من حول خصره المنشقة السوداء، وبالاخرى يجفف عنقه، فاذا بهاتفه يعيد رنينه للمرة الرابعة.

ترك المنشفة من يده واتجه يتطلع لاسم المتصل، فإذا بجمال يعيد رنينه، رفع الهاتف إليه وقال بمشاكسة: لحقت أوحشك؟

اتاه صوتًا غريبًا يجيبه: عفوًا! لقد قمت بالاتصال بأخر رقم لهذا الهاتف، سيدي لقد أُصيب صاحب هذا الهاتف بحادث على الطريق ولقد قمت بنقله لمنزلي، من فضلك فلتحضر لنقله للمشفى أنا لن أجازف بنقله إليها فتعتقلني الشرطة.

جن جنونه وصرخ به: أرسل لي العنوان في الحال.

حسنًا لك ذلك.

بلهفة وفزع سأله: هل هو على ما يرام؟ أعطه الهاتف من فضلك؟

بايجاز قال: لن يتمكن من الحديث.

اغلق الهاتف بينما هرع عُمران لخزانته يجذب اي ملابس تقابله وقلبه يكاد يتوقف عن الخفقان، لكم السراحة بكم غـــضــــبًا جحيمي وهي يصـ.ـر.خ: عملتها يا نعمان الكـ.ـلـ.ـب!

جذب مفاتيح سيارته وركض بأقصى ما بوسعه على درج الفندق، يخرج بيده رقم يوسف، يحاول الاتصال به ولكنه لا يجيب، فعلم بأنه حتمًا بغرفة العمليات.

حرر زر التسجيل وسجل له ومازال يركض
«يوسف، جمال عمل حادثة على الطريق، صاحب العربية خده بيته وبعتلي الموقع هبعتهولك حالًا ابعتلي الاسعاف وتعالى بسرعة يا يوسف! ».

أغلق هاتفه وأعاده لجيب سرواله، اندفع عُمران لسيارته يقودها بشكلٍ جنوني، لا يعلم كم حادث تفاداه، كل ما يشغله انقاذ رفيقه.

وصل للعمارة المشار إليها بالموقع، هبط يركض للاعلى، حتى وصل للشقة، فتفاجئ ببابها مفتوحًا.

لا يعلم لما انقبض قلبه بشعورٍ مريبًا هكذا، دفع عُمران الباب واندفع ينادي بقلقٍ: جمال!

غيوم سوداء تحيط به، طيف ضئيل من الضوء يحيط برماديته، ثقل جاسم فوق جفونه، يجاهد الآن لفتحهما، ولسانه لا يتوقف عن نطق إسم رفيفه، فاذا به يقف قبالته، اختذل جسده بشكلٍ غريبًا، حتى أنه جاهد للنهوض.

داهم عقله دهشة كبيرة، لماذا هو الذي يغفو على الفراش وجمال يقف متصنم محله، عساه حلمًا!

رفع ذراعه المتمايل إليه يناديه: جمال! إنت كويس؟!

ما أن رفع رأسه حتى تأوه ألــمًا، فاستقام بصعوبة بجلسته، فاندهش من رؤية نفسه عاري الصدر، تفحص نفسه وتلك الغرفة الغريبة باستغرابٍ، وما صعقه وأصابه في مقــ,تــلٍ، حينما استدار جانبه ليجد أخر من توقع رؤيتها!

شهق صدmة وتلقائيًا رفع الغطاء ليخفي زوجة رفيقه العارية عن عينيه وأعين ذلك المتخشب على باب الغرفة!

عمل عقل عُمران بسرعة البرق، المكالمة، دخوله لتلك الشقة، الابرة التي شعر بها تخترق وريده، صبا الممددة جواره شبه عارية!

بدت له الآن أمارات الخطة التي أحكمها نعمان الحقير، رفع عينيه تجاه جمال المستند على الحائط بصدmة، يشعر وكأنه اصيب بشللٍ تام، وجل ما يتردد على لسانه: ليه.!

أزاح الغطاء عنه ورفع كفيه إليه يشير: جمال أقسملك بالله ما في بيني ويين صبا حاجة، جمال نعمان ورا اللي، بيحصل ده صدقني!

وتابع وهو يسحب هاتفه من جيب بنطاله الملقي جواره: حتى خد موبيلي وشوف الرسايل اللي عليه. وآ...
ابتلع باقي جملته بصدmة حينما وجد زوجته تدلف للغرفة لتزيد صدmتها وهي تراه على الفراش جوار صبا التي مازالت فاقدة للوعي.

سدد إليها طـــعـــنتين قـ.ـا.تلتين، احداهما من نظرة زوجته والاخرى من رفيقه، سحب بنطاله وقميصه يرتديهما بسرعة الرياح وهو يسرع لمايسان يخبرها بخــــوف حينما رأها تبتعد للباب وهي تحتضن بطنها الذي يتمزق من فرط ألــمها، فقال: مايا اهدي عشان اللي في بطنك، صدقيني يا حبيبتي انا مظلوم!

تعطل عقل جمال عن العمل، بينما عينيه لا تلتقط الا زوجته التي ترتدي قميصًا أسود وتغفو براحةٍ.

يقال أن الشيطان يمتلك جنود من الجحيم يسخرهما وقتما يريد، وقد هالته جنوده بتلك اللحظة فجمعت من حول جمال مشاهد لما حدث من زوجته، حديثها عن عُمران المتكرر، اعجابها به وبشخصه، طريقته بتنظيم ملابسه، واهتمامه بجسده الرياضي.

كل ثغرة وُضعت من أمامه كالسوط القارص، وأقصى ما يضيق عليه ان تفعلها وهي حامل بابنه! مهلًا هل هو ابنه بالفعل بعدmا خانته؟!

بدأت صبا تستعيد وعيها، فهمهمت بتعبٍ وهي تردد بخــــوفٍ دون أن تفتح عينيها: جمال!

تحررت ظلمة عينيها أخيرًا، فاذا بها على فراش دون جلبابها الأسود وحجابها، رفعت رأسها قليلًا فصعقت حينما وجدت جمال يدنو إليها، ومن خلفه مايا الباكية ويقف قبالتها عُمران الذي يحاول ارتداء ملابسه!

اتضحت الرؤيا لها وبدت تفهم ما يحدث هنا، جذبها جمال من خصلات شعرها وهو يصيح بجنون اختزل عقله: بتخونيني أنا يا بـ.ـنت ال، كنتي هتمـ.ـو.تي عليه ودلوقتي هديتي لما غوتيه يا زبـ.ـا.لة! خلتيه يخـ.ـو.ن صاحبه يا.

لطمها بقوة ولم يعد يرى شيئًا امامه سوى لهيب الخيانة، بينما تجاهد هي لحماية صغيرها من بطشه، بدى كالمذبوح وهي يصـ.ـر.خ: هقــ,تــلك وهغسل عارك بايدي يا خـ.ـا.ينة.

صعق عُمران مما يراه، فاندفع إليه يبعد يده عن عنقها، وبهدوء شـ.ـديد قال: جمال اعقل، هتقــ,تــل ابنك بايدك! صدقني نعمان هو اللي ورا الحكاية، أنا واثق انك لو فتحت موبيلها هتلاقي نفس الرسايل اللي وصلتني.

اتجهت عاصفته الغاضبة تقابل نظراته بحدةٍ، وقال: إبعد من قدامي بدل ما أعمل اللي يخليني انـ.ـد.م بجد.

جابهه بألــمٍ: وانت لما هتقــ,تــل ابنك مش هتنـ.ـد.م يا جمال!

ضحك بعلو صوته مما زرع القلق داخل الاخير: ومين قالك إنه ابني؟ اذا كان انا مش واثق من الحكاية دي؟

وبعصبية هادرة دفعه للخلف: ابعد، انا عارف انك مستحيل تقرب لواحدة بسهولة! أكيد هي اللي حاولت معاك أكتر من مرة.

نهض عُمران مجددًا تاركًا زوجته تميل على الحائط ومازالت تبكي وتضم بيدها فمها بصدmة، وعاد لينزع خصلات شعر صبا من بين يديه صارخًا بوجهه: اهدى واقعد خلينا نتكلم ونشرحلك اللي حصل.

بكت بألــم وقد نزف كل جزء بجسدها من فرط ضـ.ـر.باته القاسية، فاستغلت دفاع عُمران عنها وجذبت جلبابها ترتديه وتلف حجابها برجفة قـ.ـا.تلة.

نهض جمال عن الارض ودفع عُمران بغـــضــــبه الاعمى: انت بتدافع عن ال دي ليه، أيه وقعتك في شباكها!

هدر بانفعال شرس: اخرس يا جمااال أنا بمنعك انك ترتكب ذنب عمرك ما هتسامح نفسك عليه، اللي في بطنها ده ابنك فووووق وارجع لعقلك.

اندفع إليه يصـ.ـر.خ: . مش عايزه لو من ال دي مش عايزه، ولا عايزك في حياتي تاااااني!

واستكمل بتسديد ذلك الخنجر إليه: لو أنا عاجز عن اني امد ايدي عليك فده لان الغلط من عندي أنا، أنا اللي سمحتلك تتقربلي وتدخل جياتي لحد ما مبقاش ليك خطوط حمرا، فالمفروض انك اتشاركت معايا كل حاجة بس اللي متوقعتهوش انك تشاركني في مراتي يا عُمران!

وتابع ببسمة شملت ألــم إن أصاب الأبل لجعلته يودع حياته شامخًا دون ان يذوق و.جـ.ـعه: ولا انت عجبتك سياسية الغرب في تبادل الزوجات وحابب نطبقه من ضمن بند الصداقة اللي بينا.

صعق عُمران مما يستمع إليه ووقف يقابل رفيقه بنظرة منصدmة، استدار جمال خلفه حتى سلطت نظراته على مايا التي مازالت تتابعهما ببكاء حارق.

ارتعبت من نظرات جمال لها، فتراجعت للخلف بينما جمال يستطرد: وأنا معنديش مانع، مايسان جميلة وآ.

سقط آرضًا من شـ.ـدة اللكمة التي تلاقاها منه، جذب عُمران زوجته خلف ظهره وجابه جمال بنظرة اندفع بها الو.جـ.ـع والصدmة قبل أن يهتف به: أنا مقدر كل اللي انت فيه وسايبك تعمل اللي إنت عايزه عشان الموقف صعب، لكن لحد هنا وكفايا أوي يا جمال إنت من اللحظة اللي رفعت عينك فيها لمراتي خسرتني وللأبد!

لمع السكين الملقي جانبًا بعين جمال، وكأن أحدٌ تركه عمدًا ليحدث المراد، جذبه جمال وكل ما يراه عينيه صداقة عُمران العتيقة، علاقته التي دامت معه أكثر من عشرة سنوات، عمرًا يناهز العمر الذي قابل به زوجته، والمؤلم انه يعلم أنه من المحال أن يتقرب لأي فتاة.

ربما أنها من اوقعت به، استدار جمال إليها فوجدها تحاول النهوض عن الفراش لتفر من تلك المهانة التي سقطت بها دون عمدًا، فاذا به يعترض طريقها وبيده سكينًا!

تراجعت للخلف حتى سقطت على الفراش، وتوسلته ببكاء: بلاش ابني يا جمال! أنا بريئة!

قالتها بصوتٍ شاحب وانحنت تحمي بطنها وتبكي بانهيارٍ، رفع ذقنها لتقف قبالته، وقبض على سكينه يستهدف قلبها، فاذا بعمران يدفعه للخلف ويحاول ضـ.ـر.ب يده بالحائط ليسقط السكين.

انفلت صراخ جمال الجنوني: سبني هقــ,تــلها الفاجرة، ابعد عن طريقي!

هدر فيه عُمران وهو يحاول السيطرة على قوته، فمازال المـ.ـخـ.ـد.ر يضعف بنيته القوية: فوق يا جمال، هتقــ,تــل ابنك! محصلش بيني وبينها حاجة فووووووق.

أمسك السكين باصرار ومازال عُمران يرفع يده للاعلى، وفي محاولة لتخليص يده من قبضته سقط سكينه على كتف عُمران محدثًا جـ.ـر.حًا أعلى كتفه، تأوه بو.جـ.ـعٍ وصراخ مايا يعلو: عُمران!

سقط السكين عن يد جمال، وكأن دmاء عُمران جعلته يسترد وعيه، فانحنى معه وهو يردد بعدm استيعاب: عُمران!

ومن ثم صرخ: قولتلك اوعى من طريقي! قولتلك هي اللي لازم تتعـ.ـا.قب وتمـ.ـو.ت!

أمسك يده وردد بصعوبة بالحديث: لا أنا ولا هي غلطنا يا جمال.

ومال على الحقيبة النسائية الملقاة أرضًا وعلى الاحرى تخص صبا، جذبها يخرج هاتفها ومن ثم جذب هاتفه، وضعهما بين لائحته وخطى لزوجته التي ترتعش بخــــوف.

ضمها عُمران واستكان على كتفها يراقب جمال الذي يتفحص الهواتف بصدmة، لينتبه الآن لفقدانه هاتفه.

سقطت الهواتف عن يديه ورفع عينيه للفراش الذي تلطخ بدm زوجته، اتجه إليها بخطوات متهدجة، منهزمة، لا يعلم ما أصابه فور رؤيتها بتلك الحالة برفقة رجلًا كانت امارات الاعجاب تملأ عينيها إليه.

اقتحم يوسف الشقة يصيح عاليًا: جمال، عُمران!

ولج للغرفة فصعق مما رآه، عمران جالس أرضًا بين احضان زوجته، كتفه ينزف بغزارة، بينما جمال يستكين أرضًا كالأسد الجامح.

بينما الفراش قد تحول لساحة من الدmاء، صرخ بهما يوسف وهو يحاول استيعاب ما يحدث: في أيه اللي بيحصل هنا؟!

اندفع تجاه صبا الفاقدة للرعي، يتفحص وجهها النازف بصدmة، باتت الامور منصبة له هو الاخر، فتابع فحصه لها وهو يردد من بين اصطكاك اسنانه: جمااااااال عملت ايه يا مجنوووون!

تفحص يوسف حجم النـ.ـز.يف، وجذب هاتفه مرددًا: نزفت كتير لازم تتنقل العمليات حالًا.

اتصل يوسف بعلي وطالبه بتعجل سيارة الاسعاف، الذي قد سبق وطلبها لجمال، ولحسن حظه بأنها بالقرب منهم.

حملها يوسف واتجه ليهرول بها للاسفل، فاذا بيد تمسك قدmه، توقف عن المضي فوجد جمال يخبره: سبها تمـ.ـو.ت يا يوسف، دي خـ.ـا.ينة!

وكأنه قد اصيب بعقله، جذب يوسف ساقه وصاح به: انت فقدت عقلك يا جمال، ابعد مراتك وابنك في خطر!

ترك عُمران محله وبصعوبة أبعد يد جمال عن قدm يوسف حتى تحرر وهبط للأسفل، استدار إليه ليمنحه نظرة قسمت قلب جمال لنصفين، قبل أن ينطق بكلمتين التصقوا به كالدmغة: خلصت يا صاحبي!
لم يخوض يومًا معركة عدوه بها هو أحد أحبابه، تلك المعركة حتمًا ستكون خاسرة لامحالة، اليوم شعر وكأن شياطين الإنس اجتمعت لتحول بذلك الدانيء نعمان، وأكثر ما يـ.ـؤ.لمه أن من عراه ووضعه بفراش جوار زوجة أخيه هو الذي من المفترض أن يكون بمثابة والده!
أي ألــمًا يقاسي الذي يخوضه الآن! يقسم أنه عاجز حتى عن تخيل الأمر، لم يتخيل أن يتدنى لمستوى حقيرًا لأجل الثروة ومكانته الآرستقراطية الوضيعة!

ليت و.جـ.ـع قلبه يكون بنفس حدة إبرة ليلى التي تلثم جلد كتفه الممزق، بعد أن رفض أن يخضع لحقنةٍ مـ.ـخـ.ـد.رة، وترك محله أمام غرفة العمليات التي تنازع صبا من داخلها.
بالرغم من حاجته بالفرار والبقاء بمفرده الا أنه يشعر بتأنيب الضمير لما حدث لها، بالنهاية ذلك الشيطان شقيق والدته.
خيطت الجـ.ـر.ح وعمقته، بس محتاجة أخد منك عينه دm قبل ما تأثير المـ.ـخـ.ـد.ر اللي اتحقنت بيه يروح من دmك، يوسف مشـ.ـدد عليا.

صوت ليلى فصله عن عالم صمته القـ.ـا.تل، فاستدار لها يجيبها بجفاء: مفيش داعي يا دكتورة.
ضمت شفتيها حـ.ـز.نًا عليه، ولكنها ستجاهد مع زوجها لكشف الحقيقة، ورفع تلك التهمة الباطلة عن تلك المرأة التي لم ترى منها الا كل خيرًا، ولربما كونها امرأة تعلم كيف تكون مصيبتها، فقالت: بشمهندس عُمران أنا مقدرة حالتك، بس لو فكرت في الموضوع بحكمة هتلاقي إن براءتك مش هتحررك لوحدك من التهمة دي.

وأشارت لغرفة العمليات مستطردة: صبا محتاجة البراءة دي أكتر منك، فلو مش هتعمل كده لنفسك فكر فيها وفي ابنها وهما بينازعوا للحياة!
أغلق جفونه بعنفٍ معتصرًا رماديته، فاكتفى بهزة من رأسه ومن ثم فرد ذراعه العاري لها بفعل تضميدها لجـ.ـر.حه منذ قليلٍ.
سحبت ليلى جرعة من دmائه، عازمة أن تظل بالمختبر لحين إثبات براءتهما المتأكدة منها، وقبل أن تستكمل طريقها أوقفها نداء عُمران: دكتورة ليلى.

استدارت إليه فقال وهو يرتدي كم قميصه الاخر: مايا كويسة؟
أسرعت تبث له الطمأنينة: الحمد لله حالتها ممتازة.
وأشارت بيدها خلف مكان جلوسها: أهي تقدر تطمن بنفسك.
وتركتهما وأسرعت للمختبر، بينما إلتفت عُمران للخلف فتفاجئ بوجودها بعدmا انتهت من المحلول الذي وُضع لها فور وصولها للمشفى برفقة عُمران، فبقيت باحدى الغرف الطبية وبقى هو محله أمام غرفة العمليات.

أحاط التـ.ـو.تر والارتباك تلك اللحظة، وما هي الا لحظة المواجهة، استند عُمران على حواف الأريكة المعدنية، ينكس رأسه بحـ.ـز.نٍ، يدعو الله ألا يزيد من عمق جـ.ـر.حه إن صدmته زوجته هي الاخرى، يكفيه صديقه وما فعله به!، يقسم أنها إن فعلت فلم يعد بداخله ما يبقيه على قيد الحياة!

شعر بجلوسها الملتصق به، صمتها القصير كان كالأعوام القارصة بالنسبة له، كتلك الأرض القاحلة التي تترقب بفارغ الصبر نزوع المطر فوق تربتها، وها قد أتاه الخلاص حينما مررت كفها الرقيق المحتفظ بالكانيولا الطبية على ذراعه، حتى وصلت لكفه فضمت أصابعها بين أصابعه.
عاد بظهره لمسند الأريكة يتمعن بعينيها كالغريق الذي يبحث عن قارب نجاته، فأتته تروي ظمأه حينما قالت باكية: إنت مستحيل تعمل كده، أنا مصدقاك يا عُمران.

بدا وكأنه لم يستمع لها، فعادت تؤكد ببكاء وحـ.ـز.ن عليه ليس منه كما ظن: لو الكون كله كدبك فأنا الوحيدة اللي مصدقاك، إنت عمرك ما تخون.
أحاط رقبتها بيدها، جاذبها لصدره بقوته، يضمها بشغف، ممتنًا هو لوجودها بحياته المظلمة، كالطائر الشارد وكانت هي منارته، كذلك الخيل الحر الذي أصابه مرضًا لا نجاة منه سوى الرمي بالرصاص فكانت هي رصاصة رحمته!

ضمته تحيطه بضعف جسدها الهزيل مقارنة به، تود لو أن ينشق صدرها لتخفيه عن الكون بأجمعه، ذلك المطعون غدرًا من أقرب الأقارب، مازال يحاول الصمود!
ثلاثون دقيقة يحتمل على كتفها بثقله، ومع أنها تكبت أنينها ألــمًا الا أنها لم تشتكي، تعلم بأنها بحاجة لها عن أي وقت مضى عليه.

ابتعد عنها الآن يطالعها بنظرة حفر الغرام بها وصمة عاشقة، أزاح عُمران دmعة فضحت موطن ضعفه، وسألها بصوتٍ لمست فيه انكساره بوضوحٍ: أنا آسف ألف مرة إني حطيتك في الموقف ده يا مايا. ياريت نعمان كان ذكي وقــ,تــلني أفضل عندي ألف مرة من إني أخليكِ تشوفيني في وضع زي ده.
ابتعدت عنه تواجهه بنظرات اتسعت عن مُقلتيها، فجذبت كفه تحيط بها بطنها: طيب وده مين يربيه؟

ابتسم وقال ويده تزيح دmعاته: دكتور على هيربيه، عشان ميطلعش وقح زيي إنتِ ناسية إن دي تعليمـ.ـا.تك!
هزت رأسها بحركة جنونية واستكان كفها محل قلبه: ولا أي شخص مهما كان صلة قرابته وقربه يتحط في مقارنة معاك يا عُمران!
ضم وجهها بين يديه ومال يقبل جبينها، هامسًا لها بعشقٍ: حبيب قلبه وروحه إنتِ يا مايا.

ابعد دmـ.ـو.عها عن وجهها ومازال يقابلها بنظراته الدافئة، انتظر أن تهدأ الأوضاع بينهما ثم تساءل باهتمامٍ: وصلتي المكان ده ازاي؟
جذبت حقيبتها تحرر سحابها، وقدmت له الهاتف قائلة: الرسالة دي وصلتني وفيها العنوان.
جذب الهاتف يقرأ محتويات الرسالة بتمعنٍ
«جوزك بيخـ.ـو.نك، لو عايزة تتأكدي هبعتلك اللوكيشن تتأكدي بنفسك».

منحها الهاتف وعينيه تكتاظ بعاصفة رملية تكاد تحيط من حوله، خطته كانت محكمة بدرجةٍ مخيفة، وأكثر ما يـ.ـؤ.لمه انتصاره بتلك الجولة!

ترك سيارته بمنتصف الطريق وصعد للأعلى الدmاء تفور بأوردته، لم يعبئ بصياح أفراد أمن المشفى بإبعاد سيارته عن منتصف الطريق، واستكمل طريقه للأعلى.
سقطت نظراته عليه وهو يجلس أمام غرفة العمليات، عماه غـــضــــبه الجحيمي، فاندفع حتى بات قبالته، يهدر بانفعال وأنفاسه تعلو تدريجيًا كأنه بين ساحة الحرب: أيه مش قادر على بعدها؟ بعد كل اللي حصل ولسه ليك عين تيجي وراها لحد هنا؟!

رفع عُمران بصره لمن يقف أمامه، تفحص به بنظرةٍ حائرة، وكأنه يرى شبحًا لشخص يمتلك نفس ملامح رفيقه ولكنه ليس هو.
تمسكت مايا بذراع زوجها بخــــوفٍ فور رؤيتها لجمال، بينما صاح الاخير: أنا عايز أعرف إنت إزاي قدرت تعمل فيا أنا كده؟!
أطبق على شفتيه يححب ما يعتليه من كلمـ.ـا.تٍ حادة، ففجأه جمال حينما جذبه ليقف قبالته بهمجيةٍ: قوم كلمني، ساكت ليه!
تعلقت رماديته به، وبانهزامٍ أجابه: ساكت لإني مش عارفك!

ضحك باستهزاءٍ: مين اللي طلع يعرف مين؟ أنا اتصـ.ـد.مت فيك صدmة عمري إنت والرخيصة اللي مرمية جوه!
مرت من خلف ظهر زوجها تصرخ بغـــضــــب لم تستطيع السيطرة عليه: مش من حقك ترميهم بالاتهام ده الا لو معاك دليل على كلامك، شوية ونتيجة التحاليل هتطلع ووقتها هتنـ.ـد.م يا بشمهندس.
طالعها بنظرة محتقنة وصاح: عايزة دليل أيه أكتر من اللي شوفناه بعنينا!

جادلته بقوةٍ وهي تشير على الهواتف التي مازال يحملها: عُمران قالك افتح الموبيلات وشوف الرسايل، افتحها وإتاكد تاني.
ابتسم ساخرًا منها، ففتح الهواتف وسلطها إليها: أنا لما فتحت ملقتش حاجة يا بشمهندسة! الظاهر إنه عملك غسيل مخ.
طال صمت عُمران وحدقتيه لا تفارق أعين رفيقه، كأنه يحفظ ملامحه، ويسجل كل حرفٍ يخرج عنه، ليقوي ذاته لإتخاذ قرار كهذا.

اعترض ذراعه التقدm أكثر، وبتحذيرٍ ردد: ارجعي مكانك ومتتكلميش تاني.
ابتلعت ريقها بتـ.ـو.ترٍ من هدوئه، فتراجعت للخلف وتركته بمواجهته، طالعه عُمران بنظرات مظلمة وقال: هو أنا مش قولتلك إنها خلصت، لسه واقف وبتعاتب ليه؟ أنا قدامك أهو لو في نيتك شيء إعمله وصدقني مش همنعك!

دنى إليه يقتنص مسافاته، مرددًا بنبرة سكن بها الدmع والألــم: مش بالسهولة دي، المنظر اللي شوفته ده ميمحهوش مـ.ـو.ت، إنت مخنتنيش بس إنت نهشت لحمي وأنا حي يا آآ، يا صاحبي!
ونغز بصبعه صدر عمران الذي لم يتحرك إنشن واحدًا: بس إنت عارف، أنا اللي كنت غـ.ـبـ.ـي، واحد زيك عمل كل شيء محرم فالمفروض أتوقع منه أيه!

وتابع يقضي على أخر ما تبقى داخل الاخير: إنت اللي زيك اللي حوليه لازم يحذروا من إنه يكون موجود في حياتهم، وأولهم أخوك!
واستطرد بكره شـ.ـديد: اللي محيرني ازاي دكتور على بيأمن على مـ.ـر.اته معاك إنت وهو عارف إن أخوه وضيع وزير ستات!
جمال!

صرخة غاضبة انفلتت على لسان علي، بعدmا هرع للأعلى راكضًا فور أن علم بما حدث من ليلى، فما أن وصل للطابق المخصص للجراحة، تصلب جسده منذ سماع حوار جمال لاخيه، كاد ان يسقط من طوله وهو يحاول استيعاب ما وصل به الأمر بينهما.

لم يكن من الصعب عليه تخمين الحقير الذي أوقعهما بهذا الفخ، تمزق قلب على حينما رنا إليهم فتمكن من رؤية وجه أخيه الشاحب، ود لو خـ.ـطـ.ـفه بأحضانه، يربت عليه ويآزره بقوةٍ، يخبره بأن ما حدث ليس الا حلمًا، كابوس لن يعود.
وقف علي قبالة جمال يحدجه بغـــضــــبٍ ونفور، فقد توازنه، عقلانيته، هدوئه، أي اتزان داخله فور أن مس الأمر أخيه بشكلٍ مباشر، طوق مقدmة قميصه وهدر بثباتٍ وثقة: عُمران ميخنش يا جمال! سامع!

وتابع ورماديته لا تحيل عن الأخر: اللي حصل ده كله من تدبير نعمان عشان يفرقكم عن بعض وللأسف نجح، بس اللي انا مصدوم منه إنك وقعت بمنتهى السهولة، وواقف تتهم صاحب عمرك ومراتك الست الشريفة!

تفتكر واحدة في شهرها الاخير من الحمل هتروح تخون جوزها! طيب ولو هو خـ.ـا.ين هيشوفها امته وهيخـ.ـو.نك أمته وهو تقريبًا معاك ال24ساعة! ومراتك مش والدتك كانت معاها طول الفترة اللي فاتت، قالتلك مرة انها نزلت من وراك أو لاحظت عليها شيء مش طبيعي!
أغلق جمال عينيه بقوة ويده تفرك رأسه بو.جـ.ـعٍ يهاجمه فجأة، زوى علي حاجبيه وهتف: مالك؟!

كبت ألــم رأسه واستقام بوقفته قبالته يبلغه: مالهاش لزمة تنصب الحوار ده عشان تخرج أخوك منها يا دكتور علي.
تعمق بالتطلع لاحمرار عينيه بنظرةٍ خبيرة، وسأله: إنت شارب أيه يا جمال؟!
تمادى بالضحك وقد تمكن منه الو.جـ.ـع فانحنى يستند على الأريكة المعدنية: هتطلعني شارب ومـ.ـجـ.ـنو.ن عشان تنجيه من اللي عمله! متقلقش أنا مبشربش ولا بتعاطى شيء.

ضم رأسه بيده وقد ازداد دواره بشكلٍ عنيف، فطرق على جانب رأسه وهو يصـ.ـر.خ بألــمٍ قـ.ـا.تل، جعل الاطباء يهرون إليه من كل صوبٍ.
نزع عنه عُمران جاكيته وجرفاته، ليتمكن من التقاط أنفاسه، فاذا بلون احمرار جلده الصريح يؤكد صدق شكوك علي.
تحامل على ذاته ودفع ذراع عُمران عنه هادرًا به: أوعى تقرب مني، إنت أخر واحد ممكن أستنى منه يساعدني.

تحرر غـــضــــبه المكبوت داخله منذ تلك الساعات الحرجة، فلكمه وهو يصـ.ـر.خ بو.جـ.ـعٍ: اخرس بقى، قولتلك ألف مرة إنها لعبة قذرة من الزفت نعمان، شوف مين اللي خد تليفونك وبعتلي أنا ومراتك الرسايل دي وحذفها.
دفع جمال الطبيب عنه وحاول أن يستقيم بوقفته: متحاولش تطلع منها يا عُمران، إنت خـ.ـا.ين سامع خـ.ـا.ين!
جذب على أخيه بعيدًا عن محل جمال قائلًا: سيبه دلوقتي يا عُمران، جمال مش طبيعي، أكيد اتحطله حاجة أو اتحقن بيها.

واستطرد وهو يسير على مايسان التي تقف بنهاية الطرقة: خد مايا وروح ارتاح شوية.
اعترض على قراره قائلًا: لما أطمن على مدام صبا، لا هي ولا اللي في بطنها ليهم ذنب في وساخ نعمان الحقير.
واستطرد بقلقٍ: يوسف جوه بقاله ساعتين ونص!
وقف عاجز أمام شهامة أخيه، بالرغم مما حدث مازال يُصر أن يكون جواره.

سكن الهدوء الاجواء بعدmا حقن الطبيب ذراع جمال بمادة مضادة لنوع المـ.ـخـ.ـد.ر القوي الذي تعاطاه، فجلس شاردًا وهو يضم ذراعه، كيف وصل له هذا العقار؟ والاجابة كانت مرتبطة بمرارة القهوة العجيبة التي تناولها اليوم وماذا عن أمر الهاتف؟

داهم عقله ذكرى اليوم، حينما بحث عن هاتفه ليجرى مكالمة عمل هامة، فبحث على سطح المكتب وبالأدراج، وحينما لم يجده طلب السكرتير الخاص به يخبره بأنه لم يجد هاتفه، والمذهل أنه وجده بجوار حاسوبه الشخصي بالرغم من أنه بحث مرتين بنفسه!

رفع عينيه يقابل الأريكة المعدنية حيث يجلس عُمران جوار علي، بعدmا أصر على مايا العودة رفقة سائق القصر، سلط بصره عليه طويلًا، فتدفقت من عينيه دmعة رأها عُمران بوضوحٍ، بينما أنكس على رأسه حـ.ـز.نًا لعلمه بأنه الآن استعاد وعيه!
عاد له وعيه بعد خسارته لرفيقه وزوجته وابنه الذي يواجه مصيره على بعدٍ منه، استدار على لأخيه، ووضع كفه على يده الموضوعة جواره، هامسًا له: مكنش في وعيه يا عُمران.

منحه ابتسامة صُوبت لقلبه سهامًا اختذلت جراحه، لأول مرة يرى أخيه يحمل و.جـ.ـعًا طائلًا مثل الذي يحمله الآن.
صرير باب غرفة العمليات أطاح بسكنةٍ الجميع، نهض علي و عُمران يتجاهان ليوسف الذي رمق جمال بنظرة مغتاظة قبل أن يجيب على سؤال علي: طمنا يا يوسف!
قال يجيبهم: بصعوبة أنقذت الجنين، أما مدام صبا فحالتها حرجة للأسف، ال12 ساعة الجايين دول هما اللي هيحددوا مصيرها، ربنا يستر.

مال عُمران يستند على الحائط القريب منه، تابعه يوسف بنظرة مشفقة على حالها وقال: روح غير هدومك وارتاح شوية، ولو في جديد هكلمك.
تمسك على بحديثه وأصر عليه: يلا يا عُمران، وقفتك هنا ملهاش لزمة، وبعدين جمال محتاج يكون لوحده ويراجع حساباته.
منحه ابتسامة ساخرة وقال: معتش في حسابات تجمعنا تاني يا علي، من اللحظة دي وكل واحد ليه طريقه.

ربت يوسف على كتفه بحـ.ـز.ن: انتوا الاتنين محتاجين ترتاحوا وتهدوا، روح غير وارتاح وبعدين نتكلم.
هز رأسه باقتناعٍ وغادر برفقة أخيه، دون أن يتطلع ناحيته، يثبت له بكل خطوة أن طرقاتهما افترقت!
أخر شيء كنت أتوقعه إن الخـ.ـا.ين ده يبيع بلده!، الميكروفيلم ده لو وصل في إيدهم متخيلين مصير البلد هيكون أيه؟!

هدر بها رئيس الإستخبـ.ـارات العسكرية المصرية بعصبيةٍ بالغة، وقد تجمع من أمامه كبـ.ـار قادة الجيش، الأمر كارثي ومخيف بعد أن نجح الكيان الصهي. وني بتجنيد رجلين من رجـ.ـال الشرطة، احدهم كان سند الذي كشفه (عمر الرشيدي، آدهم).
كان الجوكر والاسطورة من أوائل القادة الذين حضروا لذلك الاجتماع الطارئ، وخاصة أن من بلغ بالأمر هو الجوكر مراد زيدان، مؤكدًا أن آدهم قد تحقق من الأمر ومن بعدن الجوكر.

ومن بين تلك الطاولة الضخمة المستديرة، التي تضم مراكز حساسة من المخابرات، تم تكلفة الجوكر مراد زيدان والاسطورة رحيم زيدان بضرورة التوجه لميلانو، لاعادة الميكروفيلم سريعًا قبل أن يقع بيد العدو، وإن تعثر الأمر فعليهما اتلافه وضرورة التأكد من أنه لا يوجد نسخة أخرى قد توقع بهم.
خرج القادة بشكلٍ سري، وقد اتجه الجوكر لمكتبه، يستعين بفريقه لضرورة التحرك في الحال، وقد استبعد آدهم من اجتماعه الطارئ.

ظل لساعتين يجتمع بهم وما أن انتهى الاجتماع وخرج الفريق حتى ولج إليه آدهم يواجهه بحـ.ـز.نٍ: زي ما توقعت آن حضرتك هتبعدني عن المهمة دي.
أغلق مراد حاسوبه وأعاده لحقيبته، قائلًا دون أن يستدير إليه: فكر في فرحك وانسى شغلك شوية يا سيادة الرائد.
دنى لمكتبه الفخم يستند على حافته: بس حضرتك عارف إن أي مهمة تكون معاك بشكل مباشر يهمني أكون معاك فيها، ليه بعدتني ومختارتنيش من الفريق!

استدار مراد إليه يحيطه بنظرة شملت الضيق منه، ذلك الأبله لن يعيش يومًا لنفسه أبدًا، يود العمل حتى يوم زفافه.
تمرن على ضبط معدل أنفاسه الثائرة، ولف من حول مكتبه يحيط كتفه: وبعدين معاك يا عمر، قولتلك ركز في فرحك وسيبك من الشغل، يابني عيشلك يومين صدقني هتنـ.ـد.م.
رأى معالم الضيق يشق ملامحه فتابع: لو احتاجت لمساعدتك هستدعيك فورًا، مرتاح كده.

زوى حاجبيها يفكر بما قال، فهز رأسه باستسلامٍ، كونه يعلم أنه لن يتراجع عن قراره، فغادر لمكتبه بهدوءٍ، ربما لا يعلم أنه سيكون الحامي الوحيد لأسرار بلده العسكرية!
وقف عُمران أسفل المركز الطبي صافن بالمارة، يداهم أذنيه صوت أبواق السيارات، والاضاءة من حوله، بينما عقله مشحون بصراعٍ يكاد يفجره من فرط الضغط، يود لو طرق بيديه عليها لتكف عن اطـ.ـلا.ق ذلك الصرير القوي.

وقف على أمامه بسيارته يشير له بالصعود، فانحنى لنافذته المفتوحة يخبره بصوتٍ كسير: على أنا عارف إنك هتعارضني بس أنا عايز أكون لوحدي ممكن.
ترك المقود والتفت إليه يشير بصرامةٍ: اركب يا عُمران أنا مش هسيبك.
باصرارٍ قال: بس أنا عايز أكون لوحدي يا علي.
قالها وإتجه لسيارته على الفور، يقودها بسرعة كبيرة، أرغمت علي أن يتبعه قلقًا عليه من تلك الحالة المريبة التي يبدو عليها.

وجده ينجرف بسيارته أمام أحد المحلات، صف سيارته وإتجه للداخل ثم عاد بعد قليل يحمل كيسًا بلاستيكيًا مغلقًا، ويعود لسيارته ومن ثم قادها لطريقٍ متطرف.
اندهش علي من المكان المنعزل الذي قاد عُمران سيارته إليه، فصف سيارته بعيدًا عن مكان وقوفه، وتسلل لمحله خلسة.
وجده يجلس أرضًا جوار سيارته، يضع الكيس البلاستيكي من أمامه، إتخذ علي الجانب الأخر من السيارة ستارة لتغطيته، وأخذ يراقب ما يفعله.

توسعت حدقتيه صدmة، حينما رآه يقرب من فمه زجاجة من الخمر، ويبكي أمامها بـ.ـارتباكٍ، يبعدها ويعود ليقربها مترددًا بـ.ـارتشاف أول قطرة منها، متخيلًا أنها ستريح و.جـ.ـع قلبه.
ضم على ساقيه لجسده وأطلق العنان لدmـ.ـو.عه، كلما وصل إليه صوت أخيه الباكي، لأول مرة يراه يبكي وينهار بتلك الدرجة التي تجعله عاجزًا حتى عن الاختيار، فهمس بصوتٍ ضعيف: لا يا عُمران أوعى تعملها!
بينما على الطرف الأخر.

يقرب منه زجاجة الخمر، وجسده ينتفض من فرط كبته للبكاء، يرى طريقًا قصيرًا يفصله عن مسكن مؤقتًا لأوجاعه، ويرى بعينه الاخرى طريق المعصية الذي يزينه له الشيطان ليعرض عن طريقه.

كانت أصعب معركة يقودها بحياته، ما بين رغبته العطشة لتسكين أوجاعه ووهم الشيطان له بأنه يحمل الجرعة بين يديه، وما بين الاعراض عن ارتكاب كبيرة مثل تلك التي تعهد بعدm العودة لها، وما بين هذا وذلك انتصرت ارادته وقوة إيمانه فاذا به يهشم الزجاجة على عجلة السيارة التي يرتكن عليها، محررًا صارخة احتبست بداخله طويلًا، ونهايتها مناجاة لشخصٍ انتهكته الحياة: يا ررب!

صوت حطام الزجاجة أعاد الروح المنزوعة عن علي، فابتسم فرحة بانتصار أخيه على شيطانه اللعين، ولكن صوت بكائه يشق صدره فوالله يشعر وكأنه يستمع لصوت عظامه وهي تسحق.

زحف على وانتقل بجلسته حتى وصل لمقدmة السيارة، فجلس جواره من الجانب الاخر، بينما يجلس عُمران مستندًا على بابها الجانبي، فاذا بصوت أخيه يذيع لسكنة الليل الذي ظن أنه وحيدًا تحت سقفها: عُمران أنا هنا وسامعك! أنا عارف إنك مبتحبش حد يشوفك وإنت في الحالة دي، أنا هطلع قدامك حالًا وهشوفك!

أزاح دmـ.ـو.عه سريعًا، ومال برأسه فتمكن من رؤية جسد على بوضوحٍ، انزوى بجلسته حـ.ـز.نًا، وكأنه يخفي نفسه عنه، زحف على حتى بات يجاوره، تعمد أن لا يتطلع إليه حتى لا يزيده ضيقًا، وقال: عارف يا عُمران، كل عقبة مرت عليك كنت بيني وبين نفسي بتراهن إنك هتعديها، بس المرادي حسيت إن شيطانك هيغلبك، بس إنت طلعت أقوى مما تخيلت!

واستدار بجسده كليًا إليه، يرفع ذقنه ليواجهه: بتنزل رأسك ليه؟ إنت معملتش اللي يخليك محني كده! إنت مغلطتش يا عُمران!
سال دmعه وكُسرت روحه معها، فجلى صوته المبحوح: لما اللي مني يعريني ويغدر بيا ده ميخليش دهري محني العمر كله يا علي!
واستطرد ودmـ.ـو.عه تزداد في مجرى شلالها: صاحبي واللي كنت فاكره أخويا بيتهمني بالخيانة وواقف في وشي بيعايرني بماضي عدى وانتهى ده ميخلنيش محني؟

وبصوتٍ باكي قال: أنت نفسك يا على وقت اللي حصل مع فاطيما شوفت في عيونك نفس النظرة، مع إنك كنت بتحاربها وبالنهاية انتصرت وقــ,تــلتها بس أنا شوفتها وحسيت باللي جواك من قبل ما تطلعه.
ورفع ساقيه يحاول بها ذاته، معلنًا اكتفائه بذاته مطيبًا لجروحه، مداويًا لو.جـ.ـعٍ مستمرًا مادام قلبه مازال يخفق: كلكم بتحاسبوني! كلكم مش فاكرين غير الخطايا اللي عملتها! كلكم بقيتوا جلادين، فقدتوا أدmيتكوا وبقيتوا وحوش!

وصرخ بصوته المبحوح: أنا أحسن منكم كلكم، أنا عمري ما كنت خبيث ولا منافق، عمري ما كنت كـ.ـد.اب ولا بوشين، غلطت آآه انا غلطت لإني بني آدm مش ملاك، غلطت ونـ.ـد.مت وبعدت عن الطريق ده اللي انتوا كلكم شايفين إني مينفعش أكون غير فيه!
ارتعب علي من حالة أخيه، التي صرحت له ولوجه لأذمة نفسية حادة، انفلات أعصابه، صراخه الهادر، يسترعيه بضرورة التدخل لتهدئته قبل أن تطور الامور.

اندفع إليه على يحتويه بين أحضانه، وبالرغم من أن الفرق الجـ.ـسماني بينهما ملموسًا الا أنه استطاع أن يحيطه بهالة من الطمأنينة وسط حالة الضياع الذي يخوضها.
ضمدت مايا نص قلبه النازف، وضمد أخيه النصف الأخر، فشعر بأن سخونة جسده تنهمر ببرودة تجتاحه.
مال عُمران على كتف أخيه يغلق عينيه بتعبٍ شـ.ـديد، فإذا بعلي يهمس له باكيًا: والله العظيم عُمري ما بصتلك النظرة دي، ده أنا أتعمي قبل ما أعملها يا حبيبي!

ومسد على ظهره وهو يردد أقرب دعاء لقلب عُمران: بسم الله على قلبك حتى يهدأ، حتى يطمئن، حتى يأخذ الأمان ويبتسم، بسم الله على خاطرك حتى يجبر، بسم الله على نفسك حتى تطيب، استودعك يا الله أخي وقلبه وعافيته فاللهم أحفظه وعافاه.
تمدد عُمران ليصل برأسه على ساق علي المفرود، يبتسم وهو يستمع لهمساته القارئة للقرآن الكريم، وكفه يحيط شعره للخارج مع تلاوته المستمرة، غاص بنومٍ عميق وقذف من خلفه أوجاعه.

الرابعة فجرًا.
استيقظ من نومه ليجد محلولًا طبيًا مندث بأوردته، لا يعلم كيف أتى لتلك الغرفة، ومن قام بنقله، فأخر ما يتذكره جلوسه المستكين على المقعد بالخارج، وعُمران يغادر من أمامه.
استقام بجلسته ليجد يوسف يغفو على المقعد الذي يجاور فراشه، تأمله جمال بحـ.ـز.نٍ ونزع عنه الكانيولا، أراد أن ينصرف دون أن يراه أحدٌ.

هبط عن الفراش يتسلل على أطراف أصابعه، فما أن لمست يده مقبض الباب فاذا بصوتٍ رجولي يوقفه عن المضي قدmًا: والهروب هو الحل؟
استدار فوجد يوسف يطالعه بنظرةٍ ساخرة، وهو يشير على الفراش: اقعد عايزك.
اتجه لمحل اشارته، فجلس يردد بوهنٍ: يوسف أنا مش مستحمل نص كلمة.
اتسعت ابتسامته ومال للأمام مشبكًا يديه ببعضها: اطمن مفيش كلام هيصلح اللي حضرتك عملته، خلاص خسرت مراتك وخسرت صاحبك.

أغلق جفونه يعتصرهما بقوة، محررًا تلك العبـ.ـارات القارصة عنه، وبحروفه المتقطعة قال: مكنتش حاسس بنفسي صدقني.
مصدقك، وده الدليل.
قالها يوسف وهو يلقي له ثلاثة من التقارير، حملهم بين يديه وتساءل باستغرابٍ: دول أيه؟
رد عليه ومازال مستندًا على يديه: تحاليلك إنت وصبا وعُمران، إنت كنت واخد جرعة مـ.ـخـ.ـد.رات من النوع الفاخر وعُمران وصبا اتخدروا.

وتابع ومازال يلتحف بالبرود: بص يا جمال أنا مش هزيدها عليك، لإن مينفعش أنا كمان أجي عليك، لما بيكون الانسان غلطان بنلاقي الكل واقف قدامه ومفيش شخص بيقف معاه فيمكن ده بيخليه يتمادى في الغلط عشان يحرر جزء من الكراهية اللي جواه ويثبت إنه فعلا وحش بل أوحش مما يتخيلوا، فأنا مش هسيبك توصل للنقطة دي وعايزك تسمعني.

اختزلت دmعاته حدقتيه، واكتفى بتحريك رأسه بانصياعٍ تام، فاذا بيوسف يقول: أولًا اللي في ايدك ده دليل كافي على براءة عُمران، ثانيًا ده دليل تاني يأكدلك برائتهم.
قالها وحرر زر هاتفه ليعيد رسالة عُمران على مسمعه
«يوسف، جمال عمل حادثة على الطريق، صاحب العربية خده بيته وبعتلي الموقع هبعتهولك حالًا ابعتلي الاسعاف وتعالى بسرعة يا يوسف! ».

ندت عنه شهقة مؤلمة، لسماعه صوت عُمران الذي نقل حالة فزعه ورعـ.ـبه الشـ.ـديد عليه، حتى أنه تبين من أنفاسه المتثاقلة إنه يركض بسرعة قطعت مجرى تنفسه.
انطلق صوت يوسف من بعده يقول بعدmا أغلق هاتفه: أظن يا جمال مفيش واحد عاقل رايح يخـ.ـو.ن صاحبه هيكلم شخص تالت يروح يشهد على اللي بيعمله! اعقلها ده إنت بشمهندس!

وتابع بنفس هدوئه المتزن، المراعي لحالة جمال: ثالثًا، الرسايل المحذوفة على تليفوناتهم، واللي وصلت في نفس الوقت واتحذفت في نفس الوقت، والغريب إن عُمران مكلمني وهو بيجري على عربيته يعني وصل بعدها للمكان بعد حوالي 20دقيقة وانت وصلت بعده بعشر دقايق لحق يعمل اللي هيعمله ازاي الا إذا كان حد كان متربصله وأول ما دخل من باب الشقة اتخدر واتحط هو ومآآ...

قاطعه برجاء وتوسل: كفايا يا يوسف متنطقهاش، متجمعهاش معاه تاني، من فضلك كفايا إرحمني يا يوسف، ارحمني!
تهدلت معالمه حـ.ـز.نًا وألــمًا، ومن غير الرجل الشرقي يعلم مهانة ما تعرض له جمال، ربما كان قاسيًا مع رفيقه وزوجته ولكن الأمر في كلتا الحالتين سواء حقيقة أو خطة مدبرة فما هي الا طـــعـــنة نجحت باختراق صدره، ونهشت أمعائه وقلبه، لم تترك له الا أنفاس تزيد من دقائق تُحسب لحياته.

تمزق غطاء الفراش الأبيض أسفل كفي جمال، وردد بصوت مظلمًا، مرعـ.ـب كسواد الليل: أقسم بالله العلي العظيم لأدفعه التمن، أنا عارف إن عُمران مقدرش يأذيه عشان خاله بالنهاية بس أنا مش هسمي عليه!
أطلق ذفيرًا قويًا، وهتف: أي قرار هتأخده الوقتي مش هيفيدك اهدى واحسبها يا جمال.

رفع عينيه الدامعة له وببسمة و.جـ.ـع قال: احسبها! أنا حياتي اتدmرت يا يوسف! أنا في لحظة بقيت لوحدي ومبقتش أملك أي حاجة، أنا بقيت بطولي من غير عُمران يا يوسف!
أشفق عليه، فأراد أن يهون عليه: عُمران قلبه أبيض لما يعرف إنك كنت شارب المـ.ـخـ.ـد.ر ده هيسامحك.
هز رأسه وابتسامة شملت عـ.ـذ.ابه النفسي ارتسمت على محياه: لأ، إنت متعرفش عُمران أد ما أنا أعرفه، عُمران مستحيل يسامحني، أنا عيرته وكـ.ـسرته يا يوسف!

وأضاف وقد انهمرت دmـ.ـو.عه: مش بس كده أنا معرفش ازاي كنت ببص لمـ.ـر.اته وقولتله الجملة القذرة دي! إنت صح يا يوسف أنا مؤكد مكنتش في وعيي آآآ. آنا كنت حاسس أن رأسي تقيل وفيه وساوس مخلياني مش عارف أفكر، أنا آآ، أنا اتغدر بيا أنا كمان يا يوسف. آآ أنا كنت هقــ,تــل ابني بايدي لولا عُمران! عُمران اللي اتهمته بالخيانة وقف قدامي ومنعني ارتكب ذنب مكنتش هسامح نفسي عليه.

نهض عن مقعده وإتجه إليه يخبره: اهدى يا جمال، قولتلك كل ده من أثر المـ.ـخـ.ـد.ر، فكر كويس وشوف انت شربت أيه خلاك بالشكل ده، وواضح إنه من قبل ما تروح المكان ده بساعة أو اتنين لإن مفعوله اشتغل على طول.
صفن قليلًا وقال متذكرًا: مشربتش غير قهوة في مكتبي، طعمها كان مر وغريب، وبعدها كنت بدور على موبيلي عشان أكلم المهندس المدني، ملقتش موبيلي هو كمان، حتى السكرتير دخل ودور معايا وآ.
حمسه يوسف: وآيه؟!

قال بعدmا انحصر داخله مخطط هذا الوضيع: أول ما دخل لقاه وادهوني، أعتقد إن الكـ.ـلـ.ـب ده لما جاني مكتبي عشان يهددني قدر يجند الحقير ده لحسابه!
واستطرد بحـ.ـز.نٍ: أول ما مسكت موبيلي وصلي فيديو لعُمران وهو بيدخل العمارة اللي كان فيها الشقة وبعدها على طول فيديو لمراتي، وتحت الفيديو محطوط العنوان.

أخفى وجهه خلف يديه يمسح بها من فوقه متمتمًا: يارتني ما روحت ولا فتحت التليفون، يا ريت عربيتي كانت اتقلبت وعملت حادثة بجد أهون من اللي عملته فيها وفيه، يا رتني مـ.ـو.ت ولا عيشت يوم صعب زي ده!
ربت يوسف على كتفه بحـ.ـز.نٍ وقال: اجمد يا جمال وخلي عندك يقين بالله، سبحانه مبيعملش حاجة غير بحكمة، أكيد فيه مغزى ورسالة من ورا اللي حصل ده.

حرر يديه عن وجهه وتمعن به قليلًا قبل أن يتساءل بـ.ـارتباكٍ، كأنه فقد الحق بها: هو آآ، أنا ينفع أشوفها؟
زوى حاجبيه بعدm فهم: مين؟ تقصد مدام صبا؟
هز رأسه بحرجٍ، فزاد من ربتته على كتفه وقال: طبعًا يا جمال، دي مراتك وأكيد عايز تشوف ابنك صح؟
أدmعت عينيه تأثرًا بكلمته وقال بحشرجة: لو هتحس بيا بلاش تدخلني، أنا أخر شخص تتمنى تشوفه.

ابتلع مرارة حـ.ـز.نه وقال: متقلقش هي الحمد لله فاقت من ساعتين ودلوقتي نايمة من تأثير المسكنات فمستحيل تحس بيك.
حرك رأسه بخفوت، ونهض يتبعه، اتجه به يوسف للحضانة أولًا ليرى صغيره، خشية من أن ينهار فور رؤيته لزوجته، فتمنحه رؤية الصغير القوة لمواجهة ما هو قادm.

حمله بين ذراعيه بسعادة وفرحة، فضمه لصدره وانهارت دmـ.ـو.عه على وجنتيه، تأثر يوسف برؤيته له هكذا، فقال يغير الاجواء: ها يا جيمي هتسمي الملاك الجميل ده أيه؟
انحنى يطبع قبلة على خده وابتعد يتمعن بوجهه الملائكي ولسانه يردد: عُمران!
اتسعت ابتسامة يوسف وشاكسه قائلًا: لسه مُصر! يعني بعد بهدالة أوضة العمليات دي مس ناوي تغير إسمه وتسميه يوسف مثلًا؟

قال باصرار وهو يعود لتقبيله: أنا اختارتله الاسم من قبل ما أعرف إذا كان ولد ولا بـ.ـنت.
فرد يديه له بابتسامةٍ: طيب هاته عشان كده غلط عليه.
اعاده يوسف لمكانه المخصص، وإتجه به لغرفة صبا، حر مقبض بابها وقال ومازال بالخارج: هستناك هنا، خد راحتك.
منحه ابتسامة صغيرة، ولج يغلق الباب من خلفه، وما أن استدار حتى تخشبت قدmيه فور رؤية وجهها المتورم من كثرة جروحها.

تحجر ريقه فإذا به تُسلب روحه، وتدmي جسده الهالك لا محالة، جر قدmيه جرًا إليها، وما أن أصبح قريبًا حتى ركض ليكون مجاورها.
أراد أن يضمها إليه ولكنه عاجز، يخشى أن يقربها إليه فيزيد ألــم جـ.ـر.ح بطنها الحديث لولادتها القيصرية، حتى ضمة وجهها حُرم منها، فوجهها مازال يدmيه الجروح البالغة.

انحنى برأسه على الوسادة جوارها، يطالعها ويبكي بقهرٍ، فخرج صوته مبحوحًا: ياريتها كانت اتقطعت قبل ما تتمد عليكي، أنا عارف إني مهما عملت عمري ما هنسيكي اليوم ده وأنا نفسي مش هقدر أنساه، أنا حتى كلمة آسف مش من حقي أنطقها يا صبا.
ورفع كفها المندث بالمحاليل يقبله وهو يستطرد: ربنا قادر ينتقملك مني ويأخد حقك مني يا صبا، هيجي عليا الدور وزي ما ظلمتك هتظلم.

وتابع وهو يغلق عينيه بكـ.ـسرة: بس والله غـ.ـصـ.ـب عني، مش سهل عليا أشوفك كده، حتى لما الحقيقة بانت مخفش و.جـ.ـعي، مجرد ما بتخيل أن حد قرب منك ولمس بس حجابك بحس بنار بتفور جوايا، بس متخافيش هقطع إيد نعمان هو وكل اللي عملوا كده.
أزاح دmـ.ـو.عه وردد مبتسمًا: إنتِ عارفة إني شوفت ابنننا، سبحان الله طالع شبهك بالظبط.
ومال يقبل كفيها مجددًا: سامحيني عشان خاطره يا صبا، عشان خاطر ابننا سامحيني.

انهمرت دmعة منها على خدها، جعلته ينتفض بنومته وهو يردد بذهول: صبا آنتي سامعاني!
لم يأتيه جوابًا منها، فطرح الغطاء عليها مجددًا وخرج من الغرفة ليشرع باول خطوة في خطة القصاص لزوجته.

بعد ساعات آشرقت الشمس بضيائها المتوهج، الذي تسلل من نافذة الغرفة التي قطن بها ليلته الأولى بتلك الشقة، فإذا بهاتفه تصله عدة رسائل.
جذب سيف الهاتف من على سطح الكومود، فتحه ومازال يحارب أثار النوم التي غادرته أبديًا فور رؤيته رسالة مصحوب بصورةٍ نزعت عنه أنفاسه.
«رفضت تسلمك نفسها مش كده؟، هتعملها ازاي وهي كانت لراجـ.ـل غيرك! ».

كبر سيف الصورة بوضوح فصعق حينما تحقق مما رآه، ترك غرفته واتجه بعصبية بالغة يقتحم الغرفة المجاورة له وهو يصيح بغـــضــــبٍ: زينب!
انتفضت بفراشها مفزوعة، فوجدته يقترب منها وعينيه تقتاد شرارًا، ليدفع هاتفه أمام بصرها متسائلًا: فهميني أيه داااا؟!
جحظت عينيها بصدmة حقيقية، وتراجعت للخلف توزع نظراتها بينه وبين الهاتف، ناطقة بحروفٍ متعثرة: لأ، صدقني كـ.ـد.اب وآ.

صرخ بجنونٍ هالكة: كـ.ـد.اب ازاي وتوقعيك عليه! معقول إنتي كنتِ متجوزة الحقير ده  عـ.ـر.في!
إستعد حينما أعلمته الخادmة بوجود ضيف يريد رؤيته، دفعت مارينا الخادmة المقعد للمصعد ومنه لغرفة الضيوف بينما يتساءل بدهشة: مقالكيش هو مين؟
نفت مرددة: مقالش أكتر من إنه صديق قديم.
هز رأسه دون اكتراث، فما أن دفعته للداخل حتى تركتهما ورحلت، شمل مصطفى الرجل الذي يقف أمامه بدهشة، وتساءل: حضرتك تعرفني!

استدار ذلك الرجل الطيب لرؤيته، فتمعن به قليلًا ومن ثم قال: اللي ليه أمانة عند حد بيفتكر صاحبها، وإنت ادتني أمانة من غير ما تعرفني بيها، وخلتني نسبتها لنفسي وأرتكب ذنب بدون ما أعرف، فجيت النهاردة أقف قصدك وأقولك ليه عملت فيا كده؟!
غادرت الدmاء عروقه، وبلسانٍ ثقيل ردد: الشيخ مهران!
أخترق أذنيه صوت زقزقة عصفورًا قريبًا، يزقزق باعلان سطوع يومًا جديد، أفرجت أهدابه عن رماديته، ففتحها وأغلقها مجددًا في محاولةٍ للاعتياد على الضوء النافذ بعينيه.
نهض عن ساق أخيه يتفاجئ ببقائهما هنا حتى طلوع النهار، وما ألــم قلبه أن أخيه لم يزعج منامته وبقى محله حتى غفى مستندًا برأسه على السيارة من خلفه وذراعه يحيط بجسد عُمران كالذي يضم صغيره!
ابتسامة مشرقة شقت طريقها لوجهه، فناداه بخقوتٍ: علي.

تسلل مسمعه إليه ففتح عينيه يهتف بعدm وعي وهو يتفقد ساقه: عُمران!
هدأت انفعالاته حينما وجده يجلس جواره، ويطالعه باهتمامٍ، عاد يستند برقبته على السيارة من جديدٍ، تفحص ساعته قائلًا بدهشةٍ: معقول نمنا هنا لدلوقتي؟!
قطع عُمران صمته هادرًا: مفوقتنيش ليه يا علي؟!
رد عليه بابتسامته الجذابة: مصدقت إنك تنام شوية فمستحيل كنت هقومك.
وسأله وهو يتفحصه بعناية: إنت كويس؟

اتسعت ابتسامته ونهض ينفض ثيابه: أكيد هكون كويس وأنا عندي أخ طيب وحنين زيك يا دوك.
استند علي على مقدmة سيارته ونهض ينفض ملابسه هو الاخر: تعالى نروح مكان هادي نفطر ونتكلم شوية قبل ما نرجع البيت.
أومأ برأسه وأشار له: اركب.
أجابه على وهو يهم بالتحرك لمحل سيارته: راكن عربيتي قدام شوية، اطلع وأنا وراك.

اجتاحته السعادة لتتبع أخيه إليه، ليس بكل الاحوال ما نقوله نقصد معناه، ربما يطالب لسانك من أمامك بالرحيل ولكنك من الداخل تتمنى أن يعارض حديثك ويتبعك رغمًا عن أنفك!
فتح عُمران باب سيارته باستخدام الريمـ.ـو.ت الالكتروني وقبل أن ينجرف على للطريق قال بامتنان: شكرًا إنك متخلتش عني حتى بعد ما طلبت منك تكون بعيد.
مرر يده إليه ومازال يتابع طريقه كأنه لم يستمع له من الاساس: اركب وبطل عـ.ـبـ.ـط.

ضحك بملئ ما فيه وصعد لسيارته يتحرك للطريق الرئيسي ومن خلفه يتبعه علي.
تربع الألــم بحدقتيه كالسهم النافذ، يواجهها بصدmته التي أعربت عن مدى حـ.ـز.نه، بينما الأخيرة عينيها ساهمة بالهاتف الموضوع من أمامها.
شعرت وكأن هناك فوم من النيران عالق بحلقها، لم تتمكن من ابتلاعها أو حتى طردها خارج جوفها، فرددت بهمسٍ باكي: كدب يا سيف، والله العظيم بيكـ.ـدب.

مازال يقف أمام الفراش الذي تعتليه، صامتًا، حزينًا، يجلي صوته البائس: يعني الورقة دي مزورة؟
أعتصرت جفنيها من فرط بكائها وهزت رأسها بالنفي، قائلة بنحبٍ: لا مش مزورة، أنا فعلًا مضيت عليها بعد ما أقنعني إننا مينفعش نتقابل كتير بدون ما يكون بينا عقد جواز، ولإني كنت لسه بدرس فمستحيل أخواتي يوافقوا عليه عشان كده اقترح عليا العقد ال عـ.ـر.في ده، احنا اساسًا معندناش الكلام ده بالمغرب بس هو أقنعني.

اهتز بوقفته قبالتها ومازال يحرك رأسه بصدmة ألا تسترسل حديثها، ولكنها استطردت موضحة: لما اكتشفت حقيقته سرقت العقد اللي عنده وقطعته ولما سألت شيخ قالي إنه مش جواز أصلًا، يعني هو كـ.ـد.اب لا عمره كان ولا هيكون جوزي.

ما له يشعر بعظمه يسحق بقوةٍ حتى خرت قواه ولجئ بجلوسه لطرف الفراش، يحتضن رأسه بين يديه، بينما تلك القابعة من خلفه تراقبه بدmـ.ـو.عها المنهمرة، فإذا بها تقترب إليه، تضع كفها على ظهره وهي تستجديه متوسلة: مسمحتلوش يقربلي يا سيف، والله العظيم بيكـ.ـدب عليك محصلش بينا حاجة.

رعشة يدها انتقلت لضروعه، فطرق باب قلبه تنبهه بحالتها المؤلمة، اعتدلت بجلسته المحنية، وإلتف بجسده إليها حتى بات يجلس قبالتها، فوجدها تفرك يدها وهي تستكمل الجزء الاخر من حديثها: ولو عايز تتأكد من كلامي أنا مش همنعك ده حق...

ابتلعت جملتها فور أن ضمها إليه، يحيط رقبتها بيد والأخرى يلفها حول خصرها بحمايةٍ، قائلًا بضيقٍ: يوم ما أشك في أخلاقك هتكون نهاية علاقتنا اللي مبتدتش يا زينب، أنا مصدقك يا حبيبتي وواثق فيكِ.
واستطرد يوضح سبب حـ.ـز.نه الصريح: أنا اتفاجئت بالورقة دي، لإنك مسبقش وحكتيلي عليها.
أراد أن يبعدها ليستكمل حديثه فإذا بها تتعلق بالتيشرت الخاص به وتناشـ.ـده بتوسلٍ: متبعدش يا سيف!

ابتسم بفرحةٍ لرغبتها ببقائها بين حصاره بقلعته التي شيدها بعشقٍ لها، مسد عليها يحيطها بحبٍ بينما عقله شارد بذلك الحقير الذي لم يستسلم بعد، وبوصول تلك الرسالة يؤكد له بأنهما مازال تحت أعينه، ومن المؤكد بأنه سيفعل المُحال ليصل لها.

حبيبته وزوجته هي، إن فرط بنفسه لن يفرط بها، فليت ذلك المختل يعلم ذلك، مال سيف برأسه فوق رأسها وهمس لها ومازالت أصابعه تتغلغل خصلات شعرها الناعم: أول مرة أشوفك بشعرك. وشكلي كده مش هصمد كتير قدام الجمال ده كله.
وتايع مازحًا: زينب هو أنا ينفع أتـ.ـحـ.ـر.ش بيكِ؟
ضحكت بقوةٍ بينما يتابع هو بمرحه: بأدب والله العظيم هكون محترم قدر ما تمكنت!

لكزته بقوة وهي تهدر بالمغربي: سيف احترم راسك، ولا غادي نهبط نشكيك و ندير ليك محضر تعدي و يضيع مستقبلك المهني يا دكتووور
رمش بعدm استيعاب لما نطقت به، وكأنها ألقت إليه تعويذة مخيفة، تابعته تنتظر سماع ما سيقول، متحفزة لمشاجرة عنيفة بينهما، ولكنه اهدر اعدادها فور أن نطق ببلاهةٍ: الترجمة هتنزل أمته؟!

تحررت ضحكاتها بصوتٍ أطربه، حتى أن عينيها أدmعت من فرط نوبة الضحك التي أعتلتها وقالت من بينها: نوضحلك بالمصري مفيش مشكلة، بقولك إحترم نفسك، بدل ما أنزل اعمل فيك محضر تعدي، ومستقبلك المهني هيضيع بعدها يا دكتور!
أشار على ذاته متصنعًا البراءة: محضر تعدي فيا أنا يا زينب! عايزة تسـ.ـجـ.ـني جوزك عشان حلمه البريء إنه يدخل بيكِ دنيا!
طرقت بكفها على كتفه العريض: متقلقش يا حبيبي هيدخلوك في الحبس دنيا وأخرة مع بعض!

تصنع الحـ.ـز.ن بمهارةٍ: مكنتش أعرف إن قلبك قاسي كده! ليه تجـ.ـر.حي مشاعري بالشكل ده يا زينب؟!
أمسكت يده تمنعه من الرحيل قائلة بحـ.ـز.نٍ: أنا بهزر معاك يا سيف، أنا مقدرش أعملها لإني بحبك وآ.
ابتلعت باقي كلمـ.ـا.تها فور أن تبدلت ملامحه، فأحاطها بيديه هاتفًا بمكرٍ: سامع يا قلبي نطقتها قدامي أنا وأنت ومن غير ما نضغط عليها.
وتمعن بمُقلتيها المنفرجة صدmة منه: اشجي جوزك حبيبك باللي جوه قلبك يا دكتورة!

أمال جسدها بين يديه، يده أسفل ظهرها وقدmيها منعرجة خلف حركته، بينما خصلات شعرها الطويل يلامس الأرض، رفع كفه الأخر يحيط وجهها، ويقترب إليها ومازال يمنع سقوطها عن الأرض بمسكته القوية، فما أن اخترق مسافتهما حتى همس بافتتانٍ: حبك ليا مـ.ـيـ.ـتقارنش بحبي ليكِ يا نور عيني، أنا دايب في حبك يا زينب!

أسبلت تجابه تلك الرجفة التي دغدغت عذرية قلبها ومشاعرها، من قال إنها اختبرت الحب يومًا كان مغفلًا لا يفقه بفنون الحب، فها هي تكتشفه من جديد على يد زوجها الحبيب.
وجدته ينساق خلف نداء عينيها فأتاها ملبيًا، وما كان منها الا الاستسلام، وتلك المرة تمنحه من الثقة ما جعله لينًا متفهمًا حتى باتت زوجته قولًا وفعلًا.

أدmى محاولة ذلك السفيه لهدm حياتهما وبدأها هو مستعينًا بفروض عشقه، ليجعلها سكنة له ويكون هو مرساها!
ثبت دريكسيون السيارة جيدًا حتى تمكن من فتح هاتفه، فرفع السماعة الخارجية يجيبها: أيوه يا حبيبتي.
أتاه صوتها يجيب: يوسف طمني الوضع عندك أيه؟
أجابها والحـ.ـز.ن والخــــوف يلتصقان به: جمال اختفى من المستشفى مش عارف راح فين، روحتله شقته مش هناك ودلوقتي طالع على الشركة، خايف عليه من اللي بيفكر يعمله يا ليلى.

تنهدت بو.جـ.ـع وقالت: هو معذور يا يوسف ومن حقه ينتقم لمـ.ـر.اته، إنت مش متخيل هي حالتها هتكون عاملة ازاي لما هتفتكر اللي عمله فيها، حتى لو عرفت إنه كان مغيب عن الوعي.
اللي حصل كان صعب، أنا عاجز ومش عارف أساند عُمران ولا جمال!، بس اللي متأكد منه آن دكتور على مستحيل يسيب عُمران، لكن جمال اللي فعلًا لوحده!

منه لله اللي عمل فيهم كده، أنا مش قادرة أستوعب ولا أصدق إن في ناس بالبشاعة دي يا يوسف، إزاي هان عليه يعمل كده في ابن أخته! واللي يوجـ.ـع إنه عارف إن حمل مايا صعب وإنها تشوف جوزها بوضع زي ده ممكن لا قدر الله تجهض الجنين وبالرغم من كده وصلها الخبر ومهموش!
انجرف للطريق الجانبي يجيبها ببسمة ساخرة: اللي زي نعمان هما اللي بقوا بكترة يا ليلى.

واستطرد يغير الحديث: المهم إنتِ صاحية بدري ليه كده، انتِ راجعه البيت متأخر!
ابتسمت وأخبرته بتفاخر: أنا منمتش أصلًا، هنام ازاي وعندنا عريس وعروسة يا دكتور.
تقوس جبينه مستغربًا: وانتِ مالك بيهم مش فاهم!
فتحت الكاميرا تطالبه باتصالًا، فأبعد الهاتف عن أذنيه ووجهه لعينيه، فوجدها قبالته بابتسامتها التي يعشقها، تدير الهاتف للصينية الموضوعة على رخامة المطبخ خاصتها، تحمل الكثير من أصناف الطعام الفاخرة.

اتسعت ابتسامته سعادة بزوجته التي لم تقصر مع أخيه بالرغم مما تعرضوا له من ضغط الأمس بالعمل بالمركز، وازداد بما حدث مع جمال وصبا، فظلوا بالمركز لساعاتٍ إضافية، وبدلًا من أن تستريح ظلت بالمطبخ الساعات المنصرمة ترتب الاطعمة الشهية لهما.
عاتبها يوسف بحنان: ليلى إنتِ ليه ضغطي على نفسك وانتِ تعبانه، كنتِ لفتي نظري للموضوع ده وأنا كنت هطلب ليهم أكل جاهز.

اتجهت للمقعد الخاص بالرخامة ومالت تخبره بضيقٍ: أكل جاهز أيه! والله ما هتعرف تجيبله الحمام اللي أنا عملاه ولا طاجن ورق العنب ده!
ضحك بصوته كله وقال يشاكسها: حمام ومحشي ورق عنب! طب وأخو العريس مش هينوبه من الحب جانب ولا أيه؟
ارتكنت على معصمه تمنحه نظرة محتقنة: لا مفيش.
ابتسم وقال: خايف عليكي يا ليلى، ومش عايز أتقل عليكي، يومنا مكنش سهل النهاردة.

اهتمامه وخــــوفه عليها أرضى ضيقها، فقالت بحبٍ: متقلقش عليا يا حبيبي أنا كويسة، خلي بالك انت من نفسك، أنا عملت أكل زيادة ليك وللبشمهندس جمال عشان عارفة إنك مش هتسيبه، ابقى عدي عليا خده قبل ما تروح بيه شقة سيف.
انتفض بمحله حتى سقط الهاتف أسفل قدmيه حينما ذكرته برفيقه: فكرتيني بجمال، اقفلي لازم أروح الشركة بسرعة قبل ما يتهور.
صرخت به قبل أن يغلق: ما تنساش البقسماط يا يوسف.

توقف عن لف مفتاح السيارة وعاد يسلط نظره للهاتف بعدm استيعاب، هدأ قليلًا حينما تذكر بأن المرأة ما هو الا متاهة مغلقة يصعب على أي رجل الخلاص من توابعها، لذا قال بايجاز ينهي مكالمته: أحل الكوارث اللي ورايا وهجبلك الخباز بالفرن لعندك حاضر.
وأغلق الهاتف بهدوءٍ يفتخر بأنه تحلى به لتلك اللحظة، وعاد لقيادته المتعجلة ليلحق به.

توقف الزمان من حوله، وكأنه لم يخوض حياته بطولها وعرضها ليُوضع بتلك اللحظة، اللحظة الحاسمة التي جمعته بذلك الصديق.
تحجر الحديث على شفتيه، فسابق الشيخ مهران بحديثه حينما قال ساخرًا من صمته وصدmته: المفروض إنك تتوقع الزيارة دي بعد ما رجعت تقلب في اللي فات!
انقبض الألــم بين حدقتيه، وبصعوبة هدر: أنا آآ...

انتظر سماع ما سيقول ولكنه وللعجب لم يجد ما سيقول، بل اختذل عينيه عنه وأخفاها بحرجٍ منه، دنى إليه الشيخ مهران وجلس على مقعدٍ كان يجاور لمقعد مصطفى المتحرك، انشغل بسبحته قليلًا ومع كل حركة يلامس حباتها كان يمنع غـــضــــبه، يسيطر على شيطانه الا ينطق بالسوء وبما سيحمله ذنوبًا هو بغنى عنها، فارتفع صوته بعض الشيء وهو يصيح
«لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم».

استمد نفسًا طويلًا بعدها وقال بحـ.ـز.ن: أنا مقدرش أعترض على حكمة ربنا ومشيئته، بس بعد ما عرفت الحقيقة من حضرة الظابط وأنا متقفليش جفن، وكل اللي بيترددلي ليه؟

رفع مصطفى وجهه المبتل بدmـ.ـو.عه إليه، فتابع الشيخ مهران بحـ.ـز.ن: ليه تعمل فيا كده؟ صحيح احنا مجمعتناش صداقة متينة بس الكام ساعة اللي كنا بنقعد فيهم كل 15 يوم عشان ندخل للكشف كانت بالنسبالي عشرة طيبة، سمعتك وعرفت عنك كل شيء ونصحتك وقتها تعرف زوجتك الاولى بجوازك وآنك تعترف باللي في بطنها، وقولتلي انك هتعمل كده فعلًا.

واستطرد يعاتبه بألــم: صحيح علاقتنا اتقطعت بعدها ومعرفتش عملت أيه مع زوجتك التانية ولا الاولى بس أخر ما توقعته إنك تعمل فيا كده!

تدفق الدmع على وجه الشيخ مهران، وبصوته الباكي قال: ليه تخليني ارتكب وزر بدون ما أعرف وأكتب آيوب باسمي! عارف يا مصطفى لو كنت عرفتني الحقيقة وقتها وقولتلي ان ابني مـ.ـا.ت وإنك مش عايز الولد كنت هخليك تكتبه باسمك وكنت هربيه بردو بس على الأقل مكنتش هتحط في الوضع اللي إنت حطتني فيه ده!
وتابع وهو يشير بكفيه: أنا مش عارف هواجه الحاجة ازاي! ولا آيوب نفسه لما يعرف هيعمل أيه؟!

مال مصطفى على يد الشيخ مهران يقبلها: سامحني يا شيخ أبوس ايدك سامحني.
سحب كفه بدهشةٍ من فعلته التي توضح مدى عجزه: استغفر الله العظيم، مصمم تركبني ذنوب ليه!
بكى باختناق حجر على رئتيه وهو يخبره: كنت غـ.ـبـ.ـي محسبتش حساب للحظة دي، كل اللي كنت بفكر فيه هو عمر ابني ومراتي اللي بين الحيا والمـ.ـو.ت، والله العظيم لو كانت عرفت بحاجة زي دي كانت راحت فيها ومكنش ابني هيسامحني ولا كنت هسامح نفسي.

وتطلع له يستعطفه ليسامحه: كان ممكن أوديه ملجأ أو أشوف حد يعتني بيه فملقتش غيرك تكون أمين على ابني، بس خــــوفت أقولك فترفض كل اللي فكرت فيه وقتها إنك انسان خلوق، وهتربي ابني التربية اللي مش هعرف أربيهاله، وفي نفس الوقت كنت حزين لما عرفت إن ابنك اتولد مـ.ـيـ.ـت، صعب عليا كـ.ـسرتك كل ما بفتكر فرحتك وكلامك عن الحمل اللي حصل بعد كل السنين دي، فكنت واثق انك هتحبه وهتديله اللي فشلت أديهوله.

وطرق بيديه معًا على أذرع المقعد المتحرك: أنا ظلمت ابني وظلمتك وظلمت مرتاتي الاتنين وربنا انتقملكم كلكم مني يا عم الشيخ، بقيت زي مانت شايف عاجز، وخلاص أيامي معدودة في الدنيا بسبب مرضي الخبيث (كانسر)، عشان كده كشفت الحقيقة لابني، مش عايز امـ.ـو.ت وأنا حامل ذنب زي ده يا شيخ مهران.
تغضنت معالمه بالشفقة تجاهه، فعاد يجلس محله وهو يهمس: لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم، أسأل الله العلي العظيم أن يشفيك.

رفع عينيه الغائرة له حينما قبض مصطفى على كفه بقوةٍ، وبرجاء وتوسل قال: سامحني يا شيخ، سامحني وخلي آيوب يسامحني بالله عليك!
صوت شهقة مكبوتة جذبت انتباههما، فاستدار، الشيخ للباب حيث محل وقوف آدهم الباكي، يعز على قلبه رؤية أبيه بتلك الحالة ومع يعجز تدخله هو ترك فرصة عسى أن يسامحه الشيخ مهران فيرتاح والده.

تغلف قلب الشيخ مهران بضمادة طبية فور رؤيته وجه ذلك الشاب، شرد بكل لحظة مضت عليه منذ أن دلف لحياته وحياة عائلته.
أخبره مصطفى منذ قليل بأنه كان سيفشل بتربية آيوب! لا والله لقد سبق له رؤية نبل أخلاق ذلك الشاب، سبق له ان رأى رجولته ومروءته، ما دفعه للتفكير باتجاه معاكس، أن ما حدث كانت ارادة الله سبحانه وتعالى ليحظى بابنًا كآيوب يكون عمله الصالح في الحياة من بعده!

الابن البـ.ـار الذي لم ينجبه، ولم يقدر له بإنجابه، أزاح الشيخ بقايا دmـ.ـو.عه ورسم ابتسامة هادئة هادرًا ومازالت عينيه تحتضن عين آدهم: اللي ابنك عمله معايا ومع عيلتي يشفعلي بأن أسامحك يا مصطفى.
وأخفض عينيه له يخبره: أنا مسامحك. بس صدقني صعب ابني يسامحك انا عارفه أكتر من أي حد.

وبفخر قال: آيوب ابني وهيفضل ابني، أنا لو كلفت ابنك يغير نسبه فده عشان خــــوفي من ربنا عز وجل لكن ابني مش هيفارقني طول ما فيا النفس وحي، إنت اتخليت عنه فأنا مش هتخلى عنه ولو طالبت تقاسمني فيه اعذرني أنا هكون هنا أناني وهقولك لأ.
وببسمة شملت معنى الألــم قال: أنا مش نبي من الانبياء أستغفر الله، أنا بشر فهكون أناني وهقولك ابني لأ يا مصطفى.

انهمرت دmـ.ـو.عه رغمًا عنه واستكمل: أنا عشان محملش ذنوب أكتر من اللي هشيلها هخليك تغير اسمه وهخلي ابنك يصارحه بالحقيقة لكن يفارق بيتي ويفارق أمه ويفارقني ده عمره ما هيحصل ابدا، بس اطمن مش همنعه عنك أبدًا.
رد عليه مصطفى بلهفة: مش عايز أكتر من مسامحته يا شيخ، ولو فضل معاك أنا مطمن عليه بس بالله عليك متحرمنيش منه، خليه يزورني ولو مرة واحدة كل اسبوع وآ...

ابتلع باقي كلمـ.ـا.ته بمرارة الألــم حينما أفاق على حقيقة صادmة، ابنه ليس طفلًا صغيرًا ليتلاقى أمر الشيخ مهران، فور علمه بالحقيقة لن يستمع لأحدٍ ولن يأتي لزيارته.
هز مصطفى رأسه بجنون وصرخ: لأاااا متقولوش الحقيقة يا شيخ مهران، معتش هشوفه تاني لو عرف، أرجوك متقولوش.
غامت عين آدهم بالدmـ.ـو.ع، فولج للداخل ينحني على مقعد ابيه يحاوطه بقوة ويترجاه: اهدى يا بابا، صحتك عشان خاطري.

استنجد به بفرحة لوجوده: عمر، تعالى يا عمر، الشيخ مهران لو قال لاخوك الحقيقة هيبطل يجي معاك هنا، قوله ميقولهوش حاجة، عشان خاطري يابني قوله.
قبل يديه معًا وبصوتٍ مبحوح قال: هعملك كل اللي انت عايزه بس اهدى.
بكى كالصغير على ذراع آدهم، فضمه إليه ومازال الشيخ يتابعهما، فابتسم وقال: من شخصية ابنك وطريقة تعامله معاك بيأكدلي انك كنت أب له عظيم يا مصطفى، فأكيد اللي حصل ده كان خير ليا.

ونصب عوده يخبره قبل رحيله بابتسامته البشوشة: اطمن أنا هخليه يسامحك، ومش هيبطل يجيلك متخافش، حتى لو عارض هجيبه بنفسي وأجيلك كل جمعة بإذن الله.
واستطرد بعدmا خطى خطوتين لباب الغرفة: هستناك تنورني في الدكانة يا حضرة الظابط. السلام عليكم ورحمة الله.
قالها ورحل على الفور تاركًا آدهم يضم أبيه باحتواءٍ وحبًا، فعاد به لغرفته ومدده على فراشه، ثم قدm له أدويته خشية من أن تتعثر حالته.

صف يوسف سيارته أسفل الشقة القابع بها محل عمل جمال البسيط، صعد للاعلى فتفاجئ بخلو المكان من الموظفين، ولج للداخل يتجه لمكتب جمال، فتخشبت يده على مقبض الباب فور سماعه صوت تأوهات خافتة تأتي من الداخل.
دفع الباب بجسده وولج للداخل يبحث عنه بذعرٍ، فصعق حينما وجده يلف يده حول عنق السكرتير الذي ينزف وجهه وجسده بغزارةٍ.

لوهلة فقد السيطرة على جسده وبات يردد كالصنم: عملت أيه تاني يا جمال؟ أنا مش ملاحق ألــم بلاويك يا أخي!
مشطه جمال بنظرة شاملة ثم عاد لما يفعله وكأن حديث الأخير كجناح فراشة أزعجت خديه، رمش يوسف في محاولته لاستيعاب كتلة البرود التي أحاطت رفيقه، فهرع إليه يدفعه عنه صارخًا به: إنت فقدت عقلك ولا أيه؟ ذنبه أيه المسكين ده؟

حاول جمال إبعاده عن مرمى بصره الناري ولكنه لم يستطيع، فصاح منفعلًا: وسع يا يوسف، وأقسم بالله لأقــ,تــله، الكـ.ـلـ.ـب اللي بتدافع عنه ده بعني وقبض تمنى من نعمان الحقير، هو اللي، بعت الرسايل لصبا ولعمران من موبيلي وكلمهم على أنه ضـ.ـر.بني بعربيته، ومسح الرسايل ورجع التليفون كأن لم يكن.
اندهش مما استمع إليه، ما بال هؤلاء بأصدقائه! كأن العالم اتحد بأجمعه ليفرقونهما عن بعضهما!

استغل جمال تصلب جسده واندفع لذلك الذي يسترخي باهمالٍ على أحد المقاعد الخشبية بعد أن تلقى عقـ.ـا.به، لكمه جمال بشراسةٍ تتصاعد منه كالبركان: هقــ,تــلك إنت واللي بعتني ليه يا، هدفعكم التمن غالي، ايدكم القذرة اللي، اترفعت ولمست مراتي لو متقطعتش مبقاش راجـ.ـل.

بالرغم من عدm فهم السكرتير للغته العربية الا أنه كان يعلم السبب وراء موجة غـــضــــبه، فمن المؤكد بأن ما فعله قد كُشف، وهو الآن يتجرع أشـ.ـد أنواع الخيبات والنـ.ـد.م لما فعله.
عاد الوعي لذلك الغائب، فجذبه من تلباب قميصه الملطخ بالدmاء: فوق يا جمال لو قــ,تــلته هتلبس نفسك بلوة! اينك محتاجك بلاش تعمل كده.

منحه نظرة من جحيم أخافت يوسف و.جـ.ـعلته يخشى ما سيفعله جمال بنعمان إن كان هذا عقـ.ـا.ب ذلك السفيه: ابعد يا يوسف، محدش هيقف قدامي ولا هيوقفني عن اللي هعمله سمعت!
كتف يديه وصرخ بمن خلفه: اغرب عن وجهي قبل أن أتركه ينحر عنقك الرخيص هذا!
هرول للخارج متعثرًا بخطواته فور سماعه إنذار النجاة، بينما دفع يوسف جمال للمقعد وانحنى يصـ.ـر.خ بوجهه: إنت عايز تضيع نفسك! محدش قالك تتنازل عن حقك بس مش بالشكل ده يا جمال.

قولي بأي شكل أخد حق مراتي اللي استباحوها يا دكتور يا محترم؟
قالها بهدوء قد يجعلك تخمن عقلانيته ولكنه من الاساس كان يصدر من اعماق شخصًا ذُبح دون رحمة، وبقانونه من لا يرحم لا يُرحم.

خرج يوسف عن صمته يخبره برزانته الحكيمة: جمال أنا معاك مش ضدك صدقني، ولو عايزني أساندك هساندك وأفديك بروحي وإنت عارف، بس أنا خايف عليك من نوبة الغـــضــــب اللي إنت عايشها دي، آنت محتاج تصلح اللي بوزته باللي بتعمله ده هتعك الدنيا لانك هتبعد عن صبا وابنك اجبـ.ـاريًا لما يحاكموك، فبلاش ترتكب اللي يخليك تخسر نفسك.

وتابع وهو يجلس قبالته: أنا كنت راجع بيتي اريح بعد ورديتي بس بما إنك فقدت عقلك فللأسف مضطر ألازمك عشان أطمن إنك مش هتأذي نفسك.
انتصب بوقفته يتجه للحمام الخاص بمكتبه، لحق به يوسف فاستدار إليه يقول بتهكمٍ: أيه هتدخل معايا الحمام كمان؟!
مال يستند على الحائط واضعًا يده بجيب بنطاله: هو مفيش فرق بينا بس مش للدرجادي يعني! اتفضل أنا مبسوط هنا ومش ناقصني حاجة فخد راحتك!

أغلق الباب بوجهه فاغلق يوسف عينيه بفزعٍ وقال: بني آدm همجي أقسم بالله هيعش غـ.ـبـ.ـي وهيمـ.ـو.ت متـ.ـخـ.ـلف!
وجلس على مقعد مكتبه يلف المقعد وهو يتابع: Zero عقل.

خرج من المرحاض يلف منشفته من حوله، تاركًا المياه تعبر فوق وجهه كالشلال، فجذب منشفة قصيرة يمسح وجهه ويديه ليتمكن من التقاط هاتفه الذي يعلن تمرده للمرة الثانية.
مال يجلس على السراحه وفتح سماعة هاتفه يجيب بصوته الشجي: شمس هانم بنفسها بتتصل!
وصلت إليه صوت ضحكاتها، وبرقتها المهلكة قالت: بتتريق يا كابتن والامتحانات سحلاني!
وتابعت بدلال: انت المفروض تستخدm مركزك ده وتخليهم ينجحوني من غير فرهدة!

أو على الأقل تديني أي جهاز أو تعلمني كام حركة أقدر أغش بيها الامتحان وأطلع زي البرنسس.
ضم منخاره يفركه بضحك: ده أنا كده بشجعك للفساد رسمي! وبعدين ميرضنيش يقولوا حرم عمر الرشيدي غشاشة تيجي ازاي دي يا شمسي!
تحلت بصمتها لتتمكن من سماع صوت ضحكاته، وفجأته حينما قالت: وحـ.ـشـ.ـتني أوي.
ابتسم وهو يخبرها بعاطفة: مش أكتر مني يا شمس، بس خلاص هانت إسبوعين وامتحاناتك تخلص وهتنوروني كلكم هنا عشان فرحنا.

بلهفة قالت: طيب ما تيجي يوم تقضيه معايا وترجع.
ازاي ده؟!
زي الناس، مش إنت ظابط مخابرات!
بيقولوا! وفضولي بيقولك وراها أيه الجملة دي؟
وراها إن ظباط المخابرات بيقدروا يعملوا أي حاجة في أي وقت.
ابتسم بسخرية وقال: شكلك بتشوفي أفلام هندي كتير يا شمس هانم.
ضحكت وقالت: الصراحة شوفت أفلام كتيرة بس اللي شوفته لما قابلتك خلاني أتصدm إن الهندي الأوفر حقيقي وموجود.
ابتسم وحبها يسكن و.جـ.ـع يومه، فقال: ازاي؟

تنحنحت بخجل وهي تخبره: يعني كنت بشوفك كده زي الراجـ.ـل الخارق، وفعلًا من أول ما شوفتك وإنت كنت بطلي الخارق.
وأيه كمان يا شمس؟
آآ، ها؟
ما كنتي ماشية كويس، كملي أنا أيه بالنسبالك يا شمس؟
بخــــوفٍ مضحك قالت: معنديش تصريحات أقول أكتر من كده، عُمران هيقــ,تــلني!
زفر بضجرٍ وهمس لها: يادي عُمران اللي لاعب عليا دور حمـ.ـا.تي العقربة وحمايا الكشري مش مقصر نهائي!
كبتت ضحكاتها وقالت: متزعلش يا حبيبي.

بعشق ردد يتذوق جمال كلمتها: حبيبك!
بخجل قالت: جوزي حبيبي ها يا كابتن عايز أحلى من كده كلام.
ضحك بصوته الرجولي وقال ساخرًا: لا ده أنا كده هبقى طماع وجشع، كفايا عليا كلمة جوزي دي هتديني الأمل إني مش هرجع أشوفك بالملحفة السودة تاني، ممكن نوصل لمرحلة النقاب أو الخمار أنا وحظي النحس بقى!
وتابع يشاكسها: بقولك أيه يا شمس؟
أممم.

هو عُمران أخوكي ده بيشرف على شنطك اللي بتحضريها لجوازنا، أكيد بيشرف مهو حاشر مناخيره في كل كبيرة وصغيرة خاصة بينا!
أيوه بيختار معايا أون لاين، إنت أصلك متعرفش ذوق عُمران باللبس عامل ازاي، وبالأخص فساتين السهرة اللي اختارهالي، بالعكس ده فدني جدًا باختيار فستانيني بعد الحجاب.
قضم شفتيه معًا بأسنانه ناطقًا من بين اصطكاك أسنانه: طمنتيني!
وهمس بصوت ظنه غير مسموع: كده هعمل حسابك معايا وأنا بشتري حاجتي.

هتعمل حسابي في أيه؟
لا يا حبيبتي متخديش في بالك، ركزيلي إنتِ بس في مذكرتك وامتحاناتك عشان مش ناقصة تلكيكة من سي عُمران أخوكي اللي مش مفهوم ده!
انفجرت ضاحكة وقالت: وفيها أيه يعني لو جبت ملحق يا كابتن!
ردد ساخرًا: أهو ده اللي ناقص! أنا أترقى وانتِ تشيلي الكحك!
ضحكت بملء ما فيها وقالت: اطمن مفيش هنا الكلام ده، أنا كده كده ناجحة وبعدين أنا كمان عايزة أمتحن وأخلص عشان أكون معاك يا آدهم.

يااه معقول! شكل كده أخر شخص شوفتيه النهاردة كان دكتور علي، خليكي جنبه اليومين دول هينفعك قبل الجواز وبعده.
هحتاجه بعد الجواز في أيه مش فاهمه؟
ضحك وهو يخبره بمرح: أي ست بعد الجواز بتحتاج لدكتور نفسي يا حبيبي!
وليه الرجـ.ـا.لة مش بتحتاج؟!
بنفس وتيرة ضحكاته قال: بعد الدراسات اللي اتعاملت على إيد بعض الستات أكدوا إن الرجـ.ـا.لة تنحصر لدِبَبَةٌ القطب الشمالي حيث الثلج والبرق والرعد فبالتالي مفيش تقصير عكسي علينا.

احنا كائنات بنجلط ومبننجلطش!
يعني إنت عايز تجلطني وتزهق نفسيتي وتخلي أخويا يعالجني نفسيًا يا آدهم؟
مش أنا يا عيون آدهم دول كارم وكرم بإذن الله.
مين دول؟
دول أولادنا بإذن الله هنجيب تؤام يا شمسي.
ومالك واثق أوي كده؟!
مش عارف بس حاسس إن كرم ربنا كبير بعد صبري على الابتلاء فهيجبر بخاطري بإذن الله.
ابتلاء!
أيوه وهو أخوكِ أي ابتلاء بردو! ده عمل أسود من الدرجة اللي يصعب فكها بالملح ولا بالتعويذات!

حبيبتي انا صبري عليكي وعلى أخوكِ بمثابة الجهاد في سبيل الله! هاتيلي واحد كاتب كتابه ومش عارف يطول نظرة بريئة!
وتنهد يخبرها: أنا خايف يوم فرحنا يبلغ عني إني مرتشي يا شمس!

غمس كفيه بالمياه ونثره على وجهه، يحاول أن يزيل عنه رواسب تلك الليلة القـ.ـا.تلة، فوجد المرآة ترتعش من أمامه وترسم له ملامح وجه زوجته المرتعشة، نظراتها التي تترجاه أن يصدقها بينما لسانها يعجز حتى عن الدفاع عن نفسها في موقف لا حديثًا بعده.

أدmعت عين جمال ومد يده بالمرآة كأنه يحاول لمس شبح زوجته الظاهر على سطحها، فوجد أنه يطالع ذاته، انقلبت نظراته للاستحقار، ونظرات كارهة، فكور يده ولكم المرآة بكل قوته وهو يحرر آهة تضيق شريانه.
فسقط أرضًا يجلس بين الزجاج وهو يضع يديه معًا فوق رأسه يمنع وصول صوت يوسف الذي يطرق الباب لمسمعه، بينما تنسدل الدmاء من فوق رأسه وهو غير عابئ بها.

نجح يوسف بكـ.ـسر الباب بعد أن دفع أحد المقاعد المعدنية بالباب عدة مرات حتى إنصاع إليه، وهرع يبحث عنه بفزعٍ.
انحنى إليه يبعد يديه عن رأسه ويشمله بنظرة قلقة: جمال!
هدأت وتيرة أنفاسه فور أن اطمئن لسلامته، اتبع سير الدmاء ليصل لاصابة يده فمنحه نظرة حزينة وقال: ليه كده يا جمال؟ عايز توصل لأيه باللي بتعمله في نفسك ده!

رفع عينيه الدامعتان له وقال: أنا شوهتها يا يوسف! يارتني ضمتها وسمعتها، عمرها ما هتنسى ولا أنا هنسى، عمرها ما هتسامحني.
وبانكسارٍ استطرد: أنا خسرت صبا خلاص يا يوسف.

منحه نظرة حزينة ونهض يبحث بالادراج عن صندوق الاسعافات الاولية، وما أن وجده حتى عاد يضمد جـ.ـر.حه قائلًا وهو يباشر تعقيمه: صبا اللي استحملت كل ده معاك بتحبك يا جمال، يمكن تكونوا غلطوا انتوا الاتنين بس ممكن ابنكم يقرب ما بينكم ويدلكم الفرصة دي.
هز رأسه رغم عدm اقتناعه، ونهض فجأة يردد: خدني المستشفى عايز أشوفها قبل ما أروح مشوار مهم.
مشوار فين؟
لم يجيبه الا بكلمـ.ـا.ت مختصرة: خدني ليها يا يوسف!

انتفضت بنومتها فور أن انفتح باب الجناح، فهرولت إليه تصيح ببحة صوتها المفقود: عُمراان!
ضمها إليه بيده وربت عليها باحتواءٍ، فعاتبته ومازالت تتشبث به باكية: كده تسبني طول الليل قلقانه عليك! موبيلك اتقفل ومرجعتش البيت! لولا على كلم فاطمة وجت قالتلي انك معاه وفضلت معايا طول الليل أنا كان هيجرالي حاجة.

أبعد وجهها عنه يقبل عينيها الباكية: بعد الشر يا حبيب قلبي. أنا كويس والله. بس كنت محتاج أكون لوحدي شوية وآ.
بتر حديثه ببعض الارتباك، فسألته مايا بخــــوف: وأيه يا عُمران؟

جذبها للفراش وانحنى قبالتها يتمسك بيديها ويطالع عينيها بنظرة عاشقة: مايا أنا عارف إنك بتحبيني، وبسبب الحب ده حاربتي الكل وأولهم أنا، خلتيني في النهاية أخضعلك وأنهزم قدامك، أنا عارف إنك قوية وصعب حد يهزمك فمش عايزك تخسري قوة شخصيتك دي دلوقتي، حافظي على اللي في بطنك يا مايا، واجهي اللي بنمر وهنمر بيه بقوة، مش عايز أحس بالقلق والخــــوف عليكي طول الوقت.

سكن الخــــوف أضلعها فسألته بشكٍ: ليه بتقول كده يا عُمران؟
نهض عن الأرض وجلس جوارها بحـ.ـز.نٍ شبع ملامحه وهو يرفع هاتفه نصب أعينهما: بمكالمة تليفون واحدة هعملها همحي بيها إسم شركات نعمان وللأبد، هيخسر كل اللي بناه وبيمتلكه.
واستدار بوجهه لها يخبرها بعجزٍ: مش قادر أعملها، حاسس إني ضعيف! مش قادر انتقم لكـ.ـسرتي ولو.جـ.ـعك ولا لجمال ومـ.ـر.اته.

وببسمةٍ ساخرة تعقبها دmعة من عينيه أضاف: مش قادر أنتقم من اللي عراني وعرى مرات أخويا يا مايا؟
انهمرت دmـ.ـو.عها، فسحبت هاتفه وألقته بعيدًا عنهما، ثم أمسكت لائحته تخبره بحماسٍ: لانك مش زيه يا عُمران، ولا عمرك هتكون زيه، وبالرغم اللي عشته لسه قلبك صافي ومتقصرش.

هز رأسه ينفي ما تقول، مرددًا بوخزٍ يطحن قلبه: عايز أنتقم يا مايا، عايز أتشفى فيه، بس مش قادر، خايف من لحظة النـ.ـد.م اللي ممكن أعيشها بعد ما أفوق! خايف أكون سبب في حسرة أمي لو جراله حاجة، نعمان هيمـ.ـو.ت لو خسر ثروته وفلوسه يا مايا.
غمست أصابعها بين أصابعه وهتفت: بلاش تعمل كده، فكر فيا وفي ابنك وانسى اللي عشناه يا عُمران.

رفع وجهه لها وبابتسامته المؤلمة قال: وجمال وصبا هينسوا! وأنا هنسى اللي جمال عمله وقاله!
سحب نفسًا طويلًا وزفره يخفف عن ذاته: يوسف بعتلي من شوية نتيجة تحليل جمال، كان أخد مـ.ـخـ.ـد.ر قوي.
تهللت أساريرها وتمسكت بالحجة المقنعة: طيب الحمد لله، يعني اللي عمله مـ.ـيـ.ـتحسبش عليه يا عُمران.
مال لها برقبته وابتسم يخبرها: سمعي قلبي اللي بينزف كلامك وقوليله ينساه ويعالج نفسه!

ولفظ ما داخله مستطردًا: جمال قال اللي مينفعش بعده تبرير ولا شفاعة، نهى كل اللي بينا حتى لو كان مش واعي، أنا مدرك إنه غـ.ـصـ.ـب عنه ومش بـ.ـارادته بس مش هقدر أتعامل معاه لإني صعب أكون زي الاول.
وتعمق بعينيها وهو يستطرد الجزء الهام: عشان كده يا مايا أنا محتاج أبعد. وبترجاكِ متعارضنيش.
أزاحت دmـ.ـو.عها وسألته باهتمامٍ: تبعد فين؟
رد عليها بنفس هدوئه: مصر، هنزل مصر كام يوم أريح فيهم أعصابي.

بلهفة قالت: لو ده اللي هيريحك خلاص هنسافر من بكره.
ربت على كفها المسنود لصدره وقال: لوحدي يا مايا. حابب أكون لوحدي.
سحبت كفها بحـ.ـز.نٍ، وصاحت بعصبية: ليه مصمم تو.جـ.ـع قلبي عليك يا عُمران!
جذبها لاحضانه مجددًا يخبرها: بعد الشر عليكي من أي و.جـ.ـع، أنا خايف عليكي يا مايا حملك صعب مينفعش تركبي طيارة بحالتك دي. ممكن متقلقنيش عليكي وتكوني كويسة إنتِ والبيبي لحد رجوعي؟
ضمت شفتيها معًا بحيرة: طيب هترجع أمته؟

أجابها بحب: معرفش يمكن اسبوعين أو تلاتة مش أكتر من كده.
ونهض يتجه لخزانته يبدل ثيابه: هنزل دلوقتي عشان فاطمة كلمتني من الشركة، في كام حاجة ضرورية لازم أنجزها قبل ما أحجز التذكرة. عايزك ترتاحي لحد ما أرجع.
أومأت برأسها بخفة وتابعته وهو يصفف شعره ويستعد للخروج ومازال يخادعها بأنه على ما يرام!

استردت جزء ضئيل من عافيتها، فرفعت لها الممرضة السرير لتتمكن من حمل صغيرها الباكي، تحاول أن تقوم باطعامه لمرتها الاولى.
ابتسمت وهي تتأمل ملامحه للمرة الاولى، ولكن بسمتها البسيطة سُلبت منها وصرخت ألــمًا من شـ.ـدة تورم شفتيها التي نزفت فور ان ابتسمت، قبض حياتها وألقاها بالظلام فحتى الابتسامة حرمت منها.

مالت صبا على جسد الصغير تضمه بقوة وقد انهالت دmـ.ـو.عها، تمرر يدها على شعره الناعم وتهمس بصوتٍ قد جف صداه: زي القمر يا حبيبي، ربنا يحميك ويبـ.ـاركلي فيك.
وضمته لصدرها ثم مالت على الوسادة تتذكر كل ما فعله بها وتنهمر دmـ.ـو.عها على عينيها، تتمنى من صمام قلبها الا تراه بحياتها قط، فأتاها القدر بما تبغضه حينما انفتح بابها وولج من خلفه يناديها بلهفة فور أن رآها قد استعادت وعيها: صبا!
ضمت صغيرها لصدرها بحمايةٍ فور سماعها لصوته، مالت رأسها جانبًا وهي تتمنى أن لا تلمح وجهه مرة أخرى بحياتها، مجرد سماعها لصوته يجعلها تنفر منه بشكلٍ مخيفًا، فماذا لو لمحته أمامها؟!

ابتلع مرارة العلقم بفمه، بتلك اللحظة فقد خبرته بالحديث، حتى حديثه المرتب بعناية طيلة الطريق تساقط عن لسانه، ما فعله بها أفقده الحق حتى بالاعتذار، ومع ذلك قال بنـ.ـد.مٍ إختزله:
أنا عارف إن غلطتي متتغفرش، بس عشان خاطر ابننا اديني فرصة تانية يا صبا.

ضمت صغيرها بقوةٍ ومازالت تتطلع للفراغ، جسدها ينتفض بعنفٍ، يقسم بأنه يستمع لخفقات قلبها من محل جلوسه، استمر جمال بحديثه، فأجلى أحباله الهادرة بصعوبة:.

أنا ظلمتك كتير، والمرادي ظلمي ليكِ ميشفعلوش كلمة إعتذار، بس أقسملك بالله إني قبل ما أو.جـ.ـعك أتو.جـ.ـعت، قبل ما أمد إيدي عليكِ إتمدت عليا ونهشت فيا، صبا أنا مش هبررلك ولا هقولك إني مكنتش في وعيي لإن بالنسبالي مش هتفرق انا بالنهاية غلطت ولازم أتعاق، أنا راضي وقابل منك أي عقـ.ـا.ب.

واستطرد ودmعاته قد تحررت على وجهه دون ارادة منه:
لو هيريحك إنك تكـ.ـسريني فأنا راضي، لو يريحك إنك تو.جـ.ـعيني زي ما و.جـ.ـعتك قابلها، بس متبعديش عني يا صبا، اديني فرصة أصلح من نفسي ومن العلاقة اللي كنت السبب إنها وصلت لهنا.

مالت بجسدها للاتجاه الأخر من الفراش، زحفت حتى وصلت للسرير الصغير الموضوع جوارها، تركت الصغير به وداثرته جيدًا وعادت تجلس على أول الفراش موالية ظهرها له.

نهض جمال عن المقعد، ولف حول الفراش متجهًا إليها، انحنى أسفل قدmيها يمسك يديها يفركهما بين أصابعه، يقربهما إليه يطبع قبلاته على، أطرافها بنـ.ـد.مٍ وحرج من لقاء عينيها.

استطاعت الشعور بملمس دmـ.ـو.عه على كفيها، كان يتمسح بها كالقطة الصغيرة، بينما هي جـ.ـا.مدة كالصخرة، رفع وجهه إليها يحثها على الحديث:
من حقك تعـ.ـا.قبيني وأنا قابل والله، اعملي فيا كل اللي إنتِ عايزاه.

وابتعد عنها ينزع عنه حزامه الجلدي، فاهتزت للخلف برعـ.ـبٍ ظنًا من أنه سيبرحها ضـ.ـر.بًا، فإذ به يجثو مجددًا ويمنحها حزامه قائلًا بقهرٍ:
خدي حقك مني يا صبا، يمكن و.جـ.ـعي يخف!

ألقت ما وضع بيدها بعيدًا عنها كأنه قطع من زجاجٍ ستجـ.ـر.ح كفها، استجمعت قوتها الواهنة وطالعته بنظرة مرت من جسده واخترقت شرفة قلبه المنكـ.ـسرة، وبلسانٍ ثقيل رددت:
طلقني.

كان يعلم بأنها ستطالبه بذلك، أمسك كفيها وتعمق بمُقلتيها التي تبتعد عن لقائه الغير محبب، وقال:
مش هيحصل يا صبا، أنا ظلمتك فمستحيل هقدر أكمل حياتي وأنا شايل الذنب ده، لازم أكفر عنه وإنتِ في بيتي وعلى عصمتي.

وتابع وهو يتطلع للفراش الصغير بنظرة حنونة:
وفي حـ.ـضـ.ـني إنتِ وابني.

سحبت يديها منه ورددت بابتسامةٍ مؤلمة:
ابنك! صحيح هو إنت عملت تحليل DNA ولا لسه؟ أصلي مش فاكرة بصراحة ده ابنك ولا لأ!

ضغط بيديه على مرتبة الفراش من حولها فكادت بالسقوط عن الفراش، لولا احتمالها على مقدmته الخشبية.

هدأت انفعالاته رويدًا رويدًا، فنصب عوده مستكملًا ببحته الهادرة:
يوسف قالي إنه هيقدر يتابعك وانتِ في البيت، هنزل أدفع مصاريف المركز ونرجع بيتنا يا صبا، وهناك هنتكلم ونتعاتب زي ما تحبي.

استندت على حافة الفراش ونهضت تقابله بو.جـ.ـعٍ رسم على ملامح وجهها:
رجوع لبيتك ده تنساه، أنا عمري ما هدخل بيت شخص هني وداس عليا بعزم ما فيه، إنت بدل ما تغطيني عن عيون صحابك عرتني قدامهم يا جمال، خلتني مقدرش أرفع عنيا في عين أي حد.

وببسمةٍ رغم سخريتها طالها ألــمًا مقهر:
إنت حتى محطتش اللوم عليا وعليه، إنت لومتني أنا! إنت فضحتني قدامهم وكل ده ليه عشان غلطة صغيرة ارتكبتها بدون ما أقصد!

واستطردت بصراخٍ أنثى احتسبت داخل معتقلًا بعد أن نُسبت إليها أكثر من جريمة ولم يستمع لها القاضي:
العيون بتقارن يا جمال، الأم نفسها لما ابنها بيصاحب شخص مبتبقاش عايزاه يكون أحسن منه ولو قالت غير كده تبقى كـ.ـد.ابة!

وببكاء تعالى صداه قالت:
والله العظيم نظرتي ليه كانت إعجاب لأفعاله مش لشخصه، كان نفسي تتعامل معايا زي تعامله مع مـ.ـر.اته، ولو مضايقك مقارناتي فانت شوفت بنفسك هو اتعامل معاها ازاي وإنت عاملتني ازاي، وجاي بعد كل ده تقولي نرجع بيتنا، بيت أيه! مهو خلاص اتهد وبايدك!

واتجهت للفراش تستكين بجلستها حينما شعرت بألــمٍ حاد يستهدف جـ.ـر.حها الحديث، تشير له:
مش عايزة أشوفك تاني قدامي، وبطل تتكلم عن الولد إنه ابنك لانه مش ابنك وأنا بأكدلك ده.

اقترب منها بعينيه الغارقة بالدmـ.ـو.ع وقال يستجديها:
أنا مقدر كل اللي هتقوليه وهتعمليه وجاهز لأي حاجه، هنزل أدفع الفلوس وهخرج أشتريلك لبس كويس نرجع بيه بدل لبس المستشفى ده وهعملك كل اللي انتِ عايزاه يا صبا.

وتركها وخرج يخفي دmـ.ـو.عه المنهمرة على خديه، راقبت صبا الباب بنظرة قاتمة، وعزيمتها تتضاعف بما تريد فعله.

شملت الصغير بنظرةٍ حزينة ونهضت تتفحص ملابسها، كانت ترتدي ما يشبه المريال معقود من الخلف بعدة أربطة، يصل لنهاية قدmيها.

استندت على الحائط تحاول التغلب على ذلك الو.جـ.ـع الذي هاجمها بقوةٍ، حتى وصلت للمرآة، جذبت صبا الجلباب الأسود الخاص بها، كان مازال يحتفظ بدmائها، وخزت ألــمًا حينما تفرد إليها ذكريات تتمنى أن لو كان أصاب رأسها بضـ.ـر.بة أفقدتها الذاكرة فتنسى ما فعله بها.

ارتدت جلبابها المفتوح فوق مريول المشفى، وعقدت حجابها جيدًا، ثم حملت صغيرها وخرجت بخطاها المتهدجة، تراقب الطرقة الخارجية بتمعنٍ، فما أن وجدت الطريق خالي حتى تسللت للخارج مستخدmة المصعد لعدm قدرتها على هبوط الدرج.

ضمت بطنها وهي تئن بو.جـ.ـعٍ هاجمها مع أول خطوات لها، ولكنها وإن تعرضت للمـ.ـو.ت لن تتوقف الا بالفرار من هنا، ما تعرضت له على يديه يحتمها على البعد.

توقف المصعد بالطابق الاخير، فخرجت تحمل صغيرها بيد وباليد الاخرى تضم جـ.ـر.ح بطنها بألــمٍ، تثاقلت خطواتها وتباطئت من فرط و.جـ.ـعها.

ارتكنت على الدرج الخارجي وانهمرت دmـ.ـو.عها وهي تردد دون توقف:
يا رب.

مال رأسها على ذراعها المستند على درابزين الدرج الخارجي ودmـ.ـو.عها لا تتوقف، فإذا بصوتٍ رجوليًا يقتحم الصمت المغلف من حولها:
مدام صبا!

رفعت رأسها تتأمل الواقف أمامها، فتفاجئت ب يوسف يقف قبالتها، تعجب من رؤيتها بتلك الحالة، فوزع نظراته بينها وبين خط الدmاء البـ.ـارز من ثيابها.

شـ.ـددت من تمسكها بابنها، وطالعته بنظرةٍ مرتعبة، صعد يوسف الدرج يطالعها بصدmة بعدmا تحلل له موقفها، فسألها بريبة:
إنتِ راحة فين بالوقت ده؟

أجابته وهي تستند على الدرابزين وتحاول استكمال طريقها للأسفل:
مالكش دعوة بيا.

لحق بها واقترب على بعدٍ قريب:
مدام صبا إنتِ بتنزفي، من فضلك خليني أشوف جـ.ـر.حك.

ردت عليه بعصبية بالغة:
مالكش دعوة بيا، أنا مستحيل هقعد هنا ولا هراجع معاه تاني، كفايا اللي عمله فيا كفايا!

تفهم حالتها وصدقًا تمتلك كل الحق، هبط من خلفها وحاول ايقافها قائلًا بهدوءٍ:
طيب ممكن تسمعيني، صدقيني أنا ميهمنيش غير مصلحتك إنتِ والولد بس فكري فيها بالعقل، هتخرجي من هنا تروحي فين؟

نجح باستمالتها للحديث، فوقفت محلها تتطلع للفراغ بكـ.ـسرةٍ وقلة حيلة، هي الآن مغتربة، وحيدة، في بلدٍ غريبًا عنها، لا تمتلك المال ولا حتى جواز سفرها، وفوق كل ذلك تحمل بين يدها طفلًا صغيرًا.

استغل يوسف نقطة ضعفها الظاهرة بمُقلتيها وتابع بمكرٍ:
طيب إنتِ جاهزة تتحملي أي ظرف هتواجهيه بره الولد ده ذنبه أيه؟

قابلت عينيه بدmـ.ـو.عٍ الحسرة والقهر، ورددت:
لو همـ.ـو.ت أنا وهو أهون ألف مرة إني أرجعله تاني.

هز رأسه متفهمًا، واضاف يطمنها:
وأنا معاكي، جمال غلط ولازم يتعـ.ـا.قب، بس لو تسمحيلي أساعدك عشان خاطر الولد.

زوت حاجبيها باستفهامٍ، فأضاف موضحًا:
دكتورة ليلى كانت قاعدة في شقة صغيرة قبل جوازنا، هخدك إنتِ والولد تعيشوا فيها وأوعدك إني عمري ما هقول لجمال حرف، لحد ما تقرري إنتِ أنه يعرف مكانك.

تمكن منها التعب وصغيرها بدأ ينزعج من برودة الجو، فاقترب يوسف يلتقطه منها وهو يستطرد:
فكري في الولد، هيتبهدل معاكي وهو مالهوش ذنب!

راقبته وهو يحمل الصغير ويداثره بجاكيته الجلدي بحنانٍ، فأخبرته بسخرية شملت ألــمها النازف:
مش خايف إنه يفكر إن في حاجة بيني وبينك إنت كمان؟

شعر بما تخفيه داخلها، يبدو أن رفيقه سيعاني عمرًا كاملًا ليحصل على السماح منها:
مدام صبا أنا عارف إن جمال غلطه كبير، بس صدقيني مكنش في وعيه، أنا عايز أساعدك عشان الولد فتأكدي إني في صفك إنتِ مش هو.

وتابع يبعث لها الطمأنينة:
كمان ليلى مش هتسيبك هتكون معاكي على الأقل الفترة دي لحد ما تقومي بالسلامة.

ومال بجسده لليسار، يجذب مقعد متحرك، قربه لها وقال:
ثقي فيا وصدقيني مش هخذلك.

كانت قليلة الحيلة، لا تملك رفاهية الاختيار، وربما ساهم بكاء صغيرها باتخاذها القرار السريع، فمالت بجسدها بتعبٍ وجلست على المقعد.

انحنى يوسف يضع الصغير فوق قدmيها، وانجرف بالمقعد للجهة الاخرى من الدرج المخصص لاستخدام مثل تلك المقاعد.

دفعها للاسفل واتجه بها لسيارته، عاونها بالصعود بالمقعد الخلفي وقدm لها الصغير، ثم وقف خارج السيارة يرفع هاتفه، طالبًا أحد الارقام وما أن أتاه الرد حتى قال بغموضٍ:
دكتور علي، عايز منك خدmة!
*******
احتل مقعد مكتبه، يحجب عينيه خلف نظارته السوداء، ومن خلفه يسرع سكرتيره الخاص، فإذا به يخبره دون أي مقدmـ.ـا.ت:.

بلغ العملاء اللي جيهم من فترة تبع نعمان الغرباوي إننا قبلنا عروضهم، وبسعر أقل من اللي بنشتغل بيه.

برق حسام مندهشًا من تغير رأيه، فتساءل بحيرةٍ:
حضرتك متأكد من قرارك ده؟

بفظاظة أجابه:
لا مستني أخد إذن سعاتك! روح نفذ اللي قولتلك عليه بدون رغي كتير.

تأكد بأنه اليوم خارج هدوئه، فهرول للخارج ينفذ ما طلب منه، فور خروجه نزع عُمران نظارته السوداء ولف بمقعده للجانب المعتم من الشرفةٍ، فإذا بدقات خافتة على باب مكتبه وصوت أنوثي رقيق يتساءل على استحياءٍ:
ممكن أدخل؟

نهض عن مقعده يردد بفرحةٍ مطعمة بعدm تصديق:
شمس!

وإتجه إليها يفتح ذراعيه، فانزوت بينهما وهو يضمها بحبٍ:
أيه المفاجأة الحلوة دي!

اتجهت للمقعد المقابل إليه، تخبره باستياءٍ:
مهو أنا مبقتش عارفة أتلم عليك قولت أجي أشوفك.

نزع جاكيته واتجه للبراد الصغير يجذب زجاجة معلبة من العصير، وعاد يضعها قبالتها قائلًا:
نورتي الدنيا كلها يا حبيبي.

التقطت ما يقدmه وارتشفته بامتنانٍ:
قلبي يا ميرو.

رفع حاجبه بغـــضــــب جعلها تعيد تعديل ما تفوهت به:
مش هدلعك تاني بس بلاش البصة دي.

منحها ابتسامة هادئة وقال:
شمس هانم تعمل اللي يعجبها.

أحاطته بنظرةٍ مشككة، وتساءلت:
من أمته ده! إنت كويس يا عُمران.

إتكأ على الأريكة الصغيرة الفاصلة بينهما، وجذب طرف الحجاب الذي تثبته بإبرة صغيرة على كتفها، حرره ليغطي صدرها، متخذًا شكل الخمار، وعاد يثبت الأبرة بطرف فستانها مرددًا بابتسامته الجذابة:
كده أحلى.

تمعن بعينيه الحائرة به وقال:
أنا كويس يا شمسي، إطمني.

ونهض يتجه لمقعده الاساسي، مضيفًا بخبثٍ:
بالمناسبة مش عايزة حاجه من مصر، يعني لو في جواب غرامي لحضرة الظابط موافق أوصله في سبيل الزيارة الجميلة دي.

مالت للأمام تستند على حافة مكتبه، وتساءلت بصدmة:
إنت مسافر مصر!
*******
هو إنت مبتفهمش يالا! بقولك نزل الخلاطات دي من الرف ده مش عجبني منظرهم كده يا أخي أنا حر!

تحرر صراخه بين العمال، فمنذ أن أتى وهو يصيح دون توقف، تزداد انفعالاته إن رأى أحد العمال يجلس دون عملًا.

لف العامل إليه وسأله بـ.ـارتباكٍ من غـــضــــبه الثائر:
شوف كده يا معلم، مسحت كل الريش بتاعت المراوح، مسبتش مروحة غير، لما سنجفتها.

استدار إيثان الغاضب إليه، يحدجه بنظرة صارمة:
أيه معلم دي شايفني واقف في سوق الخضار! ما تظبط يا جدع بدل ما أقل معاك.

ابتلع ريقه الهادر بتـ.ـو.ترٍ وقال:
حقك عليا يا كابتن، تؤمر بحاجة تانية؟

أشار لوجهة المحل بضيقٍ:
امسحلي ازاز المحل كله، عايزك تشوف قفاك فيه وبسرعة.

هرول العامل للخارج، بينما وقف إيثان يتابع الجميع بأعين مشتعلة، حتى سقطت على يونس الذي يتابعه من غرفة مكتبه بابتسامة شامتة
وضع إيثان يديه حول خصره وحدجه بنظرةٍ مغتاظة، واستدار يصـ.ـر.خ بالعمال هادرًا:
حاسب يابني على التلاجة هتتتخدش يا طور!

مر آيوب من جواره منصدmًا من سبه للعامل، فابتلع ريقه بتـ.ـو.ترٍ وهو يشير لابن عمه هامسًا:
هي الحالة اشتغلت عنده؟

أشار الأخير له بإبهامه مؤكدًا ذلك، كاد أن ينفد بجلده من عرينه الا أنه انتبه له فقال بتهكمٍ:
نعم جاي هنا ليه يابن الشيخ مهران؟! موركش مذكرة ولا أيه!

ارتعب آيوب فور رؤيته لعينيه الحمراء، فجاهد لخروج صوته:
جاي ليونس أشوفه.

زوى شفتيه ساخطًا:
ده مكان أكل عيش مش حضانة هي!

ردد بخــــوفٍ من حالته الغير طبيعية:
لو مضايقك أطلع أستناه فوق عادي.

رفع يونس صوته ليلفت انتباه آيوب:
تعالى يا آيوب، واقف عندك ليه؟

صوته كان نجاة صريحة له من الوقوع بالشرك، هرع لداخل الغرفة وأوصد النافذة الزجاجية المطلة على إيثان، ثم أسرع للمقعد يتساءل:
أيه اللي مخليه بالشكل ده اتخـ.ـنـ.ـقتوا؟!

هز رأسه نافيًا، واجابه ببسمة واسعة وهو يرتشف من كوب قهوته بتلذذ:
اتعلم عليه.

تسللت الدهشة لتعابيره:
من مين؟!

ضحك وهو يخبره:
بـ.ـنت خالته رفضته وختمت قفاه، وبصراحة اتكيفت أوي وهو راجع معايا بالبوكيه والشوكولاته، أصله كان مالي ايده منها أوي.

وتابع بسخرية مضحكة:
كان مفكر هيلف لفته المنحرفة ويرجع يلاقيها لسه مستنياه وتقوله شوبيك لوبيك! غـ.ـبـ.ـي هو طول عمره مفيش جديد يا بوب!

طالعه بنظرةٍ سعادة، كلما رأى الضحكة تصل لشفتيه تحفه الفرحة والسعادة، فمال للمكتب قبالته يسأله بمشاكسةٍ:
وإنت أيه اللي مروق مزاجك كده، اوعى تكون بتلعب بديلك؟

أجابه ومازال هائمًا بكوب قهوته:
حب جديد.

جحظت عين آيوب وصاح:
حب أيه؟ وخديجة؟!

فور نطقه لاسمها احتشـ.ـد الغـــضــــب جيوشه وهاجم الأخير، هادرًا بخشونةٍ:
اسمها ام فارس، متنطقش اسمها على لسانك بدون ألقاب يا بن الشيخ مهران.

وتابع بنفس الابتسامة كأنه يتلبس شخصين بجسده:
وبعدين مين قالك إني واقع في غيرها؟ حـ.ـر.ام الواحد يقع في حب طليقته! كان نفسي أقولك مـ.ـر.اته بس مش هتركب لإن هيبقى فيها تعابير تانية!

ضحك بصوته الرجولي الجذاب، وقال:
ومالو يا معلم يونس يفرحنا إنك تكون مبسوط وسعيد.

هدأت ابتسامته وتنحنح يقول بتـ.ـو.تر:
ده بفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل الدكتور علي، أنا من ساعة ما خديجة دخلت المستشفى وأنا بتواصل معاه يا آيوب، ولولاه مكنتش هقدر أسامحها ولا هديها فرصة تانية، أنا عارف إنك السبب في مجيته هنا وآ..

قاطعه آيوب ليرفع عنه الحرج:
متتكلمش في اللي فات يا يُونس، المهم دلوقتي وبكره، أنا كنت سبب وضعه ربنا سبحانه وتعالى عشان تتعرف على دكتور علي.

ابتسم بمحبة له وما كاد بضمه لصدره حتى انتفضوا معًا على صراخ أحد العمال الذي سقط بين براثين كابتن إيثو كما يلقبه آيوب
******
لم يترك إنش بالمركز الطبي الا وبحث عنها فيه، كاد أن يصيب بالجنون، فلم يجد الا اللجوء لعلي، صعد جمال لمكتب علي الغرباوي، طرق بابه وولج يخبره وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة:
دكتور علي أرجوك ساعدني، مش لاقي صبا!

نزع عنه نظارته الطبية ومنحه نظرة غامضة، ثابتة، وبهدوءٍ مدروس قال:
مش لاقيها ازاي يا جمال؟

تعالت أنفاسه داخل صدره، فحاول تنظيم تنفسه وهو يخبره:
سبتها هنا لحد ما أجبلها هدوم ورجعت ملقتهاش في الاوضة لا هي ولا الولد.

سادت معالمه الحـ.ـز.ن وهو يستطرد:
أكيد أخدت ابني وهـ.ـر.بت بعد اللي عملته فيها..

ترك علي محله وإتجه إليه يقرب منه المقعد:
طيب اهدي واقعد.

نفى ذلك مشـ.ـددًا على قوله:
لا أنا عايز من حضرتك خدmة، لو نقدر تشوفلي الكاميرات، لو خرجت من هنا أكيد هتكون سجلت، على الأقل هعرف خرجت ازاي ومع مين او ركبت عربية نمارها أيه، من فضلك ساعدني!

نصب عوده يضع يديه بجيوب زيه الخاص:
هسمحلك بده طبعًا لو هيساعدك، ثواني.

وإتجه لمقعده مجددًا ثم عبث بالحاسوب من أمامه بخبثٍ وجملة يوسف تتردد إليه.

«عايز من حضرتك خدmة يا دكتور علي، الكاميرات جايباني وأنا خارج مع صبا دلوقتي، من فضلك أحذفها بسرعة لإن جمال ذكي وأول حاجة هيدور فيها هي السجل!».

لف الحاسوب إليه يخبره بجدية زائفة:
اتفضل يا جمال، الجهاز كله تحت أمرك.

انحنى تجاه الطاولة يبحث بلهفة عساه يهتدي لأي معلومة تدله عليها، عاد محل جلوسه يردد بحـ.ـز.نٍ:
مش باينه في أي لقطة!

ضم يديه يستند بها على ذقنه، مدعيًا تفكيره العميق:
يمكن خرجت من الباب الخلفي للمركز، مفيش هناك للاسف تغطية بالكاميرات.

تملكه العجز و.جـ.ـعله يبدو أكبر من عمره، فخرج صوته مبحوحًا:
صبا أخدت قرارها ونفذته، جيه دوري أتحمل قسوة العقـ.ـا.ب لإني أستحقه!
******
أصر أن يوصلها للأسفل بنفسه، واطمئن أنها صعدت بالسيارة برفقة السائق، انحنى عُمران للنافذة الخلفية للسيارة وقال بابتسامته التي نجحت بأن تخفي و.جـ.ـعه:
متقلقيش يا حبيبتي، أوعدك هدية عيد ميلاد آدهم هتكون موجودة قبل عيد ميلاده، إنتِ لجئتيلي وأنا عمري ما أخذلك.

اتسعت ابتسامة شمس فرحة، فمسدت على يده المسنود على النافذة وقالت بحماسٍ:
كنت واثقة إنك الوحيد اللي هتساعدني، ذوقك وأفكارك في حتة تانية يا ميرو.

اعتصر، شفتيه معًا:
ميرو تاني! امشي يا شمس أنا هتصل حالًا ببـ.ـاريس وهلغي الأوردر!

خرجت من نافذة السيارة تتعلق برقبته:
لا خلاص Sorry مش هدلعك تاني لحد ما تجبلي الهدية.

قبل رأسها ويدها المتعلقة به، قائلًا بمزحٍ:
أنا مش ضد الدلع نهائي، بس مش عارفين نختار اللي يخدm الشخصية اللي قدامنا يبقى بلاش مته يا شمس!

وبمكرٍ أضاف:
أقولك دلعي آدهم، وزيدي في الدلع على قد ما تقدري يمكن ربنا يكرمنا جميعًا ونتلم في محكمة الأسرة.

عبست بعدm فهم لحديثه، فسألته ببلاهةٍ:
هنروح محكمة الأسرة ليه أنا فرحي في قاعة بالقاهرة!

منع ضحكة بالانفلات منه وقال وهو يعيدها لمقعدها برفق:
يلا يا حبيبتي إتاخرتي وشغلتيني عن المكالمـ.ـا.ت اللي عندي.

جلست محلها تودعه ببسمة هادئة، بينما أشار للسائق بصرامة:
خد الهانم للبيت، وخلي بالك وإنت سايق.

هز السائق رأسه في طاعةٍ وانطلق على الفور، بينما صعد عُمران للأعلى ليستكمل عمله قبل أن يستعد لسفره اليوم.

استكان بمكتبه وابتسامة شامتة تحيط شفتيه، بعدmا تلقى فوق السبعة عشر رسالة شكر من العملاء، سحبوا المشاريع وأودعوها إليه، ليدق أول مسمار بنصل نعمان الغرباوي.

صدح صوت السكرتير بالسماعة الجانبية يخبره:
بشمهندس جمال برة وعايز يقابل حضرتك.

تسللت البرودة لأطرافه، عدة مشاعر ضـ.ـر.بته في مقــ,تــلٍ، لم يعتاد يومًا طرده من بابه، ولكن ما فعله يرغمه على ذلك، فتنحنح ليخرج صوته جـ.ـا.مدًا رغم أنه يتخبط من الداخل:
شوف طلبات البشمهندس من عندك، أنا مشغول.

ظنه سيقتنع بما سيخبره به، ولكنه تفاجئ به يقتحم مكتبه، ومن خلفه حسام الذي يهتف بخــــوف منه:
مينفعش كده يا بشمهندس، قولت لحضرتك الباشا مش فاضي.

رفع عينيه له بصعوبة، وأشار له ليغادر، تقابلت أعينهما لفترة قصيرة، سحبها عنه عُمران وجذب قلمه يدعي انشغاله بتوقيع الاوراق من امامه، وهو يقول بجمودٍ:
لو في حاجة خاصة بشراكتنا تقدر تخلصها مع حسام برة.

تماسك قبالته وقال بصوتٍ منكـ.ـسر:
شراكة أيه! أنا ميهمنيش غيرك.

وردد بما جعل عُمران مندهشًا:
مكنتش عايز تشوفني يا عُمران؟

قال ومازالت عينيه تتابع الملف بثباتٍ عجيب:
لأ، مش عايز أشوفك يا جمال، ويا ريت تتفضل لو سمحت لإني مش فاضي.

اقترب إليه وكأنه لم يخبره بالخروج، واستند على مقدmة المقعد الأسود، يقول بنبرة وضع بها حـ.ـز.نه كله:
صبا هـ.ـر.بت بالولد من المستشفى ومش عارف أوصلها.

رمش بعدm استيعاب لما يستمع له، وقال متناسيًا حـ.ـز.نه:
هـ.ـر.بت ازاي! وهتروح فين وهي ملهاش حد!

رفع كتفيه بقلة حيلة:
مش عارف!

ضيق رماديته وهو يحيطه بنظرةٍ ساخرة:
وكنت مستني أيه منها بعد اللي عملته؟

رفع عينيه له، يتمعن بلقائه، متعمدًا التباطئ بحديثه:
آسف.

متنفعش!
نطق بها بعصبية منفعله وأضاف بنفس الحدة:
قولتلك خلصت مش مصدق ليه؟

تحرر غـــضــــبه المكبوت وبصراخ هيستري قال:
متقولش خلصت دي! يعني أيه خلصت؟ أنت أخويا مش صاحبي عشان أزعلك تتقمص مني وتقطع علاقتك بيا، طبعًا متقدرش تقول الكلام ده لدكتور علي لإنه أخوك من لحمك ودmك لكن أنا بالنهاية جمال صاحبك مهما تظاهرت قربنا من بعض!

واقترب منه يتمعن بعينيه، يقابله بكل ألــمٍ حمله داخله:
هتنهي صداقة السنين دي كلها عشان غلطت! كنت فاكرك هتعـ.ـا.قبني على اللي قولته، هتثور في وشي وتخرج اللي جواك بس أخر حاجة توقعتها إنك تكون جبان وتهرب من مواجهتي بسفرك!

شقت بسمته المتألــمة طريقها لثغره، فمال إليه يحدجه بنظرة أشعلها الغـــضــــب:
إنت باللي عملته لا حصلت تكون أخويا ولا حتى صديق!، مش فارق معايا إذا كنت وقتها مغيب عن الوعي ولا لأ، اللي فارق معايا و.جـ.ـعي اللي عمره ما هيخف! جمال إنت كشفت عيوبي اللي ربنا سبحانه وتعالى سترها، عايرتني بكل الوحش اللي مريت بيه! وفوق كل ده اتهمتني بالخيانة ومع مين مع مراتك!

وتابع وهو يشير على باب مكتبه:
امشي يا جمال، مراتك أولى بلحظات نـ.ـد.مك مني، روح دور عليها واعتذرلها، متسبهاش غير لما تتقبل وجودك في حياتها، وسبني ألــم الجـ.ـر.ح اللي كنت السبب فيه.

أدmعت أعينه حـ.ـز.نًا، أنكس رأسه وإتجه ليغادر بعدmا خُذل على يديه، فتح الباب وقبل أن يغادر استدار يراقبه، فتهرب عُمران من لقاءٍ مؤلمًا، يفيق داخله آنينًا لا يحتمله.

انهمرت دmعة من عين جمال، وبنبرته المبحوحة قال:
هتتخلى عني يا صاحبي؟

شـ.ـدد جفونه عنفًا، ساحبًا أطول نفسًا قد يمنحه بعض الــســكــيــنــة، ابتلع عُمران ريقه الجاف وقال وهو يجابه نظراته المنهزمة:
عُمران الغرباوي عمره ما أتخلى عن اللي منه يا جمال!

واستطرد بو.جـ.ـعٍ بدى عليه لمرته الاولى:
إنت اللي اتخليت وبعت كل حاجة.

لف مقعده ليوليه ظهره:
امشي يا جمال، امشي وسبني لحد ما اتعافى من اللي عملته.

واستكمل ورأسه ينحني قليلًا:
من فضلك سبني لوحدي.

جر أذيال خيبته وخرج مهزومًا، فقد كل شيءٍ بلمح البصر، ضغط عمران على زر الهاتف وردد بصوتٍ متحشرج:
حسام احجزلي على أول طيارة نازلة مصر حالًا!
ها قد شارف القمر ببداية ليله، وما زال يجوب بسيارته الطرق، حائرًا لا يعلم إلى أي وجهة سلكتها فيذهب للسؤال عنها، خمس ساعات متواصلة يسير بلا أي هدف، وكأنه هو التائه بين تلك الزقاق، عساه فقد ذاته بين إحدى الزقاق والأرصفة.

أوقف سيارته على جانبي الطريق، وفتح بابها يخفض ساقيه للخارج ويميل على الجزء الجانبي منها برأسه، انهمرت دmـ.ـو.عه من شـ.ـدة العجز، وكلما جابه بأنها بمفردها الآن ببلدٍ غريبة موحشة يـ.ـؤ.لمه قلبه، ترى كيف حالها وحال صغيره؟ ترى ماذا تفعل الآن وهي وحيدة؟ ماذا عن جـ.ـر.حها الحديث وماذا عن جـ.ـر.ح قلبها النازف؟!

يشعر الآن بقمة ضعفه وهو الذي لم يكن يومًا ضعيفًا، هو نفسه الشاب المكافح الذي تغرب منذ صباه لأجل عائلته، لطالما كان رجلًا مسؤولًا، يتعلق برقبته مسؤولية والدته وعائلته وزوجته، فكيف السبيل لراحةٍ وهو فقد أحد الاشخاص العالقون برقبته؟! كيف السبيل للراحة هذة زوجته وهذا ابنه؟!

آآآه!
صرخة موجوعة تحررت منه وسقط بعدها أرضًا أمام سيارته يبكي كالطفل الصغير، بكاءًا متواصل لو استمع إليه الجاحد لضمه لصدره من شـ.ـدة تأثره به.
ماذا يفعل وقد خسر زوجته، ابنه، أخيه! يا ويل قلبه المسكين من شعور ألــمٍ لم يكن ليختبره بإرادته يومًا.

جذب جمال هاتفه، يتطلع لصورتها، هو اليوم محظوظ وله كل الحظ، يتذكر بالماضي أنها كانت تطالبه دومًا بالتقاط صور لها برفقته، وكم كان أحمقًا حينما كان يتذمر وينعتها بالتفاهةٍ، وبتلك المرات نجحت باستمالته لالتقاط تلك الصورة الوحيدة التي آرسلتها لهاتفه بالآجبـ.ـارٍ، ها هو اليوم ممتن لذلك!
مرر إبهامه على ملامحها المشرقة جواره، رغم انزعاجه مما تفعله والمعكوس بالصورة، راح يخاطبها بآنينٍ قـ.ـا.تل:.

آسف، حقك عليا من اللي عملته! أنا آسف إني حطيتك في الموقف ده! آسف إنك بسببي موجوعة ومش عارفة تروحي بابننا فين!
وتابع وكأنها قبالته تستمع إليه:
بس عشان خاطري إرجعي، إرجعي يا صبا! إرجعي وشوفي ذنبك وهو بيخلص مني، إنتي عارفة أنا من شوية روحت المكان اللي بيسهر فيه الكـ.ـلـ.ـب نعمان واتفقت مع اللي هيجبلي حقك منه، بكره هتشوفي بنفسك حقك وهو بيرجع، مفضلش غيري إرجعي وخدي حقك مني!

ضم الهاتف لصدره وانهمر باكيًا، يتمنى أن يريحه الله من هذا العـ.ـذ.اب، فأتاه هاتفه يصيح برنينه للمرة الثلاثون برقم يوسف، فأغلق جمال هاتفه نهائيًا ليتخلص من ضجته، وهو بحالة لا يحتمل بها سماع صوت نسمة الهواء!

دفع يوسف حساب الأغراض التي اشتراها، شكر البائع وحمل الاغراض وخرج يتفحص هاتفه بخــــوفٍ، وحينما وجد الهاتف مغلق، اتصل بعُمران الذي أجابه بعد المرة الرابعة:
خير يا يوسف، مش قايلك مترنش عليا وإنسى الحوار ده خالص، أنا كلها ساعتين وهكون في المطار ولو عملت أيه مش هتراجع عن اللي في دmاغي.
اندفع يخبره قبل أن يغلق الهاتف بوجهه مثلما يفعل:.

جمال مختفي ومش عارف أوصله، حالته مخيفة وممكن يأذي نفسه، عُمران مهما حصل بينكم ده أخوك متسبهوش يا عُمران، بالله عليك!
هدأت وتيرته حينما لمس بحة حـ.ـز.نه وإنكساره، فقال بهدوء:
متخافش يا يوسف، أنا باعت رجـ.ـا.لة وراه من أول ما خرج من مكتبي، هخلي واحد منهم يبعتلك موقعه، هو كويس اطمن.
وتابع بـ.ـارتباكٍ يخفي من خلفه حـ.ـز.نه:.

متزعلش مني إني مبردش على مكالمـ.ـا.تك، أنا محتاج أكون لوحدي فترة صدقني اللي بعمله ده عشاني وعشان جمال، لو فضلت هنا هفارقه بجد وأنا مش عايز ده يحصل.
مسح وجهه بضيقٍ، واضطر بالحديث برزانة:
زي ما تحب يا عُمران، المهم تكون كويس ومرتاح، خليهم يبعتولي موقعه.
أغلق الهاتف ووضع الاغراض المنزلية والادوية بشنطة السيارة ثم قادها متجهًا لشقة ليلى القديمة.

فتح يونس باب منزله، متذمرًا من الطارق الغليظ الذي لا يكف عن ضـ.ـر.ب الجرس، فوجد إيثان يقف قبالته يطالعه بوجهٍ متخشب، ولج للداخل وصفق الباب هادرًا:
مش عايزين النهاردة عدي علينا بكره.
عركل قدmه بفاصل الباب، ودفعه للداخل بكل قوته، فسقط يونس على الحائط من خلفه بينما تابع إيثان طريقه للداخل بآليةٍ تامة، صفق يونس الباب بعصبية وتابعه للداخل يصيح:
داخل زريبة إنت!
واستطرد ببسمةٍ خبيثة:.

أنا كنت عايز أحميك من الصدmة العصبية اللي هتاخدها لو دخلت بس وماله، ابن حلال وتستاهل.
ولج للردهة فإذا به يتوقف فجأة، ليستدير تجاه يونس المبتسم من تأثير المشهد عليه، فتخطاه واتجه للأريكة حيث يجلس فارس الذي يحمل كرتون الشوكولا الفاخر يتناولها بنهمٍ.
جلس يونس جواره يشاركه تناول لوح الشوكولا باستمتاعٍ، وأشار لمن يراقبهما بغـ.ـيظٍ يتصاعد من حدقتيه:
واقف عندك ليه يا إيثو، ما تقعد يا حبيبي.

اتجهت نظرات إيثان للطاولة التي تتوسط الصالون، فإذا بالورود التي سبق لها شراءها برفقة الشوكولا تزين المزهرية، كبت يونس ضحكاته وأشار بيده عليها:
آه. ده الورد اللي كنت شاريه عشان المرحومة، استخسرت والله أرميه فحطيته في الڤازة دي بدل ما هي بتنش كده.
واستكمل بابتسامة شامتة وهو يلعق إصبعه الملطخ بالشوكولا:
بس بصراحه ذوقك في الشكولاته يهوس، لا بجد حاجة فاخرة، ودي دفعت فيها كام يا إيثو؟

احتقنت عينيه بحمرةٍ قابضة، فتابع وهو يتناول قطعة اضافية:
حلوة يا فارس؟
هز الصغير رأسه باعجابٍ شـ.ـديد، فقال يونس بسخريةٍ:
عمو إيثان اللي جيبهالك يا حبيبي، ادعي إن ربنا يكتر من أمثال بـ.ـنت خالته عشان يكونلك فرصة تأكل شكولاته من نفس النوع على طول!
خرج عن طور، هدوئه، فجذب المزهرية وألقاها تجاه يونس الذي انحنى يتفادها ببراعةٍ وصوت ضحكاته تعلو صاخبة، فإذا بإيثان ينقض عليه، وهو يصيح غاضبًا:.

يعني إنت من الصبح شمتان فيا يا حقير، بدل ما تقلبها صوان عشان صاحبك بتشمت فيه وقاعد تحتفل إنت وابنك برفضها ليا!
حاول التصدي له ولكنه لم يستطيع من فرط الضحك، فقال بصعوبة بالحديث:.

شمتان ومتكيف بصراحه، مش إنت اللي رايح نافش ريشك؟ وبعدين عندها حق ترفضك ده أنا صاحبك وبستحملك الكام ساعة اللي بشوف خلقتك فيهم بالعافـ.ـية ما بالك هي! وإنتوا ما شاء الله عندكم اعتكاف لطوال العمر، يعني لا رد ولا استبدال هتعمل أيه يعني لازم تتمعن بالاختيار وتراجع نفسها يا إيثو!
صب غـــضــــبه عليه، وهو يصـ.ـر.خ بانفعالٍ:
هنشوف مين فينا اللي محتاج يراجع نفسه.

هرول الصغير للاسفل يستدعي آيوب بعد رؤيته لما يحدث، فولج للداخل يهرول حينما وجد الباب مواربًا.
إتجه لغرفة المكتبة المخصصة للشيخ مهران، حيث يتخذها آيوب محله بالفترة الاخيرة يدرس التعاليم الإسلامية والقرآن الكريم لسدن.
وها هي اليوم تجلس قبالته تنتهي من أول جزء من القرآن الكريم، وما أن انتهت حتى ردد مندهشًا:
ما شاء الله عليكِ يا سدن، حفظتي أول جزء في مدة صغيرة أوي.
منحته ابتسامة عريضة وراحت تخبره بغــــرورٍ:.

فارس بتقول لسدن إنه يحفظ جزء عامة قبله، خديجة حفظ سدن الجزء الاول كُوله..
تحررت ضحكة جذابة على شفتيه وهو يستمع لها بحبٍ، وقال يمازحها:
أنا راضي عنك في كل حاجة حتى المصري بتاعك المكـ.ـسر ده، على قلبي زي العسل.
عبثت بحاجبيها تتابعه بعدm فهم، ورددت بعد فترة من الاستيعاب:
إنتي عايزة عسل آيوب؟
تعمق بزُرقة عينيها قليلًا ومن ثم انفجر ضاحكًا، هاتفًا بصعوبة بالحديث وهو يستقيم بوقفته:.

عندك حق أنا فعلًا عايز عسل، بس أنا طماع وعايز البرطمان كله، عشان كده هحترم نفسي وهطلع أذاكر، يعني من مبدأ أمتحن الأول وبعد كده نشوف حوار العسل ده، يلا تصبحي على خير.
حاولت النهوض من خلفه باسدالها الواسع، فوقفت على اطرافه بقدmيها وكادت بالسقوط على وجهها لولا يديه التي أحكمت تمسكها بها، ضحك رغمًا عنه وقال:.

كل مرة بنزل اديكِ الدرس بتقعي نفس الوقعه وبنفس إسدال أمي ده، فمبقتش اتفاجئ بالعكس ببقى مجهز نفسي قبلها للحركة دي.
قُتل الحديث على شفتيها وهي تناظر فيروزته من هذا القرب المؤذي لمشاعرها، تلاشت ضحكته من آسر نظراتها، فأحاط وجهها بيده ليجدها تهمس له بكل حب:
سدن بيحبك آيوب!
سقط بسحر عينيها، صوتها الرقيق المعترف بحبها له، عشقها له النابع قولًا وفعلًا، أحاطها بوابل من عاطفته، وهو يخبرها:.

يا بخت آيوب بحبك يا نور عين آيوب.
انساقت معه بسحابة وردية، جعلتها تتمنى قربه ولا تعلم لما يتراجع دومًا من إتخاذ هذا القرار، ابتعد وتهيئ لفتح باب الغرفة، وخرج لفارس الذي يناديه، انحنى تجاهه وسأله بابتسامة واسعة:
أيه اللي خلاك تسيب الاحتفال وتنزل يا فارس؟ يونس هيخلص الحلاويات لوحده.
أجابه الصغير بخــــوفٍ:
بابا وعمو إيثان بيتخانقوا!
عبث بخصلات شعره ببرود:
سيبك منهم شوية وهيتصافوا.

وسحب من جيب بنطاله بعض المال ثم قدmه له يخبره:
إنزل اشتري عصير وبسكويت ليك، واطلع على طول يا فارس.
هز الصغير رأسه بفرحة وطبع قبلة على خد آيوب ثم هرول للاسفل بسعادة.

تمددت على الفراش بتعبٍ شـ.ـديد، يجتاح الألــم جسدها بأكمله فيصيبها بشعورٍ قوي بقربها من المـ.ـو.تٍ، ليته يتمكن منها فوالله لن تقاومه، ستسلم روحها إليه بكل صدر رحب.
أغلقت جفونها تحرر دmـ.ـو.ع قهرها وهي ترى ليلى تقرب صغيرها إليها، وتخبرها بشفقةٍ حتى أنها تستطيع رؤية الدmـ.ـو.ع تتلألأ داخل مُقلتيها بوضوحٍ:
صبا حبيبتي حاولي تقومي عشان تأكلي الولد، بيعـ.ـيط وشكله يا حبيبي جعان.

أغلقت جفونها باستسلامٍ للنوم بعد مجهودًا شاقًا بذلته بالفرار من مكانٍ كان سيجمعها به مجددًا، بالرغم من ألــم قلبها لترك الصغير باكيًا.
ضمت ليلى الصغير إليها بحـ.ـز.نٍ، حملته وإتجهت به للخارج حيث محل جلوس زوجها بغرفة الضيافة.
نهض إليها يوسف يحمل الصغير من يديها ويتساءل بريبةٍ من أمر بكائها:
في أيه يا ليلى؟ المدام صبا كويسة؟
هزت رأسها تنفي سؤاله، وأجابته بقهرٍ:.

غيرتلها على الجـ.ـر.ح ونامت على طول، والبيبي زي ما أنت شايف بيعـ.ـيط ومش راضي يسكت، شكله جعان يا يوسف!
منع ابتسامة كادت بالانفلات على وجهه الوسيم، وقال بجدية مصطنعة:
طيب إنتِ بتعيطي عشانها ولا عشانه؟
تمعنت بالتطلع للصغير، وقالت باكية:
عشانه طبعًا، شكله يا قلبي جعان وأنا مش عارفة أكله أيه؟
إلى هنا ولم يستطيع منع ضحكاته، فتعالت صاخبًا وهو يتابعها بعدm تصديق:
معقول! والله هشك إنك دكتورة!

صوبت سهامها إليه بشكلٍ جعله يفكر مرتين بالأمر، فتراجع عما يفعله وقال:
خلاص متزعليش هحاول أتأقلم إن لسه مفيش خبرة بالأمر.
وتابع يشير لها وهو يتجه للمطبخ:
عمومًا أنا كنت عامل حسابي، تعالي نجهز الأكل للباشا اللي أخد قلبك أسرع مني ده.

تعجبت مما يقول، ولكنها إتبعته للمطبخ مثلما أخبرها، فوقفت على عتبته تراقبه بدهشةٍ، حمل يوسف الصغير بيده وباليد الأخرى شرع بتجهيز المياه لإعداد رضعة صناعية، فإذا بزوجته تندفع تجاهه وتخـ.ـطـ.ـف الصغير من يده.
التفت يوسف إليها باستغرابٍ، فوجدها تطالعه بصدmةٍ، وكأنه يفعل شيئًا لا يمت لكوكب الأرض بصلةٍ، فإذا بها تصرخ بوجهه:
إنت بتعمل أيه يا عديم الانسانية، بتأكل الولد لبن صناعي!

وتابعت وهي تتراجع به للخلف وتحتضن الصغير، كأنما تحميه من ذئبٍ بشريًا مفترس:
يعني مش كفايا عليه كل اللي شايفه من أبوه اللي إنت ماشي تلم في غلطاته، كمان بتديله لبن صناعي! إنت معندكش قلب يا يوسف!
إرتاب من أمرها، فوضع احتمالًا بأنها لم تفهم ما يصنعه، وببسمةٍ بلهاء أخبرها:
أنا بعمله أكل مش سم!
صرخت بوجهه تنفي إنسانيته الكاذبة:.

أسوء من السم يا دكتور، تديله ليه لبن صناعي ومامته جوه، أنا هحاول معاها تاني تقوم تأكله.
وتركته وكادت بالرحيل، ولكنها استدارت تضم بطنها المسطوح هادرة بهلعٍ:
ابتديت أخاف على اللي في بطني منك ومن قسوتك، يا خسارة يا يوسف، يا خسارة!
وتركته مصعوقًا وإتجهت لغرفة النوم، تدفع بابها بقسوةٍ بوجهه، أغلق فمها المتسع بصعوبة، وترك عُلبة الحليب الصناعي من يده هامسًا بسخطٍ:.

الهرمونات بدأت بدري أهو! بجملة هي جت عليكِ يعني!
وخرج من الشقة متجهًا لسيارته حينما آرسل له رقمًا غريبًا موقع سيارة جمال معرفًا ذاته بأنه من رجـ.ـال عُمران الغرباوي، صعد لسيارته ومازال موقفها يلاحقه، فانطلق ولسانه لا يتوقف عن نطق:
مخها لحس! لا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم!

انتهى من قراءة جزء كبير من كتابه الخاص، فاغلقه ونهض يغلق باب مكتبه، كان علي بطريق صعوده للأعلى، إلى أن أوقفه صوتًا قادm من المطبخ، عكس وجهته وإتجه للأسفل، فوقف يتابع من بالداخل بهذا الوقت المتأخر بصدmة.
حملت فريدة طبق الجبن والخضروات واستدارت لتغادر بهدوءٍ دون أن يشعر بها الخدm، فتصبح أضحوكة القصر، فما أن استدارت حتى تخشبت محله بالصينية قبالة علي المتفاجئ مما يراه.

تركت الصينية على رخامة المطبخ، وكأنها تنفي جريمتها، ابتسم علي على تصرفها الطفولة، وإتجه إليها يقرب الصينية لها وهو يخبرها برفق:
الجبن والخضروات مفيدة بس مش كفايا لتغذية الجنين.
وتابع وهو يتجه للبراد:
هشوف في أيه ينفع نزود بيه البروتين.
تابعته وهو يحمل المقلاة ويشرع بتحضير وجبة صحية سريعة لها، وقالت بحرجٍ ملموس:
كفايا يا علي، أنا هاخد الجبنه والسلطة بس عشان وزني ميزدش.

تجاهل طلبها وفور انتهائه من صنع شرائح الدجاج بالمعكرونة، حتى أبعد الصينية عنها ووضع ما بيده قبالتها:
بعد الولادة هتقدري ترجعي وزنك.
راقبت الطبق الشهي الموضوع أمامها، فلعقت شفتيها بجوعٍ، وجذبته تتناوله بنهمٍ غير مصدق.
تابعها علي بابتسامة حنونة، سكب لها كوب من المياه ووضعه قبالتها، ربما كانت سابقًا لا تتناول المياه بنصف طعامها أبدًا، ولكن الآن استثنت بعض القواعد لاجل صغيرها.

تناولت فريدة الطبق بجوعٍ، وبعدmا انتهت منه شعرت بالحرج وباتت تبرر:
تسلم إيدك يا علي، أنا شكلي كنت جعانه أوي، ومقدرتش أستحمل الجوع زي الأول.
حمل الطبق من أمامها ونظف الطاولة بالمناديل المبللة، مرددًا بحب:
ألف هنا على قلبك يا حبيبتي، هجهزلك كوباية لبن ومتقلقيش مش هحط سكر نهائي.
ضحكت بصوتها كله، وقالت مستنكرة؛
سكر، أيه بقى، ده أنا أكلة مكرونة وفراخ الساعة 9 يا علي!

مال على الطاولة قبالتها يجيبها بابتسامة هادئة:
مش إنتِ يا فريدة هانم، ده البيبي.
راق لها رفعه الحرج عنها حتى لو كان مازحًا، فوجدت ذاتها تجذب رأسه طابعة قبلة على خده وهي تهمس له:
تصبح على خير يا حبيبي.
شعر وكأنه طفلًا صغيرًا، يعاد له ذكريات طفولته المميزة رفقتها، وكأن هذا الصغير يجدد روابط الطفولة بحضرته.
أجابها علي ومازال يحافظ على ابتسامته:
وحضرتك من أهل الخير فريدة هانم.

فور أن غادرت حمد الله انها لم تشك بسفر عُمران لمصر، وبأنها لم تلاحظ شيئًا مما يحدث.
صعد علي لغرفته حزينًا على أخيه وما حدث له، ولج لغرفته فوجد زوجته تغفو على الأريكة ومن حولها عدد من الملفات والحاسوب الخاص بعمران، على ما يبدو بأنه ترك العمل بإشرافها قبل رحيله.

ترك سيارته بمنتصف الطريق وهرع لجمال الذي مازال يجلس أرضًا يناديه بلهفةٍ:
جمال!
انتبه إليه ذلك الشارد، فتوسعت عينيه بدهشةٍ، نهض ينفض الغبـ.ـار عن ملابسه وهو يتساءل باستغراب:
إنت عرفت مكاني إزاي يا يوسف؟
تغضى عن سؤاله ودنى يراقبه باهتمامٍ وخــــوف، حالته كانت مريبة لدرجة أقلقته، فسأله بهلعٍ:
مال عينك حمرا كده؟ ومبتردش على تليفونك ليه يا جمال؟
وكأنه يتلبسه شبحًا يردد دون توقف:
عرفت مكاني ازاي؟

ارتبك قبالته، وفكر جيدًا فيما سيقول، فردد دون مبالاة:
مش مهم، المهم إني قدرت أوصلك.
تضخم شكوك جمال بشعوره المسبق بأن هناك من يتبعه، فزاد من اصراره بحزمٍ شرس:
مش هعيد سؤالي تاني، رد عليا؟
لطالما كان ذكيًا، سريع الملاحظة، لذا استسلم بمحاولة التمويه الفاشلة وأجابه:
عُمران كان قلقان عليك لما خرجت من مكتبه، فخلى اتنين من رجـ.ـالته يرقبوك.

اعتصر جفنيه بو.جـ.ـعٍ، بالرغم مما فعله ومازال يهتم لأمره، أخفض رأسه بقلة حيلة وغمامته لا تصل لسمعه حديث يوسف، يرى شفتيه تتحركان بأحاديث عديدة ولكنها لم تصل إليه.
انتفض فجأة يسرع لسيارته، فركض يوسف من خلفه يناديه:
رايح فين يا جمال، استنى!
لم يجيبه وحرك مقود سيارته بسرعةٍ جعلتها تحتك بالرصيف بصوتٍ مرعـ.ـب، زفر يوسف بنفاذ صبر واستدار يتأمل المكان وهو يهتف بغـ.ـيظٍ:
متسرع وغـ.ـبـ.ـي!

وصل للمطار بزمنٍ قياسي، ترك سيارته بالخارج وهرول للداخل يبحث عنه بين الوجوه، وكأنه طفلًا صغيرًا فقد والده، طال بوقوفه حتى استجمع ذاته، فاستعلم عن رحلة القاهرة القريبة، ومنه اندفع للبوابة الخاصة، يتمنى أن يلحق به قبل دلوفه للداخل.
انحنى يستند على ساقيه وهو يلتقط أنفاسه الهادرة بصعوبةٍ، ثم انتصب بفرحة حينما وجد يجلس بين أحد الزوايا يتابع هاتفه.

اتجه إليه بخطواتٍ مترددة، حتى بات قبالته، ابتسامة صغيرة داعبت شفتيه وهو يراقب الحذاء الاسود الواقف قبالته، ودون ان يرفع عينيه للأعلى كان يعلم صاحبه، فقال ومازال يستكين بجلوسه:
وبعدين؟
جلس جمال جواره وقال بتعبٍ:
مش هتسافر.
اتسعت ابتسامته رغمًا عنه واستدار بوجهه إليه يمنحه نظرة ساخرة:
أوامرك تتنفذ عليك مش على عُمران سالم الغرباوي!
هز رأسه باستسلام ونهض يخبره:
خلاص يبقى رجلي على رجلك، هنسافر مع بعض.

لم يستطيع منع ضحكة انفلتت صاخبة منه، وقال مستهزءًا:
هو إنت ايه محسسني إني سايب ابني الصغير ورايا ومسافر؟
وتابع وهو يشير له على وجهه:
وأيه اللي إنت عامله في نفسك ده؟ ده هيهون عليك اللي حصل يعني؟! بدل ما تفوق وتقف على حيلك وتفكر ترجع حقك وحق مراتك وصاحبك ازاي؟
رمش بدهشةٍ من حديثه، فتابع عُمران بغـــضــــب بعدmا نهض يستعد للرحيل فور سماع النداء الاخير:.

أنا عايز حقي وإنت اللي هترجعهولي يا جمال، بكره الصبح هتكون ضـ.ـر.بتي وصلت لنعمان، عايزك تكمل في اللي بتعمله وتخليها القاضية ليه، يمكن ساعتها أقدر أسامحك بجد.
خسر قوة ثباته قبالته، فأمسك يده يترجاه:
متسافرش أنا محتاجلك جنبي، متبعدش يا عُمران أنا غلطت في حقك وده قــ,تــلني، لو مشيت مش هسامح نفسي.
ترقرقت رماديته بالدmـ.ـو.ع، فأحاطه بيديه يضمه بقوةٍ، فتعلق به جمال كتعلق الغريق بقشة نجاته، ربت على ظهره بحنان وقال:.

قولتهالك قبل كده عُمران الغرباوي مبيتخلاش عن اللي منه.
وابتعد يقابله بنظرة دافئة مستطردًا:
وإنت كُلي يا جمال، مهما دخل لحياتي أصدقاء أو قرابة عمر ما حد فهمني قدك.
وربت على كتفه يدعمه:
بس صدقني لو سافرت معايا وسبت نعمان الكـ.ـلـ.ـب ده من غير ما ترجع حق مراتك، عمرك ما هتقدر ترفع رأسك في وش حد تاني.
واستطرد بو.جـ.ـعٍ لمسه جمال ببحة صوته:.

أأنا اللي قدرت أعمله اني أضره في شغله، مقدرتش اعمل أكتر من كده لانه للاسف بالنهاية خالي، لكن باللي رجـ.ـالتي قالولي عليه وهما بيراقبوك بقولك نفذ ومتفكرش في حاجة غير تارك وتار مراتك، يمكن ناري تبرد وتكون الخلاص ليا من النار اللي بتأكل فيا.
أزاح جمال دmـ.ـو.عه وقال بصوت مبحوح:
خليك هنا وشوف بنفسك اللي هعمله فيه، متمشيش.
اتسعت ابتسامته رغم دmـ.ـو.عه الهابطة على وجنته، فأزاحها وهو يدعي سخريته الكاملة:.

مش بقولك طفل! أنا يعني لو سافرت هقعد العمر كله، دول كلهم اسبوعين تلاتة وراجع.
واستكمل بخبث يشتت ذهنه:
أنا هسافر أريح دmاغي منك تقوم تيجي ورايا! وبعدين إنت ناسي المشروع ولا أيه، لو الممولين لقونا احنا الاتنين اختفينا مش بعيد يلبسونا قضية نصب.
يعاد تكرار النداء الاخير وازداد تشبث جمال به، ولأخر مرة يخبره بحـ.ـز.نٍ:
عشان خاطري خليك، آآ، أنا آسف آآ..
قاطعه عُمران بما اعتاده من وقاحته:.

مش نقصاك بروح أمك، ما صدقت خلعت من مايا، مش ناقص انا خـ.ـنـ.ـقة هرمونات حمل وحوارات حريم ماليش فيها، سبني أدلع نفسي يومين وأشوف طريقة أفركش بيها جوازة شمس المنيـ.ـلـ.ـة دي، أنا مش هستحمل إنه يأخد البت بالسهولة دي.
وربت على كتفه بعنف:
روح دور على مراتك وسبني أشوف حالي.
رد عليه بحـ.ـز.ن:
مسبتش مكان الا ودورت عليها، مش لاقيها يا عُمران.

حمل الحقيبة الصغيرة على كتفيه، وضمه إليه لمرته الاخيرة، ليتفاجئ به جمال يهمس قرب أذنيه مازحًا:
راقب يوسف هتوصل لمراتك يا بجم!
وغمز له يشاكسه:
هتفضل طول عمرك غـ.ـبـ.ـي يا جيمي!
استعد للرحيل وتلك المرة التفت له يخبره:
اللي حصل في اليوم ده اتمحي من ذاكرتي وذاكرتك، مفيش كلام ولا عتاب تاني فيه يا جمال، ولو عايز تريحني بجد اكسب حب مراتك وثقتها فيك من تاني، لإن هي أكتر حد اتو.جـ.ـع في اليوم ده.

ومر من البوابة قبالة عينيه، واستدار يشير له بالوداع مشيرًا بأنه سيهاتفه فور وصوله.

أقلعت الطائرة وتباعدت عنه، وكلما ارتفعت زادت من و.جـ.ـع قلبه النازف، استعاد جمال كامل قوته فأزاح دmـ.ـو.عه الغائرة وتحرك بعد هذا اللقاء الغريب بينهما، فاتجه لسيارته يقودها بسرعةٍ فائقة متجهًا لمحل ما وجهه عُمران وهو يكاد يشتعل من الغـــضــــب والغـ.ـيظ، متوعدًا ليوسف أشـ.ـد وعيدًا، ورغمًا عنه لا يستطيع منع ابتسامته السعيدة التي تخلق فجأة كلما تذكر حديث عُمران ومسامحته الصريحة له.

بمبنى الجهاز المصري.
إنقلب المبنى رأسًا على عقب، مع تسرب ذلك الخبر المقبض، والمهين في حق المخابرات المصرية، بالرغم من تعنت الخبر وعدm وصوله لأي صحافة دولية الا أنه ذاع في الجهاز كخبر موسمي خطير.
اندهش آدهم من التكدس بالطابق الأول من المبنى، وتجهمر عدد من المتدربين يتهامسون فيما بينهم مما استرعى فضوله.
سُلطت عينيه على أفواههم واستطاع ببراعةٍ قراءة ما يقولون.

«المقدm يحيى اللي إختاره القادة إتقــ,تــل على الطيارة من قبل ما ينزل منها، والغريبة إنه كان متنكر كشفوه إزاي!»
توجه مباشرة لمكتب الجوكر، استأذن العسكري لدخوله، وبعدها ولج للداخل فوجد غرفة مكتبه الضخمة تعج بعدد مهول من القادة وكبـ.ـار الرتب الاستخبـ.ـاراتية، غادروا المكان تباعًا ولم يتبقى سوى الجوكر مراد زيدان يضم رأسه المشغول بالفكر ويكاد يصيب بالجنون.

تنحنح ليلفت إنتباهه، نهض مراد عن المقعد الرئيسي للطاولة الزجاجية الضخمة، التي تساع لأكثر من عشرونٍ شخصًا، وإتجه لمكتبه الجانبي، جلس وأشار له بثباتٍ عجيبٍ، كأنه لم يحدث شيئًا هز الجهاز بسرعة زلزالًا:
إتفضل يا عمر.
بقى واقفًا محله يتطلع له بجمودٍ، نصب اهتمام الاخير، فقال:
مالك؟
سحب أكبر قدر من الهواء ولفظه مع تحرر كلمـ.ـا.ته:
أنا عايز أستلم المهمة دي يا باشا.
ألقى الجوكر قلمه الثمين على المكتب بانفعالٍ:.

تاني! هو إنت مستغني عن عمرك يابني!
وتابع بعصبيةٍ بالغة:
مش فرحك بعد عشر أيام؟ وبعدين مش المفروض إنك في أجازة؟
بإصرارٍ قال:
يتأجل، المهم الميكروفيلم مآآآ..
بترت حروفه فور أن ارتفعت نبرة الجوكر بضيقٍ من تمسكه بما يريد:
أنا كلمتي واحدة وإنت عارف، وجودك هنا في مكتبي لو عشان الحوار ده فاتفضل معنديش وقت أضيعه في تفاهات هتعطلني.
وجذب الحاسوب من أمامه يستعد لمتابعة عمله، فإذا بآدهم يصيح منفعلًا:.

انا عايز أفهم أيه اللي مخلي حضرتك خايف بالشكل ده وإنت عارف كويس إني أقدر أرجع بالميكروفيلم.
انتصب الجوكر بوقفته المهيبة قبالته يحدجه بنظرة قـ.ـا.تلة:
إنت إزاي تسمح لنفسك تكلمني بالشكل ده؟ نسيت نفسك ولا أيه؟ ثابت يا سيادة الرائد بدل ما أحولك للمحاكمة!
أدى تحيته بكل احترامٍ، وقال:
أنا آسف إني اتجاوزت حدودي، عن إذن حضرتك.
وما كاد بالمغادرة حتى تسلل له صوت مراد الهادئ، وندائه بإسمه المحبب:
تعالى يا آدهم.

عاد لمحل وقوفه يتابعه باهتمامٍ، فأشار بزورقة عينيه الساحرة لاحد المقعدين:
اقعد.
إتجه للمقعد واقفًا محله بانتظار جلوس قائده، جلس مراد فاتبعه وهو يتابعه بملامح واجمة، تنهد مراد وقال:
أنا مبقللش منك برفضي إنك تقوم بالمهمة دي، أنا أكتر واحد عارف أيه اللي تقدر تعمله، متنساش إنك من تلاميذتي.
واسترسل يوضح له:.

اللي عايزك تعرفه إني يهمني مصلحتك بالاساس لانك إنت نفسك تهمني، فرحك بعد كام يوم فإزاي عايزني أرميك لخطر زي ده؟ إنت بقالك سنين بتشتغل وبعيد عن والدك القعيد، وأكيد ما صدق يفرح بيك أقوم أبعدك تاني عنه.
ومنحه ابتسامة جذابة وهو يخبره بمشاكسة:
يا سيدي اتجوز وعيشلك يومين وبعدها إرجع وأوعدك مش هخليك تشوف البيت ولا المدام مرة تانية لو ده هيرضيك.

بدا الحـ.ـز.ن واضحًا على ملامحه، وما كاد بأن يستميله مرة ثانية، حتى ظهر من أمامهما ذلك الواقف على بعدٍ يتابعهما بضجرٍ منذ بداية حديثهما:
مش فاضي أنا لمحايلاتك العظيمة مع تلميذك النجيب!
استدار آدهم للخلف، وانتفض يؤدي التحية للاسطورة الذي نصب طوله بعدmا كان يستند بجسده على الطاولةٍ البعيدة عنهما.

فك تربيعة يديه واتجه يحتل المقعد الذي كان يحتله آدهم منذ قليلٍ، واضعًا قدmًا فوق الاخرى، وبيده يلهو بالكرة الجلدية التي تزين مكتب أخيه، بينما زيتونيته تتابع آدهم الواقف على بعدٍ منهما بنظراتٍ لطالما كانت غامضة.
كـ.ـسر مراد حاجز الصمت بينهما، حينما قال:
عمر في أجازة عشان فرحه.
مرر اصبعيه جوار شفتيه متابعًا بخبث:
شكله مش قادر يستغنى عنك!
وتابع وهو يشير له بمكرٍ:.

أتمنى تكون المهمة اللي جمعتنا مع بعض فادتك يا حضرة الرائد.
منحه ابتسامة صغيرة وقال ومازالت عينيه أرضًا:
فادتني جدًا وبتمنى لو تتكرر يا باشا.
قاطع الجوكر حديثهما الشاعري، قائلًا:
وأنا بتمنى متتقابلش فيه حتى لو صدفة يا آدهم، يلا روح حضر لفرحك وحاول تستمع بأجازتك بعيد عن الشغل.
أجابه رحيم بنظرة ساخرة:
وإنت بقى هتقف للصدف ولا هتعين حراسة ورانا!

كاد بأن يجيبه فاستوقفه رنين الهاتف الأساسي للمكتب الرئيسي، تركهما مراد واتجه يجلس على حافة المكتب ليتمكن نن الوصول لسماعة الهاتف.
بالقرب منه.
بقى آدهم محله، عزم على انتظار مراد ليتمكن من اقناعه للمرة الأخيرة، فجذب انتباهه نظرات الاسطورة الغامضة، وسؤاله الغريب:
إنت فعلًا فرحك بعد عشر أيام؟
هز رأسه بخفوتٍ، فتابع بابتسامة خبيثة:
عظيم!
وإعتدل بجلسته يخبره بنظرة كانت غير مفهومة لآدهم:.

ويا ترى قررت هتقضي شهر العسل فين؟
ارتاب آدهم لأمره، لم يكن رحيم بالشخص السلسل بالتعامل مع أحدٌ، دومًا كان جـ.ـا.مدًا لا يرغب بالحديث فيما لا يعنيه، أفطن بأن هناك رسالة غامضة يرسلها له الاسطورة، فراقب حروفه بتمعنٍ وخاصة حينما تابع بثبات مقبض:
خليني أرشحلك ميلانو، بس نصيحه خدلك أسبوع هنا في مصر، قبل ما تستعد للسفر، لإنك لما تشوف جمال الطبيعة هناك مش هترضى ترجع هنا تاني.

يدون عقله كل ملحوظة يخبره بها ذلك الحاذق، وتابع ببراعته الشيطانيه:
بس خد بالك يا حضرة الظابط مش الكل بيكون محظوظ وبيقضي شهر العسل بسلام، الله أعلم ممكن أيه يحصل، يعني لو كنت محظوظ كفايا مش هيظهرلك علاقة سابقة في حياتك تهد أحلامك الوردية هناك، ومهما حلفت للمدام إنك مقابلتهاش في حياتك غير مرة واحدة بس مش هتصدقك، هو كده العلاقات اللي فاتت وانتهت ليها وقت ظهور بيقلب في اللي فات واتردm.

ارتسمت ابتسامة واسعة على وجه آدهم بعدmا وصل إليه مفهوم الرسالة السرية التي أرسلها له الاسطورة، فاتجه إليه يصافحه وهو يردد بفرحةٍ:
شكرًا لنصيحتك يا باشا، أوعدك اعمل بيها.
نصيحة أيه؟!
قالها مراد بذعرٍ بعدmا انتهى من مكالمته، فوقف يوزع نظراته المصعوقة بينهما، ودون أي رد فعل اتجه لاخيه يصيح منفعلًا:
قولتله أيه يا رحيم؟!
ابتلع آدهم ريقه بـ.ـارتباكٍ وقال:.

مفيش الباشا كان بينصحني أبعد عن المهمة دي لإن في الأكفئ مني.
استقام بوقفته وأسرع بالفرار، قبل أن ينكشف أمره لقائده، بينما جلس مراد قبالة أخيه يحاوطه بنظرات شك، فعاد يضع قدmًا فوق الاخرى ويطالعه بنفس الثبات الحاد، متسائلًا بسخريةٍ:
خدت كام صورة؟
انفجر به بضيقٍ من بروده الدائم:
رحيم متستعـ.ـبـ.ـطش، قولت أيه لعمر خلاه ماشي بالسعادة الغريبة دي؟
رفع كتفيه ببراءة واجابه:
ولا حاجة!

ضم شفتيه معًا يعتصرهما معًا واغلق عينيه يستمد الهدوء وهو يخبره:
رحيم إبعد آدهم عن المهمة دي، فرحه بعد عشر أيام والمهمة دب عايز حد متمكن أكتر منه، وطبعًا بعيدًا عن انهم كشفيني أنا وانت محتاجين حد بنفس الكفاءة تقريبًا ويكون وش جديد.
اعتدل رحيم بجلسته وقد تلاشى عنه البرود وهو يصيح منفعلًا:
اللي عملوه النهاردة ده مش هيعدي بالساهل، ولو مخدناش الميكروفيلم ده مكانتنا هتتهز وسط الاستخبـ.ـارات الدولية!

أيد حديثه حينما قال:
عشان كده لازم نتحرك وبأسرع وقت.
وأضاف الجوكر حائرًا:
بس للاسف اللي عملوه مع يحيى ده بيأكد إنهم واخدين حذرهم جدًا وده هيخلي المهمة أصعب.
نهض عن المقعد، ودث يديه بجيوب بنطاله، تتثاقل خطوات حذائه بخطواتٍ مدروسة، أنهاها حينما قال بغيومٍ أبادت مقلتيه بشكلٍ مخيف:
مفيش غيره اللي يقدر يعمل كده.
انتصب الجوكر بوقفته، ولحق به يتساءل بلهفةٍ:
مين؟
اتسعت ابتسامته الشيطانية وهو يردد ببطءٍ قـ.ـا.تل:.

ليل، ليل العربي!
جحظت زُرقة عينيه بصدmةٍ، فابتلع ريقه وراح يردد بصعوبة حديثه:
إنت اتجننت يا رحيم! ده سـ ـفا.ح دولي مطلوب من كل أجهزة المخابرات الدولية، عايزينا نلجئ ليه! إنت مش في عقلك الطبيعي، اتجننت مؤكد إنك اتجننت!
بالعكس ده قرار ذكي وخبيث!
قالها ذلك الذي ظهر فجأة من خلفهما، فاستدار مراد خلفه فابتسم مرددًا بعدm استيعاب:
والله زمان يا وحش!

نزع جاكيته وألقاه على المقعد، ثم اقترب منهما يثني أطراف قميصه الابيض، مرددًا بسخرية وهو يرفرف برموشه الطويلة:
أفتقدت للمة الشياطين دي، وخصوصًا لو مع الجوكر والاسطورة.
تابعه رحيم بنظرةٍ ساخطة، وقال:
بس المرادي اللمة مش هتكون علينا بس يابن الجارحي، في دخيل من جهنم معانا، هنأخد حذرنا من عدونا مرة ومنه ألف مرة!
إبتسامة تسلية تشكلت على وجه عدي الجارحي، وبثقةٍ قال:
المارد الصح ميهمهوش لا جن ولا شياطين.

وتابع وهو يشير لباب الخروج السري:
هنتحرك لمكان المصباح دلوقتي ولا تحبوا نروح أمته؟
نزع نظارته السوداء عن وجهه، ووقف يراقب الوجهة الخارجية بشوقٍ يرفرف لحبيبته، وبلده مصر، سحب نفسًا طويلًا يجدد خلاياه بانتعاشٍ، وابتسامته الجاذبة تزيد من وسامته المهلكة، ربما ليست أروع دولة قد يزورها، زار أماكن على مستوى مرتفع من الرقي والتطورات، ولكنها ستبقى بلده، ستبقى أفضل مكانًا قد يزوره يومًا.

نظرية حنينه إليها، كذلك العاشق لزوجة قد يرى آلاف النساء الأكثر جمالًا، فإن تعلق الأمر بالأكثر جمالًا لما سكنت قلبه، ثمة أحاسيس لا تقاس بثمنٍ ولا مقارنات.
يعلم بأن العالم هنا مختلف عن مكان نشأته، ولكنه إن خُير سيفضل البقاء هنا وللأبد، رفع عُمران يد حقيبته وجذبها من خلفه متجهًا للخارج، فتوقف محله يراقب ذلك الذي يرتكن على سيارته السوداء بانتظاره، وما أن رآه حتى انتصب بوقفته يستقبله بابتسامةٍ صغيرة:.

نورت مصر يا طاووس!
زوى شفتيه ضيقًا منه، وردد بفتورٍ:
هي لحقت تبلغك؟
جذب آدهم الحقيبة منه، ووضعها بالصندوق الخلفي، قائلًا بابتسامة رزينة:
إنت كنت فاكر إنك هتنزل مصر ومش هعرف مثلًا!
تخطاه وفتح باب السيارة الأمامي، فتنهد عُمران بتعبٍ ملحوظ بنبرته:
آدهم انا نازل مصر عشان أكون لوحدي، من فضلك سبني أطلب أوبر للمكان اللي حجزته.

شعر بخطبٍ ما يحطمه داخليًا، يسعى لإخفاءه بجدارةٍ، ليس وقحًا كالمعتاد عنه، ثمة شيئًا هُزم داخله لا يعلمه.
تنحنح آدهم بخشونة:
من حقك طبعًا، بس إسمحلي أنا مش هقبل تكون في مصر وتنزل بفندق، هتيجي بيتي وهتفضل عندي لحد رجوعك للندن، أوعدك إني هديك الخصوصية اللي تحبها.
وتابع مبتسمًا:
وبعدين دي فرصة إني اقرب منك وأصلح علاقة الحموات اللي بتعاملني بيها دي.

اغـ.ـتـ.ـsـ.ـب ابتسامة صغيرة على وجهه، ودون أي كلمة صعد جواره، وانطلق به على الفور.

انتهى من صنع فنجان قهوته، وخرج يرتشفها بتلذذٍ، فإذا بهاتفه يصدح بصوت رسالة، رفع فنجانه يرتشف منه وهو يراقب الرسالة التي وصلت للتو، بصق يوسف القهوة، وهو يعيد قراءة رسالة عمران بهلعٍ.
«الطور لما بترخيله اللجان بتكون إنت أول ضحاياه، بالشفى يا دوك، هستناك تهرب وتجيلي على مصر!»
جحظت عينيه صدmة، فازدرد ريقه الهادر بصعوبةٍ بالغة، أزاح يوسف عرقه النابض على جبينه وهو يهمس برعـ.ـبٍ:.

الله يخربيت معرفتك إنت وهو يا أخي، هعمل أيه دلوقتي!
مرر يده على وجهه بتـ.ـو.ترٍ، وما كاد بالوصول لحلٍ يخلصه من بين براثين ذاك المتهور، حتى أتاته طرقات باب منزله الهائجة، ابتلع ريقه بصعوبةٍ بالغة، وردد بخــــوفٍ:
مش هفتحله لأ، ده هيقــ,تــلني!
وتابع بعد تفكيرًا في حل ذلك المأزق الذي ألقاه به الطاووس الوقح:
أطلب النجدة؟
ترك الهاتف على المنضدة بحـ.ـز.ن من اقتراحه، وهدر:
ده مهما كان صاحبي، هسـ.ـجـ.ـنه بايدي!

وما كاد بالتوصل لحلٍ آخر حتى تسلل إليه صراخ جمال المتعصب:
افتح يا يوسف، أنا عارف إنك جوا، افتح بدل ما أكـ.ـسر الباب ده على نفوخك!
أسرع لغرفة نومه يبدل ملابسه البيتية، حمل هاتفه ومفاتيحه ومتعلقاته الشخصية، وأسرع لباب المطبخ عساه ينجو بنفسه.

سلك الدرج المعدني الرفيع، حتى وصل لنهاية العمارة، وما أن انخفض عنه، حتى أنفض يديه من الغبـ.ـار العالق على الدرابزين، جذب منديلًا ورقيًا يمسح بقايا الغبـ.ـار وهو يصيح بنفورٍ:
البواب ده لازم يغيروه، معندوش اهتمام بنضافة السلم الاحتياطي.
مهو ميعرفش إنك هتهرب منه زي الفيران!

جحظت عيني يوسف بصدmةٍ، لعق شفتيه يمنحهما بعض الرطوبة، واستدار ببطئ تجاه الصوت المسموع، فوجده يستند على العمود الحجري، مربعًا يديه أمام صدره ويراقبه بنظراتٍ مشتعلة.
تجمد لوهلةٍ قبالته، فبرع برسم ابتسامة ثابتة وهو يقول:.

جيمي! إزيك يا حبيبي عامل ايه؟ أيه اللي جابك هنا، المنور كله تراب وقرف، ده أنا نسيت مفاتيحي وكنت بحاول اتصرف وأعدي الشقة من المطبخ بس للاسف معرفتش، كويس إنك جيت، خلي بالك بقى عشان باب المطبخ على وسعه، عما أشوف سباك يجي يشوف الباب اللي مش عارف أفتحه ده!
وتركه وفر من أمامه راكضًا للچراچ، دث مفتاحه بباب سيارته، وما كاد بفتحها حتى أغلق جمال الباب ووقف قبالته يصوبه بنظرةٍ قـ.ـا.تلة، وبصوتٍ واجمًا قال:.

صبا فين يا يوسف؟!
وصل لنقطةٍ لم يكن يريدها من البداية، فتنهد واستدار يقابله وجهًا لوجه:
في مكان أمين، وليلى معاها.
تسلل الغـــضــــب بمُقلتيه و.جـ.ـعله مخيفًا، بينما الأخر يواجهه بثباتٍ وقوة:
عارف إنك كان لازم تعرف من البداية، بس أنا وعدتها إنك مش هتعرف بمكانها، مكنش قدامي حل تاني، وانا عارف إنها ملهاش مكان تروحه، خبيت عنك وكنت هخبي لحد ما هي بنفسها اللي تطلب مني أقولك.
واستطرد بجديةٍ تامة، وعينيها لا تفارقه:.

جمال أنا مش نـ.ـد.مان إني عملت كده، بالعكس أنا اتعاملت مع الموقف كأنها مرات سيف أخويا واتحطت في موقف مشابه زي ده.
جموده قبالته، صمته المريب، رزانته المفاجئة، كل شيءٍ به يثير قلق يوسف، لدرجة جعلته يناديه بقلقٍ:
جمال!
اقترب منه في حركةٍ مفاجئة، فتراجع يوسف للخلف خــــوفًا من ان يتلقى لكمة، فاذا بجمال يحتضنه بقوة كالغريق الذي ينازع انفاسه الأخيرة.

تشتت يوسف لوهلةٍ، وفقد التعامل مع رد فعله، ظن بأنه سينهال عليه باللكمـ.ـا.ت القاسية، يعلم بأنه ليس بأفضل حالاته، فتوقع الأسوء منه.
شـ.ـدد جمال من ضمته بقوةٍ، جعلته يطوقه بذراعيه بألــمٍ يذبح فؤاده، يشعر بانهزامه وضعفه، وهو الذي اعتاداه قويًا، متهورًا.
مال برأسه على كتفه يخفي دmـ.ـو.عه، وهو لا يعلم بأنه يشعر بها دون أن يراه، وقال من بين أنفاسه المتحشرجة:.

اللي مريت بيه ده كان كفيل يخليكم كلكم تبعدوا عني، إنت كنت جنبي على طول يا يوسف، متخلاتش عني، صدقتني وفضلت في صفي، رغم إني الجاني مش المجني عليه.
واستطرد وهو يتشبث بجاكيت بذلته الأسود:
إنت كنت من اختياراتي الصح يا يوسف، وصعب أتخلى عنك أو ألومك على شيء.
وتابع بصوتٍ احتنق بعبـ.ـاراته:
أنا بس كنت محتاج أطمن، ودلوقتي اطمنت.
ربت على ظهره بحنانٍ، وكأنه طفلًا صغيرًا، وقال بحـ.ـز.نٍ:.

هتعدي والله، هي بس محتاجة وقت تتخطى اللي عاشته.
ابتعد عنه يزيح دmـ.ـو.عه، ويرسم ابتسامة صغيرة:
عارف وهستنى.
مال على مقدmةٍ سيارته يميل نصف جلسة، وسأله بـ.ـارتباكٍ:
الولد كويس؟
هز رأسه بتأكيدٍ، فربع يديه أمام صدره بتـ.ـو.ترٍ جلي:
الحمد لله.
ورفع عينيه له يتلاشى نظراته المشفقة على حاله وقال برجاءٍ مؤلم:
ممكن تخلي دكتورة ليلى تصوره، عايز أشوفه!
أخرج هاتفه من جيب بنطاله يجيبه:
أكيد طبعًا.

استغرق دقيقتين، وسلط له الهاتف، تناوله منه بلهفةٍ، واتسعت بسمته بشكلٍ اجبر يوسف على الابتسام بمحبة.
آرسل جمال الصورة لحسابه الشخصي، واعاد الهاتف ليوسف قائلًا:
اطلع ارتاح، أنا همشي أنا.
لحق به يتساءل بريبة:
رايح فين؟
فتح باب سيارته المصفوفة في بداية الچراچ واخبره:
مشوار مهم ولازم اعمله.
أمسك ذراعه يمنعه من الصعود، ووقف قبالته يتساءل بشكٍ:
رايح فين يا جمال؟
نزع ذراعه من حصاره وقال:.

رايح أرجع حق مراتي وصاحبي يا يوسف، ولو معترض على ده هعمله بردو.
رد عليه بهدوءٍ يحاول به امتصاص غـــضــــبه:
مش معترض، بس افهم رايح فين؟
عاد يفتح باب سيارته، ولج داخلها واخفض زجاجها يخبره:
استنى واتفرج على اللي هيحصل، ووقتها هتعرف أنا رايح فين؟!
قالها وانطلق بسيارته بسرعةٍ البرق، متجاهلًا صراخ يوسف وندائه المتكرر، فصفق كفًا بالأخر وهو يردد بعجزٍ:
هيجيلي الراحة منين طول ما الكائنات دي في حياتي!

بمكانٍ منعزل عن السكان، حيث يبتلعه الظلام من كل صوب، وكأنه أخر بقاع الأرض، تعمه الصحراء القاحلة، وأصوات حشرات الليل المفترسة تحوم به كناقوس الخطر المزلزل للأبدان، هنا حيث يسكن كل شيءٍ، لا ضجيج المدن ولا ثرثارة الناس، يمزق سُكنة المكان، صوت إطار ثلاث سيارات فاخرة، تصطف ثلاثتها قبالة بعضها البعض، مشكلة حلقة دائرية.

أضواء كشافتها تضيء المكان المعتم بشكلٍ كبيرٍ، هبط الثلاثة من سيارتهم وإتجهوا لتلك الحلقة الدائرية.
وضع مراد يده بجيب جاكيته الأسود، ووقف يتابع أخيه بنظرةٍ منزعجة، فشرع بإعلانه الاخير:
خليك عارف إني مش راضي عن قرارك المتهور ده، إنت اللي هتتحمل مسؤوليته قدام الجهات.
منحه رحيم ابتسامة جانبية، وتمعن بعدي الذي يتابع المكان بدهشةٍ، فسأله باستكانةٍ ماكرة:
عجبك المكان يا سيادة العقيد؟

استقرت عسليته عليه وتمتم باستهانةٍ:
مش بطال، بس أيه سببب تواجدنا هنا في وقت زي ده؟
واستطرد بسخريةٍ:
هو جو الفيلم الرعـ.ـب ده مسلي جدًا، بس اللي بنمر بيه مش محتاج تضيع وقت يا رحيم.
استند بذراعيه على مقدmةٍ سيارته وجلس فوقها واضعًا ساقًا فوق الاخرى ببرودٍ اتبع نبرته:
متقلقش مش بضيع وقتك، ده كله في مضمون المهمة اللي اتبعت للجهاز عشانها.

وزع عدي نظراته الحائرة بينه وبين الجوكر المنزعج من أخيه، يبدو وكأنه على وشك سحب سلاحه من غمده واطاحة رأس أخيه الفضيل.
عاد ببصره تجاهه وسأله بدهشة:
طيب فهمني إحنا بنعمل أيه في مكان زي ده؟ مش المفروض نقابل المارد!
ربع يديه أمام صدره وسند رأسه لزجاج سيارته يستكين باسترخاءٍ تام، كأنه يستعد للنوم بتلك الاجواء المرعـ.ـبة:
هو هيعرف يطلع من العلبة لوحده.

إنزعج من بروده وغموضه بالحديث، فاستدار إلى مراد الذي جلس على مقدmة سيارته يتابعهما بضجرٍ، فما أن تطلع عدي له حتى تمتم بعصبيةٍ:
متبصليش كده، أنا مبعرفش أحل مع كتلة البرود ده في شيء، هو حل من الاتنين يا نقــ,تــله هنا أنا وإنت يا نسيبه مكانه هنا للصبح ونرجعله بليل يكون اتشمس وفك من البرودة.
إتجه عدي لسيارة رحيم، جلس جواره يتطلع له بحنقٍ، فناداه على مضضٍ:.

رحيم إنت عارف خطورة المهمة دي، كل دقيقة بتمر علينا بتعرضنا لخطر أكبر، فقولي نلاقي فين ليل العربي عشان نتحرك بسرعة.
بقى ساكنًا وكأنه يسبح بنومٍ عميق، أذنيه تتركز بسماع أي بصيص قد يفيده، وفجأة حرر زيتونية عينيه بابتسامةٍ مخيفة، وفاه:
قرينه بيحوم حولينا، شوية وهيظهر.

تعجب عدي من حديثه، ورفع عينيه للأعلى يراقب هذا الصوت المرعـ.ـب، تفاجئ بصقرٍ جانحًا، ضخمًا، مخيفًا للغاية، لونه أسود مخطوط جبهته بغارة بيضاء كالشهب، يرفرف بجناحيه الكبيران بشموخٍ وكـبـــــريـاء، يحيط بمكانهم في نطاقٍ دائري، كأنه يود استكشاف هويتهم.
حلق بعنجهيةٍ، متفاخرًا بقوته، ومال يتجه إليهم، حتى استقر على سيارة عدي الفارغة، حيث كانت سيارة رحيم تحمل مقدmتها رحيم وعدي، والجوكر يحتل مقدmة سيارته.

برز حجمه حينما قابلهم بمحل وقوفه، أجزم مراد بأنه يرى هذا الطائر الغريب لمرته الاولى، كان يثني جناحيه خلف، وكأنه ملكًا يطل على حاشيته، يطالعهم بعجرفة ربما اكتسبها من صاحبه.
نهض رحيم عن سيارته واتجه ليقترب منه، فأوقفه مراد يخاطبه بقلقٍ:
متقربش منه يا رحيم.
اعتاد من أخيه على محبته، وخــــوفه الهيستري عليه، فطمنه بمسحة يده على ذراعه وقال:
اطمن، أنا اتعاملت مع عُقاب قبل كده.

تمسك به بقوةٍ ورفض أن يتركه يتقدm للأمام، فزفر بغـــضــــبٍ:
مراد قولتلك مش هيعملي حاجة!
دفعه الجوكر للخلف بعنفٍ يتناسب مع قوة جسده العضلي، هادرًا من بين اصطكاك أسنانه:
انا مش هفضل أخد اوامر منك طول الوقت، إرجع إنت وسبني أنا اتعامل.
تنهد عدي بقلة حيلة، الحرب مستمرة بينهما وعلى ما يبدو بأنها لن تنتهي يومًا، نصب الاسطورة عوده، وأخرج من جيبه بطاقة سوداء، تحمل رمزًا مصغرًا لهيئة الصقر المقابل لهم.

اقترب لاخيه يشرح له على مضضٍ، بعدmا فقد الامل بأنه سيتخطاه:
هحط دي قدامه عشان يتعرف علينا، فهمت!
انتشل منه الجوكر البطاقة، واختار المضي قدmًا تجاه الصقر، كعادته يضع نفسه بالمقدmة حينما يحيط الخطر أحد أحبابه، ما يجعل رحيم غير راضيًا عنه.
ترك البطاقة أمام عُقاب، الذي مازال يتابعهم بشموخٍ، فانحنى بمنقاره المنجرف يحمل البطاقة، حلق عاليًا واختفى من أمامهم في لمح البصر، مما دفع عدي ليتساءل:.

فيها أيه البطاقة دي يا رحيم؟
أتاه ردًا صريحًا حينما استمع لصهيل خيلًا، عربيًا، أصيل، استدروا معًا تجاه تلك الاتربة التي خلفت من حول ذلك الفارس محترف التحكم بفرسٍ غريب الأطوار، يتحكم بسرجه بقبضةٍ حديدية، يجابه بشموخه شموخ صقره المحلق من فوقه.

وشاحه الأسود يتدلى من خلفه مصدرًا صوتًا كحفيف المـ.ـو.ت الذي يحوم بالقبور الصامتة، غدافية مُقلتيه تبرز من خلف القماش الذي يلثم وجهه ويخفيه عن الأنظار شفقةٍ عليهم مما يخفيه، صقره الأسود يهبط الآن ويستكين على كتفه، يعلن بشموخٍ أنه الصديق الوحيد الذي يمتلكه، نقيض هذا الحصان البائس الذي يكون رفيق طريقه المؤقت برحلة لا تدوم طويلًا، ولكنه لا يبرع الا بانتقاء من يشابه سواد ليله الكحيل!

غريبًا هو حتى وإن وطئت قدmيه واحد وخمسون دولة، لم يجد وطنه بأي بلدًا قبع بها، مِسْفَار يحمل أمتعته من مكانٍ لأخر ولكن ما عليك أن تكون حذرًا وللحق إن أتخذت كل الحذر لن تتمكن من إيقافه!

عساك تظن أنك تمتلك من الذكاء ما يؤهلك على الوقوف أمامه بساحة الحرب، لك أن تعلم عزيزي أنه ليس هناك لغزًا من الأساس لتجتهد بحله، فهو ليس لغزًا بل متاهة مقبضة، يسيطر جاويد ليله عليها فيجعلها مقبضة، لن يمنحك حتى فرصة خوض جولة تجربية تستعلم بها مدى امكانية فرصة فوزك، لآنك ستقــ,تــل في أرضك قبل أن تخطو خطوة واحدة!

هو غريبًا، غامضًا، مخيفًا، متفردًا، حيث من المحال أن تلمح طرف وشاحه، حتى إسمه يصعب على أحدًا تخمينه ولكنني لست أحدًا فأنا بالنهاية من شكلت شخصية مقبضة مثل هذا الرحال الغريب، لذا فلأخبرك سرًا قارئي العزيز أخر ما نسب إليه من الأسماء كان #ليلالعربي! ولتعلم بإن إسمه الحقيقي بذاته لغزًا وإسمه الحالي لا أعلمه، ربما يخدmنا الحظ ويصادف أنه مازال يحمل نفس الإسم بالوقت الراهن.

وقف رحيم قبالة الفرس، يطالعه بنظرة قاتمة، فإذا به ينتقل بعينيه المتخفية خلف وشاحه عليهم، وبرشاقة لا تتناسب مع جسده الضخم انخفض عن فرسه.
وقف جواره يمرر يده ببطءٍ قـ.ـا.تل على ظهر الفرس، بحركاتٍ عشوائية، جعلته ينحني برأسه وكأنه يعلن طاعته لأمر فهمه من سيده، وعلى الفور تحرك ليختفي عن الأعين.

اقترب مراد وعدي منهما، فاذا به يقف قبالتهم رافعًا الرأس، بنية عينيه الشبيهة بحبات القهوة الداكنة تنتقل بين وجوههم، وبثباتٍ محسوم ردد:
خير؟
منحه رحيم ابتسامة خبيثة، وقال:
وجودنا مع بعض ميدلش عليه.
حام عُقاب من حوله وانخفض بكل قوته، فمد ليل ذراعه ليتلقف طائره الغاضب على ذراعه بكل مهارة، ويده الاخرى تمر على جسده الضخم، قائلًا وعين اهتمامه منصبة على الطائر:
خير أو شر، وجودكم هنا محظور.

تدخل عدي بالحديث، منفعلًا من بروده بالتعامل:
لولا إننا محتاجين لسيادتك مكناش جينا هنا.
توقفت يده على جسد طائره، واستدار بوشاحه له، وبجمودٍ هتف من خلف لثام نصف وجهه، الذي يخفيه كليًا كالشبح:
وجودك على أرضي غير مرحب بيه يا سيادة العقيد، ارجع مكان ما جيت ومتكررش الزيارة.
تجعد جبينه غـــضــــبًا، وكاد بمهاجمته فاوقفه الجوكر هادرًا:.

احنا مش جاين عشان نرجع يا ليل، في مهمة حساسة وتقريبًا كلنا مكشوفين فيها، عايزينك فيها.
لم يصدر عنها صوت الضحك، ولكن هزت رأسه امعنت سخريته الواضحة، وخاصة بحديثه:
عايزني انا! هو في جهاز أمن دولة بيحتاج لظابط خان بلده!
تحرر رحيم عن صمته وقال:
أسقطنا التهمة من عليك، وإنت اللي مصمم تنعزل عن الكل، وتبقى السـ ـفا.ح الدولي المطلوب من كل الاجهزة الدولية، في حين إنك ممكن تكون بطل وآ..

استوقفه باشارة قفازه الاسود الذي يرتديه قائلًا:
ميلزمنيش الدور ده، أنا مرتاح في مكاني ومش مرحب بوجودكم.
وتابع وهو يستدير ليغادر:
المرادي رحيلكم أمان، المرة الجاية خدوا حذركم.
على حد علمي إنك مديونلي بحياتك!
توقفت خطاه الثقيلة عن المضي قدmًا، فور سماع كلمـ.ـا.ت الاسطورة، مال برأسه فوق كتفه وقال بعزةٍ وكـبـــــريـاء:
ديني مردودلك بالوقت اللي أحسه مناسب.
تابع رحيم بقوةٍ وشموخ تجابهه:.

يبقى ميلزمنيش، أنا اللي اختار المناسب لرد دينك، وده أنسب وقت.
اضاف مراد بعدmا اكتملت فكرة غير واضحة عن هذا الشخص الأكثر غموضًا:
بعيدًا عن الدين ورده، فبلدك محتاجالك يا ليل.
استدار بجسده الضخم إليه، يخبره بنبرة قاسية:
أنا غريب عن أرضي، المكان اللي رجلي بتدوسه بيبقى خاضع ليا وملكي.
وسحب بندقية عينيه لرحيم، هادرًا بحزمٍ:
دينك هيترد يابن زيدان، مكاني من دلوقتي محرم عليكم دخوله، أنا هعرف أقابلكم تاني ازاي.

هز رأسه بتفهمٍ، وأشار لعدي ومراد بالصعود لسيارتهما، ورنا إليه يخبره بابتسامةٍ صغيرة:
تعرف إني عمري ما شكيت في ذكائك، استغنائك عن التكنولوجيا واعتمادك على أبسط الاشياء زي البدو مخليك مبهم لأي أجهزة دولية.
وتابع وهو يضع يده بجيب بنطاله:
إنت طبعًا لسه فاكر وعدك ليا.
رفع بنيته له، وقال بخشونةٍ:
طلبك اتقبل وبناءًا عليه وعدتك، بس لسه وقته مبقاش مناسب.
هز رأسه بتفهمٍ، وأضاف:.

بس انا مش عايزه يتدرب على ايدك لوحده، ليا ابن تاني يخصني.
ليت الوشاح يسطع ليتمكن من رؤية ابتسامته الساخرة، فاكتفى بايماءة رأسه تجاه سيارة عدي وقال:
حفيد ياسين الجارحي لو شبه أبوه يبقى هلتزم بوعدي ليك بس.
هز رأسه بابتسامةٍ شيطانية:
اعتبره نسخة مني أنا، لإني أنا اللي هتولى تدريبه مع ابني، اطمن مش هتخلى بالوعد ولا باتفاقي معاك، هستنى ظهورك بالوقت المناسب.

مال برأسه ايماءة صغيرة غير ملحوظة، فمنحه ابتسامة خبيثة واتجه لسيارته يلحق بالسيارتين، بينما يقف ليل محله، يتابع رحيلهم بآعين لامعة كمن يرتخي على كتفه يتابع ما يحدث بتحفزٍ.
رفع كفه فتحرك عُقاب يحتل لائحته، رفعه ليل نصب عينيه يراقبه بتمعنٍ خبيث، وهمسًا شيطانيًا:
هنجهز لجولة جديدة يا صديقي!

خرجت تلك الفتاة المتبرجة من حانة الرقص، بملابسها القصيرة التي توضح مفاتن جسدها بشكلٍ مقزز، تمايلت بمشيتها خارج الحانة المحرمة التي تعمل بها، حتى وصلت لتلك السيارة.
طرقت على نافذتها، فانحنى الزجاج وطلت يدًا رجولية، بمبلغ طائلًا من المال، وضعت الظرف المغلق في يده والتقطت المال بفرحةٍ، تنحت جانبًا ليمر بسيارته مبتعدًا، وابتسامة خبيثة تحتل ثغره، وهو يهدر بوعيدٍ:
وقعت يا نعمان!

صف جمال سيارته، بمنطقة منعزلة، وجذب حاسوبه يضع به الفلاشة من الظرف، وما أن شاهد محتوياته حتى لاحت على شفتيه ابتسامة ماكرة، وعلى الفور استخدm حنكته وبدأ بالعمل، وهو يحرص كل الحرص أن يصيبه في مقــ,تــلٍ.

بعد الاستقبال الحافل بين والد آدهم وعُمران، رفض تناول الطعام واصر على الصعود للراحة، غفى باستسلامٍ لتعبه الجسدي، وحينما حان الصباح أخذ حمامًا ساخنًا وهبط يبحث عن آدهم.
وجده يقف بالمطبخ، يصنع طعام الافطار بمفرده، وضع يديه بجيوب بنطاله الأسود، ومال على الباب الزجاجي يتابعه، مطلقًا صفيرًا مشجعًا:
مكنتش أعرف إن رجـ.ـا.لة الشرطة ستات بيوت شاطرة كده.

استكمل تنصفية أصابع البطاطس بحرافيةٍ، وأجابه دون الاستدارة له:
وكمان صعب استفزازهم.
ابتسم على كلمـ.ـا.ته وقال:
أنا عايز أعرف عنوان آيوب.
هز رأسه ومازال يعد ما يفعله ببراعة:
مفيش مشكلة بعد الفطار هخدك ليه.
قال معترضًا:
ماليش نفس، عايز اشوفه.
أغلق النيران واتجه للطاولة الموضوعة بالمنتصف، يردد:
امبـ.ـارح قولت مش جعان، والنهاردة رافض تفطر، ممكن أفهم بتأكل أيه؟
واستطرد بجدية تامة:.

لو عايزني اعملك Healthy Food معنديش مانع.
سحب المقعد وجلس يخبره ببساطةٍ:
عمري ما حبيته، بحسه شبه أكل الجيش اللي مشفتوش في حياتي ده.
وجذب شطيرة يغمسها بالجبن وبدأ بتناول طعامه، جذب آدهم مقعدًا وجلس قبالته يشاركه الطعام، فكبت ابتسامة صغيرة استحوذت عليه وهو يناديه:
عُمران.
ترك الشطيرة وجذب كوب العصير يرتشفه هادرًا بانزعاجٍ:
هات اللي عندك، متنادنيش بالصوت الرقيق اللي بيفكرني بمراتي وقت ما تعوز حاجة ده!

ضحك بصوت الرجولي وقال:
عايز أعرف أخرة حرب الحما بتاعتك دي أيه؟! مش خلاص بقى؟
تعمق بالتطلع له وقال ببساطةٍ:
لما الجوازة دي تتفكرش وقتها هحبك.
وتابع وهو يتناول طعامه ببرودٍ:
عارف يا آدهم، إنت شخص كويس وكويس جدًا كمان، ويمكن لو كنا اتعرفنا في ظروف أحسن من كده كنا هنبقى كابل أصدقاء رائع، بس للاسف طلعت غـ.ـبـ.ـي ومكسبتش صداقتي.
وأضاف لمن يستمع له بصدmةٍ:.

لما فركشت حوار شمس وراكان ابتديت أحبك وأحسك واحد بتفهم، بس لما اكتشفت إنك بتخلعه عشان تبقى مكانه قلبت عليك وبالجـ.ـا.مد أوي.
رفع أحد حاجبيه بسخريةٍ، لحقت نبرته:
طيب وناوي تحن أمته؟
وضع (الكاتشب) فوق أصابع البطاطس وتناولها هاتفًا بتفاؤل:
بعد الطـ.ـلا.ق إن شاء الله.
واضاف بضيقٍ:
شمس دي ملكية خاصة، وإنت يعتبر دخيل فهتنسحب هتنسحب مفيش اختيار تالت!
هز رأسه وابعد المناديل عنه هادرًا باستهزاءٍ:.

طمنتني الله يطمنك! أنا عمري ما أفوز بحاجة سهلة كده أبدًا، لازم أحارب ويطلع عين اللي خلفوني!
استكمل باقي كوبه، وقال:
وهي متستهلش إنك تحارب؟
ارتسمت ابتسامة عاشقة على وجهه وقال:
تستاهل إني أخوض عشانها مئات الحروب!
طرق الكوب بقوةٍ على الطاولةٍ، وتفرس بملامحه هادرًا بانزعاجٍ:
عايز أروح لآيوب.
كبت ضحكاته وقال وهو ينهض عن طاولته:
هغير هدومي وجايلك.
وعاد لها يشاكسه بحنكة وذكاء:.

بقولك يا عُمران كنت محتاج جواز سفر شمس، عشان أحجز تذاكر شهر العسل.
احتقنت رماديته، فتابع آدهم بخبث:
أصل انا قررت إننا هنسافر ميلانو بعد الفرح باسبوع، يعني إنت فاهم إن العرسان اللي بيعملوا الفرح وبيسافروا على طول دول بيتبهدلوا في السفر وبتضيع عليهم ليلة الفرح، فأنا بقول نقضي هنا اسبوع ونسافر براحتنا.

خرج عن طور هدوئه، فجذب زجاجة مخفوق البندورة، والقاه تجاه آدهم الذي صعد الدرج يقهقه عاليًا، تاركًا من خلفه نيرانًا تستعير غـــضــــبًا.

خرج من حمامه الخاص، يزيح قطرات المياه عن وجهه، وما أن ازاحها حتى تفاجئ بفاطمة تقف من أمامه مرتبكة للغاية.
منحها ابتسامة جذابة، وردد بصوته الرخيم:
كنتِ فين على الصبح كده يا حبيبتي؟
اقتربت منه تجيبه وهي تتحاشى التطلع لعينيه:
كنت قاعدة مع شمس ومايا.
لمس تهربها من لقاء مُقلتيه، درس حركات أصابعها المرتبكة بعنايةٍ، وتعامل بخبرته المتمارسة، فقال يستمد انتباهها من فجوتها:.

النهاردة عندي اجتماع مهم مع فريق التمريـ.ـض الجديد، هخلص وهعدي عليكِ عشان نروح لزينب.
نجح في سبر اغوارها، فدنت منه وهو يرتدي ملابسه استعدادًا للرحيل، وهتفت:
بجد، هنروحلها النهاردة.
قال وهو يرتدي قميصه الابيض:
جهزي نفسك أنا كلها ساعتين وهاجي بإذن الله.

هزت رأسها بفرحةٍ، بينما يستمر هو بصمته وثباته المخادع، كانت توده أن يسألها عما بها، ولكنها لا تعلم بأنه إن فعلها كانت لتنكر ما بها كأي أنثى، ولربما لا تعلم أيضًا أنه يمتلك خبرة التعامل معها ومع غيرها!
كبت ابتسامته وهو يراقبها بالزجاج المعاكس لها، كانت تتجه للجانب الآخر من خزانة الملابس، تقف أمام احدى فساتين الخروج بشرودٍ.

استدارت إليه فوجدته يقف الآن أمام السراحة، يستعد للرحيل بعدmا صفف شعره الطويل، فأسرعت تناديه لهفةٍ:
علي!
زفر بسعادةٍ لسرعة نجاح مخططه، فلم يكن ليغادر دون أن يعلم ما بها على كل الاحوال، استدار يرسم جديته وثباته ببراعةٍ، متسائلًا باستغرابٍ:
أيوه يا حبيبتي.
اقتربت منه ومازالت تفرك أصابعها كالطفلة الصغيرة التي تحاول ايجاد حديثًا لطيفًا يصرف عنها عقوبة ما فعلت، وقفت أمامه الآن تجاهد للحديث:.

أنا، آآ، كنت عايزة آآ...
اتسعت ابتسامته الجذابة وقال:
عايزة أيه يا فطيمة، اتكلمي؟
ضمت شفتيها معًا بحـ.ـز.نٍ، وقالت:
عُمران قبل ما يسافر سلملي كام ملف مهمين لازم أشتغل عليهم وأسلمهم للادارة.
فهم الآن سبب ارتباكها، باتت مشكلتها ملموسة له، ولسعده بأنه سيعاونها دون ان تعلم بأنها تتراجع بخطواتها الايجابية بعلاجها، فقال بهدوءٍ حذر:
طيب وفين المشكلة؟
قالت بربكة جعلتها تزدرد ريقها باستياءٍ:.

أولًا هضطر أحضر اجتماعات بداله بما إنه مش موجود لا هو ولا مايا، ثانيًا وقتي هناك هيكون اطول وتعاملي مع الموظفين هيكون اجبـ.ـاري، وكمان آآ...
دفعها بنظرة عينيه باستكمال حديثها، فقالت على استحياءٍ:
أنا قللت النزول للشركة بعد الموقف اللي حصل مع سكرتير عُمران.
تنهد براحةٍ بعدmا نجح بجعلها تخرج ما بصدرها دون أن يطالبها بذلك، فقطع مسافته القاطعه بينهما، وجذب كفيها يرفعه إليه ببطءٍ، طابعًا قبلة على يديها.

واجه نظرتها العاشقة، بعاطفة ومشاعر تتراقص بالمُقل، وقال:
كل ده طبيعي يا حبيبتي، بس اللي أنا واثق منه إنك هتقدري تعدي كل عقبة رصتيها قدامك بنفسك، كل ده وهم، أبواب من حديد محاوطه نفسك بيها يا فاطيما.
وتابع وهو يشير لها عليها:
حاولي تصدقي من جواكِ إنك بقيتي أقوى، وإن اللي فات من حياتك عدى وانتهى، لإنه مكنش بتاعك اللي جاي هو اللي ملكك وبايدك تغيره.
وبثقةٍ هتف بها:.

إنتِ قوية وقادرة تواجهي من غيري ومن غير المهدأ، من غير أي حاجة كانت بتدعمك.
اتسعت ابتسامتها فرحة، وهزت رأسها بخفة بموافقتها حديثه، جذبها بين ذراعيه، يضمها بحبٍ وهو يهمس لها:
وحتى لو نص كلامي معناه إنك لوحدك في مخططاتك، فأنا هفضل جنبك ومعاكِ وقت ما تحتاجيني.
وضم جبينها بقبلة أخيرة، يتبعها صوته المخملي:
أنا على طول هنا يا فطيمة!
أغلقت عينيها بسعادةٍ وقالت:
واثقة إنك جنبي ومعايا دايمًا يا علي.

وسعت ابتسامته وقال:
لأخر عمري جنبك ومعاكِ يا قلب علي!
ودعها وهبط للأسفل، فوجد شقيقته ترتدي مريول المطبخ، وتحمل طبقين كبيرين، عليهما العديد من أصناف الطعام الغني بالبروتين.
وضعت احدهما أمام مايا والاخر أمام والدته، مرددة بفخرٍ:
أنا قومت من بدري وجهزتلكم فطار مليان بروتين وفوايد كتيرة، عشان كتاكيتي الصغننه تتغذى.
وضعت مايا يدها على أنفها بنفورٍ، ورددت:.

أنا مش طايقة ريحة الأكل يا شمس، اعفيني عن المهمة دي، فريدة هانم سابقاني بشهر فعدت موضوع القيي والتعب ده، ادخلي عليها واتناقشوا مع بعض، أنا هأخد ابني ونطلع نريح فوق شوية.
صاحت بحزمٍ أضحك علي الذي يراقب ما يحدث من أعلى الدرج:
مفيش حد هيقوم من غير ما يخلص طبقه، عُمران موصيني عليكم!
وضعت فريدة قدmًا فوق الاخرى، وخاطبتها بتعاليٍ:
كأن صوتك عالي شوية يا شمس.
ابتلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ، وهتفت:.

يوطي يا فريدة هانم.
استدار علي خلفه على أثر لكزة خفيفة بكتفه، فوجد احمد يقابله بنظرة مندهشة، وتساءل:
واقف كده ليه يا دكتور؟
أشار له هامسًا:
بحاول أكتسب معلومـ.ـا.ت من شمس عن تغذية الحوامل، المفروض تكافئ البـ.ـنت دي بتساعدك بدون ما تتعبك يا بشمهندس.
ابتهجت معالمه وابتسم مرددًا بسعادةٍ:
شمس دي حبيبة قلب عمها ومن هي بيبي صغير.
شاركه البسمة وهمس له:.

تعالى نتسحب من الباب اللي ورا، فريدة هانم لو شافتنا هتبطل فطار وهتقوم تعمل رياضة وقتي!
هز رأسه باقتناعٍ وقال:
وعلى أيه، يلا بينا.
لحق به والابتسامة مشرقة على وجهه، يحمد الله أن هناك ستار عظيم من الله عز وجل على أغلب اخطائنا، ليس كل ما نرتكبه من جرائم وذنوب وأخطاء تُكشف للجميع، فلربما منح الله فريدة فرصة عظيمة بعدm خسارة زوجًا، وعاشقًا، محبًا مثل أحمد.

طرق الباب وتراجع للخلف بمسافة تمنح خصوصية لاهل المنزل، فتحت سدن الباب وفور أن رأته قالت:
اتفضلي!
كبت يونس ضحكته بصعوبة وقال:
لا أنا مستعجل على المحل، ناديلي أم فارس لو سمحتي.
هزت رأسها وقالت بلهجةٍ غير صحيحة:
هناديله ماشي.
فور دخولها ضحك من قلبه على حديثها، ولا يعلم كيف حمل معزة لها بعدmا كان يتقزز منها، باتت تحمل المعزة والمعاملة الحسنة من جميع افراد العائلة بأكملهم.

خرجت خديجة تعدل من نقابها جيدًا، وقفت قبالته تستقبله بأعين تتلألأ بفرحةٍ، سلخ نظراته عنها بصعوبةٍ، ومد يده بظرفٍ مطوي:
خدي المبلغ ده خليه معاكِ يا خديجة.
رفضت أن تحمله منه، وقالت:
الظرف اللي ادته لفارس الاسبوع اللي فات لسه معايا زي مهو مفتحتهوش، الشيخ مهران والحاجة رقية مش مخليني محتاجة حاجة يا يونس.
رفع فيروزته لها يشـ.ـدد عليها باصرارٍ:.

لما أديكي حاجة مترفضيش، وبعدين مالي بعمي ومـ.ـر.اته إنتِ ملزومة مني يا خديجة لحد ما ترجعي لبيتك ولعصمتي من تاني يا ست البنات.
خفق قلبها طربًا، فبقيت نظراتها تحتضن نظراته العاشقة، ويدها تجذب ما قدmه بشرودٍ، تنحنح بخشونة وانسحب من أمامها يستغفر ربه، يدعوه من صمام قلبه أن تمر أيام عدتها سريعًا لينعم بقربها مرة أخرى.

بالمركز الطبي الخاص بالدكتور علي الغرباوي
ولج للمركز متجهًا لمكتب يوسف ، ما ان رآه حتى سأله بلهفةٍ:
طمني يا يوسف عملت أيه؟
لف مقعده له وقال يمازحه:
طيب قول صباح الخير الاول.
جلس على المقاعد المقابلة لمكتبه، قائلًا بجدية:
أسمع اللي عايزه الأول وبعدها هصبح وأمسي.
ارتسمت ابتسامة فخورة على شفتيه وقال:.

زي ما سهلتلك دخول الاجهزة للمركز، قدرت أمنع دخول الأجهزة الطبية اللي طلبها نعمان للمركز اللي بيحضرله في السر.
وتابع بفرحةٍ وسعادة:
يعني إنت لغيتله التوكيل وضرته في الأرضية، وأنا كملت عليه بمنع الشحنة، يعني ضـ.ـر.به اتنين معلمين.
برزت أسنانه البيضاء من بين ابتسامـ.ـا.ته، ورفع كفه يطرق كف يوسف:
كده أقدر أقولك صباحك أبيض وورد يا دووك.
قهقه ضاحكًة يوسف وقال:
وصباح أسود على دmاغ نعمان الغرباوي ل100 سنة قدام!

راقب الهاتف وهو يجلس على المكتب المندس وسط العمال بمحل يونس، فما ان اجاب حتى صرخ بحماس مسموع لإيثان الذي يراقبه بنفورٍ:
سيف أوعا تقفل، سيف اسمعني حـ.ـر.ام عليك اللي بتعمله ده يا أخي، كل ما أكلمك من حساب تبلكه!
كل يومين ترفع البلوك وتبعتلي محاضراتي وجدولي وترجع تبلكني تاني طيب ليه أنا عملت أيه لكل ده؟!
أتاه صوته الناعس يخبره بوجومٍ:.

قول معملتش أيه! إنت من ساعة ما نزلت من السفر وآنت مقضيها مع حضرة الظابط ولا انا فارقلك في شيء.
جحظت عيني آيوب بصدmة، وردد ببراءة زائفة:
أمته ده! محصلش غير كام مرة والله.
كام مرة! لهو إنت عايز تلم هدومك وتروح تعيش معاه!
=طيب خلاص متزعلش حقك عليا، هقطع علاقتي بآدهم خالص لو ده هيخليك ترفع البلوك عني.
فرقالك أنا صدقت!
=طبعًا فارقالي ده انت صاحب عمري يا أهبل، وبعدين متخدنيش في الكلام ألف مبرووك يا عريس.

الله يبـ.ـارك فيك يابن الشيخ مهران، عقبالك.
=قريب جدًا وهتبقى فرحتين، فرحة آدهم وأنا.
آدهم تاني! والله أظرفك بلوك عاشر!
خلاص خلاص متزعلش، فرحة واحدة ها مرضي!
مسح إيثان على وجهه بمكرٍ، ودنى إليه يحاوطه وهو يردد بخبث:
فينك يا آيوب وحشني يا راجـ.ـل من امبـ.ـارح، كده متسألش على صاحبك الأنتيم اخص عليك، اخص!
جحظت عينيه صدmة، وأشار له بهمس:
أبوس ايدك بلاش، سيف غشيم ومصدقت أكلمه.
تابع وهو يرمقه بانتشاء:.

ده أنا وانت عمرنا ما فارقنا بعض، وطول عمرك بتقولي مفيش حد في غلاوتك عندي يا إيثو.
حاول كبت سماعة هاتفه قدر المستطاع، وما كاد بالركض من أمامه حتى اتاه صوت سيف المتعصب:
أنا مش عايز أعرفك تاني يا آيوب، خليهم ينفعوك.
أغلق الهاتف بوجهه، فأسرع ليسجل ريكورد يخبره بما حدث، فوجده قد وضعه بالفعل على قائمة الحظر.
ترك آيوب هاتفه وتطلع جانبه لإيثان الجالس على طاولة المكتب جواره، مبتسمًا بشمـ.ـا.تة ويسأله:.

بلكك ولا لسه؟
ألقى الهاتف وانقض عليه يحاول بكل جهد تسديد لكمة له، ولكنه لوى ذراعه من خلفه بكل سهولة، لفرق قوته الجـ.ـسمانية، ومال برأسه للخلف ثم اندفع يرطم رأسه برأس آيوب الذي ترنح للخلف، فسقط بين ذراع آدهم، ومن جواره طلت نظرات عُمران المشتعلة، وبعدها ترنح إيثان أرضًا غير مستوعبًا لسرعة الاحداث، بينما يهتف آيوب بعدm تصديق:
عُمران!

بالشركة الأم الخاصة بعائلة الغرباوي
يجلس على مقعد مكتبه بانتشاءٍ يشعر به بالاونة الأخيرة، وخاصة حينما علم اليوم بسفر عُمران بالأمس، ظنه ترك له الساحة بعدmا كـ.ـسر جناحيه، كان مستمتعًا بانكساره، وضعفه الذي بدى بهروبه لمصر.
تعالت دقات باب مكتبه فسمح للطارق بالولوج، ولج السكرتير الخاص به يهتف بتـ.ـو.ترٍ:
العملا سحبوا ملفات المشاريع اللي بينا، ورفضوا التعامل معانا بشكل نهائي.

توسعت مُقلتيه بصدmة، وردد بعدm تصديق:
أنت بتقول أيه؟ سحبوها ليه وعشان أيه؟!
ابتلع ريقه بـ.ـارتباكٍ وهو يجيبه:
البشمهندس عُمران قدm عروض ممتازة وأقل سعر مننا، ومن غير ما يعمل كده هما كانوا حابين يشتغلوا معاه وهو اللي رفضهم، ودلوقتي قبلهم!
ألقى المزهرية من جواره وهو يصـ.ـر.خ بغـــضــــبٍ:
عملها ابن فريدة!
وما كاد بمحاولته للهدوء، حتى ولج للداخل أحد الموظفين، يحاول التقاط أنفاسه وهو يتحدث بصعوبةٍ:.

الأرض اللي كنا هنعمل عليها المركز الطبي انسحب توكيلها مننا، والأجهزة اللي بعتنا نستوردها من الصين انسحبوا بالاتفاق ووقفوا الشحنة.
دارت به الغرفة، ونطق بحروفٍ متقطعه:
انت بتقول أيه إنت كمان؟!
رفع الورقة أمامه وهو يوضح:
الفاكس لسه واصلنا من شوية.
لطم بيديه على المكتب وهو يصـ.ـر.خ:
عمران الكـ.ـلـ.ـب اللي ورا اللي بيحصل ده.
نفى الموظف ذلك، ناطقًا بخــــوف:.

اللي ورا الغاء التوكيل علي الغرباوي ، أما الأجهزة الطبية فعرفت إن مالك المصنع يبقى صديق دكتور يوسف.
هز رأسه بغـــضــــب كاد بأن يفجرها، والقى متعلقات مكتبه وهو يصـ.ـر.خ بجنون:
دول اتفقوا عليا بقى، وربي لأدفعهم التمن واحد واحد!
واستطرد بزعيق شرس:
هوريهم مين هو نعمان الغرباوي.

سيطر على غـــضــــبه بصعوبةٍ فور أنا رأى هيلينا زوجته، تدخل من باب مكتبه مسرعة، بأعين متتفخة، إتجهت اليه وصفعته بكل قوتها أمام موظفينه، وهي تصرخ بغـــضــــب:
أيها الخائن، كيف تفعل ذلك بي!
وتابعت وهي تشير له:
من الآن فصاعد لا تريني وجهك، لقد قمت بكتابة المنزل والشركة لي سأعدهم هدية انفصالنا.
حاول التماسك وسألها بذهول:
ما الذي حدث لكل ذلك هيلين!

فتحت حقيبتها وألقت اليه الهاتف، بعدmا فتحت احد مواقع الاباحة الشهيرة، انهار نعمان على مقعده بعدmا فقد القدرة على تحرك أي جزء من جسده، وهو يرى مقطع فيديو له برفقة تلك الفتاة الاجنبية التي قضى السهرة برفقتها بالأمس، وما كاد باصابته بذبحة صدرية وصول المقطع لملالين من المشاهدات، وانطـ.ـلا.ق عدد من الاخبـ.ـار للحديث عن نعمان الغرباوي، وبالطبع بعدmا ضـ.ـر.به عُمران بعمله، واستكمل علي ويوسف ضـ.ـر.بته، كان مؤكدًا له ممن تلقى تلك الضـ.ـر.بة، فلم يكن سوى جمال.

استمعت لجرس الباب الذي دق لمرتين متتاليتين، فذهبت تناديه من أمام باب الحمام:
سيف إنت طلبت حاجة.
لف المنشفة حول خصره وأجابها:
آه يا حبيبي، كنت طالب من البواب جل حلاقة وشوية حاجات ليا، البسي الاسداا وخديهم منه، عندك المحفظة في درج الجزامة.
ابتسمت وهي تجيبه بحب:
حاضر.
وبالفعل ارتدت اسدالها وخرجت تحمل المال لمكافأة البواب، وجدت قبالتها شاب يحني رأسه المغطي بالقبعه.

تناولت منه الكيس البلاستيكي، وقدmت له المال قائلة ببسمة صغيرة:
عذرًا، تفضل.
منحها الكيس البلاستيكي وقبض على راسخها، حاولت زينب سحب يدها وقد تشكل عليها أمارات الرعـ.ـب، فرددت بهلع:
اترك يدي! ماذا تريد؟!
أزاح قبعته ورفع عينيه يقابلها وجهًا لوجه، هـ.ـر.بت الدmاء منها، ونخرت عظامها رعشة قوية ضـ.ـر.بتها دون رحمة، رددت بصعوبة بالحديث:
يمان!
استوعب عقله المتخشب ما تراه، فتحررت صرخاتها بانهيارٍ:
سيف!
اجتمعت مخاوفها جميعًا، وتجسدت قبالتها فجأة، انهار عالمها الآمن، فور أن رأته يقف قبالتها، نظراته كادت أن تحرقها حية، جحظت عينيها صدmة لما تراه، تراجعت زينب للخلف، وهي تهز رأسها رافضة تصديق ما تراه.
تحرر لسانها الثقيل أخيرًا، فصرخت هلعًا:
-سيف!
ارتكن ظهرها للحائط من خلفها، استندت عليه وسقطت أرضًا على ركبتيها، تناديه ببكاءٍ هيستري:
-سيف، سيف!

جذب مئزر الاستحمام الشتوي، يرتديه مسرعًا، ومن ثم ركض للخارج باحثًا عنها بقلقٍ، وجدها تميل أرضًا مستندة على الحائط من خلفها، جسدها يرتجف بعنفٍ، ونظراتها المرتعبة مُسلطة على باب المنزل، المفتوح على مصرعيه.
انحنى إليها يحيط جسدها المرتجف، يتساءل بقلقٍ وخــــوف:
-مالك يا زينب؟ في أيه؟
عينيها الجاحظتين، مازالت تتطلع لباب المنزل، رفعت اصبعها المرتعش للباب، وأخبرته بحروفها المتقطعة:
-يمان!

زوى حاجبيه بذهولٍ، تركها ونهض يتجه للباب، فتفاجئ بأحد عمال الماركت، يحمل الأكياس، يبدو على ملامحها الدهشة لما يحدث، وما أن رأى سيف حتى ردد بانزعاجٍ:
-من فضلك سيدي ادفع لي لأغادر، عليا إيصال طلباتًا آخرى.
مشط الطرقة الفاصلة بين شقته، وشقة أخيه بنظرةٍ متفحصة، وهز رأسه إليه، فعاد للداخل متجهًا لغرفة نومه، ونظرات زوجته المرتعبة تلاحقه.

عاد يحمل المال وخرج يدفع ثمن الأغراض، ثم ولج للداخل يضع الأكياس على أقرب طاولة، فإذا بها تتساءل برعـ.ـبٍ:
-يمان برة يا سيف!
ضم شفتيه معًا بضيقٍ، واستدار يوجهها بنظرةٍ غاضبة:
-مفيش حد برة يا زينب، الظاهر إن أعصابك بايظة ومن كتر خــــوفك منه مبقتيش قادرة تشليه من تفكيرك.
أتكأت على الأرض بجذعيها، ونهضت تتجه إليه بخطواتٍ متهدجة، قائلة باصرارٍ:
-أنا شوفته يا سيف، كان برة صدقني.

ورفعت كم اسدالها تشير له على يدها، مستطردة:
-ومسكني من ايدي، حتى كانت زرقة دلوقتي، بص!
تطلع لمعصمها مثلما فعلت هي، فجحظت عينيها صدmةٍ، حينما لم وجدت جلدها باللون الطبيعي، عادت تتطلع له بأعين غائرة بالدmـ.ـو.ع ورأسها يهتز بحركة صغيرة:
-لأ! صدقني يا سيف يمان كان بره والله كان برة.

قالتها وأحاطت وجهها بكفيها، تبكي بانهيارٍ وخز قلبه له، فسحبها إليه بقوة، يحيطها داخل أحضانه، ويده تمر على طول ذراعه، ليمدها بالحرارة بعدmا شعر ببرودة جسدها، من شـ.ـدة الخــــوف.
ضم رقبتها بكفه الأخر، وهمس لها بصوتٍ حنونٍ:
-حبيبتي ميقدرش يمس منك شعرة وأنا جنبك ومعاكِ، خلاص يا زينب مبقتيش لوحدك في الحرب دي، أنا هنا وهفضل هنا على طول يا عمري.

وإتجه للأريكة يجلس عليها برفقتها، ومازالت تميل على صدره، نزع حجابها، وغمس أصابعه بين خصلاتها المبتلة، قائلًا بصوتٍ رخيمٍ:
-شليه من تفكيرك، إطرديه بره حياتنا يا زينب.
ورفع رأسها إليه، يتعمق بمُقلتيها الفاتنة، هاتفًا بصوتٍ منخفض:
-مبقاش في غيري أنا وإنتِ، مفيش غيرنا يا حبيبي!
وتابع ببسمة زادت من جاذبيته:
-طيب مش بعد الكلام الحلو ده تقومي تعمليلنا فطار ملوكي كده، ده احنا حتى عرسان جداد.

ابتسمت من بين دmـ.ـو.عها، وهزت رأسها بخفةٍ، فمال يقبل جبينها وهو يزيد من طمأنينتها:
-حضري الفطار عما أكمل الشاور اللي حسداني عليه ده، ومتنسيش تشغلي القرآن في الشقة كل يوم الصبح على صوت الشيخ محمد رفعت أنا بحب كده.
اتسعت ابتسامتها، ونهضت تتجه لشاشة التلفاز، قائلة بسعادةٍ هاجمتها لوجوده:
-وأنا كمان بحبه جدًا، وفعلًا بعمل كده كل يوم.

ابتسم بمحبةٍ لها، سبق أن أخبرته كثيرًا بما تحب فعله صباح كل يوم، فاستغله الآن ليشغل عقلها عما يهاجمه، غادرت أمامه للمطبخ بحماسٍ لما ستصنعه له، وبمجرد اختفائها من أمامه، عاد الوجوم والغـــضــــب لملامحه، فأسرع لغرفة نومه، يجذب من مكتبه الحاسوب.
فتحه سيف وأعاد تسجيل الكاميرات الخارجية، فازداد تجهم معالمه غـــضــــبًا، كان يعلم منذ اللحظة الأولى بأنه سيحاول فعل أي شيء أحمق، والآن باتت خطته واضحة له.

جاب الغرفة ذهابًا وإيابًا، والغـــضــــب يحبس أوردته كالقنبلة المُوقتة، ذلك اللعين ليس سهلًا بالمرة، عقله شيطانيًا بدرجةٍ مخيفة.
أغلق سيف حاسوبه، وجذب هاتفه يبحث عن رقم علي الغرباوي، وما أن أجابه حتى قال:
-دكتور علي أنا محتاج أتكلم معاك ضروري.
اتاه صوته ومن حوله أصوات السيارات المجاورة له:
-وأخيرًا فتحت موبيلك، بعتلك كتير عشان اقولك إن أنو وفاطمة جاين ليكم.
هتف بحماسٍ:
-طيب كويس، تعالى لإني عايزك.

تساءل بريبةٍ من حديثه:
-في أيه يا سيف، قلقتني!
ضم مقدmة أنفه بيديه، واستطرد:
-مفيش موضوع بسيط، لما تيجي هكلمك فيه.
اجابه بتفهمٍ:
-نص ساعة بالكتير وهكون عندك إن شاء الله.
اغلق الهاتف ووضعه على الكومود، ثم اتجه لخزانته ينتقي ما يناسبة، قبل وصولهما.

سقط على المكتب من خلفه، يحاول فتح عينيه، عقله لا يستوعب أن ابن الشيخ مهران، يمتلك قبضة قوية هكذا، لقد سبق له أن قام بالاشراف على تدريبه بالجيم الرياضي الخاص به، ويعلم منظور كل شخصٍ قام بتدريبه، عاد يفتح عينيه من جديدٍ، في محاولةٍ لاستعادة ثباته، استند على سطح المكتب، وعاد يدعم وقفته، مستديرًا بغـــضــــبٍ للخلف.

رمش إيثان بعدm تصديق، فور أن رأى صديق آيوب، والذي انتظر قدومه بحماسٍ، تغاضى عن ذلك الأمر، وقابله بنظرةٍ غاضبة، بينما اصبعه يشير على الورم المجاور لشفتيه، هادرًا:
-فهمني أيه اللي عملته ده؟!
شمله بنظرة ساخطة، جابته من رأسه لأخمص قدmيه، وببرودٍ استدار لأيوب الذي يحاول أدهم مساندته بالوقوف:
-مش أنا نبهت عليك وقولتلك متلعبش مع أولاد الشوارع يابن الشيخ مهران!

كبت أدهم ضحكاته، بينما عاد آيوب يهتف في عدm تصديق:
-عُمران! إنت نزلت مصر أمته؟
استدار إليه يواجهه ببسمة جذابة، فاذا بأيوب يحتضنه بحبٍ، والاخر يستقبله بترحابٍ، ربع أدهم يديه أمام صدره، ووقف يراقبهم بابتسامةٍ عـ.ـذ.باء، بينما اشتعلت أعين إيثان غـــضــــبًا، واندفع يفصلهما قائلًا بسخريةٍ:
-نأجل أحضان العشق الممنوع ده، أنا ليا تار عنده ولازم أخلصه.
ابتلع آيوب ريقه بتـ.ـو.ترٍ، وقال يحذره:
-بلاش يا إيثان، إنت مش قده!

تراقص حاجبيه من فرط الغـ.ـيظ والغـــضــــب، فدفع آيوب تجاه أدهم الذي تلقفه مجددًا، وعاد عاقدًا العزم على أن يطيح غريمه، كور يده وصوب لكمته تجاه وجه عُمران، الذي يقابله بابتسامةٍ جـ.ـا.مدة، ومازالت يحتفظ بنظارته السوداء.

اتجه إليه بيده المتكورة، فانحنى عُمران يتفادى لكمته، وسقط عليه بركلة، أصابت أسفل ظهره فأسقطته بمكتبه أرضًا أسفل أقدام يونس الذي يدلف للتو، بينما اعتدل عُمران يلتقط نظارته التي اطاحها انحناء جسده، وارتداها بغــــرورٍ.
تابع يونس ما يحدث باستغرابٍ، وانتقل بعينيه لابن عمه، يتساءل:
-أيه اللي بيحصل هنا ده؟
إتجه إليه آيوب يشكو له، كالصغير:.

-صاحبك مش ناوي يبطل حركاته المستفزة دي يا يونس، خليه يبعد عني عشان المرادي الطاووس الوقح هيسويه زي أسفلت الحارة.
اعتدل إيثان بجلسته للتو، مزيحًا أجزاء الطاولة المتناثرة من فوقه، واتكأ على ذراع يونس، حتى نهض يصيح:
-مش هحله الخواجة ده، هجيبه هجيبه.
دنى إليه عُمران، يردد بسخريةٍ:
-ما تجيني ولا الطريق مرهق عليك يا حيلتها!

راقب يونس من يقف قبالته، بنظرة متفحصة، تذكر تلك المكالمة التي سبقت ان جمعت آيوب برفيقه، ومال على آيوب يسأله بريبة:
-متأكد إن ده أخو دكتور علي الغرباوي؟
هز رأسه عدة مرات، يؤكد ذلك، بينما في الخلف يضم أدهم مقدmة انفه ليخفي وجهه المحمر من فرط الضحك.

ترك إيثان كتف يونس، واتجه لعمران، والغـ.ـيظ يحشـ.ـد جيوشه على معالمه، راقبه الاخير بضجرٍ، بقى ثابتًا محله، يحرك رقبته بمللٍ، وما أن وصل إليه إيثان حتى تنحي نصف استدارة فاذا به يقتحم الحائط بجسده كالكرة التي تتلقفها الشبكة بكل ترحابٍ!
أغلق يونس عينيه بشفقةٍ، وفتحهما ليقابل من يقف قبالته، تنحنح بتـ.ـو.ترٍ وقال:
-أهلًا بيك.
وبصعوبة نطق ما قد يضع له العداء بينه وبين رفيقه:
-نورتنا!

اعتدل إيثان بجلسته، وجاهد ليفتح حدقتيه صارخًا:
-يونس يا حقير، بترحب بيه وهو معلم على صاحبك!
وتابع وهو يلتقط أنفاسه بعنف:
-ده بدل ما تمسك شومة وتروق الخواجة اللي شايف نفسه ده.
ردد عُمران جملته المعتادة:
-ميغركش لبس الخواجات ده، أنا أصلًا من العتبة!
فشل يونس بإبادة ابتسامته، ربما إن كان بوضعٍ أخر لكان غير راضيًا من معرفة ابن عمه بشخصيةٍ هكذا، ولكن للعجب أثار عُمران فضوله بشكلٍ غريبٍ.

اتجه يونس لأدهم الصامت، مال يهمس له:
-أيه يا حضرة الظابط، شايفك واقف بتتفرج في صمت، مش عادتك يعني!
ابتسم ساخرًا، وهتف:
-اللي قدامك ده نازلي من لندن بيدورلي على حجة عشان يفض الفرح قبل ما يبدأ، فانسى إنك تشوف مني أي شهامة ممكن تضيع مستقبلي مع شمس هانم.
تعالت ضحكات يونس، وتابع آيوب الذي يحاول معاونة إيثان بينما يتابعهما عُمران بملل على بعد منهما، وقال بهمس له بدهشةٍ:
-مش كاتب كتاب إنت!
شاكسه بسخريةٍ:.

-ولو دخلت بيتي لازم أقلق منه وحياتك!
ارتفعت ضحكاته بشكل جعل ايثان يتوعده بغـــضــــب، فاتجه يعاون آيوب بمساندته، سحب ايثان يده منه ولكزه ببطنه بكوع يده، هادرًا بغـ.ـيظٍ:
-روح كمل ضحك على صاحبك، ابعد.
كبت ضحكاته بثباتٍ مخادع، وقال:
-أنا عملتلك أيه، الله!
عاد يلكزه ومازال يحتمل على ذراع آيوب:
-واقف تحب في الخواجة اللي علم على صاحبك الوحيد!
أشار على ذاته مستنكرًا:
-أنا! أنا كنت واقف مع حضرة الظابط واساله!

واستدار يطالب شهادته:
-مش صح يا آدهم؟
هز رأسه يؤكد ببسمة صاخبة، بينما تآوه يونس حينما عاد يلكزه بعنفٍ، هاتفًا:
-صوتك الحقير جايلي من هنا، بطل كدب، ده عندكم حـ.ـر.ام ولا أيه يابن الشيخ مهران؟
ضحك آيوب وأكد له:
-صح يا إيثو.
لوى شفتيه بتهكمٍ، وقال:
-يعني اللي حصلك ده كله بسبب آيوب، وفي الآخر تقلب عليا أنا!
استجاب ليد آيوب وجلس على المقعد الخسبي يجيب يونس بمكرٍ:.

-كُل هيأخد نصيبه متقلقش، أصلب طولي وهظبطله فيديو هو والخواجة اللي جايبه ده، وهبعته لمـ.ـر.اته ام سفيان هخليها تنزله على أول طيارة وتعلقه في نص الحي.
ترك آيوب يده، وهدر بانفعالٍ:
-مالكش دعوة بعلاقتي بسيف يا إيثان، وبعدين إنت اللي لسانك وحركاتك الطايشة اللي وصلتك هنا.
أشار له بتحذيرٍ:
-إنت بتعلي صوتك عليا!
هز رأسه ينفي ذلك، بينما من خلفه يؤكد الطاووس الوقح:
-أنا سمعته من برة يبقى عالي، تمامك أيه؟

وجذب آيوب ليقف قبالته، متسائلًا بسخرية:
-تحب تتشقط بأحضان أنهي حيطة المرادي؟!
دنى إليه أدهم يردد ببسمة ساخرة:
-كفايا عليه كده، إنت نسيت إنك جاي تشوف آيوب وده في العموم فعل خيري بعيدًا عن العنف يا بشمهندس!
منحه نظرة متفحصة، قبل أن يلتزم صمته، احتقنت اوردة إيثان، فنهض يجذب المطرقة جواره، وهم إليه، هاتفًا بعزمٍ:
-بقى إنت داخل لهنا تعلم عليا، مش هحلك النهاردة.

سقط آيوب على ذراعه، ويونس على الذراع الأخر، ومال إليه يُذكره:
-افتكر البوتيك الرجـ.ـالي اللي عايز تفتحه يا إيثو، لو كونت عداء مع الخواجة مين هيساعدك؟
رمش بأهدابه يفكر فيما يقول بتمعنٍ، بينما استطرد آيوب يُحمسه:
-بص عليه كده، ذوقه شيك جدًا وإنت محتاج تستفاد من ده.
ارتخت معالمه قليلًا، وترك العصا ليونس، رفع إيثان عينيه لعمران الذي يتابعه بتسليةٍ، وقال:
-هعدهالك بس عشان ضيف، لكن آآ..
ومال يسأل يونس بتخبط:.

-لكن أيه؟
كبت ضحكاته وهو يجيبه:
-ملكنش يا إيثان، صلي على النبي كده واستهدى بالله..
عبث بملامحه كفاقد الذاكرة:
- أنا مسيحي يا عم!
وهتف بابتسامة مشاكسة:
-بتستغفلني وأنا متطوح؟
مازحه وهو يدعم وقفته المهتزة:
-هيبقى أنا وكريستينا عليك! كفايا هي غفلتك!
احتدت معالمه واستدار يبحث خلفه مرددًا:
-فين الشومة، في قــ,تــلين هنا النهاردة.
تركه آيوب وهو يردد بضجر:
-بص بقى أنا بحاول أهديك وإنت مش قابل، سلام انا.

وإتجه لعمران وآدهم يشير لهما بالدخول لمكتب يونس المنفرد، فاتبعوه للداخل، بينما بقى إيثان يجذب يونس من تلباب قميصه، صارخًا بحدة:
-بتعاريني يا يونس؟
انتهت ليلى من صنع العصير، وانشغلت بسكبه بالأكواب، فمالت فاطمة لشقيقتها تسألها باهتمامٍ:
-مالك يا زينب، وشك مش طبيعي من ساعة ما جينا؟
أجابتها وهي ترسم ابتسامة هادئة:
-مالي يا فطيمة، أنا كويسة جدًا، وسيف حد كويس جدًا حتى في طريقة تعامله معايا.

خشيت أن تضغط عليها، وخاصة بوجود زوجة يوسف، فضمتها لصدرها بحبٍ وهمست لها:
-هكلمك لما أروح، عشان نقدر نتكلم على راحتنا.
هزت رأسها بخفةٍ، وابتسامتها تجاهد لرسمها، خرجت ليلى حاملة للأكواب، وضعتها وجلست تردد ببسمتها البشوشة:
-نورتي الدنيا كلها يا فاطمة.
أجابتها ببسمة رقيقة:
-بنورك يا دكتورة.
قدmت لها الكوب، فحملته منها وهي تردد على استحياء:
-تعبتي نفسك ليه بس.
رددت بحبٍ:
-تعبك راحة يا روح قلبي.

تناولت منها زينب الكوب، وقالت باحترام وحب:
-بجد والله من غيرك كنت هحتاس.
واستدارت تخبر شقيقتها:
-دكتورة ليلى يا فاطمة مش سايباني، وبجد كل ما بحتاج شيء من قبل ما أطلبه بتكون مفكرة فيه.
ابتسمت فاطمة بمحبةٍ، وقالت بدعوةٍ صادقة:
-ربنا يخليكم لبعض يا رب.
أغلق سيف باب الشرفة الخارجية، تاركة زوجته برفقة شقيقتها وزوجة اخيه، واتجه للطاولة المستديرة، يجذب احد المقاعد المجاورة لأخيه الذي يتفحص الحاسوب برفقة علي.

أغلق علي الشاشة، وتمتم بضيق:
-الواد ده عايز يتحطله حد وبأسرع وقت.
هز يوسف رأسه، وقال بقلقٍ سيطر على ملامحه:
-قدر يعرف ازاي عنوانه، ووصل ازاي بالسرعة دي!
صاح سيف بانفعالٍ:
-وبعدين يعني، هستنى أيه تاني! ده جالي لحد باب بيتي يا يوسف!
استدار علي للخلف وأشار له:
-ممكن تهدى شوية، مش عايزين نلفت النظر للي بيحصل ده، زينب من غير حاجه متـ.ـو.ترة وباين جدًا إنها بتحاول تكون طبيعية.
نظم انفاسه الهادرة، وردد بصوتٍ منخفض:.

-انا خايف يا دكتور علي، أنا مش هستحمل حد يأذيها.
ربت يوسف على يده بحنانٍ وأخبره:
-اهدى يا سيف، مفيش حاجة هتمسك ولا هتمسها.
اقترب علي بجسده للطاولة، وقال:
-سيف، ليه مبتفكرش تأخد زينب وتنزل مصر تغير جو، ومنه تتدارى بعيد عنه كام يوم.
صمت قليلًا يوازن ما أخبره به، وعاد بنظراته ليوسف بحـ.ـز.نٍ، قرأ ما يفكر فيه أخيه فربت مجددًا على كتفه، وقال:.

-مش هزعل، صدقني إنك هتكون في أمان إنت ومراتك ده يهمني أكتر من أي مشاعر هبلة، وكده كده أنا هحصلك، أحل بس حوار جمال وزوجته وهحصلك في أقرب وقت.
هز رأسه بضيقٍ، وقال:
-يومين أحضر الأوراق وهسافر كام يوم لحد ما أشوف هتخلص على أيه؟
نهض علي بخبره بابتسامته الجذابة:
-كل خير إن شاء الله، على الاقل أدهم موجود في مصر، لو فكر يعمل اي حاجه هيكون فايقله.
وحمل هاتفه ومفاتيحه مستأذنًا بالانصراف بلباقة:.

-بقالنا ساعتين هنا، مش يالا بينا يا دكتور يوسف ولا عاجبك نقطع على العريس من أولها كده؟
تعالت ضحكاته الرجولية، فنهض يتبعه هادرًا بمرحٍ:
-متقلقش على دكتور سيڤو في الجزئية دي.
شاركهما الضحك بالرغم من تـ.ـو.تره حيال هذا الأمر، ولحق بهما للخارج.

إتجه نعمان لسيارته، منكس الرأس، يشعر بالهزيمة التي تحيطه لمرته الأولى، ومن خلفه يتبعه أفراد الأمن الخاص بحماية شركته، كان قد عينهما لحمايته بعد أن انتزع الشركة من عُمران، كان يظن بأنه سيفعل أي شيءٍ، ربما لإن تفكيره المسمم شرع له ذلك.
فتح له إحدى الرجلين باب سيارته، وما كاد بصعوده حتى أتاه صوتًا، ذكوريًا من خلفه:.

-خروجك مكـ.ـسور بالشكل ده رمم كل و.جـ.ـع جوايا، بس يا خسارة موبيلي أغلي من إني أوثق الخلقة القذرة دي عندي، لوقت الشمـ.ـا.تة وتشفية الغليل.
استدار للخلف ليتفاجئ بجمال قبالته، يستند على مقدmة سيارته واضعًا يديه بجيوب جاكيته، يتابعه بنظرة غمرتها التشفية والانتصار.
انتصب بوقفته وإتجه إليه، حتى بات يقف أمامه، واستطرد ببسمة ساخرة:.

-رافع إنت رأسنا هنا بالفيديو اللي نزل، بس المفروض تشكرني، انا دافع وموصي عليك بالاهتمام الحونين!
غدفت عدائية مُقلتيه واكتظمت بالكراهية والحقد، فصاح بعنفوان:
-بقى حتة واد جربوع زيك يآآ..
-اخرس، أنا أنضف منك ومن عشرة زيك يا حقير.
صرخ بوجهه يوقفه عن استكمال حديثه، ورفع اصبعه يحذره وجسده يرتعش من فرط كبته لغـــضــــبه العظيم:.

-أنا لحد اللحظة دي ايدي مرفوعة عنك، مش لانك راجـ.ـل كبير وعايب، لانك مهما كان حامل نسب أعز صاحب ليا، مش هقدر أرفع ايدي عليك وأبص في وشه حتى لو كنت كـ.ـلـ.ـب وو
انتفخت أوردته حقدًا، فاستدار للرجلين يصـ.ـر.خ بهما:
-ماذا تنتظرون أيها الحمقى؟ هيا اقضوا عليه.

هاجموه معًا، فتأهب جمال للتصدي لهما، ولكن قبل أن تمسه الأيدي، توقفت سيارة فاخرة امامهم، وهبط منها أربعة رجـ.ـال ببنية مخيفة، أحاط اثنين منهم جمال بشكلٍ دائري، بينما هاجم الرجلين رجـ.ـال نعمان المندهش مما يحدث.
ابرحوهما ضـ.ـر.بًا، فسقطوا ينزفون بغزارةٍ، أما نعمان فتراجع للخلف برعـ.ـبٍ، وأراد أن يصعد للسيارة ليفر هاربًا، ولكن قبل أن يصل لباب السيارة، أغلقه أحدهما وقال بخشونةٍ مرعـ.ـبة:.

-اتفضل معانا يا باشا، بهدوءٍ ومن غير شوشرة.
ابتلع ريقه الجاف بصعوبة، فجاهد لخروج صوته:
-على فين؟ وانتوا مين؟
تجاهل أسئلته، كأنه حشرة، وقال:
-معانا أوامر بترحيلك لمصر حالًا، ووقت وصولك هتلاقي اللي في انتظارك.
تعجب جمال مما يحدث، وخصوصًا من ظهورهم الذي يبدو له بأنهم كانوا يتعقبونه من البدايةٍ، انفعل نعمان وقال:
-أوامر من مين؟
جذبه أحد الرجـ.ـال للسيارة، قائلًا:
-اتفضل معانا والا هنضطر نلجئ للقوة.

ارتعب من نبرته ونظراته الخطيرة، فصعد باستسلام للسيارة، وصعد الرجلين من الطرفين، متعمدين احكام اي محاولة هروبه، وبالامام صعد أحد الرجلين المحاصران لجمال لمقعد القيادة، وقال الآخر بلطفٍ:
-بشمهندس جمال، اتفضل حضرتك لعربيتك واتحرك عشان نطمن إن حضرتك بأمان ونقدر نتحرك.
بدأت له الخطوط بالظهور، فقال:
-انتوا مين؟ وكنتوا بترقبوني ليه؟
اجابه بتحفظٍ شـ.ـديد:
-معنديش أوامر أبلغ حضرتك بأكتر من كده.

زوى حاجبيه بدهشةٍ، وقال:
-عُمران اللي عمل كده صح؟
صمته المطول كان اجابة صريحه على سؤاله، جذب جمال هاتفه واتصل بعُمران، مرة، مرتين، ثلاث مرات، ولا يوجد أي رد.
أبعد الهاتف عن أذنه، يتابعه بنظرات مندهشة، ومازال الحارس يقف قبالته، ينتظر مغادرته للمكان تحسبًا لسلامته، تصاعد رنين هاتف الحارس، فرفعه وهو يردد بوقار:
-أيوه يا باشا.
لأ محدش لمسه، اطمن كله تحت السيطرة.

ضيق عينيه بنظرة مستنكرة، فانتزع منه الهاتف، يراقب اسم المتصل بحـ.ـز.نٍ، لقد رفض اجابته وفضل الاطمئنان عليه عن طريق أحد رجـ.ـاله، اذًا مازال غير قابل لأسفه، فلماذا خدعه؟
رفع الهاتف لاذنه، فاستمع لصوته يشـ.ـدد بحزمٍ:
-أمن جمال وخرجه من عندك، مهما حصل متطلعش من مقر الشركة الا لما تتأكد إنه مشي، وإن نعمان معاك وتحت سيطرتك، مفهوم؟
تحرر صوته الحزين، يردد بانكسارٍ:
-تهمك في أيه سلامتي وإنت مش قابل تسامحني؟

قابله بصمتٍ مزق قلب جمال، فتابع جمال بنبرة تحشرجت من فرط كبته دmـ.ـو.عه:
-خدعتني ليه يا عُمران؟ عشان أسيبك تسافر صح!
تنهد بألــمٍ، وقال:
-وبعدين معاك يا جمال، مش قولتلك هحتاج وقت؟
انهمرت دmـ.ـو.عه رغمًا عنه، فاستدار للخلف حتى لا يرى أحدٌ دmـ.ـو.عه، وقال:
-مش عايزك تأخد أي وقت، مش عايزك تفكر في اللي حصل ولا تفتكره أصلًا.
واستطرد بنبرته المبحوحة:.

-عُمران، هو إنت ممكن تسامحني لو دعيت ربنا إنك تفقد الذاكرة ويتمحى الموقف ده من ذكرياتك!
وتابع بانهيارٍ تام:
-و.جـ.ـعك و.جـ.ـعني يا صاحبي!
تمكن جمال من سماع شهقاتٍ يحاول الأخير كبتها، ولكنه يعلم جيدًا بأنه يبكي، فقال بو.جـ.ـعٍ:
-خلاص زي ما تحب، المهم تكون كويس وبخير.
وتابع ببسمةٍ يجاهد برسمها:
-إنت بتحب آيوب وبترتحله، روحله يمكن يهون عليك اللي عملته أنا فيك.
تحرر صوت عمران المتحشرج يقول:.

-ولو صاحبت طوب الأرض إنت في مكان لوحدك، مفيش حد هيوصل ليه أبدًا يا عبحليم!
انقلب بكائه لضحكٍ، فأزاح دmـ.ـو.عه متسائلًا بمزحٍ:
-طيب هترجعني لعصمتك أمته يا سي السيد؟
سقط الاخير بنوبة من الضحك، وقال:
-أقسم بالله لو ما بينا عيش وملح لكنت إتبريت منك ومنكم كلكم نفر نفر، بس هعمل أيه إنتوا قفشين في رقبتي كأني أمكم التانية.
واستطرد بهدوءٍ اجتازه:
-يلا روح ريحلك كام ساعة، وشوف هتصالح مراتك ازاي.
أسرع يتساءل في لهفةٍ:.

-طيب هتكلمني تاني أمته؟
زفر عُمران، وهدر بانفعال:
-ما خلاص بقى يا جمال، هو أنا سايب عيل بيرضع ورايا! وبعدين عشان تكون في الصورة أنا بكره معزوم عند أشرقت، بقولك من دلوقتي عشان متستغلش ده وتهري أمي رن بكره، لو عملتها هظرف أمك بلوك فوري.
واسترسل يأمره:
-اقفل بقى وشوف مراتك وابنك، صحيح هتـ.ـو.في بوعدك ولا هتطلع بجم؟
ضحك وقال:
-وفيت وبقى عُمران جمال بهجت.
سحب نفسًا مطولًا، زفره على مهلٍ وقال:.

-ربنا يبـ.ـاركلك فيه ويطلع على قدر من الاحترام ده لو فلت من تحت ايدي يعني!
تلاشت ابتسامته، وقال بجدية تامة:
-مهما حاولت تهزر وتضحك، حاسس بو.جـ.ـعك وبعجزي معاه، أنا عاجز أخففلك و.جـ.ـع أنا السبب فيه!
وبرجاءٍ شـ.ـديد قال:
-هو إنت ممكن تنسى اللي حصل في يوم من الأيام؟
طال صمته، وازدرد انفاسه الثقيلة يخبره:
-روح راضي مراتك ورجع ابنك لحـ.ـضـ.ـنك يا جمال.

قالها وأغلق الهاتف على الفور، سالبًا قلب الاخير النازف، استدار يمنحه الهاتف واتجه لسيارته بآليةٍ تامة.
فور انتهاء المكالمه استدار يعود حيث محل اجتماع الشباب، جذب المقعد وجلس بوجهٍ يلوح به الحـ.ـز.ن كالشراعٍ، لاحظ آيوب معالمه، فتساءل باستغراب:
-مالك يا عمران؟
وتساءل بشكٍ:
-هو بشمهندس جمال كويس؟
هز رأسه وهو يرسم ابتسامة هادئة:
-كويس يا آيوب الحمدلله.

فتح يونس باب المكتب، وولج للداخل يضم إيثان أسفل يده، يردد بابتسامة واسعة:
-كابتن إيثو جاي بنفسه يصالحك يا بشمهندس.
سدد له إيثان نظرة مستشيطة، فمال يهمس له:
-البوتيك يا إيثو.
زفر وردد على مضضٍ:
-متزعلش، أنا بحب أرخم على آيوب شوية.
رفع قدmًا فوق الاخرى، ومال يستند على كفه ناطقًا بثباتٍ مستفز:
-ده وأنا بره مصر، لكن دلوقتي إنت مجبر تحترمه، وتسحب رخامتك وبرودك ده لحد معندوش اللي يعز عليه.

اتسعت ابتسامة آيوب فرحة، فوقف خلف مقعد عُمران يلف يديه ويتراقص، متعمدًا اغاظة إيثان، الذي يراقبه بآعين مشتعلة، بينما تتسع ابتسامة آدهم، فنزع هاتفه يراقب الرسالة المرسلة له باهتمامٍ، نهض يستأذن قائلًا:
-في مشوار مهم لازم اعمله، هتيجي أوصلك بطريقي يا عمران؟
أجابه عُمران وعينيه مازالت تقابل ايثان:
-هقعد مع آيوب شوية، متقلقش عارف طريق الرجوع.
ردد آيوب باصرارٍ:.

-مستحيل هسيبك تمشي، إنت هتبات معايا اليومين دول قبل ما أسافر عشان اسبوع امتحاناتي.
جذب أدهم أحد هواتفه، وقدmه لعمران قائلًا:
-ده فيه خط مصري، خليه معاك عشان أكون على تواصل معاك.
هز رأسه بخفة وتناول الهاتف يضعه بجيب جاكيته، ردد أدهم في حبور:
-عن إذنكم.
قالها وغادر، ومن خلفه آيوب الذي ركض حتى اوقفه قبل صعوده للسيارة، استدار، يقابله، فقال بانزعاجٍ:
-ماشي بدري كده ليه يا حضرة الظابط؟

اغلق أدهم باب السيارة وقال بابتسامةٍ هادئة:
-عندي مشوار مهم يا آيوب، وبعدين عايز أيه من حضرة الظابط ما الطاووس بوقاحته كلها نزلك!
صعدت قدmه على اطار السيارة، حتى جلس على مقدmتها، وقال بضحكة مرحة:
-عمران صاحبي بس إنت أبويا.
زوى حاجبيه بسخطٍ:
-أبوك! مكنوش 9 سنين فرق دول!
هدأت ضحكاته، وقال بجدية:
-والله ده اللي يحسه من نحيتك، بحس إن معزتي ليك زي يونس أو بابا كده، مش قادر أشوفك صديق.

ارتسم الألــم على ملامح وجهه، فتصنع الثبات وهو يجيبه:
-حطني في المكانة اللي تحبها، أنا جنبك وهفضل معاك على طول.
تعمق بالتطلع له، وقال بحيرة مضحكة:
-أنا خايف من اللي بحسه تجاهك، حاسس إنه هيقلب فيلم هندي وهتطلع أخويا في الآخر.
قالها وانفجر من الضحك، على عكس أدهم الذي جاهد ليحتفظ بابتسامته الصغيرة، فأراد أن يهرب من مواجهته، فقال بحزم جاهد له:
-طيب انزل من على العربية، خليني ألحق مشواري.

هبط آيوب، واتجه ادهم للسيارة سريعًا، وقبل أن يشغل محركه وجد آيوب يطل من النافذة ويخبره بمزحٍ:
-من ساعة ما نزلنا من لندن وبطلت تقولي يابن الشيخ مهران! هل ده معناه انك أخدت عليا بزيادة وهتقولي ياض ولا أعتبرك حبيت اسمي فجأة؟
اهتز جسد أدهم والحـ.ـز.ن يتمكن منه، فقال بخشونة وهو يتصنع انشغاله بتشغيل السيارة:
-أنا هتأخر كده والقائد هيجازيني بسببك.
وتابع يشير له:
-روح شوف الخواجة بدل ما يقــ,تــل صاحبكم ده.

انتبه آيوب لكلمـ.ـا.ته، وصاح بدهشة:
-أنا نسيته اصلا، أبقى كلمني لما ترجع.
قالها وركض للمحلات، قاصدًا مكتب يونس، بينما تحرك أدهم بسيارته على الفور، وكل ما يشغل عقله، ماذا سيفعل آيوب حينما يعلم الحقيقة؟ الايام تمضي ولم يتبقى عن اختبـ.ـاراته سوى القليل، كيف سيتقبل الامر؟
صعدت فريدة للأعلى، تتبع خطواته، وأعينها معصوبة، تستمع لصوته الرجولي الدافئ:
-شوية كمان هنا، براڤوو.
زفرت بنفاذ صبر، هتفت:.

-إنت واخدني على فين يا أحمد!
مرر إبهاميه على كفيها الرقيقان، وقال يحمسها:
-هانت ونوصل يا قلبي.
تتابعته على مضضٍ، حتى أحاطها بذراعيه، يهمس لها بصوته الرخيم:
-هنا بالظبط.
وقفت محلها تراقب ما سيفعله، شعرت بأنفاسه القريبة منها، فعلمت بأنه يقابلها بوقفته الآن، شـ.ـدد أحمد على كفيها وقال بسعادة ملموسة بصوته الحماسي:.

-من يوم ما افترقنا وأنا حياتي كلها وقفت، كنت بصبر نفسي إن أكيد هيجي وقت وهنسى، بقول مش كل اللي افترق عن حبيبه مـ.ـا.ت في بعده، بس أنا مت يا فريدة!
واستطرد بألــمٍ كالعلقم بفمه:
- السنين كانت بتعدي عليا، وأنا لا قادر أنسى ولا أقادر أخمد و.جـ.ـعي، استسلمت إنك هتكونلي في يوم من الأيام.
وتابع وهو يقبل كفيها:
-بس ربنا سبحانه وتعالى كافئني بيكِ بعد صبر، وكملها معايا ووهبني طفل منك إنتِ يا فريدة.

انهمرت دmـ.ـو.عها من أسفل الشاش الأسود، المحيط لعينيها، فازدردت صوتها الهامس:
-ليه بتقول كده يا أحمد؟
أزاح عنها العصبة، ومنحها ابتسامة طيبت و.جـ.ـعها الذي أيقظه داخلها، قائلًا بعشق:
-عشان اللي فات اتردm ومش هيبقى فيه غير الحلو اللي بينا وبس يا فريدة هانم.

اتسعت ابتسامتها وهي تتأمل الغرفة التي أعدها بالكامل، لاستقبال المولود، أعادها سنواتًا من عمرها، وكأنها مازالت المرآة التي تحتفل بأول طفل لها، وكأنها لم تنجب من قبل.
مررت عينيها على السرير الصغير الذي يتوسط الغرفة، والأخر الذي يعلو لصعوده درج عريض، باللون الوردي، يزاحمه الكثير من العرائس والألعاب، وعلى أحد الاطراف بيانو وردي اللون، ومكتبة صغيرة.

جذب انتباهها اللون الوردي الذي يكسو أغلب ملامحه الغرفة، فاستدارت تتساءل بمكرٍ:
-اشمعنا البينك!
ودنت إليه تسأله ببسمة رقيقة:
-إنت عايز بـ.ـنت يا أحمد باشا؟
أحاطها بيده والاخرى تضم وجهها بحب:
-شبهك، عايز بـ.ـنت شبهك يا فريدة.
واستطرد وهو يتطلع لعينيها بهيامٍ:
-نفس لون عيونك اللي مداوباني دول.
لمس خصلات شعرها، مستكملًا:
-نفس لون شعرك.
وتابع بعشقٍ صريح:
-عايزها تشاركك كل حاجة فيكِ.

انزوت بأحضانه بفرحةٍ أدmعت عينيها، ضمها إليه وهو يقبل رأسها بحبٍ، بينما تهمس له على استحياءٍ:
-أنت دواء تعبي النفسي اللي عشته طول السنين اللي فاتت.
وابتعدت تطالعه بنظراتٍ جسدت عشقه بحرفيةٍ، أزاحت دmـ.ـو.عها وهي تخبره بابتسامة:
-تعرف إني كنت هكمل علاجي عند علي، وانتظرني كتير أروحله بس مرحتش، عارف ليه؟
هز رأسه ينفي وعينيه غائرة بدmـ.ـو.ع فرحته بحديثها:.

-عشان وجودك جنبي شفاني من كل اللي أخوك عمله فيا يا أحمد، لدرجة إني بقيت قادرة أسامح وأغفر، لو أنت التمن لصبري ومعاناتي معاه فأنا والله مسامحه!
احاط رقبتها بيده، يقربها إليه بقوةٍ، بينما تتمسك هي به، كأنهما يتعاهدان الا يفترقان مجددًا، ولو تعاهد القدر سيحاربان معًا للبقاء على قيد الحياة، وما قربهما الا حياة!

عاد يحمل أكواب القهوة الساخنة بين ييديه، قدmه لها وصعد على مقدmة السيارة جوارها، حملت الكوب منه ويديها تفركان ببعضهما من فرط البرودة، فسألها باهتمامٍ:
-تحبي ندخل العربية؟
أشارت فاطمة نافية:
-لأ، أنا حابة المنظر هنا، بس الجو برد شوية.

منحها ابتسامة عاشقة، ترك علي كوبه على سقف السيارة العلوي، وهبط ينزع عنه البالطو الجلدي، الذي يرتديه، عاد يجلس جوارها ويداثرها به بحنانٍ، ضمته فاطمة حولها فقالت وهي تمنحه ابتسامة مرحى:
-مش خايف تتعب يا دكتور؟
رفع رماديته لها وقال بعاطفة أججت مشاعره إليها:
-فداكِ يا عمر الدكتور.
وتابع يشاكسها، بضحكة عالية:.

-وبعدين الدكتور اتمرمط واتسحل ورا قفل الأبواب في وشه، ما صدق إن اتفتحله باب واحد فيهم، تفتكري هيفرط فيه؟
ضحكت بقوة فور تذكرها غلقها للباب باستمرارٍ بوجهه، شاركها الضحك وقال:
-أنا بحمد ربنا إن الوقح أخويا ميعلمش بقفلة الأبواب دي، لإنه لو عرف كان زلني قدام عيلة الغرباوي كلها.
أحاطت جاكيته بحب، يتلألأ بمُقلتيها، وقالت:
-عُمران شخص لطيف جدًا على فكرة، مش زي ما إنت أو أنكل أحمد بتتكلموا عنه.

هز رأسه وبابتسامته الساحرة، أخبرها:
-مهو ليه مـ.ـيـ.ـت وش، محدش يقدر يجزم إن ده طباعه الدايمة.
وتنهد بحـ.ـز.نٍ فشل باخفاءه:
-أنا بفتقده جدًا لما بيغيب طول اليوم في الشغل، ما بالك بسفره بعيد عني!
وتابع وقد تأثرت بما يقصه:.

-اتعودت أسافر مؤتمرات كتيره، بروح كل مكان وبرجع وأنا على ثقة إنه موجود، وقايم بواجباني على أكمل وجه، لما كنا بننزل مصر كنا بننزل مع بعض، المرادي فراقه صعب، يمكن عشان أنا عارف إنه مسافر وهو موجوع.
انكمشت تعابيرها بحـ.ـز.نٍ، وقالت:
-اللي حكيتهولي مكنش سهل يا علي، بس اللي مفهمتوش إزاي خالك قدر يعمل كده؟
عصف قبضته بعصبية، واختنق صوته وهو يقول:.

-من طول عمره وهو كده، كل مرة بنستهون بحقده بتكون قرصته أصعب من الأول، بس المرادي القضيا.
ربع يديه لصدره، واستند بظهره على زجاج السيارة الأمامي، يتابع الأشجار من حوله بتمعنٍ، بينما تضم جاكيته بكل محبةٍ.
قبض عليها فوجدها تدmس أنفها بالجاكيت، كأنها تستمد جرعة أكسجين الحياة، تلقفها إليه، يضمها بحبٍ، وقال يشاكسها بهمسه المغري:
-قولتلك الأمان في حـ.ـضـ.ـني أنا، مش في ريحة البرفيوم!

كانت السيارة شاهد قوي لغرام طبيبًا وقع في حب مريـ.ـضته منذ النظرة الأولى، وكانت أيضًا تشهد على ذلك المجروح الذي قضى ساعات يغفو على الدريكسون وعينيه تتابع الشقة التي تقطن بها زوجته وابنه.
انهمر الدmع من آعين جمال، وهو يتابع ضوء الغرفة مفتوح، تتبع يوسف حتى وجده يصعد لها الآن برفقة زوجته، فصف سيارته بعيدًا عن مدخل المبنى، وراقب الشرفة بألــمٍ.

يفصله عن ابنه وزوجته بضعة خطوات، لا يقوى على قطعها، فأغلق عينيه يسترخي بجلسته بعد أن حقق انتصارًا حافلًا على من سحق شرفه وطال بظلمه صديقه.
جلس جوارهم على طاولة الطعام، كانت تضم أنواع عديدة من الأطعمة الشهية، والأفضل من كل ذلك، رؤية وجه هذا الشيخ البشوش، الذي ما أن قابله حتى غمره بالأحضان، معبرًا عن امتنانه اما فعله مع ابنه بالغربة.

تطلع عُمران للشيخ مهران باعجابٍ شـ.ـديد، ملامحه الطيبة بشوشة للغاية، كرمه وحسن ضيافته كانت بـ.ـارزة منذ لحظة استقباله، ولج إيثان للداخل بعدmا طرق الباب مرتين، فأشار له الشيخ مهران:
-تعالى يا إيثان ادخل.
جذب يونس المقعد وقربه للطاولة قائلًا:
-اقعد، الاكل برد!
جلس على المقعد جوار آيوب يحدج عُمران بنظرةٍ شرسة، بينما الاخير يبتسم له ببرودٍ، لاحظ الشيخ مهران الورم المجاور لفمه، فتساءل بدهشةٍ:.

-أيه اللي عمل فيك كده يابني؟
تطلع لمن يقابله بنظرة عنيفة، وقال من بين اصطكاك أسنانه:
-بعد عنك يا عم الشيخ البقرة اللي جابها متولي الجزار عشان يد.بـ.ـحها فكت الحبل وزقتني في الحيطة.
ضحك يونس وآيوب بشـ.ـدةٍ، بينما تابع عمران تناول طعامه بجمود تام، جعل الاخير يراقبه بغـ.ـيظٍ، قرب الشيخ أطباق الطعام إليه وأشار له:
-مبتكلش ليه يابني، أوعى يكون مش عاجبك أكلنا؟
رسم ابتسامة هادئة، وقال:.

-بالعكس والله أنا أكلت كتير جدًا، تسلم إيد ست الكل.
برق إيثان بدهشة من اسلوبه الرقيق بالتعامل، عكس شخصه الهمجي، فردد بسخطٍ:
-ابن ناس اوي!
مال آيوب يخبره بشمـ.ـا.تة:
-جدًا، وعلى فكرة مبينساش حقه.
أحاطه بنظرةٍ قـ.ـا.تلة، ويده تغمس الملعقة بالطاولة، فتنحنح عمران يخبره بهدوءٍ بريء:.

-ألف سلامة عليك يا أستاذ إيثان، بس خد بالك بعد كده وإنت بتعدي من قدام محل الجزارة، الله أعلم المرة الجاية يمكن تلاقي مثلًا طور يفرمك ويساويك بأسفلت الحارة، لازم تكون حريص!
واستدار يردد ببراءة مخادعة:
-مش كده ولا أيه يا شيخ مهران؟
ابتسم الشيخ وقال:
-كده يابني، الانسان لازم يكون حذر!

فشل يونس بكبت ضحكاته، فضحك وهو يتابع وجه إيثان الواشك على الانفجار، وخاصة بإنه ترك مقعده واتجه ليجاوره هو، كأنه ينفذ رسالة عمران المبطنة ببعده عن آيوب.
ولج فارس للداخل، حاملًا زجاجات المياه، وضعها على الطاولة، واتجه يجلس على ساق أبيه، يراقب من أمامه بنظراتٍ شملت الاعجاب، فمال إليه يهمس بصوتٍ كان مسموع لآيوب الذي يجاور أبيه:
-عمو ده مز أوي يا بابا؟
احتقنت معالم إيثان وهو يرمق غريمه، فلكز يونس بعتف:.

-شوف ابنك لاعلقه في مروحة السقف.
سيطر تلك المرة على ضحكاته وقال:
-هفهمه حاضر.
ومال يهمس لابنه:
-بس يا فارس، الضيف هيسمعك عيب!
ضحك آيوب وردد بسخرية:
-عيب ليه هو بيذم فيه، بيقولك مز!
منحه ايثان نظرة متوعدة، فمنحه قبلة بالهواء، وانتبه لفارس يسأله:
-صاحبك ده يا آيوب؟
هز رأسه مؤكدًا بغــــرور:
-آيوه صاحبي، ومن لندن كمان.
عاد يتساءل وهو يراقبه يتحدث مع الشيخ مهران على مقدmة الطاولة:
-اسمه أيه يا آيوب؟

جذب يونس ملعقة الشوربة، يضعها بفمه ليكف عن الحديث بينما نظرات ايثان تشتعل كالجمرات، وبحزمٍ قال:
-مش قولنا متتكلمش على الاكل وتبطل تقول آيوب كده تاني، إسمه عمو!
اختطفه آيوب وأجلسه على ساقيه، هادرًا بانفعالٍ لابن عمه:
-إنت مالك يا يونس، أنا اللي قايله يناديني كده، مش عايز أكبر يا أخي أنا حر!
ونهض يحمله على ذراعيه، متجهًا للمقعد المجاور لعمران، جلس جواره وأشار على الصغير ببسمته الجذابة:.

-ده فارس ابن يونس يا عُمران، وشكله كده معجب من معجبين الطاووس الوقح.
منحه نظرة تحذيريه وهو يتنحنح أمام الشيخ باحراجٍ، جعل آيوب يبتلع ريقه بخــــوفٍ منه، وتابع قائلًا ليبدد ما سبق قوله:
-ده إسمه البشمهندس عُمران سالم الغرباوي يا كابتن فارس.
منحه عُمران ابتسامة هادئة، وجذب منديلًا ورقيًا يجفف يده، ثم قدm كفه يصافح الصغير بحرارةٍ:
-أهلًا بالجميل.
صافحه الصغير بسعادةٍ، وقال بعفوية:.

-ده إنت اللي جميل اوي يا عمو، وعينك لونها حلو ما شاء الله.
وتابع رافعًا يده للشيخ مهران، يبرر:
-بقول ما شاء الله اهو عشان محسدوش يا جدو
ضحكوا جميعًا ومازالت نظرات إيثان تهاجمه، نهض عُمران يردد بحرجٍ:
-الحمد لله، أنا شبعت.
نهض الشيخ يشير على طبقه:
-فين ده يابني طبقك لسه زي ما هو؟
التهم إيثان ما بمعلقته، وهو يردد ببرودٍ:.

-هتلاقيه عامل دايت وخايف على وزنه، لكن اللي زينا مبيهموش، بتقل براحته ويحرقه على الأجهزة، باين البشمهندس راجع مرهق من السفر ومش حمل لعب الاجهزة.
تمعن بالتطلع له بنظرةٍ ثابتة، بينما شفتيه تنجبر ببسمة صغيرة، يعلم بأنه يستفذه ليخرج وحشه الوقح قبالة الشيخ، ففجأه حينما قال:.

-ربنا يهديك ويصلح حالك يا أخ إيثان، أنا خايف تفوتني صلاة المغرب جماعة في المسجد مع الشيخ مهران، ولو على الأجهزة، فصاحبك بيعشق الحديد، والاوزان التقيلة، نعوضها في يوم تاخدني وتعزمني على أكلة دسمة ونطلع على الأجهزة مع بعض.
وتابع بغمزة ساخرة، رغم جدية نبرته الواصلة للشيخ من خلفه:.

-معرفش ليه من أول ما شوفتك وأنا حاسس إني بحبك لله في الله كده يا اخي، فعلا في خلق تشوفها تحس إنها عشرة عمر، واحنا سبق واتعرفنا في محل المعلم يونس من شوية، وكلنا عيش وملح دلوقتي مع بعض، هعوز أيه أكتر من كده عشان أحبك مثلًا
واشار للشيخ وهو يتجه للخروج:
-يلا يا شيخنا عشان نلحق الصلاة.
ابتسم الشيخ وجذب سبحته واتبعه يردد:
-بينا يابني.
وأشار لابنه وابن شقيقه، قائلًا:
-خلصوا أكل وحصلونا على المسجد.

خرج عمران برفقة الشيخ مهران، وتبقى إيثان الذي مازال يتطلع لمحل عمران الفارغ بصدmة، بينما اتسعت ابتسامة يونس بالاعجاب، ومال لآيوب يخبره:
-أيه الشخص الجـ.ـا.مد ده، ده هيجيب لإيثو صدmة عصبية!
كبت ضحكاته وقال يهمس له:
-ماله وشه قلب ألوان كدليه، قوم خده الصيدلية بسرعة، باين ضغطه علي!
أشار بلا مبالاة وقال بجدية مضحكة:
-فكك منه ده بسبع أرواح، وقولي إنت اتعرفت على عُمران ده ازاي؟
واستطرد بفضول:.

-شخصيته ملفتة أوي، قولي كل حاجه عنه وبالتفاصيل!
-وبعدين يعني يا أدهم، مش هتبطل لف ودوران عليا!
قالها مراد بغـــضــــبٍ شرس، وهو يطرق الطاولة الفاصلة بينهما، بينما يحاول أدهم الحفاظ على ثباته وقال:
-أنا مش فاهم أيه اللي معصب حضرتك بالشكل ده؟ كل ده عشان بقول لحضرتك إني سمعت نصيحتك واهتمـ.ـيـ.ـت بتفاصيل الفرح، وهسافر على طول انا وزوجتي لميلانو؟

منحه نظرة جعلته يبتلع ريقه بـ.ـارتباكٍ، وخاصة حينما مال يضم كفيه على الطاولةٍ:
-واشمعنا ميلانو؟!
حافظ على ثباته، وهو يجيبه:
-زوجتي اللي مختارها، وأنا طبيعي وافقت على المكان اللي هي نفسها تزوره، ده فيه شيء يزعل حضرتك أو القادة مني!
دعس شفتيه السفلية بين أسنانه، ونهض يقترب إليه بخطواتٍ ثقيلة، زادت من ارتباكه، انحنى إليه وتطلع له مباشرة وهو يعيد بنبرة أشـ.ـد خطورة:
-هعيد لأخر مرة، اشمعنا ميلانو يا أدهم؟

تصنع عدm معرفته بما يقول، وردد بدهشة:
-هو في حاجة يا باشا؟ لو انا ممنوع من السفر عرفني؟
استند بذراعيه على ذراعي المقعد خاصته، وردد بهدوء مخيف:
-أنا اللي دربتك وعرفتك امته تستخدm ذكائك، وامته تلف وتدور، فيوم ما تحاول تخش في تحدي معايا افتكر إني أستاذك وقائدك!
اهتزت مقلتيه قبالته، بينما نصب الجوكر عوده وقال:
-أنا عارف إن في حاجه بينك وبين رحيم، واللي مطمني إن المهمة مش في ميلانو أصلا.

واتجه لمقعده، يجلس واضعًا ساقًا فوق الاخرى:
-أنا جبتك هنا النهاردة، عشان لو شمـ.ـيـ.ـت إنك اشتركت في المهمة دي من قريب أو من بعيد يبقى وصلك تحذيري المسبق للي هعمله معاك.
جف حلقه رعـ.ـبًا مما استمع إليه، فاشار مراد بزورقة عينيه للباب:
-روح كمل ترتيبات فرحك يا آآ، يا عريس!

نهض عن المقعد وغادر للخارج، يقتبس النظرات المرتبكة إليه، لا يخشاه أكثر مما يخشى أن يفعل شيئًا يضايقه، العلاقة بينهما غامضة حتى على الاسطورة، الذي حاول فهم طبيعة علاقة أخيه به، ولكنه يعلم بأن هناك مشاعر نبيلة بينهما.
وقف عمران أمام المسجد بالخارج برفقة يونس وآيوب، بعد صلاة المغرب، وما أن وجدهما يستعدان للرحيل حتى تساءل باستغراب:
-والشيخ مهران؟
ابتسم آيوب وأجابه:.

- الشيخ مهران بيدي دروس بالمسجد بعد صلاة المغرب لطلاب الأزهر يا عمران.
نزع حذائه وولج مجددًا يراقب المسجد، ابتسم عمران والحـ.ـز.ن يزحف لعينيه رغم ابتسامته، حينما رآه يجلس أرضًا، ويلتف من حوله عدد من التلاميذ، كانوا يتشاركون بصف الصلاة جواره، والآن يحيطونه بحبٍ.
خرج إليهما مجددًا، فلف آيوب ذراعه حول كتفه، وبحماسٍ سأله:
-قولي بقى عايز تروح فين وأنا معاك؟

استرخت معالمه، فمنذ اللحظة التي وطأت قدmيه حارة الشيخ مهران، وهو يشعر براحة وصفاء، ازداد بدخوله لمنزله.
وقفوا امام عمارة الشيخ مهران، فرفع عُمران بصره للأعلى، وقال:
-عايز اطلع عند البرج ده لو ينفع؟
رفعوا رؤؤسهما للأعلى، وقال يونس مبتسمًا:
-عند الحمام تقصد؟
هز رأسه بحماس، فضحك آيوب وقال:
-إنت مُصر تحتك ليه بإيثان.
عاد ببصره إليه، متسائلًا بعدm فهم:
-ماله بالبرج، مش ده بيتك؟

تمادت ضحكاته الرجولية، فرد عليه يونس:
-أيوه بس إيثان مسيطر على السطوح، وعامل فيها البرج لإن والدته بتكره الحمام، كل ما بيعمل البرج فوق عمارتهم بتطلع تهده وتطفش الحمام، لحد ما الشيخ مهران قاله يجبهم عندنا فوق.
وضع يديه بجيوب جاكيته، وقال باصرار عنيد:
-حابب أشوفه.
هم آيوب للداخل، وقال:
-يارب يكون مشي، تعالى!

صعد عُمران خلفه للاعلى، واتباعهما يونس، وصلوا للطابق الاخير من البناء المرتفع، فوقف آيوب جوار عُمران يلتقط انفاسه، بينما تسلل لهما صوت إيثان، الذي يغفو على الأريكة الخشبية المحاطة بمرتبة من القطن، واضعًا قدmًا فوق الاخرى ويصيح بانفعال:
-يعني أيه مش راضية بيا! هي نسيت نفسها ولا أيه يا ماما؟ كلمي خالتي وقوليلها تضغط عليها.
وتابع وهو يحرك قدmه بعصبيةٍ:.

-أمال كانت نازلة رفض في العرسان ليه، مانا عارف إنها كانت بتعمل كده عشان مستنياني أحن ولما اتنيلت وحنيت بتشوف نفسها عليا بـ.ـنت إيفون!
وعدل من جاكيته الرياضي، مستطردًا:
-هي تطول إني أتقدmلها ومرتين! تفوق لنفسها.
وأضاف بعدmا اعتدل بجلسته:
-لا بصي الكلام في التليفونات ده لا هيقدm ولا هيأخر، خدي بعضك واطلعي على خالتي، إديهملهم هما الاتنين وارجعي على طول.
سلام.

اغلق الهاتف وابتسامة الغــــرور تحفل على وجهه، فتسلل له صوتًا غليظًا يهتف:
-ده مش عايز بقرة تنطحه، ده عايز لودر يدوس فوقه أربع مرات!
احتدت مُقلتيه فور أن رأه يستند على دربزاين الدرج، مربعًا يديه أمام صدره، ويتابعه بنظرةٍ ساخرة، هرع إلى آيوب الذي يتطلع له بصدmة مما استمع إليه، وصاح:
-ده بيعمل أيه هنا؟
أتاه الرد من خلفهما:.

-ما خلاص يا إيثو الله، ده انا جبتلك البشمهندس لعندك عشان تخططوا للبوتيك جنب الحمام بمزاج عالي!
ضيق عينيه وهو يرمقه نظرة الحما التقيمية لزوجة ابنها، بينما يتطلع له الاخر ببرود.

تخطاه عُمران واتجه لسور السطح، وقف يتطلع للمباني القديمة بابتسامة هادئة، يعشق تلك الاجواء ولطالما رغب أن يكون جزءًا منها، جذب انتباهه الشرف الخشبية العتيقة المحيطة لأكثر من منزل، المباني من حوله بسيطة التكوين، ولكن يغمرها الكثير من الفرحة والراحة التي يستطيع لمسها داخله الآن.
هو الذي ذاع صيته، باحترافية صناعته، وفخامة منشئاته حديثة الطراز، يجد أن ما صنعه لا يضاهي شعوره بوقفه بهذا المكان.

سحب يونس إيثان للأسفل، اقنعه بالعودة لمنزله والقدوم غدًا حتى لا يشب شجارًا جديدًا بينه وبين عُمران.
وقف آيوب جواره، يطالعه بابتسامة جذابة، ختمها بسؤاله المتعجب:
-شايفك مبسوط وحالك اتبدل بعد ما طلعنا هنا؟
وضع يديه بجيوب سترته وقال:
-المكان ده كفيل يغيرني أنا شخصيًا يا آيوب.
ولف برأسه له، يخبره بامتنانٍ:
-يارتني جتلك امبـ.ـارح، كنت محتاج لاجواء زي دي تسكن النار اللي جوايا.
رمش باهدابه بعدm فهم، وقال:.

-مالك يا عُمران؟ إنت فيك شيء صح!
تنهد بو.جـ.ـعٍ لمسه الاخير، فاتجه للأريكة، جلس فوقها يتطلع لسطح المنزل بسكينة واعجاب، وما أن اتبعه آيوب حتى قال بآنينه الخافت:
-من غير ما تحاول معايا، الخلاصة في كلمـ.ـا.ت بيكونوا أبشع جملة ممكن تتحفر جوايا.
ورفع رماديته له، يخبره بانكسارٍ:
-خالي قرر يفرقني عن صاحب عمري، فعراني وحطاني مع مـ.ـر.اته في سرير واحد عشان يضمن إنه يفرقنا وللأبد!

أحاطت جسدها بيديها ودmـ.ـو.عها تنهمر دون توقف، وحينما شعرت بعلو شهقاتها، كممت خديجة فمها بيدها وتركت العنان لعبراتها تفيض عنها ما يحجرها.
طرقت سدن الغرفة وولجت، تتساءل وعينيها معلقة بالقرآن الكريم:
-خديجا، في آية مش إعرف اقرأها، ممكن ساعدني!
ورفعت عينيها إليها، لتتفاجئ بها تحاول ازاحة دmـ.ـو.عها والاعتدال بجلستها، راسمة بسمة مصطنعة، وصوتها المتحشرج يردد:
-آه طبعًا، تعالي يا حبيبتي.

مالت سدن للخارج تراقب الحاجة رقية، فما ان وجدتها تعد العشاء، ولجت بعدmا أغلقت الباب من خلفها، جلست قبالتها وقالت بلهفة:
-مالك خديجا، بتعيط ليه؟
جذبت منديلًا ورقيًا، تزيح دmـ.ـو.عها، وقالت:
-مفيش يا حبيبتي، أنا بس اوقات كده بقعد اقلب في القديم واللي يعكنن مزاجي.
رددت بالانجليزية بعدm فهم:
-أتعنين حياتك السابقة مع زوجك السابق؟
هزت رأسها ببكاءٍ، واجابتها:.

-أجل، أحمل منه ذكرياتًا سيئة، لقد كان يتفنن باهانتي، كنت أتمنى المـ.ـو.ت كل ليلة، لم يصبرني على هذا الابتلاء الا ابني فارس، حفظه الله لي.
أشفقت عليها، تعلم جيدًا كيف يكون ألــم اهانة أثنى، ازدردت صوتها، قائلة:
-هل كان يعتدي بالضـ.ـر.ب عليكِ خديجا.
ضحكت بصوتٍ مسموع، رغم هبوط دmـ.ـو.عها، وقالت:
-بل فعل الأبشع من ذلك.

زوت سدن حاجبيها بعدm فهم، فرفع خديجة جلبابها تريها ساقيها وجسدها، بترت شهقاتها بكبت كفها لفمها، تتسع حدقتيها بشكلٍ مفزع، أعادت جلبابها عليها، وبانكسار قالت:
-مش عايزة يونس يشوفني كده يا سدن، كل ما أيام عدتي بتمر كل ما بترعـ.ـب وبخاف، لو رفضت جوازي منه مرة تانية هكون بخسر فرصتي الأخيرة معاه.

ادmعت عينيها ألــمًا، واتشحت بابتسامةٍ موجوعة، ورفعت لها بلوزتها تريها مخطوطة السكين التي تحملها إلى الآن، تعجبت خديجة مما رأته، فازاحت دmـ.ـو.عها وتساءلت باستغراب:
-دي ضـ.ـر.بة سكينة! من ايه دي؟
بابتسامة لخصت معاناتها هي الآخرى، كأنثى ممزقة:
-لقد ترك لي عمي تذكارًا أبديًا، بعد أن قــ,تــل أخي.

تشاركتا الو.جـ.ـع، نفس المذاق المرير، كلاهما أنثى تم الاعتداء عليهما من أقرب أناسًا إليهما، ضمتها خديجة، تربت على ظهرها بحنان، بينما هي بحاجة من يضمها إليه.
ابتعدت سدن تزيح دmـ.ـو.عها، وبابتسامة مشرقة قالت:
-حسنًا خديجة، إن كانت رؤية جروحك تذكرك بما مضى، لماذا لا تتخلصي من ذكرياتك السيئة هذة.
زوت حاجبيها بعدm فهم:
-ماذا تقصدين؟
ردت عليها تشرح:.

-عليكِ بمعالجة جروحك، بجراحة تجملية، إن رغبتي ألا يراكِ يونس بتلك الحالة.
نصب تركيزها معها، وقالت:
-بس مش حـ.ـر.ام ده؟
ابتسمت سدن وضمت المصحف الشريف لها، مستطردة:
-لا أعلم، مازلت أجتهد للعلم عن دينينا ولكني على ثقة بإن الله عز وجل لن يحرم شيئًا هكذا بمثل حالتك تلك، كلما ازددت تعمقًا بالدين الاسلامي أجده سلسًا، الله سبحانه وتعالى رحيم بعباده.
واضافت باقتراحٍ:.

-فلننتظر الشيخ مهران ولنسأله معًا، إن وجدناه غير، محرم فلنذهب معًا لطبيبة متخصصة، ما رأيك؟
اتسعت ابتسامتها بفرحةٍ، وأخذت تشير لها بالموافقة، فابتسمت الاخيرة والدmـ.ـو.ع مازالت بأعينهما، فعادت تضمها إليها مجددًا، وتلك المرة قالت:
-ما مر من حياتك مضى ولن يعود، لقد انتهى الشطر السييء والآن حان الوقت لتكتبي حياتك بيدكِ خديجة!
بالأعلى.

وضع يونس الشعلة الصغيرة على الطاولة، ثم وضع قدح الشاي الكبير عليه، ومن جواره يجلس آيوب جوار عُمران، سكب الشاي بالأكواب التي تحمل أعواد النعناع، قدmه يونس إليه، فالتقطه مرددًا:
-تسلم يا يونس.
منحه ابتسامة صغيرة، وقدm لآيوب الاخر، ثم جلس جوارهما يتساءل:
-هنفضل قاعدين هنا كتير، صلينا العشا وقعدين بقالنا اربع ساعات، ومازلت مصر تقعد هنا!
وأضاف مقترحًا:
-ما تيجي ننزل عندي تحت.
ارتشف من كوبه، وأجابه:.

-أنا حابب القعدة هنا لحد ما أدهم يجي.
ابتسم آيوب يخبره بمكر:
-مش هيجي، أنا كلمته وقولتله انك هتبات معايا.
ووضع قدmًا فوق الاخرى، يخبره بعنجهيةٍ وهو يرتشف من كوب الشاي خاصته:
-فاكرني هتخلى عنك بالسهولة دي يا طاووس!
ارتشف عُمران من كوبه، وقال بنفس الثبات والابتسامة الصغيرة:
-وأنا مش عايز أفارقك يابن الشيخ مهران!
تنحنح يونس هادرًا:
-ما نكمل وصلة العشق الممنوع ده عندي تحت، الجو بدأ يبرد!
لف رأسه له وقال:.

-أنا حابب أفضل هنا.
اصراره كان غريبًا، لدرجة جعلت آيوب يقول:
-خلاص يا يونس انزل انت تحت عشان فارس، وأنا هفضل هنا مع عُمران.
هز رأسه في يأس، ونهض يشير له:
-طيب تعالى معايا خد فرشة نضيفة وبطاطين.
هبط معه آيوب للأسفل، فتمدد عمران محله على الأريكة، يعيد فتح هاتفه، فتفاجئ بعدد من الرسائل من زوجته، على حسابه الخاص، حرر زر الاتصال، وما أن استمع لصوتها فشم فيه غـــضــــبها، أسرع يمتصه بحيلته:.

-حبيب قلبي وروحي، وحشني صوتك أوي.
-والله! تصدق إني شوية وهصدقك، بحاول أكلمك من امبـ.ـارح وانت قافل تليفونك، أنا كنت همـ.ـو.ت من القلق عليك يا عمران!
وضع يده أسفل رأسه، وقال:
-أنا كويس يا مايا، غاوية تتعبي أعصابك وتقلقي ابني حبيبي عليا!
بغـــضــــبٍ هدرت:
-ابنك ومامته زعلانين منك، إنت مش بس هان عليك تمشي وتسبني، لا وهان عليك تنام من غير ما تكلمني يا عُمران!
ردد بحـ.ـز.نٍ مصطنع:.

-أنا معرفتش أنام من غيرك، ولا عارف اعيش أصلًا، آنتِ عارفة إن آيوب زهق معايا عشان يخليني أفك ولما فشل قالي قوم روح إنت مالكش علاج.
صعق من يقف خلفه، يحمل الأغطية، بينما يتابع هو:
-صدقيني حابب أرجعلك النهاردة قبل بكره بس للأسف مضطر أفضل عشان آيوب محتاجني أذكرله، امتحاناته بعد اسبوع، وآدهم كمان عايزني أفضل معاه عشان ترتبيات الفرح، إنت عارفة معزته عندي فبالتالي مقدرش أقوله لأ.

تنحنح آيوب لينتبه لوجوه، فاعتدل بجلسته، وقال:
-طيب يا حبيبتي هكلمك بكره، تصبحي على خير.
اغلق الهاتف وقابل تلك النظرات المندهشة، تحرر آيوب عن صمته أخيرًا قائلًا بسخريةٍ:
-دي شكلها كنبة اتصنعت للفشارين!
وتابع وهو يلقي الغطاء إليه:
-ايه يا عم الفشر ده، ده أنا بنفسي شاهد انك عايز تخلع آدهم من الجوازة النهاردة قبل بكره.
تعالت ضحكات عمران، فالتقط الاغطية وطرحها أرضًا قائلًا:.

-آيوب يا حبيبي، الست طول ما حاسة أن جوزها مجبور يبعد عنها هتنام وتعيش حياتها، لو شكت صفر في المية إنه بعيد بـ.ـارادته ومرتاح وسعيد فورًا هتلاقيها فوق دmاغه، أو على الاقل هتنكد عيشته وعيشة اللي خلفوه!
شاركه الضحك وانحنى يعدل الغطاء جواره، ثم وضع الوسادة وتمدد، فقال عمران حتى يرفع عنه الحرج:
-لو عايز تنزل تنام تحت انزل، أو حتى نام على الكنبة.
وضع ساقًا فوق الاخرى، وقال بسخرية:.

-انا لا نازل تحت ولا هنام على كنبة الفشارين دول، خليني هنا لحد ما ربنا ياخد بيدي وأعدي الامتحانات وبعدين نجرب كنبة الفشر دي.
انفجر عُمران ضاحكًا، وقال:
-زي ما تحب البيت بيتك، خد راحتك.
نزع عنه جاكيته وخلع التيشرت الخاص به، ثم تمدد جواره، جحظت أعين آيوب، وصاح بصدmة:
-انت بتعمل أيه، الجو تلج!
قال ساخرًا:
-ده برد ده! بالنسبالنا كأنك معلي التكيف شوية، نام يا آيوب أنا مبسوط كده.

طرح الغطاء عليهما وقال وهو يتثاءب:
-زي ما تحب.
وسرعان ما غفوا معًا، بينما أعلى البرج، طل إيثان من الاعلى يرمقهما بنظرة خبيثة، جذب هاتفه وشرع بالتقاط عدة صور، هاتفًا بمكرٍ:
-لما نشوف سيفو هيعمل أيه لما يلاقي في حـ.ـضـ.ـن جوزه ضرة تانية!

تعليقات