رواية اصرة العزايزة كاملة جميع الفصول

رواية اصرة العزايزة هي رواية رومانسية والرواية من تأليف نهال مصطفي في عالم مليء بالتناقضات والأسرار تتشابك مصائر شخصيات رواية اصرة العزايزة لتجد نفسها في مواجهة قرارات صعبة تُغير مجرى حياتهم إلى الأبد ان رواية اصرة العزايزة هي قصة عن الحب الذي يتحدى الزمن والمصير الذي يفرض نفسه والأرواح التي تسعى خلف الحرية والسعادة بين الأمل واليأس وبين القوة والضعف ينسج رواية اصرة العزايزة تفاصيل حياتهم في معركة غير متكافئة مع القدر لتكشف كل صفحة عن لغز جديد يقود القارئ نحو نهاية غير متوقعة

رواية اصرة العزايزة كاملة جميع الفصول

رواية اصرة العزايزة من الفصل الاول للاخير بقلم حبيبة الشاهد

أَحِنُّ إلى لَيْلَى وإنْ شَطَّتِ النَّوَى
بليلى كما حن اليراع المنشب
يقولون ليلى عـ.ـذ.بتك بحبّها
ألا حبذا ذاك الحبيب المعذّب.

قد يُفاجئك لحن قديـم فيفتح شهيتك على مذاق الحُب الذي تعمدت أن تتجاهله آمدًا طويلًا ، جر ” هارون ” عباءته الصعيديـة وهو يقترب رويدًا رويدًا من أخيـه الجالس بالأرض تحت ظل شجرة البرتقـال ممسكًا عودهُ ويعزف عليـه قصائد ” قيس بن الملوح ” التي يحبها كثيرًا .. خطوات متمهلة على لحن الكلمـات ودقات العود المتناسقة وصلت أقدام أخيه لعنده وبدون إحداث صوت يقاطعه جلس منسجمًا متخذًا من جذع الشجرة مسندًا لظهره ..

كرر ” هيثم ” لحن الأبيات بطرق مختلفة بتركيز شـ.ـديد حتى توصل للحن الذي هتف فيه هارون معلنًا إعجابه :

-الله !!!!

ترك العود أرضًا ودار نحـو أخيه متحمسًا وهو يعقد قدmيه :
-عجبك ، صوح ؟! شايف في تطور زين !!

ثنى هارون قدmه اليسـرى وسند علي ركبته كفه الممسك بالسواك ؛ وقال ذائبًا بسحر الغنـاء :
-إلا عجبني !! ماهو الصباح ما يبقاش صباح من غير عزفك الحلو ديه ..

ضحكة طفيفة اندلعت من شـ.ـدقه :
-طيب قول لي حابب اسمعك أيه ، بس يكون في معلومك خدmة قصاد خدmـة .

رفع هارون حاجبـه من جراءة أخيه وتجاوزه في الحديث معه :
-هي حصلت ؟! عـتساومني يا واد أنت ؟!

-أقلع عبايـة خليفة العزايزي دي ، وركز مع أخوك الصغير ، أنا بردك ماليش كبير غيرك بعد أبوي .

عقد حاجبيه الكثيفين ببعضهمـا :
-مطلع القصيدة كُفر !!مالها عاد عبايـة أبوك يا واد أنتَ ؟! هتخترف من أولها ؟!

-فوق رأسي ، ورأس النجع كله يا كبيرنا .. بس اسمعني اللول .

رد بجفاء مفتعل :
-هااه ، سمعني عايز تقول أيه .. ؟!

-عايز أخطب بت عمي وهدان يا هارون ، البت قالتها في وشي إكده لو مجبتش ناسي الجِمعة الجاية هتتخطب لوِلد غريب .

ثم اندفع نحو أخيـه :
-أنا عحبها قوي يا هارون ، أعمل حاجة عشان خاطر أخوك ، حتى نربطوا كلام مع ناسها والجواز على مهله ياسيدي .. أي قولك ؟!

ألتوى ثغره باستهزاء :
-ما تنشف وتصلب طولك ، مالك ؟!! هي الخسرانة مش أنت ، وبعدين ما عاش ولا كان الـ يلوي دراع وِلد خلفية العزايزي .

رد متيمًا :
-لاه هو عاش وكان وادهولت ، أخوك حب وطب يا أخوي .. والحب والكيف ذلتهم واعرة .. مايعرفوش لا كبير ولا طبيب يداويه …

-مش عاجبني حالك يا وِلد أمي وأبوي بس .
ثم رفع عينيه ولم تفارق البسمـة ثغره ولكنه أتبع قائلًا :
-خد رضـا صفيّة اللول وأنا اروح معاك من عشية .

انكمش وجهه بثنايا اليأس :
-ودي أعملها كيف ؟! دي حالفة ما في قرع طبل يرن بالدوار غير لما تفرح بولدها البكري ، الـ هو جنابك .. ما تتجوز وتفك نحسنا يا هارون وسيبك من مشاكل العزايزة الـ تقصف العُمر دي .

هز رأسـه بشموخ ثم أتبع بمزاح :
– أديك حافظها زين ، ومتنساش بعد مني هاشـم أخوك ، يعني لسه قدامك كتير .. عمومًا اتفق مع البت الـ عتحبها تحجزلك بتها لو ملكش نصيب فيها ؟!

-بتها يا هارون ؟!!

-يبقى طولت من الحب جانب يا مغفل، وهي أيه وبتها أيه ؟!

اكفهر وجه هيثم المغرم بـ رحاب وأخذ يلملم آلته الموسيقية :
-تصدق أنا غلطان إني عتكلم معاك ، ااه وأنت هتعرف الحب والمشاعر منين عشان تحس بي كفاية عليك غُلب ناسك .. مش عاوز منك حاجة يا هارون .. يا كبيرنـا … متشكر قوي .. خليك فاكرها .

أسبل عينيه ساخرًا :
-خُد أهنـه ، واخد في وشك ورايح على فين يا عم الحبيب أنتَ .

لوح بيده بدون اهتمام :
-قفل على الحديت دِلوق يا هارون .

على مساحة الثلاثون فدان بقلب الجبل يلف سور قصر خليفة العزايزي الفخم الذي يضم بداخله مساحة شاسعة من المباني المتعددة المتناسقة بجوار بعضها التي يسكنها أفراد العائلة المترابطة ، ومزرعة ضخمة للخيـول ، وحديقة واسعة تحتوي على مشاتل من الورود والبساتين المتنوعة ، يطوقها عدد هائل من الأشجار والنخيل التي تضلل عليـهم ..

طارت الفراشات من جواره فتبسـم ضاحكًا بسخرية :
-ماهو الـ بيغني لكم هج ، هـ تقعدوا معاي أنا ليه ؟!!

~المبنى الداخلي~

صوت رنين الجرس المزعج الذي لم يخلٌ منه القصـر ، ركضت ” فردوس ” لتفتح الباب مع علمها بهوية الطارق الذي استقبلته بنفس ثقيل :

-يسعد صباحك يا ست نغم .

طبعت نغم قُبلة سريعة على وجنتها وقالت بفرحة :
-وصباحك يا فردوس يا سكر أنتِ ..

ثم طافت أنظارها بساحة المبنى بسرعة بأعين متلصصة :
-خالتي صحيت ؟!

ردت فردوس على مضضٍ :
-طبعًا صحيت وهو في حد يصحى قبلهـا في البيت ديه ..

بخفة الفراشـة لملمت نغم طرف فستانها المشجر وهو تتمم على حجابها ، ولكنها توقفت متسائلة :
-وهارون .. ؟!

-ماله سي هارون يا ست نغم ؟!

تأملتها مليًا :
-جرالك أيه يا فردوس ؟! هتـردي عليّ السؤال بسؤال ؟! أقصد صحى هو كمان ؟!

-صاحي وقاعد في الجنينة الورانيـة .

قُبلة أخرى كانت من نصيب وجنتها الأخرى وقالت بشغف المراهقة المنسوجة من حبها الكبير لهارون ابن خالتها :

-هروح احضر له فطور ، أدعي لي يا فردوس ، هحليلك خشمك ده لو المراد بتاعي تم .

ضـ.ـر.بت فردوس كف على الأخر :
-البـ.ـنتة بقيت هي الـ تجري ورا الرجـ.ـا.لة الزمن ده ؟! ألطف بينـا يا رب .

شرعت أن تقفل الباب ولكن باغتتها زينـة وهي تتدفعه بلهفة :
-استنى استنى يا فردوس ..

ثم وقفت أمامها معاتبة وهى تنزع وشاح رأسها :
-أنتِ مش شايفاني جاية رمح على نفس واحد .

امتقع وجهها وردت بحسرة :
-العتب على النظر يا ست زينة !

داعبت وجنتها بخفة كمن يمزاح طفل صغيـر وهي تمد أنظارها للداخل :
-بكرة أخدك ونشوفوا مقاسات النضارة .. الا قوليلي يا دوسه يا قمر أنتِ ، عمتي صفية فينها ؟!

-في المخزن بتشوف المحاصيل هتقضي ولا لا لغاية المحاصيل الجديدة مـ.ـا.تخش علينا .

أصدرت زينـة صوت إيماءة خفيفة بحذر وهي توشوش لها:
-طب وهارون .. فين أراضيه ؟!

-قاعد في الجنينة جار سي هيثم .

أخرجت زينـة من جيب فستانها ورقـة مطوية داخل قطعة قماش بيضاء ودسته في يدها :
-أقولك أيه يا فردوس ، عايزاكي تحطي ده تحت مخدة هارون .. أياكي حد يوعالك ..

-ده أيه ده يا ست زينة ؟!

رمقته بأعين محذرة :
-وطي صوتك يا فردوس هتفضحينا .

بصوت منخفض :
-أيوة معرفتش إيه ده بردك ؟!

ارتبكت زينة قليلًا :
-أممممم دهوت حجاب عشان يحفظ هارون من كل شـر .. هتطلعي تحطيه ولا أطلع أنا .

أجابت فردوس باستسلام :
-لا هحطه متتعبيش روحك..

-أحبك يا دوسه وأنتِ مطيعة ، هروح افطر وياه هارون قبل الوكل ما يلسلس .

ما كادت أن تخطو خطوتين ثم تراجعت لتؤكد عليها :
-فردوس ، أوعاكي تنسي .. هاه ؟!

-طوالي يا ست زينة .. متعتليش هم .

بخطوات أرنب مُقبل على الحياة تمايلت على طراطيف أصابعها نحو الحديقة التي يجلس بها هارون حاملة حقيبة الطعام بيدها وهي تدندن:
” طايـر يا هوا طايـر على المينـا .. رايح يا هوا تخبر أهالينـا .. قصة الهوى وتفتن علينـا !! أمرك يا هوىٰ و ”
حتى ارتطمت بكتف هيثم الذي يتشاجر مع طوب الأرض ، فهب صارخًا :
-مش تفتحي يا زينة ؟!!!قطر معدي ؟!

-أباي عليك يا هيثم !! وأنا كُنت ضـ.ـر.بتك بطلقة ؟! مالك على الصبح !قول يسعد صباحك يا زينة !

لوح بيده متجاهلًا اسئلتها :
-مفيش .. وحلي عن راسي الساعة دي .

مطت شفتها بتعجب :
-ماله ديه ؟!

ثم نفضت غبـ.ـار حيرتها وأتبعت سيرها :
-وأنا مالي ..
ثم أتبعت مدندنة:
-جينا يا هوا للبحر جينا .

وصلت زينة إلى الشجرة التي يجلس هارون تحتها فأقبلت عليـه بسعادة مترنمة :
-يا صباح الهنـا على كبيرنا وكبير نجع العزايزي كله من شرقه لغربه وضواحيه .. يسعد صباحك يا سيـد الناس .

-كيفك يا زينـة ؟!
أردف سؤاله بهدوء خالٍ من أي ضيق أو شغف في حوارها ، فـ جلست مقابله :
-أنا زينة وهفضل زينة طول ما حسك في الدنيـا ياسيد الناس ..

ثم أخذت تفتش وتفتح بالحقيبة البلاستيكية وتخرج منه عُلب الطعام :
-تعرف أن عيني مشافتش النوم طول الليل ..

-ده ليه ؟! عيانة أياك نشوف لك داكتور ؟!

داهمهـا الحُب وهي تبرر سبب يقظتها طوال الليل :
-بعد الشر عليـا ، عياي واحد وطبيبه واحد ما ينفعش بعيديه الطب كله .. بس هو يقول آه .

رصت الأطباق أمامه وهي جالسه على رُكبتيها وأكملت :
-سهرانة أعملك بيدي الفطير الـ عتحبـه ، مع هبابة العسـل هينسوك وكل صفيـة .

تربع هارون ليستقبـل إفطارها بفرحة عارمـة ويعبر عنها :
-وه وه .. جيتي في وقتك يا زينة ، ده الفطير لسه بناره .

-مطرح ما يسري يمري يا وِلد عمتي .

ما شرع أن يتذوق الطعام ويتلذذ من مذاق العسل الطبيعي أتت نغم على عجل وهي تحمل فوق رأسهـا المائدة المعدنيـة وتقول بضجرٍ :

-أنتِ أيه جابك الساعة دي يا زينة !!

شنت الحرب النسائية بينهن ، فردت عليها وهي تضع الخبز الساخن بيده :
-جرب دي كمان يا هارون من يدي ..

ثم عادت لنغم :
-عازمة ولد عمتي على الفطور ، فيها حاجة دي ؟!

وضعت نغم المائدة على الأرض ثم شـ.ـدت الخبز من يد هارون بعنفٍ :
-والله ما هيفطر غير من وكلي يا زينة .

ثم ولت ناحيـة هارون وأخذت تبعد عنه الطعام الخاص بزينة :
-سيبك من الوكل الـ ينشف المعدة ده ، واشرب كوباية اللبن دي تِرُم عضمك .

تدخلت زينة بغـــضــــب :
-جرالك أيه يا نغم !! مش هتبطلي حركات العيال دي .. ما تسيبيه يختار على كيفه .

ردت الأخرى بتحدٍ :
-مش هياكل غير وكلي يا زينة ، ما تقول حاجة يا هارون .

مازال محافظًا على هدوئه يراقب تلك الحروب الدائرة حوله ، شـ.ـدت زينة كوب الحليب من يد نغم بإصرار :
-متسديش نفسه على الـوكل وسيبيه يملى بطنه عيش اللول .

شـ.ـدت نغم كوب الحليب منها :
-مالكيش فيه ، لازم يشق ريقه على كوباية اللبن الصبح ، مش فطير وعسل .

تأفف باختناق وهو يتمتم لنفسه :
-ياصبر الصبر على الصُبح !

تدخلت زينة وغمست اللقمة بالعسل وقربتها من فم هارون :
-سيبك منها ومن تقاليعها يا هارون وخد كُل من يدي والله ما أنت مرجعها .

انفجرت نغم بغـــضــــب يتطاير وهي تخـ.ـطـ.ـف اللقمة من يدها :
-قولتلك يشق ريقه باللبن اللول أنت ما عتفهميش .

طاحت يدي هارون بوجههن وهو يسب جنونهن :
-ولا وكلك ولا وكلها ، ومش طافح في أم اصطباحتكم المقندلة دي .

كادت زينة أن تدخل لتعارضه فقطعها بحزمٍ وهو يفارق مجلسهن :
-ولا كلمة قُلت …

لملم عباءته وترك لهن ساحة الحـرب الطاحنـة عليـه ، وصراع كل واحدة منهن أن تصل لقلب هارون العزايزي كبير عائلة العزايزي نيابة عن أبيه ، صاحب الرابعة والثلاثون عامًا تجمعت به هيبة وشجاعة الرجـ.ـال لذا أصبح جديرًا بأن من يتولى حكم قبيلته بعد أبيه الذي أصابه الهرم ، فتنازل لابنه كي يطمئن على حكم العائلة في حياته .. زفرت زينة بامتعاض :
-استريحتي ؟! أهو مشي وهو على لحم بطنه ..

أردفت نغـم قائلة بحنق :
-ما بلاش كهن الحريم ده يا زينـة ، هارون مش هيجي بالحركات دي !

زينـة بسخرية :
-أومال هيجي بأيه يا ست العارفين يابتاعت المدارس ؟!!

ردت نغم متدللة وهي تفارقها :
-القلب وما يريد عاد ، مش بالحنجل والمنجل .. والسبع ورقات بتوعك .

تنهدت زينة ببغضاء :
-طيب يا نغم يا بت ونيسة أمـا وريتك !

~ أمام البوابة الخلفية ~

-خُد خُد إهنـه ، مالك طايح وواخد في وشك من غير حتى ما تصبح على صفيـة .

اكفهر وجهه واعتلاه الضيق :
-مفيش يا صفيـة ..

ربتت على صدر بحنو :
-على أمك بردك ؟! دول عينيك بيطق منيهم الشـرار .

انفجر بوجه أمه معبرًا عن غـــضــــبه :
-فهمي بنات أخواتك إني مش بتاع جواز دلوق خليهم يفكوا مني لوجه الله ، مش ناقص خوتة وو.جـ.ـع راس أنا يا أما .

ضحكت بملامح عجوز على أعتاب الستين :
-هدي روحك يا حبيبي ، وقول لي قلبك مايل لمين أكتر ، نغم ولا زينـة .. ولا أقول لك ؛ الاتنين غلابة ، أنا أجوزك الاتنين في ليلة واحدة ، أيه قولك ؟

استولى على صوته الأسى والهزء :
-ياصبـر الصبر ؟! أنا هارون العزايزي يا أما مش هارون الرشيدي .. فوقي الله يراضيكي مش ناقصين خوتة ..

انكمشت ملامحها بامتعاض :
-يعني أيه هتقضي العمر إكده بطولك من غير لا عيل ولا تيل ؟! ده أبوك وهو في سنك كان معاه أربع رجـ.ـا.لة يسدوا عين الشمس .

جز على شفته السفلية :
-صفيـة ، حلي عن راسي الساعة دي ، مش أنتِ وبنات أخواتك عليّ .

وقفت أمامه كالجبل الذي لا تحركه ريح غـــضــــبه :
-أوعاك تكون باصص على واحدة من براة القبيلة ؟! أنت عارف زين عرف العزايزة ؛ مستحيل يدخلوا دm غريب بيناتهم .. أوعاك يا روهان ياولدي .

بكـبـــــريـاء الطاووس هب بوجه أمه معارضًا :
-لا بره ولا جوه ولا يشغلني صنف الحـ.ـر.ام ده واصل ، وسعي عاد خليني أروح أشوف مصالحي .

-ماشي يا هارون بس يكون في معلومك أنا صبرت بما فيه الكفاية ، وصبري له آخر ..

ربت على كتف أمه برفق :
-خشي عشان متستهويش يا أما ..

ثم انصرف وهو يسب بنات حواء جميعهن :
-والله العاقل يخوتوه ..

-روح ياولدي ربنا يفتح نفسك على صنف الحريم قادر يا كريـم .. دعوة وليـة في ساعة صُبحية .. أقبلها مني يارب ..

••••••••
” مرسى علـم “

صف هاشم سيارته المرسيدس أمام المنزل السكنى المكون من ثلاثة طوابق يسورها حديقة غاية في البساطة والجمال ، تناول ” كابه العسكري ” ووضعه تحت إبطه وهبط من سيارتـه متجهًا نحو بوابة منزله الأنبق .. ما أن اخترق مفتاح كالون الباب الخشبي الكبير سبقته ” رغد ” زوجته وهي تفتح الباب ويسطع اللؤلؤ من عينيها وهي تردد اسمه وترتمي بين ذراعيه :

-هاشم، أخيرًا جيت .

هاج قلبها ببلابل الشوق وهي معلقة بين يديه بأقدام محلقه في سماء الحُب :
-أسبوعين بحالهم يا هاشم .. ؟!

طوق زوجتـه السرية عن أهله بلهفـة مُحب وهو يطبع وسام اشتياقه على جدار عنقها :
-أنتِ عارفـة أن ما يبعدنيش عنك غير الشـ.ـديد القوي .

فارقت حـ.ـضـ.ـنه بأعجوبـة وهي تسحبـه للداخل بحماس الطفولة :
-تعالى تعالى ، مامي جوه سلم عليها .

قال في شيء من التهكم هامسًا :
-هي مطولة !

لكزته بحرج تابعته نظرة تحذيرية :
-بس بقا لتسمعك وتزعل .

رمى ” الكاب ” على الطاولة ذات السطح الرُخامي واتبع بهمس يشعله الشوق :
-أنا أجازة ٤٨ ساعة مش عايز أضيع منهم دقيقة واحدة ..

ضغطت على كفه وهي تقترب من أمها وبثغـر ضاحك :
-مامي ، هاشم جيـه .. قوليلو بقا أنا كُنت لسه بعيط لك وأقولك واحشني أد أيـه .

وثبت سامية لتُصافحـه ثم تعانقـه بقلب أم :
-نورت بيتك يا حبيبي ، شيـل بقا شوية من نكد ست رغد ..

ألتف ذراعه حول خصرها وشـ.ـدها إليـه :
-مش أنا قايل لك عندي مأموريـة المكان الـ رايحهُ مفيهوش شبكة .

نظرت إليه نظرة تملأها نار الحب التي تلتهم غابة وهي تمرر ظهر كفها على وجهه بهيام :
-أعمل أيه في قلبي طيب .. !!

تدخلت أمها بلطفٍ :
-أنا كده اطمنت عليها ، اسيبكم بقـا وأروح بيتي وأشوف زرعي اللي دبل بسبب الست رغد .

تدخلت رغد باعتراض :
-مامي استني اتغدي معانا ..

ضغط هاشم على كفها كي تصمت فلاحظت أمها فعلته فاستقبلتها برحب وابتسامة هادئة ، بادلتها ابـ.ـنتها ابتسامة رقيقة لكـ.ـسر ما سببه إليها من إحراج :
-سيبيني بقا أرجع بيتي وحشني .. هغيـر هدومي وامشي .

أخذ يترقب خطوات حمـ.ـا.ته المتهملة حتى لمست أقدامها أعتاب الدرج ، فأنقض هاشم على فريستـه التى تراجعت للوراء بفزعٍ ورفض قاطع لتصرفه الذي ينتويه في تلك الأثناء طاحت يدها بالفازة الزجاجيـة لترتطم بالأرض فيتهشم فتاتها هنا وهناك ، توقفت نادية بقلق بمنتصف السُلم متسائلة :

-في حاجة يا ولاد ؟!

رد هاشم على الفور وهو يحمل رغد ليحمي أقدامها الحافيـة من فتات الزجاج المنتشر وبلهجته القهراوية التي لا تتبدل إلا معهما :
-لا يا طنت ، دي رغد عندها فرط حركة بس زي ما أنتِ عارفه .

عاتبته رغد هامسـة :
-عاجبك كده ؟!

توغل في أحشاء عينيها :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  الله .. !!

ثم حملها برفق وأجلسها على الطاولة مبتعدًا عن دائرة انتشار الزجاج وقال بتنهيدة تشبه شهقة الغريق متغزلًا بجمال المرأة ذات الشعر الغجري التى وقع بشباك عينيها منذ عامين وقبلت أن تكون زوجته بدون علم أهله رغم علم أهلها وأصدقائها وإقامتهم لحفل زفاف عائلي بمرسى علم ، العشق كالضبابة السوداء إن حلت بقلب إمراة عمتها عن جميع حقوقها :
-وبعدين فيكي ؟

-الله ؟! وأنا عملت أيه ؟!

ارتدى ثوب الصعيدي المُتيم وهو يجيب :
-كفاياكي حلاوة عاد ..

رن صوت ضحكتها بأرجاء ” ڤيلاتهم ” الصغيرة وقالت :
-بخاف منك لما تقلب صعيدي فجأة كده .

رفع حاجبـه مستنكرًا فأنقذت نفسها موضحة :
-بس بعشقك في كل حالاتك …..

•••••••••

~ الاسكندرية ~

في غُرفـة المرأة الأكثر اختلافًا ، إمراة لا تشبه إلا نفسها غير عاديّة.. لا يقارن جمالها إلا بـ الأشياء الأكثر رقّة وصلابة .. يقويها الجـ.ـر.ح لا يضعفها و يزهر فيها بدلًا من أن يذبلها وتحوّل أحزانها إلى درجات سُلم تدوس عليها كي تعلو أكثر وأكثر .

ضمت الإطار الذي يحمل صورة والدها ، سيادة اللواء “سامح الجوهري” الذي أصابته المنيّة قبل أربع سنوات ، اطالت النظر بالصورة بملامح يخالطها العجز والشوق :

-يعني مش لو كُنت موجود دلوقتي كنت وفرت علـيا التعب ده كله ، مفيش حاجة كـ.ـسرتني أد غيابك يا حبيبي .. لو كان بس ينفع أديك من عُمري ، عمري كله بس تبقى موجود ، أو نفارق الحياة دي سوا .. محدش فينـا يسبق التاني .. وحـ.ـشـ.ـتني يا بابا .

قطعت لحظات شكواها صوت المساعدة الخاصة بمنزلهم وهي تقول :

-أنسة ” ليـلة ” .. شريف بيه على التليفون .

تناولت الهاتف من يدها وهزت ورأسها على مضض وقالت :
-أقفلي الباب وراكي يا دادة لو سَمحتِ ..

ثم قعدت بمللٍ على طرف السرير وهي ترد على الهاتف المنزلي :
-شريف .. أنتَ بتكلمني هنا ليه ؟!

أجابها الرائد شريف أبو العلا ، معاون مباحث المركز الذي ينتمي له قبيلة العزايزي .. ويكون خطيبًا لـ ليلة منذ عامين ماضيين .. زفر شريف بضيق:
-شوفي موبايلك وأنتِ هت عـ.ـر.في ..

ألقت نظرة سريعة على شاشة هاتفها وهي تضغط على شفاهها بإحراج وبلهجة اسكندرانية عبرت عن خجلها متمتمة ” أحيـه** ؟! ” ، ثم قالت لتلطف الأجواء بينهم :

-سوري سوري ، بجد آخر مرة هنسى فيها الموبايل سايلنت ، بجد سوري .

تامر تحت ضغط الانزعاج :
-مش كل مرة يا لي لي .. أنا بجد تعبت معاكِ وزهقت .

-خلاص بقا يا سيادة الرائد قلت آخر مرة ..مش هتتكـرر تاني .

زفر بحنق :
-ماهي كل مرة بتبقى آخر مرة وبردو .

ابتسمت بلطف لتنهي الشِجار القائم بينهم :
-خلاص بقا قلت سوري .. متقفشش وتعكر اليوم .

جلس ” شريف ” على مقعد مكتبـه مغلوبًا على أمره :
-جهزتي حاجاتك ؟!

-اه يا حبيبي .. هسلم على مامي وهنزل على طول .

هز رأسه متعجبًا بجبين منكمش :
-هتنزلي فين مش الطيارة بالليل ؟! لسه بدري ..

شعرت بالتـ.ـو.تر إثر انكشاف كذبتها أمامه ، فبررت موضحة :
-أحيـــه !! قصدي هنزل أروح القنـاة اسلم التقاريـر الـ معايا وهروح اقعد مع جوري والبنات لحد ميعاد الطيارة.

تعجل في إنهاء المكالمة الهاتفية إثر دخول العسكري ، فقال بتسرع :
-تمام يا لي لي ، هكلمك كمان شوية ، باي باي دلوقتِ عندي شغل .

ألتوى ثغرها بمللٍ :
-باي باي .

ثم قفلت الهاتف لتتنفس الصعداء وتطرد غبـ.ـار مخاوفها من كشف أمرها ، أخذت تسب نفسها علنًا :

-غـ.ـبـ.ـية غـ.ـبـ.ـية ، كام مرة أقول لك هتخبي حاجة كوني أدها .. لسانك الفالت ده وبعدين فيه !!

ثم نظرت في ساعة يدها بحماس وهي تلملم حقيبتها وشاحن هاتفها :
-كده يا دوب ألحق ..

” ليلة سامح الجوهري ” تلك جميلة الروح قبل الملامح صاحبـة الثامنة والعشرين عامًا من العمـر بقلب لم يبلغ الثماني سنوات وعقل بلغ الستون من النضج ببعض الأوقات .. ‏اتدرك المعاناة التي يجتمع فيها براءة القلب مع نضج العقل ؟! ..
شعور يجبرك أن تعيش في صراع دائم حائرًا بين طفل في صدرك وعجوز في راسك ،كِلاهما لا يتقبـل أفعال الآخر …
فتاة متعددة المواهب تعشق المغامر والغناء والعزف ، تفضل قيادة السيارات لم يفارقها سباق إلا وشاركت فيه ..

خريجة إعلام حلمها الـوحيد أن تبقى إعلاميـة مشهورة ولديها برنامجها الخاص الذي تتحدث فيه عن كل الحقائق الكامنة والمكتوب عليها بالخط العريض ممنوع الاقتراب دون قيود أو خــــوف ، مؤمنة بأن الأعلام هو المنارة الأولى لتنويـر العقـول ونصرة الحقوق .. جاءتها الفرصة العظيمـة لتحقق حلمهـا ولم تتردد للحظة في السير إليه بكل شغف وإصرار مهما كانت النتيجة؟!!

يقال أن للسُبل نتائج آخرى غير تلك التي نقطعها لأجلها ؛ فيا ترى ما تلك النتائج التي ستواجه ” ليلة ” أثناء بحثها عن ذاتها عن حلمهـا ؟! والأكثر إيلامًا هي ستصل أم سيكون مصيرها كمصيـر كل من سعى وكان الخذلان نهايته ؟!

انتهت من وداع أمها السيدة نادية أبو العلا من أمهر وأشهر طبيبات مصـر في معالجة الأمراض النفسية والعقلية.. هبطت ” ليلة ” من منزلها لتتوجه إلى سيارتها المركونة أمام البنية ذات الطراز الحديث ، وضعت النظارة الشمسية على عينيها وهي تحمل شالها الصوف خــــوفًا من انقلاب الطقس الخريفي فجأة ثم أخذت المفتاح من السائق وهو يؤكد عليها :
-يا استاذة ليلة متأكدة إنك هتنزلي نجع حمادي لوحدك بالعربية ؟!

ردت باستهزاء للموضوع :
-وفيها أيه يا عمو !!، أنا متعودة أسافر أماكن أبعد من كده كمان لوحدي بالعربية .

تابع خُطاها مقترحًا :
-طيب تحبي أجي معاكي عشان لو تعبتي لقدر الله .. بصراحة قلبي مش مطاوعني اسيبك لوحدك يا بـ.ـنتي أنتِ أمانة سامح بيه الله يرحمه .

مازحته قائلة :
-أنت عارف إن مـ.ـيـ.ـتخفش عليـا بالذات من السواقة .. يلا بقا يا عم حسن كلها كام يوم وهتلاقيني رجعت أدوشك من تاني .. أدعيلي بس الموضوع يظبط …

-منصورة إن شاء الله يا بـ.ـنتي .
قال جملته وهو يفتح لها باب سيارتها ” بيجـو 3008 ” حمراء اللون .. صعدت ليلة والحماس يتطاير من صوتها كما تتطاير خصلات شعرها البنية في الهواء :
-أشوفك على خير يا عم حسن ..

باستسلام :
-ربنا يسلم طريقك يا بـ.ـنتي ويوقف لك ولاد الحلال …

••••••

~ عودة لقصـر العزازي ~

-يا خبـر !! ودي تيجي يا عمـتي ، تُقفي تطبخي وأنـا موجودة ، ده أنا عليـا شهقة ملوخية مفيش بعديها .

قالت زينـة جُملتها وهي تتناول المغرفـة من يد ” صفيـة ” وتتأهب لإعداد الوجبة بدلاً منها كي تنال رضاها .. سحبت صفيـة المقعد وجلست فوقـه بتعب وهي تتأوه :
-شالله تعيشي يا زينة يا بتي ..

ثم نادت على فردوس التي لبت النداء على الفور :
-استعجلي خضر يا فردوس عشان ياخد الغدا للعمال في المحجـر تلاقيهم وقعوا من الجوع ..

ما كادت أن تتحرك ولكنها أوقفتها قائلة :
-وروحي المطبخ الكبير قولي للبنات يشهلوا ويبطلوا مياعة وهيء وميء ، الضهر جيه وهما لسـه مخلصوش الوكل للناس .

فردوس بطاعة :
-حالًا يا ست صفيـة ..

جاءت نغـم في تلك اللحظة مهللة :
-أنا فضلت واقفة فوق راس البنات لحد ما خلصوا كل الوكل يا خالة ..

ثم طبعت قُبلة على كتف خالتها وهي تحملق النظر بزينة :
-شوفتي محدش حاسس بيكي غير نغم .

ربتت صفية على كفهـا بحب :
-ربنا يبـ.ـاركلي فيكي يابتي ..

ثم همست لها :
-أوعى تفكري الأم هي الـ ولدت ، لا دي اللي ربت يا عبـ.ـيـ.ـطة ، الله يرحمها أمك سابتك حتة لحمة حمرة وأنا اللي ربيتك وكبرتك ودخلتك كليـة التجارة زي ما أمك كانت عايزة بتها تحون متعلمة ومتنورة .

دب الغـ.ـيظ بقلب زينة التي تركت الطعام وانضمت لحديثها قائلة :
-يعني أيه الحديت ده يا عمتي !! وأنا يعني مش بتك ولا نابني من الحُب جانب .

ألتوى ثغر نغم بضيق:
-واحدة وخالتها ، حاشرة نفسك ليـه بيناتهم يا زينة ؟! ياباي منك .

لكزتها زينة بغيرة نسائية وجلست تحت يدي عمتها :
-عاجبك حديتها الماسخ ده يا عمة ؟!

ضحكت صفيـة من جنانهن :
-أنتوا على طول ناقر ونقير إكده ؟! مولدين فوق روس بعض ؟!!

حملقت نغم باستنكار :
-أنا نقري من نقر دي ؟!! محصلش ، الا لو هي الـ عينها مني .. عشان أنا الأحلى .

زينة بامتعاض :
-ما تحاسبي على كلامك يا ست نغم ، أنتِ ناسية أنا مين وأبويا منين ؟! ولو على الحلاوة النجع كله بيتحاكي بجمال بت صالح العزايزي .

وضعت نغم يديها بخصرها وهي تزيح شعرها الأسود جهة كتها الأيمن :
-وقالولك أنا الـلي جاية من الشارع أياك يا زينة ؟!! .

رمقتها زينـة باستهزاء ثم سحبت المقعد الخشبي والتصقت بعمتها :
-يعني يا صفية لو قالولك اختاري واحدة بس تكون مراة هارون ولدك ، هتختاري مين ؟!

جرت نغم مقعدها والتصقت بخالتها من الجهة الأخرى بمزاح :
-آكيد أنا ، متعلمة كيف هارون وراسي توزن بلد وأنسب واحدة لِيه .

صرخت صفيـة بوجههن :
-انا عن نفسي قولتله اجوزك الاتنين عشان اخلص منكم ومنه ومن خوتتكم دي .. أنا كبرت ومعتش حِمل المناهدة دي !

هب الاثنتان بنفس واحد وبأعين متحمسة :
-هاه وايه قوله ؟!

تفوهت بملل بعد ما فاض صبرها من ابنها وبنات أخواتها :
-لعن الجواز على اللي عايز يتجوز ، وبصراحة عنده حق ، أنتوا الجوز تجيبوا الفقر .. قومي يا بت منك ليها شوفي لك مُصلحة … بدل ما سادين نفس الولد عن الجواز إكده .

امتنعت نغم بشـ.ـدة :

-أنا ابقى ضرة دي ؟!

هزت زينة رأسها بكيد انثوي :
-ومالها دي يا عينيا !! ناقصة أيد ولا رجل ؟!!

دخلت ” هيـام ” أختهم الكبرى عليهن وهي تحمل جبال الهم فوق ملامحها ، فنظرت لها نغم بترحاب :

-أهي عروستنا وصلت أهي ؟!!

تدخلت زينـة عنـ.ـد.ما لاحظت وجهها الشاحب :
-وه وه!! مالك لاوية بوزك يا عروسـة ولا كأنك هتتجوزي أخر السبـوع .

تجاهلت حديثهن واسئلتهن الفضولية :
-فين هارون يا أما ؟!

-نزل شغله ياهيام يشوف مصالحه ..

جلست ” هيام ” تحت قدmي أمها بأعين باكية :
-يا أما أحب على يدك انا مش عايزة اتجوز ” ضيا ” ولا قادرة أبص في وشه .. حـ.ـر.ام عليكم حسوا بي .

قالت زينة معترضة :
-ما أنتِ كنتِ رايده وموافقة عليه يا هيام !! جرالك أيه !!

جلست نغم بمستوى خالتها وضمت كفيها :
-يا حبيبتي !! هو الجواز بالعافـ.ـية يا خالة ، البت مش رايداه ومعاها حق ، ضيا مين يطيقوه في النجع كله .

تعلقت ” هيام ” بحبال كلمـ.ـا.ت نغم :
-قوليلهم يا نغـم ، أنا تعبت .. مش عايزاه يا ناس مش عايزاه ..

تدخلت صفيـة بحدة المراة الصعيدية :
-اسمعك تقولي إكده تاني هكـ.ـسر راسك ، أياكي تكوني شايفالك شوفة من الجامعـة بتاعتك ، والله اقطع خبرك عن النجع..

انفجرت هيام باكية :
-مش عحبه يا أما .. مش عايزاه .. ولا عايزة اتجوز من أصلو أيه قولك عاد ! .

هبت رياح صفية الحاسمة :
-وأحنا مش عنتجوزوا عشان الحب والكلام الفارغ دهوت يا بت بطني .. الجواز سُترة للبت وعشان نحفظوا نسـل العزايزة ، أما الحُب والتقاليع دي مش في عُرفنـا ياضنايا..الـ يتفقوا عليه الرجـ.ـا.لة يصير وأنتِ وافقتي من اللول .

ربتت زينـة على كتف عمتهـا بيدها المكدسة بالغوايش الذهب :
-روقي يا صفيـة ، الزعل غلط عليكِ .. هدي روحك وأحنا هنتكلموا معاها ونفهموها .

تفوهت صفية بحزم :
-ولا كلمة زيادة في الحديت ديه ، سامعة يا بت بطني .. روح جهزي روحك وأفرحي .

ثم سبت الحب جهرًا :
-قال حُب وكلام مايع ملوش لون ولا ريحة !!

فرغت ” هيام ” كالملدوغـة وهي تفارق مجلسهن :
-إكده يا أما ؟! طيب أنا هروح اشتكي لأبوي ولو موقفش جاري وربنا وقبل ماالبس الفستان لضيا هتلبسوني الكفن .

أغــــرورقت العبرات من عيني صفية بحسرة :
-أبوكي عيان ومش حِمل هم يا بت .. خِدي إهنه !! يارب خدني أنا وريحني من عيالي ، لا عارفة احكم على واد ولا بت .. عملت أنا ايه في دنيتي بس يارب ، شيعي لهلال ولدي يرقيني ، دي عين مراة صديق ورشقت .

•••••••

~ مرسى علم ~

بأقدام حافيـة تتدلل رغـد أمام ” بـار ” مطبخها الذي اقترب منها هاشم بعد ما تحرر من قيود زيه العسكري مكتفيًا ببنطال رياضة تاركًا عضلات جسده للهواء الطلق .. تناول ثمرة من الفاكهة وجلس على أحد المقاعد وهو يسألها :

-هتأكليني أيه من أيدك …

ردت رغد وهي تعد قطع الدجاج :
-بيكاتا بالمشروم والوايت صوص وجمبهـا رز أبيض هتاكل صوابعك وراها ..

جذب كفها لعند ثغره وطبع بداخله قبلة دافئة ثم قال :
-أنا نفسي كدا تسيبك من الأكل الخواجاتي ده ، وتجربي الأكل الصعيدي الـ على أصله .. رقاق بالسمنه البلدي .. فتة باللحمة الضاني .. فطير مشلتت بالعسل والجبنة ..

تركت السكين من يدها متحمسـة :
-بجد يا هاشم ؟!! أنا نفسي أوي نروح هناك وتعرفني على أهلك .. حقيقي بحاول اتخيل هما ازاي وعاملين أيه .. أنا بجد نفسي أحس أن ليـا عيلة وعزوة ..

لُطخ وجهه بحمرة الامتعاض واكتفى بهز رأسه بدون اهتمام :
-قريب قريب ياحبيبتـي ..

شيعته بنظرة تكذيبه ولكنها غيرت مجرى الحديث قائلة :
-هتنزل الصعيد طبعًا ؟!

ابتسم بهدوء لدهائها :
-طبعا لازم أخد رضا صفية قبل كُل مأموريـة ..وكمان عشان فرح هيام أختي آخر الأسبوع ..

رغد بفضول :
-احكي لي عن الصعيد شوية .. وصفيـة وأخواتك ، كله كله ؟! أنا نفسي أجي معاك أحضر الفرح .

دار إليها باهتمام :
-الأول عايـزة ت عـ.ـر.في أيه ياستي عن الصعيـد ؟!

برقت عينيها بحماس وهي تدنو منه قليلًا :
-قول لي عندكم بنات حلوة في الصعيد .. ؟!

رفع حاجبه مشيدًا بجمال بنات موطنه :
-وهو فيه زي حلاوة بنات الصعيد ، عارفة الفرق بين الفرس العربي الأصيل والأمريكي ؟!! أنتِ طبعًا خيالة وعارفة الفرق كويس .

اكفهرت ملامح وجهها بضيق :
-والله ؟!! وسبتهم لي بقا وجيت لي.. ؟!

امتلأ محياه بالضحك وهو يفارق مقعده ويتحرك إليها :
-عشان لقيت فرس عربي أصيـل تايه في مرسى علم قلت مكنش ينفع أسيبه أبدًا .. لازم يكون ملكي .

ثم طوق خصرها بقوة وأكمل :
-وأنا خيـال وأعرف أقدر زين قيمة المهرة اللي قصادي .

حاولت التملص منه مفتعلة الزعل :
-مابقتش أكل من الكلام ده .. ووسع كده مخصماك ..

ثم قفلت عين الموقد وقالت بحدة :
-ومفيش أكل كمان .. روح بقا للبنات الحلوين في الصعيد وهما يأكلولك .

ذاب بين خصيلات شعرها الغجري وهو يقول متيمًا بتلك المراة التي جعلته يتمرد على أعراف بلدته بأكملها ويختارها :
-مش مهم الأكل ؛ تيجي أعزمك أنا ؟!!

دارت بين يديـه لتبقى يديهـا بعنقـه ويديه مطوقها خصرها النحيـل ، متعلقة بعينه المنكـ.ـسرة في حضرة جمالها :
-هتعزمني على أيه ؟!!!

-على الباقي من عمري ليكي لوحدك .
كانت جملته بمذاق القُبلة التي بدأت بلهفـة ثم متمهلة تدريجيـًا بمقدار الأدرينالين المتدفق من جسده عند رؤيتها ، زاح خصلة عن وجهها وسألهـا :
-أي رأيك ؟!

كل نظرة منها كانت تحمل بيان صريح لاعترافها بعشقه الذي فاق الحدود لذلك الرجل الذي غمرها بماء الحب حتى باتت لا تستطيع التنفس إلا بوجوده ،‏بالرغم من وجوده الشحيح معها لدرجة أن بُعده يقــ,تــلها مثلما يحييها قربه بالرغم من إنه لا يقدm لقلبها إلا الحُب فقط الخالٍ من أي تضحيات ولكنه قادر على زرع الزهور بصدرها ، بالرغم من اللاشيء الذي لا يُقدmه إلا انها تعشقه :
-وأنا موافقة طبعًا .. هاشم أنا بحبك أكتر من أكتر حاجة في الدنيـا ….

ثم ……
قد يحدث ألا يكفي المرء إلا الصمت لا مزيد من
الكلام يمكن أن يصف ما يشعر به ، لا مزيد من الشعور والنظرات والعبرات توفى لسعة الحب بالصدر المدجج بناره ، ولكن ربمـا للروح تنجح في التعبير لأي درجة من الحب وصل لها القلب …

•••••••

غَرُبت الشمـس وطوت خيوط نهارها مع الهموم المُعلقة بالقلوب الحائرة .. اجتمع كبـ.ـار آل العزايزي وعلى رأسهم خليفة العزايزي الجالس معهم يستفسر عن أمور بلدتهم وغيـرهم بالمندرة الكبيرة الخاصـة بالعائلة لحسـم بعض الأمور العائليـة .. غادر هيثم مجلس الرجـ.ـال ليهاتف أخيـه :

-فينك يا هارون ، اشحال مأكد عليهم يجوا بعد العشية ..؟!أبوك على آخره .

على الطريق الصحراوي يقود سيارته بأقصى سُرعـة :
-مشوار في سوهاج كان لازمًا أروح له ، كلها نص ساعة وأكون عندكم .. عشي الرجـ.ـا.لة لحد ما أوصل .. وخليك جار أبوك .

-طيب يا أخوى استعجل .. ألو .. هارون الشبكة عندك ساقطة لو سامعني عجل الله يرضى عنك مش ناقصين لت وعجن ..

كرر ندائه :
-هارون .. سامعني ؟!

شرعت حبات المطر تتقطر على زُجاج سيارته ربما تعلن باستقبال ضيف جديـد لضواحي المنطقة .. شغل مساحات سيارته وزود من السرعة كي يلحق بضيوفه متأففًا :
-مش بعادتها تنطر يعني !!

وعلى جانب الطريق تقف “ليلة” تلعن حظها الذي لم يسعفها لمواصلة طريقها بدون عوائق .. توقفت جانب الطريق تفحص ” عجلات ” السيارة التي انفجرت أحدهن بكشاف الهاتف .. وقفت بملامح عجزها ثم ركلت العجلة بقدmها وهي تعاتبها :
-لازم تعمليها يعني ..؟!!

ثم نظرت للسمـاء التي تُمطر قطرات خفيفة فوق رأسها :
-اااه ما كملت بقا ؟!! أيه الحظ ده ..؟!

حاولت الاتصال بشريف كي ينقذها من تلك الورطـة وهي تقول :
-مش لازم اقلق مامي .. أي نعم شريف مش هيعديها بس أعمل ايه مفيش حل تاني؟!!

أغــــرورقت عينيها بالدmـ.ـو.ع للعجز وقلة الحيلة التي تعاني منها :
-لااا وكمان السيجنال واقعة ؟!! كده كتير ؟!!!! والحل ؟!

أضاءت جميع فوانيس السيارة لتلفت نظر أي شخص على الطريق الصحراوي و يقوم بمساعدتها وقفت بعجز وقلة حيلة أمام سيارتها وقطرات المطر تزداد رويدًا رويدًا .. تحول حماسها لخــــوف وقلق ، قررت تطلب المسـاعدة من السيارات المارة بجوارها ، اشعلت كشاف هاتفها مرة آخرى وأخذت تلوح كالغريق أمام السيارات حتى رماها القدر أمام سيارة هارون القادm بأقصى سُرعة ممكنة ، لفت نظره الأنوار المتحركة عن بُعد ، هدأ من سرعة السيارة وكثف الضوء الصادر من مصابيح سيارته حتى صف بجوارها ..

نزل من سيـارته بجلبابه الصعيدي الذي يزيده هيبـة ووقار وعشرين عامًا فوق عمره متعجبًا عن سبب وقوف فتاة بمفردها بهذا المكان .. أقبلت ” ليلة ” نحوه كالعطشان المقبل على بحيرة من الماء :

-من فضلك ممكن تساعدني ؟!

قفل هارون خلفه باب سيارته مندهشًا ومعاتبًا :
-أنتِ كيف واقفة بروحك في مكان زي دِه !! اتهوستي ؟!

ردت بعنفوان يحمل وميض السخرية :
-أكيد مش واقفة ألعب تحت المطر !!

ثم أخذت زفيرًا قويا لتهدأ :
-مش معايا استبـن والكوتشي نام ومش عارفة أعمل أيه ؟!

تحرك خطوتين ليفحص السيارة فأتبعت خُطاه :
-أنت ممكن تساعدني مش كده ؟! بص أنا كنت سايقة على الطريق كده فجأة سمعت صوت غريب زي الفرقعة بصراحة اتخضيت أوي ، وو

فاض صبره من ثرثرتها الفوضوية :
-ينفع تبلعي ريقك هبابة لحد ما أشوف العربية ..

أجابته بتـ.ـو.تر يتقاذف من كلمـ.ـا.تها :
-حاضر حاضر .. أنا بس كنت بحكي لحضرتك أيه الـ حصل بالظبط قبل ما تكشف على العربية …

تنهد بجزع وهو يتمتم لنفسه أثناء فحصه لعجلة السيارة:
-يا مثبت العقل والدين يا رب.

مالت نحوه بفضول :
-هااه عرفت فيها أيه ؟!!

نصب هارون قامتـه الصلبة :
-مسمار ولازم الكاوتش يتغيـر .. وطبعًا مش معاكِ استبن .

وضعت كفها على فمها من حول الصدmة وبنبرة طفولية :
-أحيـ**ـه ؟!!!!

تمددت ملامحه من شـ.ـدة الدهشة لهول الكلمة التي تعد من الخطوط الحمراء في قاموسهم :
-أيه ؟!!!!

ردت بقلق :
-لالا .. قصدي وهعمل أيه في الورطة دي ؟!

تأفف بضيق :
-كُنتي رايحة فين الساعة دي ؟!

-كنت نازلة في فندق “___” بنجع حمادي .

قطع كلمـ.ـا.تها بدون أن تُكمل :
-طب اركبي اخدك في طريقي ، هو يوم باين من أوله !!

هبت معبرة عن اعتراضها بطريقتها المميزة :
-أحيـ**ـه ؟!!

جحظت عينها بالغـــضــــب :
-تاني ؟!!!!

-لالا ، قصدي يعني والعربية ؟! دي ممكن تتسرق !!

وجهه الكشاف ناحية السيارة ليفحصها :
-متخافيش محدش هيسـ.ـر.قها عربيتك دي صيني يتعلموا عليها العيال كيف يسوقوا .

-هااه ؟!! أنتَ عارف دي بكام أصلًا ؟!!

نفذ صبره من حواره معها ، فهبت زعابيب غـــضــــبه :
-ياستي خلصينـا ، هتركبي أوصلك وابعت حد ياخد العربية ، ولا أمشي أشوف مصالحي ؟!

دmدmت شبه معتذرة:
-طيب حضرتك بتزعق ليه ؟! ما أحنا بـ.ـنتكلم بالراحة يعني وبلاش تعلي صوتك عشان كده هتـ.ـو.تر أكتر وأنا أساسًا متـ.ـو.ترة .

ثم استجمعت قوتها أمامها :
-وبعدين أنتَ أزاي تستجرى تعلي صـوت عليـا يا جدع أنتَ .. أنا محدش يقدر يكلمني كده ، المفروض يبقى في ذوقيات في الكلام ، أنا ضيفة عندكم .

رفع صوته فأجبرها على الإنصات إليه وقال بحسمٍ لا يقبل النقاش :
-هركب عربيتي ، ومعاكي من واحد لتلاتة ، يا ألقاكي ركبتي جاري ، ياما هسيبك في الصحرا وسط الديابة منك ليهم وهمشي ..

هتفت ممتعضة وهي تلوح بكفها :
-لسه بتزعق !! مش عايزة حاجة منك وفي ألف عربية هتعدي ممكن تساعدني ، اتفضل امشي عشان الدنيا طايرة عندك ..

ثم تمتمت مختنقة :
-إنسان قليل الذوق بصحيح !!

لم ينتظر السماع لـ ردها بل أسرع مستلقيًا سيارته وهو يجز على فكيه ويراقب ساعة يده ، قفز الرعـ.ـب بقلبها عنـ.ـد.ما تركها بمفردها وجه لوجه تحارب كبريائها و رضوخها .. وقفت أمام سيارتها عاقدة ذراعيها بتحدٍ مرحجة المـ.ـو.ت في قلب الصحراء على أن تخضع لرجـل متعجرف مثـله .. انتظر ” هارون” حتى مضى الوقت المحدد لها وبدون تفكيـر لف مقود سيارته نحو اليسـار ونفذ تهديده وهو ينسحب دون أن يلتفت لهذه القطة التي اختارت ظلام الصحراء عن الاستسلام والرضوخ لأوامره …
لم أجد وصفًا مؤلمًا للحب أكثر ما ذكره نزار قباني :
“الحب ليس رواية شرقية في ختامها يتزوج الابطال ..
الحُب هو أن تظل على الأصابع رجفة وعلى الشفاه المطبقات سؤال .. ”
-بل مائة سؤال وألف حُلم ومليون فرضيـة لفرصة لقاء واحدة .. وبقيـة العمر في شوق وحنين .
#نهال_مصطفى.
•••••••
حُسم رعد التمرد والكـبـــــريـاء والموقف ، فتاة مدللة مثل ليلة الجوهري لم يخلق من يفرض عليهـا آرائه كما تربت على الدلال المفرط لوحيدة أبيها وأن كل طلباتها مُجابة ، و هارون العزايزي لن يمتلك رفاهيـة الصبـر التي تجبره أن يتحمل دلال وتمرد إمراة مثلها .
مع غروب سيارته أحست ” ليلة ” بالخــــوف والصقيع في آنٍ واحد ، أخذت تتلفت حولها بذعرٍ حتى وصل لمسامعها صوت عواء الذئاب كأنه جاء ليذكرها بتلك الكارثة التي تُحيط بها ورحل.. بدون تفكـير هرولت مسرعة لتختبئ بسيارتها قافلة جميع أبوابها بإحكام ، دفنت وجهها بين راحتي يديها وهي تلهث بفزع لتواسي نفسها حتى دخلت في نوبة هستيرية .. بصرخة متقنة الإخفاء في مكان خالٍ:
-إن شاء الله مفيش حاجة عادي ده مجرد صوت من بعيد ، بس الصوت يدل أنه قُريب مني .. لالا أنا مش همـ.ـو.ت هنـا آكيد .. يامامي !!
في تلك اللحظة أخذت أنياب الشهامـة تأكل برأسه مما جعله لأول مرة يكـ.ـسر كلمته ويتراجع عن قرارٍ أتخذه ، لف مقود السيارة وعاد مرغمًا لعندها فكانت وصلت لذروة خــــوفهـا ، طرق على نافذة السيارة المقفولة فهبت صارخة بوجهه ، فبادرها قائلًا :
-شوفتي عفريت إياك ؟!! اندلي .
فتحت النافذة تدريجيا لتتأكد من هويتـه برعـ.ـب :
-ااه أنت ، الكابتين الـ كُنت من شوية .. أنت رجعت !!
ثم شرعت لتسرد له معاناتها :
-انا سمعت صوت الثعلب ، كان قريب أوي أوي ، أهو اسمع كده لسـه شغال .. هو كان ممكن يأكلني صح ؟!
كز على فكيـه بنفـاذ صبـر :
-ده ديب مش صعلوك .
ما زالت تحت سطو خــــوفها ولكنها لم تنكر نفحات الونس التي هلت عليها بعودته :
-هااه ؟! يعني أيه ؟! معلش استحملني بس عشان أنا بخاف من أي حاجة عندها رجلين وبتمشي .
زفر باختناق:
-ياستي فُضيني وخفي عَطلة ، طلعتي لي منين أنتِ بس ؟! يلا انزلي هوصلك .
ردت بعجـلٍ وهي تلملم أشياءها :
-حاضر حاضر ، أخد حاجاتي بس .. استنى عليا وبلاش تزعق عشان بتـ.ـو.تر .
ثم نظرت له بتوسل :
-ممكن يا كابتن تنزل شنطتي من العربية .. معلش كمل جِميلك معايا للآخر .. شكلك شهم وابن بلد وجيت لي من السمـا والله .. أنت بركة دعوات عمو حسن ليا !
قفل جفونه للحظة يستوعب طلبها الذي لم يجرؤ عليه أحد:
-كمـان شيال ؟!! ومين حسن ده “راخر” !!
ضـ.ـر.ب كف على الأخر قبل أن ينتظر جوابها :
-افتحي الشنطة لحد ما أشوف أخرتها معاكٍ يا بت الناس .
وضع هارون حقيبتها بسيارته في تلك الأثناء فرغت ليلة من جمع أغراضها المبعثرة بحقيبة يدها الكبيرة .. أخذت مفتاح سيارتها وهبطت لتقطع تلك المسافة القصيرة التي لم تتجاوز بضعة أمتار فاصلة بين السيارتين ركضًا .. تأفف هارون ممتعضًا :
-هو يوم باين من أوله .. اصطباحة كانت على وش زينة ونغم ؟!! مستني أيه أخر اليوم ؟! مبروك ربحت المليون !
أكمل دmدmة حتى وصل لمقعد سيارته المخصص بالقيادة وهو يتحدث بصوت مسموع :
-وقال صفية عايزاني اتجوز واحدة منيهم ؟! عشان يبقى الفقر ملازمني لآخر عمري !!
ثم نظر إليها ناطقًا بسؤاله التعجبي :
-يرضيكي يا بت الناس الحديت ده !!
حركت كفتيها بجهل تام وبأعينها المتسعة غمغمت متبعة نهجه :
-لا طبعًا ، مادام حاجة مزعلاك أوي كده متعملهاش.
-شكلك نبيهه !!
استقبلت جملته الغامضة بابتسامة مزيفة تكـ.ـسر بها حاجز الخــــوف المسيطر على قلبها والحرج ؛ فأكملت :
-مرسي ليك يا كابتن، كنت متأكدة وحياة ربنا أن الصعيد كله رجـ.ـا.لة جدعان والشهامة بتجري في دmهم .. أهو أنتَ أكبر مثال .
اكتفى بنظرة مطولة تحمل السخرية والاستهزاء ثم عاد ليواصل سيره .. تعجبت للحظة من رد فعله الغامض ثم عادت لتفتح مسارًا جديدًا للحوار :
-نتعرف .. أنا ليلة الجوهري .
رفع حاجبه وعلى محياه ضحكة ساخرة :
-دي هي ليـلة هارون المقندلة !!
تصلبت تعابير وجهها مكذبـة مسامعها ولكنها تجاهلت وأكملت بنفس الابتسامة
-إعلامية على أدها .. ولو الموضوع الـ جاية عشانه تم ، هابقى إعلامية مشهورة و هتشوفني كل يوم على التليفزيون.. وكمان هحلي لك بؤك .
ثم تمتمت بحماس الطفولة :
-قول بس يا رب يتم .
رد ببرود دون أن يلتفت إليهـا :
-ما عتفرجش على تلفيزيون .
أحست بقليل من الإحراج انعكس في ابتسامتها المهزوزة ، ثم عادت لتسأله :
-أنت عارف طريق الفندق صح ؟!
رد باختصار وهو يهز برأسه التي أوشكت أن تتفجر من ثرثرتها المبالغـة :
-عارفو …
-“لو مش عارفه ممكن الـ GpS يساعدنا .. أنا مش بعرف أمشي من غيره في أي مكان . ”
نفذ صبـره وهو يتأفف بضيق ، فجهر بصوته الأجش:
-قلت لك عارفو ، واسكتي خليني أركز في الطريق والليلة الغَبرة دي !
لم تشم رائحة جزعه إثر ثرثرتها المُبالغـة ، فأتبعت مبررة لعصبيته وملتمسة له العُذر :
-ااه حضرتك من النوع الـ بيحب يركز أوي في السواقة ، وهدوء بقا ومش عايز صوت والجو ده ، تعرف أنا مش كده خالص .. أنا بعرف أسوق من وأنا عندي ١٤ سنـه .. وكل سباق لازم اشارك فيه وكمان باخد مركز اول على طول .. بابي الله يرحمه هو الـ حببني في السواقة والعربيات وو
قذفها بنظرة حادة جعلتها تبتلع ما تبقى بفاهها من كلمـ.ـا.ت وتندس بمقعد سيارته الفارهة .. التزمت الصمت تمامًا مكتفية بسيل من النظرات المتأرجحة نحوه ذهابًا وإياباً.. أحس هارون بتأنيب الضميـر على أسلوبه الفظ في معاملتها ، فقرر أن يكسـر حاجز الصمت وكأنه يعتذر بلطف خفي :
-جاية الصعيد تعملي إيه لحالك ؟!
كالغريق الذي تعلق بالسؤال ليفتح لها مجالًا للحديث فهي تكره الصمت والسكوت مؤمنة بأن شخصية المرء لا تبرز إلا بالكلمـ.ـا.ت ، دارت نحوه بشغف وهي تلوح بكفها :
-جايه أعمل تقرير إعلامي عن عائلة العزايزي ..
دقت الدهشة برأسه فدار لعندها مشـ.ـدوهًا:
-لا ياشيخة !!
أكملت بنفس الحماس :
-العيلة دي عاملة قلق جـ.ـا.مد عندنا .. وفي اتهامـ.ـا.ت كتير موجهة لرجـ.ـالتهم رغم أنهم بيمسكوا مناصب قيادية في البلد ، والتقارير عن الكسب غير المشروع ، ناس بتقول مصدر دخلهم آثار .. وناس تانية بتقول سلاح .. بس جدو الله يرحمه يارب، اللواء رفعت الجوهري كان ماسك هنا ، فاكرة زمان أنه حكى لي أن جدهم العزايزي وهما بيحفروا في الجبل لان زي ما سمعت بردو أن كل شغل في الجبل .. حكى لنا انه لقى مقبرة فرعونيـة كبيرة أوي ، ودي كانت سبب سعدهم .. بس للأسف الحكومة معرفتش تمسك عليهم أي دليل .. بس بردو درجة الثراء الـ العيلة دي وصلت لها من مصادر مجهولة أمر يحير ..أنتَ أيه رأيك في كلامي؟!
ثم وضعت سبابتها على ثغرها وقالت متحيرة :
-تفتكر يطلعوا تُجار سلاح ولا آثار ؟!
أخذ يسحب منها الكلام دون الإفصاح عن هويـته الحقيقية ، رفع حاجبه مستفسرًا :
-وأنتِ جاية إهنه ليه يعني ؟!
ردت بصوت مدجج بالحماس :
-عشان أفضحهم واكشف حقيقتهم للعالم كله .. هما فاكرين نفسهم مين عشان يتحايلوا على القانون ..
لم يستطع التحكم في تمدد ثغره بـ سخرية :
-أصلًا ؟!!! ودي هتعمليها أزاي ؟! الـ خلى جدك الراجـ.ـل الكُبرة معرفش يعملها !!
-أنا عندي أساليبي الخاصة الـ هكشفهم بيها .
ضحكة مكتومة بدى طيفها على محياه مستهزءًا بهمس :
-في المشمش !!
ثم أكملت ” ليلة ” بنفس ذات النبرة الحمقاء متأملة:
-وأثبت نفسي عشان دي فرصتي الوحيدة يكون ليا برنامجي الخاص على أكبر المحطات .. لازم موضوع هيفرقع الرأي ويعمل بووم …
دmدm بسخرية وهو لم يتوقف عن الضحك الساخر الغير مسموع :
-ده هيفرقع في وشك إن شاء الله .
عقدت حاجبيه مستفهمة وهي تتابعه عن كثب :
-أفنـ.ـد.م ؟!!
جهر معلنًا وهو يجز على فكيه :
-ربنا يوفقك يا استاذة .. وتجيبي رأسهم الأرض ، ونخلصوا منهم ومن أذاهم .. معاكِ حق دول عيلة لوش وليهم تقاليع عجيبة .. افضحيهم وأنا معاكِ .
رفعت سبابتها بإعجاب شـ.ـديد ، وبنفس النبرة الحمقاء :
-أنتَ أجدع حد أنا قابلته في حياتي والله العظيم ..
فتحت ” ليلة ” النافذة لتستنشق الهواء البـ.ـارد باستمتاع وهي تقفل جفونها وتسترخي متلذذة بنسمة الهواء الممزوجة برائحة المطـر الخفيف وكأن نجوم السماء تُزين ملامحها ، التفت إليها بدون رغبة منه ولكن شعور ما بداخله أجبره أن يتأملها مليًا .. ربما السر يكمن في خصلة شعرها القصيرة المتطايرة ، أم بملامحها الرقيقة التي تحمل براءة الطفولة .. تنهد وكأنه أراد أن يبتلعها دفعة واحدة لداخل صدره .. فتحت مُقلتيلها كمن تذكر شيئا ودارت نحوه لتسأله بوميض من الإحراج :
-أنا عارفة إني تقلت عليك .. بس ده والله آخر طلب … بليز ممكن .
اكتفى بنظرة واحدة فتحت لها مجالًا لاستكمال حديثها وقالت :
-كُنت عايزة أوصل لحد هنا اسمـه ..
فتحت حقيبتها بعجلٍ وهي تخرج هاتفها تبحث عن اسم ذلك الرجل الذي تريد لقاءه ، فتشت لدقيقة بهاتفه ثم هبت متحمسة :
-ايوة أهو ، اسمه هارون العزايزي .. ده العُمدة بتاعهم مكان باباه الـ اسمه خليفة مش كده ؟! بيقولوا عليه رجل صعب أوي وأصعب من باباه ، فاتح صدره على الناس ومحدش هامه .. وصعب التفاهم معاه وخُلقه ضيق ومحدش بيعرف ياخد معاه حق ولا باطل .. بيلعب بالسبع ورقات !
دmدm لنفسه متعجبًا :
-أنا عملت كل ده مـ.ـيـ.ـتة !!
وهنا تفرض التساؤلات نفسها في ساحة فضوله عن هوية تلك الفتاة تبحث عنـه وتفتش وراء عائلته عامة ووراءه بالأخص ، تعامل بهدوء وجهل تام مع سؤالها وقال :
-و سمعتي أيه كمان ؟! قولي قولي ، دا أنتِ طلعتي لقُطة .
ردت باندفاع متبعة فضولها وهي تتساءل :
-صحيـح القبيلة دي حاطة قانون جواز الدm ، ممنوع أي حد يتجوز من بره القبيلة ؟! يعني مش بيتجوزوا غيـر قرايب بعض وبس؟!
رد بثبات :
-ده أهم عُرف للـعزايزة .
ابدت اعتراضها معبرة :
-what?!
فاتبعت دهشتها بضحكة ساخرة وأكلمت بتلقائية :
-أحيـ**ـه ؟!
يبدو لوقع الكلمة أثار فجة على قلبـه فظهرت بوادرها بإحمرار جمر الغـــضــــب على ملامحه :
-اسمعي يا بت الناس ، طول ما أنتِ قاعدة إهنه متقوليش الكلمة دي حتى قِدام عيل صغير .. فاهمة ؟!
بدون اقتناع :
-كلمة أيه ؟! ااه ليـه يعني ؟! عندنا كلمة اعتراضيـة أن الكلام مش عاجبني أو مندهشة .. !! فين المشكلة ؟! وبعدين دي لهجتنا كلنا كاسكندرانية ومش مسموح لأحد حد مهما كان يتريق عليها .
يبدو أن حديثها لم يرق له ، اكتفى بتنهيدة عقبت خلفها زفيرًا قويـًا ليتخلص مما يشعر به ، غيرت مسار الحوار ومازالت تحت تأثير صدmتها من عُرف تلك القبيلة :
-نرجع لمرجوعنا .. لو واحد مثلًا حب واحدة تانية ومش عايز يطبق العرف ده ، مفيش أي ثغرة ممكن يستخدmها ، خلاص كده يتجوز حد مش بيحبه ولا متقبله عشان أعراف وتخاريف ؟!! أحنا فـ الجاهلية !! دول عيلة متـ.ـخـ.ـلفة بجد وتستاهل تتفضح .
بات الغـــضــــب كحبات الفشار التي تتقاذف من عينيه وهو يشيعها بنظراته الحادة ليجيب بحزم وانتماء لقوانين قبيلتهم :
-عرف العزايزة متخلقش اللي يكـ.ـسروا ، والقوانين سيف يحترمه الصغير قبل الكبير ، بعيد عن الحب والمياعة اللي عتتكلمي عنِها دي؟!
تراجعت للخلف برعـ.ـب يتطاير من مُقلتيها :
-حضرتك اتعصبت لي ؟! أحنا مش خلاص بقينا صُحاب وبندردش. عادي !! ليه الأفشة دي يا كابتين ؟!!
طريقتها الطفولية كانت مرهمًا على شروخ غـــضــــبه التي جعلتها تتخدر في نفس اللحظة .. التوى ثغره مبتسمًا عنـ.ـد.ما رأي خــــوفها فبادر ليطمئنها بعودته لهدوئه مبررًا لنفسه إنه ضيفته وبلداه ، تحمحم بخفوت وهو يجادلها :
-كملي سمعتي أي كمان على العُمدة ولد المجلحف ( مُجحف ) ..
بفضول مُلح بجهل :
-مُجـ..مجلفح يعني أي؟!
ببسمة كـبـــــريـاء ممزوجة بـ الشكوى :
-أنتِ جِيتي لي منين يابت الناس ؟! فتحي مخك معاي مش كل كلمة هنزلك بقاموسها ؟!
ثم ولى النظر إليها للمرة الثانية التي انحرفت فيها عينيه عن الطريق وقال :
-مجلحف يعني ظالم مفتري بلغتكم في بحري .. ومش دهوت كلامك !!
-أهااه فهمت يا كابتين.. سوري مش متعودة على اللهجة بتاعتكم ، أصل دي أول مرة انزل فيها الصعيـد .
ثم تململت في جلستها بحماس الطفولة :
-متحمسة أوي أشوف العمدة بتاعهم وبالأخص الحج خليفة ، أنا متخيلاه راجـ.ـل رجله والقبـر ، هلقى سنانه واقعة ولابس عمة وجلابيـة بس له هيبة تخض أي حد يقرب منه ، أنتَ شوفته ؟! قصدي تعرفـه ؟! احكي لي كمان عن ابنه هارون ده !!
رد بإنكار :
-لا هعرفه من فين أنا على قد حالي؟! راجـ.ـل بالسُمعة دي وآثار وفلوس هيقابل أي حد والسلام زيي إكده على باب الله !!
حدجته بعدm تصديق وهي تتأمل ماركة السيارة التي يقودها :
-مش باين الصراحة !!
تفهم قصدها شارحًا :
-قصدك العربية !! دي بتاعت الجماعة الـ شغال عنديهم .
-اااه فهمت .
أصابها اليأس في مقــ,تــل لصعوبة مهمتها بخلق حوار صحفي مع ذلك الرجل الغامض الذي قطعت مسافة أميال لأجله .. سألته بفضول :
-قولي تعرف أيه عنهم كمان ؟! حضرتك من هنا ؟! يعني من البلد ..
أكمل مسرحيته المزيفة :
-أنا من البلد اللي بعيدهم طوالي .. بس قوليلي عايزة ت عـ.ـر.في أيه ؟!
-قول لي مثلًا أيـه أغرب حاجة سمعتها عنهم ؟!
فكر مليًا ثم قال بإختصار متعمدًا إخافتها :
-أيام جدهم العزايزي الكبير ، ولد أخوه حب واحدة قهراوية واتجوزها من وراهم .. ولما وصلهم الخبـر ..
قطعته مع اتساع بؤبؤ عينيها بفضول رهيب :
-وبعدين ، عملو فيـه أيه المجرمين دول ؟!
وصلت سيارتـه لبوابـة الفندق ، فهدأ السرعة تدريجيًا وأجابها :
-من يومها محدش سمع خبرهم ، في أقاويل بتقول أنهم حبسوهم في كهف في الجبل لحد ما مـ.ـا.توا ، واللي يقولك قــ,تــلوهم ورموهم للديابة ..
زام فاهها من هول ما سمعته :
-يا حـ.ـر.ام ؟! دول مجرمين بجد ؟! طيب ليه بيعملوا كده ؟!
صف سيارته أمام مدخل الفندق ثم أبطل المُحرك وطل عليها للمرة الثالثة ليجيبها بنبرة أهدى عن بداية لقائهم وكأنه يذكر نفسه بقوانين قبيلته التي قطع عهدًا للحفاظ عليها أمام عينيها النبدقية :
-العزايزة دmهم عزيز وشرفي .. ومش أي حد يستحق يكون منيهم .. هما إمبراطورية اكتفت بحالها في وسط الجبل .. وأي دm غريب عليهم مصيره القتـل …..
بللت حلقها إثر الخــــوف الذي دب في أوصالها حتى أوشكت على البكاء :
-يامامي !! أنا عايزة أروح ….
انفجر ضاحكًا بصوته الأجش وملامحه الجادة التي لا يغازلها الضحك :
-تقلي قلبك عاد ، بدأتي مشوار يبقى تقطعيه لأخره ميبقاش قلبك خفيف … وصلنا .
تعرقلت الأعين المختلفة ببعضهـا أعين تحمل رائحة موج البحـر الرطبة بتلك الأعين التي ينعكس منها رمال الصحراء الحارقة ، كتعرقل سمكة بكمين صيادها المخادع.. يا ترى هل ذلك إثر حماقة السمكة أم للذة الطُعم ؟! أم لدهاء صيادها ؟! أحست لوهلة بشعور ليس من المفترض أن تشعر بـه ، قلب يرتجف وكأن قطرات المطر الخفيفة غسلت قلبها بدلًا من أرصفة الشوارع .. بتنهيدة تشبه شهقة الغريق وكأنها تود الاعتذار عما سببته له من إحراج :
-مرسيي أوي تعبتك معايـا يا كابتن .. جميلك ده أنا عمري ما هنساه .. حسابك كام بقا ؟!
تعجب بغرابة :
-حساب ايه !!
-التوصيلة !!
زفر بضيقٍ:
-انزلي وبطلي حديت ماسخ !!
شكرته بعرفان :
-ماشوفتش عمري في جدعنتك والله .. أنتَ رجل بصحيح وكُلك ذوق بجد ..
كادت أن تهبط ولكنها تراجعت متسائلة :
-والعربية ؟!! عربيتي ؟!!
رد بثقة :
-الصُبح هتلاقيها قدام اللوكاندة .. والمفتاح مع الموظف .
أردفت ممتنـة بإعجاب وبثرثرة :
-حقيقي أنت أجدع حد قابلته .. بجد مفيش منك ، بس أنا معرفتش اسمك لحد دلوقت تصور ؟!
أشار بيده لرجل الأمن كي يأتي ليأخذ حقيبتها متجاهلًا الرد على سؤالها حتى يئست من تلقي الجواب فترجمت صمته :
-خلاص مش مهم ، شكلك من الناس الـ بتحب تعمل الخيـر وترميه في البحر .. أنا هفضـل فاكرة الجميل ده طول عمري .. وهحكي لكل الناس عنك .
اكتفى بميلة خفيفة برأسه التي تحمل بداخلها مسئولية ومشاكل عائلة من أكبر وأهم عائلات الصعيـد .. هبطت ” ليلة ” من سيارته فلم ينتظر دخولها لبوابة الفندق .. انطلق مُسرعًا نحو قبيلتـه التي تنتظره على مراجـ.ـل من نار .. وقف رجل الأمن على الرصيف ملقيًا التحية :
-معالي الباشا نورت نورت ..نورتنا .
اقتربت ليلة من موظف الأمن وسألته بفضول قـ.ـا.تل :
-واضح إنك تعرفه .. هو مشهور أوي كده!!
مع ابتسامـة حمقاء أكملت :
-مين ده ؟!!
رمقها الموظف بذهول يحمل ألف سؤال ناتج سؤالها الأبله :
-ده هارون بيـه … هارون بيه العزايزي.
وقع الاسم على رأسها كالصاعقـة التي رجت كيانها فأغمضت عينيها لتسترد أنفاسها محاولة تلقى هذه الصدmة التي طاحت بجميع أحلامها وأن مـ.ـا.تبحث عنه يجلس بجوارها ، فغمغمت بصوت خفيض يحمل البكاء :
-أحيـــه !!
••••••••
تقف ” صفيـة ” وراء الجدران تلطم على وجهها بقلق يتتطاير من معالم وجهها المنكمشـة رغم بياض وصفاء بشرتها .. نادت هامسـة لهيثم برعـ.ـب :
-أخوك مش بعادته يعوق على الناس إكده ، ما تمشي رجلك للجسر ليكون دق في حد على الطريق ..
فاض صبر ” هيثم ” الذي بدا عليه التوتـر من ضجيج عمومته وأبنائهم من طيلة انتظارهم لـ هارون ونظرات أبيه التي تحمل التوعد :
-ياما مش أنتِ وهما علىّ !! دي مابقتش عيشـة ، وهارون ولدك مش بتاع عراك عشان يمشي يدق في خلق الله .. أقولك روحي نامي يا صفية .
-أنام كيف بس والدوار والع حريقة وكلهم هيدقوا في روس بعض ! طيب هلال أخوك فينه !
-فـ الجامع ، وروحت له قال لي أُغرب عن وجهي يا أخ هيثم .
ثم انصرف هيثـم ليكرر مهاتفة أخيه للمرة الذي لا يعرف عددها وهو يركض نحو مندرة اجتماع العائلة .. هرولت صفية فاتبعت زينـة خُطاها :
-روقي يا عمتي .. ربنا يجيب العواقب سليمة .
ضـ.ـر.بت صفية على صدرها بـ.ـارتباك :
-كلميلي الداكتورة هاجر بتي ، هاجر هي اللي هتقدر توصل لهارون أخوها .. هي الـ عتريح قلبي .
-وتشغلي هاجر لي بس دلوك وهي متغربة في أسيوط لحالها ؟! سبيها تركز في جامعتها ومذاكرتها .
جلست صفية على أقرب مقعد :
-متقاوحيش معاي يا زينة وكلمي هاجر .
لبت زينة طلب عمتها وهاتفت هاجر الأخت الصغرى لهارون صاحبة العشرين عامًا طالبة بكلية الصيدلة وتقيم بأحدى المدن الجامعية التابعة لجامعة أسيوط .. ردت ” هاجر ” على هاتفها باستغراب :
-زينة ؟!! أزيك ؟!
هتفت زينـة بـ عجلٍ :
-خُدي أمك عايزاكي يا هاجر … خدي يا عمة أهي هاجر على المحمول .
شـ.ـدت صفية الهاتف من ابنة أخيها :
-ألو .. يا هاجر .. سمعاني يابتي ؟!
وضعت هاجر غطاء رأسها وخرجت للنافذة :
-معاكي يا صفصف ، مال صوتك متاخد ليه ؟
-سوقت عليكي حبيبك النبي يا بتي شوفيلي فين مكان أخوكي على النت بتاعكم دهون ، لو مجاش هتحصل عركة كبيرة وأبوكي مش هيعديها وأنتِ عارفة عمامك ما عيصدقوا يمسكوا في بعض .
تبسمت هاجر مستخفة بالأمر :
-عمامي بردك ؟! ولا قلبك اللي مش هايهدأ غير وهارون جاره ، هكلمهولك متقلقيش .
-مش وقت مقلدة وشوفي لي أخوكي فين يالا استعجلي ..
دبت عجلات سيارته الفارهة دهليز القصـر ، فدلف منها على الفور وهو ينُادي على كبير الحرس :
-جابر خد المفتاح ده هتلاقي عربية عطلانة عند الكيلو ” —” وديها لدنقل وقوله البيه بيقول لك تسيب كل اللي في يدك وتخلصها قبل طلعة النهار .. اتحرك يلا .
ركض هثيم على أخيـه :
-كنت فين يا هارون ؟!!
-حصل أيه ؟!
حذره مغمغًا :
-أبوك على آخره !! هارون ما فكرتش في موضوعي أنا ورحاب ؟!
زفر بضيق:
-وده وقته ياهيثم !!
مسح بكفه على صدره وقال متيمًا :
-حاسس أن رحاب دي هي حُب عمري يا خوي وغير كل البنات الـ عرفتهم !هنتقدmولها مـ.ـيـ.ـتة ؟!
تجاهل سؤال أخيه وهو يسير بخطوات سريعة ناحية المندرة المتجاهر منها الأصوات المبهمة والهمهمـ.ـا.ت الغاضبة ، ما وطأت قدmيه عتبة المكان جهر بشموخ :
-عاملين غاغا لي .. طارت الدنيا ما تاخدوا نايبكم صبر ؟!!!!
••••••••
“مرسى علـم”
ضحكات متكررة من فاه ” هاشم ” وهو يتحدث مع أختـه عبر الهاتف وهي تشكي له أمه .. ثنى سيجارته بقلب المطفأة وقال بنبرته الصعيدية التي لا يمكن أن يتجاوزها وينساها مع أهله :
-ولدها البكري اللي مخلفتش غيره !! صفيـة هي صفيـة مش هتتغير .
جلست ” هاجر ” على طرف مقعد مكتبها وهي غارقة بالضحك :
-حقيقي أنا وأنت المتغربين مش بتفكر فينا كيف ما هارون شاغلها ..
جلس على الأريكة بجوار ” رغد ” بعد ما طبع وسام حبه على جدار عنقها بقُبلة صامتـة ولكنها قادرة على وصف مدى حبـه فلبت ندائه وتركت هاتفها ومالت برأسها على صدره ثم عاد لحديثه مع هاجر :
-هو اللي على الحجر ياستي .. بكرة يتجوز وتيجي اللي تأخده منها .. وهنشوف صفية هتعمل فيها أيه !
هبت معترضة :
-مين دي ؟!!دي صفية هطلع عين اللي جابوها .. وقول هاجر أختي قالت .
-يحيينا ويورينا يا ستي ، قوليلي ناقصك حاجة عندك ، فلوس، حد مزعلك ؟!
قفلت الكتاب المفتوح أمامها :
-مين ده اللي يقدر يزعلني ، دول بس يسمعوا إني بت العزايزة يخافوا يقربوا مني .. عاملين رُعب أنتوا في كل مكان .
-أومال أنتِ فاكرة أيه !! بطلة كيف أخوكِ ..
-قعدتك في بحري علمتك الحديت المزوق والبكش ، بس هعمل أيه أخوي وعحبـه .
ظلت يده تمسح على رأس رغد النائمة بحـ.ـضـ.ـنـه ثم قال :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  يا مقرودة ..
-كلها يومين وهنتجمعوا على فرحة هيام وهزهقك مني .
-مقدرش ..
-ربنا يخليك لي يا هاشم أنت وهارون وهلال وهيثم ، أنتوا سندنا من بعد أبوي ربنا يديم حسه .. اسيبك عشان تشوف شغلك مـ.ـا.تقولش عليا رطاطة ، بس أنت عارف عحب الحديت وياك .
-وأنا عحبك أنتِ .. خلي بالك من روحك .
رسمت البسمة على محياها :
-من عيني .. هاشم لا اله إلا الله .
-محمد رسول الله يا حبيبتي .
أنهى المكالمـة مع أخته الصغرى ثم ألتفت لتلك الأعين التي تتغزل به في صمتها .. رفع حاجبه مندهشًا ومازال محافظًا على لهجته الصعيدية :
-أنا مش قد البصة دي يا بت الحلال !!
اتسعت ابتسامتها الرقيقة وسألته :
-لسه النظرة من عيني بتهزمك زي أول مرة اتقابلنـا ؟!
-بتهزمني ؟! أنا اتمسح بيا أسفلت مرسى علم .
قال جملته بتلقائيـة جعلتها تخر ضاحكة ، تلك الضحكة المسـ.ـر.وقة من لحن قديم لفنان ماهر .. بزهوة الملامح التي اختارها الورد لتكون مرآته لتردف تحت سطو ازدهارها :
-أكبر بكاش شوفته في حياتي .. حتى هاجر متفقة معايـا إنك بكاش.
احتمت بالوسادة عنـ.ـد.ما قرب منها ، فأنقذها من شروره رنين هاتفـه ، عض على شفته السُفليـة :
-فلتتي المرة دي ..
رد على هاتفه بعجل فتحركت من جاره بأقدامها الحافية ، تلقى التعليمـ.ـا.ت الخاصة من الفرقة المسئول عنها حتى بعد انتهاء المكالمة واصل حديثـه المُزيف وهو يتقدm إليهـا بخطوات خفيفة تلك الواقفة بداخل الخزانة تبحث عن ملابسـها ، جهر مكملًا مسرحيته وهي يعبث بشعرها :
-يعني أيه مش عارفين تتصرفوا من غيري ؟! بقولك مش هينفع أجي ..
دارت نحوه بأعين خائفة من رحيـل منتظرة بقية حديثه برهبة ، عقد هاشم حاجبيه :
-هجوم مسلح ؟! لا اله إلا الله ، أمتى ده ؟؟!! خلاص قلت جاي …
خيمت معالم الحـ.ـز.ن على ملامحه :
-رغد أديكي سمعتي ووو
قفلت الخزانة بضيق وهي تخفي عبراتها المترقرقة:
-لا يا هاشم ، أنا ما بصدق تيجي هنا ، أنا مش بطمن غير ونفسك معايا في البيت ، واليوم اللي عشمت نفسي هتنام جمبي تنزل وكمان ضـ.ـر.ب نار وهجوم ، أقولك اترفد وتعالى اقعد جمبي .
جفف عبراتها بإبهامه مكملًا مسرحيتـه :
-طيب الشغل ودي تعليمـ.ـا.ت .. أنا لو عليـا عايز أقعد جمبك عمري كله ..
انفجرت باكيـه خارجة عن صمتها :
-بس دي مش عيشة ، أفضل مستنياك من الشهر للشهر على كام ساعة وبعدين نلف في نفس الدايرة ، أنتَ لا سامح لي اشتغل ولا حتى أخرج من بره البيت ، البازار بتاعي وشغلي كله وقف عشانك والنتيجة كانت أيه ؟! قاعدة محبوسة بين أربع حيطان .. أنا مش قادرة أكمل كده شوف لنا حل ؟؟
ضمها إليها قبل أن تنهار كليًا أمامه :
-رغود حياتي بهزر .. مش رايح لحتة ولو عايزني منزلش الصعيد مش هعارض بس بلاش دmـ.ـو.عك دي .. غاليين عليا.
حاولت التملص من يده ولكنه لم يمنح لها فرصة للهرب :
-بس بس طيب بصيلي كده !!
تحاشت النظر إليه :
-لو سمحت يا هاشم ؟!
-هاشم أيه بس ؟!!! أنتِ عايزة تبقي معايا وفي حـ.ـضـ.ـني وكمان تعيطي ؟!! ليه كوافير حريمي أنا هنا .. بـ.ـنت أنت بصي لي ..
رفع وجهها عنوة لعينيه وقال بنبرة خافتة :
-أنتِ عايزة تعـ.ـذ.بيني بالدmـ.ـو.ع دي .. ولا بتعـ.ـا.قبيني!! هو الواحد ما يعرفش يهزر معاكِ !!
عبرت عن حـ.ـز.نها ببكاء :
-غـ.ـصـ.ـب عني يا هاشم والله مابقتش قادرة ، أنت في شغلك وانا هنا عمري بيتسرق ، حتى الخلفة مش عايزنا نخلف ؟!! أنا زي اللي غمضت عيني ونزلت معاك البحر حتى ولو هغرق بس المهم معاك … ضريبة حبي ليك تعـ.ـذ.بني كده ؟!
لملم شعرها الغجري بحنان ذاخر ثم قطف منديلًا ورقيًا وشرع بتنشيف قطرات الحـ.ـز.ن من فوق وجنتيها بحنـو ثم طبع قبلتي إعتذاره على كل واحدة منهم وقال :
-الكلام ده ما ينفعش يتقال من غير عـ.ـيا.ط يعني ؟! ولا أنتِ حابة تو.جـ.ـعي قلبي وخلاص .
عضت على شفتيها بحيرة :
-أنا عايزة اتكلم ومش عارفة اشتكي لمين ، غـ.ـصـ.ـب عني صبري له آخر يا هاشم .
هب بنبرته الصعيدية قائلًا :
-طيب أيه يراضيكي دلوك وأنا أعمله .. تعوزي لبن العصفور هيجيلك ..
-خليني ارجع لحياتي وشغلي اللي بحبه .. يعني مش هجبرك على الخلفة دلوقتي أنا مقدرة الظروف أهلك وانهم لازم يفرحوا بهارون الأول .. بس على الأقل يكون لي حياة في غيابك ، الوحدة بتقــ,تــلني يا هاشم .
احتوى وجنتيها براحتي كفيه :
-وعد هفكر في الموضوع ده ، ولما اتأكد مفيش خطورة عليكي هخليكي تنزلي .
هتفت معارضـة :
-هاشم أنا مش طفـ ….
سد أبخرة عتابها وعنادها بأنامله :
-رغود مش هيبقى نكد هنا وفي الشغل وفي البلد ؟!! ارحمي اللي خلفوني .. أنا بهرب من الدنيـا ليكِ .
هزت رأسها منسحبة من رحى الحرب بينهم :
-تمام اللي تشوفه ، أقفل النور عايزة أنام ..
شـ.ـد قبضته على خصرها :
-بس أنا مش عايز أنام ..
-هاشم ….. !!
بعينيه نظرة متحفزة للاعتذار قائلًا بنبرته الصعيدية التي تذوب بها :
-انسي .. معندناش حريم تنام قبل رجـ.ـالتها ..
ابتلعت ابتسامتها الخفيفة كي لا تنهزم ككل مرة أمامه :
-هنا عندنا عادي .. لما أجي الصعيد عندكم أبقى مشي عليا عاداتكم ..
بنبرته الحادة هتف :
-رغد ؟!!!
تأففت مُجبرة :
-نعم يا هاشم ؟!
-غيري هننزل نشم هوا .
-ماليش مزاج .
حك ذقنه الأملس وقال :
-خلاص نامي وأنا هنزل أشوف واحدة متنكدش عليا .
اتسعت عينيها بتحدٍ وحزم وهي تقفل باب الغرفة بالمفتاح وتخفيه بداخلها :
-هاشم أنا هروح أنام ، وسيادتك هتسبقني وتنام قبلي ومفيش خروج من البيت .. ولا من الأوضة دي .
-يعني ليلتنا dry night ؟!
هتفت بإصرار :
-هاشم !!!
مسح على شعره بطاعة دون أي جدال وبنبرته العسكرية المعتادة :
-علم وجارٍ التنفيذ معاليـكِ .. تمام يافنـ.ـد.م .
أشارت له ناحية مرقده بنفس النبرة الآمرة بعد ما قفلت الباب عليهما بالمفتاح كأنها أعلنت الحرب عليـه :
-اتفضل نام يلا …
اقترب مطاوعًا من فراشه وهو يرمقها بنظرات خبيثة حتى باغتـها بحملها بقبضة يده القـوية متجاهلًا صرختها وهو يدلف بها إلى المرحاض ويقفل الباب عليهما … هبت متمنعة لقربه :
-هاشم متفقناش علي كده ، أنا كلامي مش بيتسمع ليه ؟!
أجلسها فوق رُخامة الحوض :
-أي الشراسة دي كلها دا أنا اتهزيت ؟!! أنا محدش يستجرى ويكلمني كده في الشغل ولا في البلد.
تمردت قائلة :
-متحاولش مش هصالحك لا .. ووسع بقا عايز مني أيه مش بكلمك يا اخي لحد ما تبطل رخامة !
-مش بعرف أنام من غير ما احلق ؟!
رغد باستنكار :
-ده من أمتى بقا ؟!!
-من الساعة دي ؟!
نال بشـ.ـدقه فوهة غـــضــــبها معتذرًا عما سببه لها من آلام ، رغم عنها هزمت أمام سيف الحب القوي ، فلم تُخلق امرأةً هشة ولم تكن يومًا من النوع الذي يغلبهُ هواه ولكن الأمر كلهُ انحصر في كونه هو …. هو الذي تنحني أمامه جميع القواعد والقوانين ….
••••••••
-أنتَ واعي لحديتك ؟!!
فوهة سلاحه انغرست بجبين ” معتز ” ابن عمه عنـ.ـد.ما علم بحقيقة ميله لفتاة آخرى لا تنتمى لنسل العزايزة .. لم يغمض جفن الرحمة لهارون وهو يشـ.ـد السلاح من يد أحد الخفر ليستقر بين عينه .. ما زال معتز محتفظًا بثباته معارضًا :
-يعني لو هاشم أخوك جيه وقالك إنه رايد واحدة من بحري هتعمل معاه إكده ..
هجر هارون بعنفوان وهو يوبخه :
-أخويا هاشم لو فكر بس قبل ما ينطقها هتكون روحه طالعة في يدي ؟!! مش أنا ولا أنت ولا حد يستجرى يكـ.ـسر عرف لهوارة العزايزة … أنت فاهم … ؟!
تدخل هيثم ليدافع عن ابن عمه :
-استهدى بالله يا هارون ، معتز آكيد ما يقصدش …
جهر بصوته الأشبه بالرعد :
-ولا يقصد …. عند الأعراف الكل يخرس وينفذ ويحط مركوب بخشمه .
هب معتز معارضًا :
-وطالما إكده أنتَ متجوزتش ليه لحد دلوك ؟! ولا أنتَ فالح بس تقول مين يتجوز ومين لا …؟! طالما عارف الأصول زين فين حفيد ووريث خليفة العزايزي ؟؟!
لكزه هارون بفوهة السلاح بكتفه كي يتراجع جالسًا على الأريكة :
-أنتَ كمان جاي تحاسبني يعني بجاحة وقلة أدب ؟!!!
جادله معتز :
-لا جاي أعرف عقوبتي لما اتجوز بت الإعرابي …
طال صمت هارون وهو ينظر لأييه الذي يراقب أسلوبه بالحكم بدلًا منه حتى قطعه مجمهرًا :
-هخلي أبوك اللي معرفش يربيك يرد عليك … سمعنا يا عم رفاعي ردك على حديت ولدك الماسخ ؟!!عشان موال كُل سنة ده مش هنخلصوا منه .
انتفض العجوز من جلسته وهو يحدج النظر بالحاضرين بخجل :
-يتقل هو وهي في الكوشة ..
قطم هارون الحديث وأكمل :
-سمعت، قبل ما يتخلط دmه بدmها ، بنشربوا من دmهم …
ثم أغمض عينيه وآمر :
-كمل يا عمي وسمعنا …
أكمل العم رفاعي ذلك العجوز الذي أصابه الهرم :
-يا أما يتطرد من العيلة ومن البلد كلها ونتبروا منه قصاد كُل الناس .. ويبقى مقطوع مش شجرة العمر كله .. ومالهوش في ذمتنا جنيه …
عارضه معتز غاضبًا :
-أنا مش مجبر أنفذ أعراف وقوانين ناس مـ.ـا.تت وشبعت مـ.ـو.ت ؟!
حدجه هارون بانفعال :
-ولو مكتمتش وقفلت خشمك وقمت حبيت على راس أبوك وأبويا ، هبعتك ليهم وابقى اتعارك معاهم تحت الأرض … قلت أيه ؟؟!!!!
صدر صوت جمهوري من محشـ.ـد الرجـ.ـال وهم يؤيدون حديث هارون بإعجاب :
-عداك العيب يا عمدة ..
تراجع هارون وترك السلاح بيد الحارس ليعود لعرشه بشموخ :
-الحديت خِلص ومعتز وِلد عمي عقل ومستحيل يكـ.ـسر هيبة العزايزة بينات الخلق .. نورتوا يا رجـ.ـا.لة …
نهض كبـ.ـار العائلة واحد تلو الأخر حتى تقهقر العم رفاعي آخر واحد ، فأوقفه نداء هارون الذي لا يحمل الا الوعيد :
-عم رفاعي ، يا تعقل ولدك يا أما البت اللي رايدها مش هيطلع عليها نهار … والموضوع دِه ما يتفتحش مرة تانية ..
قَبل رفاعي على مضض :
-آومرك يا ولدي ، مـ.ـا.تعتلش هم ، أنا هكلمه……
••••••••
~ صباح اليوم التالي ~
بعد ليلة طويلة وصعبة حملة ممنهجة هجمت على رأس” ليلة ” محاولة استيعاب ما مرت بـه ليلة أمس ، هـ.ـر.بت من العالم برُمته بعدmا طمئنت أمها بوصولها ثم قفلت هاتفها وأخذت تهذي مع نفسها حول هويـة ذلك الرجل الذي فشت أمامه أسرارها ومحاولة بحثها عن كبير العزايزة لـ كونه هو من تبحث عنه حتى غلبها النعاس على أحد المقاعد ….. داعبت أشعة الشمس أعينها فاستيقظت لتحكم غلق الستائر وتواصل نومها على فراشها لتغتال مشقة سفر الأمس …
جاءت ” صفية ” حاملة كوب الشاي لابنها الجالس بحديقة منزلهم مع طلوع الشمس يتفحص أوراق المحاجر والأراضي التي تقع في حيازة آل العزايزة .. وضعت الكأس أمامه :
-كوبايـة شاي من يد صفية هتروق عليك .. وتروق يومك .
رد باهتمام :
-سلم يدك ياما …
-حالك مش عاجبني يا حبيبي ، أيه شاغل راسك مش مريحك من إمبـ.ـارح؟!أوعاك كلام معتز فرق معاك !! أقول لك ما تتجوز وتخرسه ، الحديت كتير يا ولدي وكل الخلق مركز معاك .. ومستني يشوف عروستك .
ترك ما بيده ثم نزع نظارته الطبية وبعدها تناول كأس الشاي ليرتشفه .. رشفة واحدة منه ثم قال :
-مشاكل العزايزة ماعتخلصش يا صفية .. من يوم ما قعدت على الكرسي ده مش عارف ارتاح .. كل يوم بمصايبه ..
ثم تنهد بكلل:
-جواز ويبقى زيادة الهم همين ياما !!
انتقلت من مقعدها لتجلس للمقعد المجاور له:
-طيب أنت مش ناوي تريح قلب صفية يا حبيبي ، العُمر بيجري يا هارون والقعدة مافيش منها لازمة .. لازمًا تتجوز يا نور عيني.
أكملت صفية بنبرة لا تقبل أي نقاش :
-الليلة هكلم خالك على زيـنة وتخطبها وتخشوا بعد العيد الصغير ..
ونغم دي غاوية علام ودmاغها بحري كيف فكر هاشم .. وزينة غاوياك ، اخطب لك أنت زينة وهاشم نغم .. وافرح بيكم في ليلة واحدة .. هروح أخبر أبوك .
كاد أن يجادلها معترضًا فتوسلت له بنبـرتها الاستعطافية :
-وغلاوتي عندك ما تكـ.ـسر بخاطر أمك ، زينة دي هتحطك جوة نين عينها .. ونغم خسارة تروح منينا أخوك هاشم أولى بيها .. وافق لو أمك ليها عندك خاطر يا هارون .. ولا عايزني أمـ.ـو.ت من قهرتي عليك ؟!
وثب من مكانه وقبل رأسها مبتلعًا غصة اقتراحها وقال على مضض :
-اللي تشوفيه يا صفية ، أعملي اللي عايزاه …
صفية بفرحة تتقاذف من مقلتيها :
-يا فرج الله ، يا ما أنت كريم يارب ، آخيرًا ، آخيرًا هفرح بيكم ، متتصورش أنا روحي ردت فيّ كيف … الليلة هكلم خالك ، ويجي هاشم نروحوا نطلبوا يدها رسمي..
رد كالمضطر لأمر لا مفر منه خاصـة بعد توبيخ معتز له ليلة أمس :
-أعملي اللي عايزاه يا صفية .. مش فارقـة .
ثم تراجع ممازحًا :
-هو مفيش غير زينة قصادك يا صفية ؟!! ما تدوري إهنه ولا إهنه يمكن تعتري في واحدة غيرها .. أصل زينة دي عفية وراسها فاضية وأنا راجـ.ـل شقيان .
-رايداك يا حبيبي ودي تربية يدي ، يعني هتقولها شرقي هتشرق ، غربي هتغرب .. مفيش أغلب منها.
فرغ من ارتشاف كأسه ثم ضب جلبابه وهمّ راحلًا :
-خدتي اللي عايزاه بكوباية شاي أهو يا صفية ، أهملك أنا عاد ..
ردت بلهفة :
-الود ودي ازغرد بس مش دلوك عشان النقم والعين ما بترحمش .. وعيون حريم عمامك مفنجلة كد إكده علينا .. أنتَ وهاشم في ليلة واحدة بعون الله .
ضـ.ـر.ب كف على الأخر وهو يتساءل ألف مرة بينه وبين نفسه ما الذي يجبره أن يوافق بعرض أمه ؟! أن يقبل بفتاة لم يتحرك لها قلبـه للحظة ، ما الذي يجبره لقبول أمرًا رفضه قطعًا ، جاءت ” هيام ” تركض بلهفة أن تلحق به :
-هارون فينه يا ما أنا مش عارفة أعتر عليه من امبـ.ـارح؟!
-مشي يا هيام .. يلا يلا تعالي نشوفوا عفشتك ناقص فيها أيه ؟!
صرخت هيام بوجهها :
-مش عايزة أشوف حاجة ولا عايزة اتجوز من أصلو وهملوني لحالي عاد .. والجوازة دي على جثتي لو تمت .
تجاهلت صفية صراخ ابـ.ـنتها وحرقة قلبها إثر سطو فرحتها بهارون وهاشم ، اتسعت ابتسامتها بفرحة :
-أهو جلع البـ.ـنتة دهون بعينه ؟! أعيش واشوفك متستتة يابت بطني وأنتِ بتصرخي إكده عشان متهمليش جوزك ..
مرت أحداث اليوم المعتاد سريعًا حتى ذابت الشمس بصحن السماء ، نهضت ” ليلة ” مفزوعة من نومها وهي تنظر للساعة لتجدها السادسة مساءً .. وضعت يدها على شـ.ـدقها :
-يا خبر ؟!! أنا نمت كل ده ؟!!
ثم فزعت من مرقدها :
-شريف قالب عليـا الدنيـا ..
أخذت تركض بالغرفة كالمـ.ـجـ.ـنو.نة وهي تبحث عن أشياءها وتبدل ملابسها وتصفف شعرها وترتب حقيبتها التي انسكبت أرضًا بتـ.ـو.تر وقلق حتى ألغت جميع المهام واكتفت أن تهبط بمظهر مناسب كي تصلح خطأها الفادح بحق خطيبها ..
نزلت من الغرفة تركض كالهائم على وجهه حتى وصلت لاستقبال الفندق وأعطته بصمة الغرفة .. فسألها الموظف :
-آنسة ليلة اتفضلي مفتاح عربيتك ، كانت هنا من ٨ الصبح ..
شـ.ـدت المفتاح بذهول لن يدوم طويلًا مصحوبًا بإعجاب :
-عربيتي ؟!! ده كمان رجعها في نفس المعاد ؟!!
ثم نظرت للموظف بعجل :
-مرسي مرسي اووي ، لازم امشي ….
~على الجهة الآخرى ~
احتشـد رجـ.ـال الشرطة بسرايا خليفة العزايزي يبحثون عن ” هارون ” .. خرج لهما مرتديًا عباءته الصعيدية وجهر :
-محسن باشا خير ؟!!!!
تقدm إليه الضابط باحترام ينعكس بخطواته :
-أنا أسف يا عمدة .. بس ممكن تشرفنـا في القسـم ؟!
-خير ؟!!!
رد محسن بهدوء :
-استجواب على السريع وهتروح على طول .. لو حابب تيجي بعربيتك مفيش مشاكل ..
هز رأسـه هو يتقدm خطوتين:
-هات العربية يا جابـر ..
****
“لا مكان لليأس في قلب يؤمن بأن الله هو متولي أمره .”
تلك كانت آخر جُملة اختتم بها الشيخ هلال خِطبته بعد صلاة العشـاء ليلة الجمعـة كما اعتاد أن يلقى خطبته على المُصليين عشاء الخميس وظهر يوم الجمعـة .. أومئ بخفوت وهو يذكر الله في سره ويحمل مصحفه الكبير ويضعه بمكانه بمكتبـة المسجد .. ثم ألتفت لنداء أحد الشباب بأدب :
-شيخ هلال .. ممكن كلمتين .
طالعه بنظـراته الاستكشافية :
-أنتَ مين !! أنا أول مرة أشوفك تصلي معانا ؟!
عرفه الشاب على نفسـه قائلًا :
-أنا مرتضى وِلد سعيد الغنامي مش من إهنه ، أنا من قِبلي ، بس سمعت عنك كتير وقولت لازمًا أجي أصلي وراك في يوم .
ربت هلال المرتدي زيه الإسلامي الأزهري وقال :
-تعالى أقعد ونتحدتوا براحتنا .
جلس الرجل بمحاذاته تحت أحد أعمدة المسجـد وشرع في التحدث عما يدور بخاطره:
-شوف يا شيخنا …
قاطعته هلال قائلًا بابتسامة يحاصرها نور الرضا :
-ياا لله !! أنا مش شيخ ، أنا عـحب ربنـا .. والـ عيحب ماعيفارقش حبيبه واصل .
تفهم الشاب عدm حبه للفظ شيخ ، فتقبل الأمر بترحاب وقال :
-وأنا جاي عشان اتعلم منك وتاخد بيدي .. شوف أنا مش عارف انتظم في الصلاة واصل .. وكُل ما أصلي وانتظم ارجع اقطع تاني ، قولت اجيلك يمكن يكون عندك الحل ..
انكمشت ملامحـه لغيرتـه الشـ.ـديدة على العلاقات المُقدسـة بين العبد وربه التي يفرط فيها العبد بسهولة ، هز رأسه بخفة حتى ألتقطت أنظاره الدبلة التي تُنير يمين الشـاب ؛ غير مسار الحديث وسأله :
-أنتَ خاطب يا مرتضي!!
رفع الشاب يمينه وهو يتأمل محبس خطبته بـ.ـارتياح :
-أيوة ، خاطب بت عمي وحُب عمري ، وفرحنا الشهر الجاي ، لازمًا هتنورنا وتكتب الكتاب بنفسـك .. سمعت إنك مسكت المأذونية من قريب .
وضع هلال كفه على صدره مُرحبًا بدعوة الشاب بتواضع ثم عاد لمحور سؤاله :
-و لما خطيبتك ترن عليك ، بترد عليها طوالي ولا بتعوق فـ الرد !!
رد الشاب بعفوية:
-دي تخلي يومي مقندل لو مردتش عليها في نفس الوخت .
اتسعت ابتسامة هلال التي لا تُفارق وجهه وقال :
-و أنا كيفك بالضبط .. ساعة ما أسمع صوت الآذان أجري عشان ألحق الصلاة ، ده لو مكنتش قاعد مستنيه ، علشان لو معملتش إكده يومي هيكون مقندل زيك ..
تأرجحت عيني مرتضي بذهول و هو يحاول إدراك المغزى من كلامه، فأتبع هلال موضحًا :
-زي ما عقول لك ، أحس بأن ربنا قفل في وشي كل أبواب الرزق والراحة !! مانا تجاهلت لقائه ونداءه !! شوفت مش عـ قول لك الحبيب هاوي لُقاء ، وأجمل هوى في حُب خالق هذا القلب .
قال جملته الأخيرة وهو يُشير بسبابته على قلبه ، فأكمل واعظًا:
-خلي علاقتك مع ربنا كـ حبيب ، مش كعبد وربه ، صدقني عمرك ما تفارق سجادة الصلاة ولا يهون عليك تسمع النداء ومترمحش عليه ..
-الله يفتح عليك .. كلامك عيريح قوي .
برق الإعجاب بعيني الشاب وببدو أنه اقتنع بنصيحته ، لذا عاد متسائلًا :
-حاجة كمان .. أنا عملت ذنوب كتير قـوي ، بس توبت !! لكن شعور الذنب وأن عمر ربنا ما هيسامحني دايما ملازمني .. قول لي حاجة تريح بالي من وسوسة الشيطان ..
ربت هلال على كتفه بنفس الابتسامـة الهادئة ونظر بعيني الشـاب وهو يروي على مسامعه أحدى قصص الصحابه بتأثر شـ.ـديد :
-في قعدة صفى كده بين الصحابه ، فجاة (أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ) ضحك ؛ فسأله احد الصحابة
“ما الذي يضحكك يا أمير المؤمنين ؟! ”
اتسعت ابتسامته وهو يذوب بحب النبي وصُحبته :
-عارف رد عليه بصوت كله فخر وقاله “لانني اكثركم حسنات !! ”
كان رده غير متوقع خلاهم يبصوا لبعض ، فسأله واحد كمان منهم :”كيف ذلك يا عمر ؟! ”
كمل بنفس اسلوبه المتباهي وقال: “ألــم أكن في الجاهلية أكثركم سيئات !! ”
ثم أغمض هلال جفونه وواصل حديثه بسكينة لحلول القرآن بقلبه راويًا حديث سيدنا عمر :
-وربنا قال في كتابه :
: ﴿ إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾
فاكمل :”وانا تُبت وأسلمت ، فبدل الله سيئاتى بإذنه ، فأصبحت أكثركم حسنات .. وهذا هو وعد الله الذي لا يخلف وعده ”
أشاد الفتى بابنهار:
-الله!! الله يفتح عليك يا أخ هلال .
في تلك اللحظة كان ” هيثم ” واقفًا على باب الجامع يخلع نعله ، فانتبه له هلال الذي وثب مستئذنًا من الشاب وأقبل إليه:
-أي رياح طيبة أتت بك لهنـا يا أخ هيثم ؟!
أمتعض هيثم لطريقة أخيه التي يحدث الجميع بها وإصراره على اقتناء المفردات العربية بالحديث العامي ، زفر هيثم ليبخ سُم أخبـ.ـاره التي لا تعرف الطيب :
-خدوا هارون على المركـز ، يلا نروح له ..
ثم هتف متوعدًا :
-علشان شريف أبو العلا ولد الـ *** لو عملها المرة دي ومشلش هارون من راسه هأخد فيه إعدام ..
تمتم واعظًا وهو يتأهب للرحيل معه ، وبنبرة منفعلة:
-يااااا لله .. ألفاظ خارجة ببيته!!
لا تُكن فظًا غليظ القلب متسرع الحُكم .. سنستنبط الأمر أولًا .
وبخه أخيه بغـــضــــب يتقاذف من بين أنيابه :
-مش وقت حكم ومواعظ وأنا عارفك لا هتحل ولا تبر معاي ، شريف أبو العلا لو ملمهاش هرجعه بلدهم فـ قُفة يا هلال .
***
يروق لي دائمًا وصف نزار عن حبيبته :
“أنتِ خلاصةُ كلِّ الشعرِ.. ووردةُ كلِّ الحرياتْ.
يكفي أن أتهجى اسمَكِ.. حتى أصبحَ مَلكَ الشعرِ..
وفرعون الكلمـ.ـا.تْ.. يكفي أن تعشقني امرأةٌ مثلكِ..
حتى أدخُلَ في كتب التاريخِ.. وتُرفعَ من أجلي الراياتْ..”
ولكن سيظل الأجمل بالنسبة لي رسالـة أحدهم التي لخصت كل القصائد وكلمـ.ـا.ت الغزل :
-أنتِ حُلم كُل رجل ، أنتِ إمراة لا يأتي بها الزمان إلا مرة واحد ..
ثم استعان بوصف نزار مرة آخرى وقال :
“أشهد أن لا إمراة إلا أنتِ .”
#نهال_مصطفى .
•••••••
تحمل صفيـة مائدة الطعام المعدنية التي تحوي على أطباق ممتلئة بالجُبن والعسل والبيض الغارق في السمنة الفلاحي .. ألقت عريضة أوامرها على الفتيات العاملات قبل رحيلهن وهي تُفارق المطبخ بخطوات متمهلة متجهـة نحو غرفة السيدة ” أحلام ” ضُرتها والزوجة الأولى لخليفة العزايزي التي عاشت معه عشرة سنوات حتى حسـم الطب مصيرها بالإنجاب وأنها إمراة عاقـر لا يمكنها أن تُنجب ، حينها أُجبر زوجها أن يتزوج من صفية ابنة عمهما صاحبـة السادسـة عشـر من العُمر وهو صاحب الخامسة والثلاثون عامًا .. تسير صفية على مهلٍ حتى طرقت الباب بخفوت مستئذنة ففتحته وهي تقول لضُرتها السيدة أحلام :
-قلت ألحق اتعشى جارك قبل ما تنامي يا عمة .
سلمت السيدة أحلام الجالسة فوق المقعد على يمينها ويسارها لتختم صلاتها وقبل البدء في أذكار نومها قالت :
-بت حلال يا صفية ، كُنت لسه هشيع لك .
وضعت صفيـة صنية العشاء على الطاولة وقالت باهتمام:
-خيـر يا عمـة ، عاوزة حاجة مني ؟
شرعت أحلام في نزع وشاح رأسها وهي تشكو لها :
-تعالي سرحيلي شعري ، البت لكتـه إكده ومشت ، محدش عيريحني غيرك .
أردفت صفية بسعة رحب وهي تحضر فرشاة الشعر :
-من عيني .. أنا عارفاكي مفيش غير ضفيرة صفية الـ عتريحك .
ما كادت أن تخطو خطوة وتراجعت مقترحة :
-ما نتعشوا الأول قبل الوكل ما يبرد ! دا أنا عملاه عشانك .
أومأت أحلام موافقة اقتراحها ثم قالت متسائلة :
-ألا هارون فين ، له يومين مافاتش عليّ !! الواد دي اتعلم الجفا مـ.ـيـ.ـته !!
قربت صفيـة مائدة الطعام منها وقالت :
-وهو لو جفا على كل الخلق ، عمره ما يجفى عليكي يا عمة .. يلا مدي يدك عشان تأخدي دواكي ، وهخلي البت ترنلك عليـه ويفوت عليكِ قبل ما ينام .
••••••
‏” كل الليالي التي يزورها الحُب ، آمنة ودافئه ”
تنام على يسـارها متأملة ذلك الرجل الذي استمد لون بشرته من سنابل القمح .. والتي تختلف تمامًا عن لوني وجهه ومرفقيـه القاتمة والتي غازلتهم الشمس حتى طبعت بصمتها فوقهـم .. أخذت تمرر أطراف أناملها فوق تقاسيـم جسـده الرياضي صَلب البُنية ، وعيناها تتلألآن بالتسلية التي يغلفها الحُب حتى تمتمت بصـوتٍ خفيض :
-هشومي !!
أتاها صوتـه المفعـم بالنوم وهو يجذبها لحـ.ـضـ.ـنه ، مع ابتسامته السـاحرة :
-منمتيش ليـه ؟!
-مش عايـزة أضيع دقيقة واحدة من غير ما أملي عيني وقلبي منـك حتى وأنتَ نايــم .
ثم همست بصوت لاذع:
-ليه ما ينفعش نكـون مع بعض من غير بُعد !! ليـه حـ.ـضـ.ـنك ميكونش أول وآخر حاجة في يومي !!
انقلب مستلقيًا على جانبه وهو يداعب خصلات شعرها الغجري بجفون يثقلها النـوم ، وأردف مغازلًا :
-وانتِ ليـه مش مبطلة تحلوي ، وكُل يوم بشوفك أحلى وأجمل من الـ قبله .
همست بصوت حنـون :
-صُحابي متجمعين فـ كامب .. تيجي ننزل لهـم ونرجع الصُبح !!
عقد حاجبيـه وكأن الفكرة لم ترق له:
-أنتِ عارفة أنا مش بنسجم مع صُحابك المجانين دول ، بس لو حابة تروحي يلا .
تحمست نبرتها وهي تحاول اقناعه :
-هنقعد لوحدنـا ، بعيد عنهم خالص ، أنا وأنتَ وبس .. بليز يا هاشم اتخـ.ـنـ.ـقت من جو البيت .. أنا بحب أخرج معاك وأعرف الناس كلها إني متجوزة سيادة الرائد “هاشم خليفـة” .
وافق على مضضٍ:
-طيب قومي أجهزي وأمري لله يا ستي ..
-حالًا …
لم تُصدق نفسهـا من شـ.ـدة الفرحـة ، طبعت قُبلة سريعة على وجنتـه كوسام شُكر ثم ركضت بحماس الطفلة لتستعد لرؤية أصدقائها اللذين لم تلتق بهم منذ ثلاثة أشهر تنفيذًا لأوامره .. تقلب في فراشـه وهو يجلب هاتفـه بضيق منعكس بأنفاسه وبنبرته الصعيدية محدثًا نفسه :
-أنا مش عارف فين أهاليهم صحابها دول اللي حياتهم كُلها كامب ومليطة !!
••••••
وصلت ” ليلة ” لقسم الشُرطة الذي يعمل فيه “شريف أبو العلا” بعد كثير من إستعلامها عن الطريق من المارة واتباعها أجهزة التتبع الخاصة .. وصلت لمكتبه بالدور الأرضي وسألت أحد العساكر وهي تحمل حقائب التيه فوق ملامحها والغُربة :
-لو سمحت يا كابتين، مكتب شريف فين ؟!
فسرعان ما وضحت هدفها مستفهمة :
-قصدي يعني الرائد شريف أبو العلا ؟!
أشار لها العسكري والغرابة تحاصر ملامحه حول هيئتها التي لا تدل إنها تنتمي لمركزهم :
-أخر الطُرقة على شمالك هتلاقي مكتبه .
شكرته بعجل وهي تحمل حقيبتها الواسعة التي تحمل بها العديد من الأشياء الغير مبررة وكأنها حقيبة أم لثلاثة أطفال ، طرقت الباب عنـ.ـد.ما وجدت خلاء المكان من أي عسكري فأتاها صوته غاضبًا :
-ادخل ..
فتحت الباب ودلفت بخطواتها السريعة المحملة بالأعذار والعتب :
-يعني يا شريف سايبني في بلد لوحدي معرفش فيها حد وكمان قفلت موبايلك ولا حتى فكرت تتطمن عليا !! وكمان بتزعق لي !!
وثب شريف الذي يحمل نسر رُتبته كرائد ، مندهشًا :
-إنتِ جيتي هنا أزاي !! وأفرضي مكنتش موجود ولا في مأمورية !! ليلة أنتِ لحد أمتى هتفضلي تتصرفي من دmاغك كده ولا كأن في حد في حياتك أنتِ مُلزمة منه !! أنا مبقتش عارف اتعامل معاكِ !! بقول لك يمين بتروحي شمال!! دي مابقتش عيشة !
وبخته بتعجب :
-كل ده عشان نمت من تعب السفر !
انفجر بوجهها غاضبًا :
-ومفكرتيش في الحمار الـ قلب الدنيا عليكِ لحد الساعة ١٢ مستني الطيارة وفي الآخر أنت مجتيش فيها !!
أغــــرورقت عينيها بالعبرات التي تنهار أمام الصوت العالي وأي نبرة تحمل العنف وهي تضع أصابعها على آذانها كمن يُعاني من صدmة نفسية مزمنة :
-شريف وطي صوتك ، حصل معايا ظروف وبدل ما تتطمن عليا وتعرفها واقف بتزعق وكل الـ هامك مصلحتك وأزاي تفضل مستنيني في المطار لحد الساعة ١٢ .
بكل ما أوتى من غـــضــــب ، فجهر بنبرته الغاضبة الممزوجة بتلك الضـ.ـر.بة القوية التي سددها فوق سطح المكتب وقال :
-تصرفات العيال دي !! كل الناس غلط غلط وأنتِ بس الـ صح ، أنتِ عمرك ما هتتغيري يا ليلة !!
ترف جفونها بسرعة غير مصدقة:
-أنت عايز توصل لايه !! كل ده عشان منزلتش عـ الطيارة يعني وجيت بالعربية ! ما أنتَ عارف أنا بحب السواقة والسفر .. حاجة مش جديدة يعني !
وبخها مكملًا :
-حكمتي رأيك ونزلتي بالعربية ، وقفلتي موبايلك لتاني يوم حتى من غير رسالة تطمني وكذبتي يا ليلة !! وجاية تقاوحي وحتى مش بتفكري تعتذري عن غلطك !!اختفاء غير مبرر موبايلك على طول سايلنت .. بتظهري بمزاجك وتختفي بردو بمزاجك ..وأنا مش قادر اتحمل المزاجيـة دي .
تفوهت بثغرها المشـ.ـدوهة من هول الصدmة :
-أحيـه !! أنا لو مش عاجبك كده .. مكمل معايا ليه !! مين أجبرك عليا .. بص لي يا شريف هنا وو
هنا قطع فصل شجارهم المتكرر يوميًا صوت العسكري الذي يقف ورائه هارون العزايزي متواريًا خلف الحائط .. فأردف العسكري قائلًا :
-جناب العمدة وصل يا شريف بيه .
بقبضتين مضمومتين يحاول تمالك أعصابه ، فـ أشاحت أعنيه لعندها وقال بنبرته التحذيرية وهو يشير نحو الأريكة السوداء التي تبعد قليلًا عن مكتبه :
-اتفضلي أقعدي هنا ومسمعش نفسك يا ليلة .. أنتِ فاهمة !
اكتفت بإصدار زفيرًا قويًا وهي تحمل حقيبتها وتجلس حيثما أمرها على مضض، عاد هو الآخر لمكتبه لمواصلة عمله وأمر العسكري بضيق:
-دخله أما نشوفه هو كمان .
جلست ليلة على تلك الأريكة وهي تهز في ساقيـها المتـ.ـو.ترة وتقضم بأصابعهـا ثم أخرجت هاتفها لتغتال به كافة مشاعرها المضطربة كعادتها .. وفي تلك الأثناء دخل هارون وهو يرتب عباءته الصعيدية متحمحمًا بصوتـه الأجش وقبل أن يسمح له شريف بالجلوس ، سحب المقعد المجاور لمكتبه وقال :
-خيـر يا شريف بيه !! كُل يومين لازمًا تبعت لي نتسايروا ! أنتَ مش وراك غيري اياك ؟!
رفع شريف جفـونه نحو العسكري :
-شوف هارون بيه يحب يشرب أيه ده بقى صاحب مكان .
-ولا حاجة .. مش جاي اضايف ..
رفع كفـه معترضًا وهنا تعلقت عيناه بذات الأعين البندقية التي التقى بها ليلة أمس .. شبح ابتسامة خبيثة رُسـم على محيـاه ثم عاد للضابط شريف كي ينجز مهمته الثقيلة على قلبه :
-في ايه يا شريف بيه المرة دي!
-متقلقش كده يا عُمدة ، كلمتين على الماشي وهتروح ..
تأرجحت عيني ليلة صوبهم وهي تتأكد مما تراه ، صُدفة جديدة للقدر ليجمعها بذلك الشخص الذي التقت به قبل أن تبحث عنه وكأنها خطة مجهولة من الأقدار لا تعلم عـ.ـا.قبتها ، ترف جفونها بسرعة غير مصدقة حيث وجدته جالسًا مع خطييها الذي لا يعرف السبب الحقيقي لمجيئها هُنا بل خدعته وقالت أنها ستلتقط بعض الصور للمعالم السياحية بالمكان لتقرير صحفي مميز .. وبعينيها اللاتي تتلألآن بالقلق غمغمت لنفسها بتيـهٍ :
-أحيــــه !!
بدأت أن تتابع حديثهم بفضول بعد ما فتحت التسجيل الصوتي على هاتفها ، رأته يدير الخاتم ذو القبة السوداء بإصبعه ويقول :
-قصدك أيه يا بيه !!
احتدت نبرة شريف قليلًا وقال بصوت مبطن بالاتهام :
-بيت سويلم مقدmين بلاغ أن رجـ.ـالتك ضـ.ـر.بوا عليهم نار إمبـ.ـارح في فرح أخوهم .. أيه رأيك في الكلام ده يا عمـدة ؟!
يحدق بوجهها ميلا حيث تلاقت أعينهم لجزء من الثانية ، مازال محافظًا على ثباته وهو يدب بسبابته على سطح المكتب بهدوء وأجاب بثبات :
-محصلش طبعًا .
هز شريف رأيه غير مقتنعًا بإنكاره إثر علمه بالخلافات القائمة بين العائلتين ، اتكئ على مقعده وهو يطالع العسكري الذي يكتب بجانبه :
-ممكن تقولنـا كنت فين إمبـ.ـارح يا عمده !!
رفت جفونها بخــــوف من أن يكشف سرها ليلة أمس وهي تحبس أنفاسها ، رد هارون باختصار :
-أي ساعة بالظبط ؟!
رد شريف بمكر مصرًا على إثبات التهمة عليـه :
-من أول اليوم .. ممكن تقولنا .
عقد حاجبيه محاولًا استعادة شريط اليوم الماضي وقال بفظاظة :
-كُنت في سوهاج بخلص مُصلحة .
بنظرة اتهامية سأله :
-ورجعت أمتى ؟!
-قُرب العشيـة .
لم تتوقف كفوفها عن الحركة وهي تراقبهم بذعر يتقاذف من مُقلتيهـا .. لم يتوقف شريف عن أسلوبه الاتهامي وأكمل :
-ضـ.ـر.ب النار حصل الساعة ٩ بالليل .. معني كده كُنت وصلت البلد يا هارون بيه !!
حدجه هارون رافضًا اتهامه بعصبية :
-حد فيهم قال لك أنه شاف هارون العزايزي ضـ.ـر.ب عليه نار !! هاتهولي وأنا اخزق لك عينيه .
قفل شريف جفونه للحظة كي يتخذ نفسًا ويفكر قليًلا في كيفية التعامل مع ذلك الرجل الثُعباني الذي لم يستطع إدانته حتى الآن، فقال :
-أهدى يا هارون بيه إحنا هنـا بندردش بس وانتَ مش متهم ، دي إجراءات لابد منها ..
جهر بعصبية :
-وأنا جاوبت وقولتلك كُنت في سوهاج وبعدها كان عندنا مجلس في المندرة ..
رمقه شريف بنظرة محتدة :
-المعلومـ.ـا.ت الـ عندنا بتقول أنك وصلت المجلس متأخر الساعة ١٠ بالدقيقة .. وأنتَ لسه بتقول رجعت العشا !! يعني كان في ساعتين مجهولين والـ حصل فيهم نوش وضـ.ـر.ب نار !! كُنت فين الساعتين دول يا هارون بيه ، ده لو مكنتش مع رجـ.ـالتك فـ الفرح!!
أصدر صوتًا متفهمـة وهو يُجاري ذلك الضابط الذي لم يتوقف عن محاولات توريطه ، ومع ابتسامة غامضة وهو يطالع ليلة التي تفاقم تـ.ـو.ترها :
-ما تقول إكده من بدري !!
ثم عاد ليطالعه:
-مع إنه ما يخصكش ، بس هقول لك عشان نقفلوا على الحديت ده من أبو آخر ..
مال شريف مستندًا بمرفقيه على سطح مكتبه وبنبرة خافته خارجة من وراء فكيه المنطبقين ، كرر سؤاله :
-كُنت فين يا عُمدة من ٨ لـ١٠ بالليل ؟!
كان معصوب العينين وعلى محياه تلك الضحكة الخبيثة التي لا تُفارقه مع كل جولة ينتصر فيها وبنبرة مُغلفة بالأريحية وهو يُشر ناحية ليلة الجالسة بكتفين متجمدين و ركبتان تصطكان ببعضهما وبأعين متسعة ، أكمل :
-كُنت برحب ضيفتي الجديدة ..
ثم دار بجسده نحوها وأكمل بثقة لا تقبل شكًا :
-المذيعة ليلة الجوهري .. اتعشينـا وحكينا وخدت واجبها ووصلتها لحد اللوكاندة بنفسي .. وأهي قاعدة عندك واسألها .
-أحيـه !
نوبة من الشلل المفاجئ بعقلٍ يتلوى بجمجمتها من شـ.ـدة الصدmة وتلك التهمة الجديدة التي زادت الأمر سوءًا بينها وبين شريف الجالس وهو يأكلها بأعينه الغاضبـة ، شهقت ليلة محاولة تبرئة نفسها ، فوثبت كالملدوغة وهي تنفي كل ما قاله بثرثرة :
-لالا !! الكلام ده محصلش .. شريف أوعي تصدقه !!
وقف أمامها متحديًا وهو يجلي حلقه ثم قال :
-هو أيه الـ محصلش يا استاذة !!
ضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها الأرض وهي تتوسل له بأعينها كي يصمت :
-أنتَ كذاب .
ضـ.ـر.ب كف على الأخر ، مكملًا مسرحيته إثر جهله بصلتها مع شريف ولم يعٍ حقيقة كونها خطيبته :
-خيرًا تعمل شرًا تلقى !! يابت الناس أنتِ مش كُنتِ معاي إمبـ.ـارح !! أنا كدبت في أيه ؟
ثم غمز بطرف عينه بمكر الثعالب :
-بأمارة سندوتش الكُفتة الـ عجبك من عند تـ.ـو.فيق مشاوي !! أنتِ الـ مش عاوزة تقولي الحقيقة ليه هتورط في مصـ يـ بـةبسببك !!
بعجز تام ثرثرت :
-اسكت !! ممكن تسكت .. أنت متعرفش حاجة أنت !!
ثم غمغمت بحسرة :
-كُل حاجة باظت !!
أدركت فشلها الذريع في الجدال معـه ، فتوجهت نحو شريف الذي أمر العسكري أن ينصرف وهو يتوقد في حقل غـــضــــبـه .. اقتربت منه متضرعة :
-شريف أنتَ مش فاهـم .. مشي الجدع ده وخلينا نتفاهم!!
تجاهل شريف حالتها الهستيرية التي حلت بها ونظر لهارون وهو ينزع سلاحه من خصره ويلقيه بالدرج وسأله بصرامة :
-وأيه يثبت أن الاستاذة كانت معاك إمبـ.ـارح ، في شهود ؟!
رفع هارون ساقه اليسرى فوق المنضدة الصغيرة التي تتوسط المقعدين الل ، واستند عليها بمرفقه وقال بفظاظة مستمتعًا بحربه معها :
-طبعا ، عندك موظف أمن اللوكاندة ، والكاميرات ، وكمان دنقل الميكانيكي طبعا عارفو كان بيصلح لها عربيتها طول الليل .. وغير كل ده والأهم …
ثم حدق بها ولا يرمش مبتسمًا وهو يضع مفتاح سيارته على المكتب :
-محفظة الاستاذة نسيتها إمبـ.ـارح في عربيتي ولو بعتت عسكري لبره هيلاقيهـا في الحفظ والصون .
تنظر إليه نظرات محمومة ، وهمهمت:
-الله يخربيتك .. !!
ثم انفجرت منادية بنفاذ صبر وهي تتشبث بمعصمه كي يلتفت إليها :
-يا شريف !!
صرخ شريف مناديًا على العسكري بصوته الذي ينافس صخب الرعد ، فـ لبى العسكري النداء على الفور :
-تاخد متفاح عربية جناب العمدة ..
ثم أشاح بنظره لهارون على أملٍ أن يُكذبه :
-قوله هيلاقيها فين !!
حدجهم هارون محاولًا معرفة صلة القرابـة بينهما ولكنه سرعان ما نفض غُبـ.ـار فضوله مغيرًا هدفه بأن يُغطي على جريمته والتي كان ورائها بالأمس .. مد المفتاح للعسكري ووصف له مكان حافظة النقود الخاصة بـ ليلة التي شرعت أن توضح ما حدث لشريف جنبًا ولكن رفض قطعًا سماع أي جُملة قبل إنهاء تلك المهزلة وما الذي يجمعها بشخص مثل هارون العزايزي المعروف بمكره ودهائه .. سيل من النظرات المتنوعة يتدفق بينهم .. هناك أعين تحمل وميض الظفر ، وأعين تحمل العتاب والحسرة وآخرى مدججة بالغـــضــــب التي يتطاير منها .. مرت لحظات قليلة حتى عاد العسكري وبيده حافظة ليلة الشخصية التي سقطت بسيارته ذلك اليوم .. ووضعها على مكتب شريف الذي انحنى ملهوفا وهو يفتش بها .. إذن ببطاقاتها القومية والبنكية وصورة أبيها
تبادلت النظرات الحارقة بينهم .. تراجعت للخلف وهي تقضم في أظافرها حركتها المعتادة عنـ.ـد.ما يحل بها كابوس التـ.ـو.تر الذي تتعالج منه ، كان الغـــضــــب يتطاير من عيني شريف الذي طأطأة رأسه أمام هارون وعاد موبخا لليلة :
-ايه دي ؟!
احتضنت دmارها كي تقف بوجه التيار وشـ.ـدت الحافظة من يده :
-بتاعي ، كانت ضايعة .
-والله !! وبتاعتك بتعمل أيه فـ عربية هارون العزايزي ؟!
لقد وقعت ضحية مخالب مكره .. رمقته بعتب وما كادت ان تتفوه فقطع حديثها قائلًا:
-طيب دي مسائل عائلية أمشي أنا يا شريف بيه .. ولو عوزتني عارف هتلاقيني فين !
تكورت يده متحكمًا بأعصاب .. دار نحوه قائلًا بتلك النبرة الغليظة التي تحمل التهديد والتوعد وأن الجولة لم تنه هنا.. رمى له صورة المحضر المكتوبة وقال باختناق :
-أمضي هنا ..
لم يمسك بقلم شريف الرديء بل أخرج من جيبه العلوي قلمًا من الفضة محفور عليه اسمه صُنع خصيصًا لأجله .. وقع على المحضر بإمضته المميزة ثم قفل قلمه ورجعه بمكانه :
-استئذن أنا عاد ..
امتلأت شقوق ملامحها بالقلق وهي تمسك بحقيبتها وتضع الحافظة بداخلها متعمدة أن تذهب كي تلحق بذلك المتغطرس الذي تركها على حافة الهاوية ورحل وهي تغمغم بنـ.ـد.م :
-وأنا الـ قولت عليك جدع وشهم .. طلع ندل بصحيح !! كل حاجة باظت فوق دmاغك ياليلة !! أهو هو ده الـ مش عاملة حسابه .
ثم أسرعت لتناول بعض الأقراص المهدئة مستعينة بقارورة الماء الموجودة على مكتبه هذه الأقراص التي تواظب عليها طوال الأربعة أعوام منذ رحيل والدها .. قفل شريف باب المكتب دون أن يلتفت لما فعلته ثم انقض على رسغها بعنف لتقف أمامه كالطير المبلل بسيـل الغيوم الضبابية التي انصبت جميعها فوق رأسها :
-أحكي لي أيه علاقتك بالزفت ده يا ليلة !!
عاندت إثر صوته المرتفع الذي يعرف جيدا بإنه يرعـ.ـبها ولكنه دومًا ما يستهين بتلك الأعراض ظنًا منه بأنه دلال زائد منها :
-أنت بتشك فيا ؟! وصدقت كلام المـ.ـجـ.ـنو.ن ده ؟!
رفع حاجبه محدقا بها :
-الله !! يعني الـ قاله مش صح !!
ردت بثقة ممزوجة بالبراءة :
-طبعا بيكذب .. أنا مأكلتش معاه كفته ده بيألف من دmاغه .
بدأ غـــضــــبه يتصاعد مجددًا :
-ليلة !! بلاش أسلوبك المستفز ده !! ت عـ.ـر.في هارون العزايزي من أمتى ؟!
تفاقم تـ.ـو.ترها وهي تعارضه مصرة ألا تضعف أمامـه وأمام اتهامـ.ـا.ته :
-انت بتصرخ في وشي عشان حاجات تافهة ، متستاهلش الصراحة..ودي مشكلتك عمرك ما حاولت تسمعني للاخر دايما أنا غلط وكل حياتي غلظ ومش عاجباك .
قالت جملتها وهي تشيح بظهرها وتحمل حقيبتها فأوقفها :
-أنتِ رايحة فين !! مفيش مشي من هنا غير لما أعرف ت عـ.ـر.في الزفت ده أزاي ومن أمتي ؟!
تأففت على مضض:
-أنت مش عايز تصدقه !! اتفضل صدقه يا شريف .. مش هو ده ال عايز توصله ؟؟
صرخ بوجهها فأجبرها على الإنصات إليه :
-محفظتك في عربيته كانت بتعمل أيه يا ليلة ؟!
-أكيد وقعت وهو بيوصلني إمبـ.ـارح .. لان عربيتي عطلت على الطريق وعرض عليا يوصلني وبصراحة الرجل كان منتهى الشهامة والجدعنـة .. معرفش استندل ليه هنا ؟؟! وده الــ لازم اعرفه ؟!
وقف على نصل حماقتها :
-هو ده كل الـ هامك ؟! وكل ده بسببك وسبب جنانك .. وبصراحة كده الفيلم العربي ده ما دخلش عليا ؟!وهكلم عمتي دلوقتي وتقول رأيها في الجنان ده .
أربكتها سيرة والدتها حادة الطباع.. فانحنت شوكة تمردها :
-شريف أنتَ لازم تسمعني !! معقولة هتصدق كلام المـ.ـجـ.ـنو.ن ده وتكذبني !!
بنبرتها الانفعاليـة التي تحمل التبرير أردفت جملتها الأخيرة وهي تقف أمامه رافضـة فكرة ذهابه قبل أن يستمع إليها، حدجها شريف بنظرته الاستكشافية وهو يمسك كفها الخالي من محبس خطبتهمـا :
-فين دبلتك يا ليلة ؟!!!!
-ماهي كلمت بقا ؟!
غمغمت بحسرة وهي تفحص أصبع يدها اليمنى :
-أحيـــة !!فين الدبلة يا شريف؟!
ثم نظرت له بتوجس وأعين متراقصة :
-شكلي نسيتها في اسكندرية !!
اكتفى شريف قائلًا وهو ينزع دبلتها ويضعها بكفها الرقيق :
-خلصت يا ليلة .
ثم جهر مناديًا على العسكري الذي أمره قائلا:
-توصل الهانم للفندق بتاعها .. والصبح تعدي عليها توصلها المطار عشان ترجع لبلدها ..
~بسيارة هارون ..
“دع الندامة لا يذهب بك النـ.ـد.م .. فلست أول من زلت به قدm ..هي المقادير والأحكام جارية ”
مهما مرت المواقف عليه لم يتخلى عن الشعر الذي يونسه دومًا .. ألقى على مسامعه تلك الأشعار الخاصة بابن معصوم المدني .. كي يخمد صوت ضميره المتصاعد عما فعله مع هذه المسكينة !! ربما يكون أخيها ابن خالتها ؟! قريبهم .. أو حبيبها ؟!! هنا سقطت أنظاره على دبلتها المندسة نصفها بزاوية معقد سيارته.. أمسك بخاتم خطبتها الصغير وكأنه ينتمي لطفلة لست إمراة جميلة مثلها وهو يديره أمام عينيه يحدق به ولا يرمش .. ابتسامة شاحبة رُسمت على محياه ولكنها مؤلمة :
-شكلها مُرزقة وتستاهل!!
مازال واقفًا أمام قسم الشرطة ففاق هارون على صوت هيثم المتأهب لدخول حربه مع شريف ، حيث هتف متحمسًا :
-شريف أبو العلا لازم يتربى يا هارون .. المرة دي مش هنعديهالـه زي كُل مرة ..
رمى دبلتها بداخل جيبه الصغير وفتح باب سيارته وهبط منها قائلًا بتفاخر :
-لا المرة دي أنا الـ علمت عليـه .. ولسه ، هيفضل ينخور في حفر ورايا ، هدفنـه فيها بالأخير .
تدخل هلال الذي يحمل سبحته الخشبية وسألته :
-ما الأمر يا هارون !
عقد ذراعيه أمام صدره متكئاً على سيارته:
-بيحاول يوقعني بس مش هيقـدر ..
هتف هيثم متهامسًا لأخيه كي لا يصل اتفاقهم للشيخ هلال:
-بردو سيبني أعلم عليه ، وأجيب رأسه الأرض .. ده تعبان ومش هيجيبها لبر أنا عارفو .
“منذ رحيل والدي بات اليوم بطول عام ، مضى زمن طويل وأنا أمضي معه .. بمنتهى الحماقة سقطت مني أحلامي وأمنياتي وقوتي التي أهش بها على أوجاعي ، انتهت قصتي مع ذلك الرجل الذي ظننت أنه سيعوضني عن حـ.ـضـ.ـن أبي ، لم يبقى لي حـ.ـضـ.ـن واحد لأرتمى به ، حتى أمي حـ.ـضـ.ـنها جاف صلب لا يكلفني إلا أوجاع جديدة ..
بات الخــــوف يسكن خلايا جسدي أمضي هكذا وفي صدري أوهام كثيرة ومخاوف مرضية أخاف أن أقف فأسقط، أخاف أن أسقط فلا يلتقطني أحد، أخاف أن أمضي فيمضي الزمان معي.. ولا أصل أبدًا … ”
خرجت من قسم الشرطة تجر في ذيول خيبات يومها ، لقد خسرت نفسها للمرة التي لا يمكن إحصاؤها ، خسرت حلمها الوحيـد الذي قطعت أميال لأجله .. وآخيرًا تخلى عنها ذلك الرجل الذي كانت تحتمي بكتفه حتى ولو كذبًا حتى ولو لم يلفح قلبها بدفئ الأمان يومًا ما .. توقفت لبرهة لملمت فيها شعرها المموج للخلف وما سقطت عينيها على هارون الواقف مع رجلين يحملان يشبهونه قليلًا .. رمت حقيبتها بيد العسكري واندفعت بكل شرورهـا نحوه ، هتفت بوجهه صارخة:
-أنت عملت كده ليـه !! دي مش أوصول ولا مرجلة على فكرة !!
ما أن اخترق صوتها مسامعهم ، طأطأ هلال وجهه بالأرض منغمسـًا بلف سبحتـه بعجـلٍ ، أما عن هيثـم الذي دار لهـا وهو يتفحصها من رأسها للكاحل مع صوت صفيره المسموع متمتمًا باندهاش :
-أوعى تقول أن دي المجرجراك على القسم !! أنا ممكن اتجرجر وراها لأبو زعبل عادي..
رمقته ليلة بخــــوفٍ يملأها إثر نظراته الفاضحة ، وهي تتراجع للوراء موبخه :
-أنتَ مين أنت كمان !!
أخترق هارون صف أخوتـه وسحبها خلفه ممسكًا بمرفقها بخفة :
-تعالى ..
غرق هيثم في جمالها الذي لم يراه على أنثى من قبل .. اقترب من أخيـه مشـ.ـدوهًا ذائبًا في تفاصيل تلك الجميلة التي سرقها أخيهم من بينهم ، كانت ترتدي فستانًا أسود من الصوف ينحت تفاصيل جمالها يصل لتحت ركبتها ويغطى فراغ ساقها ذلك الحذاء الطويل باللون الأحمر .. يعلوه سترة قصيرة من الجينز الأزرق وحول عنقها شالًا منقوشًا .. تنهد ذلك الهيثم يشكو صبابته لأخيه الذي دار وجهه عنها :
-أنا أتاكدت أن عمري ما شوفت بنات قبل كده يا هلال يا أخويا !! أيه الإصدار ده ده أول مرة ينزل نجع حمادي !!
تحمحم هلال واعظًا بخفوت :
-لك النظرة الأولى وعليك الثانيـة .. اتقي الله يا هيثم وغض بصرك ، هذه فتنة للقلب .
هام هيثم بخصلات شعرها المتطايرة وهي تتحدث مع أخيه :
-طيب خُد الأولى بتاعتك وملي عينك عشان تعرف أنا بتكلم عن أيه ، وسيب لي التانية والتالتة ولأخر عمري واقف اتفرج عليها فِرجة .. البت كيف القمر .. لا هي تقول للقمر قوم وأنا هقعد مكانك .. دا أحنا معندناش حريم يا جدع !
لم يتحمل هلال سماع المزيد ، فـ جهر مُعلنًا :
-ياااا لله !! لا تسهب البصر ، فهو أول بوابة للشيطان .. كُف عن ذلك الله يُنير قلبك ودربك !!
-دي من المحرمـ.ـا.ت في عُرفنا يا أخ هلال يعني نتفرجوا عليها براحتنـا .. هو لا وكل ولا بحلقة ؟!!
أتكئ هيثم بمرفقيه على السيـارة متنهدًا :
-كراميلا .. حتة بسبوسة بالقشطة..
ثم جهر متمردًا على أعرافهم :
-روح يا اخي منهم لله العزايزة ، يسـد نفسهم زي ما سادين نفس الواحد عن الحريم الحلوة دي ..
كاد هلال أن ينصحـه فقطعه هيثم بنفس النبرة الهائمة :
-أنا حاسس أن الكراميلا دي هتبقى هي حُب عمري الحقيقي !!
ضـ.ـر.ب هلال كف عـلى الأخر بعجز في إرجاع أخيه عن غزله الصريح :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم أشار محذرًا :
-أن لم تصمت عن حديثك الخادش للحياء سـ ..
قاطعه هيثم متفهمًا :
-اتخرست .. هتفرج وأنا ساكت ..
غرزت سبابتها بصدر هارون وهي تعاتبـه بلوم :
-سؤالي واضح !! رد عليا من غير لف ودوران لو سمحت .. ليه عملت كده !! أنا عملت لك أيه لكُل ده ؟!
رد بإيجاز وهو يتحاشى النظر إليها :
-كُنتِ هتعملي وجاية وناوية على خراب ..
كادت أن تفقد عقلها من برودة أعصابه ونبرته الجـ.ـا.مدة التي يتحدث بها :
-متجننيش !! طيب على فكرة بقا أنتَ مطلعتش جدع ، ولا شهم .. ولا بتحفظ السر .. وكمان كذبت عليا وفهمتني أنك بتشتغل عن جماعة تانيين وأخدت كُل معلومـ.ـا.تي وماقولتش إنك العُمدة الـ هنا !!
ثم ازدات نبرتها حدة من شـ.ـدة غـــضــــبها منه :
-وكمان بسببك أنا وخطيبي سيبنا بعض !! يعني شغلي باظ وكمان فرحي الـ كان بعد كام شهر بقا مفيش فرح خالص !! مرتاح أنتَ كده !!
عقد حاجبيـه متسائلًا بفضول :
-شريف أبو العلا يبقى خطيبك !!
ظلت ترمقه بنظرات خرساء ثم تأففت بنبرة موشكة على البكاء :
-أيوة يا سيدي ، مفاجأة مش كده !! وبعدين تعالى هنا !! أنا مأكلتش معاك كُفتة !! دا أنت حتى ما عزمت عليا بكوباية مية من أصلو .. قلت له كده ليه طيب !! بتكذب وتقول حاجات محصلتش ليه !!
ثم التفت لهلال صاحب الزي الأزهري .. فهرولت نحوه بخطوات واسعة تابع هارون خُطاها مناديًا ولكنها لا تُلبي النداء حيث كان يقود خُطاها غــــرور الصبا .. لكزه هيثم بمرفقه بقلب يتراقص فرحًا :
-ولاه يا هلال !! حتة القشطة جاية علينا يا ولاه .. طيب بص بصة وصوم كفارة تلات أيام .. يخربيتك متبقاش فقري ..
بدّ على ملامحها الضيق من نظرات هيثـم الهائمة .. تجاهلته تمامًا ثم أشارت لهـلال :
-باين أنك شيخ وتعرف ربنـا .. لو سمحت احضرنا وأحكم بالحق عشان الجدع ده شكله أونطجي ..
زفر هارون بامتعاض :
-كانت ليلة سودة يوم ما قابلتك يا شيخة ..
ثم هتف مناديًا كي تصمت :
-أنتِ يا ست !!!
تدخل هيثم معاتبًا :
-هما بيجوا للساكت ويكلموه ليه !! أنا ممكن أحكم عادي وبعرف أخذ وأدي في الحديت. ..
-خليك في حالك أنتَ .
زفرت باختناق وهي تلوح له بكفها فـجاء هارون وأبعد أخيه المائل نحوها وحدجه بنظرة تحذيرية ، حيث هتف قائلًا :
-ما خلصنا يا سـت ، شوفي أيه يرضيكي وأنا أعمله وفُضينا عاد !!
نظرت له بحزم :
-لما اتكلم مع فضيلة الشيخ تسكت خالص .. ولا عشان عارف بغلطك مش عايز تتفضح !!
تحمحم هلال بإحراج وهو لم يرفع عينيه عن الأرض وقال:
-يا الله !! ربنـا ما يجيب فضايح .. ما هو الأمر الذي فيـه تستفتيان !!
وبخه هيثم باهتمام وهو يدنو منها قائلًا :
-هو أخويا هارون عمل أيه !!
صرخت ليلة بوجهه :
-قُلت خليك في حالك أنتَ ..كلامي مش معاك .
حدجه هلال كي يصمت ثم عادت أعينه متدلية بالأرض متحدثًا بلهجتهـم :
-أخي هارون عمل لك أيه ؟!
ثم عادت لهلال وأتبعت بغـلٍ:
-الـ عاملينه عُمدة ده طلع شخص مش محترم ومش أد كـ …
قاطعها هيثم مستفهمًا :
-متهم تـ.ـحـ.ـر.ش!! ياريت ؟! ده خايب وميعملهاش؟! بس أنا أعملها عادي .
بكُل ما أوتيت من نيران دارت نحو هيثم كي تضع له حدًا :
-مش أنا قلت لك خليك في حالك !!
زفر هلال بنفاذ صبر أما عن هارون اتكئ على سيارته وأشعل سيجارته كي ينفث بها صوت ثرثرتها .. تفوه هلال بملل من عبث أخوته الذين اعتادوا على فعل تصرفات لا تروق له ، وقال بهدوء وعينيه لم تفارق تلك البؤرة التي صنعها حذائه :
-بالعقل ، أخويا هارون عمل أيه ، لعل وعسى يكون فيه سوء تفاهم .
رمقته بغل فوجدته غارقًا في سُحب دُخانه الذي أشعل المزيد من الغـــضــــب بجوفها وقالت بيأس :
-أخوك خرب بيتي يا عم الشيخ .
تدخل هيثم مندفعًا بالحوار وهي يدنو منها :
-يخربيت أبوه !! على طول كاسفنا ..
فأتاها صوت هارون ساخرًا من تصرفات هيثم التي تضحكه دومًا وقال بفظاظة متعمدًا إثارة غـــضــــبها :
-طيب على فكرة أنتِ طلعتي زي القطط الـ بتاكل وتنكر .. يعني نسيتي توصيلة إمبـ.ـارح ، وكمان تصليح عربيتك الـ مخدش حقـه ، وواقفة تشتكيني زي العيال لأخواتي !
قطعه هيثم مُتفاخرًا بشهامة أخيـه :
-ما هو الرجل صلح لك عربيتك أهو زعلانة من أيه بس !!
ردت بإحباط إثر اتفاق الأخوة عليها وقالت بنبرة ساخرة :
–والله !! أخوك ده كتر خيره ، صلح عربيتي وبوظ حياتي.
تدخل هُنا العسكري الواقف جنبًا يحمل حقيبتها :
-يا استاذة الوقفة دي متصحش ، شريف بيه ممكن يجازيني فيها !!
رمقته بنظرة توحي بقبول طلبه ثم تجاهلت الجميع ووقفت أمامه رافعة سبابتها بوجهه ، وهي تطرد الحروف من قاع غـــضــــبها منه :
-اسمع يا هارون العزايزي أنت .. أنا مش عايزة أشوف وشك تاني ، عشان لو شوفتك مرة كمان صدقني هتزعل .
أشاح بوجهها في استهانة ثم ظهر الإنشراح على أساريره ، فألقى السيجارة من يده ثم سحقها بمقدmة حذائه جاهرًا وهو يُطيل النظر بعينيها التي أعلنت عليه الحرب :
-يلا بينا يا هيثـم !!
تدخل هيثم معترضًا :
-يلا بينا على فين !! والله ما يحصـل .. الست واقعة في مشكلة ، ومحدش هيحكم فيها غير الحج خليفة العزايزي والشيخ هلال !! ولا ايه ؟!!
ثم اقترب من ليلة خطوة إضافية :
-أنتِ تركبي العربية معانا ونروح على البيت ونحلو خلافك مع كبيرنا !! قولتي أيه ؟! يلا بينا على المندرة !! وتاكدي حقك هيرجع تالت ومتلت فوقه ألف بوسة مني.
عصفت بها سلسلة احاسيس متتابعة من الغـــضــــب ، فاكتفت بنبرة ساخطة لا تختلف قليلًا عن تلك التي طالعت هارون بها .. ودارت ظهرها ناظرة للعسكري :
-يلا أنت كمان ..
جهر هيثم نادmًا :
-طيب اسمك أيه على الفيس بوك ابعت لك طلب صداقة !!
يأس من ردها فدار على شماله وجد هارون استقل سيارته .. كاد هلال أن يركب مع أخيه فأوقفه :
-أنت رايح فين يا هيـلو .. خد كده مفاتيح عربيتي وحصلنا وانا هركب مع هارون ..
ثم أدخل رأسه من نافذة السيارة قائلًا :
-يا هرن تحكي لي قصة البت دي من طقطق لسلامو عليكو .
-لو قلت هِرن دي تاني !! هدوسك بعربيتى ، وحل عن سمايا الليلة دي يا هيثم .
قفز هيثم بداخل سيارته :
-وربنا ما هحلك غير لما أعرف ، ده أنا وزعت هلال عشان ناخدو راحتنا .
•••••••
امرأة تنتمي لنسل الفراشـات ، جمالها خفـة روحها أن حلت بمكانٍ زادته بهجـة .. بألوانها الخلابة التي تلف الأنظار مثل رونق ملامحها المتميزة التي توحي بأنها من سُلالة جميلات البدو .. جاءت رغد المتمسكة بمرفق هاشـم بوجهها الضاحك مما جعل كل الأنظار تلتف إليهـا ، مرتدية فستانًا باللون الأبيض طويل ذو أكمام طويلة بناء على رغبته ، وتعقد فوق رأسها وشاحًا بالطريقة السيناويـة، ضمت ذراعه لصدرها وقالت بسعادة وهي تتفقد المكان الصحراوي المُطل على البحر :
-مش متخيلة إنك وافقت .. الله يا هاشم ، أنا ليـا هنا ذكريات جميلة أوي ، بس تعرف كل ده ولا حاجة قصاد إننا سوا ..
تحمحم بخفوت وهو يتهامس بأذنها ناصحًا :
-رغد ، تقعدي جمبي ومتتحركيش ، ومش عايز ضحك ومرقعة وتفضلي ساكتـه ، عشان صحابك دول كُلهم شمال وأنا مش بالعهم .
توقفت معارضة على أعتاب ” الكامب” :
-والله ، طيب والـ يكلمني بقا !! مردش عليه ؟
رد بحزمٍ وهو يعض على شفته السُفلية بتوعد :
-مترديش عليـه ، هرد أنا ..
وقفت أمامه ورفعت أصابعها الأشبه بسلة رود وداعبت وجنته بضحكتها الساحرة كي تُلطف الأجواء :
-قلت حاضر ، فُك التكشيرة دي بقا وبلاش العرق الصعيدي يطلع النهاردة عشان خاطري ..
فتاةٌ مثلها معجونة بماءِ اللُطف ، وطحين الحُب ، مُحمَرّةُ الخُدود ، عليها سبعون ألف رشّة أُنوثة .. استطاعت أن تُلجم غـــضــــبه الثائر بهدوئها الذي ختمته بإعترافها :
-بحبك على فكرة .
اكتفى بطبع قُبلة رقيقة على أطراف أناملها وقال موبخًا :
-مالها قعدة البيت مش فاهم !! أحنا كمان عندنا بحر على فكرة ..
على الجهة الأخرى لكزت شاهندا فؤاد الجالس أمام ” البـ.ـار” يرتشف مشروبًا من النبيذ وقالت بتخابث :
-فؤاد شـوف مين جاي عليـنا !
دار فؤاد بفضول لمعرفة هوية من انضم إليهما فوجدها رغد ، تلك الفتاة التي رفضت حبه بدل المرة عشرة .. حاول بشتى الطُرق أن تكون له رغم ثرائه الفاحش إلا أنه لا يمكنه إغوائها .. تبدلت ملامحه بامتعاض :
-وكمان جايباه وجايه بيه هنا !! صحبتك جاية تغـ.ـيظني يا هانم .
اتسعت ابتسامة شاهندا وهي تطالع هاشم العزايزي ذو الوسامة الطاغيـة والملامح الحادة وعيناه الثابتة والواثقة .. بنيتـه القوية خطواته الهادئة ورأسه المرفوعة التي تحمل الغــــرور مال نحو رغد المتعلقة بذراعه كالطفلة وأشار لمكان هادئ :
-هناك مفيش حد .. تعالي !
حدجته بتردد:
-طيب على الأقل نسلـم !!
رمقها بنبرة المدججة بالغيرة :
-أنا قولت أيه !!
وافقت على مضض:
-الـ تشوفه يا هاشم .. تعالى .
سار الثنائي كحمامتي سلام كل منهما يرتدي اللون الأبيض ، بسط مفرشًا بالمكان المختص وجلسا يديران ظهرهما عن الجميع متأملين موج البحر .. تغلغلت يديها بذراعه ومالت على كتفـه وهي تطالع نجوم السمـاء وكأنه تعلن صبابتها للموجودات الكونية لتشهد على حبها :
-“لقد وقعتُ في حبِ رجلٍ جعلني اعيدُ النظر في أن العالم كُله قد يباع لو كانَ ثمنهُ دقيقةً بجواره ”
ثم غمغمت بهدوء :
-أخبـ.ـار شغلك أيه !!
رد بإيجاز كعادته عنـ.ـد.ما تسأله عن عمله:
-كله تمام ..
ثم غير مجرى الحديث وقال بإمتعاض :
-هرجع من البلد الإجازة دي واخلص شرا البيت .. مش كل شوية يجي الأفندي ده ويخبط عايز الإيجار .
عقدت حاجبيها بإعتراض:
-هاشم سعر البيت كتير وأنا مش عايزة أكلفك ، نشوف شقة أو نروح عند ماما نعيش معاها !! أنتَ ليه مُصمم على البيت ده !!
مسح على رأسها وقال بحب :
-مفيش حاجة تغلى عليك يا ست البنات ..
طبعت وسام عشقها لذلك الرجل بقُبلة طويلة على عضلات ذراعه التي أوشكت أن تفجر القميص وقالت له :
-أنتَ أحلى حاجة حصلت لي !! تعرف ، مفيش قصة حُب كاملة دي الحقيقة ، بس لما بقعد أفكر مع نفسي يا ترى أيه الـ مش كامل في قصتنا ، مش بلقى جواب .. حبنا متفصل على مقاسنا بالملي !! يعني أنا عشت عمري كله رافضة الارتباط لاني متأكدة مش هلاقي الموصفات الـ بحلم بيها في أيه حد ..
ثم أسهب النظر بعيون التي لا ترى غيرها وأكملت :
-معرفش ، وقابلتك أنت !!
قاطعها وهو يحوى كفها الصغير بداخل صَدفة كفه الخشنة وتمتم بصوت خفيض منسجمًا معها مُكملًا غناء ” سيرة الحُب ” لأم كلثوم حتى شاركته الكلمـ.ـا.ت على الفور :
-وقابلتك أنتَ لقيتك بتغير كل حياتي ، معرفش أزاي حبيتك ، معرفش أزاي يا حياتي ..
توقف عن الغناء ليستمتع بملامح عصفورته المُغردة بسماء الحب ، والتي أكملت دندنة الكلمـ.ـا.ت بصوت لا يشاركه غيرهما :
-من همسة حُب لقيتني بحب وأدوب في الحُب ، صُبح وليـل على بابـه ..
ذاب بحبها أكثر ، فـ همس مقترحًا :
-ما تيجي نلم بعض !!
عقدت حاجبيها متسائلة إثر مصطلحاته الصعيدية الغريبة عنها :
-يعني أيه ؟! مش فاهمة !!
وشوش لها بلهجته الصعيدية :
-يعني نرجع بيتنا وألــمك في حُضني لحد ما يطلع علينـا نهار ..
-“رغد أنتِ هنا مش معقولة !! أيـه المفاجأة دي ..”
جاء صوت شاهندا من الخلف ليقطع صفو ضحكة رغد التي ملأت المكان بصُحبة مجموعة من أصدقائهما المشتركين ، جلست شاهندا بدون إذن وتابعها مجموعة من الأشخاص، شباب وفتيات معاً مما أشعل نيران الغيرة بصدر هاشم التي ربتت عليه رغد بخفوت كي يهدأ ويعدي ليلتهم على خير.. حلقة مُنعقدة من الأشخاص شاركوا الثنائي مجلسهم .. فأكملت شاهندا التي لم تتزحزح عينيها عن هاشم :
-القُبطان هاشم خـ.ـطـ.ـفك مننا يا ديدي !!
بادلتها بابتسامة مجاملة ، وتعمدت القُرب من هاشم أكثر متجاهلة النظر لفؤاد الذي يحرقها بأنظاره :
-سيادة الرائد خـ.ـطـ.ـفني من العالم كله ، وبصراحة دي أجمل خـ.ـطـ.ـفه حصلت لي .
تدخلت شاهندا بفضول متعمدة إثارة غـــضــــب فؤاد الذي يتجرع النبيذ بُزجاجة عصير :
-قوليلي مفيش بيبي في الطريق ، مش هبقى خالتو قُريب ..
فتدخلت رحمة مُكملة :
-واو بجد !! رغد الشيمي الـ كانت رافضة الجواز والأرتباط ، هتكون مامي وتربي أطفال كمان !
فأكملت عُلا :
-أنتو متجوزين ليكم أد أيه يا رغود ..
تفوهت بثقل وهي تخشى تصرفات وردود فعل هاشم الغير متوقعة :
-سنة وشهرين بالظبط .. وعقبال العُمر كُله وأحنا سوا .
اشتعلت الغيرة في صدور الفتيات اللاتي يحقدن عليها وعلى زواجها من شخص مثله ذو سيط كبير وشُهرة بمرسى علم .. تدخل فؤاد متعمد جر إشكاله :
-وأنت منين يا هاشم بيه ، سمعت إنك صعيدي .
تحمحم هاشم بخفوت وقال بإختناق :
-من قنـا ..
هز فؤاد رأسه وعيناه يلتهب منها الحقد :
-ليا معارف كتير في قنـا ، قولت لي من عيلة مين في قنا ؟!
رد بجمود :
-ما قولتش .. ومش هقول ، لإنه ميهمكش يااا ..
عرفه بنفسه :
-فؤاد العمري…اكيد سمعت عن العُمري جروب .
-مش بسمع أي حاجة من صوت الرصاص الـ بضـ.ـر.به طول اليوم .
ثم نظر لرغد المرتعشة بجانبه خــــوفًا من تهوره :
-يلا يا رغد !!
جُملة هاشم الأخيرة أثارت ضحك الجميع مع نظرات الانبهار المنبعثة من مُقلتي شاهندا إليه ، أحس فؤاد بالضيق ، فوثب قائمًا بملامحه المنكمشـة وهو يبتعد عن مجلسهم بغل خاصة بعد ما قلل هاشم منه أمام الجميع .. وقف بعيدًا وهو يحرق بنظراته ذلك الرجل الذي سرق حبيبته منه ويراقبهما عند مغادرتهما للمكان ، فأجرى مكالمة تليفونية مع أحد معارفه قائلًا بغلٍ :
-اسمعني ، في حتة ظابط هنا اسمه هاشم خليفـة ، عايزك تجيب لي قراره …
يبدو أن نزار كان متنبًا بمصـ يـ بـةهارون عنـ.ـد.ما وصف سيدتـه قائلًا :
-“قـدر أنتِ بشـكل إمراة .. ”
ومن نسيج اللقاء الأول سطر القدر الحكاية ..
ومن تلك الليلة الغامضة التي فَتحت أبوابها دعوة أم بنية مُخلصة ؛ ماذا سيكون بعدها مصيره !!
ستكون قدره الجميـل !
أم
قدره المُعـ.ـذ.ب !!
#نهال_مصطفى .
••••••
“”قـدر أنتِ بشكــل إمرأة “”
~ببيت خليـفة العزايـزي .
-أؤمريني يا عمتي ؟!
أردف ” ضيا ” سؤاله بعد ما قَبل رأس صفية وجلس بجوارها ناطقًا بتنهيدة يخالطـها المَلل ، أمتدت أنظار صفية بعتب :
-وبعدهالك يا ضيا !! مزعل هيـام ليه ؟! أنا مش هخلص من مشاكلكم .
تلون بالحديث كعادته ليكسبها ككل مرة :
-الـ يزعل هيام ما يوعاها يا عمتي ! وبعدين دي هي اللي مزعلاني وأنا جاي اشتكي لك منها ، برن على محمولها ليل نهار ولا بتكلف خاطرها وتسمعني صوتها .
عادت مستفهمة :
-يعني ما قولتش حاجة تزعلها !!
رد باندفاع يخالطه دهاء الذئاب :
-يتقطع لساني قبل ما أقول كلمة تزعلها ، دي هتبقي مرتي وكرامتها من كرامتي ..
غلف عقل السيدة التي خُلقت على الفطرة بكلمتين فقط ، تنفست بـ.ـارتياح :
-يكملك بعقلك يا حبيبي ..
ثم لمحت هيـام متدلية من أعلى ، فجهرت منادية :
-وأهي هيام جات ، تعالي يابتي ..
وختمت حديثها وهي تميل على مسامعهُ ناصحـة :
-هقوم أعملكم حاجة تشربوها .. عايزة ارجع ألقى ضحكتها منورة وشها .
كانت تقطع الأرض بخُطى عسكري .. خطوات ثابتة واسعة وبوجه متصلب التعابير ، زفرت باختناق شـ.ـديد وهي تقف مستندة على ظهر المقعد المُذهب :
-والله !! وكمان جاي تبلف أمي بكلمتين يا ضيا .. قولت لك الـ عندي ، وفضها سيرة .
-وبعدهالك يا بت بطني !!
حدجتها أمها كي تتوقف عن تلك الأفعال الطفولية التي لا تَليق بابنة خليفة العزايزي وقالت وهي تتأهب مغادرة :
-هعملكم حاجة تشربوها .
وقفتها هيام مُصرة على رأيها:
-خليه يطـ.ـلقني ياما وأحنا على البر .. قبل ما تبقوا حكمتوا عليّ بالمؤبد .. أنا مش عايزاه..
-ما أنت بس لو تقوليلي عمل أيه !! لكنك ساكتة والراجـ.ـل وِلد أصول وشاري .
تدخل ضيا بحوارهم بأسلوبه الثُعباني :
-ورب المعبود شاري ..
هتفت صفية بنفاذ صبر :
-أنا هسيبكم تخبطوا في بعض بس عايزة أرجع ألقاكم اتصالحتوا .. عدوا ليلتكم يا ولاد واخزوا الشيطان ..
انتظرت حتى غادرت أمها ، فرمقته بتحدٍ ولم تتراجع عن موقفها :
-طلقني يا ضيـا ..
شبح ابتسامة خافتة رُسم على محياه إثر إصراره على كتب الكتاب قبل ستة أشهر ، كي يضمن بقاءها ، كي يحافظ على طُعم أهدافه المُضللة :
-شكلك نسيتي العادات !!
ثم داهمها بمكر أعينه اللامعة وأكمل:
-معندناش طـ.ـلا.ق يابت الحج خليفة ، جوازاتنا جوازة نصارى يا قلب ضيا .
وبختـه بتمرد على حديثه :
-يعني أيه !! أنتَ عتقول أيه أصلًا ؟!
زفر ثاني أكسيـد كيده وقال متخابثًا :
-شكـل العلام لحس مخك ونساكي تقاليعنا ..
-لا ، أنا عارفـة عاداتنا يا ضيا ، أنا لساتني مرتك على ورق وبس ، يعني من حقك تطلقني في أي وقت !!
وفي نفس اللحظة تحولت نبرته الدنيئة محاولًا لمس كتفها فأبت قطعًا :
-ضيا متقربش مني !!
-حشـ.ـتـ.ـيني و  ، وخلاص حقك عليا ، وحياتك ما هتتكرر تاني آخر مرة .
تأرجحت عينيها بالمكان كي تتأكد من خلاءه ، دنت منه خطوتين وهي تخرج الحروف من وراء فكيها المنطبقين مشيرة بسبابتها بنبرة منخفضة :
-دي مش أول مرة يا ضيا تغلط في هارون أخويا ودايما حاطط راسك براسه ، ومش أول مرة تهلفط في الكلام عن أخواتي .. أخواتي دول الـ لو شموا خبر عن السواد اللي جواك ناحيتهم صدقيني مش هتشوف نهار .
مضغ شفته السُفلية بغـل وهو يكبح غـــضــــبه عنها :
-وه ! متخنيش رأسك ، دول مكانوش كلمتين .. عديها المرة دي ومش هتتكرر ، تعالي نتكلموا في فرحنا ..
ثم غير نبرتها لتلك النبرة المتحمسة:
-يابت خلاص جيه اليوم اللي حلمنا بيه وهيتقفل علينـا باب واحد !! فُكي التكشيرة دي بزياداكي نكـد .
ثم دنى منهـا أكثر وهو يمسـح علو وجنتها بمكر مخادع :
-أنتِ عارفة إني رايدك ومقدرش أستغنى عنك .. أنتِ حبيبة القلب يا بت ، طيب افتكري لي حاجة زينـة تشفع لي ..
ثم تمطق كأنه يستعيد مذاق الماضي :
-طيب حتى افتكري اترفضت كام مرة لحد أبوكي ما زهق مني ووافق !!
نجح في رسم الضحكة على وجهها الشاحب المتنبئ بمصيرها المنتظر ، تجاهلت صوت إحساسها وعقلها وأتبعت هوى كلمـ.ـا.ته المعسولة التي دومًا ما يذوبها بمحلول خبثه ويحقنه بوريدها .. ما أن رأي ضحكتها ألتوى ثغر الصعلوك بابتسامة الظفر وقال :
-أيوة كده .. عليا النعمة بدر منور في سماه ..ومش كل عركة تقولي طلقني ومش هتجوزك يا ضيا ..
ثم جهر معلنـًا :
-بدل الشاي خليه شربات يا أم هارون ..
-دا أنا وشـي حلو على كده !!
فأتاهم صـوت ” نجاة العزايزي ” التي دخلت من الباب وبيدهـا طفل ذو الثمانية أعوام في ثوبها الأسـود الطويل وحجابها الذي يسطع بياض وصفاء بشرتها والوجه البشوش الذي يضخ زهور الحياة من ثنايا ملامحها ..هذه الفتاة التي تزوجت قسرًا بعمر العشرين عام من رجل لا تُريده ولم يكن لديها أي رغبة فيـه وباليوم التالي من كونها أصبحت أم لطفـل توفى عنها زوجها إثر حادث أليم وتركها أرملة وهي بعامها الواحد والعشرين تعول طفل لوحدها ..
ما أن رأتها هيام ، ركضت لعندها لتُرحب بمجيئها وهي تعانقها بلهفة :
-نجاة !! أيه الغيبـة دي ، تعالى تعالى .. أقول لك أيه ، أنت بايتـه معانا الليلة أنا مش هعتقك ..
ثم تنهدت بوجهها معبرة عن مدة اشتياقها لابنة عمها :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  قوي يا نجاة .
••••••••
وصلت ليـلة لغُرفتها بالفندق وهي تتحدث مع أصدقائها بواسطة ” الفيديو كول ” ، انتعلت حذاء قدmها بعشوائية على باب الغُرفة وهي تروي لهم تفاصيـل مصائبها الاعتيادية التي لا تفارق حياتها .. ثم زفرت وهي تلقي الحقيبة من يدها :
-بس هارون ده طلع ندل بصحيح ، مع إنه يبان عليه مرجلة وابن بلد .
ما كادت أن تخطو خطوة فتعرقلت بحذائها الأخر الذي رمته بفوضوية قبـل أن تغادر الغرفة ، صرخة أخرى اندلعت من جوفها مصحوبة بضحكة ساخرة :
-كل ما أجيب سيرة الجدع ده بتحصل لي مصـ يـ بـة.. اسمه فاتح شهية للمصايب .
اندلع صـوت ضحك كل من جوري وفدوة فتدخلت الأخيرة بفضول :
-لي لي ، أنا عندي فضول أشوف صورته ، من كلامك عنه بحاول اتخيل شكله مش عارفة .
تحمست جوري للفكرة :
-وانا كمان ، لي لي اتصرفي و ابعتي صورته بجد ..شوفي له أكونت اخبـ.ـار على جوجل ..
مال ثغرها ناحية اليسار بيأس :
-مش معايا صورته للاسف كنا حفلنا عليه بضمير ..
اتكأت فدوة على وسادتها وقالت بلهفة فتيات عنـ.ـد.ما يُذكر اسم رجل أمامهم تحاصره التساؤلات:
-طيب هو عامل ازاي ! أوصفي لنا شكله .
نزعت ليلة جاكتها القصير بعد ما رمت الهاتف على الفراش ، ثم قفزت بخفة بمكان نومها بتلك الغرفة التي قلبتها رأسًا على عقب ، شبح ابتسامة ساحرة رُسم على محياها وبرقت عينيها رغم غـــضــــبها الشـ.ـديد منه وشرعت في وصف ذلك النمر البري على حسب وصفها ، كانت نبرة الدلال والغنج تحتل صوتها :
-هو طويل أظن فوق الـ١٨٠سم بشوية .. مش أبيض ومش أسمر ، حاجة في النص ما بينهم .. ملامحه حادة وتخض ، عنده شنب و دقن خفيفة خالص ، وفي غمازة في خده الشمال ، عنده جـ.ـر.ح صغير تحت حاجبه اليمين .. المرتين الـ شوفته فيهم كان لابس جلابية صعيدي مش بتكرمش خالص على طول مكوية واستريت كده ، ريحة البرفيوم بتاعه لذيذ ، بس مش عارفة نوعه .. وبس.
-وبس !! كل ده من مرتين وكانوا بالليل !!
صاحت جوري متحمسة أكثر للتعرف على تلك الشخصية التي جنت عقل رفيقتها بيوم واحد :
-أوووه المهم !! handsome!! مش كده .
ألقت ليلة بسلة المهملات المجاورة لها بعض الأوراق ورمت معهما غـــضــــبها الثائر من ذلك الرجل الذي هدm الحاضر والمستقبل فوق رأسه وقالت بلمعـة النجوم بعينيها وهي تقضم شفتيها بخفة بوصفٍ عبثي يعكس تهورها :
-بصراحة هو جـان منكرش ، لون غريب ولذيذ عن اللي بنشوفه عندنا ، مش باد بوي بس هو قليـل الأدب .. لطيف بس عصبي ولسانه أطول منه وعايز قطعه .. مغــــرور بس باين عليه حنين .. عيونه تربك بس عايـزة تبصي فيهم كتير !!
قطعت ضحك وصياح رفيقاتها بإمتعاض واستنكار :
-بنات في أيه بجد !! أنتوا متخيلين لينا ساعة بنرغي على اللي اسمه العزايزي ده !! لا وكمان قاعدة أمدح فيه بعد ما بوظ لي كل حاجة في minute .
ذكرتها جوري لـ تُنيم ضميرها قائلة :
-ياستي بقا بقيتي سينجل زينا خدي راحتك ، اللي اسمه شريف ده كان كاتم على نفسنا الصراحة !!
دقت نسائم الحرية بـ قلبها إثر سماعها تلك الجملة، فتدخلت فدوة متسائلة :
-طيب ناوية تعملي أيه يا لي لي دلوقتِ !
بلمت مُفكرة في مصيرها وحلمها الذي تحول لسراب، فردت بيأس:
-ولا حاجة، بكرة هرجع اسكندرية وأحاول أقنع صاحب القنـاة بأي فكرة جديدة .. ويارب يقتنع .
فعادت متأثرة :
-يعني خلاص مش هتشوفي هارون ده تاني!!
هبت مندفعة متناسية مدحها فيه قبل لحظات :
-أحيه !! أنا لو شفته تاني هفتح دmاغه الناشفة ، مستفز لأبعد الحدود ، فوق ما تتخيلوا ..
ثم ختمت جُملتها بدmدmة غير مقتنعة بما تقوله :
-ولا تاني ولا تالت ، ومش عايزة ألــمحه أصلًا .. يوم مهبب يوم ما قابلته .
أشاحت ابتسامة تكهنيـة من فدوة :
-مش عارفة ، حاسة أن مش النهاية ، وحاسة إنكم هتتقابلوا تاني ، اللي بيحصل ده تحسي أنه بداية حكاية مش نهايتها خالص ، أو يوم وهيعدي ! ولا أيع رأيك يا جوري!!
أكملت جوري مقدmة اقتراحاتها :
-معقولة !! هتحب الـ اسمه هارون ده !! أدفع نص عمري وأشوف الميكس الغريب ده !! أحيـه بجد !!
-أنتوا مجانين مش كده !!
صوت الأقدار كان يصدح متنبئًا بداخلها مقدmة بعض الاقتراحات ؛ ‏ربما غدًا أو بعد غد، ربما بعد سنينٍ لا تعد.. ربما ذات مساءٍ نلتقي، في طريقٍ عابرٍ دون قصد أنا وأنت أيها الصفيق !! .. تدخلت ليلة معترضة بجملتها الأخيرة وهي تنفي أحلامهم الحمقاء ، فأتبعت بشكٍ :
-احب مين بس !! ده حبه يودي عند عمو عبده التُربي ..دول عيلة مُتخلفة وأعرافهم متـ.ـخـ.ـلفة زيهم !! ولما أحب حد هحب الـ اسمه هارون ده !! ده لو آخر رجل في الدنيا ؛ مستحيـــل .
ختمت جملتها بشهقـة عاليـة :
-أحيـه !! مامي بتتكلم آكيد شريف اشتكى لها .. هروح اتهزأ وأرجع لكم .
أنهت المُكالمة بعجـلٍ مع رفيقاتها ، وردت على والدتها بصوت خافض سابقة بالشكوى :
-مامي شوفي الـ شريف عمله !!
استقلت نادية أبو العلا سيارتها متأففة من مواضيع ابـ.ـنتها التي لا تنتهي منذ رحيل أبيها وقالت موبخة :
-عرفت يا لي لي ، وبصراحة شريف مش غلطان وحقه ، يعني لما يعرف إنك في عربية رجل من أشـ.ـد أعدائه وبلطجي كمان ، له حق يعمل كل ده !
-على فكرة بقا ، الرجل ده مش بلطجي ولا حاجة ولو عرف يمسك عليه حاجة كان سـ.ـجـ.ـنه .. وهو مكذبش ده قال الحقيقة عشان يطلع من التهمة بتاعته لانه كان بيوصلني فعلًا .
فجأة وجدت نفسها بدون إرادة منها تدافع عن ذلك المجهول الذي حطم حياتها ودmر كل شيء ، للحظة ابتلعت بقية كلمـ.ـا.تها كأنها أدركت جريمتها الفادحة وهي تضع أطراف أناملها على صغرها كي يصمت ، فاندفعت أمها قائلة بحدة :
-شوفي يا ليلة عايزة تسيبي شريف سيبيه ، بس مش و أنتِ غلطانـة ، مش تربية سامح ونادية حد يستجرى يغلطهـا في العيلة .. هما كلمتين و تنفذي من غير مقاوحة بكرة الصُبح قبل ما ترجعي تكونوا اتصالحتوا ، مفهوم ؟!
كادت أن تعترض ، فقاطعتها نادية بحزم :
-لي لي مش عايزة أخسر أهلي بسببك وبسبب غباوتك ، وبعدين أنتِ عارفة باباه بيخلص لي إجراءات المركز الجديد مش عايزة كمان شُغلي يتعطل بسببك، بكرة تكلموني أنتوا الاتنين سوا .. وبعدين نشوف حوار جوازكم ده كمان .
ثم ختمت حديثها الذي لا يقبل الجدال :
-خدي دواكي ونامي .. واتغطي كويس.
دmدmت باستسلام لانها غير مستعدة لأي جدال آخر مع أنها :
-حاضر يا مامي .
‏ظننت أنني تخلصت قليلاً من هذا العبء،الذي أحمله في داخلي دون أن أتمكن من التحدُثِ بِه أمام أحد حتى أمي ، شعرت أن هذا الرجل المدعي بهارون هدية القدر لقلبي لقد جاء ليخلصه من مشاعره المزيفة ومن محبسك الذي يخـ.ـنـ.ـق أصبعي و كل الأشياء المؤذية التي أحملها وحدي بعد ما رحل عني أحن رجل بالعالم ، لقد كانت أزمتها الحقيقية في إيجاد كتف تستند عليه ، كتف يرفع رأسها المنكـ.ـسرة .. اتصال أمها زاد الحِمل فوقها وماذا ستفعل كي لا تؤذى أمي بسببها ككل مرة ، لم تجد حلًا سوى لتلك الأقراص التي تُدخلها في غيبوبة لساعات طويلة وبتصالح فعلي مع حقيقة اضطرابها النفسي تبتلع القُرص بابتسامة غريبة وكإنها تُخبر المرض ؛ ها أنا عُدت إليك يا عزيزي .. تستعين بتلك الحبوب كي تهرب من أفكارها ، من ضغوطات الحياة ، أحساس الفشل المُلازم لها !! لم تهتم حتى بتغير ملابسها بل ارتمت بحـ.ـضـ.ـن النوم وأخر ما تتذكره هو حديثها الأحمق عن ذلك الرجل .. فصرخت متمردة على أوامر أمها :
-وأخبط دmاغك في الحيط يا شريف !!
•••••••••
-“بس مالكش حق يا هارون في اللي عملته ، البت باين عليها بت ناس قوي .”
دلف هيثـم من سيارتـه وهو يوبخ أخيه عما فعله مع تلك المسكينـة متبعًا خُطاه لأعتاب البيت ، فأردف هارون باختصار :
-البت باين عليهـا خبرتها قليل في الدنيـا ، كان لازم تتعلم الدرس عشان تنشف شوية .. مش كل حد تشوفه تدلدق في الكلام .
صفق هيثم ممجدًا أخيـه :
-عليا الطلاج استاذ ورئيس قسـم ..
ثم هام مجددًا بجمال تلك الفتاة وقال بصوت خفيض:
-أنا هلحن ألف قصيدة على حس جمالهـا .. جهز نفسك عشان اسمعهم لك الصُبح .
توقف هارون عن السيـر وهو يحدجه بمكر وعيون ضيقة :
-وحب عمرك ، ورحاب بت عمي وهدان راحت فين ياحنين !
رد هيثم باندفاع :
-قصدك تقصف العُمر ، دي بوزها يجيب الفقر .. خلينا في القشطة.
ربت على كف أخيه بقوة وقال متعمدًا استفزازه :
-لا القشطة دي من حق شريف أبو العلا .
-بركة أنهم فشكلوا !! هي كانت مستحملاه كيف برخامة أمه دي ؟! هارون استنى ..
رمى جملته الأخيرة ودار متجهًا للبيتهم الذي حمحم على أعتابه مستئذنًا ومرحبًا بنجاة ابنة خاله وصغيرها الذي تولى تربيتـه منذ لحظة وفاة ابيه وصاحب عُمره .. أصفر وجه ضيا وهو يقف ليرحب به :
-كيفك يا وِلد عمي ؟
تجاهل سؤاله ومال بشـ.ـدقه كي يطبع قُبلة على رأس أخته الجالسـة متمتمًا :
-مختفية فين أومال ليكي كذا يوم !
اقترب ضيا منهم وقال متعمدًا إثارة غـــضــــبه :
-عروسة عاد مش فاضية لك يا هارون دلوك .. جيه الـ ياخدها منك .
رمقه بنظـرة نافرة :
-ما عاش ولا كان اللي ياخد أختي مني .. لولا بس هي الـ رايداك كنت هقعدها جاري العُمر كله ..
وثبت هيام بعد ما طبعت تلك القُبلة الخفيفة على كف أخيها وسألته بنبرتها الحنونة :
-طمني عليك يا حبيبي ، صحتك زينة !!
تدخل ضيا في حديثهم كي لا يمهلهم فرصة للحديث سويًا :
-تقعدها جارك كيف لامؤاخذة !! أنت مش عايز تشوف عيالها يتنططوا على كتافك إكده ويقولولك يا خال!!
بدّ غـــضــــبه يتصاعد مجدد متأففًا ، فنظر إليه وقال بحدة :
-اللي يهمني أشوف الفرحة تتنطط على وشها مش عيالها على كتفي !!
ثم دنى منه خطوة رافعًا سبابته :
-عشان ورب الكعبة لو حصل غير كده يا ضيا ، العزايزة برجـ.ـالتها بقوانينها مش هيرحموك مني .
اهتزت شفته بابتسامة شاحبة يملأها القلق والتوعد عما ينتويـه لهم ذلك الناقم على مُلكهم للعزايزة والذي سم مخ هذه الفتاة بحديثه المعسول حتى اقنعت أبيها بالزواج منه رغم اعتراض أخواتها.. لاحظت هيام حِدة الحوار بينهم فتدخلت لتُلطف الأجواء كي لا تحدث مشكلة جديدة كعادتهم وهي تربت على كتفه :
-يديم حسك في الدنيا يا أخوي وأفرح بيك وأشوف عيالك مالين علينا البيت .
ثم رمقت ضيا بنظرة تحذيرية إذ لم يتوقف عن جنونه متفاخرة بحماية أخيها لها ؛ فقالت بسلبية كعادتها :
-ولا أيه يا ضيا !!
على الجهة الأخرى تهامست صفية لهيثم الذي تظنه مخبرها السري عن هارون :
-كُنتوا فين ياهيثم أنت وهارون .
مال على آذانها متهامسًا مغيرًا مجرى الحديث :
-انا شفت حتة بت النهاردة يا صفية جمالها يحل من على حبل المشنقة !!
عقدت صفية حاجبيها باكتراث:
-شوفتها فين وتطلع بت مين دي في العزايزة نخطبوها لهارون !!
-هارون مين بس !! لا هي اسكندرانية .. مش من إهنه ، أنتِ لو شوفتيها هتحبيها قوي .
عادت مستفسرة بكهن :
-وهي دي اللي روحتوا تشوفها أنتَ وهارون أخوك .
رفع حاجبه مندهشًا ثم عاد النظر إليها متخابثًا :
-مش سهلة أنتِ يا صفية .. أقول لك أيه ، البت دي ولدك عك في حقها جـ.ـا.مد يرضيكي !!
ضـ.ـر.بت على صدرها بلهفة :
-ياضنايا يابتي أيه وقعها في طريقه !!
-حظها المنيل ، ولدك البكري دايمًا كاسفنا ياما ومخرب سيرتنا ، أنا لو عزمتها على الغدا بكرة فيها حاجة وأهي نلم سيرتنا اللي تبعترت ياما !!
هتفت صفية متحمسة :
-وماله يا حبيبي ، دي ضيفة وتتشال على كفوف الراحة ، هاتها وأنا أحب على رأسها عشان الـ عملو هارون !!
ثم عقدت حاجبيها متسائلة :
-بس هو عمل أيه !!
حك برأسه وعلى محياه ابتسامة ظفر متأهبًا للرحيل بعد ما نال مُراده :
-مش فاكر ، لما افتكر هبقى أقول لك ….
في تلك الأثناء انصـرف ضيا وصعدت نجاة لغُرفة هيام لتقضي الليلة معها ، لوح هارون لأمه مُلقيًا عليها تحية ما قبل النوم .. اقتربت هيام من أمها بوجه راضي عن الأول ، فسألتها :
-خلاص عقلتي يا بت بطني !
ردت بتوجس وهي تجلس بجوارها :
-ادعي لي ياما ، ادعي عشان أحساسي بيقول حاجات كتيرة مطمنش .
ربتت على كتف صغيرتها :
-ده الشيطان يا عبـ.ـيـ.ـطة عايز يبوظ ليلتك ، اطرديه من راسك و افرحي وفرحي قلبي معاكي .. ٦ عيال مفيش حد فيهم فارحني ياهيام .
هزت رأسه متقبلة نصيبها مع ضيا الذي مضغ عنادها وتمردها بكلمتين زائفتين ؛ فتراجعت متسائلة :
-أحنا ليـه معندناش طـ.ـلا.ق ياما !! ليه عاداتنا مخالفة لشرع ربنا !
اتسعت عيني صفية بدهشة :
-أعوذ بالله !! العُرف ملهوش دعوة بالدين يا بتي أنتِ هتكفرينا ليه ده مرجع وده مرجع !! الفكرة كلها في أنه ما ينفعش تنامي في فرشة واحد وبعدها تطلقي تنامي في فرشة وِلد عمه دي فيها جُرس وفضايح !! فهمتي .. يلا قومي أقعدي مع نجاة خليها تعقلك شوية وخفي جنان .
•••••••••
~بسيـارة هاشـم .
(قبل عامين)..
تقف رغد بـ المحل الذي ورثته عن أبيها في صناعة التُحف النحاسية والتي تُصنع كلها يدويًا حيث أحبت الزخرفة والأشغال اليدوية وغيرها .. لديها اسمها المميـز بالسوق للذي يتوافد لعنده السياح من كُل صوب وحدب ، حيث ذهبت بذاكرتها لهذا اليوم الذي اعترف فيه بإعجابه لها وتحولت كل شكوكها حول هوية ذلك الرجل المتردد يوميًا على محلها يتعمد خلق الكثير من المواضيع التي تُجبرها أن تقف معه دون غيره من الزبائن بالمكان ..
كانت يومها تقف مع سيدة أجنبيه تشرح لها فنيات القطعة النادرة فجاءت إليها مساعدتها بالمكان وهمست لها :
-بصي كده مين هناك !!
أشاحت بنظرها لعنده فكان واقفًا متكئًا على أحد أعمدة المحل عاقدًا ذراعيه أمام صدره بفظاظة مرتديًا زيه العسكري وعنـ.ـد.ما ألتقت أعينهم التي تحمل مشاعر مُختلفة فدmدmت :
-طيب خليكِ مع الزبونة وأنا هشوفه .
اقتربت منه بشعرها الغجري وفستانها البسيط فسألتـه بتلك النبرة المتأففة لكثرة تردده عـ مكان عملهـا الخاص ونظراته المتكررة :
-حابب تشتري إيه النهاردة !!
اتكئ مرفقه على ظهر أحد المقاعد النحاسيـة مردفًا بهيام يتوقد من مُقلتيـه :
-مش جاي اشتري المرة دي .. أنا لا غاوي تُحف ولا انتيكات ولا ليـا فيهم من أصلو !!
ثم أرسل لها غمزة خفيفة وأتبع :
-وده سر بيني وبينك !
تعجبت من صراحته وكأنه يعرفها قبل زمن ، رُفع حاجبها بإعتراض وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-كُنت حاسة ، يبقى حبيبتك بتحبهم عشان كده بتيجي تشتري من هنا كُل يوم !أصل مش معقولة ولا هو رمي فلوس على الأرض وخلاص !
يجلي حلقه وهو يقول بتلك الابتسامة الساحرة :
-ياستي لا عندي حبيبة ولا غاوى تُحف ولا تماثيـل ، بس هاوي عنيكي الحلوة دي .. ينفع !!
إنّ الهوى شريك العمى .. ومن يومها وهي وضعت تلك الشريطة السوداء على أعنيها وسلكت معه دروب الحُب بكُل ما تحملها من مشقة وعناء ، ‏تعمق هواه بداخلها للحد الذي تظن فيه أنه يُشاركها ذات الجسد والنبضات ، كأن حبه أصبح روحًا ثانية وُضعت بوريدها ليسكنها دائمًا.
رفعت رأسها المائلة نحو نافذة السيارة عند عودته من المتجر حاملًا بيده الكثير والكثير من الحقائب البلاستيكية الممتلئة بالمقرمشات والعصائر والحلوى التي تفضلها .. ترك الحقائب بالخلف ثم عاد ليجلس بمقعد القيادة راسمًا على محياه ابتسامته التي لا تُفارقه أبدًا معها :
-شايفك سرحتي ، سرحتي في أيه !! بتحبي جديد !
داعبت أناملها خصلات شعرها بتلقائيـة ودارت إليه :
-هكون بفكر في مين غيرك !! وهحب مين بعدك ، أنت قبضت على قلبي يا حضرة الظابط .
-دي أهم وأعظم عملية أنا عملتها فـ حياتي !! أنا جيت لك وأنا شايل كفني على أيدي ، وياقـ.ـا.تل يا مقـ.ـتـ.ـو.ل في حُبك !
انفرجت شفتيها بضحكة مسموعـة محاطة بالجهل التـام عما يقصده ويُشير إليها حول أعراف عائلته ، فأتبعت مردفة بحب وهي تغازل وجنته بإبهامها :
-مش للدرجة دي !! معايـا هتعيش وبس ، هتعيش الحُب بكُل أشكاله يا هاشم .. بوعدك .
تحمحم متأهبًا للقيادة :
-طيب عشان الكلام الحلو ده يستاهل مفاجأة اللي محضرها .. اربطي الحزام .
نفذت أوامره بدون إلحاح منها على معرفة المفاجأة التي بباله ، تركت نفسها مع ريح السعادة ليتركها أينما يشاء ، تنهدت بهدوء ثم قالت :
-كنت خايفة كلام فؤاد يقفل لنا اليوم وتكشر وتفضل تعاتب فيا و أنا السبب !
عقد حاجبيه متسائلًا بجدية :
-فؤاد مين !!
زام ثغرها بدهشة لانكاره :
-هاشم !!
أطلق ضحكة ساخرة وهو يُدير مقود سيارته وقال :
-ولا تشغلي بالك ، ده عيل فاضي فرحان بفلوس أبوه .. المرة الجاية فكريني أرنه علقة نسى أبوه يدهاله .
ضحك ملء فمها :
-أنتَ فظيع بجد !! بطل بقا .. ماشي تُجر شكل مع خلق الله !!
رمقها فى غفلة منها وهي تطالع الطريق فـ أجابها بشموخ :
-اللي مش متربي نربيه أحنا يا رغود .. أومال أحنا هنا ليـه !
-ياجـ.ـا.مد !!
ثم مالت في جلستها جهته وهي تغرق في كينونة حبهـا الثائر ؛ وقالت بملل :
-هارون أخوك مش ناوي يفرجها علينا ويتجوز بقا .. عايز اتعرف عليهم يا هاشم ، هما أشقية كده زيك ! احكي لي عنهم .
ازداد وجهه بشاشـة عند ذكر اسماء أخواته ، فقال بطـ.ـلا.قة :
-هيثم ده  الصـ.ـايع بتاعنا ، كُل يوم جايب عروسـة لصفية وعايز يتجوزها .. وكل مرة يصمم ويحلف أنها حُب عمره .. الناس تصحى تقول صباح الخير ، هو يصحي يقول عايز اتجوز .
ثم نظر لها مُكملًا بنبرة مشحونة بحبها :
-فنان زيك ، يحب العزف والقصايد والغنى .. متأكد أنكم هتبقوا صُحاب .
كانت تستمع له بمتعة رهيبة ، فتبدلت نبرتـه مُكملًا حديثه عن أخوته :
-هلال بقا عكسه تمامًا ، الشيخ بتاعنا .. في حاله، مدرس لغة عربية في الأزهر وبالليل في الجامع بيحفظ قرآن.. مش بيضحك غير معانا وبس ، أول ما يشم ريحة بـ.ـنت يتجنن ووشه يجيب ألوان .. هو وهيثم ناقر ونقير طول الوقت ..
أشاحت بنظرها بفضول وقالت مهتمة :
-طيب وهارون !!
-هارون ده حكايـة .. جدع وضهر متين تتسندي عليـه عمره ما يميل ، هو دخل كلية الحقوق وكان حلمه يبقى مستشار عسكري ، حلمنا كان نشتغلوا في مكان واحد في الجيش .. وعمل كده فعلًا ، أربع سنين الأول على دفعتـه .. وخلص جيشه وقدm وعدى كُل الاختبـ.ـارات، كان عاملها مفاجأة لأبوي عشان يفرحه ويقوله ولدك بقا مستشار .. وقتها أبويا مسكه كُل شغل المحاجر والمصانع والأرض .. ولما النتيجة ظهرت والبلد كلها عرفت أن هارون اتقبل ، أبويا عاند معاه وكان فاكر أنه بيلوي دراعه لما قدm من وراه ولانه ولده الكبير لازم يمسك العُمدية بعده ده القانون .
تعالت ملامح الشفقة على ملامحها :
-يا حـ.ـر.ام ، واستغنى عن حلمه بالسهولة دي !!
-من وقتها وهو زي التور اللي بيلف في ساقية ، اتقفل من الحياة واللي فيها ، بقى يخاف يحـب حاجة ويتعلق بيها تروح منه زي حلمه ، حس أنه مش من حقه يحلم !! بقيت كل حياته شُغل ومشاكل .
غمغمت بأسف :
-حقيقي زعلت عليه أوي .. عشان كده بيعـ.ـا.قب كل اللي حواليه ومش عايز يتجوز !!
-اللي عايز حاجه يا رغد يأخدها من حبابي عينين الدنيا ويستقــ,تــل عشانها حتى ولو هيمـ.ـو.ت بعدها ، كفاية يمـ.ـو.ت بشـرف ، هارون اشترى رضا أبويا على حساب نفسه !! ولو على الجواز مفيش مفر هيروح فين من صفية ، مش هتسيبه .
تبدلتها نبرتها متدللة :
-طيب وهاشـم !! احكي لي عنه !
دار مقود سيارته أقصى اليسار متجهًا لأحد الشواطئ وهو يصف عربيته بقرب البحر وقال بهدوء :
-هاشـم طماع ، ضحك على الدنيـا ومد أيده في قلبها وغرف منها كُل اللي يبسطه وبس .
-مش بحبك من فراغ والله ..
تفقدت المكان حولها :
-أحنا وقفنا هنا ليه ؟!
-مش نفسك في كامب !! هعملك أحلى كامب لوحدنا هنا ، سما وبحر وقمر _قال كلمته الأخيرة قاصدًا وجهها الجميل وهو يرسل لها تلك الغمزة المعتادة من طرف عينيه وأكمل _ أنا جبت كُل حاجة شوفي كده لو في حاجة ناقصة !
دار نحو الباب وفتحته بدون سابق إنذار وهي تركض للجهة الأخرى من السيارة قبل أن تفتح بابه ، سبقها وقبل أن تلمس قدmه الثانية الرمل تحتهم كانت بين يديه بسعادة بالغة كمن لفح بعطور الجنة .. انفرطت مشاعرها أمامه وهي تعانقه بنيران اللوعـة :
-أنتَ أحلى حاجة حصلت لي في حياتي يا هاشم ، أنا خدت نصيبى الحلو كُله من الدنيـا فيك .
••••••••
~في السادسـة صباحًا .
فرغ هيثم من ارتداء ملابسـه الإفرنجيـة ، بنطال باللون الأبيض ويعلوه جاكيت من الجينز الأزرق القاتم وتحته سترته بيضاء وحذاء رياضي باللون الأسود والأزرق معًا ، صفف جدال شعره ونثر عِطره المفضل ، مصفقًا بحماس :
-جيالك يا قشطة !
أخذ مفتاح سيارته وحافظة نقوده وغادر غُرفته ركضًا .. قطع درجات السُلم بعجل وهو يستمع لصوت صفية التي تتحدث مع فردوس مُفكرة في وليمة الغد وتجمع أولادها كُل شهر :
-١٠ أجواز حمام !! قليلين يا فردوس .. ده هارون مش بيقضيه جوزين لروحه .. خليهم ١٥ خلي الحبايب تاكل وتتهنى.. هاشم بيحب البط اتوصي بيه يا فردوس الواد شقيان وطالع عينه من وكل الجيش يا حبة عيني !! ومتنسيش الرقاق عشان بيحبه .. وبلاش أرانب عشان هلال مش بيحب يشوفها على السفرة .
تدخل هيثم معترضًا :
-مسمعتش اسم هيثم يعني !! ولا أنا لقيط في البيت ده !!
ردت بعدm اهتمام :
-ابقى كُل من الموجود ، خير ربنا كتير !!
-يعني أنا اكل الموجود وهما يتعملوهم الوكل مخصوص !! ده في شرع مين ده ؟!
دارت له صفية متناسية أمر الطعام وهي تتفقد ملابسه الجديدة :
-أنتَ رايح فين من النجمة بالحلاوة دي !
شـ.ـد طرفي جاكته بتفاخر:
-نازل البندر .. تعوزي حاجة !!
-هتعمل أيه في البندر يا هيثم !!
رد بإيجاز وهو يتأهب للذهاب :
-لحقتي تنسي يا صفية !! هجيب لك القشطة زي ما اتفقنا إمبـ.ـارح .
ثم لوح هاتفًا بعجلٍ :
-سلام ياما وابقى افتكرينى الله يرضى عنك مش واقع من قعر القُفة أنا !!
ضـ.ـر.بت كف على الأخر واشتكت همها لفردوس :
-ولاد خليفة هيجننوني يا فردوس .. كل واحد فيهم ماشي بدmاغـه ..
ثم تجولت عينيها بالمكان ودmدmت :
-اُسكتي مش هارون ريح قلبي ووافق اخطب له زينة !! يجي هاشم بس ونروح نخطبها من أبوها .. أوعى حد يعرف يا فردوس خليهـا في الستر لحد ما تتم !
هللت فردوس بحماقة :
-يا ألف نهار أبيض يا ألف نهار مبروك ، الله أكبر ، ده طلع الحجاب سره باتع .
-حجاب أيه يا فردوس !!
وصل هيثم للفندق الذي عرف اسمه من هارون والذي تُقيم فيـه ليـلة ، ظل واقفًا أمام البوابة بعد ما تأكد من وجودها بالداخل .. مرت قرابـة الثلاث ساعات حتى دقت ساعة يده أعتاب العاشرة صباحًا .. دلفت ليلة من الفندق بعد ما عملت إخلاء تام منه .. تجر حقيبة فشل حلمها ورائها وهي ترتدي نظارتها السوداء كي تخفي آثار كدmـ.ـا.ت الخزى من أعينها ، خرجت من البوابة فساعدها موظف الأمن في حمل الحقيبة ، مجرد ما لمحها هيثم اندفع إليها هاتفًا بغزل :
-اللي ربى شكله كان بتاع مربى عشان يجيب الحلاوة دي كُلها .
دارت إليه مُدافعة عن أبيها :
-لا ياخفيف كان لواء ، ولو كان لسه عايش كان زمانه منيمك في الحجز .
ثم نزعت نظارتها الشمسية بدهشـة ساخرة :
-هو أنت !!!
تحرك أمامها بخفة وبتلك الضحكة التي لا تفارق ملامحه :
-اتحجز فـ حُبك أنا راضي ، حتى أرميني في بير غويط و احدفي ورايا دينامـ.ـيـ.ـت تطلعلك روحي تقول لك أنا هنا يا عفريت.
خفة روحها المرحة لم تتحمل أن تكتم الضحك بوجهه ، اكتفت بابتسامة عريضة وقالت بسخرية وهي تخطو خطوة للأمام :
-لا دا أنت روش بقا !!
تابع خُطاها مواصلًا أسطوانات غزله :
-لا أنا أعجبك أوي !!
توقفت عن السيـر وسألته مستفسرة :
-أنت هنا بتعمل أيه أصلًا ؟!
-شغلوني حارس اللوكاندة الجديد عشان اخلي بالي من القمر .
-لا ياشيخ ! أخوك الـ باعتك ؟
رد بنفس النبرة الهائمة :
-يكش ما أوعى أشوف جمالك تاني ، مايعرف إني هنا !
زفرت بإمتعاض :
-وأنتَ هنـا عشاني يعني !
-انا هنا عشانك من ٥ الصبح .. طول الليل ماشفتش عيني النوم !
-أبقى غفل شوية الضهر .
ردت بنبرة ساخرة وهي تحمل حقيبة يدها على كتفها مستعدة للرحيل ولكن لم تنكر ملامحها المبتسمة استمتاعها بفُكاهة هيثم ، فأكملت :
-وبعدين مش كفاية الـ عملوا أخوك جاي تكمل المسيرة بتاعته !!
شـ.ـد النظارة التى تلوح بها من يدها وعلقها بداخل ياقتـه ، وقال بنبرة تحمل اعتذارًا :
-لا جاي أصلح الـ هببه أخوي .. بيني وبينك انا سرسبت هارون وعرفت المشكلة .. وطلع غلطان من ساسه لراسه واللي يقول غير كده ميفهمش ، وأنا جاي اقدm لك اعتذار بصفة رسمية مني وأقول لك تقبلي دعوتي على الغدا النهارده .
رفعت حاجبها مستهزئه وبصوتٍ ساخر :
-لا مش عايزة حاجة منك ولا من النصاب أخوك بتاع الكُفتة .
-قولت لك وحياة العيون الحلوة دي مايعرف .. وبعدين مش ظُلم ده تأخدي الطايع بذنب العاصي ليه !! دانا قاصد خير ..
-عندي سفر ولازم اتحرك دلوقتِ .
أصـر بإلحاح:
-مش هيحصل لحد ما نراضوكي .أنا جاي هنا بأمر من الست صفية بجلالة قدرها .
عضت على شفتها بنفاذ صبر وهي تسحب نظارها المُعلقة بياقة سترته :
-قلت لي اسمك ايه؟!
شـ.ـد طرفي جاكيته بفظاظة :
-محسوبك هيثم .
-أنت وأخوك مش عايزة أشوف وشكم تاني يا هيثم.
رمت قذيفـة جُملتها وسارت بخطوات واسعة نحو سيارتها المصفوفة أمام الفنـدق ، تلقى الصدmة لبرهة من الزمن ولكنه لم ييأس ، لحق بها ركضًا وهو يقفل باب السيارة الذي فتحته :
-مش هتنـ.ـد.مي ،دي صفية عليها شوية حمام محشي هيخلوا صحتك حديد .
دارت له متأففة وقبل أن تنطق كلمة أسرع قائلًا :
-هلففك قنـا شبر شبـر ، وأفرجك عليها وصوري براحتك .. متأكد إنك هتحبيها ، خُديني مرشـ.ـدك السياحي هنا .
ثم وشوش لها بحذر :
-أنا عارف موضوع الصحافة والإعلان ، لو جيتي معاي هفضح لك العزايزة نفر نفر ..
راقت لها الفكرة ، فاتسعت ابتسامتها تدريجياً عاقدة حاجبيـها وبدون إداركها لسبب قبولها عرض هيثم ، ربما أحست أنها بحاجة لرؤية المدعي باسم هارون مرة ثانيـة ، ربما انساقت وراء فضولها وعروض هيثم المُغرية ، فسألته باهتمام :
-قولت لي صفية بتعمل حمام محشي جـ.ـا.مد أوي يعني!!
على الجهـة الأخرى هناك أعين تتلصص النظر إليهما ، ما استقلت السيارة بجوار هيثم قابلة دعوته على الغداء ، أجرى العسكري التابع لشريف مكالمته معه وأخبره :
-شريف بيه ، ليلة هانم خرجت من الفندق ، بس ركبت العربية مع هيثم العزايزي !
ذات مـرة صادفني نصًا لنزار يقول فيـه :
-” رُبما كان من الغفلة والغــــرور ..يُدعى الإنسان أن الأرض لا تدور ، والحُب لا يدور ”
•••••••••
في ليـلة من ليالي الشتاء ذات البرودة القارسة ، الغيوم الضبابية متراكمـة فوق بعضها البعض .. كانت السمـاء تدوي بصـوت قعقعة الرعد المُخيف والذي يتبـعه وهج البرق الأشبـه بماس كهربي أغدق خد السمـاء وكأنه جاء كستار ستر يخـ.ـطـ.ـف الأبصار إليه لبعض القلوب الخائفـة التي تختبأ تحته .. اختبأت الناس بحجورها حول بؤرة النيران المشتعلة التي تدفأ ليلهم .. الشوارع خالية تمامًا لا يَدب بها إلا أقدام أوراق الشجر المتساقطة والمُحملة بالأمطار والتي غسلت الأرصـفة ، كرات من الثلج تهبط من السماء وتضـ.ـر.ب الأرض ، لأول مرة تُمطر هكذا بالمناخ الصحراوي ، حدث لا يتكرر إلا مرة واحدة فقط من عشرات السنين .. قصف الرعد مرة ثانية قصفًا شـ.ـديدًا دوّى صوته بأرجاء الجبال ، تناثرت أشعة البرق الحمراء مُجددًا .. وهناك رجل ملثـم يحمل رضيعة بيده يدسها بحـ.ـضـ.ـنه كي يحميها من غدر الطبيعة كما ستغدر بها عائلتـه إن عثرت عليها .. لمست أقدام الرجل صاحب الثلاثون عامًا الطريق العمومي للنجع الخاص بهم _نجع العزايزة_ ظل يهذي ويلهث ، يواسي طفلتـه التي تتضور جوعًا بيده ، التي لم تكُف عن البكاء ، أطرق مواسيًا :
-سامحيني يا غفران يا بتي ، سامحيني ..
لمح أضواء السيارة الوحيدة التي مرت على الطريق حينها ، ركض بكل ما أوتي من لهفة أمامها وهو يلوح مستغيثًا .. زادت الإضاءة وهدأت سُرعة السيـارة تدريجيًا حتى صف صاحبها جنبًا .. نزع اللواء ” رفعت الجوهري ” قبعته العسكرية وحمل سلاحه وهبط من سيارته موبخًا بنبرته القوية :
-أنتَ مـ.ـجـ.ـنو.ن !! أنت أزاي تقف في نص الطريق كده .. أنتَ مين ؟!!
أقبل الرجل لعنـده ونزع غطاء وجهه متوسلًا :
-رفعت بيه أنا في عرضك .. بتي هيقــ,تــلوها .
تعجب سيادة اللواء من استغاثة الرجل الذي يرمي تلك المضغة بين يديه ؛ فأكمل :
-أنا ماهر العزايزي .. صدر حكم من مجلس العيلة بقــ,تــلي أنا ومرتي ، بتي ملهاش ذنب يا رفعت بيه ، اعتبرها أمانتك قدام ربنا .. خلي بالك منها ابعدها عن هنا ، لو ليا عُمر هرجع وأخذها منك .. بتي اسمها غُفران ..
” غفران ماهر العزايزي . ”
لم ينتظر رد الرجل الغارق بصدmته ، ترك له صغيرته الباكية ورحـل ، ركض لمصيره المنتظر وهو المـ.ـو.ت .. وقف رفعت مشـ.ـدوهًا ، مكبل اليدين مغلول العقل ، يُطالع تلك البريئة التي لا تعرف بأي ذنب ستُقتـل .. حائرًا ماذا سيفعل بهذه الفتاة التي لا حول له ولا قوة ، من سيرعاها معـه وزوجته المتـ.ـو.فية وابنه سامح الذي تزوج قبل عامين ويقيم بالإسكندريـة مع زوجته !! احتد صوت الرعد وزاد المطر وزاد معه صُراخ وارتجاف الصغيرة .. لم يجد حلًا سوى الاحتماء بالسيارة كي تدفأ من صقيع الجو ..
تسلل ماهر بين الأشجار كاللصوص ، كي يلحق بإمـ.ـر.اته المُلطخة بدmاء الوضع ، كانت هناك أعين تراقبه .. وتراقب خُطاه وكيفية تستره على جريمته حتى باغتته وصدرت فوهة السلاح أمامه قائلًا :
-هتهرب لحد مـ.ـيـ.ـتة يا ماهر !! مفيش مفر .. أخواتك قابلين الدنيا عليك والعزايزة مش هيعدوها .
دنى منه ماهر ورفع الوشاح عن وجهه ، إذن بخليفة العزايزي يعوق طريقه ، توسل له ماهر :
-سيبني ألحق مرتي بتمـ.ـو.ت في الجبل يا خليفة ..
رق قلب خليفة وسأله :
-عطيت ولدك للأغراب يربوه يا ماهر .. مـ.ـو.ته أهون !
لهث ماهر كلمـ.ـا.ت حـ.ـز.نه :
-بت كيف القمر يا خليفة ، تشبه أمها .. وحياة عيالك لو حصلي حاجة وصيتك بتي .. بتي مع رفعت الجوهري ، ملهاش ذنب تمـ.ـو.ت معانا .. بتي أمانتك قصاد ربنا لحد ما نتقابلوا يا خليفة.. احفظ سري ربنا يخلي لك عيالك .. سيب بتي تعيش بعيد عن العزايزة وظُلمهم .
ثم ربت على كتفه بعجل كي يلحق بتلك المريـ.ـضة ببيتها بالجبل وهو يوصيـه مؤكدًا :
-مرتي بتمـ.ـو.ت لازم ألحقها .. بتي غفران أمانة في رقبتك يا خليفة ..
بعـد ثمانية وعشرين عامًا من تلك الليلة التي سُمية ليـلة باسمها .. فاق ” خليفة العزايزي ” من شروده على نداء زوجته الأولى ؛ السيدة أحلام :
-يا حج خليفة !! مالك سرّتت “سرحت” في أيه ؟!
تنهد وهو يشكو همه لحافظة أسراره :
-خايف يجي أجلي وأقابل ماهر ولما يسألني عن بته هقوله أيه ؟! أنا ماصُنتش الأمانة يا أحلام .
ربتت أحلام علي كتفه :
-متشيلش نفسك فوق طاقتها يا أبو هارون .. أنت قلبت مصر حتة حتة ، وماوصلتش ليهم ، كأن الأرض انشقت وبلعتهم .
ضـ.ـر.ب الأرض بمؤخرة عكازه:
-وِلد الجوهري خد البت وفُص ملح وداب .. قدm استقالتـه من الداخلية كلها عشان محدش يعرف يوصله .
ثم أشاح بحـ.ـز.ن وخيم :
-دmنا ولحمنـا اتربوا في حـ.ـضـ.ـن الغُرب يا أحلام .
شاركته أحلام الهموم ، فقالت مقترحة :
-طب ما تخبر هاشم ولا هارون هما خطوتهم أوسع منينا ، البت ليها حق لازم يوصل يا خليفة ، أرض أبوها اللي كتبهالك بيع وشرا ومخدش مليـم واحد منك .
رفض قطعًا معرفة أولاده لذلك السر :
-هارون مستحيل يعرف، لو عرف حكمه للعزايزة هيتهز ، مش هقدر أرفع عيني في عينه بعدها .. هاشم سره مع أخواته ، صفية رابطة الأربع رجـ.ـا.لة في عُقدة واحدة .. معندهمش سر على بعض .
ثم زفر بحـ.ـز.ن وخيم :
-والبت لو لقيناها وسرها اتكشف هيقــ,تــلوها يا أحلام !! يبقى معملناش حاجة غير إننا سلمناها للمـ.ـو.ت .
دmدmت متحيرة :
-والحل يا حج خليفة !!
تنهد مستسلمًا :
-ربك رب أقدار يا أحلام ، والحق بينادي صحابه لو بعد خمسين سنة .
•••••••••
من أهم وأول قواعد الحياة ؛ أنك ستضطر أن تتنازل عن بعض أحلامك .. حتى تعيش واقعك ، حتى تعيـش الحياة بما تحويه من مآسي ..
على غير العادة نهض في وقت متأخر من الصباح ، في التاسعة صباحًا بجسـد مثقل بالمتاعب ، يصدح منه صوت قرقعـة الألــم بعظامه .. يشكو من ثِقل الحِمل وحَمل المشاكل فوق عاتقـه .. فرغ من أخذ حمامه الدافئ وخرج كي يكمـل جولة ارتداء ملابسـه .. وقف بصدره العاري أمام المرأة يجفف رأسـه المبلل بالمـاء ثم سقطت عيناه على صورة شهادته الجامعية المُعلقة بالحائط والتي تنعكس صورتهـا بالمرآة .. لفح الفوطة على كتفـه ثم سار لعندها بخطوات تلك الأقدام القِتال في سـاحة أعرافهم والتي قــ,تــلت كل آماله ، يخشى أن يحلم ، يتمنى ، يتعلق .. فيرحل عنه الشيء مرة ثانية ويعيش نفس الألــم مجددًا ، كحلمه الذي لم يحلم غيره ودعه قبل أن يناله ..
رُفعت جفونه لأعلى وقرأ اسمه عليهـا ” هارون خليفة العزايزي ” ثم وقعت عيناه على النسبة المئوية والتي كانت ٨٦ بالمئة.. وبجوارها كلمة الترتيب ” الأول ” ثم خيمت معالم حـ.ـز.نه على وجهه الذي استقبل و.جـ.ـعه بسخرية :
-اربع سنين قسموا الضهر عشان أخرتك تتعلقي على الحيط !!
ثم ختم جملتـه بتلك الابتسامة الساخرة وهو يحاور حلمـه المفقود :
-صباح الخير يا أحلام !!
ما كاد أن يخطو خطوة نحو مسار حياته اليومي .. تعرقلت قدmه الحافية في ذلك الشيء الصغير الذي أوقفه ، تدلت جفونه بالأرض فوجده ” خاتم ” يدها الذي وقع من جلبابه وهو يخلعه قبل النوم .. ذلك الخاتم قدmه القـدر إليه ، ربما كان يُريد تنبييهُ لحدث عظيم سيلتقي به فيما بعد !! انحنى كي يمسكه بنفس السخرية التي لا تُفارقه وهو يُقلب خاتمها أمام عينه :
-وبعدهالك عاد يا ست ” ليـلى ” !! مش خلصنا ؟!
رمى الخاتم بخفة بالهواء ليسقط براحة يده مرة ثانية ثم فتـح خزانته الخاصة ورماه بداخلها، تصرف غريب منه لا يدرك سببه !! لِمَ أراد أن يحتفظ بخاتم رجل آخر تنتمي إليه !! لِمَ لم يسعى لرد الأمانات إلى أهلها كعادته !! ما الشيء الذي أغراه به ليُقرر أن يكون ملكه !! جميعها أسئلة يطرحها العقل البشري تفتقر الجواب والمنطق !!
••••••••
~ بسيـارة هيثـم .
لأول مرة تُصادف شخصًا ثرثرًا أكثر منها ولكنها كانت مستمتعة جـدًا بالحديث معـه على عكس أخيه الذي تتقاطر الكلمـ.ـا.ت من شِدقه بالكلمة .. انسجمت في الحوار مع هيثم بفضول يتقاذف من مُقلتيها حول هويتهم وأعرافهم .. وعنـ.ـد.ما يُذكر أمامها اسم هارون تعتدل بجلستها ويتزايد اهتمامها أكثر .. فرغت من تناول قطعة الخبز المحشية التي أحضرها لها وأجبرها أن يتناولان فطارهم سويًا .. ارتشفت كوب من الماء ثم سألتـه :
-أخوك ده الـ اسمه هارون ، مش ممكن يضايق منك لو اتفاجئ بيـا في البيت من غير ما تعرفه! .
ثم غمغمت مستفسرة :
-المفروض إنه العُمدة يعني ويكون عنده علم بكل حاجـة بتحصل في بيته !
أشاح بنظره لها مجيبًا بتوجس يبطنه الضحك :
-أنا وأنتِ هنكون في حمى صفية .. متخافيش .
صاحت موبخة وهي تلومه بضحك :
-أحيـه !! أومال ايه الد.خـ.ـلة بتاعت الصبح وتعالى وفي حمايتي دا أنتِ ضيفة .. وفي الأخر هنتحامى في مامتك !! روحني يا عم ، عشان أخوك لو قال لي أزيك هفتح دmاغه.. ما بالك عاملني بسخافته !!
-يخربيتك يا هارون !! للدرجة دي شايلة ومعبية ؟!
ظلت تقضم بشفتيها متحيرة من أين تبدأ بعد ما استعانت بأصدقائها التي سردت لهم ما حدث برسائل نصية على أحد مواقع التواصل الإجتماعي ، فاندفعت بتلقائية بسؤال فدوة التي اقترحته عليها :
-أخوك هارون ده متجوز ؟!
ثم بررت موضحة سبب سؤالها بخُبث:
-قصدي يعني لو متجوز الله يعين مـ.ـر.اته على عصبيته ونرفزته طول الوقت !!
قال بعـ.ـبـ.ـط المغــــرور ، وفي عينيه نظرة متحفزة:
-مش متجوز ، وادعي له ربك يفك عقدته عشان ده موقف حال ٣ رجـ.ـا.لة كيف الورد .
زامت شفتيها بفضول حول تفاصيل ذلك الرجل الذي أفسد حياتها :
-أزاي !! أفهم بقا ؟!
-صفية ياستي ، حالفة إيمانات المُسلمين ما قعر طبل يرن لواحد فينا قبل ما تفرح بهارون .
أردفت غير مقتنعة :
-مش فاهمة !! اللي حابب يتجوز ، يتجوز .. لنفترض مثلًا أخوك مش حابب يتجوز من أصلو !!
-لا ماهي صفيـة مديله مُهلة لأخر السنة دي !! لو معملهاش هتهمل العزايزة وهتج على رأسها .
فاندفعت بفضولها الغير مُبرر :
-وهو هيختار عروسته ولا أعرافكم بتجبره على واحدة معينة !
-والله على حسب هو رايد مين !! بس في الغالب صفية هتجبره على اللي تختارها لانه مش ناوي يختار في سنته المقندلة دي ..
كانت تبحث عنه في وريقات اسئلتها الفضولية ، فأتبعت باهتمام شـ.ـديد :
-هارون ده مُتعلم !! لو شخص متعلم وواعي آكيد مش هيقبل يتجوز بالطريقة دي !!
تنهد هيثم وهو يناظرها :
-هارون أخوي ده حكايته حكاية ، حِمله تقيـل قوي ..
-ازاي !! ده حتي يابن عليه جِبلة ومش بيحس !!
فانفجر اللفظ من عفويتها بدون رقابة ، فألتفت لها هيثم ضاحكًا ثم هدأ سرعة السيارة عند اقترابه من نجع العزايزة ودار برأسه لعندها متغزلًا بجمال عينيها الرمادية باستخدام العدسات اللاصقة .. كاد أن يُكمل حديثه عن أخيه ولكنه تعرقل بجمال عيونها فقال متغزلًا بلطافة :
-عيونك حلوين ، يا ترى تفكيرك حلو زيهم ؟!
تقبلت عزله بصفي نيـة ، فأجابت بنبرة تحمل السخرية والتهديد معًا وهي تحدق بعينيـه :
-لو عرفت اللي بيدور في دmاغي هتتخض و تهرب مني .
تراجع هيثم متفهمًا نظرتها الحادة التي استقبلها بابتسامة خفيفـة وعاد النظر للطريق مغيرًا مجرى الحديث وهو يشير بسبابته للخارج يستجدي رضاها كي لا تسيء الظن فيه :
-ده يا ستي نجع العزايـزة ..
ثم انكمشت معالم وجهه باستياء وأكمل ممازحًا :
-النجع الملعون ..
هبت مع رياح خــــوفها تتساءل:
-ليه!! فيه عفاريت ؟!
-لا فيه بني آدmين .
رمقته بعتب وهي تدير وجهها نحو النافذة :
-خضتني ..
ثم مالت نحوه بنفس الفضول الذي يلتهب من مُقلتيها :
-هو هارون …
فقاطعها هيثم معترضًا بمزاحٍ:
-هو كله هارون هارون !! مفيش مرة هيثم ولا أيه ؟!
أحست بإنه كشف أمرها وأدركت أنها تمادت حول معرفتها ذلك الشخص الذي شغل تفكيرها طوال الليل ، بادلته بابتسامة مترددة :
-هاه !! انا هتفرج على الطريق ….
بوابـة ضخمـة من الرُخام على جانبيها تمايثل ذهبيـة على هيئة ذئاب رافعة رأسها تعول بالسماء .. يعلـوها بالخط العريض الاسم ” نجـــع العزايزة ” ، أخرجت رأسها من النافذة فداعب الهواء ملامحهـا مع نسائم رائحة التُربة والزرع والحياة الريفية .. صفوف لا تُحصى من النخيل على الجانبين ، أشجار فارعة الطول تُغازل سُحب السماء عن طريق الطيور التي تحمل رسائلها وترفرف بها لأعلى ولأعلى كي تبلغ منها السلام والحُب .. طريق طول لا نهايـة له من الأراضي الخضراء المزروعـة ، ترعـة ممتدة على يمينها ، عدد قليل من العمالة صادفهـا .. الهواء البـ.ـارد يداعب قلبها مُرحبًا بعودتها لحيث ما تنتمي ، لمكان أصلها ودmها الذي عاشت بعيدة عنه لمدة ثمانية وعشرون عام ..
بدأت المنازل المصفوفة تظهر أمامها عن بُعد ملحوظ ، بيوت لا تتجاوز الثلاثة طوابق جميعها تحمل نفس اللون نفس التصميـم ، جميعها على صف واحد ويعلوه خيمـة مثلثة الشكل من اللون الأحمر القاتـم والجدران المصبوغة باللون الرملي .. خرج من شِدقها المزمزم بانبهار وكأن الجمال أيقظ فيها وطنًا تعرفه :
-وواااوو !!
ثم دارت لعنده مذهولة مما رأت :
-هيثـم !! أيه الجمال ده !! أحنا في الجنة !! أنا مش مصدقة الجمال ده !! أنا زورت أماكن كتير عُمري ما شفت مكانٍ بالعظمة دي !! كل حاجة جميل !!
ثم تحمست أكثر وقالت بجزل طفولي:
-المكان يهبـل !!
مسد شعره المُغطى بالجل وقال معجبًا بفرحتها :
-أهي دي عيشتنا وحياتنـا يا ستي .. هنـا عالم جوة العالم .. المكان ده على كــد ماهو جنـة لكن قوانينه من جهنم ..
أتبعت بإثارة :
-طيب أزاي أنتوا كده !! أنتوا مين ؟!
دار بمقود سيارته على الطريق المرصوف لينحدر بدرب أضيق وأتبع موضحًا :
-اللي فهمته من أحلام ..
قاطعته :
-مين أحلام !!
اتسعت ابتسامته عند سماعه اسمها :
-دي بركة بيتنـا .. هعرفك عليها لما نوصلوا .
لمع بريق الحماس بمقلتيها :
-متحمسة جدًا .. كمل بقا ، أحلام قالت لك أيه !
اخفض من سرعة السيارة حد الهدوء منتظرًا مرور كـ.ـلـ.ـب صغير من أمام سيارته للجهة الأخرى وقال :
-قالت لنـا أن الموضوع بدايـته من حكم الانجليز لمصـر و ..
ثم نظر إليها ضاحكًا متراجعًا عن حديثه:
-حاسس إنه كلام كبير ومش لايق عليّ .. هخلي أحلام تحكي لك براحتها ، هتجيب لك أصول العزايزة من طقطق لهارون .
ضحكت ليلة إثر سماعها لـ اسم هارون فقالت مقترحـة :
-هيثم ، ممكن نتفق على حاجة ؟!!!!
رد مُرحبًا بعرضها متحاشيًا مصطلحاته الصعيدية قليلًا كي يسهل عليها فهم الكلمـ.ـا.ت :
-أنا هنا عشان انفذ كُل اللي تؤمري بيه …
•••••••••
~مرسى علــم .
وضعت بذلتـه الميري المكوية على طرف السرير وهي تخفي عبراتها التي تتقطر من عينيهـا بتلك اليد المرتجفة تزيح عن وجنتيها آثار الدmـ.ـو.ع .. خرج هاشم من الحمام بعد ما فرغ من غُسلـه الصباحي خرج كي يستعد للعودة لوحدته العسكرية قبـل الرجوع لبلدته .. شرع في ارتداء ملابسـه فتراجع عند رنيـن صوت تليفونه ، التفت إليه و رد بنفس النبرة المتحمسـة :
-رؤوف باشـا ..
أتاه صوت الرائد رؤوف ابنه عمه والذي يكبره بعامين بعد ما فرغ من ارتداء بذلتـه بأحد المساكن العسكرية بالجيش ؛ موبخًا بنبرته الفُكاهية :
-هاشم بيـه لو مفيهاش إزعاج في تأخير ساعة و فيها جِزا ..
قهقه هاشم ضاحكًا وهو يدنو من تلك التي تتحاشى النظر إليه منغمسة في تجهيز حقيبته :
-والله يا رؤوف ياباشا شوف الجِزا اللي استحقه وأنا معاك ..
ألتف ذراعه حول خِصر الفتـاة المنحية وهي ترص ملابسه البيضاء، فتلاقت أعينها الباكية بأعينه المتأرجحة بصمت وتتساءل عن سبب شحوب وجهها ، اكتفت بوضع رأسها الصاخب على صدره وعاد ليُجيب على سؤال رؤوف الحائر :
-همـ.ـو.ت وأعرف بتغطس فين باليومين وتقب فجأة .. وحياة صفية حاسس أن وراك مصـ يـ بـة!!
ضم جميلتـه لحـ.ـضـ.ـنه وقال متغزلًا بمزح :
-بس مصـ يـ بـةكيف القمـر !!
ألجمه رؤوف بحذر :
-والله ما مطمن لك .. ساعة بالكتير وتكون قِدامي عشان نمضي طلب الأجازة .. ونشوف مصايبك اللي هتودينا ورا الشمس .
بدون أي إطالة أنهى مكالمتـه مع رؤوف الذي سيشاركه سفـره للعودة لنجع العزايزة .. رمى الهاتف من يده فوق الأريكة وألتفت لتلك الباكية بحضـنه فسألها بلفهة وهو يمسك بذقنها ويرفع وجهها إليه :
-ما أحنا كُنا حلوين !! ليـه الدmـ.ـو.ع دي !!
انبثقت دmعة من طرف عينيها وهي تشكو مخاوفها :
-قلبي مقبوض أوي من الأجازة دي يا هاشـم .. مش حابة أنك تنزل ، حاسة في حاجة هتحصـل .
احتوى كفها المرتعش وبيده الاخرى مسـد على شعرها بحنانٍ ، فقال مواسيًا :
-أنتِ بس اللي مش عايزاني اسيبك وأمشي .
تنهد بحرقة وهي تتحسس نبض قلبها ، لتُجيبه بصوتها المهزوز :
-لا يا هاشم المرة دي قلبي مش مطمن ، في حاجة هتحصـل ، حاسة بحاجة هتاخدك من حـ.ـضـ.ـني .. بلاش تنزل البلد قولهم عندي شغل وخليك معايا .
عارضتها بلُطفٍ بعد ما قَبل كفها ؛ مستردًا أوصوله الصعيدية :
-ودي تيجي بردو !! محضرش فرح أختى ؟؟ أومال مين هيطلع عينين العريس .
أومأت متفهمة ولكن بدون اقتناع ، فتوسلت له :
-طيب عشان خاطري خليك معايا كمان شوية بلاش تنزل دلوقتِ .
عقد حاجبيه وقال مداعبًا ليُلطف الأجواء المشحونة :
-ورؤوف هيصدق ما يلاقي يكتب فيّ مذكرة ولا أعرف احضر فرح هيام الغلبانة ولا أشوفك تاني .. وأبقوا هاتولي عيش وحلاوة .
بابتسامة متقنة إخفاء حـ.ـز.نها قالت وهي تجلي حلقها :
-تمام يا حبيبي .. خلي بالك من نفسك ، وكلمني على طول ، ولما أكلمك ترد يا هاشم متقلقنيش عليك .
النظرة الواحدة منها لا تساويها إلا القُبل .. قُبلات سقطت للتو من شجرة كرز يغرف منها كما شاء له .. خديها الوردية التي زينهـا بثمرات حـبه لصاحبة الشعر الغجري والعيون البُنيـة التي جعلت قلبه يتمرد على قبيلتـه .. لم يتجاهل تلك الشفاة المرتعشة التي ضمهـا كي تهدأ ، وكان النصيب الأكبر ليديها التي خُدشت من الحياة فجاء حاملًا باقة من القُبل ليعتذر منها .. فهمست له بصوت لاذع وهي تبتعد عنه مُجبرة :
-حبيبي يلا عشان تحلق شُغلك .
قرقرة بطنه معلنـة جوعه لجميلتـه ، لم يسمع ببُعدها عنـه بل واصل سيـل حبه الذي بدأه معها ، فذكرته قائلة :
-هاشم ،و رؤوف هيكتب فيـك مذكرة !
-يكتبها على أقل من مهلة .
إن جاء سُلطان الهوى ، فكُل أوامره نافذة ، فاضت منها الأوهام فأستقبلته برحب ربما يكون عنده دواء قلبها المتشائم هذه المرة .. عانقته وهي مُغرمة بـ رحابة الروح التي بين قلبين جمعهما القدر ، أقبل عليها بشوقه و أتت إليه محملة بأشياء غير مفهومة ليُترجمها ، أتت لتنفض أتربة القلق من فوق روحها ، أتت بطمع كي تحمل ما يمكنها حمله من لحظات قُربهم الشحيح ، أتت منبهرة بأسلوبه وكيف يحاول جاهدًا أن يعوضها عن أيام الغياب .. مد لها يدًا ، وقلبًا ، وأذنًا تصغي لها دائمًا ، حتى أحبته وأحبت الحُب بهِ ..
••••••••
~قصـر العزايزة .
وصلت عجلات سيارة هيثم لبوابة منزلهـم ، ما فتح له أحد الخفر ، فأخرج رأسه من النافذه متسائلًا بحسه الأمني :
-مين جوه ..؟!
أجابه الخفير على الرحب:
-الحج خليفة ، وهارون بيه لساته طالع .. والشيخ هلال ما ملمحتوش من ساعة ما جيت .
سحب نفسه وعاد لقيادة سيارته في دهليز البيت المرصوف بالبلاط حتى وصـل لمدخل البيت ، صف سيارته وهو يمتد بصره للخارج من نافذتها مُشيرًا لها :
-اللي قاعد هناك ده أبوي الحج خليفة .. واللي لابسه أبيض دي أحلام .. تنزلي متقوليش ولا حاجة سيبيني أنا اتكلم .
هبط هيثم من سيارته بخفة ثم تابعته ليلة بخطواتها المُثقلة بالغرابة والفضول وهي تتفقد تفاصيل بيتهم الأشبه بالريف الأوروبي .. بخطوات واسعة وصل هيثم لأبيه الذي انحنى وقبل يده وألقى التحية عليه ، ولم ينسى أحلام الجالسة بجواره ، قبل رأسها ثم أشار لليلة أن تقترب منهم .. همس بأذان أحلام وهو يجلس على حافة مقعدها البلاستيكي ويلفح كفتها بذراعه متوسلًا :
-أحلام ، غطى عليّ قُصاد الحج خليفة وخليكي جدعة المرة دي !
تفحصت أحلام تلك الفتاة الأشبه بفراشة متنقلة تقترب إليهم ، مرتدية جاكت باللون الأبيض بأكمام طويلة وتحته سترة بيضاء قُطنيـة وبنطال من الجينز الأزرق ولم تنسى ذلك الوشاح المنقوش الذي يحاوط رقبتها .. فطالعت هيثم بمزاح وهي تشـ.ـد أذنه :
-أنت متعرفش تيجيلنا ويدك فاضية أبدًا !! مين دي ؟!
توسل لها ضاحكًا :
-غطي عليّ أنا في عرضك .. هيثم حبيبك .
ثم وثب من جوارها وقدm ليلة لهم :
-يا جح خليفة ، دي المذيعة ليلة جاية قنا تصور برنامج ، وأنت عارف أحنا مش عنقصروا مع ضيوفنا واصل !
رفع خليفة جفونه المنكمشة ببطء وهو يفصح تلك الغزالة التائهة التي تقف أمامه فأومئ مُرحبًا :
-يا مرحب يا بتي !
برق لها هيثم أن تنحني وتُقبل يده لكنها هزت كتفيها بجهلٍ تام واكتفت برد التحية ببسمة تائهة:
-أهلا بحضرتك يا عمو الحج .
كادت أن تُبرر سبب زيارتها المفاجئ ولكن رمقها هيثم مندفعًا بالحوار كي لا تُفسد مخططه :
-ودي أحلام اللي حكيت لك عنها .
نظرت لها بفرحةٍ :
-أزيك يا طنت ؟!
رحبت بها أحلام :
-نورتينا يا بتي .. تعالي أقعدي ،واقفة ليه !
تدخل هيثم موضحًا بدون اتفاق معها :
-هتقعد وهترغي كتير يا احلام ..
ثم رمق أبيه مستئذنًا :
-بعد إذنك يا حج خليفة ، هنضايفوا الأستاذة عندِنا كام يوم لحد ما تخلص .. بدل قعدة الفنادق .. أيه قول لك !!
تدخلت ليلة معترضة باندفاع :
-لا لا !!!!
ألجمها هيثم بنظرة فجعلها تبتلع بقية الكلمـ.ـا.ت بحلقها ، نظر خليفة لأحلام بإعتراض على طلب ابنه، فعارضته أحلام قائلة بترحاب :
-فوق راسنا يابتي ، تنورينا ، بيت خليفة العزايزي مفتوح للكل .. ولا أيه يا حج خليفة !
ثم رفعت جفونها نحو هيثم الواقف خلف أبيه والذي يُرسل لها قُبلة بالهواء متحمسًا :
-ينصر دينك يا أحلام يا عسل أنتِ ..
~بغُرفة هارون .
خرجت صفيـة من الغرفة بعد ما قلبتها رأسًا عن عقب وأخرجت الشيء الخارج عن الدين الذي وضعته زينة تحت وسادته ، ظلت تبحث وتُفتش بجميع أركان الغرفة ربما تعثر على شيء آخر حتى تركت الغُرفة لفردوس آمرة :
-الأوضة دي تتغسل بمية وملح يا فردوس ، وهارون لو سألك قوليلو عنضفوا .. وبعد ما تنضفي تبخري وتشغلي فيها قرآن .. خلي عُقدة الواد تتفك .
ثم غمغمت متوعدة :
-أما وريتك يا زينـة !!
ما هبطت على درجات السُلم فوجدت زينـه أمامها ، كزت على فكيها وقالت مغلولة :
-جيتي لقضاكي يا زينة !!
استقبلت عمتها بثغر مبتسم وهي تنزع وشاح رأسها كعادتها :
-يسعد صباحك يا عمتي .. جمعـة مبـ.ـاركة عليكي ..
هرولت صفية لتمسك بذراعها بقوة وتسحبها تحت السُلم بملامحها الغاضبة ، غمغمت زينة بذهول:
-مالك يا عمة !! أنا عملت ايه ؟!
رفعت تلك الورقة المطبقة أمام عينيها :
-أيه ده !!! أنتِ هتعقلي مـ.ـيـ.ـتة ؟! أعمل فيكي أيه ؟!
تراجعت زينة مبررة وتدافع عن نفسها :
-والله يا عمتي ما فيه أذية لهارون متخافيش .. أنا كنت عايزاه يتجوزني بس .
قرصتها بذراعها بغلٍ :
-فين عقلك عايزة أفهم !! حـ.ـر.ام تروحي للناس دي يا بتي .. أعقلي وحطي عقلك في راسك .
ثم صاحت بوجهها متحيرة :
-طيب اعمل فيكي أيه !! أمـ.ـو.تك وأخلص منك ومن همك..
قبلت عمتها بلهفة وهي تقسم لها بإنها لن تُكررها مرة ثانية ، ثم طوت دفتر وعودها وفتحت دفتر توسلاتها :
-بس جوزيني هارون ، رايداه وحباه يا عمتي .. أنا مش عايزة اتجوز غيره .. عارفة لو متجوزتوش همـ.ـو.ت لكم نفسي .. ويبقى ذنبي في رقبتك .
ضـ.ـر.بتها صفية على رأسها كي تصمت :
-طب اظبطي ولمي نفسك ، وبكرة العشية جايين نطلبوا يدك لهارون ..
كادت أن تصيح غير مصدقة فوضعت صفية كفها فوق فم زينة كي تصمت محذرة :
-وكتاب الله لو حد شم خبر ما هجوزك الواد يا زينـة .
لمعت الفرح ازدهرت بمقلتيها وهي تكتم نفسها بكلا كفيها وهي تهز رأسها نافية محاولة استيعاب الخبر ، ثم عادت متسائلة بعدm تصديق وهي تجلي حلقها :
-يعني هو هو قال لك بلسانه إنه رايدني .. رايد زينة ياما .. أحب على يدك يا عمة قوليلي قالها كيف وفرحي قلبي .
جاءهم صوت هلال متحمحمًا :
-أحم يا ساتر .. راسك يا زينة!
قال جملته وهو يدور للخلف كي يتحاشى النظر إليها ، فـ ردت مستنكرة تحت سطو فرحتها :
-مالها راسي يا هلال !!
لم يرفع جفونه المتدلية بالأرض وقال ممتعضًا :
-غطيها .
مالت على مسامع عمتها متهامسة :
-هو لساته معرفش إني هبقى مرة أخوه !!
-تعالى أهي غطتها ..
فقرصتها عمتها بغل جعلتها تتأوه صارخة ، فتدخلت صفية متسائلة حول ثوبه الأبيض:
-مش لسه بدري على صلاة الضهر ؟!
دار هلال لعند أمـه ولم يرفع رأسـه صوب زينـة التي تهذي من شـ.ـدة الفرح ؛ فقال بسماحة وجه :
-إن الله يُحب أن يأتيه عبده قبل أن يُناديه ..
ثم قبل يدها وأتبع :
-ناقصك شيء يا أم هارون !!
-ناقصني لمتكم حوليـا يا حبيبي .. روح ربنا يرضى عنك دنيا وآخرة ياابن بطني .
كاد أن يجيب أمه فتدخلت زينة قائلة بفرحة الأبله :
-قوليلو يا عمه إني هابقى مراة أخوه ..
عقد هِلال حاجبيه مطالعًا أمه التي تضـ.ـر.ب كوعها بجنب زينة كي تصمت :
-متحطش في بالك يا حبيبي ، زينة اتهطلت !!
هنا جاء هيثم يتراقص من بعيد وهو يُغني بحماس ” فكهاني وبحب الفاكـهة ، وبمـ.ـو.ت في الموز والمانجا ” ، قفل هِلال جفونـه متنهدًا بنفاذ صبر على عبث أخيه :
-يااااا لله !!
ثم دار إليه واعظًا وعلى الجهة الآخرى تتوعد صفية لزينة بأنها ستعيد تربيتها من جديد وستنفذ تهديدها ؛ أردف هِلال بنبرته الهادئة وهو يُرشـ.ـد أخيه :
-يا حبيبي رطب فمك بذكر الله والصلاة على الحبيب ، هذه الكلمـ.ـا.ت تُصدي القلب وتطفئ الروح .
عبر هيثم عن فرحته قائلًا بمزاح :
-بذكر نعم ربنا يا جدع !! فيها حاجة دي ؟!
ثم لف ذراعه فوق كتفه وقال بحذر :
-وبعدين لو عرفت مين بره هتعذرني .. ورب الكعبة أخوك معذور ..
تدخلت صفية في حوارهم :
-ما تُصلب طولك يا واد أنتَ !! شكلك من الصبح مش مريحني ، وعامل عملة !! قول لأخوك نلحقوا نلموها !!
ترك أخيه واقترب من أمه وهو يوشوش لها بفرحة عارمة :
-عارفة مين بره !!
ردت بجهلٍ :
-هو في حد بره غير أحلام وأبوك !!
هام مُعبرًا عن فرحته بمجيئها :
-والقمر يا صفية !
كاد هلال أن يرحل ولكنه تمسك بيده كي يتراجع:
-على فين ،أحضرنا يا مولانا …
ثم نظر لأمه وأكمل :
-ولدك البكري إمبـ.ـارح كنا جايبينه من القسم ،بس كان قاطر حتة بت ، فلجة قمر يا صفية .. حتى اسألي الشيخ هلال!!
جحظت عيناي هلال غير مصدقًا إثر تمادي أخيه في الوصف ، ندبت صفية على صدرها ما الذي يفعله ولدها بالقسم :
-يا نصيبتي !! صح يا هلال أخوك كان يعمل أيه فى القسم !
فتابعتها زينة بنفس الصدmة ولكن كان خــــوفها يدور حول فكرة اقتراب فتاة منه :
-يا نصيبتي !! صح يا هلال،مين البت دي !!
رمقهم هلال بذهول حتى باغته هيثم قائلًا :
-قول شهادة حق يا مولانا ! أوصف ابداع ربك في خلق الجمال ! واحكي لصفية عن الآنسة ليلة .
تحمحم هِلال معترفًا :
-لم أسمع إلا صوتها .
هيثم مسهبًا في الحوار :
-طب احكي لصفية على صوتها !!
جحظت عيناه مذهولًا من وقاحة أخيه المعتادة :
-لا يجوز ، صوت المرأة عورة .
-ليـه هو صوتها خالـع براسه !!
لن يليق بسفههُ إلا الشتائم ، عض هلال على شفته وهو يلعنه قبل أن يفقد السيطرة على نفسه :
-ويحك أيها السفيه !!
ثم نظر لأمه :
-بالإذن يا أم هارون ..
تمسكت زينة التي جن جنونها بمرفق هيثم :
-مين البت دي يا هيثم !
سحب ذراعه مُعارضًا :
-بس بس متقوليش عليها بت الأول !!
اغــــرورقت الغيرة من عينيها :
-وعايزة أيه اللي مـ.ـا.تتسمى دي من هارون !! انطق يا هيثم ؟!
فتدخلت صفية مستفسرة :
-أي حكايتك أنتَ وأخوك يا هيثم ، اتكلم يا واد !!
دmدm بصوت مسموع بينهم بتفاخر :
-الاسكندرانية اللي كلمتك عليها امبـ.ـارح ، مستنياكي بره ومستنية تاكل حمام .
اندفعت زينة بإعتراض :
-جاتها حِمى في بطنها !!!
انكمش وجه هيثم معارضًا :
-شالله أنتِ وهي لا !! دي خسارة في العيا .
تدخلت صفية لتتأكد :
-أنتَ يا زفت !! صوح جايب البت دي بره .
-وهتقعد معانا أسبوع بحاله .
صاحت زينة بقلة حيلة :
-عمتي  عـ.ـر.في هيثم أن هارون هيخطبنى ..
لقد فاضت رأس صفية من تحمل رصاص عبثهم ، فانفجرت بوجه كل واحد منه على حدى :
-يخربيت أمَك _ثم نظرت لزينة مشيرة بكفها بغل _على بيت أمِك أنتِ كمان .
وتركتهم ورحلت وهي تثرثر بصوت مسموع :
-يارب أنتَ اللي عالم بحالي ، ربنا بيدي المـ.ـجـ.ـنو.ن عشان العاقل يتجنن .. كان مستخبي لي فين كل ده بس يا ربي !!
••••••••••
-طيب أهدى يا شريف وفهمني !!
أردفت نادية التي فاقت من النوم على صوت رنين جرس المنزل المتكرر بعد ما فقد شريف أمله أن ترد عليه بهاتفها .. فكرر شريف جملته بغـــضــــب متزايد :
-بعتت العسكري يوصل ليلة على المطار ، لقى الهانم ركبت جوة عربية هيثم العزايزي ومعرفش راحت على فين !
ثم رمى السيجارة بفمه كي يفرغ بها طاقة غـــضــــبه :
-عمتي أنا لحد هنا وجبت الناهية مع ليلة !! هو سامح الجوهري يدلع ويبوظ وأنا أشيل !!
زفرت نادية بضيق وهي تسب ابـ.ـنتها سرًا ثم عادت متسائلة :
-كلمتها على تليفونها !
-طبعا كلمتها مش بترد !!
ثم صاح ليشعل الأمر أكثر :
-عمتي العزايزة دول جماعة شمال ونوش وكل شُغلهم شمال !! وبـ.ـنتك كمان رايحة لهم برجليها !!
تسرب القلق لقلب نادية ثم قالت :
-طيب والحل يا شريف !! أنت هنا في اسكندرية ازاي ممكن أوصلها ؟! شريف ، خد البوكس وروح هاتها من بيتهم عشان البـ.ـنت دي قربت تجنني وحسابها معايا لما تيجي !!
رد بحزم :
-ساعتين بـ.ـنتك لو مردتش على تليفونها هروح أجيبها من قلب بيتهم ومحدش هيهمني .
••••••••
~قصـر العزايزة .
-هيثم ، أنتَ طلعت بحوار البيات ده منين !! أنا هرجع الفندق ، مامي مش هتوافق .
تابع خُطاها :
-ياستي أديني حق الفندق وأنا راضي .. بس مش هينفع تروحي ، مندرة الضيوف مفتوحة للكُل ، وكمان تحضري معانا فرح هيام!!
ضـ.ـر.ب كف على الأخر :
-هيثم ، أنا أول مرة أقابل حد أجن مني ..
مال نحوها بإعجاب :
-عشان ت عـ.ـر.في بس إننا فولة وانقسمت نصين !
تحمحم بحذر وهي تسبقه الخُطى ؛ وتنبهه :
-أنتَ على طول كده ناسي أعرافكم ! فوق .. دا أنت أخوك العمدة .
جهر ضاحكًا :
-طب بتفكريني ليه !! سبيني أحلم!!
وصلت ليلة لأسطبل الخيول مع هيثم الذي تولى مهمـة إرشادها بالمكان ولكي ينقذها من شرور زينـة التي فقدت عقلها عند رؤيتها ، دخلوا من باب الياخور وهي تُراقب الكثير من الأحصنة .. كل منهم بمنزله الخاص ، لم تلتفت للأحصنة التي يتكون لونها من الأسود والبني ، بل جُذبت من ياقتها لذلك الفرس الأبيض كالغيـم و المنفي عن
كل الخيول كأنه رئيسهم ، ركضت لعنده وهي تُشيد بجماله وهي تُداعب شعره :
-تحفه!! الخيل ده يجنن .
اقترب منها وقال :
-دي ” غيم ” فرس هارون .. وابعدي عنه عشانه مـ.ـجـ.ـنو.ن كيف صاحبـه .
اسمه حرك نهر فضولها وقالت بفلسفة :
-مفيش خيل مـ.ـجـ.ـنو.ن وخيل هادي ، بابي كان بيقول الخيل بيحس بقلوبنا وبيعاملنا على أساسها .
ثم فتحت الباب الحديدي ودخلت منه متجاهلة تحذيرات هيثم لها :
-لا يا ليلة متتجننيش .. محدش بيعرف يسيطر عليه ، اطلعي عقول لك .
شرعت بالتعامل مع الخيل كيفما علمها والدها حتى كسبت ثقته ، كان غيم هادئًا على عكس عادته ، مُرحبًا بلمساتها الحنونـه وكأنه كان ينتظرها عنـ.ـد.ما أحس بقلب صاحبه الذي ألتقى بها من غيره ، شرعت أن تروي عليه قصـة خيلها القديم وتحدث الخيل وهي تُطعمه براحة كفها :
-تعرف إني خوافة جدًا ومستحيل أقرب من أي حـ.ـيو.ان ، لحد ما بابي كـ.ـسر جوايا الخــــوف من ناحية الخيول ده وعرفني على الخيل بتاعه كان اسمه “حلم ” حبيته جدًا ، واتعلقت بيه أوي .. بس للأسف من زعله الشـ.ـديد على بابي هو كمان اتوفى بعده بأسبوع .. أنتوا الاتنين تشبهوا بعض جدًا ، كان أبيض زيك ..
ثم نظرت لهيثم الذي يستمع لها باهتمام شـ.ـديد وهي تضع السياج فوقه :
-أنا ممكن أركب !!
أبي هيثم بإصرار :
-لا ، استنى لما هارون يعاود ، غيم محدش بيعرف يتعامل معاه غير هارون ده مدبوب .
اسمه بث وميض العناد بصدرها وقالت بسخرية وهي تتأهب لركوب الخيل بعد ما فكت رباطه:
-هارون أخوك ده مبيعرفش يتعامل مع بني آدmين !! هيتعامل مع أحصنه ..
ثم أتبعت بثقة وهي تستريح فوق ظهر الحصان :
-أنا هعرف اتعامل كويس ..
ثم شـ.ـدت اللجام وتحركت فندب هيثم على وجهه وهرول ليخرج حصانه جاهرًا وهو يقفز فوق ظهره :
-يا وقعة سودة !! هارون هيطين عيشتي !!
صعد فوق حصانه ثم لحق بها حتى أصبح موازيًا لها قائلًا :
-لفي لفتين ونرجعه عشان هارون بيتعصب لما حد يقرب من غيم .
مالت على رقبة الحصان وهي تداعبه براحة كفها :
-أنا وغيم بقينا صُحاب خلاص !! مش كده يا غيم .
ثم اعتدلت مرة ثانية وسألته :
-هارون ده أخوك ، فين دلوقتِ !!
شـ.ـد لجام حصانه ليقترب من حصانها أكثر :
-في المحجـر .
-ده قُريب من هنا !!
أشار نحو الطريق الخلفي للمنزل الذي يطل على الجبل فقل :
-لو دخلنا من هنا ، عشر دقايق ونكون هناك ..
دارت بحصانها جهة ما أشار دون أن تلفت نظره عن رغبتها في الذهاب إليـه ، فقالت لتلهيه بالحديث :
-أنا جات لي فكرة برنامج ، هعمل برنامج واسميه “حكاوي ليـلة” .. بس لسه مش عارفة هحكي أيه وممكن المكان هنا يساعدني أزاي !!
راقت له الفكرة ثم أكمل مقترحًا :
-عارفة مين ممكن يساعدك بجد ، هارون أخويا .. ده قاري كل كُتب التاريخ والقانون .. الجدع دmاغه ذرية وهتعجبك .
تأرجحت عينيها بمكر :
-لا مش عايزة حاجـة منه .. وبعدين هارون ده أنا مش عايزة اتعامل معاه خالص .. خلينا بعيد .
التوى ثغر هيثم بمزاح :
-ومفيش أبعد من إكده !! دا أنت راكبة حصانه ..
تجاهلت تلميحاته ثم قالت متحدية :
-نتسابق !!
راقت له الفكرة على الفور :
-ما بلاش ، هتخسري .
شـ.ـدت لجام الفرش وانطلقت كالصاروخ الجوي ، فلحق بها هيثم ، تارة تغلبه ، تارة يغلبها .. أجواء من المرح تناسب فيها أمها ورفقاتها وشريف واسكندرية تمًا ، حتى أنها تناسب أمر أقراصها المهدئة ..
على الجهة الأخرى يقف هارون بين العمالة يشجعهم بصوته القوي وهو يصفق آمرًا :
-شـ.ـدوا حيلكم يا رجـ.ـا.لة ، عايزين نحملوا العربيتين دول قبل الصلاة .
ثم ألتفت للوراء بعد ما أخذ نفسًا من سيجارته ، أجرى مكالمة تليفونية وعينيه تجوب بالمكان بحرية كمن يبحث عن شيء لا يعلمه .. رد عليه هاشـم الجالس مع رؤوف بالوحدة :
-يا هِرن ، كيفك ؟!
تحرك ببطء نحو سيارته المصفوفة :
-هو علمك الزفت ده !! فينك !
ارتشف رشفة من كوب القهوة المتروك على المكتب وقال :
-قاعد مع رؤوف ولد عمك اهو ، وبالليل هنتحركوا على قنا .
جهر رؤوف الذي يشكو من هاشم :
-أخوك غلبني يا عم هارون .. لولاك بس أنا كنت هحبسه وملهوش أجازات عندي.
فتح هاشم مكبر الصوت ؛ فأردف هارون قائلًا :
-مزعلك ليه هاشم باشا!
-جاي الوحدة متأخر ساعتين يا عمدة ! لولا عارف وضامن هاشم كُنت قولت الواد ده متجوز من ورانا .
رد بصرامة :
-اللي اتعود يرفع راس العزايزة عمره ما ينزلها واصل ..هاشم ده خليفي في الملاعب .
تحمحم هاشم ليغير مجرى الحديث قائلًا بتفاخر :
-تربيتك يا هِرن .
-أول ما تطلع على الطريق طمني يا هاشم وخلي بالك من روحك .
رُفعت جفونه لبعيد فلمح طيف ” غيم ” شرد دون الالتفات لسؤال هاشم الذي لم يجيب عليه وقال بإمتعاض:
-هاشم !! أقفل دِلوق .
-في حاجة يا هارون !!
رد بإختصار وهو يُحاول يركز بالرؤية :
-في حد خرج غيم من بيته .. هشوف وارجع لك .
ثم عاود الاتصال بسرعة بالمنزل فردت عليه صفية التي سألها على الفور:
-هو حد طلع غيم يا ما !!
ردت صفية بتوجس وعدm تأكد :
-وه !! تلاقيها البت المصراوية وهيثم المـ.ـجـ.ـنو.ن !! بس غيم واعر كيف طلعوه ده يا ولدي !!!!
-بت مين دي!!
رمى السيجارة من يده عنـ.ـد.ما لمحها من بعيد وهي تتدلل فوق حِصانه دهس عود التبغ بقدmه وقال متوعدًا:
-هيثم البغل !!
ليلة الـ جابوك مش فايتة !!
كفى ووفى نزار عنـ.ـد.ما اختصـر جميلتـه بـ :
<-كم هو رائع أن تصبـح إمراة ” قضيـة ” !! >
هل تعلم أن للقلب قوانينه الخاصة التى لا تُناسب أراء العرف والقانون ، ومن نسل اللقاء الأول خُلقت قضيتـه معها ، وبدأت أول مرحلة لكونه متهمًا لدى سُلطان الهوى و الذي أصدر أمرًا بضبط وإحضار قلوبهم التائهة في خضم الحياة ودروبها ليجمعهما تحت غيمة القدر الذي انتظرهما أربعة وثلاثين عامًا .. فما هي القضية بعد !!
وكيف سيتعامل مع قضيته رجل القانون وحامي ومحامي أعرافهم !!
وما سيكون حكم سُلطان القلب يا ترى ؟!
#نهال_مصطفى .
••••••••
” قضيـة أنتِ ”
ما أن تأكد هارون من هوية أخيه وتلك الفتاة التي ساقها القدر لطريقه دون إرادة منه .. واليوم باتت فوق ظهر حصانه فدوى غـــضــــبه برأسه فجعله يستقل سيارته كالمـ.ـجـ.ـنو.ن وينطلق إليهم وهي يتشاجر مع الهواء الذي يتنفسه … كانوا على مسافة لا بأس بها قطعها منحدرًا من أعلى بسيارته الهمر في أقل من دقيقتين .. وعلى الجهة الأخرى ؛ نصحها هيثم الذي يصدر ظهره للجهة المُقبل منها أخيه بنبرة الخــــوف التي تتسابق بحلقه:
-كفايانا ..تعالي نعاودوا قبل هارون ما ياخد باله مننا .
شعور الحرية بسط ذراعيها بالهواء كالعصفور المتحرر للتو وهي تستمتع بالنسيم البـ.ـارد الذي يداعب ملامحها .. تنعم بأول لحظات الحرية بدون أوامر أمها الصارمة .. تحكمـ.ـا.ت شريف المقيدة لحريتها دائمًا .. ملأت صدرها من نسمـ.ـا.ت الحرية التي لم تتنفسها منذ أربع سنوات .. رفعت جفونها إثر جملة هيثم التي عكرت صفوها وقبل أن تنطق ببـ.ـنت شفة عقدت حاجبيها بفضول:
-في عربية جاية علينا من هناك..!
ترنح هيثم فوق حصانه ليديره للجهة التي تٌشير إليها ومن أن لمح سيارة أتيه ناحيتهم و بتلك السرعة التي جعلت عجلات سيارته تتعارك مع حبات الرمل المتطايرة حولها .. فهتف مشـ.ـدوهًا :
– ياوقعة سودة !!ده هارون .
خطى حصانها خطوة وهي تتمتم بحماقة :
-أحيــه !! اتأفشنا ؟!
-على قولتك أحيه !بالإذن أنا يا ليلة نتقابلوا على سفرة الحمام ده لو لينا عُمر .
كرر كلمتها بنفس النبرة وهو يأخذ وضع الانطـ.ـلا.ق والهرب ..فألتفتت إليه بدهشة :
-أنت هتروح فين ؟!
-مش هقدر أواجه هارون وأنا جعان .
شـ.ـد لجام حصانه وفي لمح البصر ذاب من حولها كذوبان فص الملح بالماء .. وحلت محل أقدام فرسه عجلات سيارة هارون التي صنعت نقشًا دائريًا حولها وهي تتفقد المكان بكل صوب وحدب وخلوه بعد تخلي هيثم عنها فلم يبقى أمامها غيره .. ثار غيم عند رؤية صاحبه .. تمسكت بكل قوتها وهي تهتف له أن يهدأ وتترجاه أن يُكف غـــضــــبًا .. تصارع كي لا تسقط من فوقه تشبثت كفوفها باللجام وهو يثور هنا وهناك مصدرا صهيلًا مزعجًا .. هبط مندفعا من سيارته متناسياً أمر بابها المفتوح وأقبل بإقدام نحوه وهو يصيح باسمه محاولا لمس وجهه :
-غيم غيم اهدا .. خلاص .
تمسك برابطة عنقه بقوة وأخذ يمسح على رأسه كي يكف عن جنونه ونوبة الفزع التي أصابته .. بدت بوادر الطاعة من الحصان فهبطت ليلة بسرعة من فوق ظهره بمهارة وقالت ساخرة قبل أن ينفجر بوجهها :
-سبحان الله .. مش بس أنا اللي كل ما أشوفك بتعصب .. واضح حتى حصانك مش طايقك وأنت محتجزه بالقوة .
كانت جبهته مسنودة على جبهة حصانه الذي يداعبه براحة كفه ويتنفس معه ويشعره بوجوده كي يهدأ .. اتسعت عينها وهي تحاول فهم ذلك السر والرباط القوي بينه وبين حصانه كاثنان رفاق يتقاسمان الهم معًا .. كان ساكتاً صامتاً لا أحد يعلم من بداخله غير ذلك الحـ.ـيو.ان الأليف الذي هدأ تماما وانصاغ لشكواه .. رفع هارون رأسه عن فرسه سحبه خلفه بهدوء وقيده بمؤخرة سيارته .. تابعت خُطاه بعد ما تناولت فاتح شهية للكلام معه وأتبعت بسخرية :
-واضح كمان أن الندالة وراثة في عيلتكو !!
ثم غمغمت بصوت مسموع مبطن بالسخط :
-هيثم الندل سابني وهرب !!
ثم أشاحت بمقلتيها التي تقصده بالحديث وأكملت بنفور وهي تٌرجع خصلة شعرها المتطايرة للوراء:
-مش هيجيبه من بره يعني !!أخوه سبق وعملها وسلمني تسليم أهالي في القسم .
نفر أنفاسه بغـــضــــبٍ محاولًا كتم مشاعره الثائرة وهو يكور يده على جمر التوعد لهثيم .. فقال من وراء فكيه المنطبقين:
-انت ايه اللي جابك !!
ردت بتلقائية :
-جيت مع هيثم .
قاطعها بتلك النبرة الغاضبة التي جعلتها تتراجع خطوة للوراء وهتف مستخدmًا مهارته القانونية ودقة تعبيراته :
-بقول ايه اللي جابك مش مين الزفت اللي جابك !!
لوحت بكفها وهي تنظر على يمينها ويسارها وتفحص المكان حولها متجاهلة سؤاله هي تخطو بعبث أمامه :
-أنا اروح أزاي من هنا ؟!
-استنى هنا !
مسكها من مرفقها ولفها كالحلزون حوله فاتخذت من سيارته مسندا لظهرها شاهقة :
-أنت مـ.ـجـ.ـنو.ن!! ..سيب إيدي .
-شهادة لله أنا ماشوفتش أجن منك !!
كان يطوف الغم والسخط بملامحه ، فأتبع موبخًا وهو يسبح بفضاء عينيها المتأرجحة ،فحانت منها التفاتة سريعة الى عيناه وهو يقول :
-وبعدين قوليلي ، انت كيف تأمني على روحك تركبي مع راجـ.ـل غريب وتجي معاه لإهنه !
امتصت غـــضــــبه هازئة :
-هو ده مش أخوك !!
دmدm مغلولًا من حماقتها:
-أخويا دا رجل ولا رجل كنبة !! أنتِ أي حد اكده يقول لك تعالي تقومي شبطانة و رايحة معاه ؟!!
قال جملته الاخيرة وهو يلوح بكفه بوجهها ،لمعت بعينيها عبرات الأوامر التي هـ.ـر.بت منها بالاسكندرية،الجميع يطـــعـــن بصحة تصرفاتها دوما محل عتاب لكل من حولها .. نفس النبرة المُلامة اغـ.ـتـ.ـsـ.ـبت خلايا مخها .. فقالت مدافعة عن نفسها :
-انا مش عيلة صُغيره عشان تكلمني بالطريقة دي ولا أروح مع أيه حد كده !!
ثانيا ده أخوك، وأنا سبق وركبت معاك ولقيتك محترم ومتربي ، قولت أكيد أخوك متربي زيك!
تلقى جملتها بهزئ :
-مين قالك ان هيثم متربي !
أجابت بفطرتها القـ.ـا.تلة لكل ثعابين المكر بروحها :
-أحساسي ، وأنا بصدقه في كل حاجة .
ارتاد فكره ساحات الحيرة حول تلك الطفلة البريئة صاحبة الجسد الأنثوي المتكامل والتي لا يلفح قلبها دخان غدر البشر فهي ما زالت بعقل طفلة لم تتجاوز السبع سنوات .. هتف معارضًا وهو يشير بسبابته صوب رأسها :
-وعقلك اللي ربنا خلقه ضيف شرف !! ولا مش موجود من أصلو ؟!
-اقولك حاجة ، أنت كمان شكلك مش متربي .. !!
-نعم !!
قطع خطوة لعندها فتراجعت لتصطدm بسيارته بخــــوف مبررة كي تنفذ نفسها من شره بهذا الخلاء :
-مش متربي ازاي تتعامل مع بنات الناس .
فرت من أمامه كفرار غزالة من بطش حـ.ـيو.ان شرس كضحية له ولكن سرعان ما أفشل مخططها وهو يلحق بها ؛ جاهرا:
– جبل وصحرا ..هتهربي فيهم تروحي فين ؟! أنتِ قاصدة تجننيني ؟!
ما يحرض أسهم غـــضــــبه نحوها سوى حماقتها التي جننته أكثر من تصرفات أخيه العبثية .. وقفت أمامه تتأمل ملامحه عن قُرب وهي تٌقايض القدر الذي جمعها به ،فاشتعلت بشهوة إطالة النظر بعيونه البندقية التي تتطابق تمامًا مع لون عينيها الذي تبغضه معترضة ؛ لٍمَ لم تخلق عينيها بلون عيني أبيها الخضراء !!..
لذلك دوما ما كانت تلجأ للعدسات اللاصقة كي تحقق أمنيتها الزائفة كي تصبغ صفة نسب واحدة بينها وبين أبيها .. ولكن من تلك اللحظة وبالأخص عنـ.ـد.ما ألتقت بتلك الأعين البنية اقتنعت بجمال عينيها الذي وصفه لها أبيها مرارًا وتكرارًا ..تحمحمت بخفوت مستردة وعيها الذي شرد معه :
-طيب ممكن متزعقش .. عشان الصوت العالي بيتعبني .
-يبقي تعقلي وتقولي كلام يدخل الراس !
أدرك أنه تمادي في معاملته الجافة .. فزفر ذرات غـــضــــبه وقال :
-مين سمح لك تقربي من غيم !
ردت بلا مبالاة وهي تهز كتفيها :
-أنا سمحت لنفسي عادي ..
-يا صبر الصبر !!
ابتلع جمر غـــضــــبه وجزعه الذي لم يعتاد كتمانه وقال بحنق وهو ينفر بقوة:
-أيه جابك ..؟!
-هثيم !
فانفجرت ضاحكة إثر نظرته التي كانت ستبتلعها بداخله ، فجاءت ضحكتها كالغيم المُمطر على أرض قالحة ..سرعان ما داوت الأمر بخفة روحها ، قائلة :
-بهزر والله ، أنت أصلك بتحقق معايا كإني متهمة عندك ، هو ده كرم الضيافة عندكم !! نتكلم بجد خلاص .
سرت قشعريره إعجاب خفيفة تجتاح جسده ولكنه سرعان ما دفنها برمال الصحراء تحت قدmيه وقال :
-ياريت .. عشان أنا خُلقي جايب أخره ..
شرعت بسرد اتفاقها المزيف مع هيثم والذي عقدته معه حيث استردت شخصيتها الثرثارة التي اكتشفتها معه :
-بصراحة أنا كنت جاية عشان نخلص الحساب اللي ما بينا .. وقابلت هيثم أخوك بالصدفة طبعا .. وهو اللي جابني وعزمني على حمام محشي .. وأنا بمـ.ـو.ت في الحمام المحشي أصلا .. قال لي مامتك بتعمله حلو أوي ، أنت أيه رأيك مامتك بتعمله حلو فعلاً ولا هيثم بيشتغلني !!
بومة تُغرد فوق مسامعه جعلت رأسه كقنبلة موقوتة موشكة على الانفجار .. تمسك برأسه ليدور نصف دائرة حول نفسه ثم عاد لعندها هاتفًا بجزع :
-يا صبر الصبر !!أنتِ ضاربة على الصبح ؟!
ردت بعفوية بحتة :
-فول وفلافل .
-إكمنِ راسك عمرانة !
تمتمت بإعراض :
-ممكن متغيرش الموضوع ؟!
رد متعجبًا وهو يسب هيثم وحياته كلها بسره :
-أنا !!
فأتبع مسايسا وهو يتكئ على مقدmة سيارته بملل :
-متأسف مش هغير الموضوع اتفضلي كملي .._ثم غمغم بتوعد_أما وريتك يا زفت !
دنت منه خطوة وقالت بهدوء:
-لما فكرت طول الليل عرفت أني ليا حق عندك .. وأنت ليك حق عندي .
رد بفظاظة :
-أنا ماليش حقوق عند حد ، عشان بخلصها أول بأول .
ردت بثقة :
-لا طبعا ليك .. تمن تصليح عربيتي يا حضرة .. أنت هتبكشش عليا ولا ايه !
أحس أن الحوار سيطول .. فلجأ للفافة التبغ كي تهون عليه مرارة ما سقط بقعره ..رمى السيجارة بفمه وهم بإشعالها وهو يقول :
-ياستي وأنا مسامح ، بجملة الخساير .. مش عايز حاجة .
-لا طبعا حقك لازم تاخده و
ثم سحبت السيجارة المشتعلة من فمه وألقتها بالأرض :
-وبعدين ميصحش تدخن كده وأنا بكلمك .
رد بجمود لتطاولها واقترافها لذلك الفعل الذي لا يجرؤ عليه أحد ، متقبلا بلاءه الذي حل فوق رأسه بسبب أخيه :
-ده ليه ؟!
بدون منطق أردفت :
-عشان أنا عايزة كده .
رفع حاجبه الأيمن :
-لا ياشيخة ؟!
ثم وقفت أمامه متحجة بحقها عنده والذي لا يُعنيها ربما كان مقصدها أن الكلام معه يطول لا أكثر :
-و .. حقي بقا، أنت هتيجي معايا دلوقتي وتحكي لشريف على كل اللي حصل وتبرأني قدامه .. وكده تبقى الحقوق رجعت لصحابها ومش هتشوف وشي تاني .. قلت ايه ؟!
لم تمهله الفرصة ليتحدث بل أكملت :
-لو أنت مسامح في حقك المادي ، أنا مش هتنازل عن حقي المعنوي يا عمدة .
-إكده هيرجع لك يعني؟!
ردت بعفويتها الفطرية :
-ومين قال لك إني عايزة ارجع له.. أنا بس عايزة أبقي أنا اللي سيباه مش هو اللي سايبني .
حك ذقنه وهو يفحصها باستهزاء من رأسها للكاحل .. حتى تفوه بنبرة هادئة عكس العواصف التي تسكنه ، أشار صوب سيارته :
-شايفة العربية دي ؟!
ردت مستهزئة :
-مش عمية أكيد !
-اركبي فيها ..
نبثت بتوجس خشية من أن يطاوعها وينفذ أمرها الذي اختلقته بدون أي رغبة منها بحدوثه :
-هنروح لشريف ؟!
رد بنبرته الحازمة :
-هتروحي مندرة خليفة العزايزي تاخدي واجبك وترجعي على بلدكم طوالي .. مفهوم .
كادت أن تعارضه ولكنه ألجمها محذرا:
-ولحد ما نوصل مش عايز اسمع النفس .. هاه !!النفس .
•••••••••
-بزياداك يا هثيم ؟! رايح جاي قصادي زي خيال المآتة .. خبر ايه مالك !!
أردفت أحلام جملتها بضيق إثر فرط حركة هيثم الذي يدور حولها كالدبور ..رسى تحت أقدامها وقال بقلق :
-هارون ولد صفية مش هيحلني يا أحلام !!
ثم أكمل وهو يحك بجدار عنقه :
-وأنا كمان استندلت مع البت وخدت توبي في سناني وجريت !! معرفش عملت إكده كيف !! بس هارون تفتكري عمل أيه في البت ، هو مرجعش بيها ليه !!دي مش قده يا أحلام ؟!
وبخته أحلام الجالسة تحت ظل الشجرة وقالت :
-يعني ورطتها وخلعت !! بصراحة حلال فيك اللي هيعملوا هارون .. أنا مش هدافع عنك النوبة دي .
تمتم متوسلا:
-أحلام دانا هيثم حبيبك !! حد بيرفع لك السكر غيري ؟! ده فيه اختراع جـ.ـا.مد نازل السوق قلت لازمًا تدوقيه قبل أي حد .
لوحت بكفها خافية عشقها للحلويات التي دوما ما يستجدي بها رضاها .. وقالت :
-هارون محلفني ماكلش حاجة مسكرة ؟! وبَعد عني عايزة اسمع خطبة الشيخ هلال !
-أنتِ مش جدعة يا أحلام !!
ثم وثب متذكرا:
-الصلاة !! أنا هروح ادس بالجامع ولو هارون جيه وسأل عليا قولي إنك مشوفتنيش .
-مش هكدب لا .. ما أنت زي القرد أهو قصادي .
جاءت زينة حاملة ثلاثة أكواب من الشاي على مائدة معدنية وهي تتدلل بخطاها كعادتها والفرحة ترفرف بقلبها :
-أحلى كوبايتين شاي يا أحلام .. _ثم مدت لها مسبحتها الخشبية_وسبحتك لقيتها جوه ، خدي سبحي وادعي لي ربنا يحقق المراد .
أخذ هيثم كوب الشاي وارتشف منه رشفة فانكمشت ملامحه :
-ألف مرة نقولو يا زينة أنت ما عت عـ.ـر.فيش تعملي شاي .. شاي ديه ولا تكفير ذنوب !!
سحبت منه الكوب الزجاجي بامتعاض :
-طب والله ما أنت شارب !!
ثم ولت لأحلام وهي تشكو منه :
-قوليلو يحترمني شويه يا أحلام !! أنا هبقي مراة أخوه بردك ؟!
ارتسمت ضحكة ساخرة على محياه متعجبا :
-أنا مش خابر فين عقل هارون وهو هيقع الوقعة المهببة دي !!
تفوهت بغل :
-شاهدة يا أحلام !!أول ما يجي هارون هقوله يربيك ..
تمايلت أحلام ضاحكة :
-وهارون مش محتاج توصية !! ده هيعلق رأسه على بوابة النجع .
جلس بقربها متفاخرا بافعاله :
-حلاوتي وانا منكد على حريم أخوي !
ضـ.ـر.بت الغير برأسها :
-حريم مين يا هيثم ؟! أخوك يعرف حريم غيري !!
ضحكت أحلام على جنونها وتمايلت لتبوح بالسر الذي أمنها عليه هيثم :
-الوا.طـ.ـي ورط البت مع هارون وخلع ..
-بت مين ؟! يا وقعة سودة !! البت البحراوية اللي كانت هنا مع هارون لحالهم ؟؟!
ثم نهضت لتقف فوق رأسه وتلكزه بكتفه :
-كلم أخوك شوفه فين !! قوله تعالى دلوق صفية عمتي بتمـ.ـو.ت يلحقها ..اخلص يا هيثم .
جاءت صفية حاملة المبخرة وهي تقرأ المعوذات .. فانكمشت ملامحها إثر كلمة زينة الأخيرة :
-مـ.ـو.ته في قلبك يا بت صالح .. بتفولي علي وعايزة تمـ.ـو.تيني وانا اللي مجوزاكي الواد !! طب قابليني لو شوفي طيفه .
دارت نحوها زينة حاملة قربان اعتذارها :
-ورب الكعبة مااقصد يا صفصف .. يرضيكي هارون مع البت البحراوية لحالهم في الجبل !! لازم حاجة تجيبه على ملا وشه !
وضعت صفية المبخرة على الطاولة وهي توبخها :
-تقومي تمـ.ـو.تيني !!
جثت زينة على ركبتها :
-ينقطع لساني!! بس أحب على يدك كلميه يجي البت دي من ساعة ما شوفتها وأنا مش بالعاها .. بت مايعة وسهتانة إكده
وبختها أحلام وهي ترتشف كوب الشاي بتخابث :
-يمكن عشان أحلى منك .. البت كيف حتة الملبن .
-دي حتي معصعصة وكلها تركيب .
صفق هيثم بمرح :
-حلاوتك يا حُلم وأنتِ ماشية معاي على الخط .. بقول أنا أخوي هارون هيتورط .
ثم وبخ زينة قائلا :
-يابت خفي صفار هتمـ.ـو.تي يخربيتك !!
على الجهة الأخرى ، فرغ هارون من ربط فرسه بمكانه متجاهلا تلك التي ترافقه كظله .. نهض من جلسته متأففا وسار بخطواته الواسعة وهو يتوعد لهيثم جهرا :
-طيب يا زفت ..
ودعت ليلة غيم بعجل كي تلحق بصاحب الخطوة الواسعة :
-باي باي يا غيم !! قبل ما أمشي هاجي أودعك .
توقف أثر جملتها التأملية وبنظرة اعتراضية مع رفعة حاجبه الأيسر .. أقبلت نحوه ركضا فتحاشى النظر لها وأكمل بحزم :
-متقربيش من غيم .. أنت فاهمة ؟!
تمتمت مدافعة عن نفسها :
-مادام مشي معايا وحبني .. أنا وهو بقينا صحاب ، خليك في حالك أنتَ بس .
قهقه ساخرا :
-انت ماشية تصاحبي خلق الله إكده !! لا عاتقة بشر ولا بهايم !
غمغمت بخفوت ولكنه وصل مسامعها :
-وبأمانة نفسي اتعامل مع بشر .. أنا من وقت ما جيت هنا مش بتعامل غير مع بهايم على قولك .
اكتفي بـ.ـارسال نظرة نارية لعندها جعلتها تركض أمامه كالغزالة الهاربة من صيادها بخــــوف وابتلعت كل الكلمـ.ـا.ت المتجمعة بحلقها ، أكمل سيره بالحديقة الخلفية حتى لمح تجمعهم .. غير مسار سيره التي اتبعته بدقة وبخطوات أشبه بالركض حتى ذاع صوته معنفا :
-وكمان قاعد تتساير إهنه .. وحياة أمك ما هحلك يا ولد صفية .
قفز هيثم من مكانه محتميا بظهر أحلام الجالسة :
-ولد حلال لسه كنا جايبين في سيرتك .. تعالى يا عريس شوف عروستك ، يا زين ما اخترت والله .
اقترب منه ورياح غـــضــــبه تهب هنا وهناك :
-ورب الكعبة لأربيك من اول وجديد .. صبرك عليّ ياهيثم .
فاقتربت منه ليلة وهي تحفر سبابتها بكتفه :
-على فكرة أنت طلعت ندل أنت كمان !! وأنا غلطانة إني وثقت فيك .. كده سبتني وهـ.ـر.بت !
تمايل معتذرا :
-على عيني والله !! وبعدين أنت مجرتيش وراي ليه !!
تأرجحت عينيها المهزوزة ناحية هارون :
-وأنا ههرب ليه !! هيخــــوفني مثلًا !
توسطت له أحلام :
-صل على النبي يا هارون واقعد ريح رجلك .. هتعمل عقلك بعقله!!
أشار بسبابته متوعدا :
-اللي عملته مش هيعدي وأنا هخليك تقول حقي برقبتي !
تدخلت صفية وهي تربت على كتفه :
-حقك عليّ يا حبيبي .. أقعد أما ابخرك .. روحي يابت يا زينة هاتي جلابيته البيضة عشان يلحق الصلاة .
جلس هارون على مضض متجاهلا همسات ليلة مع أخيه الغير مفهومة .. نال كوب الشاي وما ارتشف رشفة رجعه مكانه نافرا :
-حتى الشاي ما يتشربش !
جهر هيثم ممازحا:
-كل المؤشرات عتقولك أهرب من الوقعة دي ياخوي !!
رد بحدة :
-مسمعش حسك ..
شرعت صفية أن تقوم بتبخير ابنها فتزحزحت أنظار زينة عن تلك الفتاة التي ملأت قلبها بالغيرة وتغنجت لتأخذ المبخرة من عمتها وهي تطيل النظر بعيني ليلة المتعجبة من نظراتها اليها :
-عنك أنتِ يا عمتي !!
أخذت البخور وشرعت أن تلفه فوق رأس هارون الجالس ينفث دخان غـــضــــبه متعمدة مداعبة كتفيه بدلال وكإنها تعلن صك ملكيتها له وهي تقول بحقد موجه لتلك التي تجهل كل تصرفاتها :
-رقيتك واسترقيتك من كل عين شافتك ومصلتش على النبي يا هارون يا بن صفية ..
تحمحمت ليلة بخفوت وهي تهمس لهيثم الواقف بجوارها :
-هي بتعمله كده ليه !!
دmدm متهامسًا معها :
-باين له محسود !!
حركت كتفيها مستنكرة :
-هيتحسد على ايه يعني مش فاهمة ..
اختنق من رائحة الدخان :
-فُضينا يا زينة !
مالت زينة لمستوى مسامعه بنبرة صوتها التي تعمدت أن تصل لمسامع ليلة :
-تؤمر بحاجة ياسيد الناس .. اشر بس وزينة تنفذ ..
هبت عواصف الغيرة بصدر صفية وهي تتهامس مع أحلام وتستمع لهمها ليلة التي كتمت ضحكها مع هيثم :
-اهو ده دلع الفقارة اللي يقفع المرارة يا أحلام !!
فأتبعت وهي تكز على فكيها :
-أنا جيباها تكيدني ولا ايه !!
تحمحم هارون وهو يعتدل في جلسته :
-تشكري يا زينة .. الجلابية يااما قبل هلال ما يقيم الصلاة .
لبت زينة طلبه على الفور :
-غمض عينك وفتحها تلاقي الجلابية عندك .. حمامة .
نظرت أحلام لـ ليلة التي تقف ورائها :
-واقفة ليه يابتي أقعدي .. هشيع لك على هيام ونجاة يقعدوا معاكي وهتحبيهم قوي .
تدخل هارون في حوارهم بجفاء :
-ضيفتنا تاخد واجبها وزيادة يا صفية وبعدها خلوا جابر يوصلها لمكان ما تحب .. و يابخت من زار وخفف .
تدخل هيثم مدافعا عن ليلته :
-كيف ده !! دي قاعدة معانا أسبوع ؟!
-مين سمح لها بإكده ؟!
-أنا !! وخدت إذن ابوي ومعندهوش مانع !!
رد بفظاظة :
-إذا كنت أنت أصلا هتروح تشوف لك حتة تنام فيها !!
تدخلت أحلام بعتب وهي تتشبث بيد ليلة :
-عيب عليك يا هارون .. البت تتشال جوه عنينا وفوق الراس .. وبعدين دي ضيفتي أنا مش ضيفة حد تاني !
رمق تلك التي أحمر الاحراج بملامحها وضاق الحـ.ـز.ن بصدرها وأتبع :
-وبعدين نلاقوها فضحانا على التلفزيون ..واللي ما يشتري يجي يتفرج .
كانت كلمـ.ـا.ته أشواك تتناثر على مسامعها فغمغمت ملتمسة له العذر :
-لالا .. حضرة العمدة معاه حق .. هيثم ممكن ترجعني الاوتيل ؟!
تدخلت أحلام معترضة :
-كيف يابتي !! وبيتنا مفتوح لك .
جثت لمستواها :
-معلش يا طنت .. هابقى اجي ازورك اكيد .. أنا حبيتك أوي بس لازم امشي.
تدخل هيثم بشجاعة :
-يبقى محدش يوصلها غيري .. وروح يا هارون يابن صفية ينكد عليك زي ما انت منكد عليا ..
تمتم بحزم وهو يأخذ عباءته المكوية من زينة :
-قولت جابر يوصلها وأنت اسبقني على الصلاة ..
ختم جملته بصوت عربة الشرطة التي يدوي صداها بكل مكان .. نهض هارون من جلسته وهو ينظر نحو الخفير الذي جاء ركضا لعنده .. غطت زينة شعرها على الفور وهتف هارون متحيرا :
-في ايه بره ؟!
-حكومة .. وعايزين هيثم بيه !!
هتف هيثم مذهولا :
-أنت بلغت عني يا هارون !!
رمى العباءة من يده ثم تحرك بعجل ليري ما الأمر لحق به هيثم ثم ليلة التي ركضت خلف فضولها وورائها صفية وزينة ..وصلوا جميعهم للبوابة فإذن بشريف ومعه الضابط محسن .. جاءت نجاة وهيام من الداخل يركضن متوارين خلف الجدار .. تفوهه هارون بنفاذ صبر :
-في ايه تاني يا شريف بيه ..!!
ارتعد قلب ليلة إثر نظرات شريف الحادة فهتف محسن بخجل :
-هارون بيه في بلاغ من نادية هانم أبو العلا وشريف بيه أن هيثم أخوك خاطف الأستاذة ليلة سامح الجوهري .
أقبلت ليلة نحوهم بشجاعة وهي تحتمي بكتف هارون :
-ده جنان !! مين قال الكلام ده ؟! أنا مش مخـ.ـطـ.ـوفة وانا هنا ضيفة وبتعامل أحسن معاملة ..
اشتعلت النيران بقلب شريف الذي تطاولت يده اليها محاولا الإمساك بها :
-ليلة اتحركي فدامي .
فوجد ذراع هارون حصنا منيعًا أمامه يعيق تنفيذ بلطجته فـ انتابتها عاصفة من الخــــوف رجت قلبها تحديدًا وهي تصرخ مستغيثة :
-انت اتجننت ؟!!
دفعها هارون للوراء برفق ووقف وجهًا لوجه أمام شريف مُدافعًا عنها :
-سمعت !! قالت لك ضيفة هنا واللي أنت بتعمله ده هو اللي يعارضه القانون .
وبخه شريف بغـــضــــب يتقاذف من مُقلتيه :
-وأنتَ مالك يا جدع أنتَ ، خطيبتي وجاي أخدها !!
صرخت ليلة المحتمية بصفية وهيثم :
-وأنا مش هروح معاك في حتة .
و ازدردت ريقها برعـ.ـب :
-أنت ملكش دعوة بيا خلاص بعد النهاردة ..
كاد أن يدفع هارون ويتهجم على تمردها ولكنه فوجئ برد ذلك الرجل الذي غلت بعروقه الشهامة ممسكًا بياقة بذلته الميري ، محذرًا :
-خطوة كمان مش هعمل حساب للدبورة اللي على كتافك .. خليك محترم ولم رجـ.ـالتك وامشي من إهنه ..
تدخل محسن كي يُلطف الأجواء:
-هارون بيه ممكن نحلها ودي !! شريف بيه من حقه ياخد خطيبته .
قطم الكلام معه بحزم :
-كانت خطيبته وفضوها سيرة مش مرته يعني !! ومفيش نص في القانون يشير بأن المفسوخ يتهجم على بيوت الناس بالقوى عشان ياخد واحدة مش عايزاه .
ثم نظر لشريف الذي يشتغل شعر رأسه غـــضــــبًا وجهر بكل قوته :
-يالا يا ليلة وبلاش فضايح وإلا …
قاطعه هارون بشموخ :
-وإلا !!! وإلا ايه ؟! دي اللي عايز اسمعها عشان أعرف هتعمل أيه في واحدة ضيفة هارون العزايزي وفي بيته وفي حمايته !!
فتقدm هيثم من وراءه مدافعًا :
-هي مش قالتلك محدش خاطفها !! ما تزوق عجلك من هنا وتورينا جمال خطوتك !! ولا هو تلقيح جتت والسلام !
تدخل محسن متهامسًا لرفيقه :
-شريف بيه !! كفاية كده !
صرخ شريف بكل قوته وهي يدفع هيثم عن وجه بعنفوان هيج صراخ النسوة فقبض هارون على دبر كتفه وأوقفه صارخّا وهو يلكمه بوجنته :
-أنت محدش مالي عينك !! بقولك لو قربت منها هكـ.ـسر رجلك .
نشبت معركة طاحنة بين هارون وشريف الذي تشابك فيها رجـ.ـال الشرطة والخفر كي يفصلان بين الاثنين ، صوت صاخب من الضجيج والصراخ والجمهرة جعل شريط ماضيها يدور أمامها .. نفس المشهد المهين الذي كان يتكرر أمام عينيها يوميًا ، دوى صوت صراخ أبيها المدافع عنها دومًا :
-بـ.ـنتي وانا حر يا نادية !! واللي مش عايزاه مش هجبرها عليه !! ومين شريف ده كمان !! الولد المدلع ده اللي شايف نفسه !!
فناطحته نادية مدافعة عن رأيها :
-شريف أنسب حد لليلة ، بيحبها من زمان ومقدر حالتها .
انفجر سامح بوجهها:
-حالة ايه !! أنتِ مصدقة نفسك ؟! سبت لك البـ.ـنت تربيها عقدتيها في حياتها وكمان طلعتيها مريـ.ـضة !! أنتِ ازاي بتعالجي الناس وأنتِ اول واحدة عايزة تتعالج .
صرخت معاندة ومدافعة عن آرائها العقيمة :
-دي بـ.ـنتي وانا عارفة ازاي اربيها واقوي شخصيتها عشان تطلع واحدة مسئولة !! كفاية دلعك اللي بوظها وأدينا كلنا بندفع الثمن ..
رفع سبابته محذرًا كي يختم الحوار الثائر بينهما :
-ليلة خط أحمر يا نادية !! نظرياتك العقيمة دي طبقيها على المرضى بتوعك مش في بيتي .. وبـ.ـنتي مش هتتجوز غير الشخص اللي تحبه ويحبها ، غير كده أنا اللي هقف لها ، أنتِ فاهمة!!!!
استردت وعيها وهي ترى ضباب سيارة الشرطة تتقهقر وتغادر منزلهم ، فحلت برأسها تلك النوبة النفسية التي تُلازمها عند كل صدmة عصبية لا تتحملها ، امتزج الماضي بالحاضر ، تداخل بآذانها صوت أبيها المدافع عنها وذلك الرجل الغريب الذي أنقذها من بطش الطامع بأموالها قبل أنانيته وملكه لها الذي غرسته عمته برأسه .. انسابت ساقيها وتراقصت جفونها لا تسمع إلا همهمـ.ـا.ت بشرية حتى خرت مغشيًا عليها بالأرض .. دار الجميع حولها يتهاتف بفزع ، تقدmت نجاة الدارسة لقسم التمريـ.ـض لتفحصها فغمغمت ملهوفة :
-دي قاطعة النفس !!
ندبت زينة على وجنتها :
-مـ.ـا.تت !!
دفعها هيثـم وجثى على ركبته وهي يربت على وجنتها برفق وقال:
-دي ما بتنطقش !! اتصرفي يا نجاة .
ضـ.ـر.بت صفية على صدرها بشفقة :
-يابتي !! لسه في عز شبابها ..
جاءت نجاة مقترحة وهي ترفع تلك المغشية عليها من كتفيها :
-ساعدني يا هيثم ندخلوها جوه وارمح هات الدكتور اللي في الوحدة ….
ألــم حارق يتوهج دخانه من عينيه وهو يُراقبها مرمية بالأرض لا حول لها ولا قوة ، بدون أي إرادة منه أوقف أخيه عن حملها وقال بهدوء تام :
-روح هات الدكتور ..
ثم انحنى متحاشيًا التطلع لملامحها النائمة ، تغلل ذراعه تحت ساقيها والأخر تحت كتفيها وحملها بدون أي مجهود يذكر ، توهجت النيران بقلب زينة وهي تراقبـه بسخط :
-ضهرك يوجـ.ـعك يا هارون .. على مهلك..
ركض بها للداخل فاتبعه الجميع ما عدا زينة التي وقفت توبخ هيثم :
-أهو كله من تحت راسك!! افرض مـ.ـا.تت دلوق هندخلوا في سين وجيم !!
رمقها هيثم مستنكرًا وهو يهم لاحضار الطبيب :
-ان شاء الله أنتِ يابعيدة وهي لا ..
أشاحت له بسخط :
-بعد الشر عليّ ،وأنا لسه في عز شبابي ..
ثم دارت متوعدة وهي تضـ.ـر.ب على فخذيها بغيرة :
-ابتدينا في كهن النسوان بتاع بحري ….
بس على مين ،دانا زينة !!!!
“كل ما أعرفهُ:
-أنّ الحُب عنـ.ـد.ما يمتزج بـقلب المرء ويجري بهِ مجرى الدm يكون كانتشار لرذاذٍ ذهبي ‏اقتحم العالم فجأة ، كأنها حبات عظيمة من النجوم رُشت بفضاء الليل لتونسه وحشيته وتُنير عتمته .. وتحوله من مكانٍ تملأه الكآبة لأكثر مكانًا تغمره البهجة والأحلام ..
‏وحين يفارقـه ؛ ‏كما لو أن هناك طفلًا ‏نفخ في عين الشمس فأطفأ شمعتها وروحها وبريقها بدون سابق إنذار …
وكلاهما شعوران لا يمكن إخفاءهما مهما حاولنـا ذلك ”
فلقد لخصها نزار قائلًا :
-فلا الليـل يخفي -لو أراد -نجومه
ولا البحر يخفي -لو أراد -المراكبا
#نهال_مصطفى .
••••••••
‏”أنا الشخص المتردد جدًا ، الشخص الذي يصل إلى عتبة الباب المقصود ثم يستدير ويعود بخُطى ثابتة، لأنه شعر بأن لا الوقت مناسب ولا الباب يستحق الطرق بصرف النظر عما أهدر من الوقت كي أكون هنا ”
لقد تصالحت مع حظها الشحيح مع الحياة ، مع تلك الأبواب الموصدة التي تُقفل بوجهها بعد سكة سفر طويلـة ، مع وحدتها وضعفهـا ، تقبلت بكُل قلبها وصف أمها لها _أنتِ فاشلة يا ليلة_ أمها لم تكذب أبدًا “هي فاشلة” ، منذ تلك السنة السوداء التي رسبت بها إثر مرضها الشـ.ـديد ، إثر رفض القنوات الفضائية لها دومًا لأنها فقدت سلاح قوتها و سندها ، ترك خطيبها لها واتهامهُ بأنها مزاجية غير مسؤولة .. حتمًا أنهم يرون بها ما لا تراه هي بنفسها ..هي بالحق فاشلة بنظر الجميع ؛ اتستسلم لتقيمـ.ـا.تهم أم تُغير تلك المرآة المزيفة التي تنظر بها دائمًا !!
ترقـد بفراش الأغراب متغيبـة لا حول لها ولا قوة ؛ ولم يكف هاتفها عن الرنين .. جفون مُغلقة لا ترى إلا قطعة سوداء من القماش لا تختلف كثيرًا عن حظها الفقير .. فرغ الطبيب من فحصها وعلق بيدها تلك المحاليـل الطبية .. فتقدmت نجاة لعنده وهي تفتش بحقيبتها بناءً على طلب الطبيب إذا كانت تتناول أي أدوية ، مدت له بعض زجاجات المهدئات بخيبة أمل :
-لقيت الأدوية دي .
فحصهم عمار فتحققت ظنونه :
-زي ما توقعت ، نوبة عصبيـة ..وواضح أنها بتعاني من حالة نفسية مش مستقرة .
ثم رماهم فوق الكمود المجاور لمهدها وقال :
-نجاة خليكِ جارها ، أنا عطيتها حقنة مهدئة ساعتين وهتفوق ..وتصحى تاخد علاجها .. ولو حصل أي حاجة كلميني ..
شـ.ـدت هيام الغطاء فوق تلك النائمة والتي لا تشعـر بشيء ثم دار لها عمار والتي خـ.ـطـ.ـفت رقتها أنظاره منذ أن جاء ، فقال قاصدًا فتح أي حوار معها كي يسمع صوتها :
-ومش هوصيكي عاد ، توكلوها زين .
تمتمت هيام دون النظر إليه :
-طبعا هنوكلوها ..
ثم ولت ظهرها إثر نداء أمها الجالسة بجوار أحلام :
-يعني هتـرد زينة يا عمار يا ولدي !!
اتسعت ابتسامته وهو يلملم عدته مودعًا تلك الفتاة التي لم يراها من قبل والتي تخلو يدها من أي محبس خِطبة وذلك لأنها تعاني من حساسية الذهب ، مستخدmًا لهجته الصعيدية التي لا يمكن التجرد من عباءتها مهما تغرب المرء عنها :
-هترد كيف الحُصان يا عمتي .. اطمني .
ساعدت نجاة عمار الذي عاد من غُربته الطويلة بعد دارسته للطب بأحد الدول الأوروبية والذي يحمل نسل العزايزة ، لقد جاء قبل شهر وتعين بالوحدة الطبية الخاصة بالنجع والتي ترافقه نجاة كمساعدته الأولى .. رافقته نجاة لباب الغُرفة المُطلة على الحديقة و التي كان أمامها هيثم واقفًا فأقبل نحوه بقلق :
-طمني يا عمار … ؟! هتبقى زينة !
هز عمار رأسه بالإيجاب :
-أنا عرفت نجاة تعمل أيه .. ساعتين إكده وهتفوق .
كان يجلس بعيـدًا عنهم ، على مقعد الطاولة البلاستيكية المجاور لغُرفة الضيوف التي ترقد بهِا ليـلة ، رغم هدوئه المعتاد وعدm شغل رأسه بالأمر إلا أن مسامعه كانت تمتد لحديث عمار بتركيـزٍ شـ.ـديد ، انتظر حتى فرغ من كلامه فوثب قائمًا متحمحمًا وبدون ما يصاب بلعنة الفضول للسؤال عنها يبدو أنه سمع ما يرضيه ، قال ممتنًا :
-تعبناك يا عمـار وفوتنا عليك ضُهر الجِمعة ..
رد الأخير بعرفان :
-مفيش تعب يا عُمدة ، ديه واجب.
مد هارون يده ليُصافحه ؛ وأردف داعيًا :
-نورتنا يا داكتور عمار ،خلينا نشـوفك في فرح هيام أختي يوم الخميس الجاي .
أحس قلبه بهوية الفتاة الذي يُدعى على حفل زفافه حتى جاءت نجاة لتقطع حبال الشك باليقين ؛ موضحة :
-هيام اللي شوفتها جوه يا داكتور عمار ..
تركت له الصدmة والحلم الذي انتهى قبل أن يبدأ وأتبعت موضحة لهارون وهيثم :
-أصلو الداكتور عمار غايب عن إهنـه له عشر سنين ولساته بيتعرف على العزايزية من أول وجديـد .. يعني اللي سابهم صغار رجع لقاهم عرايس .
‏إعتاد على عدm لمسه لشيء أبدي ، منذ تلك الفتاة التي أحبته وفارقها إثر أعرافهم المُظلمة ، وأمه التي تأمل أن يعود من غُربته فيجدها تنتظره ، وأخته الوحيدة التي تزوجت وتركته بمفرده ، ظن أنه للتو عثر على من ستشاركه قلبه وحياته وفراشـه الموحش ولكنه تقبل الأمر معتادًا على الوداع ؛ ابتلع غصة آماله المتحطمـة بابتسامة مؤسفة وطأطأ رأسـه مستئذنًا :
-بالإذن أنا يا عُمدة ، وأي حاجـة جديدة بلغني رقمي مع نجاة ….
بعد ما انصرف عمار وعلى كتفيه أحجار الخيبة وهنـا لقد عاد الحج خليفة متعكزًا على ابنه “الشيخ هلال” الذي رمق أخيه بنظرات ساخطة وأردف معاتبًا :
-إكده يا هارون !! يعني الفاسق ديه _مُشيرًا لهيثم_ ومفيش منه رجا وأنا رمـ.ـيـ.ـت طوبته !! أنتَ بردك تفوتك ضُهر الچِمعة !!
ثم نظر واعظًا :
-دي الصلاة عماد الدين والقلب .
تدخل هيثم مدافعًا :
-كُنت في جِهاد و عمل خيري أنا كَمّان !! احكي له يا هارون أنا عملت أيه !!
-لا ونعم الجِهاد !! ما بلاش إنتَ !!
ثم حك هارون ذقنه القصيرة وقال متوعدًا :
-سيبهولي يا هِلال وأنا هعرفه كيف يكون جهاد الصوح !!
ثم وضع كفه على كتف هيثم المترقب مصيره وقال آمرًا بعنفوان :
-قصاد أبوك أهو ، أحضرنا يا حج خليفة الله يرضى عنك .. الأوضة دي لو شُوفتك معتب من قصادها هكـ.ـسرلك رِجلين الاتنين ، البت المذيعة دي لو قربت منها ولا حدتتها يا هيثم هقطع خبرك عن النجع كله .. تنسى أن فيه ضيفة إهنه من أصلو !!
وبخه هيثم معترضًا :
-يعني ايه !! انا اللي جايبها وماينفعش انجس معاها وأسيبها لروحها !!
بنبرته المبطنة بالسخرية:
-لا ونعم الشهامة اللي خلتك تسيبها في عرض الجبل وتهرب زي الأرنب ! _ثم تهامس معه محذرًا بنبرة لا يفهمها سواهم _ اظبط روحك معاي .
مازحه قائلًا :
-ما سمعتش عن المثل اللي يقولك الجري نص الجدعنة !! ما تحضرنا يا حج خليفة !!
تعكز أبيه على رسغ هلال وقال :
-نفذ كلام اخوك بالحرف يا وِلد ، عليك بيه يا هارون يا ولدي .._ثم نظر لهلال_دخلني لجوه يا هلال ما جادرش .
انتظر هيثم حتى انصرف أبيه ودار طالبًا العفو من أخيه الثائر والمقيم الحد عليه :
-افهم بس ، ليه يعني ولا احدتتها ولا أهوب من جارها !!
رد الأخير بثقة :
-لإني خابرك زين رطاط و ماشي تحب على روحك ، ومش هورطك واسلمك للمـ.ـو.ت بيدي وترجع تقول لي رايدها يا خوي .. وهي حُب عمري هي كّمان .
تنهد هيثم بـ.ـارتياح واردف :
-انا اتورطت واللي حُصل حُصل ..انت مش واعي للبت !! دي تتأكل وكل يا هِرن ياخوي .
-ورب الكعبة هقــ,تــلك بيدي !! .
ثم عض على شفته باغتياظ وبنبرة لا تقبل الجدال بحاجبيه المنكمشين :
-تطلع من إهنه على المِحجـر متفارقهمش غير لما يحملوا آخر عربية ، وتنزل تشق على الأرض والمحاصيل وتكلم التُجار يجيوا يحملوا الغلة .. ولو خلصت كل ديه قبل ما يحل الليل والنجع يتقفل تفضل تلف لحد ما راسك تو.جـ.ـعك وترجع تتخمد طوالي .. مفهوم !! ومن طلعة الشمس هتلف نفس اللفة من اللول لحد ما البت دي ترجع بلدهم .
تفوه معارضًا :
-هارون متهزِرش !! أقولك طاه جوزني وارتاح من همي ، ستر الولاية مطلوب ، أنا مش ههدا غير لما اتجوز .
حدجه بغل :
-وبردك مش هتتربى ، ديل الـ*** عمره ما هيتعدل .
توسل له ممازحًا :
-طب جربني !! ولو متربتش جوزني تاني لحد ما نقفلوا الشـرع يمكن ربك يتوب عليّ في الرابعة ..
ثم مال نحوه بغمزة خفيفة وهمس له :
-هخليك عـم من أول سبوع اسمع مني ..
-أنت لو ما انشكت من وشي هرنك عقلة تخليك تقعد جار صفية عمرك كله لا هتنفع في جواز ولا غيره .. انقلع من قصادي يا هيثم مش طايقك ، ولا طايق مجايبك الكحلة ..
انفجر ضاحكًا وقال بسخريـة :
-انا مجايبي كحلة !! دي كيف القشطة ، اسم الله على مجايبك ، زينة يا هارون !! طب أيه اللي عجبك فيها !! اكمنها فرعة هبابة يعني !!
كاد أن ينزع حذائه مغلوبًا على أمره :
-بالمركوب فوق راسك ، عشانك شكلك اتدبيت على الآخير ..
استحلفه ضاحكًا محاولًا أن ينصحه :
-أمركم شورى بينكم بصوت الشيخ هلال ، هدي روحك !! بقلبلك نور يكش تفوق !! أنتَ بس لو ركزت هبابة مع القشطة اللي جوه دي هتعرف أنا هتكلم عن أيه !!
ثم غمغم على عجل كي يهرب من بطش نظرات أخيه الثاقبة :
-هنفذ كل أوامرك بالحرف ! ولو افتكرت اي تعليمـ.ـا.ت جديدة رن على الحُمار ينفذها ..
ما كاد أن يخطو خطوتين فدmدm :
-طب فكر تاني !! زينة يا هارون !!!
-غور يا بن ال***** .. ابو تربيتك الـ**** ..
••••••••
مر ساعات اليـوم بدون أي جديد يذكر ، قضت هيام ونجاة نهارها فوق رأس ليلة النائمة لرعاياتها .. عادت صفية للبيت مع أحلام لترى نواقص جهاز ابـ.ـنتها التي سينتقل لبيتها الجديد بعد يوميـن .. وعادت زينة لمنزلها لتستعـد وتجهز نفسها لكونها عروس جديدة لفتى أحلامها الذي لم تتمنى غيـره من وقت ما رأت ضياء الشمس حتى لهذه اللحظة ، أما عن هارون الذي لم يشغل رأسـه وفكره إلا مهام العزايزة وأعمالهـم .. خرج كي لا يمر من أمامه طيف الفتاة التي تشعل عود من الكبريت برأسه لا يزيده إلا غـــضــــبًا …
“بأحد الملاهي الليلية المشبوهة ”
يجلس ضيـا زوج هيام برفقة معتـز ابن عمه وصديقـه وأكبر عدو لهارون العامل المشترك اللذان اجتمعا عليه ، لا يبغض أحد مثلما يبغضه .. في تلك الغيمة المنعقدة من الدخان المتصاعد الذي ينفخونه ممزوجًا ببعض المواد المُخدرة والتي تُعد محرمـ.ـا.ت بعُرف العزايـزة قبل الدين والقانون .. نفث معتز دخان شـره وانتقامه وقال متوعدًا :
-عايزين نخلصوا من حكم خليفة وعياله ، إحنا مش عبيد عندِهم ! جبروتهم لازمًا له حد .
قهقهه ضيا ساخرًا :
-ولو خلصنـا منيـهم ، فكرك مجلس العزايزة اللي ما عيرحمش هنفلتوا من يده !! قدرنا إكده .. بس خليفة وعياله مش قدرنا ومش مجبرين نرضوا بيه .
فعارضـه معتز بحسم وقلب يعتصر على فارق حبيبته التي رفض هارون نسبها قطعًا :
-بس لازمًا يتغير ومش هيتغير غير لما الحكم يطلع من بيناتهم .. هارون واعر وأوعر من أبوه ، واللي جاي سواد فوق روسنا كلنا .. هو شغال يتمسكن لحد ما هيتمكن ..
ثم شـ.ـد معتز من يده خرطوم الشيشة وشـ.ـد نفس طويل منها واتبع بنفس النبرة بحقدٍ :
-و أنت مين كدك ، نشنت وغرفت من قلب بيتهم ، وريحت راسك ، الدور والباقي عليّ ، وما ليك عليّ حلفان تاري مع هارون العزايزي ما هيخلص ولو فيها مـ.ـو.تي !
قهقه ضيا بضحكة الثعلب الماكر :
-يتلقـوا وعدهم مني .. راس خليفة وعياله مش هيرفعوهـا تاني بينات الخلق .
-انتَ ناوي على ايه يا ضيا!
زفر دخان شروره وقال:
-خليفة وعياله يهملوا الحُكم والعُمدية ، واللي جاي على كيفي أنا وبس .. كلها أيام والضحك هيبقى على الدقون .
~عودة لمنزل خليفـة العزايـزي .
“كُل الأماكن خطرة ، فـ لا تأمن مكانًا يعطيك أُلفته من أول مرة .”
وشوش بأذن حِصانه الذي أغرقه بنظرات العتاب طويلًا حتى أردف هذه الجمـلة بتلك الثقافة اللغوية التي أحبها وتعلمها من دراسة القانون أولًا ثم من حُب أخيه لها ، همس له وكأنه أراد أن يذكره بالعهد الناشب بينهما .. ثار الحِصان رافعًا ذراعيه بالهواء لبرهة محدثًا صوتًا نافيًا أم معتذرًا !! يعارضه أم يصدقه القول .. تصرف غريب من ” غيم ” الذي اعتاد أن ينفذ تعليمـ.ـا.ت صاحبـه بدون تمرد ، ماذا حدث له تلك المرة ؟! ما الذي يتنبأ غيم بحدوثه لصاحبه الوحيد مُستقبلًا !!
حدق النظر بعيني حِصانه بعتب:
-بتقاوحني يا غيم عشانها !!
ثم شُقت ابتسامـة خفيفة على ثغره وهو يداعب شعره :
-أوعاك يكون هيثم عضك !! بقيت زيه أي بت حلوة تريل عليها زي الأهبل ..
نفس الصوت الاعتراضي والغـــضــــب ثار به ” غيم “كي يضع حدًا لتمادي صاحبه الذي انفجر ضاحكًا :
-وه وه !! أيه في حديتي مش عاجبك يا عم غيم !! لا أنا إكده هبتدي أقلق عليك !! هي قلبتك عليّ !! دي يومها مقندل معاي .
ثم أقام عليه الحد :
-أقول لك !! كنت ناوي امشيك هبابة ، بس قفلتني .. خليك إكده مكانك لحد ما انسى خيانتك .. أنا ماشي .
~بغُرفـة الضيوف .
توسلت نجاة لليلة أن تتناول آخر لقمة من طعامها ولكنها أبت بضعف وهي تتنفس بصوت مبطن بالتأوه :
-مش قادرة بجـد ، كفاية عشان خاطري ، تسلم أيدك .
رمقتها نجاة بعدm اقتناع :
-وفين الوكل اللي كلتيه !!! دي أحلام موصياني تخلصي الصحن كله .. هعاودلها الوكيل زي ماهو كيف !
ابتسمت ليلة بإحراج :
-أنا زي الفـل والله ..
ثم التفتت لتبحث عن أشيائها :
-فين شنطتي وموبايلي ، آكيد مامي قلقانة عليـا !!
ثم اعتدلت لتلمس أقدامها الحافيـة الأرض الرُخامية وقالت :
-لازم أمشي .. ممكن بس حد يجي يوصلني!!
جاءت هيام حاملة بيدها دورق الميـاه ، فلم يروق لها حديث ليلة :
-يادي العيبة !! عاوزة تروحي وأنتِ لساتك عيانة !! محدش هيوافق لك بالجنان ديه .
ترجتها ليلة بضعفٍ:
-كفاية مشاكل كده لحد كده .. أنا لازم أمشي .
وقفت نجاة أمامها :
-طب وقفي وخدي نايبك صبر ، الصباح رباح .. خليكِ إهنه الليلة دي والصُبح ربك يحلها .
بوادر الاقتناع خيمت ملامحها ولكنها تذكرت تحذيرات أمها فوثبت متحيرة وهي تفتش بحقيبتها :
-أنا مين جابني هنا !! أنا فاكرة أن شريف كان بيتخانق وصوت عالي .. بعدها مش فاكرة حاجة.
تدخلت هيام وشـ.ـدت الحقيبة من يدها :
-اولًا محدش هيسمح لك تمشي دِلوق ..
غمغمت بتوجس :
-كفاية مشاكل وعشان هارون أخوكي ، ده طردني قدام الكل ، لالا انا مستحيل أقعد هنـا مش ناقصة إهانة منه ..
امتزج صوت ضحك كُل من نجاة وهيام ، فأكملت الأخيرة مدافعة عن أخيها :
-هارون !! ده مفيش في بياض وحلاوته قلبه ، ده هو اللي قَلِك على يده وجابك لحد إهنه .. يهينك كيف لالا أنتِ ظالمة هارون !!
شهقة طويلة اختتمت بكلمتها الاعتراضية المعتادة :
-أحيــه !!
ثم تقاسمت معالم التـ.ـو.تر والارتباك والصدmة ملامحها وأحمر خجلًا وهي تتحرك بفوضوية بجميع أنحاء الغرفة ، خطوات عبثية غير محسوبة :
-يعني ايه هو اللي قَلِك وجابك هنا، هو اللي شالني !! فهمت صح ، أيووهّ !! لا أحيــه !! هو الباب منين !!
خطت أقدامها بصخبٍ وهي تسحب البـاب الجرار الموجود بعرض الحائط والمُطل على حديقـة بيتهم ، ما كادت أن تلتف لنداء نجاة وهيام ففوجئت به أمامها ، بنفس النبرة التي لا تختلف عن سابقتها مردفة بعفوية تامة وأعين جاحظة بصدmة :
-أحيـــه !! هو أنتَ !!!
-ياصـبر الصبـر !!
رغم جمال وعفوية الكلمة من شِدقها لكنه تمتم جملته وهو يزفر بضيق ويقفل جفونه إثر سماعه تلك الكلمة التي حذرها منها كثيرًا والتي تثير غـــضــــبًا مبهمًا برأسه ، أطرقت وجهها بخجـل وهي تتراجع للخلف لتحتمي منه بظهر هيام يبدو أنها أدركت خطأها للتو .. رفعت نجاة حاجبها بتعجب :
-شوفتي عفريت أياك !! ده هارون وِلد حلال زين إنك جيت .
مازالت عينيها ثابتة جاحظة نحوه لا تتحرك عكس شفتيها المرتعشة ، فأكملت هيام كي تورطها أكثر :
-يرضيك يا هارون ، ضيفيتنا عايزة تروح دِلوق ..
عقد حاجبيـه متسائلًا باستغراب:
-ده ليه !!
تدخلت مدافعة عن قرارها بنبرتها المهزوزة :
-هقعد ليه !! أنا خلاص خدت واجبي وكرم الضيافة وتعبتكم وألف شكر يا حضرة العُمدة .. مش ده كلامك ..
ثم امتدت بنظرها للخارج وكأنها تبحث عن شخص ما لا تعرفه :
-ممكن تنادي حد يرجعني الأوتيل ..
تحمحم بهدوء بعد ما ألقى عليها نظرة واحدة والأخرى كانت طائفة بالمكان :
-خفي مُحن وخُشي نامي ….
قال جُملته الأخيرة وتركها في هول صدmتهـا محاولة استيعاب إهانته ، اكتفى بنظرة سريعة لأخته ترجمة معناها على الفور وهي تكتم الضحك :
-هخليني جارها متعتلش هم .
ثم دارت لتلك الصامتة التي مازالت تحت سطو صدmتها ؛ فقالت :
-سمعتي بودنك أهو ، قال لك خشي نامي وعيننا حرس عليكِ كمان !!
غمغمت بسهوٍ :
-ده بيقول لي خفي محن !! هو على طول كده ولا قلة الذوق دي معايا أنا وبس ؟!
لم تتوقف هيام عن الضحك ثم أجابتها قائلة :
-هو على طول إكده ، متتوقعيش ردوده ، ياستي عوقنا يلا نناموا والصباح رباح .. بكرة هعرفك على هاجر وهتت عـ.ـر.في على هاشم ..
فانضمت نجاة لحوارهم :
-أنا هروح أجيب مازن ولدي ، واجي أنام جاركم.
فقبلت على مضضٍ:
-تمام ، بس لازم أكلم مامي الأول .
~بغُرفة الحج خليفـة ..
رفعت صفيـة الوعاء الممتلئ بالماء والملح بعد ما غسلت أقدام زوجها جيدًا وجففتهمـا بالمنشفة ثم أقبلت إليه وهي تخبره :
-اتفقت مع صالح العشية هنروحوا نُطلبوا يد زينة لهارون ، ويد نغم لهاشـم .. البت نغم يتيمة وتستاهل كل خير ، ايه قولك يا حج خليفة .
يتكئ على عكازه الخشبي كي ينهض متجهًا لمرقده :
-القول قولهم ، شوفي رأي هاشـم اللول ياام هارون ، لازمًا الواد يختار بنفسه ..
شخللت بأساورها الذهبية التي تملأ معصميها وهي تساعده في رفع الغطاء لتفسح له مجالًا للنوم :
-هاشم واثق في ذوق أمه ومش هيكـ.ـسر لي كلمـة ، متعتلش هم أنت يا حج .
ثم تنهدت بـ.ـارتياح وهي ترسم مستقبل أولادها :
-اخيرا يا حج هيريحوا قلبي ، واطمن عليهم ، والسنة اللي وراها نفرحوا بهلال وهيثم .. ونختموا بهاجر أخر العنقود .
ثم مددت بجوار زوجها معبرة عن سعادتها :
-كلهم كوم وفرحتي بهارون كوم تاني .. هارون يا كبد أمه مفرحش ومشفش يوم حلو .. جيه آوانه انه يرتاح مع البت اللي قلبه اختارها ..
تمتم الحج خليفة بيقين :
-قدmي المشيئة ياام هارون ، يكش نفرحوا بيهم كلهم في شهر واحد ، ده يوم المُنى .
عارضته بحزم :
-شهر كيف !! أحنا ناقصين قر ونِقم يا حج خليفة !!
••••••••
~القســم .
-وشرف أمي يا محسن ما هعديهاله ..
رفع شريف قربة الثلـج من فوق عينه المزرقة التي كانت أحدثت كدmة إثر لكمة هارون عنـ.ـد.ما تجاوز حدوده بمنزله ، فعاتبه النقيب محسن :
-شريف بيه ، معاليك غلطت ، مكنش له لزوم العنف .. وأهو واقفين مش عارفين ناخدو موقف .
ضـ.ـر.ب شريف على سطح المكتب بغل:
-انا هعمله محضر دلوقتي ، والله ما هعديهاله يا محسن ده اتجنن يمد ايده عليا !! .
عارضه محسن بعتب:
-للاسف ، القانون في صفه ، أنت اللي اتهجمت على البـ.ـنت وكنت هتاخدها بالقوة ..وهو كان بيدافع عن ضيفة في بيته وقالت لك أنها مش مخـ.ـطـ.ـوفة .
-أنت عايزني اسيبها في بيته يا محسن !! ليلة دي عيلة مـ.ـجـ.ـنو.نة ودmاغها على ادها وبتتعالج ماينفعش تتساب ، دي واحدة عيانة .
بنبرته المعنفة أردف جملته الأخيرة التي تحوى الإهانات لخطيبته السابقة بشكل غير لائق جعل محسن يستصغره كثيرًا ، فأتبع شريف متوعدًا :
-حسابك تقل معايا ياابن العزايزي ، أنا هعرفك مين هو شريف أبو العلا .
ثم خبط على مكتبه بغـــضــــب يتطاير :
-انا مش هسيبه يا محسن ولو هقعد في بيتنا بعدها .
••••••••
~في الخامسـة فجرًا .
لا تشعر بالحياة الحقيقية فـ صورتها النقية إلا مع نسمـ.ـا.ت كُل صباح بعد ليلة شتوية بـ.ـاردة ، تلك اللحظة الفاصلة بين الليل والنهار وهي الفجر ، الناس نيام ، هدوء عجيب يُغلف القلب .. الأنفاس صافية العقل متيقظ .. جميعها تفاصيل نادرة وتائهة في خضم الحيـاة الطاحنـة .. فتحت جفونها فتعثر بهيام النائمة على الأريكة بجوارها .. وبالغرفة المجاورها لها ترقد نجاة مع طفلها .. أخذت تتنفس بـ.ـارتياح وهي تتأمل السقف وتتمنى أن لا تُفارق هذا المكان البعيد عن دوشة المدن ودوشة الحياة عمومًا ..
عبث بهاتفها ففتحت تلك الرسالة النصية المُرسلة من أمها :
-ليلة ؛ أنا مش موافقة على الجنان ده .. اتفضلي ارجعي وألا هجي لك أخدك من عندك بنفسي ..
زفرت بملل ورمت الهاتف من يدها وفارقت مرقدها بتلك الأقدام الناعمة ذات اللون الوردي تخطو على طراطيف أصابعها بعد ما تناولت شالًا من الصوف ووضعته على كتفيها ، فتحت الباب بحذر شـ.ـديد كي لا تُزعج هيام النائمـة .. فتحة صغيرة من الباب المتحرك كانت كافية أن تمر منها .. لمست أقدامها الحافية الخضرة تحتها وداعب الندى وجنتيها .. تنفست بـ.ـارتياح وهي تفرد ذراعيها تحت السماء وكأنها طير حر يستمتع بحريته التي لا يُقيدها أحد..
‏”الأيام التي يطمسها الضباب ما هي الا خطوات لبدء تشكيل انسانٍ ما .. لتهيأهُ لمواجهة ظروف ما !! ”
مع مطلع الفجر وبعد عودته من الصلاة مع الشيخ هِلال وأبيه .. فارق النوم عينه وعاد ليجلس تحت ظل شجرته التي دومًا ما تجمعـه مع هيثم وصوت عوده .. ولكن اليوم كان بيده كتاب ” البداية والنهاية ” لـ ابن كثير .. تعمق بين طيات الكتاب متبعًا عشقه للكُتب التاريخية التي يكتسب منها حكمته في الحُكم ، شيء ما متعطش بداخله حول التاريخ فيرويه بالكُتب ..
قفل الكتاب واستند على جذع الشجرة خلفـه وما يشغل عقله الشغل لا شيء غيره .. جاءت من خلفـه بخطواتها المتشردة ، التي لا تدرك غايتها بل أصيبت بلعنة فضولها للسير من ذلك الطريق فاتبعت أحساسها ككل مرة ترافقه .. لمحت كتفـه المتواري خلف الشجرة من بعيد تمتمت لنفسها _أحيه !_ .. وسرعان ما دارت للجهة الأخرى وركضت عكسًا ، ما لبثت خطوتين ثم توقفت تلوم نفسها بحماقة وهي تقوي نفسها :
-أهدي !! اهدي وبطلي غلبة ، مش لازم يحس إنك هبلة ..
ملأت رئتها بالهواء ثم دارت صوبه وأكملت سيرها بتلك الخطوات المترددة حتى وصلت لعنده ، وجدت جفونه منغلقة ورأسه مستندة على الجذع خلفه وبيده سواك صغير .. إطالت النظر بملامحه ببلاهة ، بدون استيعاب بأنها تتغلغل بالبحر وهي لا تجيد العوم .. انه طريق موحي بغرق ما .. النظر إليه كان كافيًا بإخماد ثورةً أفكارها ومخاوفها منه ، تحدق النظر به وكأنه طريقها الوحيد للنجاة من هذا العالم .. فركت كفيها ببعضهما ثم تمتمت بتوجس :
-صباح الخيـر !!
فتح جفونه معتدلًا بجلسته وهو يرتب شاله :
-فايقة بدري يعني !! منمتيش زين اياك !
ردت بـ.ـارتباك بينّ ، وفتحت نشرة الأخبـ.ـار خاصتها فوق آذانه :
-لا نمت .. نمت كويس جدًا ، بس ممكن عشان مغيرة مكاني .. صحيت بدري ، وكمان شكل الخُضرة والندى والجو .. كل الأجواء دي أنا بحبها وبحب أصحى بدري عشان ألحقها .. خاصة في الشتا .
ثم بللت حلقها وأتبعت وهي تنتقل لتجلس بجواره :
-أنتَ بقا شكلك منمتش وقاعد هنا في الجو ده !! أنا أخدت بالي إنك مريح شوية !! أنت تعبان ولا منمتش من امبـ.ـارح !! ولا مابتنمش زينا ولا ايه !!
لعن حظه سرًا لبدء ثرثرتها التي كانت تنقصـه ، ولكنه قدر حالتها المرضية وقال مغيرًا مجرى الحديث:
-عاملة ايه دِلوك !!
-بقيت أحسن الحمد لله .
ثم ملأت رئتها من روعة المكان وأكملت بامتنان :
-بجد مرسي ، انا مش عارفة اشكرك ازاي ..
-تشكريني على أيه !!
ردت بحماس:
-البنات قالولي إنك شلتني وجبتني للأوضة ، وكمان عشان وقفت قُصاد شريف وحمـ.ـيـ.ـتني منه ..
كادت أن تواصل ولكنه قاطعها بنبرته الجافة :
-أي حد مُطرحي كان هيعمل اللي أنا عملته .
قفل مداخل الحديث بوجهها ، أخذت تتجول بأنظارها يمينًا ويسارًا وكأنها تُفتش عن موضوع جديد حتى اتسعت ابتسامته وهي تراقب قطرات الندى فوق الزهور حولهم ، فلجأت لعالم الأساطير الذي تهواه :
-أنت عارف …
فألتفت لها باهتمـام مما جعلها ترتبك فـ تنظر بعيدا عن مرمى أعينه وأكملت :
-في أسطورة بتقول ؛ أن قطرات الندى دي اللي فوق الورد ، جوابات حُب من النجوم .. وفي حد تاني قال أنها قُبلات مُرسلة …. أنا بقا شايفاها غير كده خالص ..
ثم عقدت ساقيها وولت وجهتها لعنده ، كان يستمع لها بتعابير وجهه المتصلبـة التي لا تعى ما تلك الخُرافات التي ترويها على رجل يافع ،عاقل، واقعي مثله لا يُغريه الخيال مثلها ، بللت حلقها ومازالت محتفظة بتلك الابتسامة الزاهية وأكملت بنبرة متأثرة :
-شيفاها دmـ.ـو.ع ، وحـ.ـز.ن .. وعجز ، هما الاتنين واقعين في غرام بعض بس محدش عارف يوصل للتاني .
شُلت مدارك عقله التي لا تعي من الثقافات إلا التاريخ والحروب ، انعقدت ملامحه مستفهمـة :
-هما مين عدm اللامؤاخذة!!
أجابته بثقة عارمة وهي تلوح بكفها :
-الورد والنجوم ..
تأكد من داخله أنها حقًا فاقدة للأهلية حسب وصفه القانوني ، فتأوه مؤيدًا متبعًا قول _أن ليس على المريـ.ـض حرجًا_ودmدm باستهزاء :
-اااه ، النجوم والورد .. صلاة النبي أحسن !!
لم تلحظ سُخريته واستهتاره بحديثها ، فأتبعت بنفس الشغف :
-ودي فيها حكمة لقلوب البشر .. وأن مش كل القلوب العاشقـة بتتجمع في قلوب مصيرها زي النجوم والورد اكتفوا من الحُب أنهم يراقبوا بعض من بعيد لبعيد فاقدين الأمل في القُرب ، بس عمرهم ما فقدوا الأمل في الحب ، بس لما بيجي عليهم ليل بيفـ.ـضـ.ـحهم عشان يعـ.ـيطوا ويعرفهم حقيقة عجزهم .. ودي الدmـ.ـو.ع اللي بنشوفها على خدود الورد ..
ثم تنهدت بحماس :
-الطبيعة بتحكي أسرارنا بس البني آدm عامل نفسه مش واخد باله ، عشان كده هتلاقي الكُل تايه ..
لم تمهله فُرصة للرد بل أكملت :
-انا متعلقة جدًا بالطبيعة وبحب اسمع لها وتسمع لي .. أنا وهي صُحاب جدًا ..
-حتى دي معتقتيهاش !!!
رفع حاجبه متأكدًا بوصفه لها من قبل وقال متبعًا لفضوله :
-والأساطير دي أنتِ مخترعاها من راسك ولا في الكُتب !! مصـ يـ بـةلتكون في الكتب !!
ردت بثقة لا يمكن أن تهتز :
-الأغلبية من تأليفي طبعًا ، أنا كل كلام الكتب بـ.ـنتقده ، مش بيعجبني .. جرب تسيب قلبك للطبيعة وهي هتدلك على الحياة الحقيقية .
-ياحلاوة !!!
لم تمهله الفرصة لاستكمال حديثه بل امتد ذراعها بفضول نحو الكتاب المجاور له وأخذت تُقلب صفحاته بـ غرابة :
-ايه الكتاب ده!!! ااه نسيت ، هيثم صحيح قال لي إنك بتحب كُتب التاريخ والقانون .. بس أنا حسيته بيلمعك قدامي مش أكتر ..
-عيلمعني !!!
ثم عض على شفتيه متوعدًا له وأكمل :
-وهيثم الأرعن ديه يجيب فـ سيرتي معاكي ليه من أصلو !!
كان كل تركيزها بالكتاب الذي تقلبه بيدها وقالت بعفوية :
-لا أنا اللي كنت بجيب فـ سيرتك مش هو ..
لا يعلم أن يشفق على سجيتها أم يغـــضــــب أم يضحك ويتجاوز الأمر ، اكتفى بضـ.ـر.ب كف على كف بخفة مبتلعًا تلقائيتها بابتسامة لطيفة وقال :
-وتجيبي في سيرتي ليه !!
قفلت الكتاب بعفوية وغيرت جلستها لتجيو على رُكبتيها :
-كُنت بقوله أد ايه حياتي باظت بسبب أخوك ، حتى فكرة البرنامج وأملي الوحيد أخوك ضيعه ، فهو اقترح عليا فكرة ، وبصراحة عجبتني .. ولما فكرت قولت أيه المشكلة لو نعمل معاهدة سلام سوا ..
اتكئ على جذع الشجر وثني ركبته التي سند عليه مرفقه وقال ساخـرًا :
-طلعتي عتفكري زينا !! وياترى طلع أيه في راسك!
تحمحمت بحماس وشعور من الألفة غلف قلبها كأنها مع شخصٍ تعرفه من زمن آخر :
-اسمع يا سيدي .. أنا خلاص غيرت فكرة البرنامج بتاعي ومش هفضحكم ومش هفضح الناس عشان حـ.ـر.ام ..
-يكملك بعقلك ياشيخة ..
فأتبعت بنفس اللهفة :
-جات لي فكرة برنامج جديد ؛ حكاوي ليلة .. البرنامج ده هيحكي قصص متنوعة ، أول فكرة جات في دmاغي الأماكن .. كل مكان له قصته وحكايته ..
رد بجمود :
-وأنا مالي بالحديت ديه !!
-هقولك أهو .. مش اللي بيبوظ حاجة بيصلحها !! وأنت بوظت برنامجي بسبب غبائي ، ما علينا .. المهم هيثم قال لي عليك بتحب التاريخ و آكيد عندك أفكار كتير ممكن تساعديني بيها لحد ما أعمل تقرير إعلامي محترم اقنع بيه صاحب القناة .. حتى فكرة موضوعين بس اقنعه بيهم .
شبح ضحكة ساخرة رُسمت على محياه:
-وحد قال لك إني فاضي للحكاوي دي!!
تمتمت بتأمل :
-هتفضي نفسك، دول هما يومين بس يا كابتين ومش هتشوف وشي تاني غير على التلفزيون باذن الله .. وتبقى عملت معايا حركة جدعنة تمحي كُل استندالك معايا اليومين اللي فاتوا .
وجد في حديثها مُتعة راقت لقلبه ؛ فغمغم بجدية :
-وأنا هستفيد أيه من المشوار الهابط ديه اللي يخليني ااخر مصالحي يومين !
أصدرت صوت إيماءة عالية وهي تُفكـر :
-فلوس يعني !! خلاص هديك ألفين جنيه على كُل فكرة ومكان تقول لي عليه هنا ..
-تصدقي فكرة وأنا في عرض أي قرش اليومين دول .
هبت فرحة لا تُصدق مسامعها :
-يعني وافقت بجد !!
لأول مرة ينفجر ضاحكًا عند سماعه لعرضها المُغري ، شيء ما بداخله أجبره أن يقبل حديثها العبثي رغم عدm اقتناعه به لكنه وافق على عكس رغبته ، صوت ضحكته الأجهر لفت انتباه قلبها لتبتلع ما تبقى بفمها من كلمـ.ـا.ت ، تلك أول مرة ترى وجهه خاليًا من معالم السخرية ، عادت لتجلس بهدوء بجواره مسهوبة بجمال ضحكته وتفاحة آدm التي تتوسط حنجرته تتراقص فتزيده وسامة لا يقاومها قلب الأنثى ؛ حيث نظر إليها رافعًا حاجبه متقبلًا طلبها :
-اتفقنــا ، وأنا اشتريت .
تأرجحت عينيها فوق سُحب الحيرة المُضللة عليهم ؛ متسائلة بحماقـة :
-اشتريت ايه !! أنا مش معايا حاجة ابيعها !!
وقف هارون عاجزًا أمام ضباب غبائها الذي قيد لسانه وشل مدارك عقله مكتفيًا بضـ.ـر.ب كف فوق الآخر متأففًا :
-يا صبر الصبـر !!!
وقفت مثله فلم يمنحها فرصة للجدال فقال نادmًا على قبوله لطلبها متأهبًا للرحيـل :
-أنا عارف جبت و.جـ.ـع الراس لروحي !!
اوقفته صارخة :
-وانا عملت ايه طيب !! انا ساكته اهو مفتحتش بؤي من الصبح !!
رد بنفاذ صبر :
-قفلتينى ، كل ما اقول اهي عاقلة .. تلغي الفكرة من نفوخي .
•••••••••
-الأيام بتربي الواحد عَلى الهادي يا رؤوف .
مع دقات العاشـرة صباحًا لمست عجلات سيارة رؤوف بوابات محافظة مركز نجع حمادي .. أردف هاشم الجالس بجواره جملته الأخيرة بعد ما أرسل رسالة نصيبة لرغد التي لم تُفارقه للحظة طول رحلته .. قفال الهاتف ليلتفت لحديث رؤوف :
-بقا هاشم اللي مقضي حياته بالطول والعرض عيقول إكده !! أومال إحنا نقول ايه !
ضحكة حزينة خيمت فوق ملامحه وأتبع :
-أحنا المـ.ـو.ت محاصرنا يا رؤوف .. على كد ما تقدر اتبسط اليومين اللي انت عايشهم .
ثم فتح ” تابلوه” السيارة وفرغ لفافة تبغ بيده وأشعلها فأكمل متعجبًا :
-أنتَ من دور هارون أخوي ولساتك متجوزتش ليه !! ولا تكنش لعنة في جيلكم .
التوى ثغر رؤوف الذي يظلل عليه شاربه الأسود كسواد أيامه وقال مشيرًا لقلبه :
-اللعنة اللي بجد ده ، ده ياهاشم .
عقد هاشم ملامحه بصدmة :
-رؤوف لساتك رايد نجاة بت خالك !!
شبح ابتسامة مؤسفة :
-ولا عمري هريد غيرها ، أنا لفيت مصر بضواحيها عيني مشفتش ست في جمالها يا هاشم ..
-دا أنت واقع !! طب والعمل ؟! هتسيب العمر يسـ.ـر.قك إكده !! لا أنت طايل لا جنة ولا نار!
دار بمقود سيارته أقصى اليسار وأتبع :
-وهي واقفة في النص ، بين ولدها وقلبها.. لو اتجوزتها ناس جوزها هياخدو ولدها مش هتشوفوا تاني .. وأنا مش هيهون عليّ أشوفها متعـ.ـذ.بة ومش قادر اهون عليها .. هفضل شايل ذنبها وذنب ولدها لآخر عمري .
تأرجحت عيني هاشم مقترحًا :
-منا عندي فكرة ، طالما أنتوا الاتنين رايدين بعض ما تتجوزها في السـر وبعيد عن العزايزة وعيش بدل ما أنت موقف حياتك على سراب .
هتف رؤوف برفض قاطع :
-مش رؤوف العزايزي اللي يعمل حاجة في السر .. أي حاجة في السـر عمرها قصير ولازمًا هتتكشف يا هاشم، ووقتها هتبقي خسرت نفسك واللي حوليك وهخسرها هي بقية حياتي ، حتى الأمل اللي متعلق بيـه هيمـ.ـو.ت .. بس آكيد في حل ..
تحمحم هاشم وكأن الحديث كشاف إنارة ضـ.ـر.ب بقلبه ليُريه مصيره مستقبلًا ، فأتبع رؤوف قائلًا :
-هتحدت مع هارون وأشوف رأيه ، يمكن ألاقي عنده الحل .
••••••••
~المحطـة .
يقف هِلال على رصيف محطة القطار المقبل من أسيـوط منتظرًا أخته بعد إلحاح طويل من صفية إثر انشغال هيثم بالمهام التي كلفه بها هارون .. يرتدي بنطالًا جينز باللون الأسود ويعلوه قميصًا باللون الرملي مع بشرته التي تشع نورًا وإيمانًا والتي ورثها من أمه ولحيته القصيرة التي تطفو عليه الهيبـة والوقار .. نظر بساعته وهو يطالع القِطار القادm من بعيد ، فتنهد بـ.ـارتياح بعد تأخره لساعة عن موعده .. هنا وصلت رسالة من هاجر تبلغه برقم العربـة الجالسة بها ..
دقائق محدودة توقف فيها القطار وتوافد النزلاء والرُكاب .. الجميع يصطدm ببعضه من شـدة الازدحام .. صعد العربة ليحمل الحقيبة عن أخته وبدون سلام مسك كفها وسحبها خلفه وهو يحاوط عليها من اصطدام المارة كألا يلمسها أحد .. هبط الاثنان من القطار فسحبته لمكان أقل ضجيجًا على الرصيف وعانقته بلهفة معبرة عنّ شوفها:
-وحـ.ـشـ.ـتني يا هلال !! أيـه الحلاوة دي ، صحتك رادة على وكل صفية !
لم يرق له الحال بل ابعدها عن حـ.ـضـ.ـنه وهي يتفقد أعين المارة حولهم معاتبًا :
-كيف تحـ.ـضـ.ـنيني قصاد الخلق والناس عيونهم مفنجلة عليكِ !!
لم يخلٌ وجهها من البشاشة :
-وفيها ايه يعني مش أخوي وأحـ.ـضـ.ـنك واحبك على كيفي !! حدش له حاجة عندينا .
كاد أن يتمسك بمرفقها مستردًا لهجته :
-لنا بيت يا أوختاه ..
-وحـ.ـشـ.ـتني قوي أختاه منك ..
لم تتحرك خطوة ، فتوقفت وهي تجوب المكان بأعينها باحثة عن شخص ما :
-استنى يا هِلال .. رقية راحت فين عشان نوصلوها في طريقنا !!
-منّ رُقية !!
ردت بعفوية وهي تمتد بنظرها هنا وهناك :
-رقية بت عمي أبو الفضل الله يرحمه ، ماهي معاي بالكلية .. ملقيتش حجز في الكرسي اللي جاري ..
حدجها معارضًا :
-ومين هيوصلها !! أنا مبخر العربية ومش هركب فيها حريم يا هاجر .
تجاهلته هاجر وهي تبحث عن رُقيـة هنا وهناك وتحاول التواصل معها بالهاتف ، متغاضية عن رفض أخيها القاطع ؛ فأشرت إليها بعفوية :
-اهي رُقية جات أهي خلاص .
على سهوة منه وبدون أي نية لرؤيتها انحرفت عيناه لتلك الفتاة التي تقترب منهم مرتدية فستانًا باللون الأبيض وفوقه خمارًا حديثًا باللون ” الكشمير ” الهادي وتجُر حقيبتها ورائها .. تسمرت عيناها وكأنه يُراقب بدرًا في ليلة تمامـه .. فتهامس له القلب بتلك الكلمـ.ـا.ت التي قرأها لأبو قاسم شباني :
-كلّلَتْ حُسْنَها صباحُ الورودِ
ورَأينا الجفونَ تَبْسِمُ أو تَحْلُمُ
بالنُّورِ، بالهوى، بِالنّشيدِ
ولكن سرعان ما عاد له رُشـ.ـده ودار الجهة الأخرى وهو يستغفـر بلسانٍ لاهث ، يذكر الله بسره وبقلبه وبلسانه المعتذر عما بدى منه بنظرته الأولى التي لم ينتويها أبدًا .. اقتربت منهم رُقية متسائلة :
-هيثم لسه مجاش !!
أشاحت هاجر نظرة نحو أخيه الواقف بظهره :
-جيه هلال يا ستي .. حظنا هنركبوا معاه .. عارفة هيثم وخوته ، هِلال عاد عكسه تمامًا .. هتقولي الاتنين مش أخوات ..
تأرجحت عينيها بفضول أن تُطالع ذلك الرجل الباخن ذو الأكتاف العريضة الواقف مصدرًا ظهره لهما غارقًا في حلقة من الذكر عما اقترفه من خطأ في حق قلبه .. ربتت هاجر على كتفه :
-حبيبي يا خوي ، يلا بينا !
غمغم شاردًا بين ذنبه وكيف سيُكفر عنه :
-لأين !!
-البيت !! هتوصل رقية الأول وبعديها نروحوا ..
عقدت رقية حاجبيها بدهشة ثم تدخلت مقترحة بإحراج :
-أنا ممكن أخد عربية للنجع وأكلم حد يتلقاني على الطريق !
عاتبته هاجر بنبرتها الحادة كي يتحرك :
-ودي تيجي كيف !!! هِلال !! يرضيك تركب عربية مع راجـ.ـل غريب؟!
تحمحم بخفوت ثم قال مجلجلًا :
-حالًا سأحضر لكما عربة أجرة ..
لكزته هاجر بكتفه :
-هلال!!! مش وقته وحياة أبوك !!
فتفوه من خلف فكيه المنطبقين:
-مش هركب إمراة أجنبية عربيتي يا هاجر .
قرصته بخفاء كي يتراجع عما يقوله ووضعت الحقيبة بيده ثم شـ.ـدت حقيبة رُقية كي تُجمل الموقف الذي وضعها فيه أخيه وقالت بابتسامة اعتذار :
-يلا عاد اتأخرنا .. خد شيل دول ..
زفر على مضض وهو يحمل الحقائب دون ان يلتفت للوراء على عكس مزاح وخفة هيثم المتواصلة معهمن ، كان النقيض تماما بهلال الذي جر الحقائف وأخذ يغمغم بأذكاره كي يشغل قلبه عن ذلك الآثم الذي سيقترفـه .. وصل لسيارته السوداء التي يفوح منها رائحة الطيب والمسك .. وضع الحقائب بالخلف وما زالت رأسه بالأرض لم تتزحزح إنشًا .. فتح باب سيارته وجلس بمقعد السيارة ، جلست هاجر التي تكتم الضحك بجواره واتخذت رُقية من المقعد الخلفي لسيارته مجلسًا .. وهو يشغل سيارته الفخمة أخذ يردد بصوت مسموع :
-الله اكبر الله اكبر .. سبحان الله سبحان الله ..
“سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ”
بسم الله توكلنا على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
كانت رُقية من حين لأخر تخـ.ـطـ.ـف نظرة إلى المرآة التي ينعكس فيهـا صورته ، شاب مُلتحي ، ذو وسامة تسحر أي فتاة تراه ، ملتزم متشـ.ـدد لم يرفع عينيها إليها أبدًا .. أخذ الفضول يتأكل برأسها حول شخصيته وشخصية هيثم الذي يصنع الضحك ومعهم وصوت الغناء واللهو لا يُفارق سيارته ، والحلوى والمشروبات التي يستقبلهن بها .. تناقض عجيب ولذيذ يفوز به صاحب الأكثر هدوئًا والأكثر رزانة .. تحمحمت هاجر بجواره لتقطع الصمت السائد بينهم :
-هِلو ، عطشانة ..
رد باختصار :
-ابقي اشربي ببيتكم !!
-ليه هو حـ.ـر.ام اشرب في الشارع ؟!
ود بنبرة تحمل السُخرية خالية من أي جدية وهو يمازحها بوقار :
-لعل وعسى يراك شابًا فُيفتنه شربك للماء !!
ردت بنفس نبرته الساخرة :
-وهو مستنيني أشرب ميه عشان يتفتن !! انزل هات لنا عصير وفطور .
-صفية عاملة وليمة لمين !!!
تلقى مداعبة أخته ببسمة خفيفة شقت النور بسواد لحياته لاحظتها رُقية فأشعل نوعًا آخر من الفضول حوله .. تحمحمت بخفوت وعزمت الأمر على ألا تُطالعه مرة ثانية ، على أن تتمادي وتتجاوز حدودها في مراقبته وهذا لا يتناسب مع نشأتها الأزهرية وختمها للقرآن الكريم تامة ، استغفرت الله بسرها ثم عادت لتناظر الطريق من النافذة .. كانت عيناه كل ما تُراقب الطريق من المرآة الأمامية يتعثر بملامحها الشاردة .. تكرر الأمر مرة واثنان وفي الثالثة أدرك لعنة ذلك العضو أن اتبع هواه و الذي دعا الرسول لأجله متبريًا من ذنبه قائلًا :
-ربي لا تلمني فيما لا أملك ..
أوقف سيارته فجاة فثارن الفتيات برجفة انتابتهم ، وقالت هاجر بفزع :
-في أيه يا هلال !!
تحمحم بخفوت وبأنظاره المتدليـة أردف بلكنته الفصيحة :
-أخت رُقيـة !! من فضلك انتقلي للمقعد الخلفي لهاجر !
تدخلت هاجر بعد فهم :
-ده ليه يعني !!
تنهد بلفظ الجلالة وقال متحججًا :
-العجلة الناحية دي نايمة !!
هبطت رقية من السيارة وهي تلعن ذلك الحظ الذي جمعها به وبعقده النفسية ، وقبل أن تنتقل للجهة الأخرى فحصت الإطار الذي يحتج به سليمًا لم يمسه خدشًا ، فغمغمت متحيرة :
-ماله ده كمان !!!!!!
تهامس مع أخته في ظل انتظار لعودة رقية التي هبطت لتنتقل للجهة الثانية :
-شايفة أهو بسببك اللعنة حلت على العربية .
مازحته أخته التي اعتادت على الضحك مع هاشم وهيثم والدلال على هارون ، وبخفة ظل دmدmت ساخرة :
-حقك علينا ، أبقى وديها زار .
-كله من الفاسد هيثم !!
برقت عينيه بغـــضــــب لا ينتهي ولكنه زفر مُتبعًا نصيحة الرسول صل الله عليه:
-إن غـــضــــب أحدكم فليصمت وليستعيذ بالله من الشيطان الرجيم .
•••••••••
~عودة لمنزل العزايزة ..
تقف ليلة تحت ظل الشجرة تتوسل أمها مرارًا وتكرارًا والعبرات تترقرق من مُقلتيها متجاهلة الضجة الكبيرة المُخيمة على المكان وتترجاها :
-مامي افهميني ، أديني اسبوع واحد بس .. والله أسبوع هأخد شوية صور وهرجع ، دي فرصتي الوحيدة ، بليز يا مامي .. سيبيني أجرب وبس المرة دي .
فرغت نادية من ارتداء ثوبها الطبي وقالت :
-انا مش واقفة ضدتك يا ليلة ، أنا اعتراضي على البلطجية اللي أنتِ قاعدة عندهم .
حاولت توضيح الفكرة لأمها :
-والله دول طيبين جدًا ، وأنا لو كنت حاسة بأي مشكلة كنت ههرب ، لكن دول مرحبين بيا وهيساعدوني ، بليز يا مامي .. ممكن تسيبيني المرة دي وبس..
فكرت نادية لبرهة ثم عقدت اتفاقها مع ابـ.ـنتها بحزم كعادتها وشروطها المعهودة التي تبدأها بـ:
-تمام يا ليلة جربي ، بس لو فشلتي المرة هترجعي وتتجوزي شريف ومش هقبل أي دلع .. اتفقنا .
غمغمت على مضض غير مقتنعة ولكنها قبلت التحدي معها تلك المرة بشغف :
-بجد !! مامي وانا موافقة .. ان شاء الله مش هفشل انا قلبي حاسس إني هنجح وهشرفك وهابقي أشهر مذيعة في الوطن العربي ..
عادت نبرتها بنفس الحدة :
-اتفقنا يا ليلة ، فشلتي هترجعي لشريف ومفيش حلول تانية ..
انتهت مكالمتها مع أمها بـ.ـارتياح ، أخيرًا انزاحت الغُمة و أمامها سبعة أيام فقط لتتبدل حالها من حال لحال .. اقترب منها هيثم بوجهه المُغازل :
-ما ليكي عليا يمين ، بيتنا عمره ما شاف النور والحلاوة دي غير بوجودك ..
ثم دار حولها بدون ما يمهلها فرصة للرد مُكملًا كلمـ.ـا.ته المحفوظة :
-يا صباح الخير متأخر ، يا عود والع متبخـر .. سألت عليك القمر قالي طول الليل نايم تشخر .
بضحكتها العالية التي دوت بساحة منزل العزايزة متناسية نفسها وهي تتمايل بدهشة ، كان هارون يبعدهم بمسافة كبيرة ولكن صوت ضحكتها جعلت رأسه تلتفت لعندها بأعينه الجاحظة خاصة عنـ.ـد.ما رأس أخيه يتساير معها :
-هيثم أنت قديم ولوكل !!! بس فظيع بجد !
شـ.ـد ياقة جلبابه :
-عجبتك الد.خـ.ـلة !! عندي منها كتير كل يوم هسمعك واحدة !
لم تفرغ من غيبوبتها التي غرقت بها ، فأردفت بتنهيدات الضحك :
-أنتَ ازاي مش مرتبط لحد دلوقتي ، بجد في بنات كتير الجو ده بياكل معاها .
مد ذراعـه مستندًا على جذع الشجرة خلفها لتجد نفسها محاصرة تمامًا بينهمـا وهو يقول :
-وأنا مش عايز غير جوك ، جو اسكندراني على أبوه .
تصلبت تعابير وجهـها وبرقت عينيها عنـ.ـد.ما وجدته هارون واقفًا خلفه وهي ينفث دخان غـــضــــبه ، تناست كيف تكون الكلمـ.ـا.ت كيف تحذره ، كل ما فعلته التصقت بالشجرة خلفها ؛ فأتبع هيثم يبث شكواه من أخيه :
-هِرن ولد الـ*** قال لي لو قربت منك هيقــ,تــلني ، فـ أحنا نتخاصموا قدامه عشان أنا متعودتش أكـ.ـسر كلمة كبيرنا ..
اتسعت ابتسامته حتى أكمل حديثه بنفس النبرة :
-يخفي هارون من قدامنا أنا كلي بتاعك يا أحلى ليلة في عمري .
غمغمت باسم وهي تراقب الشرار المتقاذف من أعين أخيه ، كادت أن تُخدره :
-هيثـم …
أكمل بحماقة :
-يا أحلى هيثم سمعتها في حياتي ..
أدركت أنه سيتمادى بالأمر فانحنت هاربة من تحت ذراعه الممتد كي تهرب من سطوه ، دار هيثم ليصطدm بأخيه الواقف كالصخرة وهي التي تراقبه بخــــوف يتقاذف من مُقلتيها ، رفع حاجبه متسائلًا بثقة :
-هِرن أنتَ هنا من مـ.ـيـ.ـتى !!
لم يجد ردًا من أخيه الذي طفح كيله من تصرفات أخيه العبثية ، فنظر لليلة معاتبًا :
-وأنتِ سيباني أبعبع زي الأهطل !!
ثم شـ.ـد ياقة جلبابه متلقيًا عقـ.ـا.ب أخيه :
-هِرن أنا مش هتربى غير لما اترن العلقة .. انا قدامك أهو .. اقــ,تــل فيّ لحد ما يبانلي صحاب.
انفجرت ليلة ضاحكة وهي تكتم الضحك بكفها فأشاد بإعجاب :
-الصلاة على الصلاة ..
تمالك هارون أعصابه بصعوبة واكتفي بنظرته الحادة وهو يأمره لانه لم يعتاد أن يمد يده على أخيه تحت أي ظرف :
-أنا قُلت ايه !!
ثم زفر بضيق واكتفي برفع حاجبه الأيسر الغاضب:
-حسابي معاك بعدين ، أمشي .
ثم دار لـ ليلة التي لم تتحمل تلك النظر من عينيه وقبل أن يبث ببـ.ـنت شفة وهي تقف على هبوب خــــوفها قائلة :
-هيام .. هيام مستنياني في المطبخ .. هروح أشوفها ..
فرت من أمامه كالارنب فزفر دخان غـــضــــبه :
-هي ليلة غبرة على هارون واللي جابوا هارون .
ثم دار لهيثم الذي يتغزل بجمال ليـلة وبراءتها جاهرًا وهو يشمر أكمامه :
-هو دبور و زن على خراب عشه !!
~بالمطبخ ..
تغنجت زينـة متفاخرة وهي تضـع يدها بخصرها وتتمايل بين الخدm خاصة بعد انضمام ليلة لهما :
-والله الرك على النيـة ؛ ونيته ومراده واللي معششة جوه قلبه وعينه هي أنا ..
ثم أطالت النظر متعمدة إعلان ملكيتها له أمام ليلة :
-طلع دايب في حُبي وممبينش .. مش سهل هارون بردك .
رمقتها صفيـة بسخط متبعـة غيرة الحموات وهي تقرصها :
-خفي نبـر ، عشان شاريـة رضا الواد عنك بكوباية شاي .. إحنا ما صدقنا .
فتدخلت نجاة غير مصدقة :
-يعني خلاص !! العُقدة اتفكت وهنفرحوا بهارون يا عمتي !! طلع وشك حلو علينا يا ليلة .
مشاعر متشتتة خيمت على قلب ليلة لا تفهمها ولم تعٍ ترجمتها اكتفت بابتسامة هادئة ، كانت صفية مشغولة بقطف الملوخية على السُفرة ، فتنهدت بـ.ـارتياح :
-العشيـة هنروحوا نتقدmوا لزينة .. وربنا يحلها .
هنـا دخلت نغم التي استقبلتها زينة بكيد أنثوي :
-بت حلال يا نغم ، تعالي .. اسمع
لقـد عرف نزار معنى الهوى قائلًا :
“أن تتحكم إمراة بأقدار الرجـ.ـال ..
ولكن شيئًا فيكِ سريًا !!!!”
ولكن ما هو الشيء السري الخفي الذي كان يشغل بال نزار حينها و.جـ.ـعله ينجذب إليها خصيصًا دونًا عن غيرها !! ما هو الشيء الفريد من نوعه الذي خُلق بالمرأة كي يصنع من رجل ذو جاه ووقار ليكون بين يديها برقة نسيم الفجـر ، يتحول صوته الرخيم لتلك النبرة الهادئة التي يخشي أن تُؤذيها .. مهما تعددت الأقاويل وتنافس الفلاسفة لن تكون بعمق تلك الحقيقة الثابتة والراسخة لهذا الترابط الروحي لانجذاب الرجل لإمراة بعينها ، تلك العاطفة التي تُضاهي عاطفة الأمومة بين الأم وصغيرها ، فالرجل مثلها تمامًا ؛
“فـ كما ينسل من أرحام النساء أجنـة ، يُنسل من أضلع الرجـ.ـال أحبة . ”
#نهال_مصطفى ❤️
•••••••••
-” يسـعد صباحك يا حچ خليفـة .”
أردف هارون جملته الأخيرة وهو يشـ.ـد طرف عباءته التي خلعها في حضـرة أبيه ، جلس جاره فوق الأريكة الخشبية الموجودة بجانب مدخل الباب الخلفي للمنزل ومكان أبيه المُفضل الذي اعتاد المكوث فيه ، رد عليه ذلك الرجل الذي أصابه الهرم والمستند على عُكازه :
-يجعل الخير كله بين يدك يا هارون يا ولدي .
ثم أتبع أبيه متسائلًا :
-عملت أيهِ فـ شغل مِصنع السكر ، حليت الأمور ؟
تنهد برتياح :
-والله يا حچ مش هكدب عليك ، المُصنع ديه مشاكله كترت ومبقاش چايب همـه .. بفكر أشوف له بيعـة بدال و.جـ.ـع الراس اللي چاي من وراه كُل يوم .
شبح ابتسامة معاتبة بدت على وجهه كأن الأمر لم يرق له ؛ فأردف واعظًا بحكمته المعهودة :
-وأنت كُل ما يوجـ.ـعك ضِرس هتقِلعه ، بعد كام سنة خشمك هيفضى بالحال ديه !! ما ينفعش يا هارون يا ولدي ، اتعلم تعالچ المشاكل من چِدرهـا حتى ولو فكرت تبيع ؛ تبيع وأنتَ كسبان ومكسب غيرك .
-أنا هعيش عمري كُله اتعلم منك ومن حكمتك يابا .
فأومئ متفهمًا وجهة نظر أبيه ، فهز رأسه بالموافقة :
-أوعدك هشـوف يا حچ ، بس أنا كتت عاوزك في موضوع تاني .
-قول يا هارون يا ولدي ..
تحمحم بحيرة من أين سيبدأ حديثه مع أبيه ، حك ذقنه الخفيفة بتردد :
-بخصوص البت الصحفية اللي چايبهـا هيثم ..
ثم غمغم بسره :
-مجايبه المقندلة زي وشه ..
رمقه أبيه باهتمام :
-مالهـا يا ولدي ، باين عليهـا غلبـانة ولو محتاچة مساعدتنا نساعدوها .
-فاهم يا بوي ، بس أنت خابر هيثم ولدك ملهوش أمان ومينفعش يتساب مع البت دي لروحه يدبسنا في ورطة إحنا مش قِدها ، وفي نفس الوقت على قولك اللي محتاج مساعدة نساعدوه !
أيده أبيـه متفهمًا :
-عداك العيب يا ولدي ..
ثم أتبع هارون متجاهلًا تلك النغزة التي تُحذره من شم هواء بحرها الذي أن لفح قلبه سيغرقه بها ، وأكمل بتوجس :
-هي قالت هتقعد إهنه أسبوع بكَتيره ، فـ أنا هساعدها لحد ما تاخد مُصلحتها وتهملنا وكّمان عشان منصغرش هيثم مع ضيوفه .
-عين العقل يا ولدي ، وخير ما عملت .. هيثم أخوك مدبوب وراسه مريحاه على الآخير خلينا بعيد عنِه..
ثم استند على عكاز لينهض ، فساعده هارون في ذلك وأكمل موصيًا :
-خليك مع الضيفة لحدت ما تخلص مصالحها ، وأكرمها مش عايزين حد يمسك سيرتنا يا هارون ولا يقصر رقبتنا.. بيت خليفة العزايزي مفتوح للغرب قبل القُرب .
تابع السير مع أبيه وهو يسنده :
-على خيرة الله ، أنا قُلت أخد إذنك قبل أي شيء .
تمتم ذلك العجوز صاحب السبعين عامًا بهدوء:
-ربنا يكملك بعقلك يا ولدي .
ما خطت أقدامه أعتاب المنزل ، فأردف :
-قولت لصفية تأجل روحتنا لصالح لبكرة العشية ، يكون هاشم ريح ضهره من السفرية وقعدتوا مع بعضكم هبابة من غير خوتة .
ضـ.ـر.ب على رأسه متذكرًا ذلك الأمر الذي تنساه :
-صفية دي ما عضيعش وقت واصل ، دي ما صدقت عاوزة تخلص مني قوام قوام .
ضحك خليفة بخفوت :
-عايزة تفرح بيـك يا هارون ، وأنا كّمان عاوز أشوف عيالك قبل ما أقابل وجه كريم يا ولدي .
-بعد الشر عنك يا أبو هارون .. حسك في الدِنيـا .
أحس بتورطه في الأمر ولا يوجد مفر حتى ولو لم يلزمه ، سواء زينة أو غيرها فهو لا يميل لأمور الزواج وزيادة حِمله في هذا التوقيت بالذات ، ولكنه عقد كلمته مع أمه ولا يمكنه التراجع عنها مهما حدث ، فـ غمغم على مضضٍ :
-اللي فيه الخير ربنا يقدmه يابا.
•••••••
-“اكـسر شمالك يا هلال ، بيتهم اللي بالأزرق ده ”
أردفت هاجر جملتها الأخيرة وهي تصف له طريق بيت رُقية ، فامتدت عينيه للطريق الضيق الذي يحاصره الخضرة من الجانبين ؛ فأوقف السيارة معترضًا :
-لو دخلت لـ چوه مش هقدر أطلع .. والعربية هتتغبر .
ثم تأفف باختناق متحدثًا بلغتـه التي لا يجد نفسه إلا عنـ.ـد.ما ينطق بها :
-يكفي بهذا القدر ، يمكنها قطع تلك المسافة القصيرة سيرًا .
وبخته هاجر رافضة قطعًا :
-هِلال !! هيثم كان يدخل ويطلع عادي ، متعقدش الموضوع .
رد بإيجاز :
-أنا أعلم بأمر الطريق وأمر سيارتي ..
فاض صبـر هاجر منه ، واكتفت بإرسال نظرة اعتذار لصديقتها ثم جاءت مقترحة :
-طيب روح وصلها الشنطة لحدت باب البيت ، طالمـا مش هتخـش لچوه .. الشنطة تقيلة ومش هتتجر في التعاتير دي .
عض على شفته بامتعاض وهي يبرق لأخته كي تصمت :
-اتقوا شر الشُبهات ، لا يجوز يمكنها حَمل حقيبتها بنفسها ..
كادت هاجر أن تحتد في نبرتها فتدخلت رُقية التي قالت مغلولة من تصرفاته العبثية الغير مفهومة :
-خلاص يا هاچر ، سيبيه على راحته .. أصل شيل شنطتي شُبهة بالنسبة له ..
ثم وضعت يدها على مقبض الباب وأكملت مندهشة بنفس النبرة المغلفة بالسخرية :
-أتتبع دينًا جديدًا يا مولانا !!
ثم هبطت من سيارتـه التي قفلت بابها بغـ.ـيظ ، فحدج أخته مضطربًا لصفع باب عربيته التي لا يتحمل عليها الغُبـ.ـار :
-هل هذا جزاء المعروف !! هل هذا رد الجميل !
ثم وقفت رقية أمام نافذة السيارة جهة هاجر لتلقي جُملتها الأخيرة متعمدة وصولها لأخيها صاحب الحكم والمواعظ التي لا تروق لها ؛ وأردفت بتخابث :
-على فِكرة عچلة العربية سليمة ومفيهاش حاچة يا دكتورة هاچر ،  عـ.ـر.في فضيلة الشيخ أنُ الكِدب كمان حـ.ـر.ام ؛ شكله نساي .
ثم تركته مشـ.ـدوهًا متسع العينين ، يتجلجل بالكلام لا يعرف ماذا سيقوله غير أنه وجه أسهم عتابه لأختهِ ، عاد للهجته الصعيدية مواصلًا بحـدة ممتزجة باللوم :
-أنا قولتلك مش هركب حريم يا ستي في عربيتي ، بدل ما تشُكرني جاية تعلمني الأدب !! وكّمان طلعتني كاذب .. أنا كاذب !!
بطش الغـــضــــب بملامحه ثم هبط من سيارته بعد ما فتح الباب الخلفي للسيارة وترك هاجر في غيبوبة ضحكها ، اتجه لعندها وهو يتجلجل موضحًا موقفه وعينيه بالأرض مشيرًا بسبابته :
-بأي حق تتهميني بالكذب يا أخت رقية !! اتعلمين ما بسيارتي أكثر مني !!
وقفت أمامه متحدية وكأن راقت لها فكرة الانتقام من تشـ.ـدده بالدين وتعسره المُبالغ فيه حد التطرف :
-طبعا أعرف !! وآكيد مش هتهمك بالباطـل لان فعلا العچلة سليمة .
أحمرت وجنته من شـ.ـدة الإحراج إثر كشف كذبته البيضاء ، فكيف كان عليه أن يخبرها بأن عينيها يُثيران الفتنة بقلبه المؤمن ، أن ملامحها البريئة المعكوسة بالمرآة لم يتحمل مقاومتهما وتجعله ينحرف عن طريقه .. بلل حلقـه باختناق وهو يسحب لها الحقيبة كي ينتهي ذلك الحوار المنهزم به ولأول مرة يهزمه أحد كما فعلت هي :
-استغفر الله !! زهرًا تزرع شوكًا تحصد …هذا هو طباع البشر .
ثم كادت أن تأخذ حقيبتها منه إثر نداء هاجر المعترضة :
-ما تخلصونا في أم يومكم ديه !! عاوزة أروح لأمي .
رفض أن يترك لها الحقيبة التي يحملها بل قفل باب السيارة وأسرع الخُطى صوب المنحدر الذي ينتهي ببيتهم وهو يذكر الله جهرًا متجاهلاً ندائها المتكرر خلفـه ولم يلبٍ ندائها إلا برفع صوته المهلل بالذكر حتى وصل لأعتاب بوابة بيتهم وترك الحقيبة بضيق هاتفًا بلطف خفي :
-إهانة مقبولة يا أخت رقية .. اشكرك.
لم ينتظر ردها بل هرول كي لا يستسلم لرغبة قلبه المُلحة بالنيل من ملامحها الهادئة ولو لمرة واحدة ، تجاهله لها جعلها تضـ.ـر.ب الأرض غـــضــــبًا وهي تجُر حقيبتها نحو الباب :
-ديه شيخ ازاي ديه !! ديه يروح يتعالج .
لم تخطٌ خطوة ففوجئت بتلك اليد الملعونة التي توبخها بقسوة:
-في أيه بينك وبين هلال العزايزي يا بت عمي !!
جذب ذراعها باعتراض وهي تنهره بعنفوان :
-سيب يدي يا بكر !! أنت مچنون ولا مبلبع أيه على الصُبح !!!
ثار بركان الغـــضــــب بملامحه :
-وأنتِ لساتك شوفتي چنان !! هلال العزايزي كان يعمل أيه إهنه يا رقية!!!
صرخت بوجهه كي يكُف عن طريقها الذي يتبعه كظلها :
-وأنت مالك !! أنت مالك يا بكر ، ولآخر مرة عقولهالك بالذوق ابعد عن طريقي وإلا هروح لهارون العزايزي وهو يتصرف معاك ومن بلطجتك .
قالت جملتها الأخيـرة وهي تدفعه عن طريقها كي يبتعد عنها ، كي لا يقف بوجهها مرة آخرى ، لم تتزحزح خطوة فكان أمامها كالسد المنيع مهددًا :
-وأنا إكده هتهت وأكش ! يكون في معلومك أنا إهنه مكان المرحوم عمي .. وطول ما هو مش موجود تبقي في حمايتي وتحت طوعي ومن حقي أعرف كل حاچة عنك !
اختنقت من تحكمـ.ـا.ته الزائدة عن الحـد :
– بصفتك مين !!
تلونت ملامحه الخبيثة وهو يقف أمامها بنظراته الشرانية :
-ولد عمك الوحيد وجوزك وقدرنا مكتوب في السما قبل الأرض يا ضكتورة .. ده العُرف اللي متخلقش اللي يغيره .
-ده عشم أبليس في الجنة يا بكر يا بن عبير .
كانت نبرتها قوية ولكنها مهزوزة ، خالية من أي سند ، سندها الوحيد فارق الحياة وتركها فريسـة لبكر ولعرف العزايزة الذي يمنح الأولوية لزواج الفتاة الوحيدة لابن عمها الشقيق دون غيره ؛ هنا خرجت أمها من البيت إثر صوتهم المرتفع ، فلم يُهنئها باستقبال ابـ.ـنتها التي تُعد لها أشهى المأكولات:
-خير يا بكر !! حسك عالي ليه ؟! البيوت ليها حُرمة.
كعادته قلب السحر على الساحر مرتديًا وجه الطيبة :
-يرضيكي قِلة القيمة اللي فيها رقية دي !! هِلال العزايزي موصلها لحد باب الدوار ، دي الأصول يا مراة عمي !!الخلق كلو وشنا .
وقفت أمها أمامه كالسد المنيع الذي يحمي ابـ.ـنتها من أي اتهامـ.ـا.ت:
-اقطم يا بكر كلمة زيادة هقِل منك في قلب دارنا ، أنا بتي بمليون راجـ.ـل ومحدش يستجرى يرميها بالباطل ، شكلك نسيت روحك ونسيت أن اللي قدامك دي تربية أبو الفضل العزايزي ..
ثم اقتربت منه رافعة سبابتها بنبرة تحذيرية :
-أبعد عن بتي يا بكر ، أنا معنديش بنات للچواز ، بتي وهقعدها چاري ليك عِندينا حاچة.
حك بكر ذقنـه وهو يخـ.ـطـ.ـف نظرة سريعة من تلك التي تحتمي بظهر أمها ، وقال بتخابث:
-شكلك أنتِ اللي ناسية يا مراة عم ، أن بتك بورثها بمالها كِلياتهم من نصيب العبد لله ، ده العرف والشرع لإنك مجبتيش الواد الليِ يعصبها (يمنعها ) من قدري معاها.
هتفت رقية بقوة رافضة تلميحاته السخيفة :
-ده بعينك يا بكر ، المـ.ـو.ت عندي أهون ولا أنك تطول شعرة مني ، ونصيبك في حق أبوي لو عرفت تثبته ابقى خُده ..
ثم غادرت حِما أمها ووقفت أمها لترمي قذيفتها بوجهه بنبرتها القوية لا تخشى أحد :
-وأثبت ، أبوي كاتب كل أرضه بيع وشرا ليّ أنا وأمي ، واللي معرفش يديهولك مجلس العزايزة وريني هتاخدو كيف !! ويلا جُر عجلك من إهنه وقصاد أمي لو قطعت طريقي تاني يا بكر هقِل منك ومن اللي جابك .
بنظرات الثعلب الذي لا ينوي إلا الغدر رمقها من رأسها للكاحل وعلى محياه تلك الابتسامة الماكرة التي تعني أنه لا يستسلم ولم يتنازل عن مطامعه بهذه المسكينة التي أخدت منها الحياة كُل شيء وحتى المال استكثرته عليها …
يجلس هِلال بجوار أخته بعد ما اشعلت فتاة الكبريت النيران برأسه وهو يستغفر تارة وتمتم طورًا حتى انفجر بوجه أخته غير مصدقًا :
-أخرتها كذاب !! أول وآخر مرّة هجيبك فيها من المحطة يا هاچر .. أنتن تستاهلن هيثم وأشباهه.
رمقته هاجر الغارقة بالضحك على حاله ثم قالت :
-صراحة أنتَ زودتهم يا مولانا !! أنت قارش مِلحة البت ليه مش فاهمة !! دي غلبـانة .
رفع حاجبه مستنكرًا ومعترضًا على طيبتها فقال وكلمـ.ـا.تها تتقاذف كحبات الفِشارة برأسه :
-لكنها سليطة اللسان .. وناكرة للمعروف .
ثم نظر إليها مبرقًا كإنه غير مصدق ما رمته بهِ :
-أنا كاذب !!!!!
تخفي الضحك خلفها كفها الموضوع على شِدقها وأعينها اللامعة وهي تسأله بتخابث :
-بالحق !! أنتَ ليه خليتها تغير مكانها وعچلة العربية مفيهاش حاچة !!
هتف مرتبكًا :
-الأمر لا يعنيكِ ..
-يعني أيه ؟!
عاد للهجته التي كُل ما يضيق به الأمر يستعين بها قائلًا بتـ.ـو.تر بينّ بكلمـ.ـا.ته :
-يعني أقطمي أنتِ كّمان لحدت ما نوصلوا يا هاچر .
••••••
~بمرسى علم .
-” أنا أهو قصاد بوابة النجع بالظبط ، يلا قومي نامي وبطلي غَلبـه ”
أرسل لها صورة على موقع التواصل الاجتماعي الذي يربطهم في فترة غيابه كاتبًا جُملته الأخيرة لتلك التي قضت ليلتها معـه تتابع خطواتـه ، شرعت بتسجيـل رسالتها الصوتية بصوتها العـ.ـذ.ب الذي يشـ.ـدو بتنهيدات عشقها الغير متناهي وقالت :
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي .. خلي بالك من نفسك وأول ما تعرف تكلمني كلمني في أي وقت يا هاشم ، صوتك وحشني .. اتصور كتير وابعت لي .. بحبك .
ثم قفلت هاتفها وتدلت أقدامها الحافية بالأرض لترتدي نعالها الفرو وتُجر في أقدامها لغُرفة النوم بمنزل أمها .. ما كادت أن تخطو خطوتين ففوجئت بأمها التي تتأهب للخروج ، نظرت لها بأعينها التي تحاوطها غيمة القلق السوداء وبصوت مُرهق :
-صباح الخير يا مامي.
حدجتها سامية بلوم :
-أنتِ لسه صاحية منمتيش يا رغد !! ليه يا بـ.ـنتي بتعملي في نفسك كده .
رفعت جفونها النائمة بصعوبة بالغة :
-لازم اطمن على هاشم يا مامي هو وصل وبيسلم عليكِ ..
ثم تثاوبت مُعلنة عدm قُدرتها على تحمل المزيد من السهر :
-هدخل انام بقا .. خلاص مش قادرة .
لم يرق لأمها الحال فلجأت للصمت لأن أي كلام غير مُجدي معها ، فتمتمت بملل :
-طيب نامي وأنا نازلة النادي أفطر مع صُحابي .
أومأت كالسكيرة وهي تتجه لغرفتها ولكنها تذكرت شيء جعلها تعود لأمها مرة ثانية:
-مامي استنى بعد إذنك ..
عادت لغُرفة الجلوس التي كانت تقطن بها وأمسكت بعلبـة أقراص منع الحمل وعادت لها :
-ممكن بس تصوري دي على موبايلك، عشان خلصت ومكسلة أطلبها .. هاتيها وأنتِ وراجعة بليز .
تناولت سامية العُلبة من ابـ.ـنتها وقرأت الاسم فغلت الدmاء بعروقها وهي تلومها :
-أنتِ لسه بتاخدي الحبوب دي يا رغد !! وبعدين ، أنا بدأت اتخـ.ـنـ.ـق من الحال ده ..ده كلام ميرضيش حد.
غمغمت بتعب :
-حال أيه بس يا مامي !!
-حالك أنتِ وهاشم ، فات سنة وشهرين ولسه معرفش أهله ، وبيتعامل معاكي كإنك شقة مفروشة يجي يريح فيها كام ساعة ويختفي بالأسابيع .. المهزلة دي لازم تنتهي يا رغد ..كفاية .
-يا مامي والله ما متحملة اسمع كلمة زيادة ، بجد الصداع هيفجر دmاغي .
لم تهتم أمها بحالتها ، بل واصلت حلقة عتابها وبنفاذ صبر :
-لا يا رغد ، الحُبوب دي أنتِ مش هتاخديها تاني !! ولو هاشم مش هيعلن جوازكم قُدام أهله بالذوق ، يبقي لازم يعلنه بالعافيـة .
تشبثت برأسها التي تصدح من قلة النوم :
-يا ربي !! مامي أنا هروح أنام وأول ما أصحى نتكلم ونتخانق على راحتنـا ، بس بليز متنسيش تجيبيها .. يلا Have a nice day …
تركت أمها التي تحمل قُفة الجزع فوق كتفيها وعدت لغرفته وارتمت على السرير ولا يشغل رأسها شيء إلا النوم .. رمت سامة علبة الدواء بحقيبتها متوعدة :
-طيب يا رغد ..
غادرت سامية منزلها وأول مكان ذهبت له صيدلية الدكتورة إيمان رفيقتها المُقربة ، دخلت لعندها بملامح وجهها الغاضبة وقالت بدون سابق إنذار :
-إيمان أنا محتاجة مساعدتك ..
تركت إيمان ما بيدها وألتفت لصديقتها :
-سامية !! مالك يا حبيبتي ..
أخرجت عُلبة الدواء من حقيبتها ووضعت على سطح المكتب :
-شايفة العلبة دي ،عايزة واحدة زيها .. وعايزة أبدل الأقراص اللي فيها بأي نوع ڤيتامين مشابه .. اتصرفي يا إيمان لو ليا خاطر عندك …
•••••••
~نجـع العزايـزة …
تعجبت نجاة على حال نغم التي انسحبت فجأة من بينهم بدون كلمة وغادرت الدار قبل استقبال صديقتها المقربة هاجر .. فتدخلت نجاة متهامسة :
-هيام ، هي نغم مالها !!
انتهت هيام من لف وشاحهها الذي يتناسق مع لون عباءتها الأنيقة مكتفية بوضع لمسات خفيفة من الكُحل كي تتأهب لاستقبال إخوتها حيث قالت بحـ.ـز.ن وخيم وهي تدور لها :
-نغم عينها من هارون ورايداه ، أكيد لما سمعت إنه هيُخطب زينة متحملتش .
تنهدت نجاة بتلك النبرة الحارقة والتي يندس خلفها بركان من القهرة :
-ااه ، يا وچع القلب يا ربي !! الزمن بيعيد نفسـه يا هيام ، نفس الوچع كاس وداير على الكُل .. طيب وهارون أيه قوله !
جلست على طرف السرير حائرة في تلك النيران التي تلتهب القلوب :
-ماعرفاش يا نجاة ، ولا عارفة أيه في راس هارون أخوي .. عمره ما لمح أنه قلبه ميال لزينة .. لو چينا للحق ، نغم الأولى بهارون ، متعلمة ويتيمة وفي حالها وعتحب الخير للكُل ، لكن زينة عبـ.ـيـ.ـطة وبتلعب بالبيضة والحجر ..
استيقظ الجـ.ـر.ح النائم بقلب نجاة وهي تربت عليه بكفها كي يهدأ لتقول متأثرة :
-قلبي عندك يا نغم يا حَبيّبتي …
الخيال يسترد شيئًا لم يعد أبدًا ؛ تخيلت للحظة أن ولو الزمان لم يسن سيوفه عليها ويبتر كُل أجنحتها الوردية لتجتمع بحبيبها ، حيث أردفت بتلك النبرة اليائسـة :
-عارفة يا هيـام أصعب حاجتين على أي ست ، أنها تشوف حبيبها مع واحدة غيرها ، وتاني حاجة تنام في حـ.ـضـ.ـن رچل وقلبها وعقلها مع رچل غيره .. أنا اتكتب عليّ التانية ولسه ما دُقتش مرارة الأولى .. بس مفيش مهرب من الوچع ؛ هيچي اليوم .. ونغم يا حبة عيني هتدوق مُر الاتنين ..
أيدت هيام حديث صديقتها بالمثال الشهير قائلة :
-صدق المثل اللي قال أشوف حبيبي في مقبرة ولا أشوفه في حـ.ـضـ.ـن مرا .
ثم تمسكت بأيدي صديقتها المُثلجة بحنو :
-نجاة ، لساتك عتفكري في رءوف حتى بعد ما اتجوزتي !!
تفوهت بنبرة بقايا الحب الذي لم يتبقى منه أي شيء ألا الكلمـ.ـا.ت والحُلم ، سالت تلك الدmعة المحبوس من طرف عينيها وقالت :
-ولا عمري نسيتـه ، اتجوزت وخلفت وقضيت سنتين مع جوزي بس عمري ما اتمنيت غير رؤوف وكنت دايمًا بدعي لربنا يسامحني بس قلبي من چادر ينسى .
ثم جففت عبراتها المنسكبة وقالت:
-ت عـ.ـر.في، الفرق بين الجواز بحب والجواز الخالي منـه أيه !! كيف الفـرق بين أن قُدامك طبقين من نفس الصنف واحد فيهم عادm والتاني حايق ومّبهر .. أهو الحُب ده هو رشة الملح اللي على الوكل اللي بيطعمه ويحليه على لسانك ، تخيلي تتجبري على وكلة عدmانة ، هتاكلي منها لإنك چعانة بس عمرك ما هتكوني حاسة بمتعتها ، ولو غابت عنك سنين عمرك ما هتتوحشيها .
خيم الأسى على ملامح هيام متأثرة بهموم صديقها التي ظنت أنها تنسات حب عمرها وعاشت في كنف الواقع وتحت وطأة أعرافهم ؛ فتمتمت بشفقة :
-و.جـ.ـعتي قلبي يا نجاة ، ليه يا حبيبتي تعملي في روحك إكده وأنتِ عارفة طريقك مع رؤوف مسدود ، لو مازن مش معاكِ كُنت هقولك من حقك تحلمي، لكن ولدك قفل باب الحلم بضبة ومفتاح..
فغمغمت بأسف مبطن بالحسـرة :
-ولو قُلت يا جواز ، هيجوزوني واحد من أخواته .. يبقى بلاها أحسن ، أنا قفلت قلبي على رؤوف وولدي مازن ..
صوت قرع الطبـول التي تُعلن مجيء هاشم ختم جُملة نجاة الأخيرة وكأنها إشارة خير بأن مهما طال سواد الليل لابد من شمس الفرح تزيحه ، نهضت هيام راكضة نحو النافذة لتزيح الستار وتعلن فارحة :
-هاشم جيه ..
ثم انخفضت نبرتها بتوجس :
-نجاة !! ده رؤوف چاي معاه .
-متهزريش يا هيام !!
لفت وشاحهها بعشوائية وهي تتوارى خلف الستار لتصدق مسامعها التي نفت الخبر ، كان واقفًا بجوار سيارته مرتدي بذلته العسكرية ويخرج أشيائه .. تلصصت النظر له بجفون مرتعشـة وأيدي متشبثـة بالستار كأنها تقبض على جمر قلبها المحترق ، فـ يشـ.ـدو صوت الألــم كاشفًا عن همه بأحد الأبيات الشعرية التي تربت عليها ولا تعلم بأنها يومًا ستعيشها بنفس القدر من الألــمِ :
لن تستطيع سنين البُعدِ تمنعُنا
‏إنَّ القلوبَ برغمِ البُعدِ تتصِلُ
‏لا القلب ينسى حبيبًا كانَ يعشقهُ
‏ولا النجوم عنِ الأفلاكِ تنفصِلُ ..
ويبقى السؤال هُنا ؛ كيف يمكن للعقل إقناع القلب بواقعٍ لا يرغب فيه !!!
أنتفض قلبها مذعور من سطو أوجاعه وهي تعيش الحسرة بأشـ.ـد أنواعها وقالت :
-هيام أنا لازم أرجع بيتي ، مش هچدر أشوفه .
تشبثت بها هيام رافضة :
-هتروحي فين !! دانتِ جاية مخصوص تقعدي معاي لحد الفرح ، تقلي قلبك وواجهي يا نجاة الهرب مش حل يا بت خالي ..
ثم تمسكت بيدها :
-خليكي چاري وأنا مش ههملك واصل .
~بالحديقة ..
-خُدي بيدي يا بتي ، هاشم جيه ولازمًا استقبله بنفسي.
طلبت السيدة ” أحلام ” التي ترتشف الشاي مع ” ليلة ” بالحديقة وما كادت أن تفتح الحوار معها قطعهم صوت قرع الطبول والصخب بالخارج ، لبت ليلة طلبها ورافقتها الخُطى وهي تقول :
-هاشم ده أصغر من هارون ، صح كده !!
تسير أحلام بخُطاها المائل إثر خشونة رُكبها ولكن إقبالها على تربية يدها كان أهم من ألف و.جـ.ـع يعوقها، كانت تستند على ليلة وقالت :
-الاتنين بيناتهم ١١شهر بالتمام ، كنت شايلة هارون على يدي حتة لحمة حمرة ، جات صفية تندب لي ، ألحقيني يا عمتي أنا حِبلى ..
صعدت أحلام درجات السُلم بتأوه فأكملت:
-قولتلها خير وبركة وأهو الأخوات يرعرعوا مع بعضيهم وأنتِ خلفي وأنا هربي ومتعتليش هم .. ما صدقت مسكت في الكِلمة جابت ٧ بطون ورا بعض ..
فتدخلت ليلة مستفسرة :
-هما مش المفروض٦ بس !!
حملت أحلام على مرفق ليلة التي يسندها وهي تخطو تلك الدرجة الأخيرة بالممر :
-بعد هيثم جابت هدى ، بس اتولدت ناقصة ومتحملتش ومـ.ـا.تت الله يرحمها ..
ما طل طيفهـا من الباب فترك هاشم حقيبته التي يسحبها من السيارة وترك إقبال الجميع حوله من كُل صوب وحدب وأسرع الخُطى نحو أحلام تلك المرأة التي تربى على يدها .. مال على كفوفها و أغرقهم بالقُبل ثم ضمها لصدره متلهفًا لحـ.ـضـ.ـنها :
-تصدقي بالله ما حد عيوحشني قِدك في البيت ديه ، ولولاكي ما أعتبه واصل ..
تقهقرت ليلة لتبتعد عنه وتفسح لهم مجالا للحوار ، قطعت درجتي السُلم لتقف تحت ظل الشجر تُراقب فرحتهم الجميلة بحماس ، جاءت صفية من الخلف وهي تضـ.ـر.به بكتفه معاتبة :
– وأمك يا هاشم ! تصدق إنك وا.طـ.ـي ما طمر فيه الـ٩ شهور ، أنا مخلفتش غير هارون ولدي وبس .
فارق حـ.ـضـ.ـن زوجة أبيه وأمه الثانية معاتبًا :
-وه !! دايما ملبساني في حيط يا أحلام !! أهي اتقمصت ..
ثم دار لأمه وقبل كفوفها ثم رأسها قبل أن يعانقها بحب ؛ وكأنه يقدm قُربان اعتذاره :
-وأنا ليّ بركة غيرك يا صفيـة يا عسل أنتِ ، والله حشـ.ـتـ.ـيني و  قوي ووحشني وكلك .
ثم همس لها ليسايس أموره وهو يُقبل يدها :
-جايب لك جوز غوايش أول ما شوفته قولت دول ناقصهم يد صفيـة ، اتعملوا عشانها .
قرصته بغلٍ:
-طب سيبني ألحق ازعل منك ، دايمًا واخدني في حديتك الحلو ديه وبتاكل عقلي بكلمتين !
غمز بطرف عينه :
-مبقاش هاشم ولدك لو معملتش إكده ..
على الجهة الآخرى ؛ يقف هارون الذي فرغ أعيرته النارية بالهواء مُرحبًا بعودة أخيه حتى فرغت خزنته تولى الخفر تلك المهمة عنه ، ثم انضم لـ الحج خليفة مُرحبين برؤوف ، تعانق الرفاق وقَبل رؤوف يد عمه المنكمشة من الهِرم وقال :
-يديم حسك في الدنيا يا عمي …
جاء هٍلال بسيارته من الخلف قاطعًا دهليز البوابة حتى وصل لجمعهم وفي نفس اللحظة جاء هيثم حاملًا معداته الموسيقية معلقًا الطبلة على كتفه وشرع باستقبال أخته بالقرع الصعيدي .. سب هيثم بسره لهاجر التي تتأهب للنزول :
-أخوكِ ديه هيعقل مـ.ـيـ.ـتى!!!
علقت حقيبتها وقالت بنفاذ صبر :
-إحنا عاوزين نبقوا مچانين يا اخي ، فكك مننا ..
رمقها بسخط :
-علمك السفه مثله .. الله يهديكِ .
جهر هيثم مُرحبًا بأخيه وهو يدق الطبلة :
-حِما وحِمـ.ـا.ت الوطن ، حظابط ، وتاني مرة حظابط هاشم بيه العزايزي اللي رافع راسنا بره وچوه وقايد النار في قلوب عدوينا.
جاءت هاجر راكضة لترتمي بحـ.ـضـ.ـن هاشم الذي لم تراه منذ شهرين ، فتلقى أخته الصغيرة وتربية يده بلهفة حبيب أو أب يستقبل ابـ.ـنته .. حملت يساره أخته وهو يقول :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  قوي يا مفعوصة ..
فانضمت لهم هيام لتملأ فراغ يمينه مناديـه باسمه :
-هاشم !! حمدلله على سلامتك ..
لحظات من الحب والألفة وعودة الغرباء لأوطانهم لحيث ما ينتمون ، تعانقت القلوب والأيدي وسكنت الأرواح المغتربة بين الأخوة الذين لم يعتادوا الفراق منذ الصِغر ..
تعلقت عيني رؤوف الواقف بجوار عمه ، بعيني تلك الجميلة التي تتوارى خلف الجدار ، تحـ.ـضـ.ـن صغيرها وتتحاشى النظر إليه تمامًا ، رفرف قلبها بنظرة خاطفة اختلستها منه فتعانقت الأعين بدلًا من الأجساد ، دفئت القلوب من صقيع غُربتها فسحبت نفسها وفرت لتحتمي من نظراته بجدران المطبخ التي تخفي لهب قلبها المحترق عنه ..
في ظل الاحتفالات والضحك والترحاب ، مالت هاجر نحو هيثم لتشكو من أخيها:
-أنتَ ما جيتش ليه !! هِلال طلع مرارة اللي جابوني وخلي رقبتي قد السمسمة قصاد رقية .
شهق هيثم باهتمام :
-اياك يكون زعل رقية بت عمي أبو الفضل ، دي حُب عمري القديم !!
رفعت حاجبها متعجبة وعائمة على عومه :
-أنت بقالك حب عمر جديد من غير ما تقول لي !!
انضم هاشم لعندهم في تلك اللحظة التي يتطلعون فيها لليلة التي تتجلجل من الإحراج والخجل في ظل أجوائهم العائليـة ، فدخل متسائلًا وهو يفحصها من رأسها للكاحل :
-هي دي !! مين الطلقة اللي هِناك دي يا هيثم ، محيراني من الصُبح ..
تنهد هيثم مغازلًا :
-عشان إكده قلبي من ساعة ما شافها موجوع.
هاشم مستنكرًا :
-لا يا راجـ.ـل !
مسح على صدره بتوهم :
-ماهي طلقة صُح ورشقت في قلب أخوك .
فتدخلت هاجر بنفس الفضول :
-أيوة مين يعني العيار الناري الطايش ديه ! أخلص وقول .
فأتبع هاشم بفضول قــاتّل:
-أيوة مين الحلوة !! جاوب .
توسل له هيثم هائمًا :
-والنبي ابقى قول لاخوك لانه ناكر انها حلوة..
ثم تاه ببياض بشرتها الساطع كضوء الشمس :
-دي بتنور في الشمس ..
وأكمل بتنهيدة طويلة :
-وچوة قلبي كمان.
لاحظت ليلة نظراتهم المسددة لعندها فتفاقم تـ.ـو.ترها وانصب الخــــوف بقلبها و بعينين بريئتي كأعين أرنب مذعور أخذت تتحاشى النظر لهم ، فتحمحم هاشم متحمسًا وهو يرتب في ملابسه :
-سيبك منه ده ، أروح اتعرف عليها بنفسي ..
هتف هيثم محذرًا :
-هاشم ، ولاه .. تعالى هارون لو شافك مش هيحلك ..
فتدخلت هاجر بنبرة مُحقق قانوني:
-احكي لي دلوق مين دي وأيه قصتها !! انجز يا هيثم .
ما رأت هاشم يقترب منها فولت وجهها هاربة من سطو النظرات المربكة التي لم تتحملها ، ما خطت قدmها خطوة فنادى عليها قائلًا :
-على فين !! الكُل جيه ورحب بيّ إلا أنتِ ، قلت أما أجي أنا وأرحب بيكي بنفسي.
لملمت شتات قوتها ودارت لها والتـ.ـو.تر يعبث بكيانها:
-لا أبدًا ، أنتوا عيلة في بعض ، مش لطيفـة ادخل ما بينكم يعني ..
رفع حاجبه مستنكرًا وتلك الابتسامة لا تُفارقه متجردًا من لهجته الصعيدية :
-ولا لطيفة تُقفي لوحدك كده !!
ثم مد يده ليُصافحها :
-هاشم العزايزي… رائد جيش ، وأنتِ !
مدت يديها المرتعشة من هول الغُربة التي أحستها وهي تُعرفه بنفسها :
-ليلة سامح ، إعلاميـة ..
رفع حاجبه معجبًا:
-يا جـ.ـا.مد !! ماهما لو يجيبولنا القمر ده على التلفزيون أنا مش هتحرك من قدامه .
انضم هيثم لحوارهم وهو يلكزه منفردًا بساحة الحوار معرضًا نفسه بثقة :
-ديه هاشم أخوي .
غمغمت بقلة خبرة:
-ااه هو عرفني بنفسـه ..
فتدخل هيثم واعظًا :
-زين ، ابعدي عنه عاد لاني متعلم الصياعة على يده !! فهتلاقينا فول وانقسمت نصين .
حدجه أخيه برزانة وهو يدافع عن نفسه أمامها:
-متصدقهوش ده بيبوظ سُمعتي ، أنا جاي أرحب بس بضيوفنا واتعرف عليهم .
تمتم له هيثم ناصحًا :
-خف نحنحنة هارون هيولع فينا ..
رد من خلف فكيه المنطبقين :
-اسمها مجاملة لطيفة يا بئف ..هعلم فيك لمـ.ـيـ.ـتى !
تأرجحت عيني ليلة متحيرة لم تترجم صوت همهمـ.ـا.تهم وقالت مستفهمة:
-هو في مشكلة !!
-متجمعين عند النبي !!
أتاهم صوت هارون متحمحمًا من الخلف وهو يغطى كتفيه بعباءته الصعيدية وبنبرتـه الحادة ثم قال :
-خير ؟!
حك هيثم رأسه مردفًا لهاشم :
-جالك المـ.ـو.ت يا تارك الصلاة !!
ثم جهر هاشم مدافعًا عن نفسه وعن أخيه :
-أحم طبعا خير !! مش خير يا هيثم !!
ساير أخيه مؤيدًا وهو يغازل ليلة بأنظاره المهذبة في حضرة أخيه :
-خير طبعا يا هاشم ..ده خير الخير.
فحرك هاشم حاجبه مؤكدًا :
-قال لك خير أهو يا هارون..
تأرجحت عيني هارون الكاشفة لجميع تصرفاتهم العبثية وقال بـ خُبث :
-خير أنتوا يا ولاد صفية ..
هنا جاءهم صوت هِلال من الخلف الذي انشغل لجمعهم وقال متسائلًا :
-لعله خيرًا يا أبناء الخليفة..
طافت عيني ليلة حول الأربعة رجـ.ـال حولها رغم تشابه ملامحهم إلا أنهم يحملون طباع مختلفة تمامًا عن بعضهم .. ابتسمت بخجل وأحمر وجهها حتى تعلقت بأعين هارون المتوعدة وهي تهز كتفيها بتحيـر ثم شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت لهم بحماقة قبل أن تفر من سطو نظراتهم كالغزالة الهاربة من صيادها :
-خير !!
نظر كُلا من هاشم وهيثم لهِلال إثر فرار ليلة من بينهم بعتب حتى جهر هيثم ساخطًا :
-هو إن حضرت الملائكة غابت الشياطين !!
فرُسمت ضحكة مزيفة على وجه هاشم لهِلال :
-منور يا مولانا .. واحشني .
عض هارون على شفته السفلية بامتعاض مُشرًا لهاشم وهيثم بتحذير وعينيه يغازلها شعاع الشمس :
-هتلموا روحكم ولا ألــمكم بمعرفتي !! ما تحضرنا يا شيخ هِلال !!
فجر هِلال واعظًا :
-وجود تلك الفتاة بالبيت فتنـة ولابد من رحيلها على الفور يا حضرة العُمدة .
حدجه هاشم مستنكرًا وهو يغادر :
-اسكت .
وبنفس الأسلوب وبخه هيثم وهو يلحق بهاشمه وقدوته :
-ياريتك ما اتكلمت .
فعاتبه هارون بمزاح :
-عقولك لك أحضرنا ، مش تصرفهم .. بالإذن يا مولانا ….
•••••••
~عصـرا .
فرغ الرجـ.ـال من تناول سفرة الغداء الممتلئة بأشهى الأطعمـة اللذيذة والتي ذات طابع صعيدي الذي يميّزه بالدسامة والروائح الفجـة .. تعمدت نجاة ألا تلتقي برؤوف المتلهف لرؤيتها قبل رحيله .. جلس السيدات بالغرفة الأخرى لتناول غدائهن ، اجتمعن الكُل في أجواء عائلية يملأها الضحك والألفة فلم يعد للغربة بينهم مكانًا .. شيئًا فشيئاً تفرقت جماعتهم كُل منهما ذهب لمفترقه ، صعد كل من هاشم وهاجر لغرفتهما كي ينالان قسطًا من الراحة ، غادر رؤوف بعد ما خاب أمله في الظفر بنظرة من عيني حبيبته .. ذهب هِلال لإقامة صلاة العصر بالمسجد ، وهيثم الذي غادر ليباشر بقية مهامـه الموكل بها من أخيه ..
تجلس ليلة بجوار أحلام يتسامران في أجواء دافئة حنونـة ، تفحصت أحلام معالم وجهها بعناية وهي تقرأهما :
-وشك مبدر كيف القمر وضحكتك حلوة بس روحك دبلانة يا بتي وشايلة حِمل جِبال .. سيبك من الشُغل واحكي لي همك اللول .
عقدت حاجبيها مذهولة من تعريها أمام تلك العجوز التي أصابت كلمـ.ـا.تها مُنتصف قلبـها :
-هو للدرجة دي باين عليـا !!
-الحـ.ـز.ن والحب كيف النار بالعين مهما حاولتي مش هت عـ.ـر.في تداري دُخانهم .
يبدو أن جلستها مع هذه السيدة التي تحاورها من كل قلبها أفيد من ألف جلسـة مع طبيبها النفسي ، حكت جدار رقبتها بتـ.ـو.تر فأحمر مكان أظافرها كإحمرار وجهها وقالت بحسرة :
-ساعات كتير بسأل نفسي ، ليـه بيحصل معايا كده !! ليه كُل العقد والكلاكيع دي في حياتي أنا ، ت عـ.ـر.في يا طنت .. أنا نسيت يعني أيه فرحة من وقت ما كان عندي ١١ سنـة .
قاطعتها تلك السيدة ذات خبرة طويلة بالحياة وقالت بحكمـة :
-هموم الخَلق مدارياها الحيطان ، محدش خالي .
ثم مسحت على رُكبتيها بلطف ؛ وأكملت :
-مش هتحكي لأحلام !! متقلقيش سرك في بير ليوم الدين يا بتي .. فضفضي يمكن لما تفضفضي ترتاحي .
تاهت في دروب ماضيها بين فراق جِدها ، وهجران أمهـا ومـ.ـو.ت أبيها ، واتهامها المتواصل بالفشـل .. بين تلك الليالي الطويلة التي عاشتها بخــــوف حتى اعتادت أن تكون خائفة .. بين شعور الوحدة الممـ.ـيـ.ـت الذي يسكنها .. كُل الدروب مظلمة ولكن من أين ستشرق الشمس لتُنير عتمتها !!
كان هذا سؤالها الآخير الذي ختم القدر جوابه عنـ.ـد.ما فاقدت من شرودها على جمهرة صوته متسائلًا :
-أنا طالع ، محتاجـة حاجة يا أحلام . ؟؟
-تِسلم يا حبيبي .. هحتاجك سالم غانم من كُل شر .
لم يتطرق بالنظر إليها تعامل مع وجودها كالمقعد الجالسة فوقه مما أشعل أحساسًا بالرغبة المُلحة بداخلها لفتح أي حوار معه ، ما أن ولى ظهره مُغادرًا استأذنت من أحلام على الفور وتبعت خُطاه ركضًا وهي تُنادي عليه :
-ممكن دقيقة !
توقف فلم تنتظر ليدور لعندها بل وثبت لتكون أمامها متطلعة بملامحه المُنكمشة ، فتأرجحت عينيها بحيرة لا تعلم من أين ستبدأ .. حتى تفوهت بدون نية بالسؤال:
-أحنا هنبتدي شُغل من أمتى !!
-حبكت دِلوق !
هزت كتفيها بتوجس:
-أنتَ كده معطلني على فكرة .. وشايفة المفروض تنجز يعني ، سامعة إنك هتخطب وأكيد مش هتكون فاضي لي .. هتكون مشغول مع خطيبتك الأيام الجاية .
عقد حاجبيه ممتعضًا وتأفف :
-العشية هفوت عليكي ونشوفوا موضوعك ..خلينا نخلصوا .
-وليه مش دلوقتي !! يعني نكسب وقت ليه نستنى بالليل ..
زفر بضيق:
-وراي شُغل .
تساءلت على سجيتها :
-والشغل ده فين !!
تلقت تلك النظرة الاعتراضية التي أدركت بها حماقتها وقالت موضحة:
-يعني زي ما حضرتك خايف على شغلك أنا من حقي أخاف على شغلي ..
ثم دنت منه خطوة وأكملت بنفس النبرة المهزوزة :
-قصدي يعني لو شغلك ده هيفيدني في حاجة ممكن أجي معاك ومنضيعش وقت .. ايه رايك ؟!
حافظ على ثباته وبدون تسلحه بأي معالم توحي بمشاعره الداخلية قال بهدوء:
-خشي أقعدي چار أحلام .
فتحت ثغرها متأوهة وكمن عثر على جوابه للتو ، فأكملت باندفاعية وبحديث لا تُدرك خارطته ، بل كانت رغبة مُلحة في الحديث معه لا أكثر .
-اااه ، أنا فهمت .. شكلك كده مش عارف تساعدني أزاي وهتطلع بؤ في الأخر ومش هلقى عندك معلومة ولا غيره .. ما تخليك صريح معايا وبدل المرجحة دي فهمني وأنا هتحترمك والله .. لكن مش كده !!! اعترف اعترف يلا .
-ده حتى عيقولوا ؛ زينة المرء منطقه !!
جحظت عيناه من هول وقاحتها معـه ، فكيف تجرؤ وتتحدث مع كبير قبيلة مثله وبمكانتـه بهذا الأسلوب ، أيعـ.ـا.قبها مثلما يُعـ.ـا.قب كل من يتجاوز الحد معه أم يتفهم عفويتها و تلقائيتها الزائدة ويمنحها صك الغفران لكونها إمرأة تجهله ، تأفف بغـــضــــب وهو يوبخها فأكمل :
-وانتي معندكيش فِلتّر !! يعني الكلام ما عيعديش من إهنه_مُشيرًا بسبابته نحو رأسها_يعني أقلها ياخدله وش نضافة قبل ما تُطلقيه علينا يا بت الناس !!
تأهب أن يرحل كي لا ينفعل عليها أكثر ولكنها أدركت خطأها الفادح ولحقت بتلك الخطوة التي قطعها مُتشبثـه برسغها :
-استنى ، بليز استنى .. أكيد مش قصدي ممكن متزعلش وتتعصب عليـا ، مش قصدي خلاص والله .. أنا أسفة .. هقفل بؤي خالص .
أسلوبها الطفولي جعل ساعة قلبه تقف عند تلك البراءة التي لم يراها على إمراة من قبل ، توقف على شفا جفونها المتفتحة كزهور الربيع تتوسلـه ، دق ناقوس الشعر برأسه وهو يهمس لقلبه :
‏”عيناكِ كنجمتان تسبحان في خواء أفلاكٍ
بين جفون شواطِئها
حيث يغرق فيهما المرء قرونًا
ولا يود أن يُفارقها .”
عاد له رُشـ.ـد بعد ما تأمل عينيها المتلون بزُرقة السماء فوقه رافعًا حاجبه متعمدًا أن يثير غـــضــــبها قائلًا :
-ربنا يشفيكي ..
-يعني أيه ربنا يشفيني !! أنا مش عيانة على فكرة .!
على الجهـة الأخرى جاءت زينة وبيدها كأس من العصير الذي اعدته لهارون بنفسها ، فسقطت عينيها على تلك الفتاة التي تقف بقربه يتعمقان النظر ببعضهما أن رآهم شاعرًا لكتب دواوينه من نسل تلك النظرات المبهمة والمتأرجحة بينهما ، فصاحت زينة والغيرة تأكل بقلبها:
-تعالى الحقيني يا عمة ! دي مكـ.ـلـ.ـبشة في يده كيف الجرادة …
••••••••
~قسم الشرطة.
-كل حتة يعدوا منها ولاد العزايزي يتحط فيها كمين يا محسن ، والله لاحبسكم واحد واحد .
كان يجوب خطاوي مكتبه بعشوائية وهو يتوهج نارًا من تصرف هارون الآخير معه ، فألقى قذيفة أوامره على مسامع معاونه حتى أردف بخزي :
-شريف بيه !! لو متعرفش هاشم العزايزي رجع النهاردة .. ولو كان هارون دmاغه داهية ، فهاشم ده دmاغه سم ، موجب مع رجـ.ـا.لة الداخلية قبل الجيش ، وحبايبه كتير ، منظنش إننا هناخد منهم حق ولا باطل .
نهره شريف برفض قاطع :
-يعني ايه يا محسن !! أنتَ عايزني اسيب حقي !! اخلى واحد زي هارون العزايزي يعلم عليا !! دانا افرغ مسدسي في راسـه وافضها شُغلانة .
وثب محسن كي يرشـ.ـده :
-اهدى يا شريف .. أهدى وكبر دmاغك منهم وبلاش تضيع مستقبلك عشان ، صدقني العزايزة دول لا قانون ولا حد يقدر يفرض نفسه عليهم .. نابهم سم .
هتف شريف متوعدًا وينتوي الشر :
-وانا وراهم والزمن طويـل يا محسن ……
••••••••
~اسكندريـة ..
قيـل :
أن الحياة عنـ.ـد.ما تكشف أقنعة الناس تكشفها بقسوة ، لدرجة أنك تحتاج وقتاً طويلاً لتستوعب بشاعة الوجه الحقيقي الذي تقاسمت معه ذكرياتك بشتى أنواعها …
فالحياة مفاجئات ، قد تأتيك من البعيد ، وقد تأتي من أقرب الناس إليك ..
. فهناك خذلان لا يغفر ، وفي النهاية :
“ليس هناك أناس يتغيرون ، بل هناك أقنعة تسقط من فوق وجوههم المزيفـة .
فارقت ناديـة فراش الزوجية الذي يجمعها بـ رُشـ.ـدي أبو العلا ، ابن عمها وأبو شريف وزوجها السري منذ عامين .. نهضت وهي تجُر ذيل روبها الحريري الذي ارتدته بملل وعقدت حزامه حول خصرها ونظرت لذلك الرجل الذي اتخذها زوجة ثانية له وقالت :
-تقدر تبات هنا ده لو عرفت تهرب من أميرة ، “ليلة” مش جاية اليومين دول .
اعتدل الآخير من نومته وهو يلجأ لسيجارته ويشعلها قائلًا :
-وبعدين ، إحنا مش هنخلص من موضوع البـ.ـنت دي ، وبعدين أيه العوج اللي هي فيه مع شريف .
قهقهت نادية بإغواء وهي تتمايل صوبه وتقول :
-متقلقش ، سيبها على راحتها تعمل اللي عايزاه وفي الأخر كلامي اللي هيمشي..
ثم تبدلت نبرتها وأكملت بصوت متخابث:
-رشـ.ـدي ، قول لابنك يعقل .. مش عايزين نخسر كُل حاجة .. كفاية الضـ.ـر.بة اللي ادهانا سامح ..
ضـ.ـر.ب رشـ.ـدي على بطنه العارية بإعجاب :
-فلوس ومشاريع بالملايين كُلها في حساب واسم ليلة ، اللي هي مش بـ.ـنته .. أنتِ ازاي مخدتيش بالك من كل ده !! ازاي يا نادية .
اتكأت على ظهر وسادتها وقالت بغلٍ:
-كان مفهمني إنه معندهوش غير مرتبه آخر كُل شهر ، طلع عامل بيزنس ومشتري أسهم في أكبر الشركات لا وكلهم باسم ليلة ، اللي هي مش بـ.ـنته ..
ثم نظرت له والحقد يتطاير من أعينها:
-أنتَ متخيل ، البـ.ـنت الغـ.ـبـ.ـية دي بيدخل في حسابها كل شهر ملايين .. والمصـ يـ بـةولا حاسة بقيمتهم ، ده لو قابلها حد محتاج قرشين ممكن تديله كل الفلوس اللي معاها وهي مبسوطة ..
انتبه رُشـ.ـدي لها بمكر :
-سيبي شريف عليا ، وأنتِ اسحبي منها على أد ما تقدري واتحججي بالمركز والمستشفى ، البـ.ـنت دي لو معرفناش نسيطر عليها ؛ هنخسر كُلنا ..
ثم قبـل كفها وأكمل بتخابث:
-حبيبتي كل الفلوس دي من حقك أنتِ ، حق انه وهمك إنك مش بتخلفي ودبسك في بـ.ـنت مش بـ.ـنته عشان يداري على عيوبه هو .. أنتِ صح والفلوس دي حقك وبس ..
عشش الحديث برأسها وأخذت تُقلبه على مراجـ.ـل من النار حتى تفوهت بعجز :
-أنا بس لو أعرف رفعت الجوهري جابلنا البـ.ـنت دي منين ومين أهلها !! الاتنين مـ.ـا.توا قبل ما يقولوا السر يا رشـ.ـدي …..
يبدو أن الحُب جمد قلب نزار ومنحه القوة الكافية لكي يطـ.ـلق وصفه الشعري على حبيبته عنـ.ـد.ما أقر معترفًا :
“-إن كان كُل إمراة أحببتها صارت هي القانون.”
سبغ عليها وصف القانون كناية عن إنه لا يتبع غيرها بعمره هي جهته ووجهته وخارطة دربه .. أمـا عن هارون ؛ هل سيتبع نهج نزار ويسلك دوربها مُتبعًا قانون قلبه الذي دق بالحب لأول مرة ، وسيضـ.ـر.ب الأعراف بسيف هذا القانون لأجلها !! أم سيضـ.ـر.ب ذلك السيف قلبه ويبتر آخر أمانيـه ورجاءه ليحيـا بهذا العشق المحكوم عليه بالمـ.ـو.ت قبل أن يولد !!
#نهال_مصطفى 🍒
••••••••••••••••
هُناك ضـ.ـر.بـة واحدة تأتيك بربيع عمـرك تجعلك بروح شيخًا بائسًا منتظر المـ.ـو.ت وأنت بالصِغر ، تُضيف عشرات السنوات لعمرك العشريني؛ تتورم عينيك كما تورم قلبك وفاض ألــمًا ، ينعقد حـ.ـز.نها بتجاعيد عينيها المنكمشة ، و بضبابـة سوداء تحتهما .. يحفر الدmع وديانًا على معالم وجهها المتشققة .. تجلس ” نغـم ” بساقيها المضمومة لصدرها تاركة جسدها فريسها للحـ.ـز.ن .. اليـوم اغتالت كُل أحلامها التي تجمعها مع الرجل الذي لم تكتب إلا اسمه بدفترها وحروف اسمه المتفرقة التي كانت تحفرها على الورق ..
يدها التي اعتادت أن تنقش حروفه على كُل مكان .. حيث كانت الهاء هدوء روحها عند رؤيته .. والألف الأمان الذي لم تشعر به إلا معه .. والراء رائحة عطره التي تجذبها من ياقة قلبها ولو عن بُعد أميال .. والواو ذلك الوعد الذي أخذته على عينيه أن لا يكون إلا لغيرها .. والنون تلك التي يبدأ بـ اسمها وينتهي باسمه ليكون بدايتها ونهايتها .. كُل الادلة كانت توحي بإنك لي بأننا خُلقنا لبعضٍ ؛ ماذا حدث ؟! من لعب بعداد الأقدار لتختار واحدة غيري وغير قلبي الذي أحبك !! بربك أخبرني كيف سأتحمل رؤيتك مع إمراة لم تكن أنا ..
تذكرت تلك السنوات الماضية التي كان يُرافقها فيها للجامعة ، كانت فتاة بأول سنتها الدراسية وكان هو ينهى دراسته العُليا بالجامعة ومُعيدًا بها ، ظلت تتذكر تفاصيل عامين لم يفترقا فيها أبدًا ، كان يُعاملها كأخت له ولكن قلبها المُغرم كان له رؤية ثانيـة ..
كفكفت عِبراتها بأناملها المرتعشة وأخرجت صورته الصغيرة من دفترها السري ، تلك الصورة التي اختلستها قبل ستة أعوام من ملف تقديمه بالجامعـة .. تأملت ملامحه الشبابيـة بعمر العشرين وهي تُعاتب القدر الذي فرقهما :
-يعني خلاص !! كُل أحلامي معك كانت أحلام وبس !! طب قول لي أعمل ايه في قلبي اللي حَبك يا وِلد خالتي !! دا أنا حتى تربية يدك وعارفة اللي يضايقك قبل اللي يسعدك !! هعيش وأشوفك في الكوشة مع واحدة تانية ! طب ليه حبيتك من اللول وأنتَ مش من نصيبي !!!! أهون عليّ المـ.ـو.ت ولا أشوف اليوم ديه يا هارون ..
•••••••••••
حل الليـل وعّم الهدوء على أرجاء البلدة رغـم صخب قلوبهـا .. تجلس رُقيـة مع أمها أمام التلفاز في ساعة صفـا يتناولون بعض المقرمشات التي أحضرتها معها من أسيوط فلاحظت الأم شرود ابـ.ـنتها وصمتها الطويـل وعلى ملامحها انكماشة غـــضــــب .. فتدخلت صفاء متسائلة بفضول :
-ايه اللي شاغل بالك يا بت بطني .. ؟!
توقفت حبة الفول السوداني على ثغرها المزموم وطالعت أمها متحيرة :
-ولا حاچة ياما ، بس بفكِر في وِلد خليفة العزايزي ، أنتِ عارفة هيثم مش إكده !
أشادت صفاء بشهامة هيثم :
-طبعًا ؛ وهو فيه فـ مرجلة وجدعنة هيثم ، مش بيعدي أسبوع غير لما يفوت عليّ ويشوفني عاوزة حاچة ولا لا ..
ثم أكملت مدح بأولاد الخليفة :
-شهادة لله أحلام وصفية مربيين أربع رچالة كيف الورد .. يا ريت كل العزايزة زيهم .
اعتدلت رقية في جلستها لتبدأ بفتح الحوار مع أمهـا :
-ت عـ.ـر.في هِلال !! أنا أول مرة شوفته الصبح .
ضاقت عيني صفاء باستنكار :
-معرفش غير هيثم و هارون ، هما اللي على طول في البلد وأخوهم الظابط ديه مش عيجي من أصلو ؛و هِلال ديه أمام الجامع بستنى خُطبته من الچِمعـة للچِمعة …
أرجعت خصلة ناعمة من شعرها وراء أذنها وهي تقول بإنزعاج منه :
-شخص غريب قوي يا ماا ، تصوري مكنش راضي يركبني عَربيته عشان مبخرها !!والله في حاچة في عقله .
ثم ختمت جُملتهـا بضحكة ساخرة وأكملت :
-وطول الطريق هو وهاجر ناقر ونقير .. كله حـ.ـر.ام وغلط وممنوع ؛ هو مين فهمه أن الدين بالعسر ديه !! حقيقي الله يعينه على راسه الجابسة دي …
لم توافقها صفاء الرأي :
-بس الحق هو مُحترم ، ومحدش قال في حقـه كلمة ، هيثم أخوه مجلع هبابة ؛ لكن الباقيين محدش بيقول عليهم كلمة مش زينـة يابتي ..
ثم غمغمت بحسـرة :
-لولا الملامة كان نفسي ربنا يرزقك بواحد منيهم ، بس أنتِ خابرة أكمنك وحيـدة اتكتب عليكِ قدر تاني .
حكمت رُقية رأيها:
-وانا مش هتجوز بكر ياما ؛ شالله أفضل چارك بايرة ولا يجمعني ببكر ديه فرشة واحدة …
هنـا صدح صوت قدرها المعاكس للهوى ، نادراً ما يأتي مُصاحب للقلب ، صوت طرق عنيف على الباب قطع حديث الأم وابـ.ـنتهـا ، شـ.ـدت رُقية الوشاح المُعلق برقبتها وغطت رأسها بفزع :
-مين چايلنـا السـاعة دي ياما !! خير يا رب .. خليكِ ياما هفتح أنا .
ارتدت نعالها البلاستيكي بسرعة وهرولت نحو الباب لعدm صبر الطارق:
-چايـة ؛ قولت چاية هو مفيش صبر !!
فتحت الباب الخشبي وتوارت من الخلف فظهر عزرائيل قلبها الذي لا يأتي بموعد وهو يغازلها قائلًا :
-شوفتي الدار نور كيف برجعتك ، ما كفياكي علام وأقعدي چار أمك .
تأففت بامتعاض :
-عايز أيه الساعة دي يا بكر !! أنت چاي لاتنين ولايه بعد العشية تعمل أيه ..؟!
تمسك بشاله الصوف المُلقى على كتفيـه وقـال هائمًا:
-چاي أخبر مراة عمي وأقولهـا أنا وأمي چايين بكرة العشية نُطلبـوا القُرب …
-أنتَ غاوي تهزيق !! يعني متكيفتش الصبح راچع تكمـل قلة قيمة اخر اليوم ..
ثم احتدت نظراتها التحذيرية:
-ومن غير يمين يا بكر ؛ لو چبت أمك وچيت لهطردكم قصاد الخلق ولا هيهمني حد .. سامع ؛ وأنتَ خابر رقية بت أبو الفضل لما تهدد عتنفذ ..
ختمت جُملتها وهي تقفل الباب بوجهه مستغفرة ربها ثم صاحت :
-تلقيح الجتت ده مش هنخلصو منيـه !!!
ركل بكر البـاب بقدmه معنفًا :
-أنت ليّ بالشرع والقانون ومحدش هيقدر يأخدك مني .. سامعة يا رقية بالذوق بالعافـ.ـية مش هتچوز غيرك ويا أنا يا أنتي .. وبكرة چايين ووريني هترفضيني كييف …
صرخت له وهي ترتمي بحـ.ـز.ن بحـ.ـضـ.ـن أمها :
-مـ.ـو.تي أهون يا بكر …
••••••••••••
~ببيت خليـفة العزايـزي .
اجتمعن نسوة البيت كلهن بغُرفة الجهاز الخاصـة بهيـام .. شرعت صفية بفرز ملابسها لترى ما ينقصهـا مع نجـاة التي كانت تساعدها بالأمر ، فرغت من عـد العباءات قائلة :
-٥٥ عباءية يا عمتي !!
تنهدت صفية بضيقٍ :
-قليـلين يا نجاة يا بتي لو كانت تطاوعني بس وتندلى نشتروا ، أقلها ٦٠ عباية حمـ.ـا.تها هتاكل وشنا .. والبشاكير طلعوا كام ؟!
-٧٠ بشكير بالتمام والكمال .. والمفارش ٥٠ ، شوفي الناقص نندلى نجيبوه الصبح ..
زفرت صفية بحنق :
-دي بت صديق داخلة بـ١٠٠ بشكير ، وأنا بتي مش أقل من حد .. اكتبي يا نجاة يابتي عندك ..
تدخلت ليلـة التي تستمع لحوارهم بذهول :
-هي الأعداد دي بجد !! هي هتتجوز ولا هتفتح محل .
أيدتها هيام :
-قوليلهم ؛ أهو حتى ضيفتنا مش عاجبها الكلام ، ياما زانين كبري مُخك عاد ..
فتدخلت هاجر بحديثهم ساخرة :
-وتبقى أقل من بت صديق !! لا مرضهاش لاختي .. اكتبي يا نجاة ناقص ٣٠ بشكير الصبح يتجابوا ..
وبختها هيام :
-حتى أنتِ هتعومي على عومهم .. ما تقولي حاچة يا ليـلة ..
تأرجحت عيني ليلة بدهشة :
-بصراحة مش عارفـة ، أنا ومامي كُنا بنشتري الحاجات ونوديها الشقـة على طول ، يعني على أد مساحة الدولاب والناقص بس .. لكن مش بالأعداد دي ..
ثم أكملت :
-مامي بتقول أن مش لازم نشتري كتير لان الموضة بتتغيـر ولازم نجدد كُل فترة .
فتدخلت هاچر بفضولها :
-هو أنتِ مخطوبة !!
انكمش وجهها بامتعاض عنـ.ـد.ما تذكرت تلك النقطة السوداء بحياتها :
-كُنت ..
ثم اتسعت ابتسامتها بتهيدة الحُرية :
-بس خلاص فركشت الحمد لله ..
شهقت هاجر بفضـول :
-لالا دا أنتِ تحكي لي ، سبتوا بعض ليه !
غمغمت بانشكاح :
-البركة فـ أخوكي .. هو السبب .
تدخلت زينـة في حوارهم لتأخذ الصورة من اهتمامهم المبالغ فيه لليلة وأنها فجأة الكُل يُعاملها كصاحبة مكان ، تمسكت بقطعة من ملابس النوم الخاصة بالعروس وهي تفرزها بغنج :
-سيبك من العِيبي والمفارش يا عمـة ؛ وركزي على الهشتكة والدلع هو ديه اللي بيمشي الجوازة مش البشاكير ..
ثم فتحت قطعة حريرية أخرى باللون الأصفر وأكملت :
-أهي حتة من دي هتدوخة وتوقع الراچل من طوله ..
ثم نظرت بغل لليلة التي تعاملها بقسوة والغيرة تلتهب بصدرها منها وأتبعت بدلال :
-ده أنا چايبة شوية حاچات لهارون على عجب العين والقلب ، لما يشوفهم عليّ هيتخوت ..
قطعتها صفية مدافعة عن ابنها :
-خوتة لما تخوتك بعد الشر على ولدي ، شالله أنتِ يا بت صالح ..
عّم ضحك النسوة بالمكـان حتى وبختها أحلام :
-يابت خليكي تقيلـة هبابة ، الرچل ما عيحبش البت الواقعة ..
-عحبه يا عمتي ، عحبه وريداه ومش عاوزه غير من الدنِيا ..
وثبت زينة من مكانها باندفاع وهي تضع تلك القطعة على جسدها وتتدلل أمامهم على أطراف أقدامها ؛ وفي تلك اللحظة جاء هارون الواقف أمام البـاب الموارب ليستمع لها وهي تقول بمياعة :
-يعني بذمتك يا عمة لما ألبس لهارون حتة من دول وارقص له إكده هيضل فيه عقل !! إكده يبقى خدت العقل والقلب لحسابي ..
ثم تنهدت بتمنى :
-مـ.ـيـ.ـتى بس يا هارون نتجمعوا تحت سقف واحد .. وأنا هوريك العجب والدلع .
أردفت ليلة على سجيتها ولا تعى أن سبب تلك الجملة شرارة الغيرة بقلبها وقالت ببراءة :
-مش المفروض الحاجات دي سيكريت وعيب نتكلم فيها قدام حد كده !! دي أسرار بينك وبين شريك حياتك وبس .
أحمر وجه ليلة خجلًا من جُرأة زينة الزائدة فلاحظت هاجر كسوفها فبدالتها الابتسامة الهادئة التي تعتذر لها عما بدّ من زينة وأنها لم تتغير أبدًا، وضعت زينة كفيها بخصرها :
-نعم يادلاعدي ، ليه هو مش هيبقى چوزي وحلالي !! ولا هو اللي عقوله ما ينفعش وأمشي اتشعـ.ـبـ.ـط في يده قصاد العالم هو اللي ينفع !
نهرتها صفية معنفة كي تصمت وتتراجع عن أوهامها السخيفة التي أقنعتها بصعوبة أن تتناسها ؛ فانفجرت زينة مغلولة :
-سيبيني أفضفض يا عمة دانا مقهورة وعلى آخري من كُهن البنات ديه …
بنظرات مغلفة بالحماقة تراقبهم ليلة كشخص أطرش في زفة عرس لا يدرك صخب ما حوله ؛هنا اقتحمهم صوت حمحمة هارون الذي توقد غـــضــــبًا من تعبيرات زينة التي لم ترق له ، طرق على البـاب هاتفًا :
-يا ساتر ..
ندات أحلام عليه :
-تعالى يا حبيبي ؛ مفيش حد ..
فتح هارون الباب الموارب وطل منه وهو يرمق زينة بنظرة حادة مردفًا بعدها وهو يستشط غـــضــــبًا :
-خفي حديت ماسخ وبطلي قِلة حيـا …
لم يمهلها الفـرصة للدفاع عن نفسها ثم أشار لليلة الجالسة بجوار أختـه بإيجاز :
-تعالى عاوزك ……
انتابت زينة عاصفـة شـ.ـديدة من الانفعال والغـــضــــب وقفت بمنتصف الغُرفة بأعين متسعة تتنقل يمينًا ويسـارًا تحول ضيقها من ليلة لغـــضــــب يأكل كل شيء ولا ينطفئ أبدًا .. بطرف عينيـه ألقى نظرة أخيرة وهو يفحصها من رأسها للكاحل وكأنه يواجه قلبـه بتلك الحقيقة المُرة التي يسلكها بكامل إرادته ، يواجه قلبـه بإنه يومًا ما سيكون معهـا تحت سقفٍ واحد كما سردت لهم ، ولكن ما أشعل غـــضــــبـه وأخجله أكثر كيف تتكلم عن حياتهم المُستقبلية الخاصة على الملأ ليكون حديث النسوة والألسـن .. ولى ظهره وغادر بدون كلمة إضافيـة فلحقـت به ليلة بدهشة تملأها .. حملت هاتفها وتابعت خُطاه كالقطـة الهاربة من وادي الذئاب .. ولت زينة لعمتها بكل غـــضــــبها :
-شايفة الهم اللي أنا فيه ياعمتي !! يعني يوم ما يقول يا جواز تيچي دي وتفقع مرارتي.
حدجتها أحلام بنبرة لا تقبل كلمـة زائدة :
-ما تقعدي وتتهتي إكده !! ضيفته وبيناتهم شُغل راسك مسوحاكي ليـه !! يا تساعدينا بِسكات يا تتكلي على بيتكم مش ناقصين خوتة ..
تمتمت بضيق وهي تشـ.ـد وشاح رأسها :
-تُشكري يا أحلام ، أنا ماشية بدل حرقة الدm دي ..
هـنا مالت صفية على آذان فردوس الجالسة بجوارها :
-فردوس عينك متندلاش من عليهم ، يلا قُومي شوفيهم هيروحوا فين …
وفي نفس اللحظة التي تتأهب فيها فردوس للمغادرة لمراقبة ليلة وهارون ، جاءها نداء هاجر التي رن هاتفها :
-خُديني معاكي يا فـردوس …
~بالحديقـة الخليفـة .
-هفضل أجري وراك كده زي الطفلة !!
أردفت بحنق إثر خطواته السريعة وكلمـ.ـا.ته الشحيحة معها وهي لا تفهم لِم جاء بها لهنا ، رد باختصار وهو يواصل سيره :
-قربنـا نوصلـوا ..
تابعت نفس خطواته ركضًا على مضضٍ وهي تتمتم سرًا وتذم في جفاءه ولم تكُف عن اتهامه بقلة ذوقه ؛ وصل الثنائي لغُرفة خشبيـة أشبه بالكوخ يحاوطه سورًا خشبيًا ويبعد قليـلًا عن منزلهم .. فتح الباب الصغير ثم قطع درجتين من السُلم الخشبي ليقف أمام البـاب الرئيسي للبيت الصغير .. أخرج مفتاح من جيبـه وهي تقف خلفه تتفقد المكان بعيونها المُتحيـرة ؛ فتح الباب ثم امتدت يده لاشعال الأنواع ، دلف للداخل متمهلًا وهي يزيح الباب فصدر منه صوت صريره ، اتبعت خُطاه متسائلة :
-أحنا هنـا هنعمل أيه .. ؟!
ما دلفت أكثر وفعت جفـونها لتتفقد المكـان ففوجئت بمكتبـة ضخمة تشغل جانبين من الغرفة ومنضدة متوسطة الحجم بمنتصفها ، وفراش صغير في أحد الزوايـا وبجواره كمود وبأبأجورة صغيرة ذات طراز قديم .. وعلى يسارها وبطول الحائط طاولة مستطيلة تسد فارغ المكان عليـها معدات القهـوة والشاي .. تفوهت بإعجاب :
-المكان في راحة نفسيـة متتوصفش ، الله بجـد !
أشعل كافـة الأنوار وونظر لها ليشرح لها تفاصيل المكتبة :
-دي المكتبة بتاعتي فيها أغلب الكُتب اللي هتحتاجيها القسم ديه خاص بالقانون ، واللي جنبه بالدين .. أما ده كله عن التاريخ من يوم نشأة الأرض لحد اليوم ..وفي قسم للجغرافيا .
تقاسم الانبهار معالم وجهها وهي تمرر اناملها على مُجلدات الكُتب وسألته بتلقائية مشيرة للطاولة التي تتوسط الغرفة :
-وده مكتبك ، كُنت بتذاكر هنـا ..
انكمش حاجبيـه باندهاش ؛ فأجاب مسايسًا :
-أيوة كُنت عذاكر إهنـه من ثانوي ..
دارت نصف دورة بالمكان ثم أردفت بسؤالها الأكثر حماقة عن الذي يسبقه :
-جينا هنـا ليه بقا … ؟!
غمغم بتكبد وهو يستعين بالصبر كي يمنحه صبرًا عن صبره ليتحملها وقال :
-يا صبـر الصـبر ..
-أي قولت حاجة مش لازم أقولها !!
تأفف بضيقٍ :
-أقعدي إهنه واقري وشوفي الموضوع اللي يعجبك وذاكريه واتكلمي عنه .. خلينا نخلصوا من الحدوتة دي .
عاتبـه باستهزاء :
-وأنا سايبة مكتبة الاسكندرية وكل الدنيا دي عشان أجي عندك هنا أقرا !! مين قال لك إني بحب القراءة أصلاً ..
رفع حاجبه كحركته الاعتراضيـة المعتـادة متلقيًا سُخريتها بسعة صدر :
-والله هو ده اللي عندي ، واللي أقدر اساعدك بيه !
-والحل ؟!
رد بسخافة :
-اتعبي روحك هبابة وأقري .. واتعلمي لك كلمتين ينفعوكي بدل ما أنت على الله إكده ..
-طيب ساعدني .
-لا …
غرست سبابتها بعضلة ذراعه مندهشـة بوقاحته وتلميحاته السخيفة :
-أنا ليلة الجوهري ؛ أنتَ ازاي تكلمني كده ؟!! انا مش بشحت منك .
-كانت ليـلة منيـ.ـلـ.ـة على راس اللي چابوني يوم ما شوفتك ..
صرخت بوجهه مفرغة آخر ذرة من صبرها :
-افهمني أنا لا عايزة اقرا كتب ولا حاجة ؛ كُل اللي عايزاه مكان مميـز محدش يعرفه هنا نصوره واحكي قصته للناس وبس شكرًا زي فكرة الدحيح أو الخيميائي وبدل ما هو برنامج على اليوتيوب يكون على التليفزيون والكُل يستفاد ، أنا مش جاية اذاكر وامتحن عند سيادتك..
ثم دنت منه خطوة إضافة وهي تُشير له بسبابتها التي يُزينها خاتم رقيق وأكملت :
-ولآخر مرة أنا هسمح لك تكلمني بالطريقة السخيفة دي .. أنا مش خطيبتك اللي اسمها ايه دي ومش هقبل أي إهانة منك .
ثم أشاحت بيعينها بعيدًا عنه وغمغمت :
-أنا مش عارفة هي فرحانة بيك على أيه أصلًا .. دي واخدة أكبر مقلب في حياتها !!
-عـتفهـم ..وعندِها نظر.
قال جُملتـه بعد ما هضم غـــضــــبه منها بتلك الابتسامة التي لا تتناسب مع الموقف ولكن هناك شيء ما رضى به غــــروره عنـ.ـد.ما أشعل نيران الغـــضــــب برأسها ؛ لوحت بيدها وهي تستعد لفرز الكُتب وتمتمت :
-أنا من ساعة ما جيت هنـا ماقابلتش حد بيفهم غير طنت أحلام ، والباقي كله كله غريب ..
ثم دارت لعنده كإنها تذكرت شيء ما وشرعت أن تشكو منه :
-دي حتى مامتك ، كل شوية تبص لي بصات غريبة وتتضحك لي ، ومرة تمسك شعري ومرة تقولي عينيكي حلوين ، وبعدين هي مضايقة ليه استر دراعاتي ولا لا !! أنا حُرة .. وأخوك ده أبو دقن كل ما يشوفني يبص الناحية التانية ويستغفر ربنا !! هو جاي يتوب عندي !!
ثم نزعت شالها الصوف بغل ووضعت على ظهر المقعد وأكملت :
-الغلط عندكم وجايين تدبسوني فيه .. هي ناقصـة جنان !! عيلة غريبة وكلها غلط في غلط ..
تمتم لنفسه سراً وهو يحك ذقنه :
-أنتِ وقعتي مع صفية !!
تجاهل كُل ثرثرتها و رد بنفس النبرة البـ.ـاردة التي يملكها والتي لا تتزايد إلا بوجودها :
-أقري على مهلـك وأنا هروح أقعد مع الرچالة برة .. ولو عوزتي حاچة رني .
ثم تحمحم ململمًا شتات أمره الذي تبعثر على يدها وبثرثرتها بوجهه التي لم يضع لها حدًا بل كانت ترضي غــــرور ما بداخلـه ، ما كاد أن يخطو خطوة ثم أوقفته منادية :
-استنى هنا ..
تقدmت خطوة لعنده بفتور :
-هـ رن ازاي وأنا مش معايا رقمك !!
سحب الهاتف من يدهـا وكتب رقـمه لم تمهلة الفرصة ليكتب الاسم فشـ.ـدته منه وضغطت على زر اتصال ، رن هاتفه بجيبه ثم قالت بنبرة حاسمة :
-سجله ..
رد بلا مبالاة :
-ربنا يسهل ..
-ياربي !! وانا بشحت منك .. اتفضل سجله ووريني هتسجله أيه ، معلش أصل الحاجات دي تهمني .
على مضض لبى طلبهـا وأخرج هاتفـه وشرع بتسجيله ، فوجئ بها تغرس أعينها بشاشة الهاتف لترى ما الاسم الذي سيسجلها به ، غمغم متحيرًا حول تسمـ.ـيـ.ـته على هاتفها مكتفيًا باسم ” الاستاذة ” .. خيم الاعتراض على ملامحها رافضة الاسم وهي تعبث بهاتفها لتسجل اسمه :
-الإعلامية ليلة الجوهري … سجله كده ، إيه استاذة دي إحنا مش في فصـل !.
طاوعها بنفس الابتسامة التي لم تفارقه منذ إن ظلل عليهم سقف واحد متناسيًا امر السقف البغيض الذي سيجمعه بزينـه ، امتدت أنظاره لشاشتها فوجدها أيضًا متحيرة في التسمية ، دنى منها خطوة وملامحه المشـ.ـدوهة أدرف مثلها :
-العُمدة هارون العزايزي .. سجليـه .
بعدت شاشة هاتفها عنه كي لا يراه وقالت بعتب :
-متبصش في تليفوني ، وبعدين ايه الاسم ده كُله انا هطلع لك بطاقة .. هو كفاية ” العمدة ”
-هو حلال ليكِ وحـ.ـر.ام عليّ!!
أيدها موافقًا ومعاملًا بالمثل مغيرًا الاسم ومكتفيًا بلقبها:
-الاستاذة ..
خطت اناملها بعناد :
-العُمدة ….
غادر المكان وهو يضـ.ـر.ب كف على الأخر حتى لمحت عيناه فردوس التي تتجسس عليهما حيث صاح غـــضــــبانًا وموبخًا :
-مش كبرنا على دق العصافير ديه يا فردوس !!
احتجت بوجه آذانها الحديدية التي تسمع خطوة النملة وقالت :
-عتقول أيه يا هارون بيه ، مش سامعاك السمع بعافـ.ـية ..
زفر ممتعضًا :
-روحي نامي يا فردوس وقولي لصفية نامي واتغطي زين …
••••••••••
تجوب ” هاجر ” ذهابًا وإيابا تحت الشجرة وهي تتحدث مع رُقية المنهارة من البكاء ، حاولت ان تهون على رفيقتها :
-طب هدي روحك وانا هقول لهارون يوقفه عند حده ، هو فاكرها سايبة ملهاش حاكم ولا رابط ..
جففت رقية عِبراتها مستأذنه إثر نداء أمها :
-هشوف أمي يا هاچر وأرجع أكلمك ..
-هاجر ..
دارت هاجر ملبية نداء أخيها هلال الذي يترقبها من بعيد بأعين متـ.ـو.ترة .. حائرة بين ضميره وبين ربه .. نظرت لها والضيق يتلبس بملامحها :
-خير يا حبيبي ؟!
حك ذقنه كعادته عنـ.ـد.ما يرتبك بالأمر وقال بإذلال:
-أريد الاعتراف بشيء ..
حانت منها نظرة متعجبة :
-ليّ أنا .. أنت متوكد ؟! فوق أنا هاجر ماعيتبلش على لسانها فولة ؟!
رد بأسف :
-أعلم وهذه مصـ يـ بـةأخرى .. ولكن لابد من الاعتراف ..
-طب قول .. تحب أحلف لك ماقولش لحد ؟!
رد ساخرا :
-على كل حال ستتحدثين .. لا داعي من القسم ..
ضحكت بفخر والفضول يتقاذف بمقلتيها :
-اعترف يلا سامعاك ..
-بخصوص الأخت رُقية .. أريد تقديم اعتذاري لها ..
أصدرت ايماءة طويلة وبأعينها المتخابثة تلاعبت على أوتاره المرتبكة :
-الأخت رقية .. قولت لي .. وياترى اعتذر عن أيه ولا أيه دي أنت خليت رقبتي كد السمسمة .
عاد لفرك ذقنه وهو يقول بخجل :
-لانني كذبت .. وطلبت منها تُغير مكانها بسبب صورتها المنعكسة بالمرآة ولست بسبب العجلة ..
أحمر وجهه من شـ.ـد الخجل وعيناه لم تتزحزح عن الأرض :
-تعلمين لا يحق إطالة النظر بإمراة أجنبية ..
-إمراة أجنبية جميلة .. ورقية سبحان من صورها يا مولانا .. صُح !!ولا ليك راي تاني ؟
كانت جملتها تلعب على أوتاره المتذبذبة متعمدة مداعبته مثلما اعتادت فعل هذا مع هاشم وهيثم ويبدو أنها وجدت طرف الخيط الذي ستجر به قلب أخيها هلال .. برقت عيناه بدهشة لوقاحتها فلم يتقبل جرأتها أو على الأغلب لم يتقبل أنها يصير مفضوحا أمامها لهذا الحد :
-تأدبي يا هاجر .. عيب .
كتمت الضحك براحة كفها :
-تأدبت .. والمطلوب ؟!
-اعتذري للأخت رقية وقول لها بأنني لست معقد أو متشـ.ـدد بالدين لأنها اتهمتني بالتطرف ..بالكاد لم تنم الليلة من قسوتي معها.
-لا ملهاش حق الصراحة .. وهي فعلا مش هتنام الليلة بسبب البئف بكر .. هي مش فاكراك أصلا ونسيت مصايبك اطمن ..
عاد للهجته الصعيدية التي لا يتجرد منها المرء مهما ذهب :
-قصدك أيه يعني ؟؟
-ياخي خلي البساط أحمدي .. وفكك أكده رقية دي جـ.ـا.مدة معاك بس لكن هي أغلب من الغلب ومش هتسيب بكر ولد عمها اللي مطفحها الدm وهتزكر معاك يا أبو أكذوبة ..
-هاجر .. تأدبي..
أدخلت يدها بمعصمه كعريس وعروسة وسار الاثنان معا بحديقة منزلهم وهي تروي له قصة رقية :
-والله زي ما عقولك .. هحكي لك … أصلو بكر ده عيل غتت ولازق لها بغيرة وهي مش عايزاه ..ما تساعدي يا هلال نوقفوه عند حده البت ملهاش حد ..
سحب ذراعه منها مستردا هيبته متجاهلا أمرها ومخالفا فضوله بأكذوبة جديدة :
-صديقتك لاتهمني ، كُل راعٍ مسؤول عن رعيته .. اذهبي لأخيكِ العمدة ليحل لها الأمر .
-ماشي ياهلال .. أنا هروح لهيثم وهو هيساعدها خليك أنت على إكده .. ومش هعتذرلها ..
انضم لهم هثيم الذي كان ينهي علاقته مع رحاب وهو يسبها علنا وقال :
-أنا سمعت اسمي .. مين عيقول هيثم ..
لم يكمل جملته فقاطعه صوت رنين هاتفه باسم رحاب الذي غير مجرى الحديث قائلا وهو يرفض اتصالها :
-ماشوفتش في رطك .. زن زن متفضيها سيرة عاد يا رحاب..
استغفر هلال ربه ثم رفع يده واعظا :
-ياخي ياخي لديك أخوات بنات .. تأدب لوجه الله كي لا يتوه قلبك وسط الزحام ..
كاد أن يجيبه فقطعه جرس هاتفه مرة أخرى فسبها قائلا بانفعال ورافضا حكمة أخيه :
-أحب على رأسك لو شوفتي يوم تايه في الزحام .. سيبني واعتقني لوجه الله عشان أنا أصلا طفشان منك .
ثم لوح بيده :
-أقولك أنا رايح أقعد جار هاشم وهارون .. متجيش ورانا .. أحنا شِلة الأُنس مش طالبة حكم ومواعظ ..
~بغرفة هيام ..
بأقذر أنواع الشتائم التي ذكر فيها أخيها وأبيها معًا وهو يلعنهم بالهاتف مما جعلها تنفجر بوجهه مرة أخري :
-اقطم يا ضيا .. علشان انت زوذتها على الأخير وأنا هروح أقول لأخوي هارون وهو يتصرف معاك ومع قلة ادبك ..
-فكرك هخاف يعني بالمدعوك هارون .. لما أرن عليكي الف مرة وماعترديش .. ايه بمزاجك أنا ..ديه تسميه أيه ..
قال جملته وهو يجلس على بأحد المقاهي الليلية بعد ما شـ.ـد نفسا طويلا من لفافة تبغه المحشية مما جعلته يثرثر بدون وعي مما جعلها تتساءل :
-ضيا أنت مبلبع أيه ؟!
-مبلبع المُر اللي هطفحهولك لو متعدلتيش معاي يا هيام .
قالت بغل وهي تتوعد له وتضـ.ـر.ب على فخذها :
-تصدق أنا غلطانة إني هاودتك طول المدة دي ؟! ورب الكعبة لأوريك يا ضيا .
*********
~في العاشـرة مساءً .
تجمع الأخوة مع بعضهم حول بؤرة النيران المشتعلة للتدفأة ، أرسل هارون لهاشم أخيه صورة لأحد التماثيـل الفرعونية التي عثروا عليا العُمال بالمحجر وقال له :
-عايزين نصرفوا دي يا هاشم .. العيال وهما عيكحتوا لقيوها
فتح الصورة المُرسلة له وكبـر الصورة وتأمل تفاصيل القطعة الأثرية :
-جات في وقتها، كُنت محتاج فلوس اليومين دول ..
-خيـر !! محتاچ كام ويكونوا عندك الصبح .
تأمل رأس التمثال بحرافيـة وقال دون النظر إليه :
-قَصادي بيت في مرسى علم عايز أجيبـه ، واهو فلوسه ادبرت ..
-ابعتها لحبايبك وشوف الدِنيا ، هي عندك في العربية قوم شوفها .. والله فكرتني عايز اشيلها من الشنطة ..
قفل هاتفه ورماه بجوار هيثم ومد يده فوق النيران للتدفأة :
-عال ، عال … الصبح نشوفها .
تدخل هارون مُتسائلًا :
-وايه أخبـ.ـار الشغل ؟!
-والله يا هارون ما عارف أقول لك أيه ، بس ربك يسترها ، ولاد الـ*** مزودينها وكل يوم يهجموا على كمين وفي حركة تنقلات جديدة وشامم ريحة سينا عتناديني .
-طب ما تقولش إكده قصاد صفية ولا أحلام هينصبولك الصوان .
-أقولهم اي !! دي مش هطلعني من قنا لو عرفت..
مال ليشعل لفافة تبغه من النيران المتقدة فتدخل هيثم متسائلًا بفضول حول ليلة :
-عامل أيه مع الكراميلا !!
رد هارون عليه بسخرية :
-هتجيب لي السُكر ..
فتدخل هاشم متسائلًا :
-أيه حكايتها البت دي يا هارون .. قلبي مش مطمن عليها وشامم ريحة تشبه ريحة سينا !!
قهقهه هيثم ممازحًا :
-دي ريحة المـ.وت .. تصدق يا هاشم وأنا كمان ما مطمن ، حاسس في حاچة كبيرة من تحت راسها ايه هي مش عارف .. بس البت حِلوة .
تبادل الثلاثـة الضـحك فجـاء صوت رنيـن هاتف هاشم بمكالمة من رغد المسجلة عنده باسم ” البكباشي ” ، وقع الاسم تحت أنظار هيثم وقال ساخرًا :
-قابل يا عم البكباشي بيتصل ، شكل سينا چات على السيرة ..
خـ.ـطـ.ـف هاشم هاتفه من جانب هيثم باهتمام ولهفة وعلى محياه تلك الابتسامة التي لا تُفارقه لمجرد رؤيته لاسمها يسطع بشاشته ، رد متحاميًا بنبرته الرسمية المستخدmة للعمل :
-معالي الباشـا ، اتفضل .
جلست أمام التسريحة وهي تضع القليل من الحُمرة على وجهها وتحدثه بتلك النبرة التي تتراقص حافية على عرش قلبه فتُشعله بالحب أكثر :
-وحـ.ـشـ.ـتني أوي ..
مازال محافظًا على نبرته الجادة بإصرار :
-لا اله الا الله؛ وإحنا لحقنـا يا فنـ.ـد.م !!
-ومكنتش هكلمك ، بس قول لي أعمل أيه في قلبي !!
رمق أخوته الجالس معهم بحذر ومازالت ملامحه منكمشة بجدية مزيفة :
-العمل عمل ربنـا يافنـ.ـد.م ؛ اللي معاليـك تأمر بيه يتنفذ .
راقت لها اللعبة لتتمادى بالأمر وهي تتدلل عليه ؛ طالبة :
-صالحني حالًا ..
-دِلوق يا فنـ.ـد.م !! ماينفعش نهائي.. الأمن مش مستتب .
-طيب قول لي بحبك يا رغود ..
تحمحم وهو بقمة الثبات الانفعالي وكأنه يحارب لوحده جيش من الأسود بداخله :
-كُلنا بنحب مصر يا فنـدm ..
انفجرت بتلك الضحكة التي رجت قلبـه بجوار أخوته فتحمحم متجمهرًا مع صوت سعال قوي أي شيء يخفي ورائه مصيبته ؛ فارقت مقعدها بغنج وبنفس النبرة الهادئة :
-كُنت طالبـة أوردر جديد ولسه واصل حالًا ، وحابة أخد رأيك .. عشان لو في حاجة مش أد كده ارجعها .
عقد حاجبيه متسائلًا :
-هو ينفع الكلام ده يا فنـ.ـد.م !! لما أرجع واعاين المكان بنفسي قبل أي قرار ..
-طيب ما تيجي يلا ..
-لو مصر أمرت أحنا حاضرين يا فنـ.ـد.م .
اتكأت على وسادتها القطنية وهي تحاوره بدلع :
-يعني مبعتش الصور ومش هتقول رأيك ..؟!
سعل مرة أخرى وقال :
-لا طبعا ابعت لي يافنـ.ـد.م كل التقارير المشتبه فيهم وانا هفرزها بمنتهى الدقة ..ولو في أمر يتطلب تدخلي من الصبح هكون عند معاليك ..
ثم رد على ضحكتها العالية بنبرة خافتة :
-دا أحنا دايمًا في الخـدmة يا فنـ.ـد.م ..
كان هيثم يتابع كل كلمـ.ـا.ته بمكر حتى فاض به الأمر متسائلًا بخبث ومستغلًا انشغال هارون بمكالمة هاتفية :
-وعلى اكده حلو البكباشي ديه !!
-خليك في حالك يا بئف أنت !!
رماه هاشم بقطعة من الفحم المنطفئ هاربًا من نظرات هيثم الكاشفة له ومازالت رغد على الهاتف تتابع حديثهم بضحكٍ ؛ فوثبت هاشم جاهرًا :
-تصبح على خير يا هارون ..
صاح هيثم طالبًا بمكـر :
-طب قوله هيثم باعت لك السلامـ.ـا.ت وحيلوة وطول وعرض وبدقن وشعر مسبسب ..
تمتم لرغد الواقعة من الضحك بهمس :
-عيل مترباش سيبك منه ، خليكي معايا ، أنا متربي .
••••••••••
مع دقات الساعة الثانيـة بعد منتصف الليـل ، ظل منتظرًا منها مُكالمة واحدة لتخبـره بأي شيء حتى ولو ستثرثر على مسامعـه وتقفل مرة أخرى؛ قطع حبال فكره المتواصل وهو يقطع تلك المسافة بينه وبينها حتى لغرفته ، امتد نظره لعندها من النافذه فوجدتها كطالب يحاول لم المنهج قبل الاختبـ.ـار بساعتين ، كُتب متراكمة على جانبيها ، ترتدي نظارات طبية وتتصفح الحاسوب بدmدmة غير مفهومة ممسكة بقلم بيدها وتكتب كلمـ.ـا.ت يجهلها .. يُطيل النظر لها ولا يدري بأنه يسلك ذلك الدرب الذي يُشبـه الجـ.ـر.ح ..
تسلل بهدوء ليطرق بابهـا الموارب بخِفة اكتفت برفع جفونها المنكسـرة لعِنده ثم عادت مرة آخرى لتمارس شغلها الذي لم تخرج منه بمعلومة واحدة .. نزع عن كتفيه عباءته البنية المُلقاة على أكتافه فظهر أمامها ولأول مرة مرتديًا ” بچِامته” الرياضية السوداء ؛ اكتفت بنظرة مسددة أسهم تشتتها على ظهره ذو الأكتاف العريضة وسرعان ما أغمضت جفونها لتنهي تلك اللعبة السخيفة وتركز بعملها .. وقف ليُعد فنجانين من القهوة بسكوت لا يقطعه إلا النظرات المختلسـة ..
انتهى من إعداد القهوة ثم وضع فنجان بجوارها وشرع في ارتشاف الأخر وهو يسألها بهـدوء :
-وصلتي لأيه !
رمت القلم من يدها بملل :
-لـ ولا حاجة طبعًا !!
ارتشف رشفـة أخرى من فنجان قهوته :
-ولا حاچة ولا حاچة !!
أيده قائلة :
-ولا أي حاجة ، هارون بيـه أنا أخدت الكلية فـ٥ سنين عشان كنت بكسل أقرا الكُتب واذاكر.
-مالك فخورة بروحك ليه !!
-لا ده اسمه تصالح مع النفس ..
ثم ظلت تعبث بالكتب وتشير عليهم بحيرة :
-انا قريت ده ، وده .. عناوين طبعًا ، وجوجل مقالش أي حاجة وأنا بجد هعيط ..
ثم سندت وجنتها فوق قبضة يدها وتأفف باختناق:
-انا مش عايزة أفشل المرة دي ، عشان لو فشلت مامي هتجبرني اتجوز شريف ؛ وأنا مش عايزة اتجوزه وعايزة انجح ، شوف لي حل بقى ..
فرغ من تناول فنجانه ثم وضعه جنبًا ولملم الكُتب المبعثـرة من أمامها ورصهم بمكانهم حتى دارت نحوه متسائلة :
-أنت بتعمل كده ليه !!
أجابها وهو يتجول بالغـرفة التي قلبتها رأسًا عن عقب :
-معابد دندرة .. طالما جيتي قِنا يبقى لازم أول حاجة تتكلمي عنيها .
تركت فنجان القهوة من يدها ووثبت حاملة على وجهها علامـ.ـا.ت الاستفهام :
-وأنتَ سايبني ٤ ساعات طالع عيني وفي الأخر عندك الحل أهو !! طيب وليه التعب من الأول ؟!
وضع الكتاب الذي يحمله بالرف وقال بثباته المعهود :
-قلت اسيبك تعتمدي على نفسك هبابة ، لكن شكلي كنت غلطان ..
-أنتَ بتعاملني كده ليه !! أنا هنا في بيتك ولا في إصلاحيـة للتأهيل النفسي؟! حد قال لك إني جايه اتعالج !
كان مشغولاً بالبحث عن كتاب المعالم الأثرية الخاصة بقـنا ؛ فـ رد دون أن يلتفت لها :
-محدش قال لي شُفت بنفسي ..
-والله !! أنتَ كده جـ.ـا.مد يعني ؟!
سحب الكتاب من الرف العلوي ووضعـه على المنضدة الدائريـة مكتفيًا بتلك النظرة الخبيثة من طرف عينيـه مما أشعل غـــضــــبها أكثر ، شـ.ـدت المقعد لتفسح لها مكانًا تقف فيه وأكملت :
-من وقت ما جيت وأنا بحاول أجمع فيك صفة واحدة تخليني أغير رأيي عنك ؛ صراحة مش لاقية ، كل كلامك شخط ونطر وبتعاملني ولا كإني شغالة عندك ، مفيش ذوقيات خالص كده !! كل حاجة فيك غريبة ومش مفهومة ، ولا حاجة فيك آدmية وحلوة .
اكتفى بإرسال نظرة اعتراضية جعلها تبتلع كل إهانتها وهي تشـ.ـد المقعد وتجلس فوقه بتوجس وترتشف بيدها المرتعشة آخر رشفة من فنجانها وتقول وهي تحت وطأة ذعره منه وقالت لتُلطف الأجواء :
-بس بتعمل قهوة حلوة .. عجبتني .
‏ألطف ما في خضم الحوار أن نتنقل بين المواضيع فجأة بطريقة أكثر لطفًا ، ذلك يلفت القلب بشكل أدق، وتركيز أكثف، وصورة شاعرية تُزين الكلمـ.ـا.ت والشخص نفسه ، شبح ابتسامة طفيفة رُسمت على محيـاه اربكتها و.جـ.ـعلتها تنظر هنا وهناك ثم تعاود النظر له ، قطع صمت النظرات بحمحمة عاليـة وهو يفتـح الكتاب الذي بيده قائلًا :
-الصبح هاخدك ونروحوا المعبد .. لازم ت عـ.ـر.في كُل المعلومـ.ـا.ت عنه ، المساحة مين بناه النقوش الاثرية اللي جواه ..
ثم أشار بيده ممارسًا مهنته الجامعية كمدرس مساعد بالكلية و التي تخلى عنها :
-ت عـ.ـر.في أن المعبد ده كانوا يتنبأوا فيه عن فكرة الكهربا عن طريق استخدام أشعة الشمس عموية وبزوايا معينة من خلالها المكان بيفضل منور طول اليوم من غير أي مصدر ضوء صناعي .. و
قاطعته بتركيز شـ.ـديـد وهي تسحب الحاسوب لعندها :
-استنى هدور على حاجة مهمة ، خليك أنتَ في الكتاب اللي معاك ؛ وأنا هدور على جوجل براحتي ….
ثم مدت له ورقة وقلم :
-اكتب هنا كُل المعلومـ.ـا.ت المهمة .. وانا كمان هعمل زيك .
سحب منها الورقة بصمت وعاد لتنفيذ ما اقترحته وهي أيضًا شرعت في البحث عما دار برأسها سكوت رهيب كل منهما منغمسًا بعمله لا يقطعه إلا صوت همهمـ.ـا.تها التي قطعتها عنـ.ـد.ما تذكرت أقراصها المهدئه فنهضت على الفور أخذت جرعتها من الدواء وعادت مرة آخرى لمكانها ..
مرت قرابـة السـاعتين فرفع جفونه لعندها وجدها غارقـة بالنـوم ، ذراعيها المثنية فوق الطاولة ورأسها التي تتوسطهما .. جفونها النائمة والتي تشبه جناحين مضمونين لفراشة سُكرت من رحيق زهرة الياسمين .. تلك الخصلة العنيدة التي تنتصف ملامحها فلم تسمح له بتأمل ملامحها بدقة .. فارق مقعده وأشعل المدفأة النارية بالمكان ثم تعمد أن يترك باب الغُرفة مفتوحًا .. عاد مرة آخرى لعندها حاملًا عباءته التي ألقاها فوق ظهرها المائل ثم عاد بهدوء ليواصل عمله الذي كلفته به ..
ما فرغ من قراءة أول سطر وجدتها فقدت قدرتها على الثبات وأوشكت ان تسقط من فوق المقعد .. نهض بلهفة محاولًا إفاقتها بحرص دون أي يلمسها فقال بتردد حول اسمها :
-يا ليلــى .. قومي .. هتتكفي على بوزك يا بت الناس ..
كانت بعالم آخر تحت تأثير أدويتها المهدئـة ، زفر بضيق محاولًا افاقتها من جديد لكن بدون جدوى ؛ لم يجد أمامـه حلًا سوى حملها ووضعها على فراشه الصغير .. رفع عباءته من عليها ومسكها بيده كي لا ينفـرد بلمس جسدها مباشـرة .. تسلل ذراعه المُغطى كُليًا بالقماش لتحت رُكبتيها وبذراعـه الأخر المُغطى التف حول ظهرها وحملها بحرص شـ.ـديد منه وهو يسب نفسه سرًا :
-طلعتِلي منين أنتِ بس !! استغفر الله العظيم من كل ذنب ..
تعلقت تلك النائمة بعنقـه كما اعتادت على حمل أبيها لهـا وهي تغمغم بكلمـ.ـا.ت غير مفهومـة حاول أن يُترجمها ولكنه فشل ، انحنى بحذر وهو يضعها بفراشـه حتى سمعها تهذي :
-بابي أنتَ جيت ، أنا مستنياك ليا كتيـر ..
امتزجت انفاسـه الغاضبة بأنفاسها النائمة إثر المسافـة القصيرة التي بينهم والتي يكاد ألا تُذكر .
تراقصت أمام عينيه الحائرة روعة الحياة
‏اختصرت جمال الكون في نظرة لها عن قُرب
‏لمح ظل أجنحة أحلامه تُرفرف على وجهها مما جعله يتساءل ؛ عما جاء بهم لهـنا ، ربما أنهم أجتمعوا على فُتات خُبز الحب الذي سيجمعهما مستقبلًا !! داعبت رائحة عطرها قلبـه فروضتـه على مشاعر جديدة لم تزوره من قبل ، فدق ناقوس قلبه متلهفًا لمُضغه فـ دبت بكيانه فطرته الذكورية التي خُلق عليها ودومًا ما تعمد قــ,تــلها بالتجاهل !! أغرق في بحور الدهشة وهو يلقى نظرة على ساقيها المثنية فضاع بصره بين الجمال والبراءة !! سحب ذراعيه ببطء من تحتهما وكفكفت يداه جبهته المتصببة بعرقٍ لا يعلم مصدره .. شـ.ـد فوقها الغطاء ودار وجهه سريعًا وهو ينفض غبـ.ـار تلك الهواجس التي انتابته فجأة ويشمر أكمامه متأهبًا للوضوء الذي يخمد تلك الثورة التي اندلعت ببدنه ولا يدرك سببها !! ظل يهلل بتسبيحات صاحب الحوت وهو يفتح باب الحمام الصغير ليستعد لقيام لصلاة الفجر ، وربما كان يستعد لتقديم تكفيـره عن ذنبه الذي اقترفه للتو :
-سبحان الله وبحمده ، لا حول ولا قوة إلا بالله .. استغفر الله العظيم الأعظم واتوب إليه …
فرغ هارون من أداء صلاته متحاشيًا النظر لها تمـامًا ، لف نفسه بعباءته الثقيلة وحمل المقعد الخشبي والكتاب الذي يقرأه وغادر الغُرفة كي لا تخونه عينيه بالنظر لواحدة آمنت على نفسها معه .. جلس بمحاذاة البـاب وهو يتعمق بالكتاب أكثر وأكثر وكل ما يزوره طيفها يقــ,تــله بالاستغفار متبعًا نصيحة هلال أخيـه ، ذكر الله يغسل القلب والعقل ..
مع تفتح قرص الشمس تفتحت جفونها لتجد نفسـها بفراشه وبغرفته ، وثبت تتفقد المكان الخالي منه بعيونها الحائرة حول من جاء بها لهنا .. تفقد ساقيها فمازالت مرتدية حذائها الرياضي .. لململت شعرها المتدلى وفارقت السرير وهي تجوب بتـ.ـو.تر بالغرفة حتى امتدت خطواتها للباب الموارب ولم تتوقع وجوده أمامه ، ما خطت خطوة فـ ثارت شاهقة :
-أحيــه!! أنتَ لسه هنا !!
لقد غلبه النوم لساعة قبل شروق الشمس ، استرد وعيه على الفور متمتمًا :
-يا فتاح يا عليم ، يا رزاق يا كريم..
بررت قائلة :
-دي أنا متتخضش .. صباح الخير .
رتب عباءته ووثب قائمًا فرفعت جفونها لمستوى الطول الفارق بينهما ، ألقى نظرة بساعة يده :
-زين إنك صحتيني .. يلا جهزي نفسك عشان نخلصوا مشوارك ، وراي شغل بعد الضهر ..
أومأت بطاعة :
-أنا جاهزة ، هغسل وشي بس ونخرج ..
ما كادت أن تخطو خطوة فتراجعت بامتنان :
-هارون بيه ، من كل قلبي شُكرًا ليك بجد .. أنا تعبتك معايا .
تحمحم منزعجًا دون النظر لها متلبسًا بثوب هارون العزايزي :
-على الله يطمر بس .. هغير وادور العربية واستناكي ..
ضـ.ـر.بت الأرض بنفاذ صبر :
-ياربي منه !! قلة الذوق بتجري في دmه……
•••••••••
~بالمطبخ ..
-بقول لك قفشني يا ست صفية وقال لي مش كبرنا على دق العصافير ديه يا فردوس ..
أردفت فردوس جملتها وهي تعد في زيارة بيت صالح وتشكو من هارون لأمه التي ضـ.ـر.بت كف على الأخر :
-قلبي متوغوش يا فردوس ، أنا شغالة انوم في زينة ، بس قلبي مش مطمن ؛ البت نغشة وحلوة وتزغلل العين ومتجلعة .. وتوقع أجدعها شنب ..
-بس هارون عاقل يا ست صفية ..
-بس الشيطان شاطر يا فردوس .. بقولك ايه ؛ قراية فاتحته على زينـة الليلة ، خلي قلبي يطمن والبت دي ترچع بلدهم ..
~بالسيـارة..
فارق هارون منزلهم بسيارته السوداء حيث كانت تجلس بجواره وأول شيءٍ فعلته تناول قرص مهدئ حسب تعليمـ.ـا.ت أمها ، نظر لها من طرف عينه معارضًا :
-ما كفاياكي بلبعة ، عتبلبعي أيه على الصبح .
ردت بتصالح مع نفسها :
-ده علاج ، ولازم يتاخد بمواعيـد..
-ياستي سيبيها على الله ، الدوا ده بيمرض أكتر ما بيعالج .. أنتِ زي الفل .
خفق قلبها لشعاع الأمل الذي بثه بقلبه إثر جملته العادية ؛ ظلت عينياها تتأرجح متحيرة حوله حتى قطع حبل نظراتها قائلًا :
-الورقة دي احفظي اللي فيها لحد ما نوصلوا .. كتبت لك كل حاجة چواها .
تفحصت الورقـة بسخط وهي تتطلع عما بها وقالت باستنكار :
-ايه الكلام بتاع مدرسين التاريخ ده !! مين قال لك أنا هقول كده !!
ثم اعتدلت في جلستها لتدور بجسدها كله نحوه وأكملت متجاهلة نظرته الغاضبه :
-اسمع الجديد اللي عندي .. لما بحثت إمبـ.ـارح عنه ، طلع مشهور بإنه إله الجمال والحُب والأمومة ..
ثم ثنت تلك الورقة التي بيدها لنصفين وأتبعت بحماس :
-ومن أشهر الأساطير حولين المكان ده إنه لو واحدة مثلًا مش حلوة وعايزة جوزها يشوفها حلوة كانت تروح المعبد وبتقدm قرابين لإله الجمال ويجي الكاهن يحط على وشها زي حجاب كده وبيتقري عليها تعويذة تحت ضوء الشمس ، تعرف بيحصل أيه !
ألتوى ثغره ساخرًا ومستهزءًا بخرافاتها:
-ايه بيلاقيها زبيدة ثروت !!
-بصرف النظر عن انك بتتريق بس فعلًا جوزها بيشوفها حلوة وعلاقتهم بتستمر .. وحاجة كمان .. لو واحدة مش بتخلف وعايزة تبقى أم بتعمل نفس الطقوس قُدام إله الامومة وفعلًا كانت بتخلف على طول .
دار بمقود السيارة أقصي اليمين وهو يردف بسخرية :
-ياستي وحدي الله وبطلي تخاريف…
-اسمها اساطير ، وانت حر تصدقها ولا لا …
امتدت أنظاره للأمام فانكمشت ملامح وجهه قائلًا:
-طب اربطي الحزام ، في كمين ..
هدأ من سرعة السيارة تدريجيًا وهو يدخل على اللجنة التي قطعت طريقه .. صف سيارته فتأرجحت عيني ليلة بخــــوف:
-ده شريف !! ربنا يستر ..
-ولا يهزك .. أجمدي أنتِ مع هارون العزايزي..
قال جملته وهو يفتح نافذة السيارة حيث طلب منه الضابط المساعد:
-رخصك ..
مد له هارون البطاقات وقال بفضول :
-أول مرة يبقى في كمين إهنه !! في ايه ؟!
رد الضابط وهو يعطي له البطاقات :
-تعليمـ.ـا.ت يا عمدة ..
جاء شريف من الأمام وهو ينزع نظارته عنـ.ـد.ما لمحه ، وما كان يتأهب هارون للذهاب فأوقفه نداء شريف على العسكري :
-فتشوا العربية ..
ثم أشار له بنظرات انتقاميـة :
-انزل وافتح الشنطة ..
غمغم هارون بضيق:
-أهي كملت .. كانت ناقصاك .
رمقته ليلة بخــــوف وهو يمنحها مفتاح سيارته حيث شرع العساكر بتفتيش العربة وقال لها :
-الشنطة فيها آثار وشريف مش هيعديها .. تاخدي المفاتيح وترجعي البيت ، هت عـ.ـر.في .
وضعت كفيها على فمها وبأعينها المبرقة :
-أحيه !! أنت تاجر آثار .. والله كنت حاسة .
طل شريف من النافذة وهو يكشف القطعة الأثرية أمامـه وقال بشمـ.ـا.ته :
-وريني المرة دي هتطلع منها ازاي يا هارون بيه .. انزل لي ..
حدج ليلة بنظرة لا تقبل الجدال:
-سمعتي قولت ايه !! يلا انزلي .
هبطت من السيارة معه وركضت نحو شريف الذي يتوقد غـــضــــبًا فتدخل هارون بمنتهى الهدوء:
-سيبها تروح وأحنا هنحلوا مشاكلنا في القسـم ..
رمقها شريف بلوم :
-هو ده اللي انتِ ماشية معاه !!
ألقت نظرت عتاب لهارون وهي تقول بثبات محتفظة بجميله معها :
-على فكرة الآثار دي بتاعتنا إحنا الاتنين ..
ثم نظرت لهارون بحسمٍ:
-أنا هاجي معاك ..
خرج عن هدوئه
-ياستي هي رحلة.!!
جهر شريف بصوته المُرعد:
-ليلة اسمعي الكلام وأمشي .
لم تنصت له بل نظرت للضابط الأخر كي يضع الحديد بيدها متعمدة إثاره غيرة شريف ببسالة :
-أنا مش هسيبك تروح معاه لوحدك …..
لقد ساومَ نزار سيدته لتعترف بحبه قائلًا :
-“سأغير التقويم لو أحببتني ..
أمحو فصولًا أو أضيف فصولًا
وسينتهي العـصر القديم على يـدي
وأقيـم مملكة سيـدة النساء بديـلًا ”
يبدو أن الرجـ.ـال أن أُغرموا يفعلـوا أشياءً خارقـة عن الطبيعي لا يمكن للعاديين من جنسهم فعلهـا ، فـما سيكون مصيـر رجـ.ـال العزايزي الغارق كل منهم بعشق يرفضه العُرف والقانون ويحيط المـ.ـو.ت بكل عاصٍ منهم ، سيختارون الحياة بلا حُب كي ينجون من بطش الأعراف الظالمة ..
أم المـوت على سيف هذا الحُب المرفوض ؟!
أم سيتبعون نهـج نزار ” بعض الهوى لا يقبل التأجيلا ” ويسلكون دروب الهوى مهما كانت العـ.ـا.قبة ولو كان بالعمر متبقي ساعـة يقضونها في ظل هذا الهوى المحرم ويقــ,تــلون بشرف على يده؟! أم سيكون لديهم فجـرًا جديدًا يزيح غُمتهم .
#نهال_مصطفى .
••••••••••••••
‏خُلق الإنسان بطبعـه مُقـ.ـا.تلًا .. مهمـا بلغ قدرًا من النضج أو الطيش ؛ السذاجة أو الحكمـة لكن لديه الوعي الكافي كي يميز بين معركة يمكن أن تحقق أهدافها ولابد من قيامها .. و معارك لا جدوى من خوضها…
~ بالقسـم ..
مرت قرابة الثلاثة ساعات على حجز كُل من هارون وليلة بمكتب شريف ، كان هارون يجوب الغُرفة بعشوائيـة يخرج منه بدل النفس دخانًا يحمل نيران غـــضــــبـه .. ثنى سيجارته بقلب المطفأة متحاشيًا النظر إليها حتى فاض بها الأمر فتدخلت مستفهمة :
-ممكن أعرف أنتَ مضايق ليه !! مش إحنا هنا بسببك !!
-لا مش عشان بسببي ؛ عشانك ماعتسمعيش الكلام ، قولت لك روحي .. چاية معاي ليـه !!
ثم زفر غبـ.ـار غـــضــــبه المُشتعل محاولًا تهدئة روحه :
-اسمعي يا ليـلي ..
قاطعته بصوت حازم وهادئ بنفس الوقت مُعدلة لـه نطق اسمها :
-ليلة ….
-دي ليلة هارون الغَبرة !!
برق بعينيه وهو يأكل في شفته السفلية بنفاذ صبر ويتمتم سرًا بجملته الأخيرة مما جعلها تراجعت خطوة للوراء وأكمل مُشيرًا بسبابتـه :
-يجي الزفت اللي اسمه شريف ده ، وأنا هقوله إنك تروحي وأنت متفتحيش خشمك بكلمة واحدة مفهوم !
-ليه يعني ؟!
-ياستي تصفية حساب بين اتنين رچالة !! أنتِ مدخلـة روحك ليـه ؟! ها كلامي مفهوم ولا لا
أومأت بالإيجاب على مضض :
-مفهوم ، بس متزعقش .. أنتَ على طول نرڤوز كده !!
-يا مثبت العقـل والدين يا رب .
شـ.ـد أحد المقاعد المجاورة للمكتب وجلـس فوقه وهو يهز ساقه وكأن بداخلها غـــضــــب كمراجـ.ـل متقدة ؛ كان مخططه ألا يتم توريطها معـه ولا مرافقـته لتلك اللعبـة ، مهما كانت حربه مع شريف فهو لا يحبذ أن يتخذ سلاحًا رادعًا من إمراة .. بل جاءت بحماقتها لتهد كل شيء فوق رأسه وتناطح مبادئه ، سحبت هي الأخرى المعقد الثاني وجلست أمامه ، نظرات عشوائيـة تطوف حوله من مُقلتيها الخضـراء إثر انعكاس عدساتها اللاصقـة ، حانت منه نظرة غاضبـة ثم ارتفعت للساعة المُعلقـة لانه لم يتحمل رؤيتها وهي تقضم في أظافرها الناعمة بتحيـر ، بترت ساق النظرات المتراقصة بينهم وهي تسأله بفضـول :
-بالمـناسبة ؛ أنا نمت أزاي في السرير .. ؟؟
خمدت ملامحه الغاضبة منها وهو يتحاشي النظر إليها ليخفي كذبته الساطعة بعيونه وقال ليبرئ نفسه من جَريمته :
-اسألي روحك .. شكلك عـ تمشى وأنتِ نعسانة ..
تأرجحت عينيـها بتوجس وثغر مضموم على غصن الخيبة :
-بجد !! مامي كانت تقول لي كده دايمًا واضح أن كلامها صحيح ..
ثم رفعت جفونها التي تحمل ضبابة الآسى وتمتمت:
-بس بابي كان يقـول لي مصدقش الكلام ده ؛ هو اللي كان ينيمني في سريري ..
حانت منه نظرة شفقة محملة بالاعتذار عن كذبته مغيرًا مجرى الحديث مستردًا نبرته الغاضبة منها وكأنه يؤيد صدق قولها ولكن بطريقة أكثر دهاء :
-أنتِ ما عتسمعيش الكلام ليه !!
جاء شريـف حاملًا على كتفيـه عُقاب الانتقام الشرس بدل من عُقاب رُتبـه ، حلقـة من النيران تحاوطه وهو ينزع سلاحـه من وراء ظهره ويُلقيـه على سطح المكتب قائلًا والشـر يتقاذف من شَدقـه :
-ده أنا جهزت لك محضر ما يخرش الميـة يا هارون بيه … محضر للحبايب وبس .
ثم شـد مقعـده وجلس وهو يثني أكمامـه ويطالع ليلة بامتعاض :
-وأنتِ تحطي عقلك في راسك _ده لو فيكِ عقل_وتقومي تروحي من هنا !
غلت الدmـاء بعروق هارون التي برزت بقبضة يده المضمومة على سطح مكتبـه فلم يتحمـل أن يُهين ضيفتـه بهذا الأسلوب الوقح ، فنظر له بعد ما أرسل نظرة خاطفة لها وقال متعمدًا إثارة غـــضــــبه :
-ما تسيبك منها وخليـك معايـا ؛ ولا أنت ماعتتشطرش غيـر على الحريم وبس !!
أشار له شريف مهددًا ومنفردًا بمكانتـه :
-هنا الكلام بإذني أنا وبس ..
ثم عاد لليـلة بذلك الوجـه القاسي:
-سمعتي !! أنا لحد دلوقتـي عامل حساب لاسم سامح الجوهري ومجبتش اسمك .. أعقلي يا ليـلة وأمشي ..
دفاع هارون عنها لحظة اشتباكهم بقصـر العزايزي ؛ مساعدته لها وحملهـا للفراش ذلك اليوم المشؤوم .. سهره طول الليـل لمساعدتهـا والحرص على جمع كافة المعلومـ.ـا.ت التي ستحتاجهـا ، وآخيرًا وقوفه بصفهـا عند ملاحظته لإهانة شريف لها .. رمقت هارون بنظرة حاسمـة لقرارها فاستقبلها بالرفض القاطع ، تجاهلت أوامره وقالت بتحـدٍ :
-وأنا مش همشي يا شريف .
اتسع بؤبؤ عيني هارون من عنادها ، ثم وقفت جاهرة بتلك النبرة التي مازالت محتفظـة بالجميل :
-اسمع يا شريف ؛ أنا مش هروح أي حتـة .. ياما تحبسنا أحنا الاتنين سوا بس وقتها متنساش تكلم دكتورة نادية أبو العلا وتقولها أنا حبست بـ.ـنتك بنفسي … ياما نخرج أنا والعمدة من هنا رجلي على رجله ..
ثم التوى ثغرها بضحكة ساخرة :
-وريني بقا هتـرد جميل سامح الجوهري اللي اقعدك على المكتب ده أزاي ..
كانت نبرتها كلها فخر وهي تذكر اسم أبيها اللواء سامح الجوهري صاحب الفضل على شريف وأبيه الفاسـد الذي لملم الكثير من ورائه أثناء خدmته بالداخلية حتى أُحيل مبكرًا على المعاش وعاد للمارسة مهنة المُحاماة التي أصبحت لعبـته الأولى .. وثب قائمًا مغادرًا مقعـده ويخطو لعنـدها متعجبًا من رد فعلها :
-كُل ده عشان مين !! عشان البلطجي ده ؟! أنتِ عقلك راح فين ؟! فوقي يا ليلة ..
تدخل هارون بشموخ في حوارهم وقال بصوت صارم بغل من إهانة شريف الباطلة:
-بصرف النظر عن الإهانة اللي مش هعديها ، بس اسمعي كلامه وروحي يا ليلة وأنا كُلها ساعتين وهحصلك ..
ثقته الكبيرة هزت شريف من مكانه مما جعله يرمقه بسخرية :
-ده في خيالك يا عزايزي دانت وقعت مع اللي مابيرحمش ، أنتَ خلاص لبست ..
تحمحم بهدوء مريب وقال متحديًا :
-هنـشوف من فين هيلبس التاني ..
شعر شريف بهزيمته أمام ثقة هارون الجبـ.ـارة وولى نظره ليفرغ غـــضــــبـه بليلة :
-يعني ده آخر كلام عندك !!
-ااه يا شريف .. وريني هتعمل أيه !.
هتف شريف بثرثرته الصارمـة مناديًا على العسكري :
-ياعسكري !!!
فتح العسكري البـاب فطـل منه هاشم الذي ينزع عن عينيه نظارته الشمسيـة مرتديًا ملابسه الأنيقة التي تنحت تفاصيل تناسق جسده الرياضـي .. دلف للمكتب وهو ينظر لأخيـه نظرة انتصار بأن كل شيء على ما يُرام ثم أخرج هويتـه العسكرية مقدmًا نفسـه لشريف :
-الرائد هاشم العزايزي .. أخو حضرة العُمدة .
ألقى شريف نظرة على بطاقته وقال بامتعاض:
-سمعت عنك كتير بس محصليش الشرف نتقابل ..
رد هاشم بغــــرور :
-وأهو لحسن حظك حصل !!
ثم تهامس بمكـر :
-قولت لي أخويا هنا ليـه ؟!
زفر شريف وهو يعود لمكتبه باختناق :
-أخوك جناب العمدة بيهرب آثار… ودي جريمة في حق البلد ياهاشم بيه زي ما أنت عارف .
-يعني مش مـ.ـخـ.ـد.رات برشام ، مش سلاح ؛ دي حتة آثار لقيوها في العيال في الجبل وكانت راجعـة لصحابها .. مكبر الموضوع ليه !!
رمقه شريف بشمـ.ـا.تة :
-كان بودي اساعده ، لكن ده اتمسك متلبس .. وهنضطر نتحفظ عليـه لبكرة لحد ما يتعرض على النيابة .
شـ.ـد هاشم المقعد الحديدي ليجلس عليـه بفظاظة واضعًا ساق فوق الآخرى :
-ده في حالة واحدة بس ؛ أن ميكنش أخوه هاشم العزايزي ..
ثم نظر لأخيه بفخر يتقاذف من شِدقه :
-يعني دكتوراه في القانون وقادر يطلع منها بكلمتين بس هو مراعي ضوابط المهنـة .. أما أنا مش بعمل حساب لحد خالص .
وشوشت ليلة لهارون بإعجاب :
-أخوك ده جـ.ـا.مد أوي خلى شريف مش قادر يفتح بؤه .. أنا مبسوطة أوي .
رمقها بطرف عيـنه رافضًا غزلها الصريح لأخيـه ثم قال مكتفيًا :
-اتقلي واتفرجي على الضـ.ـر.بة اللي چاية .. هتچيب أجله بعون الله .
-هيحصل أيه قول لي ؟!
نظر لها هارون بحدة متذكرًا تورطها معه :
-أنتِ هتروحي تروحي مع هيثم مش عايزك تفتحي خشمك .. هكلمه يچي ياخدك .
ردت بعفوية :
-مش أنت هتخرج كمان ساعتين زي ما قولت !!
-وأقل بعون الله ..
هزت كتفيها مستسهلة الأمر :
-اشطا يبقى نخرج سوا .. أنا فاضية مش ورايا حاجة .
كز على فكيـه المنطبقين بنفاذ صبر :
-يا صبـر الصبـر !!
في تلك اللحظة نادى شريف على العسكري معاندًا مع هاشم وفارضًا سيطرته بالمكان كي يأخذ كل من هارون وليلة للحجـز .. فـ جاءه المأمور حينها وهو يصافح هارون معتذرًا :
-أحنا آسفين على سوء الفهـم اللي حصـل يا هارون بيه .
تعمـد هارون التجاهل وهو يتساءل بمكر كي يسمع صوت براءته بنفسه :
-خيـر يا حشمت بيه !!
أخفض هاشم ساقه ونهض ليقف خلف أخيـه قائلًا :
-زي ما قولت لك يا حشمت بيه .. أخوي هارون سمعته زي الچِنيه الدهب .
تدخل شريف مستفهمًا بقلق لاجتماعهم :
-خير يا حشمت بيه !! حالًا العُمدة هينزل الحجز .
نظر حشمت لشريف وقال بتلك النبرة الحاسمة :
-الحتة طلعت مزورة وأظن وجود هارون بيه هنا مفيش منه داعي .. خلص الإجراءات اللازمة وخلي جناب العُمدة يروح يا شريف .
اتسعت ابتسامة ليلة وتفتحت ملامحها كوردة ربيع تمتمت له بـ.ـارتياح :
-يس !! كنت متأكدة ان في حاجة غلط!!أنا فرحانة أوي إنك مش تاجر آثار.
وشوش بنبرة اخترقت مسامعها وحدها :
-أنتِ على طول هبلة إكده !!
احتلت الصدmة معالم وجه شريف وهو يراقب ابتسامة كُل من هارون وهاشم الخبيثة والتي تحمل وسام النصـر متسائلًا :
-يعني أيه يا حشمت بيه !! أنا مطلع العروسـة بنفسي من عربيته ..
وضع له سيادة المأمور حدًا :
-الموضوع منتهي يا شريف .. وهيئة الآثار بنفسها عاينت القطعة ونفت أنها اصليـة ..
ثم نظر له مرددًا اعتذاره :
-نورتنا يا هارون بيه ، وأنا بعتذر منك بصفة شخصية عن سوء الفهم اللي حصل ….
تحمحم هارون بفظاظة وهو يأكل شريف بنظراته المنتصرة :
-ولاد الحـ.ـر.ام مخلوش لولاد الحلال حاچة يا سيادة المأمور ؛ علم رچالتك أن المُتهم بريء حتى تثبت إدانته !!
ثم خطى خطوة بقرب شريف مستمعًا لاعتذارات المأمور بلا اهتمام ؛ فمال متهامسًا بغـ.ـيظ مُكملًا :
-خدتها في الكُلية ولا عديت منيها دي كّمان واسطة !!
تحرك هاشم مع سيادة المأمور وهما يتحدثان همسًا فتابعـه هارون بعد ما أنهى حرب النظرات العاتية بينه وبين شريف ، وعلى الفور همت ليلة باتباع خُطاه ففوجئت بشريف يعوق خُطاها رافضًا الذهاب خلفه وكأنها وعاءه الوحيد لتفريغ شُحنات غـــضــــبه ؛ قبض على معصمها بقوة :
-رايحة فين !! استنى هنا أنتِ لازم ترجعي اسكندرية حالًا وكفاية مسخرة لحد كده …
-ااه سيب إيدي يا شريف !
صرختها الاعتراضية عاقت خطوات هارون الذي دار خلفه مُدافعًا عنها وهو يسحبها وراء ظهره بهدوء :
-أنتَ أزاي تمد أيدك على واحدة في حمايتي !! ولا هو فرد عضلات والسلام !!
أحمر لهب الغـــضــــب بوجهه :
-واحد وخطيبته ممكن مـ.ـا.تدخلش ما بينـا !!
ثم حدج ليلة بثورة عارمة :
-ليلة كفاية قلة قيمة وبهدلة أكتر من كده .. وتعالي .
ردت عليه وهي تحتمي بكتف هارون :
-أنا هنا بشتغل ، ومش بلعب واتبهدل زي ما أنتَ بتقول .. زي ما أنت بتشتغل أنا كمان بشتغل .
-شُغل أيه ياليلة !! أنتِ مصدقة نفسك ؟! أنتِ فاشلة ، أنت مفيش قناة قبلت تشغلك حتى بفلوسك ، اللي أنتِ بتعمليـه ده لعب عيال وأنا مش هقبل بيه .
ثم تطاولت يده ليجذبها من وراء هارون الواقف كسور الصين بينهما :
-يلا يا ليلة عندنـا فرح محتاجين نرتب له !
نزلت قبضة يد هارون الحديدية على رسغه الممتد لعندها إثر حنقه الشـ.ـديد من تقليله المتواصل منها وقال بنبرته القوية :
-قالت لك مش رايداك وفضناها سيرة ، هتأخدها من حمايتي بالغـ.ـصـ.ـب !! أنتَ معندكش نخوة ..ولا هو رمي بلى !!
عنفه شريف بوجهه المكفهر :
-نزل ايدك دي ، وليلة مش هتتحرك من هنا غير معايا، وأنت لآخر مرة بقلك متتدخلش بينا مفهوم .. أنت مين أصلا ؟!
صاحت ليلة المحتمية بظهره نفس المشهد يتكرر عنـ.ـد.ما كانت تحتمي بظهر أبيها من تعنيف أمها المتواصل ولكن الآن تبدلت الأشخاص وبات الدm يحنـو لمجراه :
-أنتَ اللي مين !! أيه سبب وجودك في حياتي !! انا كنت خطيبتك وخلاص انتهينا يا شريف، أنا اللي مش عايزاك ولا عايزة أي حاجة تربطني بيك ، وأيوة أنا في حماية هارون بيـه العمدة وهامشي معاه ..
رفع هارون حاجبه ثم سرعان ما انكمشت ملامحه:
-سمعت بودنك !! سيب البت تشوف مستقبلها عاد بلاش تبقى زي الشوكة في الزور وتعنقلها (توقعها) !!
حاول أن يأخذها من ورائه غـ.ـصـ.ـبًا ولكن تلك المرة تكورت كلها وراء ظهره ليواجه هارون ذلك الرجل حاد الطباع مهددًا :
-يدك هتتمد عليها هقِل منك وسط رجـ.ـالتك وفي مطرحك أنا لحد دلوق عامل حساب للدبورة ، وحبس بحبس أقلها أكون شفيت غليلي .. اهدي وقول هديت الچواز مش بالغُصبانية .. ولا أنت مقدرتش على الرچالة و الضَربة وچعتك قوي چاي تتشطر على حُرمة !!
ثم جهر قائلًا وعيناه لا تتزحزح عن شريف المغلول منه :
-يلا بينا يا استاذة ليلي …..
•••••••••
~بسيـارة هِلال .
“البوصلة أخترعت قبل الساعة ، يعني ذلك أن الإتجاه أهم وأصدق مِنَ الوقت .. مهمـا كان الوقت غير مناسب اختر دومًا اتجاه بُوصلة قلبك وما تدلك عليـه … ”
-“يعني رضيت عـني وركبتني عربيتك !! أيه اتأكدت إني مُسلم زيي زيك يا مولانـا !! ”
أردف هيثم جملتـه مندهشًا من تلك الطريقة التي أخذه بها أخيه هلال من غُرفته محتجًا بصلاة الظُهر معه كي يهدي قلبـه المنحرف عن الصواب ولكن هناك ثمة شك بالأمر لم يطمئن له قلب هيثم ؛ فارق هلال ذلك المسجد المسئول عنه بالشرق متجهًا للجامع الآخر الواقع بغرب النجع وهو يجيب على أخيه بهدوء :
-للضرورة أحكام ! مضطر يا أخ هيثم ..
تمسك هيثم بطرف الجُملة :
-أيوااه !! اثبت عندك .. مضطر لأيه ريح قلبي !! طب لو داخلين على عركة خبرني أجهز مخي ..متاخدنيش على خوانة أنا وهو .
يبدو أن هيثم لديه الفطنة الكافيـة ليقـرأ إخوته قبل أن ينطقون ويكشف خباياهم، قلبـه دليـله بالمعنى الأدق .. رمقه هلال بدهشـة ثم قال بتردد :
-في حقيـقة الأمر ..
قطعه مهتمًا ليُريح الفئران الصغيرة الموجودة برأسه :
-أديني حقايـق وبلاش لف ودوران مش توبك يا وِلد أبوي .. دا أنتَ السالك الـ فينا .
تحمحم هِلال بتردد محافظًا على نبرة صوته الثابتة لاجئًا للفصحى التي تُنقذه دومًا من خباياه المدفونة :
-هناك خدmة انسانيـة سنقوم بها لوجه الله يا هيثم ، ستحصد منها جبل من الحسنات .
لم يقتنع هيثم بمُقدmة أخيـه العريضـة :
-ده أنا ؟!! طيب كيف ؟! طب الخدmة دي فيها نسوان !! أصل اختيارك ليّ كان على أي أساس..!! أقولك أنا مِش مرتاح لك .
استغفر هلال بسـره ثم جهر ممتعضًا وهو يكظم غـــضــــبه ؛ وسأله :
-بيت بكـر ولد عمك فياض ؛ أين بالضبط؟!
عقد هيثم حاجبيه مستنتجًا :
-مش ديه وِلد عم رقية صاخبة هاچر !! ديه متچوز من سنتين ومعاه بت صِغَيرة !! مالك بيه يا هلال ! ده واد لبط والعوچ سكته .
تعجب هلال مما سمعه :
-يالله !! متزوج !! وبأي حق يجبر فتاة لم يسبق لها الزواج أن تتزوج منه ؟!
-تقصد رقية !! ااه لإنه ولد عمها الشقيق الوحيد ؛ وأرض أبوها كاتير وهو أحق بيها من الغريب .. فالعرف معاه !! بس أيه چاب السيرة دي ، رقية من أصلو رافضـه وقالت مش هتتچوز واصل .
-وبالطبع كي يحق لها الزواج من غيره ستتنازل له عن كل ما تملك وعن مال أبيها ؟!
غلت دmاء تمرده على أعرافهم الظالمة بعروقـه وهو يدافع عن تلك الفتاة التي لم يراه إلا مرة ولكن من باب الانسانيـة أن يشفق على حالها قائلًا :
-هارون عِنديه علم بالظُلم ديه !! ألــم يكفيهم ظُلمًا وعبثًا بالدين لهذا الحد ؟! أين شرع الله ؟!
تعجب هيثم على أمر أخيـه :
-چرالك أيه يا هلال من مـ.ـيـ.ـتى عتعيب في أعرافنـا .. طول عمرك مأيدها وعتقول العرف عمود الخلق ..
انفعل بوجه أخيه خارجًا عن صمته :
-بقي حبل حولين رقاب الخَلق يا هيثم ، ما ذنب تلك المسكينة تتزوچ من رچل سبق له الزواج من غيرها !!ما هذا العرف الذي يعطيه الحق أن يتهجم علي دارهم بمنتصف الليل ؟! ما ذنبها إنها لم يكن لها أخوة ليحمونها !!
ثم غمغم متحسرًا :
-العرف جائر تلك المرة وغير منصف .. ولابد من مُخالفته !!
-جرالك إيه يا ولد أبوي استهدى بالله ديه كلام يطير رِقاب !! وكيف ولد المحروق ديه يتهجم عليهم هي حصلت !! النجع ملهوش كبير !! أنا مأكد على رقية لو قربلها ولا ضايقها تكلمني .. خد يمينك يا هلال بيته اللي تحت الچبل ، وربنا المعبـود ما هحله .
قطـع هلال تلك المسافة الممتدة في وقت لا يُذكر بسرعة فائقة ، لم ينتظر هيثم وقوف السيارة تمامًا بل دلف منها قبل أن يصفها أخيه .. لحق هلال به مناديًا :
-هيثم لا داعي من العنف !! تمهل .. اترك الأمر لي .
طرق هيثـم بعنف فأمسك به هلال طالبًا :
-هيثم ، من فضلك اترك لي الأمر .. وسنحدثه بالحسنى .. رجاءً اصمت ودع العقل يتكلم قبل اليد .
فتح لهم بكر الباب وهو يحمله ابـ.ـنته على كتفه ما أن رآهم زادت ابتسامته وهو يطالعهم من رأسهم للكاحل .. هاتفًا :
-الله الله الله !! أيه الزيارة دي يا ولاد عمي خليفة ..طب كُنتوا تقولوا كُنا فرشانا الأرض ورد ..
كاد هيثم أن يشتبك معه فلحق به هِلال واضعًا ذراعها سدًا منيعًا بينهما ، رفع سبابته بوجه بكر صاحب النظرات المستهزئة:
-اسمعني يا بكر ، كلمتين لا ثالث لهمـا .. أن لم تبتعد عن الأخت رقية وأمها وتُكف عن أساليبك العدوانيـة ؛ ستجدني كالسـد أمامك ..
رمقه بكر مستخفًا بتحذيراته :
-طب اقِلع العِمة والجلابيـة يا مولانا يمكن أخاف وأكش!!
كاد هيثم ان يفلت عليه كحـ.ـيو.ان مفترس مقيد بأغلال تمنعه ، فلم تتزحزح يدي هلال المسنودة على الباب الخشبي وقال بلهجته الصعيدية :
-ما أنت لو أصريت ومتراچعتش ، هتچبرني أقلع العِمة والچلابيـة ومعاهم هقلع لك عينيـك اللي شغالين مرازية في الولاية !! مفهوم ؟!..
-وأنت اللي باعتك حضرة العُمدة ولا دي مِرجلة زايدة منك !
صاح هيثم بانفعال :
-سيبني أفهموا بالطريقة الـ يفهمها يا هِلال ، ديه مش بتاع حسنى ديه عاوز مرزبة تتدق فوق رأسه ..
••••••••••
~أمام القسم ..
تلك المرة استطاعت أن تهرب من كُل شيء حتى ولو كان هروبًا مؤقتًا يكفي بأنها سترتاح لفسحة من الوقت لكن هل ذلك يعني أن ما تهرب منه لا يزال يجول في داخلك و ينهشُ روحك المُتعبـة !!
تسير ليلة بجواره وهي تنعم برائحة نسيم الأمان المُقبل من عهـد والدها ، لأول مرة تتخلص من هم مواجهتها لشريف ولأمها بمفردها ، جاء ذلك الغريب القريب ليزيح عنها ثقل هذا الحمل ، رمقتـه بنظرة سريعة وهي تتذكر نفسها وهي تتوارى بظهره من بطش شريف ، وكلمـ.ـا.ته المدافعة عنها وهو لا يعرفها .. تعجبت من حكمة الأقدار التي تجعل من شخص غريب عنك أحن عليك من أهلك .. كادت أن تشُكره ولكن نداء هاشم أوقفها .. أشار لها وهو يعطيها مفتاح السيارة :
-روحي اسبقيني على العربية ..
ثم ذهب لأخيه الذي ينتظره بجوار سيارته ؛ هلل هارون شاكرًا :
-عاش ، قريبك بيكلم نفسه چوة !!
شقت الضحكة شـ.ـدق هاشم وقال :
-المأمور أكل له جوز ارانب ، والحتة رجعت للصحابها في الهيئة ونصيبك الصبح هيكون في حسابك ..
-عال يا ولد خليفة .. والله ما عارف أودي جمايلك فين يا ولد ..
نزع نظارته الشمسية بحماس وهو يطلب منه قائلًا مستغلًا مقابل خدmته :
-أنا هقول لك ، هخـ.ـطـ.ـف رچلي لمرسى علم سواد الليل وراچع الصُبح .. قول لصفيـة أي حل عشان تعتقني دي ماسكة فيّ عشان موضوع قراية فاتحتك أنتَ وزينة !!
تأفف بضيق:
-وده وقته يا صفية !! أنا عنسى ليه ، زين إنك فكرتني ..
ثم حدجه هارون بعينيه الضائقة :
-ما عتعملش حاچة ببلاش أنتَ !! بس رايح ليه هناك أنتَ مِش أچازة ؟!
حلقت ملامح وجهه فوق سُحب الحُب وقال بتلك النبرة الثابتة عكس دواخله :
-هجمة مرتدة اكده وراجع !
-نعم يا روح أمك ؟!
تحمحم مستردًا هيبته :
-بهزر معاك يا متر ، لا هروح بس أخلص شِرا البيت اللي قُولتلك عليه وراچع ، طيران مش هعوق عليك ..
ثم غمز له بطرف عينـه وهو يستقل سيارته :
-وصل سلامي للقمر اللي معاك ..
قفل باب السيارة وراء أخيه بعنفوان :
-أنت وهيثم عاوز اربطكم في شچرة وانزل فيكم ضـ.ـر.ب لحدت ما يبانلكم صحاب ..
أخرج رأسه من النافذة ملوحًا بالأمر الذي يُطارده :
-ما تغير عُرف العزايزة وتتجوزها بدل زينـة ، البت متتسابش وچدعة ومرضيتش تهملك وتمشي بصراحة عچبتني .. اشتري من الاستاذ !!
زأر غـــضــــبه الذي لا يتقبل أي هرج بالأعراف قائلًا :
-هاشم مرق يومك !!!
فلحق الأخير نفسه من بطشه:
-طب خلاص چوزهالي أنا ..
كل الأقاويل الصادقة مُغلفة بالإطار المزاح ، نفذ صبـره وهو يزفر بوجه أخيه قائلًا :
-شكلك فايق ورايق وأنا مش فايق لك كفاية عليّ القناة السابعة اللي معاي !! اتكل على الله وكلمني…
انطلق هاشـم نحو المطار ليحجز تذكرة ذهابًا وعودًا لمرسى علم ، وتحرك هارون صوب السيارة التي تنتظره بداخلها ليلة ، التي قبل أن تخطو أقدامه السيارة سألته بعد روت لصدقاتها ما حدث وكل منهن أشعلت رأسها بسؤال مختلف :
-أنتَ ازاي كُنت عارف أن في آثار في عربيتك ؛ ولما روحنا القسم طلعت مروزة !! هي مزورة فعلا ولا أنتوا كذبتوا ؟! وبعدين تعالى هنا أنت شايل آثار مزورة معاك ليه !!
شبح ابتسامة خفيفـة بدت على ملامحه وهو يحرك سيارته وقال بصوت مسموع :
-ومين قال لك إنها مزورة !!
-نعم !! الظابط الكبير قال كده بنفسه ، آكيد مش هيكذب !!
“فلاش بــاك ”
-“معروفة يعني الأسود على الأسد يمنع الحسد .. ..”
قال هاشم جملته الأخيرة بعد ما دقق بتفاصيل الصورة التي أرسلتها رغد وهي تعرض تلك الملابس الجذابة الخاصة بالنوم حتى أرسلت له صورة ترتدي بها تلك السترة القصيرة التي جعلته يخرج عن صمته مُعلنًا :
-أنا جاي بكرة أشوف الأسد ناوي على ايه .
تحدته قائلة :
-بلاش تقول كلام مش أده .. متعودتش منك على كده .
بين ثنايا ملامحه يغرد الحب وهو يقول :
-رغد بلاش تتحديني .. وبلاش اسلوبك ده !!
-شوفت !! عندي حق أهو .. لما تقول كلام تكون أده يا سيادة الرائد ..
-قلت لك جاي بكرة .. أنا وقعت في الكمين بكامل قوايا العقلية والصور مش موضحة أبعاد الموضوع ده لازم له معاينة عن قُرب .
أحمر وجهها من جرئته الزائدة فقالت بعفوية :
-هاشم أنتَ كمان قليل الأدب زي هيثم أخوك بالظبط !!طنت صفيـة معرفتش تربي ولا واحد فيكم .
مدد على فرشته واضعًا ذراعه وراء رأسه :
-المصـ يـ بـةلتكوني لسـه واخدة بالك من الكلام ده !!
مزاحته متدللة :
-صحيح بعد سنتين ازاي مخدتش بالي من أول يوم !!
-وبعدين هيثم مين التلميذ ده !! ده بؤ عالفاضي .. أنا بتاع الأفعال والتدريس .
قطع صوت ضحكتها قائلا عنـ.ـد.ما نظر بشاشة هاتفه قبل أن يُكملز :
-رغود .. هارون بيتصل .. هشوفه وارجع لك متنميش ..
قفل مكالمته الهاتفية معها ثم عاود الاتصال بهارون الذي اختصر المكالمة قائلا :
-هاشم انزل لي ..عاوزك ..
ارتدي نعاله الجلدي ملبيًا طلب أخيه .. وصل هاشم بملابسه الرياضية الشتوية للسيارة المصفوفة الواقف هارون بجوارها …التقطت عيناه تلك السيارة الحمراء المركونة :
-عربية مين دي ..!!
رد هارون بإيجاز وهو يرفع باب سيارته الخلفي :
-دي عربية الصحفية اللي جوة .. المهم عاوزك تركز معاي ؛ عنِدنا طلعـة .
عقد هاشم ذراعيه وهو ينتظر الأمر الذي سيرويه علي مسامعه مستندا على سيارة ليلة .. أخرج هارون القطعة الأثرية من سيارته والتي يبلغ طولها حوالي أربعين سنتيمتر .. وضعها بيد هاشم وقال :
-شريف أبو العلا ناصب لي كمين في كل حتة .. وأنا عاوز أعلم عليه وأعلمه الأدب ..
تفحص هاشم تلك القطعة التي يتجاوز ثمنها ملايين من الجنيهات وقال :
-عمل ايه تاني ! وأحنا نعلمه الأدب هو واللي معرفوش يربوه .
رد بتلك الملامحة الصارمة التي يمتلكها :
-حاططني في راسـه وزاعق .. وعامل غاغة .. عايزينه يتهد ويحل عن سماي ..
تفوه هاشم بلهجته الصعيدي الفخمة :
-قول لي ناوي على أيه وأنا معاك ؟!
أخذ القطعة الاثرية من يد أخيه وقال :
-عاوزو يمسك دي في عربيتي .. ويحس إني تحت رحمته ومفيش مفر .. بالعربي وقعت ومحدش سمى عليّ ..
رفع هاشم حاجبه بإعجاب وأكمل مخطط أخيه :
-وتخرج منها زي الشعرة من العجين .. وتعرفه كد أيه هو ولا حاچة !! تشممه ريحـة العضمـة وتاخدها من تحت نابه !!
-الله يفتح عليك .. عاوز أديله قلم معتبر .. الصبح هاخد الصحفية وهطلع من طريق الكمين بتاعه .
-اشمعنا هي ؟! أيه دخلهـا ..
قال وفي عينيه نظرة متحفزة :
-كانت خطيبته .. ودي هتحرقـه أكتر .
-ياراجـ.ـل !! ودي خدته على أيه !! دي سُمعته هو وأبوه طين في الداخلية .
-أنا عارف ؛ خلينا فـ المهم …..
“بــــــاك”
رفع حاجبه مُغيرًا مجرى الحديث حيث جاء مقترحًا :
-شكلك چوعتي ، ما تيچي ناكلو ..
-اه ده حقيقي .. أنا جعانة أوي ..
ثم انتقلت بسرعة البرق لموضوعٍ جديـد :
-مرسي إنك وقفت معايا قدام شريف ، أنا بجد مابقتش قادرة اتحمل أسلوبه واستهتاره بيا طول الوقت .. أنا عمري ما حسيت إني مبسوطة معاه وهو مش فاهم كده .. بس
ثم نظر لها منتظرًا تكملة حديثها ولكن سُرعان ما غيرت نشرة الأحزان التي أعلنتها وقالت معترضة وبحماس:
-بس ياهارون بيه أنا اسمي ليلة مش ليلي ، مش كل مرة هصلح لك الاسم !! احفظ بقا.
بضحكة المغلوب على أمره وهو يتأفف دخان جزعه منها قائلًا لنفسه :
-والله ما في ليلة مقندلة غير الليلة اللي قابلتك فيها !! أنا چبت وچع الراس لنفسي !!
ثم حانت منه نظرة مسـ.ـر.وقه لخضرة عينيها التي تعلن حلول الربيع قبل أوان متمتمًا:
-ربنا يشفيكي !!
-ليه بتقول كده !!
لم يرض فضولها بالجواب بل أردف قائلا بابتسامة غير مناسبة لمجرى الحديث :
-قولتي عاوزة تأكلي أيه !!!
•••••••••••
-لو الكلام ده يرضيكي يا عمتي أنا مش هتكلم !! لكن ليلة طلعت أسوأ ما فيا وانا خلاص مش عارف أتعامل معاها!!
خبط شريف باب مكتبـه بعد ما روى كل ما حدث على آذان أمها التي تتلاعب على الجميع ؛ فقالت :
-ممكن تهدا ، ايه يعني يكون مين هارون ده ؟! يمكن فعلا بيساعدها وهتاخد مصلحتها اللي هنبوظها زي كُل مرة وترجع .. ولا أنتَ حاسس أن فـ حاجة ما بينهم !!
نفى شريف شكوك نادية قائلًا :
-مش الفكرة يا دكتور ، أصلا العيلة دي عندهم قانون ممنوع يتجوزوا من حد مش شايل اسمهم دي انا مرتاح فيها .. بس تصرفات بـ.ـنتك طايشة وكلها جنان ..
ارتاح فكر نادية قليلًا :
-طيب ما ده في صالحنـا ، يعني فعلًا اللي اسمه هارون ده علاقتهم شغل وبس .. شريف هسألك سؤال !!
-سؤال ايه ؟!
-أنتَ عايز ليلة ولا الفلوس اللي وراها ؟!
ساد الصمت لبرهة محاولًا انكاره لرغبه بأموالها ، حتى قالت بحدة :
-جاوب عشان جوابك ده هو اللي هيحدد مصيرنا كلنا !!
-بصراحـة ليلة مش البـ.ـنت اللي اتمناها ، واللي مصبرني عليهـا اصرارك أنتِ ورشـ.ـدي بيه ..
جلست نادية على مكتبها الطبي لتستقبل أول مرضاها :
-يبقى تطول بالك كده وكله هيتنهي زي ما أحنا عايزين ..
ليلة بالظبط قُدامها ست شهور والدواء اللي بتاخده يقضي على خلايا مُخها خالص ، وقبل الست شهور دول لازم تكونوا متجوزين عشان نعرف نسيطر على أملاكها كلها .. فـ أنتَ هتسمع مني ولا هتطلع غـ.ـبـ.ـي زيها !!!!!!!
“سيذوبُ ثلجُ العمر يا ليلى
وحـ.ـز.نكِ لن يذوبُ
وسيسقطُ التّفاحُ على سريركِ الباكي
ورمّانُ الجنوب
والأرضُ تُسبِلُ راحتيها حين تُهرِمُ
روحَكِ الثكلى
ويكتئِب الغروب”
#لقائلهـا ….
•••••••••••••
جُملة من الصناديق الورقية المرصوصة بجوار بعضها البعض .. والممتلئة بالخضروات والفواكه بكميات كافية أن تفتح سوقا .. ثم أتت فردوس خلف اثنتين من الفتيات الحاملين صناديق اللحوم المختلفة .. أعدت صفية زيارة تليق بابنها العمدة والتي تتناسب بمقامهم وتهشيلا لابنة أخيها التي ستصبح كنية لها .. جاءت صفية من ورائهم :
-ها يافردوس ناقص حاجة نشيعوا نجيبوها ؟!
شرعت فردوس بعدّ كراتين الزيارة :
-لا ياست صفية .. خير ربنا كاتير ..ناقص بس يجي واحد من الولد يقلهـا ويروحوا لبيت الحج صالح ..
دارت صفية لتتوسل لابـ.ـنتها :
-يا هاجر شوفي لي أخوتك فين من الصُبح يا بتي مش واعية ولا واحد فيهم لا العريس رجع .. ولا التانيين جم ؟؟
جثت هاجر على ركبيتها تكشف عن تفاصيل الزيارة الضخمة وهي تفتش بفضول:
-اش اش ؟! ده كله عشان زينة يااما ؟! ليه دي واقعة من غير حاجة ..كلفتي روحك .
-وهو أخوكي شوية في البلد ؟! ده هارون العزايزي يجيب الدنيا كلها تحت رجلين مرته ..
ثم ربتت على ظهرها متوسلة :
-جدعة بتي رني لي عليهم .. الأربع رجـ.ـا.لة الأرض انشقت وبلعتهم !!
ثم نظرت لفردوس :
-وانت يا فردوس .. نادي على الولد يقلوا الحاجات دي تروح لصحابها ..
ثم صاحت متذكرة شيئا مهما :
-رني يابت على هارون خليه يجيب حلاوة معاه من البندر .. عقلك غاب فين يا صفية ..
انضمت لهم هيام التي تتمسك بيد مازن ابن نجاة التي تركته وذهبت لعملها بالوحدة الصحية الخاصة بالنجع :
-خير ياما ؟! ايه كل الحاجات دي ؟؟
صاحت هاجر بضحكة ساخرة :
-ماهو فرح العمدة عاد ؟! يابت المحظوظة يا زينة !!
ثم مالت على أمها ناصحة :
-حظها في السما لايح زينة عشان عندها عمة زيك ياصفية .. ماهي وسايط وأنا مين بس يتوسطلي ويجيب لي عريس كيف هارون أخوي ؟!
لكزتها صفية بغل :
-ما تتحشمي يابت !! لساته نصيبك مدقش الباب .. مستعجلة علي ايه ركزي في تعليمك ..رني على اخوكي وخفي رط .
-يعني مفضفضش معاكِ ياما ؛ وبعدين أنا هتخطب مـ.ـيـ.ـتى ؟! هو مفيش حد قايل عليّ ياصفية دانا بتك آخر العنقود وعاوزة افرحك ..
-لما ينكتب في السما ،هينزل على الخطاب العمى يا ضنايا ويچولك .
تأرجحت عينيها بذهول لإهانة أمها :
-هو أنا بتك ولا لقياني قصاد چامع ياصفية ، طب والله لاشتكيكي لأحلام هي اللي عتاخدلي حقي منك .
تدخلت هيام بينهم وقالت :
-هارون وهاشم محدش فيهم تليفونه مچمع ياما .. دا انا جاية اسالكم عليهم .
تشبثت صفية برأسها وشرعت فقرة النواح :
-ااه ياني على بختك المايل في عيالك ياصفية …
*************
وصل كل من هلال وهيثم لمنزل المرحوم أبو الفضل إثر تمسك الأخير برأيه .. يخطو هلال في زيه الأزهري ولكن كانت خطوات هيثم سابقة له .. دفع الباب الحديدي الموارب وهو يصفق مناديا:
-يا خالة أم رقية .. يا دكتورة ..
أمسك به هلال :
-صوتك صوتك .. اخفضه للبيوت حُرمة ..
رد الأخير بحماقة
-لا مفيش حريم غير رقية وأمها !! عقولك ايه أنا مش طايقك من ساعة ما حشتني عن ولد المركوب ديه كُنت لخبطت له وشه أكتر ما هو ملخبط ..
-لا تتنمر على خلق الخالق .
لوح بكفه متجاهلًا نصيحته وقال :
-مش هتنمر يا شيخ ، لكن هلعن سلسافيل أهله الضلالي ولد الحـ.ـر.ام دهوت ..
ضـ.ـر.ب هلال كف على الأخر :
-قالها سعد زغلول من قبل ” مفيش فايدة ” ..
كانت صفاء تجلس مع أختها على الاريكة الخشبية الملاصقة لحائط البيت وما أن سمعت صوت نداء هيثم شـ.ـدت غطاء رأسها وركضت مرحبة به :
-تعالى تعالى اتفضل يا هيثم .. نورتنا يا حبيبي …
هرول هيثم ليُقبل على كف تلك السيدة صاحبة الخمسين عام وهي تربت على كتفه :
-حبتك العافـ.ـية يا غالي ..
ثم امتد بصرها لذلك الشخص الذي يقف خافضا أنظاره بالأرض بتأدب فقالت متسائلة :
-هلال أخوك مش إكده !!.. يا مرحب بيكم .
وضع هلال كفه على صدره وانحني بتأدب ليعلن عدm رغبته بسلام اليـد متبعا السُنة .. تفهمت الخالة صفاء الأمر وقالت :
-ما تيجي اتفضل يا شيخ هلال .. دا احنا زارنا النبي .. تعالوا تعالوا ..
حدج أخيه بعتب وهو يتمتم بالصلاة على النبي بسره ويتبع خطاهم للحديقة الصغيرة المحيطة بالبيت الريفي.. سلم هيثم على الخالة حنان الجالسة ثم صافح ابنها صاحب الخمسة عشر عام والذي وثب لاستقبالهما .. جلس الجميع حتى انفعل هيثم قائلا :
-رقية ملهاش حق في اللي عملته ديه يا خالة .. يعني ايه متقولش أن بكر قل أدبه عليها ..وده كلام !! الحديت الماسخ ديه يحصل وفي حكم خليفة العزايزي !! ليه هي سيماا!!
تحسرت صفاء على حال ابـ.ـنتها وصاحت قائلة :
-هنعلموا ايه ياهيثم يا ولدي .. اتنين ولاية مكـ.ـسورين الجناح ..وهو مفتري ومش مبطل مرازية ..
في تلك اللحظة التي جاءت فيها رقية تحمل مائدة الشاي التي اعتدته لخالتها .. تفوه هلال الذي لم يرفع عينيه من الأرض :
-نحن حذرناه بالحسنى وباذن الله تعالى لم يتعرض لها بسوء والا سيجدنا أمامه.. اطمئني يا أمي ..
فتحت صفاء كفيها وهي تدعو له :
-يسلم فومك يا ولدي والله ما عارفة أدوي جميلكم فين .. هم وانزاح ..
فتدخل هيثم مكملا :
-لولا هلال منعني عنه كان زماننا هنصلو عليه العصر ..
أسرعت رقية في خطاها ووضعت الكاسات على المنضدة الخشبية ورمقت هلال بنفور :
-ومين قالك اننا محتاجين مساعدتك يا فضيلة الشيخ .. أنا عارفة أخد حقي كيف ..
برقت عيني أمها معترضة على اسلوبها الغير لائق مما جعل هلال الذي يصارع هواه كي لا يرفع عينيه لعندها .. تدخل هيثم لاختلاطه الزائد بها ومعرفته الجيدة برقية :
-واحنا روحنا فين ؟ مالك سايقة العوج أكده مش انا ماكد عليكي لو اتعرض لك تقوليلي بس .
زفرت رقية بامتعاض وهي تلقي نظرة خاطفة صوب تلك الاعين التي تحصي حبات الرمل تحتها وقالت :
-تشكر يا هيثم بس أنا مكنتش حابة اتعب حد معاي ..
شرع هيثم أن يعنفها معترضا على قولها فأمسك هلال بمعصمه ووثب معتذرا ومازالت جفونه لم تلمح الا طرف نعالها وقال :
-الواجب لا يتطلب صوت استغاثة يا أخت رقية وهذا واجبنا .. بدء من هارون أخي لهيثم .. نحن لم نفعل الا الواجب والمفروض ..
ثم مالت راسه نحو صفاء المحرجة من جفاء ابـ.ـنتها وقلة تأدبها :
-بالإذن يا أمي .. وأي خدmة نحن تحت الأمر والطلب ..
وقفت صفاء رافضة رحيلهم :
-على فين !! والشاي ؟ ده محدش في البلد كلها بيعمل شاي في حلاوة شاي رقية ..
اعتذر هلال بتادب :
-اعذريني يا أمي .. صلاة العصر أوشكت …
تدخل بدر ابن السيدة حنان الجالسة تراقب هلال بانبهار .. تتفقد نقاء ثوبه ورائحة الطيب والمسك الفواحة منه .. مسبحته التي تنخرط بيده .. وجهه الذي يشع نورا لحيته البنية التي تزيده وسامة .. فقطعه بدر قائلا :
-لازما تقعدو وتشربوا الشاي .. ده واجبكم .. وكمان عندي سؤال يا شيخ هلال محيرني ومش لاقي له جواب ..
ثم نظر لرقية وأكمل :
-سالت رقية قالت لي متعرفش وهتدورلي .. ومش ععرف اتحدت معاك بالدرس ..
حدجته رقية التي هزمها ذلك الولد أمامه وقل من شأنها :
-بدر قولت لك هتأكد من الجواب وأقول لك .. سيب فضيلة الشيخ يلحق صلاة العصر ..
تبسم هلال بهدوء وهو يشـ.ـد المقعد البلاستيكي ويجلس فوقه ويده تناولت كوب الشاي الساخن وكأنه يُعاندها ، وقال :
-اجلس يا بدر .. ما سؤالك ؟
زفرت رقية بغـــضــــب إثر عناده وتجاهل كلامها فعقدت يديها أمام صدرها بحنق واخذت تهز ساقها بتـ.ـو.تر إثر هزيمتها الملحوظة امامه .. فهمس لها هيثم :
-أنتو مش طايقين بعضيكم ليه؟؟هو عمل لك أيه عقدك منه !! ده هلال ديه بركة بيتنا .
فتمتمت له :
-هو اللي حاطط راسه براسي !!
برقت صفاء لابـ.ـنتها كي تصمت وتتأدب وتدخلت لتلطف الأجواء :
-اقعد ياهيثم واقف ليه ؟! وانت يا رقية روحي هاتي فاكهة للضيوف..
رفع هلال يده معترضا على رحيلها :
-دعيها تستمع لنا كي تستفيد …
همس هيثم لرقية ممازحا كي يضحك وجهها :
-استمعي له يا ستي ..
نظر هلال باهتمام للواد وقال :
-تفضل ..
-إمبـ.ـارح كان عندينا حفظ سورة يوسف .. بس في آية أنا مش فاهمها ..
-آيه رقم كام ؟!
فتدخلت رقية لساعد الولد وكتدخل منها بحوارهم الذي يشعلها فضول وغـ.ـيظا متعمدة احراجه :
-الآيه 93 ..
بسرعة بديهة استحضر الاية بذهنه متفهما نيتها في احراجه وقال بصوته الهاديء بعد ما استعاذ بالله من الشيطان:
– اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ﴾
ثم تبسم وهو يتسائل :
-ما سؤالك يا بدر ؟؟
دmدm لها هيثم محذرًا بمزاح :
-بلاش تضـ.ـر.بيه في منطقته .. مش هتطلعي سليمة .. هيدشملني أنا وأنتِ .
أكمل بدر سؤاله الذي قطع رد رقية على هيثـم :
-هو ليه سيدنا يوسف مدعاش ربنا أنه يردله بصر أبيه .. لكنه قالهم خدو القميص وهو هيفتح .. اشمعنا القميص ديه !!
تسلطت أذان الجميع بفضول يريدون معرفة جواب هلال على سؤاله .. تحمحم هيثم الذي حك ذقنه متهامسا:
-الواد ده ما يحفظ وهو ساكت !! ليه الفزلكة دي …!!فكرك هيجاوب !!
غمغمت رقية بنبرتها الخافتة :
-مش عامل فيها شيخ !! المفروض يجاوب ..ويقنعنا .
هتف هلال احتراما لمجلسه مع الولد وهو يقصد بجملته صوت همهمة رقية :
-الصوت يا هيثم ..
ثم أكمل حواره مع بدر وسأله بهدوء يُدخل على القلب راحة لا توصف :
-أنت الأول عارف قصة القميص ده أيه ؟!
فتدخلت رقية من الخلف :
-مش ديه كان لابسه سيدنا يوسف يوم ما أخوته رموه بالبير!!
-أجل … لكنك تعلمين ما قصة القميص ولمن ينتمي ؟!
لكت الكلمـ.ـا.ت بثغر رقية التي انهت دراستها الازهرية عند المرحلة الإعدادية قبل ان تنتقل للمدارس الحكومية .. فلجات للصمت لتدع له الفرصة للحديث .. فسأله بدر :
-لمن القميص ؟
-صاحب القميص سيدنا إبراهيم عليه السلام .
اتسع بؤبؤ عيني الولد وهو يتساءل :
-وكيف وصل لسيدنا يوسف …
-قبل أن أخبرك بكيف وصل .. ساخبرك من أين جاء .. تتذكر وقت ما أمر النمرود بإلقاء سيدنا إبراهيم عاريا بالنار لانه تمرد على عبادتهم للأصنام ودmرها ..وأمروا بحرقه .
فأكمل بدر روي القصة :
-ووقتها خرج سيدنا ابراهيم من النار وبيده فاكهة ويقال أنها عنب ومرتدي ملابسه كاملة ..
أيده هِلال القول وهو يقول :
-الله يفتح عليك .. نزل عليه جبريل بهذا القميص وطنفسة ( حصير) من الجنة .. هذا هو القميص الذي توارثه كلٌ من سيدنا إسحاق ويعقوب الذي كان يخشى العين على يوسف .. وحوله لقصبة من فضة وعلقها بعنق ابنه كي تحفظه ..
ذهل الطفل مما سمع بملامح مشـ.ـدوهة حتى ربت هلال على كتفه واكمل :
-وقتها جيه جبريل لسيدنا يوسف وأمره أن يرسل له القميص ديه ، والسبب لان به ريح من الجنة لا يقع على مريـ.ـض إلا شفاه ..
كاد أن يقطعه الطفل ولكنه اوقفه بلطف واكمل :
-وفي قول آخر : ان القميص كان علامة ليعقوب لصدق اخوة سيدنا يوسف .. ودي كانت من معجزات يوسف ويعقوب التي لا يعلم اسرارها الا الله .. فهمت يا بدر !!
صاح هيثم فخورا باخيه :
-عليَ النعمة أنت مش هلال العزايزي .. ده أنت محمد الشعراوي بجلالة قدره .
ثم همس لرقية بمزاح :
-كسفتينا !!
-بس يا هيثم ..وبعدين هو قال أيه منا كُنت عارفة بس ناسية ..
رد مستهزءًا بها :
-أيوة منا خدت بالي !! رُقية اتلهي .
نهض هلال من مكانه متأهبا للذهاب وبعد ما تبادل التحية مع الموجودين قال:
-استئذن لصلاة العصر .. وأي أمر يتعلق بالمدعي بكر بلغيني يا أمي ..
ثم اخفض أنظاره بالأرض مغادرًا المكان على عجل تاركا الحيرة والغـــضــــب يحومان حول رأس رقية التي هُزمت في تلك المعركة الثقافية الدائرة بينهما كإنه يرد لها هزيمته عنـ.ـد.ما كشفت أمره واتهمته بالكذب من قبل …
•••••••••
~بالجبـــل .
بعد إلحـاح رهيب منهـا وإصرارها على الذهاب معـه حيثما يذهب بحجة أنها أتت لتكتشف تفاصيـل المكان ولست لتُسـ.ـجـ.ـن بين الجدران .. صف سيارته تحت سفح الجبـل وأكد عليهـا وهو يفصـل هاتفه من وصلـة الشاحن :
-هنزل أشوف الرچالة ، متتحركيش من مكانك مش عاوز حد يشـوفك ..
عارضتـه بتمرد :
-وفيها أيه لما يشوفوني !! هو أنا شَكلي وحش !
-وماله شكلك بس !!! ما تريحي راسك دي هبابة يا ستي !!
تأفف باعتراض ، فرفع كفه كي يجبرها على الإنصات إليه :
-مش عاوزهم يطلعوا سُمعة عليّ أن العمدة ماشي يتسرمح مع واحدة غريبة ..
-بس أحنا بنشتغل مش بـ.ـنتسرمح !! وبعدين عيب الكلمة دي متقولهاش تاني!!
رفع حاجبه على ضفة اعتراضه متذكرًا كلمتها التي لا تخلو من حديثها :
-هي دي الـ عيب !! الصبـر ياصاحب الصبـر .. سمعتي !!
-يعني هقعد محبوسة كـده فالعربية !! آكيد هزهق .
رد بجمود وهو يجلب من الخلف سلة ” السندوتشات ” التي لم تُكملها بعد :
-لما تزهقي كُلي .. اتسلي في الوكَل ياستي .
-ولما اتخن ان شاء الله !!
انكـ.ـسرت عينيه بنظرة فاحصـة بدون رغبة منـه وهو يتفقد تفاصيـل جسدها الذي لم يتجاوز وزن الستين وقال بسخطٍ :
-أنتِ محتاچة تتعلفـي .. مش تاكلي زينا.
قال جُملتـه ورجله اليسرى متدليـة من السيارة متأهبًا للمغادرة ، أصابت الكلمة ملامحهـا التي انكمشت فجأة وهي تردد بصدmة بدmدmة :
-تتعلفي !! أحيه !! هو أنا بقـرة !!
ثم تمسكت بكفه كي ينتظر ليُجيبها قبل أن يذهب :
-استنى ايه تتعلفي دي !! أنتَ شايفني أيه !! على فكرة أنا وزني مثالي جدًا وكُل صُحابي بيحسدوني عليـه .. وبعدين في أسلوب أرقى من كده تتكلم بيه معايا ولازم تفرق بين معاملتك معايـا ومعاملتك مع غِيم !!
زحزحت ثرثرتها شيء ما ساكن بجوفـه لا يدركـه ولكن بدَ طيفه في تلك الابتسامة المخفية التي شع ضوءها على وجهه وهو يقول بنبرته المزيفـة التي آتت معاكسة لدواخلـه :
-سمعتي قولت أيه ما شوفش طيفك برة العربيـة .. مفهوم !
تأرجحت مُقلتيها بعدm اقتناع إثر تجاهله لحديثها واسئلتها السابقة التي تفتح بينهما دروبًا من الحوار وتمتمت :
-اوكيه …
هبط سيارته ورزع بابها بقوة .. ذهب إلى العمالة بالمحجـر فأوقفه رنين هاتفه من أحد معارفه المهمين بالبلد .. رد مُرحبًا بالرجل كإنه كان منتظرًا هاتفه على أحر مش الجمر .. فأردف الرجل قائلًا :
-هارون بيـه ورق هيثم أخوك عدى وكله تمام ومن أول الشهر هيستلم شغله في فرع البنك التابع له النجع ..
شكره هارون بعرفان إثر وفاءه بوعده لاخيه بتعينه بأحد البنوك المصرفيـة المتعلقة بمجال دراسته ، الخبر سرب نسيم الارتياح لمداخل قلبـه وجهر مناديًا ليحمس العمالة :
-شِدوا حيـلكم يا ولد الشمس قربت تغيب ..
لم تطق ليلة الانتظار بالسيـارة أكثر من ذلك ، راق لها شكل الجبـل والأحجـار وحركة العمالة بالمكان ، حسمت أمرها وعلقت ” الكاميرا ” برقبتهـا ثم هبطت لتلتقط بعض الصور الفوتوغرافية بالمكان .. سرحت في الخُطى هنا وهناك حتى لفت انتباهها صوت صياح هارون الأجهر وهو ينحني ليُعلم الفتى كيف يحمل القفة بالطريقـة الصحيح .. لفحها على كتفه ونصحه قائلًا :
-تحمل على كف يدك وكتفك مع بعض .. لو حملت على كتفك بس ضهرك هيتقسم .. فهمت ، يلا وريني هتشيـل كيف ..
لم تجـد نفسها إلا مبتسمة وهي تلتقط له بعض الصور المسـ.ـر.وقة متجاهلة وقوفها بمنتصف الجسر المخصص لسير العربات ، حذر الفتى قائلًا :
-شوف وراك يا عُمدة دي عتصـور ..
ابتدرت عيناه عند رؤيتها معاتبًا نفسه عن تلك الورطة التي تورط بها بكامل ارادته ، اندفع لعندها وهو يلوح بذراعه :
-أنتِ عتعملي أيه !!
ردت بعفوية:
-أنتَ شايف أيه !!
-شايفك عتصوريني !! و في مكاني من غير أذني يعني جريمة تانية ..
تركت الكاميرا معلقة برقبتها وقالت بامتعاض :
-واخد اذنك ليه أنا معايا كارنيه مزاولة المهنة !! تحب تشوفه ؟!
-يا صبر الصبـر !!
ثم عاد إليها آمرا :
-الصور دي تتمسح !
-ياسلام ؟! ليه بقى ؟!
-من غير ليه .. تتمسح ؛ عاوزة تصوري هاخدك المكان اللي تصوري فيـه لكن مش إهنه ..
استسلمت لرغبـته بدون اقتناع كما اعتادت وقالت بصوت خافت:
-هابقي اشوف !!
أصر على رأيه :
-قولت تتمسح ودلوق ..
فتحت الكاميرا مجبرة وشرعت في حذف الصـور أمام عينيه انشغال الاثنان بشاشة الكاميرا وإذن بعربة نصف نقل مُحملة بالرجـ.ـال آتيـه لعندهم باقصى سرعة ممكنـة فانحرف مقود السيارة عمدا جهة هارون الواقف مع ضيفتـه ، قبل الحدث بجزء من الثانية رفرفت جناحي عباءته الصعيدية حولها ليقطفها من خصرها النحيل كالزهرة من بستانها ويديرها بعيدًا عن الطريق لحمايتها تحت صوت صرختها المستغيثة باتت في لحظة تحت سمائه مختبئة بسياج صدره ومظلل عليها بعباءته التي كانت حصنًا لها من الأتربة وتلك النفوس الخبيثة المتعمدة أن تطولها .. فصلًا متكاملًا من الأمان كسا بدنها ؛ كفين متعلقين برجل اجتمعت به سمـ.ـا.ت الرجولة .. خيمة صغيرة للغاية حدودها بين ذراعيـه ومظلته الآمنة لقلبي الذي اعتاد الخــــوف .. أقل من دقيقة عاشت فيهـا كيف تكون شكل الحياة الحقيقية …
لم يلتفت لتلك الجميلة التي امتزج عطرها بعطره بقدر اهتمامه بهويـة صاحب العربة .. ابعدها عن حـ.ـضـ.ـنه وهي ما زالت مـ.ـخـ.ـد.رة بما حدث .. أين كانت وكيف جاءت لحـ.ـضـ.ـنه وما تلك المشاعر المضطربة التي ملأتها في ظرف دقيقة وأقل .. وقفت خلفه واضعة كفها على فمها من هول الصدmة وتراقبه وهو يصيح :
-أنتَ ادبيت !! مش تنتبه يا أعمى.
هبط خضر ولد سويلم من سيارته وخلفه مجموعة مع الخفر المُسلحين ، أدرك هارون ما حدث كان بقصد ونية عند رؤيته لهوية ذلك الشخص الناقم عليه دومًا .. شمر خضر أكمام جلبابه الفضفاضة وهو يقول بمكر :
-أحنا أسفين جنابك !! الوِلد لساته عيتعلم السواقة جديد .
وقف أمامه زائرًا بغـــضــــبه :
-وچاي تعلمه السواقة في مُطرحي !!
-لا چايلك أنتِ يا عُمدة .. التلاتين فدان اللي اشتريتهم قِبلي حلال عليـك وأنا مسامح ؛ لكن حق أخوي اللي ضـ.ـر.بت عليه نار في فرحه دي مـ.ـيـ.ـتسكتش عليها واصل !!
ارتاح وجهها عنـ.ـد.ما تذكـر فعلته السابقة التي جاءت منه كرد إعتبـ.ـار له وقال بمكر :
-وهو أنتوا اضـ.ـر.ب عليكم نار !! لا ما تقولش ؟؟ طب مفيش عيار طايش إكده ولا إكده رشق في حد منيكم !!
تحداه خضر بملامح لا تدل على الخير أبدًا :
-العيار الطايش بكرة نوجهوه ونعرفوه طريقه زين .. عشان يبقى صايب مش طايش..
حدجه بنفور :
-لم المساليب بتوعك واتقلع من إهنه .. عشان على قولك الطايش بكلمة مني هخليه صايب ..
قهقهه خضـر بخبثه المحيط بعينيه وهو يرمق ليلة نظرة شرانية :
-وماله !! الأيام بينـا يا ولد العزايزي !!
اكتفى هارون بنظرته الحادة التي زحزحت خطى رجـ.ـال خضـر وهو يدور ليفارق المكان هامسًا لابن عمه بخبثٍ :
-مين العصفورة الملونة اللي معاه !! هو العُمدة ناوي يلعب بديله ويلغي الأعراف بتاعتهم !!
حك الأخير ذقنه قائلًا :
-مخابرش ، بس هجيب لك قرارها ..
دار هارون لـ ليلة المحتمية بظهره ليطمن على حالتها فوجدها تتحسس درجة حرارة وجنتها المحمرة بأطراف أصابعها فسألها :
-فيكي حاچة !!
اكتفت أن تحرك رأسها يمينًا ويسارًا نافية أي عارض بها سوى جملة المشاعر المضطربة التي احتلتها فجاة عنـ.ـد.ما لامس قلبها نبض قلبه وكأن ” الواي فاي ” الرباني تشابك مع جهازه الذي خُلقه منه .. تمتمت بتوجس وهي تتشبث برأسها الصادحة :
-ممكن أروح للعربيـة ..
سار معها متبعًا خُطاها ثم فتح لها الباب قائلًا :
-اركبي ، أدي أخرة كلامي اللي ما عيتسمعش !!
ثم قفل الباب بغل محدثًا صوتًا عاليًا ارعـ.ـبها .. دار ليجلس بمقعده بالجهة الأخرى فوجدها تفتش بحقيبتها على علبة الدواء وطلبت منه كي يحضر لها زجاجة الماء من الوراء :
-ممكن تديني ميه !!
نفذ رغبتها فوجدها تهذى مع نفسهـا سرًا فسألها :
– في حاچة وقعت منك !!
-علبة الدواء اللي بعد الغدا ، شكلي نسيتها في الأوضة !!
ثم قفلت جفونها المتعبـة من صدح التـ.ـو.تر الذي يضـ.ـر.ب برأسها :
-انا ازاي نسيتها !
أشفقت عيناه على حالتها فسألها بنبرة حنونة إثر حال وجهه المرهق:
-دوا لأيه !! في أيه بيوچعك !
-ده دوا للتـ.ـو.تر العصبي اللي عندي ، ولو مأخدتهوش بحس بألــم جـ.ـا.مد في جـ.ـسمي ، هو بيخفف من الآلام دي ..
أمسك بعُلبة الدواء الثانية التي بيدها وقرأ الاسم ولكنه لم يتوصل لأي شيء ، أمسك بهاتفه كي يبحث عن اسم الدواء الذي تأخذه ولكنـه تراجع إثر رنين هاتفه الذي قطع مجال بحثه؛ رد باختناق :
-أيوة يا هيام ، عارف وفاكر أن في زفت فاتحة هتتقري الليلة وچاي ، قولي لصفية تبطل خوتة وتكِن !!
ردت هيام بلهفة :
-لا يا هارون أنا مكلماك عشان حاچة تانيـة ، بس مش هتنفع في التلفيون ..
-ماشي يا هيام .. لما أچي هفوت عليكي ..
قفل مع أخته ثم عاد لتلك المسكينة التي تتألــم بجانبـه فتراجع عن محتوى البحث وسألها :
-طيب قوليلي حاسة بأيه دِلوق يمكن أقدر اساعدك لسه الطريق للبيت عاوزله ساعة ..
ردت بتلك النبرة المتعبـة :
-الفكرة إني اتخضيت بس من الغـ.ـبـ.ـي اللي كان بيسوق وهيخبطني ، فـ جـ.ـسمي بيتعامل مع الخضة كأنها حالة عدوانية بيعبر عنها بالارتباك والألــم وكل مفاصلي تنبض وبتو.جـ.ـعني ..
فتح لها قارورة الماء وهو يسب خضر سرًر ومدها لها :
-طب خدي اشربي ميـة .. وطالما الموضوع نفسي مش حاجة عضوية يبقى أمره سهل ياستي .
تناولت زجاجة الماء من يده بكفها المرتعش وقالت :
-ازاي !!
عاد ليدير سيارتها ويغادر المكان :
-هوديكي أكتر مكان تريحي فيه أعصابك التعبانة دي وتصوري على راحتك ، مكان هينسيكي تعب اليوم كله مش الرجفة بس ..
•••••••••
“قد يَنسى المرءُ ليّاليه التي جَعلتْ مِنهُ رمادًا
لكن يُستحال أن يَنسى مَنْ أَوقدَ حرائقه بقلبـه ..
خرجت “نجـاة” من الوحدة الصحيـة بعد إنهائها لعمـلها بعد ساعات طويلة من التعـب ؛ تحركت صوب المكان الذي صفت به سيارة زوجها المتـ.ـو.في والتي ورثتها من بعده أمتدت يدها لفتح الباب ولكن سُرعان ما جاءت يد رؤوف من خلفها لتقفله ، دارت لترى هوية الفاعل فتحول صوت تمردها لشهقـة عاليـة وهي تتمتم حروف اسمه وتتقلب مُقلتيها يمينًا ويسـارًا .. فوبخته معترضة وهي تبتعد عنه خطوة :
-رؤوف أنت اتچننت !! چاي لحدت إهنه مش خايف حد يشوفنـا .
-ليّ ساعة واقف مستنيكِ تطلعي ، فكرك هتهربي مني لمـ.ـيـ.ـتى ؟!
ثم قطع تلك الخطوة التي ابتعدتها عنه وقال :
-چيـه علينـا الزمن اللي تخبي عيونك مني يا نوجه .
تأرجحت مُقلتيها المحملتين بالدmـ.ـو.ع وهي تتحاشي النظر له :
-عشان خاطر النبي بَعد يا رؤوف .. لو شافونا هتحصل مُشكِلة گبيرة .. لو ليـا خاطر عندك ..
استند بيده على نافذة سيارتها وهو يقر مُعلنـا :
-ليكِ حُب وشوق وخاطر يغرقـوا قلوب العذرا ويفيضوا .. لساتك عـ تسألي !!
قشعر بدنها من لذة كلمـ.ـا.ته التي لم تذوق شهد الحب إلا بسماعها منه .. ارتفع صدرها ثم هبط مرة آخرى وهي تتوسله بحـ.ـز.ن :
-رؤوف ، متعلقش نفسك بيّ ، روح اتچوز وعيش حياتك ، بنات العزايزة على قفا من يشيل .. سيبني أنا وولدي لحالنا ، أنا رضيت بنصيبي .
-وأنا عُمري ما هرضى أن يدي تتحط فـ حلال ربنا على واحدة غيرك ..
ثم رفع كفه بوجهها وأكمل بعجـزٍ:
-اسمعي يا نچاة، من الأول وأنا غِلطت في حقك وقلت لك إني مش عايز اتچوز دلوق ، كُنت مغفل وفرطت فيكي بيدي ، أنا هعيش عمري كُله مستنيكي لغاية ما تبقي لي على سنة ربك ورسوله .
خرت دmـ.ـو.عها وهي تتذكر لياليها الماضية التي تلوت في لهب الحُب الذي عاشته مع شخص لم تتمناه أبـدًا .. وقالت بضعف :
-في حاچات لو فات وقتها المناسب ما ينفعش تتعاد تاني حتى ولو فوتت العُمر كله وأنت مستنيهـا !! شطة كبريت ماينفعش تولعه مرتين .. انساني يا رؤوف .
ثم دارت ضهرها لتفتـح باب السيارة الذي قفله عنوة والدmاء تفور بعروقـه مُردفًا بقـوة :
-هي محاولة أخيرة ولو منفعتش ؛ ومن غير يمين يا نچاة لاخدك أنتِ وولدك من خشـم السبع .. فاهمة ..
ثم أخفض نبرتـه اللاهثة وأكمل :
-جهزي روحك هنتجوزوا قُريب …
تركها بعد ما رمى قذيفـته بمنتصف قَلبهـا وغادر ، أعلن عليها الحُب والحرب وترك لها نار و شرار الأمل التي لا يحرق غيرها .. قلوب مكوية بجمر الحُب الذي لم يكتمل ، حُب دق البـاب وما أن كنت تتأهب لتفتح له والشغف يملأك فجاة رحل ولم تجد وراء الباب إلا سراب !!
ولو سألتني عن الحب سأخبرك عن عدد القلوب المتحولة لرماد بعد رحيله .. عن معنى الخيبـة الحقيقية التي تجرعتها الروح عن هزيمتها منه !!
سأرتشف رشفة خفيفة من قهوتي وأخبرك بعدها عن عدد المرات التي ظننت فيها أنني نسيتك ولكن ما زال صوتك, وصورتك, ورسائلك, هزمتني العُظمى كلّ الأغاني التي تحكي عنا , القصائد التي كتبها أناس قبل أن يولد حبنا بمئات السنوات والطرقات الأماكن التي مررنا بها معًا ..
كل هذا مازال يهزمني ولكني نسيتك حقًا ..
لو سألتني عن الحب لأجبتك بأعين يفيض منها الدmع وشفاه مرتعشـة ، أنه مجموعة من الأوهام التي لا يمكننا أن نحيا بدونها..
•••••••••
إن أسوأ شعور قد يمـر على الانسـان ؛ هو عجزه .. عند الوقوف أمام و.جـ.ـعه وجهًا لوجه ولا يستطيع وصفـه .. لا يمكنه الصُراخ من شـ.ـدة تمزق روحه المتعبة والمشتتـة .
أنت تعلم أن الحياة رائعة وترى عيناك روعتها ولكنهـا قاسيـة جدًا عليـك .. ‏لا تستطيع إخبـ.ـار أحد كيف مضت أيامك وكيف أهدرت أجمل سنوات العُمر عبثًا وألــمًا !! حتى أنني فقدت أملي بالحُلم الذي تغذيت عليه حتى تحولت حياتي لأكبر كذبـة وددت التخلص منها بأسرع وقت ، حياة أساسها الحُلم لا واقع له إلا بمخيلتي ، كل شيء بها وهمي حتى أنا .. أشك في حقيقة وجودي لهذه اللحظة ..
رغم إني حاولت كثيرًا كي أجد نورًا خافتًا يُنير دربي المُعتم ولو كان مؤقتًا او مزيفًا .. وفي نهاية المطاف تصالحت تمامًا مع حياتي القاسية و أيضًا تأكدت بـ إنني خُلقت بلا حظ بلا نصيب يمكن أن يُسعدني بعد ، ولدت تعيسة ، أمر غاية القسوة ولكنني تقبلته و تجاوزته كما تجاوزت رغبة الحُلم الذي لم يكن يفارقني أبدًا .
تجلس فوق قمـة الجبل ؛ في ذلك المكان المميز الذي صلحـه هارون و.جـ.ـعله كمكان ترفيهي يزوره القليل من الناس .. استصلحه و.جـ.ـعله منارة مميزة بقلب الصحراء وكأنه قطعة من الجنـة ، خضرة وورود تحاصر المكان وخيم صغيرة .. نافورة من الماء تتوسط المكان تحاوطه الأنوار من كل صوب وحدب .. مكان مُعد بجميع المتطلبات الآدmيـة .. كانت تقف تُراقب الحياة من أعلى كطير حُر حلق بالسـماء كي يستمتع بجمال الحياة من بعيد .. تقف على الحافة بجفون مُغلقة وذراعين يطايرهما الهواء تتحدث مع رب الكون وتشكو له همها بصمـت لا يقطعه الا التنهيدات ..
كان يجلس على الطاولة خلفها يختلس لها النظرات من حين لآخر ، أمامه ثلاثة أكواب من بقايا الشاي الذي شربه وفنجانين من القهوة وعدد كبير من بقايا لفافات التبغ .. تركها مع نفسها كما اعتاد ان يفعل عنـ.ـد.ما يضيق به الحـال، دعها حرة مع الطبيعة بدون ضجيج بشري .. مرت ساعتين وهي بنفس الوضعية لا تتزحزح حتى أردفت جملتها الأخيرة بضعف وقلة حيلة :
-يا رب حِل كُل حاجة بقى عشان أنا تعبت أوي ..يارب أيامي الجاية تكون حلوة .
ثم دارت نحوه بخطوات هادئة وشـ.ـدت المقعد لتجلس مقابله وقالت بامتنان:
-المكان تحفة .. متتصورش أنا هديت ازاي ، في راحة متتوصفش هنا .. بجد شكرًا ليك لإنك ساعدتني ..
ثم سقطت عينيها على بقايا عيدان السجائر :
-على فكرة أنتَ بتدخن كتير أوي وده غلط على صحتك ..
-عارف !! بس مش چادر أبطلها ، حِملنا تقيـل وهي اللي عتنفس عن الواحد ..
عارضته الرأي :
-أنت بتشتري راحـة قريبـة وتعب بعيد ، صحتك أهم حاجة ..
اعتدل في جلسته وهو يسألها :
-على سيرة الصِحة لسه تعبانة!
تفقدت المكان حولها :
-لا خالص ، بالعكس عمري ما كُنت كويسـة زي النهاردة .. المكان هنا علاج حقيقي .
ثم نظرت في الساعة وجدتها السابعـة مساء ، فقالت بثقل متكئ على قلبها الذي يتنبأ بحبه :
-المفروض نتحـرك ، أنت مش عندك خطوبة السـاعة ٨ !! أنتَ نسيت ولا أيه ؟
شعر أن تذكره للامر يحتاج لسيجارة جديدة ولكنها تراجع عن إخراج من علبة السجائر إثر نظرتها البريئة التي لا ترغب في دخانها ، رمى العلبة من يده وقال :
-عادي ، لو خلصتي قومي يلا عشان أوصلك ..
لملمت حقيبتها بهدوء ثم تراجعت متسائلة :
-أنتَ مش مبسوط عشان هتخطب البـ.ـنت اللي بتحبها ولا أيه !! سوري على تدخلي بس أنا حاسـة إنك مش متحمس خالص ..
ثم غمغمت بفضول يتقاذف من أنظارها :
-أنتَ بتحبها !!
لملم أشياءه عنوة دون النظر لعينيها قائلًا بنبرته الجافة التي لا تعلم مصدرها الحقيقي :
-حب الحريم عـ يذل ، وأنا ما عاش ولا كان الـ يذلني..
سقط الهاتف من يدها مندهشـة من جُملتـه الأخيرة :
-أحيـة!! أومال هتخطبها ازاي وتتجوزوا ؟
رفع حاجبه متسائلًا بسخرية لتناقض حديثها :
-مـا أنتِ كُنتي هتتجوزي وِلد أبو العلا من غير ما تحبيه ..
خيمت الحسرة على ملامحها وهي تقول:
-أنا عمري ما كان قُدامي فرصة للاختيار كنت قدرت اختار ، بس أنت ليه تعمل في نفسك في كده ، ده ظُلم ليك وللبـ.ـنت اللي هتتجوزها .
وثب قائمًا وهو يُجيبها بإيجاز كي لا تعبث بثوابت قلبه أكثر من ذلك :
-أحنا بـ.ـنتجوزوا عشان نخلفوا ونسلنـا يعمر في الدنيـا .. لكن لو كُل واحد مشي ورا حديت قلبه محدش هيتجوز يا بت الناس !!
حملت حقيبتها ذات الماركة العالمية على كتفها وقالت بدهشة :
-أنت غريب بجـد !! هتقدر تخلف أولاد من واحدة مش بتحبها ؟!
لفح كتفيه بالعباءة وقال بنبرة مخالفة لهوى قلبه الذي يتعمد اغتياله كي لا يفتح له طاقة نور تنقلب عليه فيما بعد :
-ااه عادي ..
•••••••••
-بتعملي أيه !!
وصل سؤاله المكتوب إليها أثناء تصفحها بملل في مواقـع التواصل الاجتماعي ، ففتحت رسالته على الفور وكتبت له :
-ولا حاجة ؛ زهقانـة مـ.ـو.ت .. هتعرف تكلمني ؟
كتب لها على الفور :
-أمك صاحيـة ؟!
تفاعلت على رسالته بالوجه الغاضب وكتبت معاتبة :
-اسمها مامتك يا هاشم!!
استقبل غـــضــــبها ضاحكًا وهو يصلح جريمته الفادحة التي يقترفهـا ككل مرة :
-حمـ.ـا.تي صاحيـة ؟!
تأففت بضيق :
-اسمها طنت يا هاشم .. أنت لحقت تنسى من يومين قعدتهم في الصعيد !!
زفر باختناق وكتب لها :
-رغد !! سامية فين ؟!
-عندها صداع ونامت .. وأنا قاعدة لوحدي مش بعمـل حاجة !!
ارسلت له جملتـها الأخيرة فـ رد على الفور :
-بركة يا جامع .. أنت عاملة ايه !
ردت مغلوبة على أمرها :
-زي الزفت يا هاشم ، كل صحابي متجوزين وقاعدين مع بعض في الجو ده وأنا قاعدة لوحدي..بيني وبينك بلاد ..
شقت الضحكة ثغره فلاحظها سائق الأجرة الذي أتى به من المطار ، وكتب له كاذبًا ومواصلًا مسرحيته :
-معرفتش أجي لك أنا اسف ..فرح هيام يعدي وكله هيبقى تمام ..
-كنت عارفـة أصلًا ، وبعدين لما تقول كلام تبقى أده .. ممكن تروح مكان بعيـد وتكلمني !! نتكلم لحد ما أنام .
تحمحم بخفوت مُلقيًا نظرة سريعة على صاحبة العربة واكمل كتابة رسائله لها :
-هكلمك بس جاوبيني الأول؛ أخبـ.ـار الأوردر أيه !!
ثنت رُكبتيها واتكأت على الوسادة خلفها وقالت بضيق:
-اتقفلت منه ونفسي اتسدت وهقوم اقطعه كُله ياهاشم عشان تستريح .
تجمدت ملامحه المبتسمة عكس دواخله المتراقصة وهو يكتب لها:
-ولما أنتِ تقطعيه أنا دوري فين ؟!!
صدح برد الشوق بصدرها الفارغ من وجود حبيبها وقالت بحـ.ـز.ن :
-بجد أنا مضايقة ومتهزرش .. ومش عايزة أكلمك خلاص ؛ سلام هروح أنام …
صف السائق أمام منزلهم الراقي المتكون من طابقين .. دفع الأجرة ثم عاود الاتصال بها ، فـ أجابت على الفور :
-قولت لك هنام !! وبطل رخامة مفيش أعذار مقبولة .
فتح الباب الحديدي بالمفتاح الخاص به بحرص ، ثم قال :
-حتى لو قُلت لك انزلي افتحي البـاب .. باعت لك أوردر غير اللي كُنت هتقطعيه !
قفزت من فراشها غير مصدقة وهي ترتدي نعالها بسرعة:
-اوردر أيه ؟! أنت بتتكلم بجد !!
وقف أمام باب بيتهم الخشبي الضخم وقال بهمس :
-افتحي يلا ..
ارتدت روبها الشتوي سريعًا وفتحت باب غرفتها بحذر وهبطت لترى مندوب الشحن كما أخبرها .. قطعت درجات السُلم بحذرٍ ثم هرولت لتفتح الباب فوجدته أمامها بهيئته الجذابة حاملًا عُبلة من الحلوى التي تفضلها بيده ، لم تصدق عينيها وهي تتفقده صارخة باسمه بعد ما ارتمت بين يديه :
-هاشم !! أنت بجد .. لا أنا مش مصدقة ، بتشتغلني !!
تركت رأسها تسقط على كتفه مغمضضة العينين .. ضمة زوجته التي قطع مسافات طويلة ليكون عندها ليوفي وعده الذي قطعه على نفسه ، لينعم بالسلام بين يديها .. تعلقت به ولا تود مُفارقته حتى تمتم لها :
-إحنا على البـاب ..
انفصلت عنه ولمعـة الفرحة تطاهي لمعة القمر فوقهم وهي تتنهد قائلة :
-هاشم أنا مش مصدقة !! كنت بتشتغلني!! طيب تعرف والله قلبي كان حاسس ومستنيك بجد ، بس أنتَ خيبت أملي !!
لم تمهله فرصه للرد بل ارتمت مرة آخرى بحـ.ـضـ.ـنه :
-انا مش مصدقة بجد !! الليلة هنام في حـ.ـضـ.ـنك آخيرًا ، متتصورش وحـ.ـشـ.ـتني أد أيــه .
قبل رأسها ثم وجنتها ثم انتقلت أنفاسـه لتدس القُبل دهاليزها القصير الفاصل بين ملكته ومملكته .. عنـ.ـد.ما لدغ دفء أنفاسه عنقها ابتعدت عنه محذرة:
-مامي نايمة !! اطلع بشويش وما تعملش صـوت ..
أخذت الحلوى من يده وباليـد الأخرى سحبته من كفه بعد ما قفلت الباب بحذر .. كانت تسير على طراطيف أصابعها وتهمس له ألا يصدر صوتًا بحرص حتى باغتها وانحني ليحملها بين يديه قبل أن تلمس أقدامه درجات السُلم ، وشوشت له بعتب :
-بتعمل ايه ، مامي ممكن تصحى وتشوفنا !!
أجابها بنفس النبرة الحذرة وعيناه تتقلص بالحذر:
-اشش عشان متعمليش صوت أنا عارفك .. بتمشي تخبطي في كل حاجة .
لفت ذراعها حول عنقـه بدلالٍ:
-هاشم !!
-عقله !!
ساومت ملامحه على القُبل وهي تقول بهمس :
-وحـ.ـشـ.ـتني !!
تمتم لها وهو يقطع درجات السلم بهدوء :
-مـ.ـا.تيجي نروح بيتنا وارجع لك الصبح !
-ده ليه بقا !!
همس لها معترفًا بأخطائه التي يمكن أن يقترفها :
-ما أنت عارفاني بحب أكـ.ـسر وأمك حاجتها غالية عليها .. وأنا جاي اتبسط مش اداين .
قرصت اذنه بلوم ووشوشت له بنفس النبرة المبحوحة :
-لا انتبه وخليك مؤدب ..
وصل بها لباب غرفتها المفتـوح ثم انزلها برفق وقفل الباب خلفه بالمفتاح فسألته:
-ليه كده !!
رد ممازحًا بلطفٍ:
-وأنا هستنى أمك لما تفتح علينا الباب !!
دفعته برفق وهي تترنح أمامه بغنج :
-وبعدين فيك مش هتتغير أبدًا !!! غير هدومك وهنزل أجيب لك عشـا أكيد مكلتش من الصبح ..
هَمّ بفك حزامه الجلدي رافضًا اقتراحها وقال :
-هنتعشى ولسه ليلنا طويل .. أنا جيت أهو عشان اقطع / قصدي أعاين الاوردر بنفسي .
ضحكت وهي تختبي بذراعه بدلعْ :
-هشوم لازم تاكل الأكل .. وسع كده من قدام خليني اخرج .
امتدت يدها للمفتاح وهي تسأله بخفـة :
-مامي عاملة فراخ محمرة تحفـة ، تحب أجيب لك صدر ولا ورك ؟!
كانت يده فوق الباب يمنع خروجها وباليد الأخرى التفت على خصرها ليُعلن رغبته فيها قبل أي شيء قائلًا بنبرته المغلفـة بالشـوق :
-وأنا ليـه اختار وأنا أقدر أكل من كله …!!
ثم غمغم بنفحات لهفته التي تتساقط فوقها :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  يا رغود وهواكِ جابني مجرور من قنا لعنـدك ..
•••••••••
~بقصـر العزايـزي ..
الجميع يبحث عن هارون وهاشم الاثنان ذاب في صحن الأرض فجأة ولم يبقى لهمـا أثر هواتف مُغلقـة ، اختفاء تام .. جهز الكل منتظرًا الذهاب لبيـت صالح العزايزي ولكن لا العريسان اختفيا .. صاحـت صفية بحسـرة :
-هنروحوا قراية فاتحة من غير عريس !! دي أيه الفاتحة الشؤوم دي ؟!!!
فتدخلت هاجر بيأسف:
-يا صفصف ، هاشم وهارون ولا واحد فيهم عيرد حتى ليـلة تليفونها مقفول !! هما راحوا فين من أول الصـبح لدِلوق ..
تدخلت أحلام المرتدية عباءتها السوداء وقرص الشمس الذهبي يتوسط صدرها :
-طب فين هيثم وهلال !! الاتنين خفى اترهم !!
جاء الحج خليفة مرتديًا جلبـابه الفضفاض ويستند على عكازه :
-يلا عاد ، مش هنتأخروا على الناس !!
شكت له صفية :
-ولادك الاربعة يا حج خفي واردهم ، وكيف هنروحوا من غير ولا واحد فيـهم !!
-وصالح غريب !! ده عارفهم أكتر مني .. يلا ياصفية بلاش نعوقـوا على الناس ..
سبقهم الحج خلفية فـ الخُطى ثـم ولت صفية مغلولة لهاجر :
-چربي تاني يا مقصوفة الرقبة!!
تمتمت باعتراض :
-وأنا مالي !! أنتِ غُلبك من الرچالة چاية تطلعيـه على هاجر !! الحيطة المايلة بتاعت البيت ديه !!
ثم مالت على آذانها :
-مايكونش ديه فعلًا علامـ.ـا.ت من ربنا يامـا عشان الچوازة متمش !! أصلو فين التيسير بالأمر على رأي الشيخ هِلو !!
دفعتها أمها مغلولة وهي ترفع ذراعيها نائحة :
-عاچبك عمايلهم دي يا صفية !! مش عارفة أحكم على واحد فيهم .. عملت أيه بس في حياتي يا ربي !! لا خير في البت ولا في الوِلد !
ثم نظرت لهيام الجالسة بهدوء بجوار نجاة وقالت لها بمدح :
-يكملك بعقلك يا بتي اللي جابرة خاطري ، أنا مخلفتش غيرك في أخواتك كُلهم .. خمس عيال عوضي عليهم منك يا رب ..
تأرجحت عيني هيام بتوجس لتُردف بهدوء لتُفجر قُنبلتها الأخيرة :
-ياما .. أنا عاوزة اطلق .
صاحت صفية بقهرة وهي تنوح على بختها المائل والاساور الذهب تصدح بيدها تُشاركها النغم :
-يا مرك اللي يتعبى فـ شكاير يا صفية … ليه يا ولاد بطني تعملوا في قلبي إكده !! أنا عملت فيكم ايه !! تعالى ألحقني يا حج خليفة ولادك هيقصفوا عمري …..
~بالخارج ..
يقف الحج خليفة مع الخفيـر جابر الأقرب لأفراد العائلة ؛ فهتف مبـ.ـاركًا :
-على خيرة الله يا حج خليفة !! أخيرا هنفرحوا بعمدتنا ..
فأكمل خليفة علي سجيته :
-وهاشم كُمان !! هنطلب يد نغم من خالها ونفرحوا بالاتنين في ليلـة واحدة …..
هلل جابر:
-يألف بركة يا عمدة !!أهو هو ديه الحديت الصُوح ….
~بمنزل أبو الفضـل …
قضت رقية يومها ولم يشغلهـا إلا سيرة الشيخ هلال ، بات حديثها المتبادل هي وأمها التي عاتبتها كثيرًا عن أسلوبها الجاف معـه والتي لا تحمل له مبررًا واحدًا … حتى نفذ صبرها:
-ما خلاص ياما عاد!! فُضينا من سيرته، من ساعة ما شوفتيـه وأنتِ مالكيش سيرة غيره!!
تنهدت الحجة صفاء وهي تتناول كوب القرفة الدافيء وتقول:
-الرچل روحه حِلوة ومتربي ومتنور ويعرف ربنا ، أهو ديه اللي الواحدة تنام جاره وهي مطمنة ..
ثم تمتمت بتمنى أن يكون من نصيب ابـ.ـنتها واتبعت بحسرة :
-يا بخت اللي هيكون من نصيبها ، أمها داعيـة لها!!
حدجتها رقية بمزاح :
-ومحدش بيدعي لبته قد ما عتدعي لي ياما ، متدعيش تاني عاد!! اخترتها اتجوز واحد يناديني يا أخت رقية !! أنا اخري واحد روحه حِلوة ومجلع كيف هيثم نقضوا حياتنا ضِحك !! لكن هِلال ديه ربنا يعينه على فكره..
عاتبتها أمها وصوت الباب يقرع بالخارة :
-عشانك فقرية ومعندكيش بُعد نظر … قومي شوفي مين !!
لفت حجاب رأسها ووثبت وهي تقول بضحك :
-يكش يكون أبو عربية مخبرة عاد تاني ..
-يابت اتلمي ، عيب عليكي .. شهلي يالا .
-چاية أهو ..
فتحت رُقية الباب ، ففوجئت ببكر وأمه وأخوته وزوجتـه مرصوصين أمام بابهم ، انفرجت عينيها تتساءل:
-خير اللهم اجعله خير !!
فتفوهت أمه فارحـة :
-وهو في خيـر أكتر من إكده !! چايين نطلبوا يدك لبكر ولدي زينة رچال النچع كله !!
صاحت رقية منادية على أمها :
-تعالي ألحقيني ياما !!!!
~~بالجبـل~~~
-حصـل أيـه طيب !!
أردفت ليـلة سؤالها إثر فشل كُل محاولاته في تحريك السيـارة ، أجابها وهو يعيد تشغيلها :
-العربية غرزت !! أنا أزاي مخدتش بالي!!
هتفت مذهولة :
-أحيـه !! مش أنا حذرتك !! حذرتك ولا لا !! قولت لك أنا عارفة الطرق دي العربيات ممكن تعرز فيها عملت فيها الولد الجـ.ـا.مد وأنتِ مع هارون العزايزي وادينا لبسنا المقلب يا هارون بيه ؟! أحنا هنفضل لوحدنا أنا وأنت هنا في وسط الجبل والديابة والليل !!
ثم التفت للوراء :
-وكمان بعدنا أوي عن المكان اللي كنا فيه !!
جهر غاضبًا :
-ينفع تسكتي لحدت ما اتصرف !! مش عارف افكر من زنك …
-والله !! يعني أنت الغلطان وكمان بتزعق لي !! أهو هو ده اللي فالح فيه !!
تجاهل ثرثرتها وهو يتفحص هاتفه ثم زفر مختنقًا :
-والشبكة كمان ساقطة !!
نظرت له بتحيـر :
-وهنعمل أيه فـ الورطة دي يا هارون بيه !!!!
أَلَيسَ اللَيلُ يَجمَعُني وَلَيلى
كَفاكَ بِذاكَ فيهِ لَنا تَداني*( تقارب)
تَرى وَضَحَ النَهارِ كَما أَراهُ
وَيَعلوها النَّهارُ كَما عَلاني
-قيـس بن الملوح .
•••••••••
-استنى ياما .. مفيش حـد هيعتب دارنا، خصوصًا ولو چايين من غير معاد .
وقفت رُقية أمام الباب رافضـة دخول بكرة وعائلتـه داخل منزلهم إثر ارتباك السيدة صفاء التي اعتادت أن تُكرم ضيفهـا دومًا ، شهقت أمه لبكر بكفها المبروم حول ذقنـها :
-وه !! يا دي العيبة !! هي دي اللي عاوز تتچوزها وتدخلهـا وسطينا يا بكر .. دي لسانها متبري منيها.
لم تمنح رقية الفرصة لأحد كي يدافع عنها إلا نفسها ، وقفت أمامهم ببسالة جُندي لا يخشى المـ.ـو.ت وقالت :
-عليكِ نور !! أنا مش كد المقـام چايين لي ليه !! ولا هو الطمع والورث عمى عينيكم !! خد ناسك وامشوا يا بكر ..
تدخل بكر بعاصفة غـــضــــبه العاتية :
-ما تتعدلي يا رقية مالك سايقة وطايحة في الكُل ومحدش هامك .. ولا هما ولاد خليفـة العزايزي مقويين قلبك ؛ لا فوقي .. لا هما ولا عشرة زيهم هيقدروا يمنعوني عنك ..
تدخلت صفاء المرتعدة من الخلف والتي تخر دmـ.ـو.عها شفقة على ابـ.ـنتها :
-وهو الچواز بالعافـ.ـية يا ولدي ده حتى ما يرضيش ربنا ..
ضـ.ـر.ب على الباب بكل قوته وجهر بصوته المُرعد :
-وأنا مش هتنازل عن حقي ، وأنتِ بتاعتي يا رقية ذوق عافـ.ـية مفيش دكر خلقه ربنا هيلمسك غيري ..
كادت أن تعارضه ولكنـه قاطعها صارخًا كي لا يمهلها فرصة للرفض :
-أنا شيعت خبر لمجلس العزايزة وقولتلهم عندِكم كتب كتاب قريب والكُل مرحب مش هتيجي أنتِ وتسوقي العوچ ، وولاد خليفة لو شمو خبر هحسر قلب أمهم عليهم .. ولا تكونيش راسمـة على واحد منيهم !!
-أنتَ شكلك ادبيت وعقلك راح منك من البرشام اللي عـ طفحه .
نفذ صبر رقية من وقاحته وتجاوزه حدوده معها واهتهامها بالباطل ، فلم تجد أمامها إلا القُلة الفخارية التي تناولتها بلمح البصر كنت تتساقط قطع من فوق رأسه صارخًا بتو.جـ.ـع وهو يتمسك برأسـه ، صدح صوت صراخ النسوة خلفه كل منهن باهانتها المختلفة المسددة لرقية التي شفيت غليلها منه ، اشتعلت النيران بقلب أمه التي خلعت نعالها لتنتقم من تلك قليلة التربية التي تطاولت على ابنها البكري فتوقفت صفاء لتتلقى الضـ.ـر.بة عن ابـ.ـنتها وهي تنوح مستغيثة بالناس حتى صاح بكر بوجههن ورأسه يسل منها الدmاء :
-اكتموا ، ولا كلمة ، مسمعش حس مرة فيكم !!
ثم نظر لرقية التي تحتمي بأمها وقال مهددًا والشر يتطاير منـه لانها اهانت رجولته أمام أهل بيته :
-وديني يا رقية ما هعتقك والدm عندي تمنه دm .
•••••••••
-أنتَ هتروح فيـن !
بتلقائيتها المعهودة تشبثت برسغه وهي تتفقد المكان المُعتم حولهـم بنوبة من الخــــوف ، بات كل شيء مخيف ولم يتبقى إلا وجوده لتأنس به ؛ لا تعمل من أين جاءت بثقتها العمياء لتأمن لرجل غريب عنهـا ، رجل لا يجمعها به إلا صعوبات .. تأرجحت عينيه على كفها القابض على معصمه ثم انتقلت لجفونها المرتجفة وقال بنبرة هادئة ولكنها جافة :
-هنزل أشوف حل للورطة دي !!
ثم نزع لاسته وألقاها بالخلف مستعدًا :
-استعنا على الشقى بالله ..
ثم نظر بعيونها آمرًا:
-متتحركيش من مطرحك ..
هبط من سيارته مستعينًا بكشاف هاتفه ليفحص الإطارات المغروزة بالرمـل وهو يتمتم بكلل ويلعن غباءه لأنه مر من ذلك الطريق .. كانت تدور يمينًا ويسارًا للخلف وللأمام .. مثلمـا يتحرك كانت تتحرك معه وكأنه أصبح بوصلة قلبها التي ترشـ.ـدها في كل وقت ومكان ..
تحرك مبتعدًا عن السيارة وأخذ يلملم في أغصان الشجر المُلقيـة وجمعها ببؤرة واحدة بالقرب من سيارته ثم سكب فوقهم القليل من الغاز كي تُنير له الأرض وتخشى الذئاب ان تقترب منهم ..
لم يمهلها فضولها أن تتوقف عن مراقبته عند هذا الحـد بل فتحت الباب وهبطت من السيارة وهي تستفسر :
-ليه كده !!
لملم القش المتباعد ليقربه من موقد النيران وهو يقول بملل :
-الجو بـ.ـارد .. والديابة ماعتقربش من مُطرح فيه نار ..
رفعت حاجبها باندهاش :
-ديابة !!!
-اومال أنتِ فاكرة أيه ؟!
قال جُملتـه وهو يتحرك صوب السيارة ليُخرج منها العِدة المختصة بالجبل ليستعين بها في تخلص اطارات السيارة من الرمل .. تجاهلت كل شيء وشردت بالسماء فوقها :
-الله !! القَمر مُكتمـل !!
قالت ليـلة جملتها الأخيرة بحماس وهي تتفقد البدر المُنير في ليلة تمامه فوق رؤوسهم ، كانت رأسها مرفوعة تراقب القمر ونجومه غير مكترثة للظلام والصحراء التي تقع بها ، ثم اخفضت رأسها ونظرت له :
-عارف ده معناه أيـه ؟!
تحولت نظرته الاستكشافية وهو يراقب براءتها وعفويتها لنظرة أخرى جـ.ـا.مدة لا تهتم وقال بطبيعته الواقعية التي لا تعترف بشخصيتها الحالمة :
-انه وصلنا لنص الشهر !! هيكون أيه يعني؟!
أخذت نفسًا طويلًا وهي تعقد كفيها وراء ظهرها وقالت بأنفاس من الحرية :
-لا مش كده !!
ثم دنت منه خطوة أخرى لتشرح له وجهة نظرها :
-في أسطورة بتقول أن الإنسان لمـا بيتولد حياته زي الهلال بالظبـط بيكون لوحده تايـه في الكون بيـدور عـ نصـه التاني لحد ما يلاقيه فـ مكان ما ووقت معين .. فيـظهرلنـا قمر مُكتمـل زي ما بنشـوف …
ثم تراقصت عينيها ببحر عينيه المتدلية لعندها وأكملت بشغف شـ.ـديد مع نبرة أكثر هدوءًا عن الأولى :
– وعـارف ده معنـاه أيه !!! أن مع اكتمال القـمر مرة كُل شهر في اتنين عُشاق بيتجمعـوا .. ومع رجوعه لهـلال مرة تانيــة فـ اتنين عشـاق بيتفرقوا ..
حتى صاحت متأملة :
-يعني النهاردة مع اكتمال القمر في عُشاق جُداد هيتجمعوا .
-حديت فارغ ..
قال جُملتـه وهو يشـ.ـد الأدوات الحديدية ويرميها بالأرض مستهترًا بأساطيرها التي لم تتوقف عن الإيمان بها .. ثارت النيران ببدنها لتقليله من فلسفتها الحالمة :
-على فكرة ده كلام مهم جدًا ، الانسان مخلوق من الطبيعية يعني مصيره مرتبط بمصيرها ..
ثم رفعت سبابتها محذرة بانفعال :
-ولما أقول حاجة بعد كده من فضلك متقللش منها ، انت حر تصدق أو لا ، لكن ده مش يدي لك الحق تستهتر بكلامي .
تأفف مستغيثًا بضيف الصبر أن يملأه كي يتجاوز تلك الورطة بدون أدنى جرائم ، اكتفى بنظرة من مُقلتيـه وشرع ببدء عمله ، وعادت هي الأخرى لتحاور صديقها بالسماء متجاهلة وجود قمر أرضها الحقيقي ، وضعت كفها على قلبها مستردة حالتها الخيالية :
-يابخت أي قلب لقى حبيبه النهاردة والقمر شاهد على قصتهم دلوقتِ..-ثم رمقته بسخرية وأكملت – ده كلام عاطفي وصعب على اللي زيك يفهموه ، أنت أخرك تكـ.ـسر في الحجارة وترفع زلط .
بلع زلط إهانتها بضحكة طفيفـة وقال بنبرته الصارمة :
-خشي أقعدي چوة العربية وعدي ليلتك ..
سارت بخطوات طفولية وهي تضـ.ـر.ب الأرض بقدmيهـا ، فتحت باب السيارة وجلست بداخلها وأقدامها المتدلية تعبث بالرمل تحتها ، ظلت تراقبه بأعين متحدثة لم تعهـد الصمت الطويل.. شرع هارون بحمل الرمل بواسطة المجرفـة والعرق يتصبب من جبهته ، كانت تراقبـه بأعين متراقصة على ضفـة رجولتـه الطاغيـة المختلفة عن شباب المدنية التي تنتمى لها .. ظلت تقطم بأظافرها ثم قالت لتقطع الملل الذي يملأها :
-تعرف إني بحب الحكايات الخيالية أوي خاصة الحكايات اللي بيكون القلب هو الليدر اللي فيها .. أنا لما اشتغلت في الراديو ابتديت ببرنامج صغير كان مدته ربع ساعة ، كنت بحكي فيه عن قصص حُب شبه مستحيلة ، بس القلب انتصر في النهاية .
رمقها بطرف عينيـه مستخفًا بحديثها عن الحُب الذي يشغلها دومًا وتلك المشاعر العبثية التي لا يؤمن بها ؛ فقال وهو يواصل عمله :
-شايف أن فيه مواضع أهم وأفيد من الحُب والحديت الماسخ ديه تتكلمي عنه ، كله حديت فاضي يا ليلي بيشغل الفكر عن حاچات أهم !!
قفزت من مكانها مندهشة من جفاء وقسوة كلمـ.ـا.ته التي تنكر الاعتراف بالحب ، رغم أنها لن تتذوق حلاوته لتلك اللحظة إلا انها عاشته بين سطور الروايات والأساطير والأفلام القديمة التي تغرم بها ، جميعها مشاعر يحييا بها القلب وهو يتجرد منها بتلك البساطة !! رمت على مسامعه بأحد الجمل الشهيرة لبرنامجها السابق وهي تقترب منه لتعترف :
-” الحُب للقلب بمثابة وريــد جديـد يغذيه بالحيـاة ، فالمرء لا يحيا إلا عنـ.ـد.ما يُحب ”
بقلبٍ جليدي لا تؤثر فيه تلك النيران المنعكسة بعينيه المشتعلة للتدفئة تلقى تلك الجُملة بسخرية و جحـود ، أمسك بالمجرفة الخشبيـة الصغيـرة .. قائلًا باستهزاء :
-و هي دي الحكايات اللي عـ تاكلي عقول الناس بيها في الراديـو بتاعك !! وعايزة تطلعي بيها على التلفزيون.
تحول شغفهـا في حواره لكومة من الرماد ولكنها لم تيأس بعد بل فتح شهيتها أكثر على الحديث :
-ومالهـا الحكايات ؟! أظن أن ده الوقت المناسب عشان تعرف قيمتها .
ثم تجولت بعينيها في عتمـة المكان حولها :
-تايهين في وسط الجبل ، مفيش عربية و مفيش انترنت مفيش أي وسيلة لرفاهيـة العقل غير أنه يفتكر حكايات تبسطـه وتهون عليه الوقت !
ثم ترنحت من مكانها سريعًا لتقف خلف مؤخرة السيارة لتنتقل لمجلس أقرب إليه وأكملت بإصرار يجبره على سماعها :
-يعني لو رجعنـا لزمان .. زمن الملوك والحياة البدائيـة هتعرف أد أيه الحواديت والحكايات مهمة .. عندك مثلًا شهريار ، لأجل حدوتـة انهزمت القواعد والقوانين .. تصور ده مكنش بينام إلا على حواديت شهر زاد !!
ثم شـ.ـدت العصا التي تشغله عن النظر إليها من يده بحيوية وقالت :
-شفت بقا أنها شيء مسلي ومهم ومش زي ما أنت شايفها حاجة تافهه ، الفرق بس أنها عايزة رجل عنده قلب زي شهريار عشان يحسها !!
رغم عدm النظر إليها إلا أنه كان مستمع جيد لكل حيلها ومبرراتها التي فشلت في إقناع عقله الحجري كالصخرة التي تقع خلفهم .. دار إليهـا ليبقى على موعد مع تلك الأعين التي تنافس جمال نجوم الليل ، وبنبرة مبطنة بالسخرية قال ملاطفًا للأجواء :
-كلنـا كرجـ.ـا.لة عارفين أن الحكايات دي كانت مهرب لشهر زاد كل ليلة من شقاوة الملك !
تأرجحت تلك الأعين اللامعة بأعينه الثابتة التي أعلنت الاستهزاء من حديثها وأردفت بكيد أنثوي كي تنتصر للنهايـة في تلك الحرب التي أعلنها وقالت بعفويتها المعهودة التي لا تدرك وقع كلمـ.ـا.تها إلا بعد النطق بها :
-وليـه مـ.ـا.تقولش أنها كانت مهرب للملك عشان يداري بيها خيبته لغرض ما كلنـا كستات عارفينـه !!
تصلبت تعابير وجهه وهو يوجه العتب والغزل لعينيها المذعورتين التي أدركت للتو سُم قولها !! فكيف هرب منها اللفظ بدون رقابة حتى تناست نفسها، كيف تجرؤ على قول جملة فاضحـة كهذه ، شهقة مكتومة تابعت تأرجح مُقلتيها التي تغرق بنهر عينيه الثابتة والفاحصة عنـ.ـد.ما رفع حاجبه الأيسر على ضفة التساؤل غير مصدقًا بما سمعه من تلك الفتاة المرتدية ثوب البراءة وقال بتلك النبرة الخافتـة المبطنة بالاندهاش والتعجب :
-لغرضٍ مـا ؛ اللي هو !!!!!!!
شبكت يديها خلف ظهرها ونظرت له بحماقة كتلميذ بليد يهز رأسه في حصة الحساب وهي تُبلل حلقها الذي جف من لهب عينيه الذي يكسوها لتفر من حصار نظراته المخيفة التي تسدد الاتهامـ.ـا.ت والتساؤلات لعندها وقالت بتلك النبرة المتقطعة وهي تُشبر بسبابتها :
-أنـ اا .. أنا هستناك في العربية ….
أوقفها ندائه بفضول :
-خدي تعالي !! أنت فاهمة قُولتي أيه !
ردت بثقة :
-طبعًا فاهمة !! هقول كلام مش فاهماه يعني؟! أنتَ شايفني غـ.ـبـ.ـية .
-ايه معناته يعني؟!
ردت بتلك النبرة الممتلئة بالثقة كي تطوى دفتر جملتها التي تعني قصدها جيدًا وقالت بمكر طفولي :
-ان الملك هو كمان كان يهرب منها بدل ما يحكي ليها !! أصلو مكنش بيعرف يحكي حواديت زيك كده بالظبط !!
ذاب دهاء المحاميين في صحن حماقتها تلك المرة وقف أمامها ولا يمتلك ردًا كافيًا ليصف ما وصل له بسببها !! اكتفى بهز رأسه غير مقتنعًا مصدرًا صوت إيماءة مهزوزة ليعود لمباشرة عمله من جديد بعد ما صححت له مقصدها بدلًا من نواياه التي تأرجحت على حد الفتنة تمتم لنفسه متأكدًا :
-اه حواديت !! أنا بردو قُلت إكده ..
•••••••
-“النهاردة هكلم أبوكي قالها وروحي راحت ياني ”
دخلت ” زينة ” غرفة نغم التي تربتها فيها بمنزل خالها بعد وفاة أمها وأبيها وقد تكفل كل من صفية والحج صالح بتربيتها وتعليمها حتى وصلت لعمر الزواج .. كانت زينة تتمايل وهي تمسك بحمرتها التي تُلطخ بها فاهها وتتراقص أمام نغم الجالسة والشاردة بعالم آخر ، انفردت بحـ.ـز.نها لوحدها بين الجدران ، الأول أمها التي مـ.ـا.تت وهي تلدها والمرة الثانية عنـ.ـد.ما فقدت أبيها وهي في المرحلة الابتدائية وحتى نالت تلك الضـ.ـر.بة القاضية التي جاءت بعمر تدرك فيـه ما معنى الو.جـ.ـع وكيف يكون ..
ظلت صامته لا تُبادل زينة التي تعمدت كيدها لانها نالت مرادها الذي كانت تحُلم به وتراهن عليه ، جاءت أم زينة فنظرت لنغم التي لم يلحظ أحد حـ.ـز.نها وقالت بعتب:
-يا نغم يا حبيبتي ، لساتك مجهزتيش دول قربوا يوصلوا ..
ثم التفت لحـ.ـز.نها وهي تقترب منها وتربت على ظهرها بحنو :
-مالك يا حبيبتي !! وشك بهتان لي؟
تدخلت زينة لتجيب بدلًا عنها والفرحة تتقاذف من ثغرها كأن التي تجلس أمامها تمتلك قلبك من حجر صخري ولست قلبًا من لحم ودm وقالت باستهزاء :
-أصلو ياما نغم كانت رايدة هارون ؛ ولما عرفت انه رايدني اكيد زعلت .. قوليلها ان ده نصيب يابت عمتي والقلب وما يريد .
صفعتها أمها بتلك النظرة الخارسة وهي تربت على ظهر تلك اليتيمة التي لا حول لها ولا قوة بتلك الحياة الظالمة وقالت مواسية :
-متزعليش يا حبيبتي .. ده ربك عيجوز في السما قبل الأرض وأنتِ نصيبك لساته قاعد محدش هياخدو منك .. قومي استهدي بالله والبسي وانزلي استقبلي الضيوف معانا عشان محدش يحس بغيبتك ..
ركضت زينة نحو الشُرفـة مهلله كفرحة العبـ.ـيـ.ـط بملابس العيد :
-جم جم ياما ، الحقيني قلبي هيتخلع من مُطرحـه .. شكلي حيلو !! ناقصني حاچة ؟!!
هرولت الحجة زبيدة لاستقبال ضيوفها بعد ما جبرت بخاطر ابـ.ـنتها وقبلت رأس نغم تربية يدها التي مهما قالت لا تشعر بذرة من و.جـ.ـع تلك المسكينة ، فهما تربوا على أن الحُب والمشاعر كحمى الجسد التي تأخذ وقتها المؤقت وتذهب كإنها لم تمر من هنا ..
استقبلت زبيدة ضيوفها ، كل من عائلة خليفة العزايزي عدا أولاده بالإضافة إلى نجاة التي اصرت أن تأتي معهم وأول طلب لها كان هو رؤيتها لنغم التي أحست بمصيبتها وأرادت أن تشاركها همها .. صعدت نجاة لمواساة نغم ولتشاطر معها الحـزن الذي يقسم الروح قبل الظهر ..
جاءت زينة حاملة الشربات بشعرها المفرود والذي يغطي ظهرها وحمرتها الزائدة عن الحد ، فتفقد الجالسين متسائلة :
-هو هارون معاه تلفون برة!!
تفوهت هاجر بعفوية وثغر يملأه الضحك :
-لا العريس مچاش من أصلو ولا عارفين له طريق ..
-كيف الحديت ديه يا عمتي !!
لكزتها أمها بقوة ببطنها كي تصمت لتتدخل مبررة غياب أولادها المفاجئ :
-هارون جالو مشوار في سوهاچ ومعرفش يأخره وقالنا نيچوا إحنا بدل ما نأجلوا ، متقلقيش بكرة هيكون داخل طالع على بيتكم بس اللي ما يزهقش ..
تدخلت أحلام لتحسم الأمر :
-الحج خليفة بنفسـه چاي لك !! عاوزة أيه تاني !! ما تتكلم يا حچ !
استند العجوز على عكازه وهو يدور لأبيهـا طالبًا يدها بتأنٍ وهو يمد بالكلمـ.ـا.ت :
-يا حچ صالح ، أنا متأسف على الظروف اللي حصلت ، وغياب ولادي لظروف قهرية ، لكن اللي قاعد قِدامك ديه خليفة العزايزي اللي محدش يقدر يكـ.ـسر كلمتـه ..
ثم أشار خليفة لزينة التي تقف غاضبة والغـ.ـيظ يأكل قلبها وكأن الحياة ردت لها نفس الصفعة التي بادرت بها على قلب تلك المسكينة ؛ فقال:
-أقعدي يا بتي واقفة ليـه !!
ثم عاد لأبيها:
-أحنا كبرنا يا صالح وآن الأوان نلمو شمل الوِلد والبـ.ـنته ، أنا چاي أطلب يد زينة بتك لهارون ولدي الكبير .. ونغم وأنت في مقام أبوها لهاشم ولدي .. قلت أيه ..
-وهو في قول بعد قولك يا كبيرنا وهو في نسب يشرف أكتر من إكده .. نقروا الفاتحة ..
انفرجت عيني زينة التي لم تتوقع طلب نغم لهاشم والذي أخمد نار الشمـ.ـا.تة في قلبها لتتحول لنيران حقد ، نظرا الأختان لبعضهما بذهول وتصلبت ملامح وجههم حتى غمغمت هيام مدافعة عن أخيها :
-هاشم !!
ثم مالت على مسامع أختها وسألتها :
-هاشم عِنديه عِلم !!!
-ماعارفاش يا هيام …
دmدmت هيام بحسرة وعتب:
-هاشم ممكن يطربق الدنيـا فوق راسهم .. أمك عتعمل ايه ؟! هي ماعارفاش هاشم ونشفان راسه !!
أخرجت هاجر هاتفها لتراسل أخيهـا والجميع منشغل بقراءة الفاتحة لتكتب له تحت مظلة المزاح :
-مبروك ياعريس!!
ثم نظرت لأختها :
-تليفونه لسه مقفول …
هنا جاءت رسالة رقية لتستغيث بها :
-الحقيني يا هاچر ، بكر اتهجم على بيتنا ..
تمتمت هاجر بخيبة :
-ماهي كِملت !!
ثم انحنت على مسامع صفية التي تقرا الفاتحة معهم :
-أما ، ما ليكي عليّ حلفان الچوازة دي شؤم …
•••••••
تعلم أنك تخصني ، بشكلٍ من الأشكال أنت كُلك لي .. ضحكتك الجميلة التـي تُزينها بالقُبل المثيرة ، رفـة جفـونك ، عينيك بما تحويه من لهفة .. خطوط يديك التي تنفض غبـ.ـار الحُزن عني ، حـ.ـضـ.ـنك الدافئ ، كلمـ.ـا.ت الحُب والهمسات السرية بيننا . . كل هذا ملكًا لي ، كلّك مِلكاً لي يا رجل !!
تعلمت على ضفة حُبك كيف تكون الأنانيـة ، نعم أنانيّة بك وبحبك …
ختمت كلمـ.ـا.تها الساحرة وهي تمرر أناملها على معالم وجهه النائمة الذي يبتدر كالقمر بسماءه فوق ساقيها المثنيين .. انحنت كظمآن يريد أن يرتوي من بُحيرته العـ.ـذ.بة ، احتوت وجنتيه بكفوفها الرقيقة ورضت فاهه على القُبل التي تخلصها من لوعة الشوق شيئًا بشيء .. كانت قبلتها ذات أجنحة مُحلقة نحو وجهتها الصائبة ، مسددة الخُطى بأنها تُسكب بالمكان الصحيـح ، ومع الشخص المناسب والمستحق لها ، شخصٌ لا يهون عليه حُزني ولا يتركني يومًا فريسـة لانياب النـ.ـد.م لأنني اخترت ..
تلاقت ملامحهم المعكوسه وهي تُتمتم له بتلك النبرة الحنونة:
-تعرف ؛ أنا عمري ما كُنت رافضة الجواز .. دي حجة كُنت بقولها قدام الكُل لما يستغربوا إني عديت السبعة وعشرين وأنا لسـه متجوزتش .. أنا بس مكنتش شايفة قدامي حد مناسب ؛ لحد ما لقيتك قلبي اتنطط وقال لي هو ده يا رغد ..
ثم ختمت جملتها بقُبلة رقيقة تحت جفونه المنغلقة:
-وفعلًا قلبـي عُمره ما كذب عليـا ، وطلعت أنت الشخص اللي شقلب موازين حياتي ..
ثم تحشرجت الخيبة بنبرتها وأكملت :
-الشخص الصح والمناسب لقلبي ياهاشم ؛ بس للأسف كُل حاجة حولينـا هي الـ غلط ..
لمست كلمـ.ـا.تها وعاء قلبه المتيم بهـا وهو ينهض من نومته وليدور بجسده موليًا نحوها ، احتوى كفه وجنتهـا التي يترقرق فوقها الدmع وقال محافظًا على لهجته المصراوية :
-وأنا أوعدك أن كُل حاجة هتتصلح في أسرع وقت .. عارف إني مقصر في حقك وأنتِ متساهليش كُل ده .. بس لازم ت عـ.ـر.في إني مش عاوز حاجة من الدنيـا غير إني أكون معاكِ -ثم أمسك بكفوفها المثلجـة وأكمل-وأفضل ماسك الإيدين الحلوة دي لآخر عمري ..
لاحظ برودة أطرفها فانحنى لمستواهم وأخذ ينفث بداخلهم تارة ويقبلهم طورًا كي يدفئا ، كي يخبرهم بأنه هنا بجواره فلا داعي من برودة الغياب .. زين الحب ملامحها ورقص قلب من فرط حنانه ؛ فقالت بهمس :
-دي أهم حاجة ، إنك معايا وبس .. وكل حاجة هتتعوض .
ثم ختمت جملتها بنطق حروف اسمه بتـ.ـو.تر :
-هـاشم !!
قفل كفيه على كفيها المنطبقين كصدفة بحرية تخشى فقد لؤلؤتها ونظر بعيونها إثر نداءها ، فأكملت حديث بعد ما اعتذرت عما ستقول رغم مخالفة أوانه :
-مامي بدأت تضايق من الوضع ده .. وشايفة أن حياتنا دي مش طبيعية وهي قلقانة عليـا .. وكمان لمحت بموضوع الحَمل وأنا مبقتش عارفـة أرد أقولها ايه ..
ثم طالت النظر بعيونها كإنها تترجاه ألا يغـــضــــب:
-لو فتحت الموضوع معاك متضايقش ممكن !!
أومئ متفهمًا ثم قال :
-لو فتحته معاكي تاني قوليلها هاشم نفسه يخلف النهاردة قبل بكرة .. بس الظروف تتعدل ..
ثم رفع كفه ليمسح على شعرها ويضم رأسها لصدره وأكمل :
-تقدري تنزلي شُغلك من بكرة لو حبيتي .. أنا مش هكون معاكي أناني أكتر من كده يا رغد ، طالما هتعملي حاجة حابها كده كده مصاريفك كلها مسئوليتي .. بس أنا عايز أشوفك مبسوطة وبس .
الفرحة جعلتها تقفز من مكانها كحبة الفشـار غير مصدقة ما قاله :
-هاشم أنتَ بتتكلم بجد !! أنا سمعت صح .. أنت وافقت انزل شغلي يعني خلاص..
لا يمكنها إنكار دوره المهم بحياتها ، منذ أن اخبرته بأن دروب قلبها مُظلمة وهو لا يتوقف عن دور الشمس في إنارتها ، عنـ.ـد.ما روت له أن شبح الوحدة يرعـ.ـبها ومن حينها اعتاد أن يؤنس قلبها الخائف بألحان الحُب القادرة أن تحوله من بقعة سوداء لبقعة تحاصرها الفراشات لكثرة زهورها .. ارتمت بحـ.ـضـ.ـنه وهي تشكره بحب :
-أنت أجمد حظابط أنا شوفته ، بحبك ..
لم تمهله الفرصة كي يملأ رئته من رائحتها فركضت لتفتح الخزانة وتخرج منها شيء لم يراه من قبل وتقول بفرحة :
-انت ما شوفتش ده ، هلبسه وأجيلك حالًا ..
ركضت للحمام وهي تتراقص على مسرح السعادة استغل وقت غيابها عنه في تناول المقرمشات الموجودة على الطاولة حتى التفت إثر صوت فتح الباب وعيناه تفحصها تلك المُهرة المزينة بثوب مسـ.ـر.وقًا من جلد النمـر ، ترك الطبق الذي بيده واقترب منها بأنظاره المشـ.ـدوهة وهو يديرها تحت يده كالفراشة :
-ده تبع الأوردر !! ده أهم من الأودر كله ..
-أيه رأيك في ذوقي !! عجبك ؟!
ترنحت عيناه المدججة بالحب وقال :
-فاجـر ..
ثم ضاقت عينيه مُتسائلًا بخبث :
-ده بكام كدا !!
أخذت فترة على الرد للتذكر سعره وهي تعانقه بغنج :
-بـ١٤٠٠ ج بس ..
رفع حاجبـه مشـ.ـدوهًا :
-بس !! لا جيتي على نفسك ..!! طيب وده أيه مميزاته بقا ؟!
ثم امتدت كفوفه المتخابثة لاسفل ظهرها الذي يكشفه الفستان وهو يلهيها بالحديث المعسول وفجأه وهو يشـ.ـده بكل قوته لينشق لنصفين :
-يعني لو عملت له كله مش هيتقطع !!
شهقت معاتبة إثر تمزقه للفستان الذي ترتديه وتحرر ظهرها من آسره بأقل مجهود :
-هاشم أنتَ بتعمل ايه !!الفستان!!
بنفس نبرته الهائمة همس لها :
-سبيني أشوف شُغلي يا هانم …
•••••••
~عودة لـ ضيوف الجـبل والقمر .
انعقدت سحابـة الملل فوق رأس تلك العصفورة التي تختبئ بالسيارة بعد جريمتها الفادحة التي اقترفتها قبل دقائق .. عبثت في هاتفها الذي لا يلتقط أي شبكـة فلجأت لقائمة أغانيها المُفضلة المحفوظة على جهازها ، ربطت هاتفها بسيارته وأخذت تتفقد القائمة بحيرة حتى حسم مصيرها هارون عنـ.ـد.ما ظهر أمام السيارة ويعقد بمقدmتها حبلًا كي يحاول أن يجرها ، ظهر من خلف الزجاج بملابسه القطنية الداخلية ، سترة بيضاء بحملات عريضة تبرز روعـة تقاسيم ذراعيه المتضخمة بالعضلات المكدسة وبنطال بنفس اللون فضفاضًا وقطرات العرق تتصبب منه كما تتصبب منها النظرات عليه .. عادت لوعيهـا مدركة جريمتها الفادحـة لتنشغل عنه بشاشة هاتفها بدلًا من سمـ.ـا.ته الرجوليـة ذات الطباع القوية الصعيدية التي تُغري قلب أي إمراة .. حانت منها نظرة مسـ.ـر.وقـة تبعها سهمـًا صائبًا من المشاعر ضـ.ـر.ب جزءًا بقلبها لم تدركـه ولا تعي معناه ، الجميع فلاسفة في التحدث عن وصف الحب وعنـ.ـد.ما يلدغ قلبًا يحوله لطائر الحبـ.ـاري الذي يُضـ.ـر.ب به المثل في الحماقة والغباء ..
بدون رغبة منها وقع الاختيار على اغنية ” كامل الأوصاف” عبد الحليم حافظ وكأن وسامته والجبل والغناء تآمر على قلبها تلك الليلة ، صدحت كلمـ.ـا.ت الأغنية التي أدخلت الحماس على قلبها لتفتح معه أحاديث جديدة ؛ صدح صوت حليم الذي لفت انتباهه ولكن سرعان ما تجاهله وباشر عمله ، فاقتربت منها عارضة عليه المساعدة وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها :
-تحب أساعدك في حاجة .. ؟!
رد بفتور وتعب يكسـو صوته :
-تُشكري يا ليـلى ..
حكت جدار عنقها بيأس فأحمر مكانه :
-بردو ليلى !!
ثم أكمل دون الالتفات لها بإعجاب يُخفيه عنها :
-چدعة أنتِ يا ليلي ، عچبتني چدعنتك ووقفتك معاي في القسـم ..
-طبعا مش ذوق اسيبك وأخلع وانت طول الليل سهران بتذاكر وبتساعدني ، كده هبقي مش كويسة ، وأنا مش كده !! بابي علمني احفظ الجميل واللي يقدm لي خدmة اقدmله عشرة ..
رد واعظًا ومعارضًا على منطقها :
-مش صُح !! أوعاكي تعملي إكده ، الزمن ديه كله محسوب ، متديش حد أزيد من حقه ، الخدmة تترد بخدmة !! خلي في عقل عندِك متديش بعـ.ـبـ.ـط .. لانه محدش يستاهل يأخد أكتر من حقه..
أصابها الحماس في مقــ,تــل وهي تتلهف للتتعلم منه المزيد من النصائح التي تحتاجها كي تواصل حياتها وسط الذئاب البشرية ثم دنت منه وسألته بفضولها الذي لم يتوقف عنده أبدًا حتى ولو ستهد الدنيا إثر كلمـ.ـا.تها لست مهم ؛ المهم إنها تكـ.ـسر زجاجة الصمت بينهم بأعين مستمدة لمعتها من ضوء القمر فوقها :
-لمـا كنت جاية مع هيثم من الأوتيل ، اتكلمنا عنك كتير .. بين الكلام قال لي ، هارون ده حكايته حكاية ، ومن وقتها عندي فضول رهيـب أعرف أيه هي حكايتك ..
ايه هي حكاية عُمدة في السن ده ؟!
ثم وضعت مؤشر الحيرة المختصر في سبابتها فوق فمها وقالت :
-يعني كُل اللي اعرفه عنك إنك حضرة العُمدة وهتخطب زينـة اللي مش بتحبها عشان تخلف ولاد وبس ، بس حاسة أن حياتك فيها سر كبير لا أسرار .. ممكن تحكي لي على فكرة وأوعدك محدش هيعرف خالص ويبقى سر ، أحنا مش خلاص بقينا صُحاب !!
لقد سكبت ماء كاوية على جـ.ـر.حه ، فكيف يمكن أن يحكي لها بأنه بقايا حلم لم يتبقى منه أي شيء ألا الجسـد والنظرات التي تراه يحلق بالسماء دائمًا ولن تمسكه يداه ، توقف على شفا اهتمامها لمعرفته واهتمامها بحكايته التي لا يُشاركها إلا مع أحلام ولست كلها ، خزانة الحـ.ـز.ن مكدسة بالأسرار ، تحمحـم وهو يسير نحو موقد السيارة ليبحث عن شيء ما فلحقت به الخطى متبعة فضولها .. استندت على البـاب المفتوح منتظرة جوابه :
-أنا مستنياك ، جاوب يلا .. ولا أنتَ مش واثق فيا !!
تناول ما يبحث عنه من صندوق السيارة والذي أخذ معه سلاحه الذي رماه على مقعد القيادة بعبث ثم التفت لسؤالها كي يودعه بنظرة من مُقلتيه هاربًا من آسره وهو يخرج من السيارة ليقف أمامها :
-ما تسيبك مني وتقوليلي أيه قصة شريف أبو العلا وأيه وقعك الوقعة المنيـ.ـلـ.ـة دي!!
على سيرة شـريف امتد بصرها بعيدًا لتلاحظ شبح ما يركض نحوهم على ضوء القمر ، قبل أن تنطق ببـ.ـنت شفة صرخت مُشيرة نحو الشيء المُقبـل عليهما في الظلام وهي تتحامي بحـ.ـضـ.ـنه وسور ذراعه المتين يلتف حولها عنـ.ـد.ما أدرك من تلك الاعين الهاجمة عليهم بأنه ذئبًا ، بمهارة قتالية خـ.ـطـ.ـف سلاحه وصوب بعض الرصاصات بالهواء حتى أصاب هدفه ووقع فريسة لباقي الحـ.ـيو.انات والطيور ، ثم تدلى نظره لتلـك المرتميـة بحضـنه وبجانبه الأيسر وتحت جناحه وكأنها جزء متكامل من صدره خُلق منه أو جاء مُفصلًا على مقاسـه ، تأمل شعرها الذي يغطي وجهها وصدره يعلو ويهبض بأنفاس مسموعة كأنه يُرحب بصاحبة المكان قائلًا :
-خلاص مـ.ـا.ت .. متخافيش ..
افترقت عن حـ.ـضـ.ـنه ببطء ولا تُصدق ما حـدث لم تلتفت لخــــوفها ونوبة الذعر التي انعدmت كإنها لم تكن يبدو أن قلبها تصالح مع تلك الخضات التي تأتي به لعنده -لعند قلبه شريك رحلته بالحياة- ، تنظر لكفها الممسك بذراعه العاري وبأنظاره التي تُظلل عليها كالنجـوم وصوت ضـ.ـر.بات قلبـه الذي اخترق مسامعها ، لأول مرة تحـ.ـضـ.ـن رجل غير أبيها ويُسرب لقلبها الخائف أمان بحجم الرعـ.ـب الذي يحاصرهم في موقفهم كهذا .. فارقت حـ.ـضـ.ـنه معتذرة عما صدر منها والخجل يكسو ملامحها فكرر جُملتـه المؤنسة لقلبها :
-متخافيش ..
تطالعت له ولا تعلم لِمَ تتعمد إطا النظر بملامحه وقالت بتوجس :
-مش خايفة ..
صدقًا كيف تخاف وهي في صُحبة رجل مثله .. رد عليها ليُلاطف ملامح وجهها الخائفة كي تهدأ:
-هو ده الكلام ،ده أنتِ معاكِ هارون العزايزي ..
أطلقت ضحكة خفيفة وقالت بصوت خافت:
-مغــــرور أوي ..
-لازم .. مش اسمي مسمع بحري وقِبلي !!
رفع حاجبـه وقال جملته وهو يسحبها من كفـها ليدور للجهة الأخرى من السيـارة ويركبها بنفسـه ويقفل الباب خلفها ليطمئن عليها .. ثم انتقل للحبل المربوط بالسيارة وشـ.ـدها بكُل قوته حتى تحركت من مكانها وتفارق مكان الورطة .. فك الحبل وأطفأ النار المشتعلة ولملم أشيـاءه بهمة ثم عاد ليجلس بجوارها وعاد تشغيل سيارته تحت أنظارها المعجبة بسمـ.ـا.ته الجديدة عليها اول مرة تتيح لها الفرصة ان تكون مع رجل غير أبيها وشريف الذي يتخذها إطارًا تجميليًا لحياته ،ولانه نجح في إخراج العجلات إلى الطريق الأساسي هتفت لتشجعـه :
-لا براڤو عليك .. عرفت تحلها .
رفع حاجبه متفاخرًا ليُجيبهـا :
-حقي اتغر ولا لا ؟!
أجابته برقة وهي تملأ أعينها من النظر إليه :
-حقك طبعًا .. -ثم جاءت مقترحة كي يخفي جسده المحدث بقلبها فتنة -ممكن تلبس هدومك كده هتاخد برد ..
صف سيارته على جانب الطريـق وهو يقول :
-ياستي متعودين .
ثم مد يده ليتناول جلبابـه من الخلف وهو يقول :
-حلو عبدالحليم !!
عبرت عن مدى إعجابها بهارون في ثوب ذكرى عبدالحليم وهي تُعلي الصوت :
-هو يستاهل يتحب الصراحة ..
أشاحت منه نظرة استكشافية لتلك النظرات التي آثارت فضول رأسه وقال :
-طريقنا طويل لسه .. قوليلي أيه حكاية اللي ما يسمى شريف ..
قفلت نافذتها إثر خــــوفها الغامض عليه أن تطوله براثن الهواء البـ.ـارد وقالت مشتهية الحديث معه :
-ايـه رأيك احكي لك عني الأول .!
رفع ذراعه المُحمل بالعضلات وتأهب لقيادة السيارة على لحن حليم ولحن شكواها ، عقدت ذراعيها أمام صدرها واتكأت لتستريح على المقعد وهي تتذكر شريط حياتها المُؤلمـة :
-مامي كانت دكتورة في بداية مسيرتها المهنية ومحتاجـة تثبت نفسها أكتر ، سفر ومؤتمرات ومذاكرة .. وبابي كان ظابط في المُخابرات .. بحكم طبيعة شغله هو على طول مش معانا .. كُنت مع الدادة طول الوقت هي اللي بتراعيني ، وجدو بياخد باله مني وبيخرجني .. كل حاجة كُنا نعملها سوا .
ثم نظرت له بتلك الأعين الدامعة والتي تحمل فيض من الحـ.ـز.ن :
-جدو اتوفى وأنا عندي ١٢ سنـة ، كُنت راجعة من المدرسة وجايبه له الشوكليت الـ بيحبهـا لقيت كُل الناس لابسه أسود ، دورت على جدو زي المـ.ـجـ.ـنو.نة ، بس مش موجود في البيت كله ، وقتها الدادة أخدتني لأوضتها ونيمتني عشان متخضش ..
كفكفت تلك العِبرات المتساقطـة من مُقلتيها ؛ وزفر أوجاعها وعلى ثغرها طيف ابتسامة حزينة :
-كُنت بحبه أوي ، الوحيـد اللي كان يناديني غُفران ، لحد دلوقتِ مش عندي تفسيـر اشمعنا الاسم ده !!
نظرت له لانها أحست بأنه سيمل من أسلوبها المحـ.ـز.ن ، ولكنه باغتها بسؤاله الفضولي وهو يطالع الطريق أمامه
-كملي !! أنا سامعك .
ارتعشت شفاهها بابتسامة مُخزية :
-أول مرة حد يسمعني بعد بابي وجدو …!
كفكفت عبراتها وأكملت متجاهلة صدى وقع الكلمة عليه :
-خناقات كتير وصوت عالي بين بابي ومامي ، لسه فاكراها لحد النهاردة ، كانت المشاكل كُلها بسببي ، محدش فيهم عايز يضحي .. معرفش أيه حصل ؛ فجاة لقيت نفسي في مدرسة ” داخلي ” .. مفيش صُحابي ، مفيش بابي ولا مامي ولا دادة!! طيب بيتنا !! جدو !! الأيام كانت مرعـ.ـبة ، كُنت لوحدي مش بكلم حد وكل اللي يقرب مني أعيط لحد ما بقيت البـ.ـنت الوحشة …
صمت لبرهة تحاول إدراك كيف مرت عليها ستة سنوات بهذه المدرسة رغم ثراءها وأنها تحظى فئة مرموقة من العائلات إلا أنها كانت أشبه بقبرٍ دفن بداخلها كل شيء منها إلا جسدها ، أخذت نفسًا بهدوء وأكلمت :
-قعدت فيها لحد ما خلصت ثانوي ، مكنش عندي صُحاب ، كنت دايما ساكتة ، مش بتعامل مع بشـر لحد ما بدأت الحياة الجامعية بابي استقال من الشُغل وقرر أنه لازم يعوضني عن كُل اللي فات .. يصلح أكبر غلطة ارتكبها في حقي هو ومامي !! حاول كتير بس كان فات الآوان .. ومحدش بيدفع التمن غيري !!
ثم أخفضت صوت حليم الذي يقول ” آه يا ليل وآه عين ” ، وهنـا جاء صوت القدر الذي يزف حـ.ـز.نها الذي اجتمعا عليه ،ليل يشكو وعين تمطر .. شعور أشبه برغيف من الحـ.ـز.ن تقاسم بين قلبين كل منهما حاملًا نصف بقلبه وقافل عليه بألف مفتاح وعنـ.ـد.ما تلاقت الأنصاف فُتحت الأقفال من فرط انتظارها .. ختمت حديثها وهي تقول :
-زعلانـة لأن مش دي حياتي اللي كنت اتمنى أعيشها ..
رد ليشاطرها الحـ.ـز.ن الذي يدفنه بقلبه ؛ قائلًا :
-محدش فينـا عاش حياته اللي اتمناها يا ليـلىٰ .
••••••
~بمنزل أبو الفضل ..
لقد أبلغت هاجر أخيرًا هيثم أخيها الذي كان يرافق هلال جبرًا كي يحضر معه الدرس الديني اليوم بعد ما فاض به الأمر حول التساؤل عن تفاصيل ” الأخت رُقية ” و بما حدث لها وعن بدء معرفتـه بها .. وما وصل الخـبر لهما جن جنون هلال فجعله يُعجل في ختم الدرس الديني ويعود لمنزلها بصحبة أخيه …
يجلس الجميع بحديقـة البيت الصغيرة حيث هتف هيثم غاضبًا :
-وولد المركوب ده اتهوس چاي برجله لإهنه !! ورب الكعبة ما هحله المرة دي يا هلال .. ده ماعاملش حساب لحد واصل ؟
تدخل هلال الذي يتحكم بغـــضــــبه على قدر المستطاع :
-اهدأ ونحل الأمر .. كله سيُحل بأذن الله .
ثم نظر هيثم لرقيـة :
-رقيـة أنتِ كيف سبتيـه يمشي إكده ، يعني جيه اتخانق ومشي طوالي عشان أنا هكلم هارون قبل ما يعرف من المچلس .
شرعت رقية الجالسة بروي القصة على مسامعهم :
-انا فتحت الباب لقيتهم في وشي كيف القضا المستعجـل ..اترجفت ومعرفتش أعمل أيـه ؟
ثم نظرت لهلال الذي يتحاشي النظر إليها ولكنه يستمع لها بكل آذانه الصاغيـة فأكملت بنبرة متأدبة :
-وعشان قولتلهم معندناش بنات للجواز هاتك يا صياح ونواح كيف الحريم ..وامه هتبلغ عني مجلس القبيلة .
قرأ هيثم معالم وجهها التي ترتدي ثوب البراءة المزيفة والتي لا تليق بها وقال بخبث :
-رقيـة يعني أنتِ معملتيش حاچة واصل ؟!وايه خلاه يصيح وهاتك يا نواح زي الحريم!! اعترفي يا رقية..
-واصل يا هيثم وأنا في يدي أيه أعمله !! دانا غلبانة ..
تراقص شيء متحرك بقلب هلال يميل نحوها دومًا ترجمها عقلها شفقة على تلك المسكينة ولكن كانت عزيمته أقوى من أن تتبع هواه ويناظرها ، ارتسمت الضحكة على ثغر هيثم لانه قرأ انتقامها من المدعي بكر على وجهها واقترب وهو يناظر السيدة صفاء المغلوبة على أمرها وأكمل حواره مع رقية وهو يرفع قدmه فوق المقعد القصير مستندًا عليها بمرفقه :
-رقية معملتيش حاجة واصل واصل !!
رمقت هلال الذي يقبض على جمر غـــضــــبه وقالت بتهذب كأنها لم تقترف شيء :
-دشـ.ـدشت القُلة فوق نفوخه وراسه اتفتحت .
هتف هيثم شافيًا غليله :
-ينصر دينك ما تبردي قلبي من الصبح ، ده يستاهل زير مش قُلة .
هلال بفخر خارجًا عن صمته وكأنها أراحت قلبه المشتعل بغـــضــــب الانتقام وزاحت غُمته :
-الله يحسن ما بين يديكِ يا أخت رقية ..
ردت عليه فارحة بتشجيعه بعفوية :
-وأيديك يا شيخ هلال ..
ثم وجه هلال حديثه للسيدة صفاء متقبلًا جملة رقية ببسمة واسعة وأردف :
-يا أم رُقية سأحل أي شكوى قدmها أمام المجلس ..
فهتف هيثم منفعلًا :
-وانا هستناه يطلع عليه نهار عشان يروح يشتكي !! دانا هجيب خبره الليلة… ده صغرنا يا هلال قدام الكُل !!
••••••••••
وصلت عجلات سيارة هارون لقُرب النجع وما كان أن يأخذ يساره فقطعت سيارة ما الطريق عليـه وعاقت سيره .. صرخت ليلة محذرة :
-خلي بالك !!
فرمل السيارة فجأة وهو ينتظر هويـة من قطع عليه الطريق بضيق ، لحظات وتدلى شريف من سيارته وهو يقترب من سيارة هارون ويفتح باب السيارة جهة “ليلة” قائلًا بهدوء خلفه شيء كارثي مُدبر :
-لي لي ، انزلي عايزك ..
وعلى الجهـة الأخرى يدق الفرح بمنزل صالح العزايزي وتُرقع اصوات الرقص والغناء و الزغاريد من أفواه النساء .. تقف نغم بمنتصف السُلم ممسكة بيد نجاة وهي في حالتها الهستيرية تترجاها :
-ألحقيني يا نچاة ، أعملي حاچة .. أنا مستحيـل اتچوز هاشم !! اتچوزو كيف وأنا عاشقة هارون أخوه …
*****
‏عنـ.ـد.ما ألتقي بشخص قال لي يومًا كلامًا جارحًا، أحس أن هذا الكلام يقف بيني وبينه، وأني فعلاً لا أراه، ولا أسمعه…
الكلمـ.ـا.ت الجارحة تتحول إلى جدران عازلة، وليس بإمكان أي شيء أن يحطم هذه الجدران، أو يهدmها، لا اعتذار، ولا ابتسامـ.ـا.ت، ولا كلام طيب..
كذب من قال بأن الأيام ستُنسيك ؛ كلا الزمان خير شاهد على كُل ما مررنا بهِ .. الزمان يأتي ليؤكد أن كُل القرارات القاسية التي اتخذتها بالماضي فهي صائبة لدرجة كبيرة ..
“الزمان لا ينسيك حبيبًا ولا عدوًا ”
•••••••••••
قيــل :
أن ‏الحياة ستحطِّمك عدة مرات وقد لا تُنصفك أبدًا .. سترى أمورًا لا تريد رؤيتها، وقد تحـ.ـز.ن وتفشل وتُخذل من أقرب الناس لك، ولكن انهض ولا تفقد الأمل أبدًا فيجب أن تتجاوز خــــوفك، ونـ.ـد.مك، وهزيمتك، فإنَّ الحياة لن تقف لتُراعي حـ.ـز.نك، إمَّا أن تقف أنت وتكملها رغم انكسارك أو أنَّك ستبقى طريحًا للأبد.
لبت “ليـلة” طلب شريف الذي جاء عكس طبيعته القاسية معها بعد ما أخذت الأذن من هارون بالنظرات المتبادلة وكأنه اصبح وليـًا لأمرها .. قفلت باب السيارة خلفها وفي نفس اللحظة هبط هارون من سيارته وهو يشعل سيجارة ويسدد تلك النظرات الحارة لشريف الذي يتهامس مع تلك الفتاة وربما يحاول أن يقوم بعمل غسيـل مخ لها .. تفوهت ليلة بنفاذ صبر:
-أفنـ.ـد.م !! عايز مني أيـه ياشريف ..
شرع في تنفيذ الخطة التي رسمها مع أمها وهو يحاورها بكلمـ.ـا.ته الجميلة التي تدس السُم بالعسل :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  !!
-لا والله !! شريف أنتَ بتضحك على نفسـك ولا عليـا !!
اتكئ هارون على مقدmة سيارته وآذنيـه الحارس لها من مكر شريف تتبعهم ، حاول شريف الإمساك بذراعيها اللاتي عارضن ذلك حيث قال متفهمًا :
-ماشي يا ستي أنا غلطان .. وجاي أصلح غلطي أهو ، أحنا كل مرة بـ.ـنتخانق ونرجع ، أيه حصل المرة دي !!
كانت جملته الأخيرة بمثابة عود من الكبريت ألقاه في حقـل غـــضــــبها منه ، خرجت عن هدوءها معاتبة :
-وكمان مش عارف أيه اللي حصل !! أنا هقول لك اللي حصل يا حضرة الظابط، أنت شكيت فيا ، وصدقت الكلام اللي اتقال عليا من واحد أنت متعرفهوش ، وكمان قعلت دبلتي وأنا في بلد غريبة معرفش فيها حد ، وآخر تقليلك مني وأنك دايمًا شايفني فاشلة .. ده الغير المعاملة اللي زي الزفت وأنا بقول يابـ.ـنت عدي لكن أنتَ عمرك ما عديت حاجة .. وكل الفترة اللي كنا فيها مع بعض أنت فشلت تخليني مطمنة ..
ثم رفعت رأسها بتحـدٍ :
-شريف أفهم بقا ؛ أحنا مش هينفع نكون مع بعض لأن ببساطة أنا مابقتش عايزة خلاص حتى ولو أنت عايزنا نكمل ..
أحس شريف بتذبذب رجولتـه وتجرعه لمذاق الرفض أمام المدعي بهارون ، كاد أن يضـ.ـر.ب كلامها في عرض الحيط ويتركها ويغادر ولكنه تذكر المخطط الذي رسمته نادية ، تذكر أن المتبقي فقط ستة أشهر ليعيش في نعيم أملاكها.. انخفضت نبرة صوته التي كانت تحمل سُم نواياه وقال :
-ليـلة .. أنا مش هعرف أحب واحدة زي ما حبيتك ، أنتِ صح وكل كلامك صح وأنا بسبب ضغط شغلي بتصرف تصرفات غريبة، بس ده مش مبرر نسيب بعض بعد ده كله ..
ثم تطاولت يـداه لأول مرة لتُلامس خصلة من شعرها مواصلًا حياكة مكره :
-فرصة تانية وأنا أوعدك هتغيـر هتشوفي شريف واحد تاني .. حبيبتي أنا بعتذر لك ووعد مني مش هيتكرر .. ممكن تقلبي اعتذاري.. لي لي أنا بحبك .
ثم أخرج خاتم خطبة من جديد وقدmه لهـا وقال متأملًا وهو يواصل سحره بالأعين المخادعة :
-وده بدل اللي ضاع منك .. ها قـولتِ أيه ؟! موافقة ؟!
تسرب لهارون شعورًا بالسخط إثر عبثه بعقل تلك المسكينة ولكن ما باليد حيلة ، فهو لا يصح له أن يتدخل بأمر لم تقصده فيـه .. لم تنكـر “ليلة” أن طريقته الحنونة بالحديث أصابت مدخل الرِق بقلبها ، تخدر الغـــضــــب منه للحظة ، ابتلعت جمر كلمـ.ـا.تها المعارضة ولكن قلبها ما زال عاصيًا على الترويض ، لم يقتنع بتلك السخافـة رغم ميول عقلها ورضوخه ولكن للقلب أحكامه الخاصة ، ارتعشت شفتيها لا تعلم كيف ستتصرف وفي هذه الورطة استنجدت بذلك المجهول الذي ينقذها دومًا كمان انقذها من ظُلمة الطريق من قبل .. عجزت عن أخذ القرار المناسب فتمتمت بتحيـر :
-أنا هاخد الأول رأي حضرة العُمدة !!
تورد الغـــضــــب بملامح وجهه مندهشًا غير مصدقًا ما سمعـه :
-و ده أيـه علاقتـه بينا من أصلو !!
هـ.ـر.بت من حصار عينيه التي تُمطـر شواظٍ من نار ووقفت أمام هارون وهي تسأله مستنبعة قلب الطفلة التي تملأها برفقته :
-بما أنكم رجـ.ـا.لة زي بعض وآكيد فاهمين بعض .. سؤالي هنا ؛ هل في راجـ.ـل بيتغير يا هارون بيه ، يعني ينفع شخص كان شرير يبقى طيب !!
وقف شريف خلفها وبقيت هي تلك اللقمة الواقفة بين فكي الأسـد ، كل منهمـا يناظر الأخر بنظرات حادة تحمل لهب من الانتقام والتوعد ، عارض شريف ذلك العبث قائلًا :
-ليلة بطلي جنان مين دا عشان يحكم عليـا !!
تجاهلت ثرثرة شريف وسددت النظر لهارون الواقف كالجبل الذي لا يحركه ريح وقالت مترجية :
-ممكن تجاوب .. !! الراجـ.ـل فعلًا بيتغيـر ؟!
رمق شريف بأسهم الخسـة وعلى ضفة دهاءه ابتسامة طفيفة مستمتعًا بالحرب الدائرة بينهما :
-والله اللي أعرفه أن ديـل الكـ.ـلـ.ـب عمره ما هيتعدل ؛ والكـ.ـلـ.ـب ده لامؤاخذة دكر يعني راجـ.ـل .. يعني الاتنين مفيش منهم رجا أنهم يتعدلوا ..
كتمت ضحكتها إثر تلك الطريقة التي يتحدث بها وثقتها القوية بنفسه وقالت بتوجس :
-يعني أنا صح !! مرجعش لانه عمره ما هيتغير ..
قبض شريف على رسغها بعد ما فاض غـــضــــبه ليديرها عنوة :
-أنتِ اتجننتي !! أيه الهبل ده .. دا أنتِ شكل الأدوية اللي بتاخديها طيرت آخر ذرة عقل في دmاغك .. أنتِ نسيتي نفسك !!
لم تكد تتأوه من قبضته وصوته العالي الذي استرده مع أول تصرف منها من تصرفاتها التي يبغضهـا ؛ سحبها هارون بلطف من يده ليكون هو السد المنيع لها من أي عواصف وقال مهددًا :
-أنا من ساعة ما شوفتك وأنا حايش نفسي عنك علشان ماليش حق ادخل ، لكن دلوق أظن حقي ..شكل قعدتك معانا معلمتكش حاچة ، بس عندينا اللي يده تتمد على حرمة يبقى راچل لامؤاخذه ..
هنا ظهرت رأسها من وراء هارون والتي تتحامى في ظل جسده وأكملت منتصرة :
-على فكرة اللي حصل ده كان اختبـ.ـار ليك يا شريف بيه ، وأهو اللي خايفة منه حصل ، مع أول موقف مديت اديك وعايرتني بمرض مليش ذنب فيـه ، شوفت بقا أنك عمرك ما هتتغير .. امشي يا شريف وانساني ..
تراجع شريف خطوة للخلف وهو يشير بسبابته بعدmا سقط في بئر خدعتها الذي يليق بجُب نواياه وقالت بحنق :
-أنتِ فاكرة هينفعك !! عموما يا ليلة لينا بيت وأهل كلامهم يمشي علينا .. مش واحد زي ده !! خليكي فاكرة إني جيت لك وأنت اللي بعتي واشتريتي واحد منعرفش أصله من فصله ..
يبدو أن قلة الثقة تتناسب طرديًا مع صفة التقليل من الغير .. فـ الشخص المهزوز داخليًا يـود أن يكون الجميع بنفس مكانته ، ثار هارون بوجهه :
-اللي قُدامك ديه لو مشتراش أصله وفصـله اللي يشرف أي حد عن رُتبـة وكام دبورة بيدوها للي زيك عشان يبلطجوا على الناس كان زمانك واقف قصادي تترعش .. اللي قدامك لولا انه بيفهم في الأوصول كان دفنك مطرحك ..
ثم قطع خطوة لعنده وأكمل بنفس النبرة الثابتة القوية التي يرتد صداها بخلاء الجبل حولهم :
-الأصل والفصل بتاعي واللي أنتَ متعرفهوش بيجبرني ما امدش يدي على واحدة ست ولا أقلل منها .. لكن الخسيس اللي زيك أبو أصل ، وفصل متعلمش فيه غير الجعجعة ومد اليد مايشرفناش انه يتحسب راچل علينـا ….
وقف شريف عاجزًا أمامه لا يستطيع النطق ببـ.ـنت شفة خاصه أنه غريبًا بمكان ومسقط رأس العزايزة .. ربط العجز لسانه وهو يتحاشى النظر لليلة ويقول لاهثًا قبل أن ينصرف من أمامهما
-خليه ينفعك ياليـلة ..
ولى شريف ظهره وقفز بداخل سيارته الشُرطيـة ، فهتف هارون بسخط :
-عيل رِذل !!
يتجلى الأمان فـ أدق أوصافـه عنـ.ـد.ما يحتمي قلب الأثنى خلف كتف رجـل لا يميـل حتى ولو انهار الجبل فوق رأسه فلا يُصيبك حتى غبـ.ـار هدmه لحرصه الشـ.ـديد كي تؤذي بمجرد النفس الذي يتغلل لرئتك يحرص على نقاءه…
“أن‏ سُنة الحياة أن يهرم فيها كلُّ شيءٍ إلَّا النَّوايا الطيِّبة وقوة الرجـ.ـال ، تَظلُّ غَضَّة .. بديعة .. زاهية .. ويبقى لصاحبها وسامة الأثر وكل الحُب له لوحده .. ”
••••••••••••••
~مرسى علم ..
مع فجـر صبـاح اليـوم التالي ..
يقف كُل من رغد وهاشم بالمطبـخ يجهزان وجبة الفطور سويًا بعد مرور ساعات الليل عليهما لم يزر النوم جفونهما إلا قليـلًا .. فرغت من صنع البيض المقلي كما عودهـا أن تفعـله مثل طريقة أمه .. كان يقطع حلقات من الخيار والجزر ثم جاءت لعنـده وطوقت ذراعـه بعد ما طبعت فوقـه قُبلة رقيـقة :
-لازم تمشي النهاردة !! خليك معايـا وارجع بكرة مش هيجرى حاجة يا هاشم .
-حِنة هيام بكرة وأنا لازم أكون موجود ..
فهبت مقترحة :
-طيب أجي معاك وقولهم زميلتك في الشغل وعزمتها على الفرح لو مش حابب تعرفهم عليا دلوقتِ ..
غمز بطرف عينيـه بدهاء ثم قطف من فوق زهرة وجنتهـا قُبلة وقال :
-طب أنا راضي ذمتـك شغلي هيكون فيه القمر ده كُله منين !! دا أحنا الحتة الطرية الوحيدة اللي بنشوفها في شغلنا بتكون أفعى ..
ضـ.ـر.بته برفق وهي تُعاتبـه بخــــوف :
-بعد الشـر عليـك ..
ترك الــســكــيــنــة من يده ودار لعندها ثم أمسك بكفهـا وقبل أطرافه وأكمل ممازحًا :
-وبعدين لما أقولهم إنك زميلتي في الشغل .. مش هقدر أشوفك قُدامي كُل شويـة من غير ما أخدك فـ حـ.ـضـ.ـني .. يبقى أنا جبت التعب لنفسي ..
طوق خصرها بذراعه ليقربها منه أكثـر وأكمل :
-مسألة وقت وكله هيبقى زي ما أحنا عايزين ..
هزت رأسها بقلة حيلة متقبـلة أمرها ومُرها معه وقالت :
-يلا عشان تفطر الأكل هيبـرد ..
شرع الثنـائي في رص الأطباق على السفـرة وبدأت رغد في سكب كاسات العصير وفي تلك اللحظـة ساد الظلام بالمكان وانطفأت الكهرباء.. لم يكد يجلس فوق مقعده فأردف ساخـرًا :
-هي ساميـة نسيت تشحن الكارت ولا أيه !!
ظلام مُعتـم خيم على المكان حتى الستائر الكثيفـة كانت تحجب أي شعـاع من النور يدلهم ، اغتنم هاشم الفرصـة مستخدmًا بوصلة قلبـه للعثـور عليها وهي لا تعرف كيف تتحرك ما لبث أن تدور فوجدت نفسها بين يديه .. تملصت من قبضته بعتب :
-هاشم !! متهزرش أحنا مش في بيتنا !!
-وهي فين المشكلة ؟!
-مامي ممكن تنزل وتشوفنـا ..
-وهو في حد شايف حاجة فـ الكُحل ده !!
رغم ليلتهم المليئة بالحب و برغم إنه قضى تلك الليلة بين ألفِ قُبلة وحـ.ـضـ.ـن إلا أنه لم يكفيه ذلك باغتنام تلك الفرصة التي يشعر فيها بوجود الحب ولست رؤيته ، فهو رجُل لا يفرط بفرصـة تجمعه بمن يُحب .. همس لها بصوت لا يسمعه سواهم وهو يبدأ معها جولة من الحُب الثائر بينهم :
-ت عـ.ـر.في إنك أغلى حاجة في حياتي !! ولو خيروني بين الدنيا كُلها وبين حـ.ـضـ.ـنك .. عارفة هختار ايه !!
استسلمت لسحر لمساته ودفء أنفاسها التي تُمطر كالفحم على قلبها فتدفئه وهي تُعانقه أردفت :
-ايه !!
دفن بؤره بركانـه المتقد بأبخرة الحب في جدار رقبتها وهمهمت ريح الحب من صدره قائلًا :
-هختار الدنيا كلها في حـ.ـضـ.ـنك ..
ضمته كأنها تلتقي به بعد عام من الغربة ، يبدو أنّها لن تتجاوز في حبـه لهفة البدايات أبدًا .. يبدو أن حُبها سيظل في مهده حتى بعد عشرات الأعوام .. يبدو أن قلبها سيحبه بهذا الاندفاع والحماس إلى الأبد ، أصدرت أنين حبه بصدره وهي تقول بهمس :
-يعني هتختار كُل حاجـة !
ثارت جيوش عشقه وهو يقول لها :
-عشان مش هاشم العزايزي متعودش يخسـر أبدًا .
-وأنا وقلبي عاشقين هاشم بيـه العزايزي ..
موجة عاتيـة من العشق ضـ.ـر.بت كيان الاثنين ، روحان في جسد واحد بنفس الخُطى بنفس الألحان المتناغمـة بينهمـا التي يعزفونها على وتر الحُب .. وكأن قلوبهم تتنبأ بالفراق الحتمي فأرادت أن ترتوي كيفما تشاء كان يحـ.ـضـ.ـنها كإنه آخر لقاء بينهما ، حركاته تتوسل لها بـ تُداوي قَلبه باللقاء كرمًا .. فَما له دواء غير لُقياكِ !! فـحـ.ـضـ.ـنك النصُ الذي عجزت الأبجديات عن وصفه .. لحظات مسـ.ـر.وقة من الزمن أصابت قلوبهم المُتيمـة بالسُكر حتى حلت الواقعـة فوق رؤوسهم بصوت الزجاج الذي تهشـم بالأرض فصوت صرخة مكتوبة صدر من شِدق “رغد” وفي نفس اللحظة عادت الكهرباء بعد العُطل الفني الحادث ، فصعقت مصدومة :
-هاشم !! الفازة بتاعت مامي اتكـ.ـسرت !! أنت عارف دي بكام وغالية على قلبها ازاي !!
حملها كي تؤذى أقدامها من فتات الفازة المهشمة بالأرض :
-ما قولت لك نروح بيتنا !!
ثم ألقى نظرة على فتات الفازة وعاد متسائلًا بعينيه الضائقة وهو يجلسها على المقعد :
-هي غالية أوي يعني !!
هزت رأسها بالإيجاب :
-اشترتها في مزاد ببـ.ـاريس من ٧ سنين .. أنا خايفـة من رد فعلها !! يالهوي دي ممكن تجرالها حاجة !!
رفع أنظاره لساعة الحائط هاربًا :
-أوباا ، أنا طيارتي كمان ساعتيـن .. لازم أرجع لصفية ..
-اخس عليك يا هاشـم !! بتخلع وتسيبني ؟!
اقترب منها ضاحكًا وهو يحملها بين يديـه قائلًا :
-ت عـ.ـر.في عني كده بردو !! إحنا نخلع سوا عشان نكمل كلامنـا ..
ثم ضاقت عينيـه بمكر محب وهو يلامس درجات السُلم :
-هتسأليني وتقوليلي أيه هو !! هقولك من قبل النور ما يجي بثانيـة إلا ثانيـة …
ما كاد أن يتجاوز لنصف درجات السُلم ففوجئ بساميـة تقف لهم على رأسـه .. تحمحم كُل منهما وهو ينزلها برفق هماسًا :
-مش وقت أمك خالص !! ايه صحاها ؟!
جزت على فكيها :
-قلت اسمها مامتك ..
-ولا وقت تناكتك .. أنا على آخري .
ثم تركها بعد ما ألقى بأذنها همس جملته وهرول نحو سامية التي مال على كفوفها ليقبلهما ثم نصب قامتـه ليعانقها :
-أحلى سامية ، تصدقي بالله أنا جاي من قنا مخصوص عشان حمـ.ـا.تي وحـ.ـشـ.ـتني ، لسه بقول لرغد تصحيكي تفطري معانا ، قالت لي عندك صُداع !!
ثم قبل رأسها وأكملت بحنوه المعتاد الذي يسبق به خصمه من النوع اللطيف :
-تحبي ننزل نشوف دكتور يا حبيبتي !
ابتلعت ساميـة غصة غـــضــــبها منه وربتت على كتفه :
-أنا كويسة يا حبيبي .. أنت جيت أمتى .
راوغ على فعلته المـ.ـجـ.ـنو.نة بأنه جاء من قنا مخصوص إثر إغراء ابـ.ـنتها له .. فقال :
-من شوية أصل عندي معسكر كمان ساعتين ، جيت اسلم بس على رغد وهطير .. وكويس إني شوفتك .. يا دوب ألحق أمشي ..
قبل رأسها مرة ثانيـة :
-ألف سلامـة عليكِ يا حبيبتي ..
ثم جهر بنبرته العسكرية التي يلجأ لها دومًا كي تُنجيه من أي فخ :
-رغد شوفي موبايلي شحن ولا لسـه !!
تابعت رغد خطواته هاربة من سطو نظرات أمها وقالت بتوجس وهي تخفي الضحك وهي تركض كي تهرب من وقع الجريمة التي اقترفها الاثنان قبل قليـل :
-هشوف جوزي يا مامي ….. الف سلامة عليكِ .
زفرت سامية بغـــضــــب مدفون :
-صبرني يا رب على الاتنين دول ..
••••••••
‏تعبث بك الحياة حتى ترُيك وجهًا قاسيًا لم تعتده، تُرّبي فيك غربة وأنتَ بقلب وطنك ، ويأسًا ضاريًا يحرق أحلامك وقلبك في آن واحد .. وأحيانًا تمـد يديها لك لتُراقصك على نغم تلك الأمنيات التي المحققة .. على لحن صوت شخص وجوده كافيًا أن يشعل قلبك بالحياة .. بل هو الحياة .. الحياة ذات وجهين ، وجه يهذبك والآخر يراقصك، مهما طال عُمر الأول حتمًا سيزورك غيث الثاني ليمحو شقوق ما مضى ..
لم تنم إلا ساعتيـن فقط حتى استيقظت على صوت رنين هاتفها من صديقاتها اللاتي لم يكُفن عن الاتصالات .. فتحت الكاميرا وشرعت في سرد تفاصيل يومها المكدس بهِ بذلك الرجل المغري لعقلها وكيف واجه شريف ودافع عنها ، ساعة والنصف قضتها “ليلة” في سرد قصة رجل يسمى هارون العزايزي .. تنهدت برئـه منشرحة وأكملت بفرحة :
-قولت له إنك عايزة أروح معبد الكرنك .. فكر شوية ، وبعدين قال لي نروحوا ..
ثم أكملت بحماس :
-النهـاردة هسجل أول حلقـة .. أنا متحمسـة مـ.ـو.ت بجد أنا حبيت الحياة هنا أوي ، مش عايزة الأسبوع يخلص .
تدخلت جوري في الحديث بعد ما نزعت ” ماسك ” النضارة من فوق وجهها :
-المهم هارون ده أيه حكايته ، يعني هيقضيها كتير كده مرشـ.ـد سياحي للاستاذة .. لي لي فين صورته .
ردت بيأس :
-معرفتش اصوره ، شكله مش بيحب التصوير .. بس كان نفسي تشوفوه امبـ.ـارح وهو بيرعـ.ـب شريف .. أول مرة أحس أني ليا ضهر كده من بعد وفاة بابي .. تعبت من إني لازم اواجه كل حاجة بنفسي .. هارون ده حالة خاصة لوحده ..
تفوهت عُلا بمزاح :
-ازاي بقا ، فهمينـا أكتـر ..
رددت بجهـل :
-مش عارفة أوصفه ، أوي لسه مش عارفة أحدد هو أي نوع من الرجـ.ـا.لة ، يعني شهم وراجـ.ـل أوي وجدع وكمان لما بتكلم بيسمعني ، كلامه قُليل مش بعرف أخرج منه معلومة واحدة .. بس مسيري هعرف ..
فتدخلت جوري بحماس :
-بصي أنتِ تقفلي معانا وترني عليه دلوقتِ تصحيه من النوم وتقوليلو يلا عشان نلحق مشوارنـا ..
عارضتها :
-ايه قلة الذوق دي ؟! لا طبعا هسيبه ينام براحته أنا مش رخمـة .
-يادي الغباوة ، يا بـ.ـنتي اسمعي مني .. صحيه عشان يحس أنك مهتمة وعايزة تخلصي شغلك بسرعة ، وطول الوقت فهميه ان وجودك هنا مؤقت وهتمشي ..
أجابت بإصرار :
-مستحيل، أنا قليلة ذوق عشان أصحيـه الساعة دي !!
ثم هبت مفروعة :
-أحيه !! أنا نسيت أقولكم أنهم المفروض قروا فاتحته على اللي اسمها زينة دي !!
كلاهن في نفس واحد :
-ايه !!!!!!
~ بغُرفة هارون .
بعد ما أدى صلاة الفجـر في موعدهـا ووثبت ليضع القليل من رائحة المسك بيده قبل أن يفركهما ويمسح على وجهه ، اتجه إلى خزانـة ملابسـه فغير مساره صوت رنين هاتفـه ، طالع الشاشـة بملل فوجد اسم ( زينة) ، تأفف ممتعضًا :
-وهي ناقصة خوتـة !!
سحب الشاشة وفتح مُكبر الصوت وهو يقول بنفور ويوصل مهامه بثقُل :
-خير عليكِ يا زينة !
هبت ملهوفة :
-خير !! خير وبس ده ألف خير عليك يا سيد الناس .. صحي النوم يا هارون .. إكده استناك الليل كله تحددتني وأنت متسألش ، طب في عريس مايچيش قراية فاتحته !
أخرج ملابسه الأجنبية التي لا تنتمي لأعرافهم الصعيدية والعُمدية عبـ.ـارة عن بنطال أسود وسترة شتوية سوداء ويعلوها ” جاكت” شتوي باللون البيـج .. ألقاه على السرير بملل و رد عليها متعمدًا قفل الحديث :
-ان شاء الله خير يا زينة ..
انتهت من وضع حمرة شفتيها وقالت بدلال :
-چاي الليلة على العشا أعملك أحسن وكل ..
-مش عارف يا زينـة !!
-لا ، لازمًا تچي يا هارون ، أنا دِلوق خطيبتك وكُل طلباتي مُچابة ..
نزع سترته الخاصة بالنوم و أجاب بملل :
-ربك يسهل يا زينة ، هخلص مصالحي وأشوف ..
انكمشت معالم وجهها :
-ومصالحك دي أهم مني ؟!
عض على شفته السفلية وهو يجلس على طرف السريـر قائلًا بضيق:
-وكل عيشنا يا زينة ، مش هنسيبوه ونقضوها سرمحة ..
-طب على مهلك عليّ ، ده چزاتي أني مكالماك أصبح عليك !
-تُشكري ..
تدللت وهي تتجه نحو فراشها :
-يعني مش هتقولي حتى مبروك يا عروسة !
-مبروك يا زينة !
هتفت بصرع من الفرحة :
-الله يبـ.ـارك فيك يا سيد الناس وعقبال ما أكون في بيتك وفي حـ.ـضـ.ـنك وشايلة اسمك وأم ولادك أنت نفسك أچيبلك كام عيل ؟!
تأفف باختناق فقلبه لم يتحمل منها جُملة إضافية :
-ياصبر الصبـر .. !!
ثم انخفضت نبرة صوتها :
-تعرف من إمبـ.ـارح والنوم مش مهوب من ناحيتي ، كل ما اتقلب إقده اتخيلك قَصادي واتقلب إقده اشوفك تضحك لي وتقولي بحبك قوي يا زينة ، الله بالحق عتحبني يا سي هارون كد ايه !!
رد بامتعاض:
-ما تقومي تنامي يا زينة، قِلة النوم لحست رأسك ..
ثم انسحب بهدوء ليحافظ على الجزء المتبقي من عقله :
-زينة معاي مُكالمة شُغل اقفلي من عندك دِلوق ..
قفل المكالمة قبل أن ينتظر ردهـا ثم رمى الهاتف بملل :
-چيب وچع الرأس لروحي !!
ثم امتدت يده وتناول الهاتف مرة آخرى وبحث عن رقم ” ليلة” المُسجل على هاتفه بـ ” الاستاذة ” وبدون تردد ضغط على زر اتصال ، كانت ليلة تحت سطو اقناع جوري بأن تهاتفه وما زالت مصرة على رأيها حتى جهرت مفزوعة عنـ.ـد.ما رأت اسمه على الشاشة :
-بنات العمدة بيتصل… قصدي هارون بيه بيرن اعمل ايه بسرعة .
صرخ الفتيات في نفس واحد :
-طبعًا ردي …
ألغت مكالمـته وقالت بوجهها المُحمر :
-لا مش دلوقتي .. حفظوني بس أقول أيه وبعدين هرجع أكلمه !
صاحت علا :
-انتِ عملتي ايه !!
-قفلت في وشه..
هتفت علا ممسكة برأسها :
-جوري ردي انتِ .. دي هتشلني .
تراقصت حواجب هارون باستغراب إثر إنهاء المكالمة الهاتفية ورفضها .. تحمحم ملتمسًا لها العذر فلم يخلق من يتجاهل مكالمته:
-تلاقيها نايمة !! وبعدين !!
نفض غبـ.ـار ما حدث ثم وثب ليبدل ملابسـه وبعد مرور برهة من الوقت عاد رنين هاتفه ، ربط حزام خصره الجلدي ونظر من أعلى على الاسم فتحير قائلًا لنفسه :
-ماهي صاحيـة أومال قفلت ليه !!
تناول الهاتف ووضعه على آذانه تلك المرة حيث جاءها صوته الرجول قائلًا:
-صحيتك !!
-طيب قول صباح الخيـر الأول .. الناس الطبيعية بتقول كده الصبح .
بصوت ترنيم عصفور مشاكس جاءت نبرة صوتها مهزوزة يكسوها التوتـر والارتباك وقلب مضطرب يبدو ذلك بسبب أول مُكالمة هاتفية بينهم ، تحمحم بخفوت وقال مستمتعًا بصوتها الذي يعزف بمسامعه :
-يسعـد صباحك يا ستي ..
ردت بنفس النبرة التي كانت تتحدث بها بالراديو :
-و أنت كمان .. أحنا المفروض هنخرج أمتى ..
رفع أنظاره للساعة فوجدها السادسـة :
-أنا لبست .. شوفي أنتِ قاعدلك كد أيه وتكوني جاهزه ..
قفزت فوق السرير وهي لا تعلم أين تذهب :
-هاه !! حالًا انا أصلا قربت أخلص .. انا صحيت من بدري وكنت بذاكر وكمان كلمت صُحابي البنات .. وكنت مترددة أكلمك ولا لا .. بس خلاص خلاص هجهر وارن لك مش هتأخر عليك ، تمام !
تعجب من نفضة صوتها وتجلجلها بالكلام وقال:
-محدش طاير وراكِ على فكرة !!
شُلت مدارك عقلها وهي تغسل اسنانها بالفرشاة و المعجون :
-يعني ايه ؟!
-يعني عـ مهلك ، بلاش تتسربعي .
-يعني ايه تتسربعي ؟!
مسح على رأسه مكتفيًا بتلك الابتسامة المخالفة لما يشعر به من جزعٍ برأسه :
-يعني خلصي وكلميني يا ليلـىٰ ..
مرت قرابة النصف ساعة فكان أمام المرآة أوسم شاب ثلاثيني يعد ترتيب ملابسه ويرتدي نظارته الشمسية ثم ينثر القليل من عطره المفضل .. غادر الغرفة فالتقى بهيام التي تتجول بالطرقة أمام بابها ، ما أن رأته ارتمت بحـ.ـضـ.ـنه :
-مستنياك من بدري يا حبيبي ..
ربت على كتف أخته بعد ما قبل رأسها :
-مالك ، فيكي أيه طب احكي لي ..
ابتعدت عنه وهي تتشجع لتروي له غصة قلبها :
-هارون ، أنا مش عايزة اتجوز ضيا .. أحب على يدك أعمل حاچة وبوظ الچوازة دي ..
عقد حاجبيـه باستغراب :
-ديه چلع عرايس ولا حصل حاچة من وِلد المحروق ديه !
هزت رأسها بالنفي وهي تقـول بحـ.ـز.ن :
-قلبي متوغوش ومش مرتاحة يا هارون ..
مسح على رأس أختـه بحنو :
-هيام ، سيبك من قلبك وعقلك عشان دي حاچات ما تحركش رچالة ، حصل حاچة من وِلد الـ دي !
أومأت بالإيجاب ففرت خصلت شعرها الناعمة كخيوط الحرير وهي تقول :
-أيوة يا هارون .. بيغلط فيكم كتير وفي أبوي .. وبيشرب وكذا مرة أحذره إني هقولك لو مبطلش بيسوق فيهـا ومفيش حد هامهُ ؛ هارون لو ليّ خاطر عندك فركش الچوازة دي ..
هز رأسه وبمعالم ثابتة لا تعكس ما يدور بداخل عقلـه ، قبل رأسه أخته وقال بهدوء تام :
-متفكريش في حاچة وروحي اجهزي ،عاوز أخت هارون العزايزي تكون أحلى عروسة ، وضيا أنا هعرف أشـ.ـده زين .. متعتليش هم ..
قاطعته باعتراض:
-بس يا هارون ..
حسم حديثهم إثر رنيـن هاتفه باسم ” الاستاذة “، ثم قال :
-متنكديش على روحك وعلي صفية .. أنتِ مش حكتي لي خلاص ، شوفي ناقصك أيه وخدي العربية مع جابر وأنزلي هاتيه …
•••••••••••••••••
مع دقـات السـاعة الحادية عشـر ظهـرًا .. تقف رُقية مع أمها التي ترتعـد من الرعُب إثر طلب ابـ.ـنتها بمجلس العزايزة إثر شكوى بكر عليهـا .. وقفت رقيـة أمام ذلك الرجل العجوز الذي يرتدي زيًا أزهريـًا وعلى يمينه رجل وعلى يساره رجل آخر ، وجه الأوسط سؤاله لديهـا :
-يا دكتورة رقيـة ؛ أنتِ من فعلتِ بالمدعى بكر فياض وأهله هذا !
نظرت لهلال الجالس على مكتبه الصغيـر بجواره منصـة المجلـس وقالت بثبات :
-حصل يا شيخنا ..
-ما السبب ؟!
تجلى حلقها وقالت بصوت لا يتزحزح :
-جيه بيتنا من غير معاد هو وأهله رغم أنه عارف أني رافضة الچواز منه .. وكمان اتهمني في شرفي في وسط دارنا ، والشرف دm عندينا حسيت إني لازمًا افوقه ..
تدخل بكر موضحًا الصورة :
-جنابك رقية بت عمي وحيدة ومالهاش حد ، والشرع والقانون عيقولوا أنها مش هتتجوز أيدحد غيري .. وطالما إكده نأجلو شرع ربنا ليه ؟!
غلت الدmاء برأس هلال والنائب عن أخيـه وقال معترضًا :
-يا مولانـا نحن نتعلم منك سمـ.ـا.ت الدين والأخلاق، وحديث الأخ بكـر صحيح ولا يُلام عليه ولكن عنـ.ـد.ما يتعلق الأمر بأن الفتاة أرادت أن تتجوز من شخص آخر غيره ، هنا يحق له فعل ما يشاء متمسكًا بحقه الجائر على قلب تلك المسكينة .. لكن الأنسة رقية لا تُريد الزواج من الأساس ، لِم الإجبـ.ـار والتعنيف !! لِم قذف المحصنات واتهامها بشرفها والفتاة لا تفعل أي شيء يهين العرف والقانون ، هي لا تُريد الزواج هذا حقًا لهـا ..
ثم تطلع لبكر بتحدٍ :
-وما اقترفه الأخ بكر يتنافي مع الدين والعرف ، وهو فرض نفسه على فتاة لم تُريده بدافع الأموال ، وهذه تهتمة جديدة يا سيدي .. خالف مقصد وأهم ركن بالزواج والشرع الذي يُبني على المودة والرحمة ولست الشجع والمطامع والأموال…
ثم رفع كفـه ذو الكم الفضفاض وجهر :
-وآخيرًا ، فالمدعو بكـر لم يكُف عن ازعاج ابنة عمه وملاحقتها بكل مكان ، ولقد ذهبت بنفسي لقعر داره وحذرته بالحسنى ولكنه أكمل في طريقه ، طريق البلطجة والتشبيح …
نظر الشيخ لبكر وسأله :
-ما رأيك بما قاله الإمام هلال ..
أخفض بكر رأسه وقال :
-رايدها وحاببها يا شيخنـا ، وعاوزها في شرع ربنا ..
غلت الدmاء بعروق هلال وهو يقبض على جمر سخافات بكر كالقابض على الجمر ، حيث اتبع جاهرًا :
-عذر اقبح من ذنب يا مولانا.. تلك المشاعر النقية لا يخالطها السب والقذف والتطاول على فتاة ضعيفة مثلها بهذه الحياة .. نحن هنا لنصرة الضعيفة ولست لإذلاله ..
نظر الشيخ لبكر بغل بعد ما تشاور مع طاقم التحكيم:
-تم رفض دعوة المدعو بكر فياض ، وعليه بتقديم الاعتذار لابنة عمه الدكتورة رقية ابو الفضـل ويمضي تعهدًا بعدm تعرضه لها بعد الآن …والزواج بينهما لابد أن يكون قائمًا بالتراضي بين الطرفين …
صاحت صفاء بالزغاريد لانها كانت مرتعدة من حكم مجلس المشايخ بأن يصدرون فرمانًا بزواج ابـ.ـنتها من المدعو بكر ، ضمت ابـ.ـنتها بين يديها وشكرتها بفخر :
-حبيبة قلب أمك ، ينصر دينك المرة الچاية عايزاك تقطعي خبره …
ربتت على كتف أمها ورمقته بسخط :
-ضـ.ـر.بني وبكى وسبقني واشتكى .. كان عشمان في الچوازة بس يستاهل ..
جاء هلال من الخلف ووجهه بالأرض :
-مبـ.ـارك يا أخت رقية ..
هتفت صفاء بامتنان :
-يسلم خشمك يا حبيبي ، لولاك كان وِلد الضلال بكر استقوى على البت ، يحرسك لشبابك يا هلال يا ولدي .. تشكر .
أخفض رأسه بعرفان :
-شكر على واجب يا أمي .. سانتظركم بالسيارة..
انسحب بهدوء تام وهو يتحاشى النظر لعندها إير ضـ.ـر.بات الفرح التي أصابت قلبه ، يا ترى لتبرئتها أم لصدور حكم نهائي بعدm تعرض بكر لها أم لانها ساعدها في محنتها وبرأ ذنبه من الكذب التي تقيد أنفاسه .. نظرت صفاء لابـ.ـنتها وهي تعاتبها :
-يا بت طب بُصي على الرچل واشكريه .. أنت باصة فين ؟!!!!
وضعت سبابتها بفاهها منتظرة رحيلـه فقالت بتـ.ـو.تر :
-ت عـ.ـر.في ياما ماعقدرش ابص في وشه ..
-ده ليـه يا ضنايا ؟! الرجل فلقة قمر وأخلاق واحترام ووشه سمح والنور عيفج من وشه .
قاطعتها بقلب متراقص من السعادة :
-لا ياما ، وشه منور ويوتر ايه حد ،ما عقدرش أرفع عيني في عينيه ؛ أنتِ فهماني طب !!
-يا مُري منك !!!
ثم ربتت على كتفها :
-يالا ياختي عشان منعوقوش عليه ، الرچل كتر خيره مهملناش واصل ..
••••••••••••••••
قرأ هاشم جُملة أخته المُرسلة منها أمس وهو بالطيارة ، فاستقبلهـا بالضحك الساخر وهو يقول لنفسه :
-البت دي قلبها حاسس بأخوها ولا أيـه ؟!!!
حتى عاد لمنزلهم مع آذان صلاة الظهـر في ذلك الوقت كانت السيارات تنقل عفشة أخته من بيتهما وخلفهم نسوة البيت ليرصون أغراض العروس ببيتها ، وصل البيت وهو ينادي على أمه التي ما رأته اندلعت الفرحة بأصوات الزغاريد ، فأجاب بدون فهم :
-بتزغردي في وشي أنا ليـه.. ماهي العروسة قاعدة هناك أهي !!
انضم الاختان لعنده ثم ألقت نجاة عليه التحية من بعيـد ، هللت هاجر فارحة وهي تصفق :
-وصـل ، عريسنا الحِلو وصل .. يا عريس يا عريس …
تأرجحت عينيه بعدm فهم حتى التفت لسؤال امه :
-أنتَ فينك من امبـ.ـارح يا هاشم !!
رد بثبات :
-مأمورية على السريع خلصتها ورچعت ، أنتوا مالكم !! وفين هارون عاوز أبـ.ـارك له ..
جاء هيثم من أعلى وما أن رأى أخيه أطلق صفيرًا قويًا :
-هاشم باشا وعريسنا حلو ، والنعمة حلو وعروستـه أمورة أهي !!
غمغم هاشم بشكٍ:
-هي العيلة دي مرفوع عنهم الحجـاب وعارفين أنا كُنت بعمل أيه في مرسى علم !!
ربتت صفية على كتفه بحنان :
-مبروك يا حبيبي .. فرحتى بيكم ما تتوصفش ..
-الله يبـ.ـارك فيكي يا صفية !! بس أنا مالي بردو ؟
تدخلت هاجر لتزف له الخبر :
-إمبـ.ـارح قرينا فاتحة هارون وزينة ، وأنت ونغم ..
-يالف نهار أبيض … يألف نهار مبروك .
ثم تأرجحت عينيه بالمكان غير مدرك ما سمعـه :
-انا ونغم مالنا ..مفهمتش ؟!
زفـه هثيم فارحًا :
-اتقرت فاتحتكم عقبالي يا رب .. قول آمين يا عريس .
-نغم مين وأنتو مين وأيه الچنان اللي أنا سامعه ديه !! ما تقولي حاجة ياما !! في أيه يا هيام ؟
كان يدور حول نفسه من وقع ما سمعـه ، لا زال مقتنعًا أنها مزحة من أخوته فقالت صفية ببراءة الذئب من دm ابن يعقوب :
-أبوك يا هاشـم ، قال البت يتيمة وإحنا أولى بيهـا والفرحة تبقى فرحتين وطلب يدها من خالك .. واتقرت فاتحتكم .
-أي وأنا فين ؟! أنتوا كيف تعملوا العملة دي من غير ما ترچعولي !!
عارضته صفية :
-ما أنت ليك ١٤ سنه غائب عن العزايزة ياحبيبي وحياتك كلها برة قنـا ، قلنا نختارلك إحنا عارفين البنات كلها .. أنت هتعرف منين !!
رفع سبابته رافضًا والغـــضــــب يتناثر مع حروف كلمـ.ـا.ته :
-صفية أنا مش عاوز اخطب حد ولا عاوز اتجوز من أصوله والفاتحة اللي اتقرت دي أنا معرفش عنِها حاچة .. ولا مسئول عنها .
ضـ.ـر.به هيثم على كتفه :
-ياعم هو حد لاقي چواز مـ.ـيـ.ـتجوزش!! متبقاش فقري .
تدخلت هيام باعتراض :
-أنتو كيف ما تاخدوش شورة العريس ياما !! لا مالكمش حق .. عاچبك إكده !!
فأكملت هاجر :
-والله قلبي كان حاسس أن هاشم ماعارفش .
صرخ بوجههم لينهي تلك المهزلة :
-صفية يمين تلاتة لو الموضوع ديه ما اتفركش ما هتشوفي وشي تاني .. بلاش تختبري صبر هاشم ولدك عشان أنتِ عارفاني ..
دبت على صِدرها بصدmة :
-وتكسـر كلمة أبوك !! يا دي العيبة ؟!
-وأكـ.ـسر الدنيا كلها ولا حد يلوي دراعي ويغـ.ـصـ.ـبني على حاچة مش عاوزها ..
ثم أشار بسبابته :
-تكلمي أخوكي دِلوق وتفهميه ، قوليلو هاشم مش بتاع چواز ولا ناوي يتنيل .. فاهمة ياما ..
كاد أن يخطو ولكنها أوقفتها معترضة :
-ما مسيرك تتجوز ، مالك متزرزر ليـه !! ولا أنتَ ناوي تقعد جاري كيف خد الندابـة !! يا ولدي متصغرش أبوك ، ده يطب فيها ساكت !!
ثار مدافعًا عن حبـه ورغد قلبـه :
-وأنا مش هارون ياما عشان تضحكوا عليّ بالكلمتين دول محدش هيمـ.ـو.ت قبل أجله ، هاشم ماعيضحيش على حساب حياته ، مختصر الحديت أنا قولت كلمتي ياما .. وبلاش تعاندوني .. وإلا هتشوفوا هاشم واحد تاني …
ألقى قذيفـة كلمـ.ـا.ته بساحة منزله ثم تركهم وذهب لغرفته ، تسددت نظرات العتاب من بناتها التي أردفت أحداهن :
-لا مالكيش حق ياما ..
تدخل هيثم مقترحًا ليُلطف الأجواء :
-أنتو مقرتوش فاتحتي أنا ليه !! حتى على البت نوال الشغالة أنا راضي …
دفعته صفية بغـ.ـيظ :
-وهي ناقصاك أنتَ كمان !!
تأرجحت النظرات بين الثلاثـة فتيات حتى ضـ.ـر.بت نجاة كف على الآخر بتعجب من حكمة الأقدار :
-المكتوب على الچبين لازمًا هتشوفه العيـن ….
••••••••••••••••
~بالأقصـر ..
-المكان يجنن يا هارون بيـه .. حاجة خُرافـة بجد ..
قالت ” ليلة ” جملتها بعد ما تفقدت أرجاء المعبد ومع كُل تمثال كان هارون يسرد لها قصتـه وتاريخه ومن بناه ، كانت تدون المعلومـ.ـا.ت التي تروق لها باهتمام على لوحة الشاشة الالكترونية التي بيدها .. كانت خطواتها تسبقه وكان صوته يحاصرها من كُل صوب وحدب .. أثناء سيرهم جهة المعبد أردفت بغزل بريئ :
-على فكرة اللبس الكاجول فيك يجنن ..
-ليـه والچلابية وحشة ؟!
-لالا خالص بالعكس ؛ بس مدياك سن أكبـر من سنك ،عكس الكاچول .. كده أحلى .
غمغم بضيق وهو ينزع نظارته الشمسيه :
-لا مش أحلى اكيد ..
ثم تنهدت لتُغير مجرى الحديث الذي أن ناطحت به ستجلب لرأسها الصخب لا أكثر ، نزعت الكاميرا المُعلقة برقبتها :
-ممكن تصورني هنـا !!
تناول منها الكاميـرا وقال :
-هتسچيلي دِلوق !! طب حفظتي ..؟!
-لا مش هسجل هنا ، بس التمثال عجبني ممكن تصورني جمبه !!
وقفت بجوار التمثال وشرع بالتقاط العديد لها من الصور تحت أجواء من المرح والضحك وهي تناقشه بتفاصيل الصور وتطلب منه أن يعيد التقاطها على الرحب والسعة منه وكأنها أصبح مديرًا لأعمالها لست مجرد ضيفة عنده .. طلبت من أن يعيد تلك اللقطة الأخرى بنفس الزاوية حتى انتهى من جولة التصوير بعد العديد من الصور التي أخذت تفحصهم أثناء مواصلتهم للطريق نحو التمثال “ساكمت” .. قالت بإعجاب :
-تصويرك يجنن .. بجد كل الصور أحلى من بعض .. تعرف أن في أسطورة بتقول أن الشخص المُحب بس هو اللي بيصورك صور حلوة ..
ثم وقفت أمامه بقامتها التي لا تتجاوز كتفه وقالت:
-كده أنا اطمنت إني مش تقيلة ولا حاجة على قلبك ..
رد بإيجاز :
-طب زين …
وصل الثنائي لتماثيل الآلهة ” ساكمت ” التي قرأت أساطيرها من قبل .. وقفت لتصيح بحماس لتبرز ثقافتها بالأساطير :
-تعرف أن التمثال ده أساطيره كتير !!
رفع حاجبه بأنه لا يوجد فائدة من تفكيرها المتواصل بالأساطير الكاذبة وقال :
-برضو أساطير !!
-استنى عليا بس هعجبك والله ..
ثم اقتربت من التمثال خطوة وقالت :
-تعرف أنه اسمه أله الأمومة والحب والحرب والصحة .. يعني لو ست كان نفسها تخلف كانت تيجي تلف حولين التمثال ٦ مرات وبعد كام شهر تلاقي نفسها بقيت حامل .. لو واحد نفسه يتجوز البـ.ـنت اللي بيحبها بيطوف حولين التمثال ٥ مرات ، كل طلب له عدد طواف معيـن …
ثم عادت له بنفس الشغف :
-ومش بس كده ، ده الأسطورة بتقـول كمان أن الألهـة ” ساكمت” لعبت دور كبير أوي أنها تجمع العشـاق اللي بينهم مستحيلات كتيـر ، زي مثلا …
كانت ” ليلة ” تسرد على آذانه تفاصيـل الأسطورة التي اطلعت عليها والتي ستبدأ بتصوير أول حلقاتها التي جاءت لأجلها ، كانت تخطو نحو التمثال بحركات طفولية يملأها الحماس وما أن شرعت في ذكر الأمثلة دارت لهارون الواقف بمكانه عاقدًا ذراعيه أمام صدره يستمع لهـا باهتمـام معجبًا بطريقتها العفوية التي تروي بها تلك الخرافات التي راقت له من بهجة أسلوبها .. وقفت أمامه وأكملت :
-مرة ملكـة وقعت في حُب خادm عند أبيها الملك ، وجات تتوسل لساكمت أن أبوها يوافق ، وراحت السنين وجات السنين حبيبها ده طلع حرب وكانت المفأجاة أنه رجع لأبيها برأس أكبر عدو له .. وقتها الملك كان منبهر وقاله أطلب أي طلب هيكون مُجاب ، وكان الطلب ده أيد بـ.ـنته ..
تأرجحت عينيه التي يخر منها النظرات الساحرة بخفـة روحها في رواية القصص والأساطير التي لم يُخلق أحد يرويها مثلها ، رفع سيف حاجبه وقال بهدوء يغلفه بسمـة لطيفة :
-الرك على النصيب يا ليـلي ..
تغنجت أمامه بمرح :
-أنتَ مش مصدقني !! طيب هحكي لك حاجة كمان .. كان في واحدة اسمها ” تيفيت” كل ما تنام تشوف أن في رجل غامض بيحاول يخـ.ـطـ.ـفها ويخــــوفها ، وراحت تشتكي لـ ” ساكمت” ..
ثم اتسع بؤبؤ عينيها وهي تسأله بحماس:
-تعرف طلع مين الرجل ده ؟!
حك ذقنه ويبدو أنه عثر على ملاذه في رواياتها الخرافية :
-حبيبها .
اصدر صوت قرقعت أصبعيها وهي تحييه :
-براڤو عليك ، بس مش حبيبها من البشر .. ده طلع أله الحرب ” خارمس” .. بس المشكلة أن البـ.ـنت كانت بتحب واحد اسمه ” أسموس ” .. ولما بقا ” ساكمت ” عرفت غـــضــــبت أوي وقررت تعـ.ـا.قبه وتُحيله لـ حجر او تمثال .. ودي كمان جوزت العشاق لبعضهم ..
هز رأسه معجبًا بأسلوبها في القص ولست تلك الخرافات التي ترويها وقال :
-جميـل ..
قطعت ليلة جُملته وأكملت :
-تعرف الجميل بقا أن الكلام ده في ناس بتعمله لحد دلوقتي على سبيل الهزار والتجربة عشان يتأكدوا من صحة الأسطورة وأنها مش مجرد كلام !!
هارون مذهولًا :
-لا يا شيخة !! وكانوا بيعملـوا أيه عاد وِلد المهاويس دولت ؟!
رفعت جفونها لعنده بتوجس :
-أخاف أقولك ونجربها كـ لعبة الأسطورة تتحقق ولعنتها تصيبنا ، يتكتب لنـا نصيب في بعض .. وقتها مفيش حاجة هتقدر تفرقنا وكمان ممكن تقع في حُبي !
ثم هزت كتفيها لتبرئ مكر نواياها :
-أنا بحذرك بس عشان اللعب مع الجماعة دول بيقلب جد ! وأنتوا قوانينكم مابترحمش !!
انفجر ضاحكًا والسخرية تملأ فاههُ ثم انحنى لعندها هامسًا لينفي كل معتقداتها بأسلوبه الراقي:
-أهو ديه بالظبط أكبر خرافة أنتِ قولتيهـا ، لأنه شيء ولا ينفع يكون في أحلامنا من أصلو .
راقت لها العبث بقوانين اللعبة وقالت بجزل طفولي مبطن بالتحدي:
-مادام أنتَ شايف كده ، أيه رأيك نجرب !!!!!
لم تتلقى ردًا على طلبها إلا صمتًا يميزه ابتسامة خفية لا تُرى ولكنها تُحس ، ترجمها عقلها على أنها قبول لعرضها وقالت بشغف لا ينتهي :
-يبقى نجرب أظن مفيش مستحيل أكتر من حالتنا ، بس مش هنطوف زي ما هما كانوا بيعملوا عشان حـ.ـر.ام طبعًا .. بس هنعمـل حاجة تانـية تحقق الأسطورة !!!!
••••••••••
وصف أحدهم ذات مرة شعور الهزيمة قائلًا :
‏الوضع أشبه بأن أستعين بصبري فأجده قد نفذ فأستعين بعاطفتي فأرى فؤادي فارغًا وألتفت حولي فأرى العدm يتلبّس كل الأشياء التي كانت هُنا..!
-أنا وقلبي الحزين صرنا نراقب العالم من وراء نافذة غرفتي لإننا فقدنا قدرتنا على مخالطة البشر ..
#نهال_مصطفى
•••••••••••
كُل قصص الحُب التي اندلعت نيرانها بالأفق ابتدت بمجرد لعبة ظريفة ، الإفراط بالنظر ، الغرق في التفكيـر ، حلم عابر ولكنه استوطن بصدرك ، كلمة قيلت دون أن تنتوي حُبًا ولكن القلب تعلق بها كقشاية نجاة له من هذه الغرق .. لعبة عبثية جمعت اثنين وورطتتهم ببعضهما البعض !!
راقت لها العبث بقوانين اللعبة وقالت بجزل طفولي مبطن بالتحدي:
-مادام أنتَ شايف كده ، أيه رأيك نجرب !!!!!
لم تتلقى ردًا على طلبها إلا صمتًا يميزه ابتسامة خفية لا تُرى ولكنها تُحس ، ترجمها عقلها على أنها قبول لعرضها وقالت بشغف لا ينتهي :
-يبقى نجرب أظن مفيش مستحيل أكتر من حالتنا ، بس مش هنطوف زي ما هما كانوا بيعملوا عشان حـ.ـر.ام طبعًا .. بس هنعمـل حاجة تانـية تحقق الأسطورة !!!!
انكمش حاجبيه وضاقت حِدقة أعينه وبرزانـه ما بين رفض علقـه و حماس قلبـه الذي اعتاد النمطيـة والحكمـة ؛ قال :
-كيـف يعني!!
أشرقت الشمس من ثغرهـا المبتسـم إثر قبوله لقواعد اللعبة التي لا تدرك لماذا يشغلها أمر اثبات أسطورة كهذه لعقله المتحجر ، لِمَ كل هذه الفرحة التي تلبست بها فجأة !! نزعت خاتم أصبعهـا الرقيق من البلاتين ، ونظرت ليسـاره التي تحوي على خاتم فضي ذو حجر كريم باللون الأسود وقالت مستأذنـة :
-هيضايقك لو خدته !!
يبدو أنه اعتاد على التخلي عن أشياءه الخاصـة ، نزعه بسهولة من يده وقال :
-عادي عندي غيرو كتير …
توقفت ليلة على ضفـة استغناءه المغلفة بالاعتيادية ، كمن اعتاد التخلي دومًا وسألته :
-شكلك مش من الأشخاص اللي بتتعلق بالأشياء .. عكسي خالص .
رد بحكمتـه التي استمدها من تخليـه الدائم في سبيل الآخرين :
-مِش صح ، لو علقنـا قلوبنا بكُل حاچة في نهايـة الطريق هتلاقي قلبك خالي ، لان مفيش شيء مكتوبـله الأبديـة كله راحل وبالتالي هترحل معاه قُلوبنا اللي اتعلقت فيه ..
سبحت عينيها الحائرة في موج خيباته التي لا يطلع عليها أحد وقالت بتخابث كي تنبش بدواخله :
-واضح إنك خسرت حاجات كتيـرة في حياتك وصلتك للمرحلة دي !!
خفق قلبـه مشتهيًا فتح صفحاته أمامها ولكن شموخـه ، استهانته بالو.جـ.ـع الذي أكل قلبه دون أن يعترف بذلك ، تجبره على كل الفضفضة ولكنّه لم يعد من شكاة الأطلال الذين يمجدون حـ.ـز.نهـم دائما .. شخص مثله درب علقه أن يكون أقوى من كل العواطف التي تحيط بهِ كي لا يسخر نفسـه التي تجبره أن يكون قويـًا طول الوقت .. تحمحم بهدوء :
-هاه هتصوري !!
نظرت له بـ شرود وهي تحاول قراءة حـ.ـز.ن تلك الأعين التي تُكابر في إخفائه وقالت بلطف :
-الخاتم !!
مد لها الخاتـم ذو الحجر الأسود .. أخذت منه الخاتم وظلت تعبث به في كل أصابعها لتُقارنه بحجم يدها الطفولية وقالت بمزاحِ :
-أيدك كبيرة أوي ..
ثم وضعت براحة يدها خاتمها وخاتمـه وشـ.ـدت خيطًا من شالها الصوف المرمي على كتفها وشرعت في ربط الخواتم ببعضهما تحت نظراته الساخطة على فعلها والذي لا يبادلها إلا ابتسامـ.ـا.ت السخرية متجاهلًا صدح عقله الذي يدق ناقوسه برأسه ؛ ما هذا العبث الذي تفعله يا رجل !! وإلى أي مرسى تود أن تذهب !!
انتهت ليلة من عَقد الخواتم ببعضهما ثم رفعت جفونها إلى لتردف مبررة له بمرح عنـ.ـد.ما لاحظت شروده :
-أنت مستغرب ليه !! إحنا بنجرب وبنلعب بس ..آكيد أنا وأنتَ مش هنتجوز بجد يعني والكلام ده .. دي چيم .
حك ذقنـه وبتلك النظرات الثابتة التي تُمطر عليها من مُقلتيـه رد بثغره الباسم :
-زين إنك عارفة …
-هااه !!
ثم أخذت نفسًا مسموعًا وقالت :
-المفروض إني هروح اقدm الخواتم دي لـ ساكمت .
-وهيعمل بيها أيه !!
-أول ما تمر عليـه ليلة قمريـة الخواتم هتتختفي ..
رفع حاجبه الكثيف بهزء :
-يعني مش هتتنشل لا دي هتختفي .. !!
-ممكن ما تتريقش ، عشان ساكمت لو حس إنك بتتريق هـ….
قاطعها بمزاح وهو يدنو منها خطوة سُلحفية :
-هيسخطني قِرد !!!
ضـ.ـر.بت رائحة عِطره بسقف رأسها وكان صدى الأثر بقلبهـا الذي أخفق بتوجس وهي تقول بعتب:
-أهو لسه بتتريق أهو !! عمومًا براحتـك .. خليك فاكر أنا حذرتك .
ثم ركضت من أمامه بعجـل لتكمل طقوس لعبتها التي تعتبرونها حُجة لقلوبهم التي تعلقت وتعانقت ببعضها البعض منذ اللقاء الأول ولكنها هذه ألاعيب القلب … فرغت ليلة من سرد أساطيرها ثم وعادت إليه وشغلت كاميرتها وثبتتها بمكان مـا على السور الحجري وطلبت منه :
-كُل اللي هتعمله تدوس هنا وقت ما أخلص !!
جلس على السور بجوار الكاميرا وهما الاثنان يرقبونها بأعينهم القوية ، أعين تسجل التفاصيل بالكارت المدmج وأعين أخرى تحفر تفاصيلها بين خلايـا عقلـه .. أشعل سيجارته وشرعت هي في استراد شخصيتها وروحها أمام الكاميرا .. شـ.ـد نفس من سيجارته ثم أوقف التسجيل وقال بنصح :
-خلى راسك مرفوعة ..
تحمحمت عاملة بنصيحته وهي ترفع رأسها وسألته :
-كده تمام !!
أومئ بخفوت وهو يعيد تشغيل الكاميرا ، ما شرعت في قول جملة أولية عن المعبد ، فأوقف التجسيل قائلًا بنصح إثر بروز عروق رقبتها :
-أرخي كتافك عشان محدش يحس إنك متـ.ـو.ترة ..
أخذت نفسًا عميقا بجفون مُغلقة وتقبلت نصيحته على الرحب والسعة ومع ابتسامة طفيفة :
-أنا أصلًا مش متوتـرة ..
رد بهدوء وهو يضغط على الزر :
-أنا عارف بقول لك أيه .. يلا كملي ..
عادت لمواصلة حديثها ولم يمر عشرون ثانية حتى عاد لإيقاف التسجيل مرة أخرى :
-بلاش تلمسي وشك وشعرك كل شوية ، هتشتتي انتباه اللي عـيتفرچ..
اتسعت إبتسامتها لاهتمامه بأصغر التفاصيل كي تخرج صورتها في أكمل وجـه ؛ سألته :
-في أي ملاحظات تانية عشان كل ما تفصلني بنسي كنت هقول أيه !!
مسك الكاميـرا وحذف تلك المحاولات الأوليـة ثم غرس أعين بتلك الشاشة الصغيرة التي تعكس صورتها باهتمام مفضلًا أن يقوم هو بتصويرها بدلًا من وضع الكاميرا ثابتًا ، شاور بكفه كي تبدأ من جديد قائلًا برزانة وثبات :
-من أول وچديد يلا .
•••••••••••
” وشبكنـا بدبلتـه وقرينـا فاتحتـه ،وعرفنا نيتـه ”
كانت زينة تغرد كالبومة في جميع أرجاء فوق رؤوس الجميع وبالأخص ” نغم ” الجالسـة بأحد أركان المنزل إثر إلحاح زوجة خالها تُشاهد التلفاز كي تخرج من حالة الحـ.ـز.ن التي تعيشها مع جدران غرفتها .. ولكن ذلك لم يشتت حـ.ـز.نها عن تلك الورطة التي تورطتها ، جلست زينة بجوار أمها وهي تحكي لها بصوت مرتفع :
-ت عـ.ـر.في ياما طول الليل انا وهارون نتحددوا .. طلع كلامو حلو قوي ياما .. ورسايل كلها حُب ..
ثم اقتربت من أمها أكثر بشغف مضاعف :
-ت عـ.ـر.في طلع عيقول كلام من اللي عيدوخ ياما سمعته من إهنه واتقلبت نمت مدرتش بروحي .. الحب طلع حِلو قوي ياما ..
لم تمهل أمها الفرصة للحديث بل قاطعتها وهي تلوح بذراعيها اللاتي يكسوهن الأساور الذهبية :
-وقالي هخلص كل مصالحـي واچيلك چري نتعشوا سوا يا زينـة .. چاي عشاني ياما ..
خناجر حادة كانت تُطـــعـــن بقلب” نغم “حتى تذكرت سرد تفاصيل ليلة أمس وهي تتوسل لخالها أن يرفض زواجها من هاشم :
#فلاش_باك ..
-ياخالي وغلاوة أمي عِندك أنا مش رايدة هاشم ولا عاوزة اتچوز من أصلـو ؛ كلم الحچ خليفة وقوله البت مش موافقة .
كانت الدmـ.ـو.ع تسيل من مُقلتيها وصوتها يرتجف من شـ.ـدة الحـ.ـز.ن والضعف الذي تعاني منه ، فهي لا تمتلك شخصًا واحدًا من أهلها يساندها ، لا أب ولا أم ولا أخ يحمل معها قفة الحيـاة الثقيلة .. انفجر خالها بامتعاض:
-وه وه وه .. !! أنتِ عاوزانا نكـ.ـسروا كلمة خليفة العزايزي دي تطير فيها رقاب.. وبعدين ماله هاشم ديه بنات النجع كلمهم يتمنوه .
أوصدت أبواب العشق لأخيه بقلبها وقالت بهزل :
-عيقولوا عليه واعر ، وطبعه چافي .. وأنا مش عاوزة واحد يچيلي يومين في الشهر ويعاود عـ شغله .. أحب على يدك يا خالي بلاش تورطني وتكـ.ـسر قلبي وتچوزني واحد مش رايداه .
رق قلبه لضعف تلك المسكينة فوثب من مكانه ليُربت على كتفهـا بحنان :
-يابتي هاشم زين وكلهم تربية صفية أختي، وبعدين ما أنتِ اتقدmلك كتير وأنا كنت ارفضه لانهم مش مناسبين لك .. أما هاشم ارفضه ليه !! ده من كبرات النجع .
-عشان مش عاوزاه ..
-طب أقعدي معاه واتفقوا ولو كُنتي لسه مش عاوزاه أنا هيبقى لي حديت تاني مع صفيـة ..ومحدش هيچبرك على حاچة ..
فاقت ” نغم ” من شرودها حول حديثها مع خالها على صوت ” نوال ” التي تُخبرها :
-ست نغـم ، سي هاشم بيه عاوز يشوفك بره ..
اشتعلت نيران الغيرة في قلب زينة التي دارت بجسدها كله صوب نغم وأردف بنبرة كهينة :
-أومال مش عاوزة ومچبورة ومعرفش أيه وفي الأخر چايلها من صباحية ربنـا .. شايفة مكر البنات ياما ..
خرجت أمها عن صمتها وهي تنتظر غروب نغم من مكانهم وقالت بعتب :
-ما تلمي روحك يا زينة ، مالك طايحة إكده ومحدش هامك ، داري على شمعتك تقيد يا حبيبتي وبلاش تزعلي نغم بحديتك الماسخ دهوت !!
-هي دي هتحس ولا عندها دm ، دي كُلها دmـ.ـو.ع تماسيح يااما سيبك منيها ..
••
-“خيـر يا هاشم بيـه ”
وقفت نغم أمامه بعدmا جاءت لعنده بخُطى المجبور على رؤيته وهي تحمل بقلبها غصة إجبـ.ـارها عليه كما تحمل غصة لقائهم هذا .. رفع هاشم سبابته وبدون أي مقدmـ.ـا.ت للقاءهم الذي لا يتكرر إلا مرة كُل عام في مجلس العائلة :
-شوفي يا نغم ، أنتِ بت خالتي وعلى رأسي ورأس رچالة وحريم النچع كُله بـس …
فقاطعته إثر إعتراضه على وضعهم الساطع من وجهه ثم من يديه الموضوعة فوق حزامه الجلدي ، من تـ.ـو.تره البينّ وكأن واقفًا على موقد من لهب وقالت :
-واضح إنك مچبور زيي !!
راق له دخولها بأصل الموضوع بدون مقدmـ.ـا.ت وقال :
-زين قوي ؛ قص الحديت أبرك من ترقيعـه ..
هزت رأسها بِثقل :
-والمطلوب مني عشان نفضوها سيرة !!
-ريحتيني ، يعني إنتِ كمان مش عاوزة يبقى خلصانين ..
جاوبت بشحوب وجهها :
-أنا كلمت خالي وقولتله أنا مش راضية بس هو يهمه رضا أبوك ..
-يبقى تكلميه تاني وتالت عشان خليفة العزايزي مستحيل يكـ.ـسر كلمة قالها .. وتصممي على رأيك..
فأكملت حديثها وهي تتأكد من إحكام حجاب رأسها :
-يعني رمـ.ـيـ.ـت الكورة في مِلعبي !! متعتلش هّم الچوازة دي مش هتتم ..
تنهد بـ.ـارتياح لتحسس نسيم سُحب الحرية تقترب منه ؛ فقال بامتنان :
-هيبقى چميل مش هنسهولك طول عمري .. وربنا يرزقك بالأحسن مني ..
بادلته بابتسامة جـ.ـا.مدة لا تحمل إلا الخيبة :
-مافارقاش .. عن إذنك ..
••••••••••••
~دوار خليـفة العزايزي .
-“مالك يا حچ ؛ متأخد ليـه ؟”
جاءت أحلام صاحبة الظهر المنحني لعنده إثر رؤيته جالسًا مستندًا على عكازه بعقل شارد في ملكوت الله ، رفع جفونه لعندها وقال بحـ.ـز.ن وخيم :
-كلمت حـد من كام يوم معرفة يدعبس على أخبـ.ـار الچوهري ، لساته قافل معايا وقالي إنه مـ.ـا.ت من زمن ، وولده كَمان مـ.ـا.ت من ٤ سنين .. حسيت الدنيا اتقفلت في وشي يا أحلام ، وشكلُ السِر هيدفن معاي ..
خيم اليأس فوق ملامحها وهي تردد بأسفٍ :
-لا حول ولا قوة إلا بالله ..
ثم هز رأسـه بخيبة أمل :
-من ساعتها وراسي دارت ، بس عرفت أن مرة ولده داكتورة كبيرة فـ سكَندريـيـه ، هاخد چاير ونروحولها بعد فرح هيـام ..
تعلقت أحلام بقشة الأمل كالغريق:
-طب ما زين ديه يا حچ ، يمكن عِنديها علم بحماها ولا چوزها كان يعرف حاچة عن أبوه !!
-ولو معندهاش !! يبقى خِلصنا والسر هيمـ.ـو.ت مع اللي مـ.ـا.توا يا أحلام ..
أسهبت أحلام فكرًا بالأمر وقالت بخزى :
-المشكلة أن البت كبرت وياعالم فين أراضيها متچوزة ، حية ولا مـ.ـيـ.ـتـة ..
أكمل بيأس :
-اتربت في الشارع ولا في ملجئ !! مـ.ـو.تها كان أهون يا أحلام من مصيرها المچهول اللي عايشاه ..
-ربك حنين قـوي يا حچ ، واللي نچاها من المـ.ـو.ت آكيد كاتبلها قضا تاني يليق برحمته .. بس ..
وقف على أخر كلمة لها متسائلًا :
-بس أيه يا أحلام !!
-إمبـ.ـارح خطرت على بالي قصة البت دي ، إحنا لو لقيناها هيكون ايه حلها !! البت كيف هترچعلنا ويرچعلها حقها ..
تأوه الشيخ لِثقل الهـم على عاتقـه وقال :
-لو مكنش مـ.ـو.تها يبقى عدلها تتچوز واحد من الوِلد من ولادي لإني سترت على اللي عمله ماهر ، ديه غيـر الفديـة اللي هتدفع .. بس المُصيبة مين هيوافق يشيل شيلة زي دي يتعايـر بيها هو وولاده لآخر العمر .. العـار يده طايلـة يا أحلام والظُلم واقع واقـع ..
ربتت أحلام على كتفه مواسيـة :
-أقولك أيه يا حچ سيبها لتدابير ربك ، هو القادر يحلها بطريقـة محدش يتخيلهـا .. أحنا نشوفوا كلام الست الداكتورة دي ويمكن يكون عندها الحـل ..
بُتر ساق الحديث بقدوم ” رؤوف ” الذي ألقى عليهما التحيـة وقال متسائلًا :
-أومال هارون فينـهُ .. بكلمو مش بيـرد ..
تفوه أبيه :
-أنا مش واعي له من الصُبح ، يمكن راح المُصنع !!
جاء جابـر يركض إليهم وهو يحمل قُفة مشاكل النجع :
-يا حچ خليفـة سي هارون فين البلد والع حريقـة .. مُشكلة كبيرة ولازمًا تتحـل ..
-هات العواقب سليمة يا ولدي !!
فتدخلت أحلام مستفسـرة :
-بالحق هارون راح فين ، ده حتى مصبحش عليّ !!
ثم نظرت لجابر :
-سألت هيثم عليه يا چابر؟! بس هو يعني سي هارون معاودش لحد دِلوق !!
غمغمت أحلام لتفهم منه :
-يعني أنتَ شوفته الصُبح ؟!!
خر جابر معترفًا :
-أيـوة ، كان طالع هو والاستاذة الصبح وقال مش هيعوق .. افتكرته جيـه ..
هزت أحلام رأسها وهي تُطلع خليفة بشك يحوم حول حدق عينيها وقالت لتغير مجرى الحديث :
-ما تقعد يا رؤوف يا حبيبي واقف ليـه !!
-لا يا عمتي ، هابقى أفوت عليكم بعد العشية يكون هارون عاود .. عن أذنكم .
ما انصرف كُل من جابر ورؤوف الذي جاء ليعرض على هارون أزمته مع نجاة كي يتوصلون لحل ، فجاء هيثم من الباب الخلفي للحديقة التي يجلس بها خليفة بجوار أحلام ليقول متسائلًا :
-أحلام ؛ هارون فين ؟!
-راح مع المذيعة مشوار ولسه معاودش ..
تخابثت أعين هيثم الماكرة :
-مشوار لروحهم !! من غيري ؟! طب يا هِرن يا وِلد صفية ..!!
ثم رفع نبرة صوته قائلًا لإعلام ابيه :
-النقالات الچديدة دخلت المخازن وكانوا عاوزين أمضته ..
••••••••••
~بأحد المقاهي الشعبية ..
-شوفت اللي حُصل !! قال لك البت فتحت راس راجـ.ـل طول بعرض ..
فأتبع الآخر بشمـ.ـا.تـة :
-ومش بس إكده دي زفته بفضيحـة هو وناسه .. وخلت سيرتهم على كل لسان ..
فأكمل الآخر :
-وحتى المچلس ما عرف ياخد معاه حق ولا باطل ، والمصـ يـ بـةيا أخوي عامل فيها سبع رچالة وحُرمة علمت عليه بقُلة ..
جهر الرجـ.ـال بضحك متعمدين إثارة غيرة بكـر وإشعال النيران بجوفه ، حتى جاءت الجملة الآخيرة ففجرت براكينه :
-وجاي يقعد چار الرچالة !! ده أخره قاعدة حريم يتعلم فيها فنون الطبخ ..
ثار غـــضــــب بكر فأصبح كالعاصفة التي ضـ.ـر.بت بلدة على حين غُرة ، هجم على ياقة جلباب الرجل الساخر منه وهو يعنفه قائلًا :
-أنتَ ادبيت في رأسك !! أنت ما تعرفش أنا مين !!
فقهقه الآخر بسخرية :
-هتكون مين !! المضروب بالقُلة والمصفـوع من مراة !!
لكمه” بكر” نيران غـــضــــبه حتى هجم عليـه بقية الرفاق ليفصلونه عن صديقهم الذي صاح :
-بدل ما چاي تتشطر علينا روح اتشطر على اللي خلت سيرتك لبانـة وسط الخلق …
تجمهر الرجـ.ـال بوجه بكر الذي أحس بضعف قوته أمام جمعهم وهو يراقب سخريتهم منه واستهتارهم بهِ ومعايرته بما فعلته ابنة عمه ، فأشار لهم :
-بكرة تعرفوا مين هو بكر فياض ، هعلمكم الأدب نفر نفر ..
-بدل ما تعلمنا أحنا روح اتشطر على بت عمك اللي ماشية مع ولاد خليفة العزايزي وهتخلي وشك في الأرض من الكسوف ..
فأكمل الأخر ساخرًا :
-ماهي مش هتسيب العُمد وترضى ببكار .. ما لو مش كد الشيل واتنين حريم قُولنا نشيلو إحنا بت عمك خسارة وأهو جحا أولى بلحم توره ..
لم يستجدي نتيجة من انفعاله إلا انها ثار أكثر على رقية ابنة عمه وبات تاره معها أكبر من روثها وطمعه بل أصبحت سُمعته بسببها علكة تتبادلها الأفواه .. بكر مثله كمثل أي رجل ضعيف الشخصية عنـ.ـد.ما يهزم من الجميع يحمل رصاص خيبته ليفرغها بالنساء .. جر طرف جلبابه متوعدًا :
-أما وريتك يا رقية …؟!
••••••••••••
~لأقصـر ..
قال أحدهم ذات مرة :
“يتبيَّن لك في نهاية المطاف وآخر المساعي، أن لذَّة العيش ما كانت في الوصُول بقدر ما كانت في عيش اللحظة واختلاسها، والاستمتاع بما في يديك الآن، موكلاً الغد والمُستقبل إلى ما حملته أقدارك”
كانت تجلس بداخل صندوق سيارته الخلفي بأقدام متدليـة كطفلة في كنف أبيها تتناول ” ساندوتش من الشاورما ” الملفوف بين يديها الصغيرة وهي تُسدد لذلك الواقف بجوارها النظر وتعبر عن مدى سعادتها :
-أنا تعبتك النهـاردة ومعطلاك عن شُغلك كمان ، وحاجة كمان الشاورما تجنن ، أنتَ بتيجي هنـا على طول !
لكت اللقمة في فمـه وهو يتابع طريقة شفتيها و نطقها للكلمـ.ـا.ت فيزيده رغبة في سماع المزيد ، صمت لبرهة متلقيًا حديثها بثغر باسم :
-المصالح مسيرها هتتقضي ، اليوم بكرة بعده .. هتخلص ؛ المهم تخلصي اللي چيتي عشانو ..
-أنتَ صح .
أيدته بسعة صدر وأعين لا تتزحزح من عليه ، فغيرت مجرى الحديث متسائلة :
-لما اتقابلنا في القسم أنت ليه قولت لشريف إني ضيفتك وكذبت عليه ، ليه عملت كده ؟!
كاد أن يتفوه ولكنه هرولت لتُقاطعه :
-جاوب بصراحة ، أنتَ كُنت قاصد تبوظ لي حياتي !!
انتظرها حتى تنهي جملتهـا التي ختمتها بقطمة من الخبز بيدها ثم هبت متذكرة وهي تخفي أثر الطعام من فاهها بلهفة :
-وحاجة كمان ، أنتَ ليه كذبت عليا وماقولتش إنك العُمدة في أول مرة اتقابلنا فيها .. ؟!
رفع حاجبه مستفسرًا :
-خلصتي ولا في أسئلة تانية ؟!
بخفه روح أجابته :
-خلصت !!
اتكئ على طرف سيارته وقال بصوت رخيم :
-في القسم ؛ مكنتش مقصودة ولما شوفتك افتكرت إنك چاية كضيفة متوقعتش إنك خطيبته .. وكنت بغلوش على عملتي فجات فيكي لحسن حظك ..
-يعني أنت ضـ.ـر.بت عليهم نار بجد؟!
-كان تار بايت ولازمًا يترد ، أصلو العبد لله سداد حقوق ..
ثم دار بوجهه لعندها وأتبع بفخامة :
-وأخد الحق ده حِرفة ..
تأرجحت عينيها من فوق لتحت ثم قالت بمزاح :
-يعني استغليتني ، يعني ليا عندك أنا كمان حق .
-و أديني بـ رُده !!
ملء الضحك فاها :
-أيوة صح !! وبعدين .. إجابة السؤال التاني بقا ؟!
فكر للحظة بالأمر لمواجهة نفسه بتلـك الحقيقة وعن السبب الرئيس لانكاره عن صفته الأصلية ؛ حتى قال :
-يمكن كُنت مفكر إني مش هقابلك تاني ..
ردت بعفوية :
-وده يديك الحق تكذب ؟!
ثم غمغمت بهدوء وكإنها تعد ترتيب الكلمـ.ـا.ت برأسها قبل النطق بهـا :
-يعني ده يدينا الحق إننا نكذب على أي حد متأكدين إننا مش هنقابلو تاني !!
برر موقفه :
-طالما مش هنشوفه تاني يبقى هيفيده بإيه يعرفني ؟!
هزت رأسها يمينًا ويسارًا غير مقتنعة برأيه وأكملت بشرود :
-بالعكس ؛ شايفـة إنهم أكتر ناس ليها الحق أننا نعرفهم ونفتح لهم قلوبنا ونحكي لهم عن نفسنا لإنهم أكتر ناس هيدونا نصيحة حقيقية ، من غير حقد ولا غيره ، شايفة أن أصدق المشاعر بتكون بين الناس اللي مش هيتقابلو تانية لانهم عارفين ده فييدوا كل حاجة بصدق ..
داعب خصلة من شعـرها وأكملت :
-زي طنت اللي بنقابلها في المترو ، عمو اللي بيقرأ الجنرال في القطر ، الست الليدي الشيك اللي بنشوفها في الطيارة و اللي شايفة الحياة من فوق وبمنتهي الحُرية !! إحنا كمان محتاجين رأيهم ..
تناول آخر قطعة من خبزه ثم تخلص من ورقها بسلة المهملات المعلقة بأحد الأعمدة ، عاد إليها وهو ينفض كفيـه متأهبًا لإمساك زجاجة المـاء وقال :
-غلط ، ربنا خلق لك عينين وعقل تشوفي بيهم الحياة ، محدش هيشوفلك حياتك بعينه هو !! النصايح دي بتكون انعكاس لفكر وبيئة شخص مناسبة لحياته هو مش ليكِ أنتِ !
رغم إقناعه بوجهة نظره لكنها جاءت لتُعارضه بشكل راقي :
-يمكن ده تفكيرك عشان أنتَ مثلا بتفكر بعقلك طول الوقت ، أما أنا شايفـة الحياة دايمًا بقلبي وبس .. عشان كده وجهات نظرنا مختلفة!
فرغ من ارتشاف الماء وقال :
-وديه بردك مش صح !! خصوصًا في مهنتك ، لازمًا عقلك يكون شغال طول الوقت ..
-أنتَ بتشتغل أيه ، غير عُمدة لبلدكم .. لان عارفة أنا الموضوع ده ؟!بس آكيد كنت تشتغل حاجة جمبها.
قفزت على جراحه بأظافر رجلها الناعمـة فخدشت جـ.ـر.حًا جديدًا بدون نية منها ، طافت عينيه بمكان حولهم والكائن خلف المعبد ، تعلقت أعينه بسرب الطير الذي يطير من فوق رؤوسهم كـطيران أحلامه ككل ليلة وقال بهدوء :
-كنت مُعيد في كُلية حقوق ، اشتغلت ٥ سنين بعد ما خلصت چيشي وظروف للعمدية خلتني أسيبها .
وثبت من مكانها لتلمس الأرض بانبهار :
-واو !! كُنت معيد في الجامعة !! ده بجد عشان كده عندك الكتب دي كلها ، يعني أنتَ كنت بدرس للطلبة وكده ؟! وسبتها ليه ؟! هو ماينفعش تبقى دكتور الصبح وعُمدة بعد الضهر ؟!
أراد أن يطوي صفحات ماضيه ولا يحبذا العبث بداخلهم ، فـمد يده لأعلي ليقفل صندوق السيارة متحاشيًا النظر إليها :
-يلا عشان نلحقوا نعاودوا قبل العصر ..
تمتمت بفضول ينعكس ببؤبؤ عينيها المتسعة :
-أنتَ ما جاوبتش على سؤالي على فكرة !!
رد باختصار حاملًا غصته :
-لا مينفعش ..
-ماينفعش تجاوب ولا ماينفعش تبقى دكتور وعمدة ؟!
غير مجرى الحديث متسائلًا بأعينه التي يغازلها خيوط الشمس :
-عچبتك الشاورما ؟!
-لذيذة …
هزت رأسها بإعجاب وكأنه ذكرها أن تأخذ منها لقمة جديدة ، حيث هتفت متسائلة :
-شكلي كان حلو في الڤيديو !!
رد بنمطية لعجزه عن المبالغة في الوصف :
-عادي …
-نعم يعني مكنتش حلوة ؟!
تحرك نحو مقعد القيادة فلحقت به :
-انا قولت إكده !!
قفلت باب سيارته الذي فتح بتمرد على اسلوبه المتجافي :
-لا ما قولتش ، بس ممكن ترد وتقولي كنت حلوة ، حلوة خالص ، مبهرة ، تجنني !! ولا أنت ما بتعرفش تقول كلام حلو !!
-لا أنا معرفش أكدب ..
ردت جملتها بصميم قلبها وهي تعارضه بتمرد على تماديه في الوصف :
-لا أحيـه بقا !!
جحظت عينيه لتلقائيتها في قول الكلمة فتراجعت للخلف حتى ارتطم ظهرها بأحد نوافذ السيارة وأتبعت بحس فكاهي :
-اه اكدب عادي ، أنا بحب اللي يكـ.ـدب عليا مادام هيبالغ في حبي !!
ثم تعرقلت بخناجر أهدابه بالمتراقصة وحكت جدار عنقها مصلحة الأمر :
-قصدي في مدحي …
رفع حاجبه الأيسر وبنبرته الآمرة مشيرا لسيارته :
-اركبي .
عارضته بإصرار وهي ترفع كفها بوجهه لتسهب بالأمر :
-لا استنى كده !! أنتَ شكلك مش بتعرف تتعامل مع ليدز (ladies )خالص !
استند كفه على سقف السيارة خلفه محافظًا على قانون المسافات بينهما وقال برزانة متعمدًا اثارة استفزازها :
-وهما فينهم دول ؟! مش شايف حاچة قِدامي ؟! ولا قصدك على الخواچات اللي شوفناهم چوه ؟!
رفعت جفونها لتتشابك بأنظاره إثر استهتاره بأنوثتها ورقتها وقالت بنبرة متقطعة :
-هو أنت شايفني بشنب قُدامك !!
انفجر ضاحكًا لأنه توصل لمـا يريده معها ولا يعرف سببه ، لماذا يراوغها دومًا ، لمَ تناسى أشغالـه بجوارها !! لِم يُلاطفها ويجاريها في الحوار وكأنها رفاق من زمن !! لِم كل هذا الوقت لها وهي أول إمراة بعد أحلام ترافقه السير والخروج !! لِم هي ؟!!
ذابت في صحن ضحكته المتفجرة والتي ادت إلى انكماش ملامح وجهه وهي يضـ.ـر.ب كف على الأخر لعفويتها الزائدة والتي تاهت في رد فعله عليها بين رجولته الطاغية وبين روحه الفكاهية التي يضحك بها ، لتخرج عن صمتها وعن فصل الإعجاب به متناسية سبب خناقتهم الأساسي لتردف بتيهٍ :
-ضحكتك حلوة على فكرة …..
أبلتع مجاملتها اللطيفة وهو يمسح بالمنديل قطرات العرق المتصببة من جبهتـه ليقول برسميـة :
-ربنا يعزك ..
أدركت للتو ما قالتـه وكيف تمادت في مدحه ، فلهثت لتُبرر بعفوية :
-لما تشوف حاجة حلوة اتعلم تقول عليها حلوة ، وتمدحهـا ، زي ما أنا عملت بالظبط ..
تلاقت الأعين لتُكذب أقاويـل الألسن المزيفة والتي تنطق بكلمـ.ـا.تٍ تتنافى مع منطوق القلوب التي دعت أمرها لمرايا العيون التي خُلقت بنقاء طفل لم تندس روحه الأيام .. يبدو أن الاثنان جاءا خير مُعلم لبعضهما ، جاءت لتؤثر بطباعه القاسيـة واستخدامه الدائم لسيف القوة وتجاهله لحقيقة خلق قلبه الذي يفيض بالشعور غير إنه خُلق ليضخ دmًا فقط ، جاءت لتعلمـه بأن للقلوب زهور يفوح عِطرها من بوابات الكلمـ.ـا.ت ، أما عنه جاء إليه ليعيـد تشكيلها من جديد بصورة أقوى ، أخشـن ، أشرس لمواجهة أنياب الحياة التي تمضغنا بين فكيها … قطع وصال النظرات الفائضة بينهم وأردف بهدوء تـام :
-اركبي …..
•••••••••••
-” أيوة يا ما ، إحنا وصلنا للخياطة أهو وهيام عتقيس الچلاليب ”
أردفت هاچر جُملتها الأخيرة وهي تقفـل باب السيدة التي يخيطون عندها ملابسهم باستمرار والواقع مكانها بخارج نجع العزايزة ، خرجا الأخين معًا برفقـة نجاة التي وصلتهم بسيارتها ، ردت صفية الغارقة في رص جهاز ابـ.ـنتها :
-طب متعوقوش ، وخلي نچاة تسوق على مِهلها ولا ابعتلكم واحد من الوِلد !!
-لا ياما مفيش داعي ، هتخلص ونعاودوا طوالي ..
-طب لاغيني كُل هبابة..
لبت هاجر طلب أمها بطاعـة وهي تتحرك صوب سيارة نجاة المصفوفة لتأتي بالحقيبة الأخرى التي بدها ملابسهم ” للحنة ” مالت لتأخذ السلة البلاستيكية من داخل السيارة فإذن بسيارة متعمدة تسيرت بأقصى سرعة لتلمس عجلاتها بؤرة المياة فنثرت قطرات الماء الملوثة على هاجر التي هبت صارخة :
-الله يخربيتك أنت غـ.ـبـ.ـي !!
توقفت السيارة على جنب فظهر منها شريف الذي نزع نظارته وأقبل إليها متعذرًا :
-أسف ، كنت بتكلم في التليفون ومخدتش بالي..
رمت السلة من يدها بداخل السيارة وصاحت بوجهه :
-والله !! يعني سايق وبتتحدتت في المحمول ولابس نضارة شمس وكمان عاوز تاخد بالك !! هتاخد بالك من ايه ولا ايه يا حضرة أنت !!
استغل شريف أسلوبه الاستغلالي ليميل قليلًا نحوها ويقول معتذرًا :
-أخد بالي أن في قمـر واقف على شمالي !!
لم يتحرك بها شعرة إثر رومانسيته المزيفة وقالت بسخط :
-لا أنت بس خلي بالك من الطريق وهنكون شاركين لخدmـ.ـا.تك والله !!
ثم استدارت لتأخذ حقيبة الملابسة فاقترب منها خطوة وقال :
-قولت أسف وبعدين هو القمر زعلان ليـه ؟!
لملمت جمر غـــضــــبها :
-لا دا أنت قاصد يتقل منك !
رسم ضحكته المُخادعة على محياه وهو يقول :
-بتزعلك قمر !! طيب ما تقوليلي اسمك ونتعرف وو
صفعت باب السيارة بقوة وهي تهتف بغـــضــــب :
-شكلك جاي تتسلى ، بس حظك جابك مع الشخص الغلط ..
مد يده ليصافحها وبنفس الملامح الخبيثة :
-الرائد شريف أبو العلا ، رئيس المباحث هنا .
لم يتحرك بداخلها ساكن رغم وسامته التي يبالغ في وصفها بنات مدينته ؛ إلا أنها استقبلته إعزازه بنفسه بتقليـل وقالت ناصحة :
-طب خاف على دبورتك وكُل عيش في بلدنا أحسن أخواتي لو شموا ريحتك هيطيروك أنت وهي !!
كانت تلك آخر جُملة تفوهت بها هاجر لتلقي بداخله شرارة حبه لاستكمال اللعبة التي قطعها على نفسـه عنـ.ـد.ما تحرى عن هارون وأخوته وعلم بهوية هاجر الذي أخذ يتتبع خُطاهم منذ خروجهم من كمين النجع وكأنها قُدmت له على طبق من فضـة ، ارتدى نظارته الشمسية وقال بمكر وهو يحرق ظهرها بأسهم أنظاره الشريرة :
-كده يحلو اللعب ..
•••••••••••••
~أمام منزل الحج أبو الفضـل .
يتوارى ” بكر” خلف أحد الأشجار منتظرًا رحيـل ” هلال ” الذي أحضر كافة الطلبـات التي تحتاجها السيدة صفاء وألح أن يأتي بها بنفسه بعد صلاة الظهر ، في اللحظـة التي غادرت فيها سيارته من البيت جر الأخير ذيول مكره وهو يصفع باب بيتهم بعداونية :
-عاچبك أنتِ المسخرة دي !! راچل غريب داخل خارچ بيت عمي وأنا زي الأطرش في الزفة !! اسمعي يا رِقية أنت وأمك ومن غير يمين ، ما هيخلص الأسبوع إلا وأنت مرتي وفي بيتي ، ووريني هلال وِلد خليفة هيعمل ايه !!
ثم رفس الباب الذي يختبأ خلفه الام وابـ.ـنتها :
-عال والله بقا صاحب البيت جاي رايح على راحته ؟! ومداري ورا العمة والچلابية وياعالم ناويين على أيه ولا بيچي إهنه ليه !! ديه في خيالك يا رقية !! وولد خليفة أنا هعملو الأدب ، وشرف أمي ما هسيبكم تتهنوا ..
صاحت أمها من وراء الباب المقفول :
-ياولدي حـ.ـر.ام عليك ديه كلام يخربيب بيوت يا بكر .. وحد الله .
صاح متوعدًا :
-وأنتوا لسه شوفتوا خربان بيوت !! دانا هطربقها على روس الكُل ، بحق بتك اللي خلتني مقدرش أرفع راسي في النچع أنا هوريها ….
هتفت رقية بغل وهي تسند رأسها على الباب وتتلصص السمع :
-ولا تقدر تعمل حاچة وأعلى ما في خيلك أركبه ، و يلا غور من إهنه …
-هتشوفي يا رقية ، ورحمة أبوكي وأبويّ
لهخليكي تحفي وراي عشان اتچوزك …
هتفت متعمدة إثارة غـــضــــبه :
-خف جعجعة وحِل عن سمانا وإلا المرة دي هقل منك بحق وحقيقي يا بكر ..
لهث أمام بيتهم ليقول آخر جملته :
-هتشوفي ، هتشوفي يا رقية يا بت عمي ، أما خليت راسك المرفوعة دي في الوحل مبقاش بكر ولد فياض ..
••••••••••••••
حـل المسـاء وعاد هارون برفقـة ليلة إلى بيت العزايزة وما أن رأت ليلة غرفتها تناست تمامًا أمر الأقراص المهدئه حيث اكتفت بنزع حذائها والتوسد بـ.ـنتصف فراشها من مشقة رحلتها التي لم تخلٌ من شِجارها مع هارون ومخالفته الرأي دومًا، أما عنـه انطلق في أرجاء نجعه لمباشـرة بقية مهامه المتراكمـة فوق رأسه بمساعدة هيثـم أخيـه … أما عن هاشم الذي اطمئن قلبه رفض نغم له وأحس بأن غُمة صدره قد انزاحت ، كان جالسًا برفقة رؤوف بحديقة منزلهم يتحاورن حول الأخبـ.ـار والأحداث الناشبة بسيناء وغيرها من مشاكل البدو بمرسى علم حتى غيـر رؤوف مجرى الحوار الدائر بينهم :
-هارون فين من أول اليوم !! هو الواد ده خطب ومش هنعرفوا نتلايمو عليه ؟!
أشعل هاشم سيجارته التي رماها بفمه وقال :
-لا مش هارون أخوي ، بيقولوا في مشكلة بيحلها.. قولي ناوي على أيه مع نجاة!!
تنهد رؤوف بكلل :
-كُل خير ، على فكرة أنا فكرت في رأيك ولو اتقفلت الدنيا هعمل زي ما قولت لي !!
عارضه هاشم :
-وفكرك نجاة هتوافق !!
-لازم توافق ، مفيش حل !!
دعبس هاشم وراء مخططه الذي يخفيه كي يرى عواقبه بعين ابن عمه :
-ولو اتكشف !!
-ايه هيقــ,تــلونا !! ولا هيطردونا من النجع ؟! كله و.جـ.ـع يا هاشم ، ومفيش و.جـ.ـع زي و.جـ.ـع القلب.
شجعه هاشم قائلًا :
-وأنا شاهد … قول يلا وهتلاقيني في ضهرك ..
جاء صوت حمحمة هارون في تلك اللحظة فهمس له رؤوف محذرًا :
-اقطم على الحديت هارون جيـه ….
شـ.ـد هارون مقعده وشارك مجلسهم قائلًا :
-متجمعين عند النبـي .. خير !!
-أخيرا ظهرت ؟! فينك من بدري ..
سحب سيجارة من عُلبة أخيه وأشعلها بضيق بعد ما تجاهل اتصال زينة وقال :
-إهي مصالح !! عاودت مـ.ـيـ.ـتى !!
هاشم بانفعال:
-الصبح .. واتفاجأت امك قرت فاتحتي .. صفية مش هتبطل حركاتها دي يا هارون !!
تأفف هارون من تصرفات أمه التي تود أن تورطهما دوما وقال :
-أهي دبستك معاي ، يلا اهي چوازة والسلام كبر راسك .. نغم چدعة .
-بس أنا مش رايد نغم يا هارون ، ولما اتحدتت معاها لقيتها هي كمان مش رايدة .. هو الچواز بالغـ.ـصـ.ـبانيـة ؟!
-يبقى أخلع خفيف خفيف قبل ما تتورط ..
كاد أن يجوابه ولكن قطعه رنين هاتفه باسم ” البكباشي ” فأخذ هاتفه على الفور وانسحاب مستأذنًا :
-معاي مكالمة ، اسيبكم ..
أفسح هاشم الساحة لابن عمه كي ينفرد بأخيه ، فاستغل رؤوف الأمر ومال نحـوه :
-هارون عاوزك ..
-خير !!
-عاوز اتچوز نجاة !
قاطعه هارون ليذكـره :
-وانت داري بالأعراف ، لو اختارتك تسيب ولدها لناسه ، ومفتكرش نجاة هتضحى بولدها ..
-ما هو لازمًا يكون في حل !!
نفض هارون عبق سيجارته بالأرض واكمل :
-أخو جوزها لو سمع انها غاوية چواز هيتجوزها هو والحق معاه ..
-هارون عقولك نشوفو حل مش تعقدها !! ديه ظلم .
رد هارون بكلل إثر صداع رأسه الذي يصدح من طول يومه :
-والله يا رؤوف لو حليتها ودي مع ناس چوزها انا معاك ، محدش هيعارضك وتبقى شفعت في المسكينة دي ..
ثم وثب قائلًا :
-انا هروح أنام عشان مش واعي قِدامي ..
••••••••••••
~بعد مرور يـوم …
‏‫
جاءت الليـلة الموعود وهي ليـلة ” الحِنة ” للعروس .. دقت الطبول بدوار العزايزة واجتمع النسوة بساحـة القصر تحت أجواء من المرح والفرحـة وصدح أصواتهم المهللة .. كانت ” ليلة ” بغُرفـة هاجر تقيـس جلبابها الأحمر القاتم الصعيـدي الذي تناقس مع بِنيتها الأنثوية ومنحهـا مظهرًا جذابًا وأنيقًا .. توقفت أمام المراة لتعقـد حزام خصرها المطرز بمساعدة هاجر التي تَشيد بجمالها وتناسب الزي لها .. فرغت من عقد رابطة خصرها وهي تتأمل جمالها المعكوس بالمرآة :
-يعني بجـد شكلي طالع حلو !!
ترنحت هاجر في جلبابها الأزرق الجميل وقال بإنبهار :
-تقولي للقمر قوم وليلة تقعد مطرحك ..
لملمت شعرها للوراء وهي تشبك الخصل ببعضهما بـ” التوكة ” الفضيـة ثم وضعت القليل من الحمرة فوق ملامحها ليبرز جمالهـا وبراءتها أكثـر .. فتدخلت هاجر قائلة :
-يلا تعالـي نشوفوا العروسـة ..
تابعتها ليـلة بمرحٍ بعد ما قضت ليلتها مع الفتيات تشاركهم فرحتهم والضحك والرقص وغيرها من التفاصيل، رغم انشغال وقتها وعقلها التام بما يُحيط حولها إلا انا أعينها طول الوقت كانت تبحث عن هارون ، تفتش عنه هنا وهناك ، تعلقت أعينها بمدخل الباب الذي لا يأتي به أبدًا طول النهار ، لا تعلم سبب تلك التصرفات المراهقة التي تغمرها كأنها فتاة صاحبة السادسة عشر عام ولكنها بررت لنفسها بإنها تشعر بالغربة في ذلك المكان الذي لا تألف غيره ، غيره هو هارون العزايزي ..
قطعت الممر الخاص بالطابق العلـوي لتصل للغرفة التي تقطن بها العروس مع أحدى فتيات النجع المختصة بتزينها ، دخلت هاجر الغرفة وما أن وطأت أقدامها بالداخل اطلقت العديد من الزغاريد وكلمـ.ـا.ت التهئنة والمبـ.ـاركات حتى تدخلت نجاة التي تعد رسومـ.ـا.ت الحنة :
-عقبال فرحتنا بيكي يا هاچر …
قبلت هاجر أختها صاحبة الشعر المفرود والحمرة الخفيفة وقالت :
-عروستي القمر …
-عقبال فرحتي بيكي يا حبيبتي مع اللي يستاهلك …
هنا جاء صوت ضـرب النيران من كل صوب وحدب ، ركضت أحدى الفتيات نحو النافذة وصاحت :
-هارون بيه وهاشم بيه عيضـ.ـر.بوا نار ..
لم تكبح فضـولها أكثر من ذلك بل هرولت نحو النافذة لتراه في جلبابه الأبيض رافع فوهة سلاحه لأعلى ويفجر العديد من الطلقـات بالهواء ، فجأة تحولت عينيها الباحثة عنه إلى أعين ثابته تتأمله بإعجاب وانبهار بتلك المعالم الرجوليـة الجذابـة وهو ينافس هاشم أخيه بضـ.ـر.ب النار بين أجواء لطيفة من الفرح والمرح .. لقد تبدأ الرحلة القلبية نحو الغـرق عنـ.ـد.ما تقف على حـد عينيـه وتُطيل النظر بعد فترة طويلة من البحث .. جاءت هاجر من خلفها لتهتف بفخر بأخوتها :
-أچمد أخوات عروسة في الدنيا ..
في تلك اللحظة فُتح الباب بصوت الزغاريـد المندلعة من زينـة وهي تُهلل بسعادة لا توصف ، اول ما فعلت رفعت وشاح رأسها لتتباهى بشعرها الطويل المموج أطرافه وهي تصيح :
-عروستنا الزينة وجمالها ديه جاي من ورد جنينة..
ثم مالت على هيام وعانقتها وهي تُقبلها :
-الف بركة يااحلى عروسـة ..
تحمحمت هاجـر بضيق عنـ.ـد.ما رأت زينة التي لا تتقبلها أبدًا وقالت باختناق :
-اهي زينة الهم چات ..
تفاجأت ليلة من ذم هاجر لخطيبة أخيها وقالت بهمس:
-أنتِ مش بتحبيها ولا ايه !!
تمتمت هاجر بحذر ألا يصل صوتها إليهـا :
-زينة هبلة بس مشكلتها مش عاوزة حد يشوف غيرها ، هي وبس في اي قعدة ، شايفة نفسها مفيش بت في حلاوتها .. وو
فابتلعت هاجر بقية كلمـ.ـا.تها وهي تدنو من هاجر لتعانق ، وما أن رأت ليلة بجوارها عاندت وبكيد نساء لكزتها بكوعها في كتفه فابتعد ليله عنهم متأوهة من شـ.ـدة الضـربة التي نالتها منها بغـ.ـيظها ، ضمت زينة هاجر عنوة وهي تربت على ظهرها :
-عقبالك يا داكتورة .. عقبالك يا ست البنات .
عاتبها ليـلة بغـ.ـيظ :
-مش تاخدي بالك الله !!
ابتعدت عن هاجر وهي تعتذر لها عن عدm رؤيتها المزيفة :
-ااه هو أنتِ ، دا أنتِ لسه مأنسانا !
بادلتها ليلة بابتسامة مزيفة :
-ااه لسه ، ده لو مش هيضايقك..
اكتفت زينة بنظرة كريهة لها من رأسها للكاحل وهي تعبث بشعرها لتُقلد “ليـلة” وتسريحة شعرها ونظرت لهاجـر وقالت :
-هارون لساته مكلمني وقالي اتوحشتك يا زينة ومتعوقيش ومستنيكي عشان عيتوحشني .
أسبلت هاجر أعينها بسخط :
-غريبة ، هارون مش بالخفـة دي والهطل داه !! كنك مجودة هبابة يا زينة؟؟
اخفت زينة غصة خيبتها وأكاذيبها وقالت بغنج متعمدة إثارة غيرة ليلة وهي تحدق بها :
-الحب ياهاجر يعمل أكتر من إكده ، مش عاوزة أقولك من امبـ.ـارح وهو رن رن خوتني مكالمـ.ـا.ت كنه مش مصدق أنو فاتحتنا اتقرت ..
تدخلت ليـلة بعفوية وهي ترجع خصلة من شعرها خلف أذنها وقالت:
-غريبة ، أنا كنت مع هارون بيه في لاقصر إمبـ.ـارح طول اليوم مستأذنش ولا دقيقة انه يكلمك !! أنا مش بكذبك بس ممكن يكون اتصل بيكي فعلا لما رجعنا .. أو أنا مخدتش بالي كُنت مشغولة بالتصوير !!
جحظت عيني زينة بنيران الغيرة:
-يعني ايه أنتِ وهارون لحالكم في لأقصر !!!!
فأكملت هاجر بخبث :
-ليه !! هو وهو عيكلمك طول اليوم إمبـ.ـارح موقعش بلسانه وقالك إنه في لاقصر !!
هنا تدخلت نجاة بعد ما تبادلن كل من هاجر وليلة الضحك على عبث ملامحها فجأة وهي تستشيط غـــضــــبًا وقالت:
-يلا ننزلو ، الكل مستنينا تحت وبطلو حديت فاضي …
~بالأسفـل .
انسحب هاشم من أجواء الأحتفال مع رجـ.ـال قبيلته وأخوته ليتوارى خلف أحد الأشجار ليتحدث مع رغد التي هاتفته لتبـ.ـارك له على فرحة أخته وتمدح بجمال هيئته من خلال الصور التي أرسلها لها قبل قليل .. غادرت رغد غرفتها لتنتقل للشرفة وهي تقول :
-أيه الجدع القمر ده اللي أنا متجوزاه، هاشم اياك واحدة تعاكسك كده ولا كده !!
تحمحم هاشم وبرقت عينيه :
-لا متخافيش قلبي مش واعي لوحدة غيرك ، خلي اللي يقول يقول..
-يعني اتعاكست!!
فكر للحظة ليثير معالم غيرتها:
-أكيد ، وأنا شوية ولا ايه، لسه متعاكس من حتة ست كيف البدر ، جمالها جمال فرس عربي أصيل ..
رسمت الضحكة على محياها وهي تعبث بشعرها:
-افضل كده كُل بعقلي حلاوة .. عمومًا هعديها ..
-ولو معدتيهاش هجيلك ونعيدوها سوا..
سألته بدلالٍ:
-هي أيه دي بقا ؟!
تحمحم ليخشن صوته ويرسخ معالم وجهه وهو يقول بثبات :
-ليلة إمبـ.ـارح ..
اطلقت ضحكة انثوية مثيرة زلزلت أوصال قلبه وسألها :
-منزلتيش الشغل .
-بكرة باذن الله ياحبيبي هنزل ، بالحق يا هاشم عايزة أقولك أن مامي مش بتكلمني وزعلانة مـ.ـو.ت على الفازة بتاعتها وأنا بجد مش عارفة أعملها أيه !!
رد بمزاح :
-هتزعلها شوية وتفك، قوليلها البني آدmين عتمـ.ـو.ت يا سامية مچتش على الفازة ..
هبت معاتبة :
-كله من شقاوتك يا سيادة الرائد .. وفي الأخر أصل رغد عندها فرط حركة .. مامي بدأت تصدق بجد وعاوزة تاخدني لدكتور !!
-المصـ يـ بـةلو كانت صدقت بجد يبقى هي اللي محتاچة تروح لدكتور!!
-ياسلام ده ليه بقا؟!
-أصل التكسير ده مش بيحصل غير في وچودي يبقى الحِدق يفهم ، ولا أبوكي مكنش يكـ.ـسر !!
شهقت بدهشة من شـ.ـدة وقاحته وقالت بعتب :
-هاشم أنا كل يوم بتأكد أن صفية كسلت تربيك أمشي كده ، وبعدين اسمه باباكي ، هعلم فيك لامتى مش. كفاية لهجتك اللي بتتغير ١٨٠ درجة دي !!
رفع حاجبه ليمازحها بلطفٍ:
-ماهو لو اسمه بابي يبقى مكنش بيكـ.ـسر فعلًا ، وسامية معذورة ..
أحمر وجهها من جُرئته الزائدة وقالت بانفعال :
-أنت قليل الأدب … ويلا بقا باي باي ..
-استنى !!
-أيه تاني ؟؟
تفوه مستغلًا لكنته الصعيديه في صيغة الأمر:
-عاوزك تطلبي لنا أوردر چديد المرة دي لأجل القديم جيه على هواي ..
ردت بانفعال والضحك يرج صدرها :
-هاشم ، بكرهكك …
~على الجهـة الأخرى .
كان هلال واقفًا برفقة هيثم أخيه الذي يتلصص النظر من الفتيات اللاتي يقبلن على دوارهم بأفواج من كل صوب وحدب ، تهامس في آذان هلال الواقف في صف الرجـ.ـال يرحب بالمدعوين :
-هو أنا ما ينفعش أروح أقف جار صفية وأرحب بالضيوف بردك ..
حدجه بنظرة حادة فبرر هيثم موقفه مستخدmًا حبه للموسيقى :
-معاك أن دولت ضيوف لكن الـ هناك دفوف ..
حذره هِلال بهمس وهو يصافح أحد الرجـ.ـال :
-تأدب !!
-يعني لو تأدبت هتكافئ و هتوديني ؟!
استغفر هِلال بسـره ثم دعا له :
-أسأل المولى عز وچل أن يصلح لك شأنك ..
رفع هيثم كفيه للسماء ليُؤمم وراء دعاء أخيه فوقعت عينيه على دخول رقية وأمها فصاح هيثم فارحًا :
-رقية چات ..
بدون إرادة منه تزحزت عينياه على تلك التي ترتدي فستانها الفضفاض وحجابها الطويل وتقف بمحاذاة أمها تتبادل السلامـ.ـا.ت مع الحجة صفية التي ضمتها لحـ.ـضـ.ـنها ، هرول هيثم لعندهم متجاهلًا نداء هِلال المتهامس ، فحركه عقله للانسياق خلف أخيه أو على الأجـ.ـر.ح تحرك مُتبعًا خُطى قلبه الذي نبض بحروف اسمها من شـ.ـدق أخيه ، هلل هيثم مرحبًا بتلك السيدة وابـ.ـنتها:
-يادي النور ، الداكتورة رقيـة وخالتي صفاء نورونا إحنا على إكده اكتفينا معازيم أصلو جم اللي بيهم كُلهم..
تمتمت صفية بضحك:
-يحظك ياهيثم ، تملي يحب يضحك ويهزر متاخديش منه كلمتين چد .
ربتت صفاء على كتفه لتمدحه :
-بس يسلم يدك يا زين ما ربيتي يا أم هارون ، هيثم ديه ولدي اللي مخلفتوش ..
ثم لمحت هِلال ينضم لمجمعهم؛ فأشادت بخلقه :
-وكله كوم والشيخ هِلال ديه كوم لوحده، راچل مچدع وشهم بصحيح .. يبـ.ـارك لليد اللي ربت.
أطرق هِلال وجهه بالأرض بعد ما اختلس نظرة من الجميلة الواقفة بجوار أمها :
-حيا الله من آتانا وتعطر بقدوه أرضنا ..
مال هيثم على مسامعه بتخابث :
-أنتَ أيه چابك ، هارون هيحش رقابنا ..
ضغط على مقدmة حذائه المخفية تحت جلبابه الفضفاض كي يصمت وتمتم بوجه باسم:
-كيف حالك يا أخت رقية والعـ.ـا.قبة لكِ ..
لكزه هيثم بعظى :
-إكده هتطفش منك .. أنت شكلك حافظ مش فاهم هتچرسنا يخربيتك.
ضغط هلال على حذائه مرة آخرى كي يصمت وهو يتلقى رد رقية بسعة صدر :
-الله يبـ.ـارك فيك يا مولانا ..
ثم مالت على مسامع أمها :
-مش يالا ياما ندخلوا ..
هتف هيثم باعتراض :
-ليه ما أنتو واقفين ، دي جمعة مش هتتكرر تاني ، ده الشيخ هلال بنفسه چاي يستقبلكم !!
ثم حك رأسه وهو يغمغم :
-” ويُعك ”
ردت صفاء :
-فوق راسي يا ولدي ، تشكر كُل مفهومية .
ربتت صفية على كتفـها :
-دا أنتِ اللي نورتينا ، محدش عيشوفك غير فالأفراح أنتِ والبت القمر دي .. اتفضلوا اتفضلوا ..
دار هيثم لأخيه ليعاتبه :
-أنت چاي وراي ليه ! عشان تقولها العـ.ـا.قبة لكِ !! أنتَ أحول ؟!
انكمشت معالم هِلال بجدية وهو ينكر قطعًا اتهام أخيه :
-جئت لاراقب أفعالك كي لا تغرق بجُب الفتنة !
غمز له هيثم بطرف عينه :
-والله ما حد غرقان بجُب الفتنة غيرك ..
ثم رفع طاقية الأزهرية وهمس بأذانه ناصحًا ليعديها بعد ما يفرغ خبث جُملته :
-لما تيچي تصيع متصعش على صـ.ـا.يع !!!
~على الجهة الأخرى .
مال هارون على آذان هاشم الذي يسأله بحدة :
-كُنت فين ومهملني !!
شـ.ـد ياقة جلبابه برزانة :
-شُغل يا هارون يا أخوي ، شغل يجيب كُساح ..
رفع هارون حاجبـه بسخرية :
-لا يا راچل !!
تمتم بآذان أخيه يتهامس مرتديًا زي الشكوى :
-زي ما بقولك ، كـ.ـسر وشيل وحط وهد خيم ووقع عواميد وفتش وقطع وشـ.ـد أجزاء واضـ.ـر.ب .. أخوك شقيان ..
-قلب أمك !!
-ااه والله … صُعبت عليك .
رد عليه هارون بمكر :
-لا .. بس اظبط ..
-ما ليك عليّ حلفان ، أخوك شقيان..
في تلك اللحظة رن هاتف هارون بأحد المكالمـ.ـا.ت المنتظرة فهمس لهاشم بحرص عنـ.ـد.ما اطلع على هوية المُتصل :
-خليك چار أبوك ..
انسحب بعيدًا عن صخب الطبول والأصوات وقال :
-أيوة يا سميـر ..
قال له الأخر :
-هارون بيه بعتلك رسالة على رقمك ، افتح شوفها ..
على الفور ؛ فتح هارون أحد مواقع التواصل الاجتماعي ( الواتساب ) ليجد رسالة صوتية من سيمر أحد الأشخاص اللذين يثق بهم ثقة عمياء ويعتبر حلاقـه ومرشـ.ـده السري والذي يأتي له بجُملة الأخبـ.ـار عم يدور بالنجع و رغم إعلان الكراهية المزيفة بينهما في النجع بأكمله والمتعارف عليها بكره سمير الشـ.ـديد لحكم هارون وأخوته ، ولقد كلفـه هارون بالتلصص على نوايا ” ضيا ” المشكوك بها ، لقد وجد رسالة صوتية مُسجلة .. فضغط عليها وقرب الصوت من مسامعه ليأتيه صوت ضيا قائلًا ويبدو علي نبرته السُكر :
-ما ليك عليّ حلفان يا سمير لاخدلك حق عينك اللي طيرهالك هارون و لاخلي رقبة رچالة خلفية العزايزة في الطين ، وما في حد هيبقى الكبير غيري ، اظبط ساعتك بالدقِيقة واتلقى اللي هيجرالهم مني ….
لقد كتب غسان كنفاني إلى غادة السمان عنـ.ـد.ما تمردت على حبه :
-“ولكن قولي لي :
ماذا يستحق أن نخسره في هذه الحياة العابرة؟
تدركين ما أعني!!
“إنّنا في نهاية المطاف سنمـ.ـو.ت”

وكتب قلبي المكوي بداء التمرد ليُجادلـه بعد عشرات السنوات :
أخطأت هذه المرة يا غسان ، حتمًا المـ.ـو.ت هو المصير المنتظر لكُل مولود ولكني أرى دومًا أن المرء لا يمـ.ـو.ت فقط عنـ.ـد.ما ينتهى عمره وينقضي أجله ، بل هناك مـ.ـو.ت من نوع آخر وهو ذلك الحب الذي يلامس القلب ليدثره ويخبره كيف يكون الدفء ثم يرحل ليتركه وحيدًا لصقيع الحياة منتظرًا كفن المـ.ـو.ت الحتمي بجسد قُتل بخنجر العشق المسموم .. لا يمـ.ـو.ت المرء إلا عنـ.ـد.ما يقــ,تــل الحب كُل دواخله ….
فجاء غسان ليُجيب ويُلخص فوضى أقوالي ويؤيدها :
-يبدو أن هناك رجـ.ـال لا يمكن قــ,تــلهم إلا من الداخل ..

مازالت الأجواء بالداخل يعُمها الفرح وترنيم الغناء الصعيدي وبعض الهتافات المعتادة ، تتراقص الفرحة على وجوه الجميع ما عدا العروس ، الشاردة في عالم آخر غير عالمهم ، غِصة قلبها تعوق شعورها بالفرحة ؛ نوبة من الهلع لمصيرها المنتظر الذي لا تعلم عواقبة ، ابتسامـ.ـا.ت مزيفة ترسلها لمن يوجه لها المبـ.ـاركات .. انسحبت من أجواء الرقص والفرحة لتجلس على مقعدها تُراقب الناس عن بُعد ، سيدات النجع والقبيلة اللاتي لا يجتمعن إلا في الأفراح والمناسبات العائليـة ، الأعين متلصصة نحوها ونحو هاجر أختها التي يتهامس عليها السيدات ، كل منهما تريد أن تظفر بها لابنها …

وعلى الجهة الأخرى كانت زينة تتفقد المعازيـم وتعرفهم بنفسها وبكنيتها الجديدة وزواجها القريب من كبير العائلة هارون العزايزي ، كانت تتمايل بغنج بين السيدات بشعرها الأسود الذي يغطى ظهرها بأكمله حتى أوقفتها سيدة فضولية لا يشع من عينيها إلا الحقد :
-وعلى إكده لبسك ولا بعد فرحة أخته ..

ترنحت بدلال أنثوي وهي تتفاخر بينهن :
-لسه هنچيبوا الشبكة قِريب ، أصل سي هارون موصي الجواهرچي على شبكة عِليوي شيع يجيبها من بحري ..
ثم تمايل عودها كمن يراقصه هواء الكـبـــــريـاء ؛ وأكملت :
-أصلو قال لي مراة العُمدة لازمًا تلبس غير الكُل ، طبعًا ماهي هتبقى الكبيرة وكلمتها مسموعة..
ألتوى ثغر السيدة العجوز بسخط وهي تتمايل على الأخرى لتهمس في أذانها بعد ما انشغلت زينة في الحديث مع سيدة غيرهن :
-حظ الملايح في صفايح، وحظ القبايح في السما لايح .. شوفتي يا بهيجة البخت !!
فتهامست الأخرى وهي تفحص زينة من رأسها للكاحل وقالت :
-بس البت ملفوفة وحِلوة وطول بعرض ..

-بس نبتها غبرة وقلبها أسود ، دي بت بتاعت مشاكل مش طالعة لأمها ، أمها دي آية ، أنا عارفة صفية ملقيتش غيرها !!
لكزتها الثانية لتصمت :
-طب وطي حِسك ، وبصي على العروسة شكلها مچبورة على الچوازة ، بوزها ممدود شبرين ..

حانت نظرة من عين السيدة صوب هيام الشاردة :
-ومين يقدر يغـ.ـصـ.ـبها هما أخواتها شوية !! تلاقيها مكسوفة زي البنات …
ظل الحديث يدور في ساقية همسـه حتى ظهرت “ليلة” من غُرفة أحلام التي كانت تساعدها في السير إثر رُكبتها الموجوعة ، بعد ما ذهبت لها بدلًا من هاجر التي انشغلت مع المعازيم .. حِدق من الأعين المتسعة انفرجت نحو تلك الفتاة التي يشع البياض من وجهها كأنها جاءت من بلاد لا تشرق فيها الشمس ، ملامحها البريئة التي يزينها القليل من مستحضرات التجميل ، شعرها الكستنائي المنسدل على كتفيها ، شالها الصوف المتناسق مع لون عباءتها والملفوف حول عنقها .. مع ذلك الجلباب الأشبه بالقفطان المغربي بعدساتها اللاصقة الرمادية التي تتجول هنا وهناك بإحراج … حتى مالت نحو أحلام متهامسة بخجل :
-طنت أحلام هما بيبصوا عليا كده ليه ؟! أنا شكلي فيه حاجة !
وشوشت لها أحلام :
-ده عشان أحلى منهم يا عبـ.ـيـ.ـطة ، أبقى خُشي لفردوس چوة تبخرك أحسن عنيهم تندب فيها رصاصة ..
ساعدتها ” ليلة ” في الجلوس وهي تستقبل نصيحتها بابتسامة واسعة وهي تومئ بالإيجاب ، هنا سُحب بساط الأضواء من تحت أقدام زينة وباتت النظرات كلها تتصوب نحو تلك الغزالة المجهولة التي تقطن في بيت خليفة ، الجميع يتهامس ويتساءل عمن تكون هذه الفتاة التي أبدع الخالق في تصورها ..

~بالمطبخ ..

جمر الغـــضــــب يتوقد من بين ثنايا وجهه ولكنه أجبر أن يتعامـل بهدوء كأن مازال لمخططه بقيـة بعد ، أخذ هارون يفتش في رفوف المطبخ وهو يتساءل :
-فردوس ؛ البن بتاعي في منه إهنه ، چايين ناس مهمـين وعاوز القهوجي يعمل منيها ..

تحركت فردوس المشغولة بصُنع الحنـاء لتنزع قفازات يدها البلاستيكية وتبحث معه على علبة البن مُؤكده إنها ما زالت هنا .. في تلك اللحظة جاءت ” ليلة ” على سجيتهـا دون علمها بأنه موجودًا بالمكان ولكن ربما خلقت للقلوب أعين تبصر بها ما لا تبصره العين وهي تتفوه بعفوية لتلك السيدة التي تعرفت عليها في صباح اليوم ، دخلت وهي تحرر حلقها العالق مع شالها الصوفي :

-داده فردوس ، طنت أحلام بتقولك بخريني عشان الناس اللي برة تندب في عينهم رصاصة !!
هتف فردوس على الفور :
-اسم الله عليكِ ؛ حصوة مِلح في عينيهم ، تعالى تعالي !! ما أنتِ الصلاة على النبي عليكي مفكيش غلطة .. يحرسك ويصونك يا أميرة يابت الأمراء.
دار هارون بتلقائية عند سماعه لصوتها لتسقط عيناه على حوريـة جاءت من الجنة لمرمى أنظاره على الفور ، لتقع عيناه على أجمل إمراة يراها بعمره ، ربما خُلقن الكثير من الجميلات ولكن مقاييس الجمال عند القلب فريدة للغاية ، قط يصور لصحابها أنها أجمل جميلات الأرض ويهنئ الفؤاد نفسه إنه نال حظه الوفير بها ، تحمحم بخفوت وهو لا يستطيع مقاومة سحرها في زيها الصعيدي وقال ليشتت انتباه عقله الذي استقر عندها :

-أحلام بس بتحب تچامل اللي حبايبها ..
حالها لم يختلف عن حالة السُكر التي أصابته عند رؤيتها ، بل تفاقم الأمر وتراقص القلب عند رؤيته وكإنما خُلق له جناحين من نسل أهدابه الشائكة ، تزحزحت الأنظار عنه وهي تشكو لفردوس :

-صحيح الكلام ده يا دادة !! يعني أنا مش حلوة وطنت أحلام بتجاملني !!

عاتبته فردوس :
-مالكش حق يا سي هارون ، بقا فرخ الحمام النمساوي دهوت فيه بعده حديت !
حدجته ليلة بانتصار :
-عندك حق يا دادة ، واضح أن جناب العمدة محتاج يروح لدكتور عيون .. يظبط له الرؤية .
ختمت جملتهـا بشهقة كبيرة عند رؤيتها للحنـة فأقبلت نحوها بلهفة :
-الله حِنة !! أنا بعشقها وبعشق ريحتها .

مسحت فردوس على ظهرها بإعجاب :
-عكس سي هارون ، ده مش عيطيق ريحتها .. والود وده يقلبها دِلوق .. مش شايفاه مزرزر كيف!

ما ذكر اسمه فأصابها داء الثرثرة من جديد ، نصبت قامتها واقتربت منه وهو يقـ.ـا.تل نفسه بألا يناظرها وقالت بدلال وهي تقعد ذراعيها أمام صدرها وترفع جفونها لأعلى لتسائله :

-أنت على طول كده كاره كُل حاجة !! وبعدين فيك ؟! أومال بتحب أيه على كده ؟!
رد بجمود :
-أنا حُر …

-لا مش حُر في دي بالذات ، عمرك سألت نفسك ليه العروسة لازم تحط حنـة قبل فرحها ، والعريس كذلك .
تأرجحت عيني فردوس وهي تراقبهم بنظرات متلألئة وكأنها تشاهد فيلم كرتوني أمامها ، هذا لست هارون الرجل اليافع الصلد الذي تربى تحت عينيها ، يقف أمام تلك التي لم يتجاوز طولها المائة وستون سنتيمتر وهي تلقنه درسًا في الحكايات ، عاد ليبحث عن قهوته كي يهرب من سطو عينيه المنجذبة لها دومًا :

-لا ، ومش عاوز أعرف ..

تحركت لتقف أمامه لتُجبره على سماعها:
-مش بمزاجك بس أنا لازم أعرفك ، وأعرف دادة فردوس ؛ آكيد هي كمان متعرفش .. وحتى تعرف خطيبتك عشان تحس إنك مهتم بتفاصيلهم الصغيرة دي .

هرولت فردوس لعندهم بحماس :
-ما تسيبها تقول يا سي هارون ، قولي قولي ..

رمقته بنظرة انتصار وهي تُعلن التحدي أمامه وقالت وهي لم تحرك عينيها من عليه :

-أصل يا دادة الأسطورة بتقول …..

رفع حاجبه والضحكة مرسومة على ثغره متعجبًا :
-أساطير تاني!! أنت ما عتزهقيش ؟!

-وأنت زعلان ليـه !! ولا عشان حضرة العمدة مش بيحب حد ينافسه في معلومـ.ـا.ته ! وأنت مش عندك معلومة .. فبتحس بالجهل قُصادي ؟

رد هارون نافيًا :
-لا عشان مش ناقصة خوتة ، عاوز اسمع كلام يتعقل .. ويدخل النفوخ .

استند كفها على رُخامة المطبخ وهي تناطحه مع اقترابها منها أكثر :
-اسمع وبعدين احكم ..

جاء صوت فردوس من الخلف متحمسًا :
-كملي يا ست البنات ، طول عمري عاوزة أعرف السبب بتاع الحِنة ..

تناظره بتحـدٍ وهي تقول بنبرة تجبره على سماعها :
-زمان .. أيام الفراعنة ” إيزيس ” لما جوزها ” أوزوريس ” مـ.ـا.ت .. وهي بتجمع كل أشلاءه صُبغت يدها كلها باللون الأحمر ، فالفراعنة اعتبروه كنوع من أنواع الوفاء والحب والإخلاص ..

ثم اقترب منه إنشًا وهي تُكمل بنفس النظر الثاقبة التي تخترق قلبه :
-ومن وقتها طلعت العادة أن العريس والعروسة لازم يحطوا حنة كرمز للوفاء ما بينهم وإنها هتفضل تحبه طول العمر ..

-حديت فارغ ، يعني أنا لو محطتش حِنة هطلع عين الست اللي هتچوزها !!

رغم إعجابه بما قالته إلا أنا كبريائه لم يسمح له بالاعتراف والهزيمة ، قال جملته الأخيرة متعمدًا اثارة غـــضــــبها بهدوءه المعتاد مما جعلها تعانده وتقول :
-سبق وقولتلك دي اسطورة يعني عايز تصدقها صدقها مش عايز براحتك ، لكن ده مش يديك الحق تنفي وجودها ..

صاحت فردوس من الخلف :
-كلامك كله دهب يا ست ليلة ، عتقول كلام حلو قوي يا سي هارون ..

ما زالت حبال نظرات التحدي متواصلة بينهم حتى هتف قائلًا :
-القهوة يا فردوس ، ريحة الحِنة كتمت على صدري ..

ثم صاحت بنفس النبرة وكأنها تنافسـه :
-تعالى بخريني يا فردوس ، عشان اللي عنده معلومـ.ـا.ت قيمة الزمن ده زيي بيتحسد ..

تمتم بسخط !!
-هيتحسد على ايه يعني !! دي تخاريف .. دانا شفقان عليكِ .

هتفت متوعدة بدون نيـة منها لذلك :
-تخاريف بحبها ، وهفضل وراك لحد ما تحبها أنت كمان …

هارون بنصح :
-طلعيني من راسك !

سبقت عفويتها منطوق لسانها :
-لا أنت مش جوة أصلًا عشان أخرجك منها !!

غرق في ضباب عينيها الرمادية وغمغم متعمدًا إثارة غـــضــــبها كعادته :
-ربنا يشفيكي !!

تدخلت فردوس كي توقف فصل العناد بينهمـا ؛ ولكنها زادت من الطين بلل :
-چرالك أيه يا هارون بيه !! من مـ.ـيـ.ـتى عتعمل عقلك بعقل الحريم !!

سكبت فردوس فوق رأسه دلو من الماء المثلج عنـ.ـد.ما طرحت على مسامعه سؤالها الذي تجول بعقله للحظات يتساءل:-لِم يناطحها الحديث هكذا على غير العادة !!!!

في تلك اللحظة جاءت زينـة لتجعل من فردوس :
-مـ.ـا.تشهلي يا فردوس ..

فابتلعت كلمـ.ـا.تها عنـ.ـد.ما سقطت أنظارها على الثنائي المتقارب من بعضه البعض وبينهما نظرات واضحة للأعمى ، فتبدلت نبرة صوتها وحركاتها هي تعبث بشعرها لتُلملمه كله على كتفها الأيمن وتقول بخجل مزيف :
-سي هارون ، أنت إهنه .. ما دتنيش ليه حس أجيلك ..

ثم دنت منهم لتتوسط موقفهم بدلال وهي تغازل شعرها :
-تؤمر بحاچة يا سيد الناس ، ولا انا وحشتك چيت تشوفني !!

تدخلت ليلة بدون وجه حق :
-لا جيه ياخد القهوة بتاعته ..

للحظة راق له رد ليلة الذي بدله على الفور وهو يرمقها زينة بسخط ونفر قلبه من قربها وهو يقول بصوت متهدج :
-غطي راسك قِدامي يا زينـة ، لساتني غريب عنِكِ .

-يووه يادي العيبة يا سي هارون ، ما أنت راچلي وكلها كام شهر ونتچوزوا ..

-ااه لما نتچوزوا أبقى أعملي اللي عاوزاه لكن دلوق مش عاوز أشوف المسخرة دي !!

قال جملته الأخيرة وهو ينسحب من المكان عند قدومها إثر غُمة قلبه التي هجمت مرة واحدة، رغم بقائه لفترة طويلة مع ليلة التي يسمع لحديثها الذي لا يعتقد فيه ولكن بناءً على رغبة قلبه اختار مجاوراتها والإنصات لها ، انصرف هارون من المكان تحت نظرات ليلة المعجبة ونظرات زينة الفارحة بعـ.ـبـ.ـط المغــــرور وهي تروي لفردوس :

-شوفتي بعينك يا فردوس غيرته عليّ ، مش مستحمل حد غيره يشوف شعري .. يالهوي على الحُب وسنينه !!

-متأكدة أنها حُب وغيره !!
طالعتها ليلة بنظرات غريبة مزيج من الشفقة والتعجب ودmدmت متأهبة للذهاب :
-أنتِ كمان محتاجة تروحي لدكتور عيون يظبط لك الرادار زي اللي اسمه سي هارون بتاعك .

دبت زينة على صدرها بدهشة :
-يقطـــعـــني !! ماله هارون يا فردوس هو عيان !! ولا المقصوفة دي عتفول عليه !!

انكمشت ملامح فردوس التي كان ينبت منها زهر الضحك أمام ليلة وهارون ، تبدلت ملامحها على الفور وهي تحمل الحنة وتقول لها بملل:
-الحنة أهي يا ستِ زينة !!!

•••••••••••••••

~بالخارج ..

-هويش ، ركـز معاي عقولك سيبك من المحمول .
أقبل نحو وهو يتخذ أنفاسـه من شِدة الركض ليزف لأخيه الخبـر العاجل ، أغلق هاشم هاتفه أثناء مراسلتـه مع رغد وقال بتأفف :

-مادامت قولت هويش دي يبقى جايب خبر زي وشك ..

مسح هيثم على صدره وهو يقفز ليقعد جار أخيه وهو يمسح المكان بأعينه كي لا يسمعه أحد :

-أنا لمحت حتـة بت يا بوووي ، چمالها يدوخ يا وِلد أبوي ..

امتص سخريته الثائرة عليه وفعل أجواء الجدية :
-نط لـ صفية تخطبهالك ، يلا حلاوتها في حمـ.ـو.تها يا جدع قبل ما تشوف الأنقح منها !! ألحق نفسك .

-بص أنا هرقدلها لحدت ما تطلع إكده ولا إكده وهعرف هي بت مين فـ النجع ونخطبوها ، الليلة يا هاشم .

تبعه وهو يقول بجدية مزيفة:
-الليـلة يا وِلد أبوي ..

وضع ساق على الأخرى وقال حالمًا :
-هبقى عريس !!

-روح أنتَ بس اقطر البت الأول عشان لو عجبتني أنا كمان هنتشاركوا عليها.

لهتفه لم تمهله الفرصة ليعقل الكلمة بل وثب متحمسًا وهو يقول :
-قُضيت … راچعلك .

تابعه صوت هاشم الساخر :
-منصور ان شاء الله ..

ثم تمتم في سره :
-أخوي ولازمًا استحمل جنانه ، الحريم هوسته .

ظل هيثم يحوم حول بيتهم وبالأخص الساحـة التي يجتمعن فيهـا السيدات يتلصص النظر هُنا وهناك عساه أن يلتقى بمراده .. انتبهت له ليلة المندسة في حِمى أحلام من سطو نظرات السيدات حولها وأسئلتهم الكثيرة عن هويتها حيث كانت أحلام متولي مهمة الجواب ، وثبت ” ليلة ” من مكانها لفضولها الذي جذبها نحو أعين هيثم المرتبكة بهدوء ، وفي أحد زوايا المنزل تمايلت إحدى السيدات على أذان زينة التي لم تتوقف عن الرقص والغناء وكأنها هي العروس :

-قوليلي هي مين البت اللي لابسه أحمر دي ؟!

لقد ملت زينة من كثرة السؤال عن شخص ليلة ، فغمغمت بإجابتها المعتادة :
-دي واحدة من بحري عمتى صفية جابتها عشان تساعد فردوس في شغل البيت ، خدامة يعني ..

خيمت نظرات الشك حول ملامح وجه السيدة وهي تقول بسخط :
-بقا الأميرة بت الأمراء دي خدامة !!

ردت بجزعٍ وبنبرة يقينة لصدق كذبها :
-وأنا هكدب عليكِ ليه ! روحي اساليها بنفسك وسيبني ارقص ..

كانت تتفقد المكان حولها كاللصـة وهي تُقبل نحو هيثم المتواري خلف احد الأعمدة ويلوح لها ، حتى وقفت أمامه تتساءل :
-أخدت بالي إنك بتدور على حاجة !!في حاجة وقعت منك ؟!

-قلبي وقع مني ومش لاقيه يا ليلة .

قال جملتـه وهو يضع كفه فوق قلبه مترنحًا بهيام ، فتراجعت خطوة للوراء متبعة نهجه وهي تتفقد المكان حولهم بمزاحٍ :
-وقع هنا يعني ممكن ندور عليه سوا !!

اتسعت ابتسامتـه وهو يشكو لها صبابته :
-هو اتخلع لما شافك ، ووقع وتاه لما شافها !

أسبلت عينيها بدهاء وهي تُشير لها بسبابتها :
-هيثم أنتَ بتتكلم عن بـ.ـنت ؟! صح ، حبيبتك جوه هنا في الفرح وحابب تشـوفها ؟!

-نبيـه ، والله ما حد هيفهمني كدك ..أنا قولت .

-طيب هي اسمها ايه ادخل انادي عليها ، أنت ممنوع تدخل جوه صح ؟!

صاح هيثم مادحًا :
-عليّ النعمة أنتِ چدعة وبمية راچل وخدتي قلبي من ساعة ما شوفتك .

تمتمت بحماقة :
-هو أنت كمان شايفني راجـ.ـل بشنب زي أخوك العمدة ده ؟!

-يخربيته !! هو قال لك راچل بشنب ؟!

-وات إيڤر مش بالظبط ، بس يعتبر قالها ؟!

دنى منها خطوة وهو يعازلها بعينيه المفضوحة :
-معذور أصلو عمرهُ ماشاف ستات على حق قبل إكده ! فالعداد عنده ضـ.ـر.ب لما شافك .

خرجت الكلمـ.ـا.ت من بين شفتيها المنتفضة لتنبس وراء تلك الفتاة التي بات وجودها يزعجها كثيرًا :
-وهي خطيبته دي مش ستات !

-لا زينة دي نسوان !!لما تقابلها تكون عاوز تنسى اليوم اللي شوفتها فيه وتنسى الصنف كله ..

أطلقت تلك الضحكة المسموعة والمتوارية خلف أناملها وهي تصفه :
-هيثم أنت مشكلة بجد !!

-سيبك أنتِ ، الچلابية الصعيدي هتاكل منك حتة .. ومش حتت ، قولي ليه ؟!

ثم دنى منها خطوة ليسرد بعينيه المعجبة :
-لان باقي الحتت كلهم عشاني !!

من نظرات هيثم المغازلة التي اعتادت على الضحك معه تفهمت أن مقصد حديثـه يشير لمغزى أخر ، فهبت محتمية بذكر اسم الرجل الوحيد الذي وثقت به دون ان يمنحها وسام الثقة لذلك :

-أنا هشتكيك للعمده وأقوله أخوك هيثم بيعاكسني ؟!

-ليه ؟! وأنا سايبك معاه كُل ديه ومحاولش حتى يصف ابداع الخالق فما خلق ؟! يخربيت فقره !

-لا حضرة العُمدة متربي جدًا .

-ديه خايب چدًا ..

هنـا أطلق صدى صوت دهشته عنـ.ـد.ما سقطت عينيه على فتاته التي تعثر بلقائها قبل دقائق خارجة من ساحة البيت وهي تتحدث بالهاتف ، وعلى الجهة الأخرى هارون الذي لم يتحمل وقوفها مع أخيه أكثر من ذلك محتجًا بالصورة العامة وحرصًا على تشويه سمعة ليـلة وأهل بيته ، قطع الخطوات بغـــضــــب يسكن رأسه وقلبـه عنـ.ـد.ما طالت مدة وقوفهـم ، وهو تحيرت عيني هيثم بين الجنة والنار ، بين السماء والأرض وهو يشكو لليلة :

-أوبا القمر على شمالي ، والنيازك على يميني ، أروح على فين بسرعة ؟دي فرصتي الأخيرة ..

تأرجحت أعين ليلة في الجهتين لتقول مرتبكة :
-أحيه ،ده أخوك جاي علينا !! هو بيجي على السيرة ولا أيـه !!

-هيعلقني !!
قبل أن تطأ أقدام هارون لعندهم ، هب هيثم بالحـل :
-روحي اصطدmي بـ النيازك الله يعينك لحدت ما ما أجيب أنا القمر في حِچري .

-هتودينـا في داهية ! أنا بسمع كلامك ليـه ؟!
قالت جُملتها وهي تهرول لتصطدm بهارون قبل أن يفشل مخطط أخيه .. تفرق مجمع الاثنين في خطين منعكسيـن لكل منهما يرتطم بهدفه ، اقترب هيثم من الفتاة ذات الوجه المستدير كالقمر والأعين الخضراء الساطعة كالنجوم وهو يستغل دخلاته القديمة المستوحاه من الأفلام العربية:

-لقـد أعلنت هيئة الأرصاد الجوية عن اختفاء القـمر ، قولت أما أچي رمح ألحقك أحسن يمسكوكي !!

جاء هيثم من الخلف مردفًا جملته الأولى على آذان تلك الفتاة ذات الجسد الممتلئ وحجابها الذي يزين ملامحها و التي لا يعرف حتى اسمها ، دارت له الفتاة وهي تنهي مكالمتها وترمقه بعدm فهم :
-أنت عم هيثم صُوح !

-والله ما في حد عم الناس كُلهم غيرك ! اسمك أيه الأول وبت مين ؟!

-أنا خلود بت الحج عارف …

-ااااه ، عمي الحچ عارف !! ده حبيبي ، أنتِ مخطوبة يا خلود ، ولا في حد قايل عليكِ عشان أقطع خبره من على وش الأرض ؟

انكمشت معالم وجه الفتاة إثر اسئلته الكثيرة وقالت بسذاجة :
-أنا لساتني في الإعداديـة يا عم هيثم ، وناوية أخش الكُلية .

تفحصها من رأسها للكاحل وهو يندهش حول بنيتها الأنثوية حيت تفوه ساخطًا :
-وأما أنتِ لساتك في الإعدادية ، القالب قالب عشريني و جرجرني ليه !!

رمقته بحماقة :
-عتقول حاچة يا عم هيثم ؟!

تلقى صدmته وخيبته بضيق :
-عم أيه عاد !! قوليلي يا حچ هيثم !!!

وصلت لهارون في مسافة خطوات معدودة وهي تمسك بكفه بلهفة وتسحبه في الجهة المعاكسة كي تشتت انتباه عن أفعال هيثم الدنيئة ، هبت مهلوفة بدون ترتيب :

-هارون بيه ! كويس إنك جيت لسه كنت بسأل هيثم عليك !! تعالى تعالى عايزة أقول لك حاجة مهمة ومحدش هيعرف يحلها غيرك ..

لم تمنحه الفرصة حتى للمعارضة ، بل سحبـته ببراءتها كي تخدع مناطق عقله المتمردة دومًا ، فانساق القلب خلف عفويتها كما تتبع الفراشات مسار الرحيق ، وقف الاثنان بأحد الزوايـا المتوارية عن الأعين إلى حد ما ، وهنا كان الاختبـ.ـار الحقيقي لأكذوبة “ليلة” التي كيف ستُكملهـا لمواجـهة دهاء الطوفان الذي يملكه ، كانت مرتكبة لا تعرف من أين ستبدأ ولكن قلبها سهل عليها الطريق وقطع درب المسافـة ؛ طافت في حدق عينيه المتسائلة وهي تقرأهم :

-شكلك مضايـق !!

ثم قفزت في رأسها جُملة ” غوين ” الشهيـرة من الفيلم الكارتوني ” الهجرة ” متقمصة تلك الشخصية التي تُشبه عفويتها كثيرًا وأكملت لتكـ.ـسر فخارية ارتباكها واكاذيبها عليه بخفة دmها المعتادة وأكملت بروح تلك الطفلة التي تسكنها ممثلة دور “غوين” ببراعة :

-شكلك مضايق .. وأنت ؛ وأنت محتاج حـ.ـضـ.ـن .

غرقت في وادٍ ضحكها وتاه هو في سحر عفويتهـا ، لأول مرة يحظى بامراة في سجيتها وجمال روحهـا ، وقع جملة ” أنت محتاج حـ.ـضـ.ـن ” كانت كخيوط العنكبوت حول قلبه وكأنه جاء ليُعلن ملكيته للمكان ، فنسجت حوله جدارًا فاصلًا بينه وبين الجميـع ، أفاقت من غيبوبة ضحكتها فرسيت على معالم وجهه الجـ.ـا.مدة المتصلبـة التي تغرق فيها بدون أدني تلميح منه ، فأدركت أنها وقعت بورطة أخرى بسبب عفويتهـا ، فبررت بـ.ـارتباك :
1

-دي غوين قالت كده في فيلم migration .. أنت ما شوفتش الفيلم ولا ايه !! آكيد مش هحـ.ـضـ.ـنك بس ده إيفيه مشهور جدًا ..

ثم رجعت خصلات شعرها للوراء إثر تـ.ـو.ترها البالغ :
-أي الرخامة دي !! كمان هشرح لك الإيفيه !!!

رد بجمـود :
-كُنتِ عايزة أيه ؟!

تنسات كل شيء و أجابته :
-أنا ؟! مش عايزة أي حاجة خالص … هكون عايزة أيه يعني !!انا ايه جابني هنـا أصلا !!

-أنتِ نساية ليـه !!

ما ذاب أثر “ليلة” بالساحة أشعل نيران الغيرة برأس “زينة” التي تغير من نسمة الهواء المحيطة بهارون ، رمت الوشاح على رأسها وأخذت تتفقد المكان باحثـة عنهـا في كل صوب وحدب حتى لاحظتهم من بعيدًا ، فجاءت نحوهم ركضًا وهي تلوح بكفها الذي تُثقله الأساور الذهبية :

-جرالك ايه يا سُهنـة أنتِ !! وأنا كُل ما عيني تغفل عنِكِ أجي ألقاكي واقعة على ودان چوزي وشغاله لوكلوك !! هما اللي اختشـوا مـ.ـا.توا ولا أيه !! لا عقولك أيه اظبط وإلا ورب الكعبة معنديش غير الشبشب !!

هلع قلب “ليلة” من اقتحام ” زينة” الثائر عليهما ففرت للتتحامى بكتفه على الفور وكإنه بات مكان مأمنها الدائم .. وقف هارون بوجهه وبنظراته الصارمة ليضع لها حدًا :

-ما تبطلي هلفطة إنتِ چرى لعقلك أيه !!

-أوعا ياهارون دي كهن نسوان وأنا قارياها زين !! تعاليلي .

رفع سبابته بوجهه :
-يمين عظيم يا زينة لو ما دخلتي چوة واحترمتي نفسك لأفض مشوارنا ده كله ، أنا مش ناقص خوته .

ندبت على صدرها بدهشة :
-يا ندامتي !! لا لا … اتكتمت أهو وربنا ما هحرك لساني – ثم تلفظت بحرقة – بس البت المسهوكة دي كانت عاوزة منك أيه ؟!!!

جاء هاشم مهرولًا من الخلف :
-ايه يا هارون سايبني مع الرجـ.ـا.لة – ثم تفحصت عينيه حول زينة وليلة حيث قال مغازلًا في ليلة – وواقف هنا مع الغزالة ! ولا هما عيچوا زاحفين للكارفين !!

فلحق بهِ هلال الذي لاحظ موقفهم فجاء ليتساءل على هيثم :

-أين هيثـم ؟!

هبت زينة لتبث شكوى أخيه وهي ترمقها بسخط :
-احضرنا يا هاشم ويا شيخنا تعالى شوف أخوك عاوز يسيبني عشان دي ؟!

حانت من ها نظرة سريعة نحو ليلة :
-عيفهم ..

خاب رجاؤها من هاشم فتعلقت بتقوى هلال :
-يرضيك يا شيخنا !!

تحمحم بهدوء وهو يطالع هاشم أخيه ليمزاحه كعتادهم معًا :
-يالله !! لقد رُد له بصـره .

فعادت لتشكو همها لهارون الكاظم لضحكه :
-شايف أخواتك عيتمقلدو عليّ يا هارون !!

فانضم لهم صوت هيثم من الخلف حاملًا أسفار خيبته :
-مزعلين زيّنو ليه ؟!

-أنت اللي هتنصفني يا هيثم ، تعالى شوف حال أخوك مش عاجبه إني غيرانه عليه وعيحلف عليّ يسيبني عشان البت دي ..

هتفت من وراءه بلماضة :
-دي ليها اسم على فكرة ، اسمي ليلة ، اتعلمي الذوق شوية بقا ..

أيدها هيثم الواقع برقة ليلة :
-ما تسمعي الحديت وتتعلمي منيها .. عتتكلم صُح .

ونظر لهارون واعظًا وهو يرسل نحو زينة القليل من النظرات الماكرة :
-هِرن يا خوي اشتري مني ، اللي ما تعرفش تغيره بدله ..

فأيده الشيخ هلال الذي يسحب أخيه من بينهم :
-وتذكر قول الله تعالى ” يبدل الله سيئاتهم حسنات “

ربت هاشم على كتف أخيه بمزاح وهو يراقب ليلة التي تقف على يمينه وزينة التي تقيم على يساره :
-الله يفتح عليك يا مولانا .. اتوكل على الله يا هارون وكن من أهل اليميـن ….

نفذ صبر هارون من سخافات إخوته فجهر وهو يطالع هاتفه كالمنتظر لقدوم شيء مهم :
-هنفضلوا نتسايروا إكده وسايبين أبوكم ، أنتوا التلاتة قِدامي ولو لمحت فيكم واحد غايب ما هحله ..

جاءت نجاة تركض على نفس واحد وهي تقول بفزع :
-هارون ألحق ، هيام شغالة تبكي وسابت الحنة وعتقول مش عاوزة تتچوز .. وعمتي عاوز الشيخ هلال يرقيها شكلها خدت عين …
كتب أحد الرجـ.ـال الذين لم ينصفهم الحب :
-عزيزتي الجميـلة:
لقد أخطأت بحقنا عنـ.ـد.ما أحببتك بهذا العالم القاهر للغاية .. لو كُنا بـ عالم آخر موازي لانقلبت الموازين وتعانقت قلوبنا ..و كُنا الآن معًا نطل عليه من نافذة غُرفتنا ..
أما هذا العالم مستبد لدرجة الجنـون ، فمن باب الرحمة بتلك القلوب المحترقة أن توضع قوانين لتحمي القلب قبل حماية المواطن .. ويحصل منها كل فرد على حقه من الحقوق العاطفية ، وينال كُل منـا مُراد قلبـه … ومن يسعى خلف تحطيم قلبين عاشقين يصدر عليـه حُكم الإعدام كما كان يسعى لفعل ذلك معنا ومع قلوبنا المُتيمة ..
#نهال_مصطفى .
••••••••••
-” اللهم أذهب البأس رب النـاس ، و اشف أنتَ الشافي ، لا شفاء إلا شفاؤك .. شفاء لا يُغادر سقمًا ”
طلب هارون من هِلال أن يصعد لأختـه ليرى ما بها بعد ما أكد عليه أن يرسل ريح الطمأنينة لقلبها بمجيئه إليها بعـد توديع الضيوف مع بقية أخوته ، ذهب هلال لعندها وأمر بمغادرة الجميع من الغُرفة فلم يتبقى معهما إلا هاجر ، ختم مراسم الرقية الشرعيـة بدعائه الأخير وهو يضمن رأسها لصدره ويمسح على رأسها بحنان زاخـر ، فطالع وجهها الباكي وأخذ ينفث بهدوء على ملامحهـا الذابلة فسألها :
-حسيتي حاچة !!
تشبثت بكف أخيها وهي تشكو همها :
-مش عاوزة الچوازة تتم يا هلال ، جبـل يا أخوي وكاتم على نفسي .. عاوزة أصرخ وما قادراش ..
بطرف كُمه كفكف دmـ.ـو.ع صغيرته المصبوغة بكُحل حـ.ـز.نهـا ، وهو يواسيهـا قائلًا :
-كُل هذا من العين أم هناك أسباب آخرى ؟
تدخلت هاجر بمزاح لتُلطف الأجواء :
-شكلها مش عاوزة تهملنا وتمشي ..
ثم فتحت ذراعيها لتضم أختها باحتواء:
-ولا أنا كمان قادرة اتخيـل البيت من غيـرك .
رفع هلال رأسه ليُقبل جبين أختـه الحزينة وقال بدفء :
-مفيش حاچة هتحصل من غير رضاكي .. طمني قلبك بهذا .
في تلك اللحظة ؛ مال مقبض الباب الذي فُتح ليظهر منه هارون الذي تملص من حشـ.ـد المعازيم المتزايدة وقال بحزم :
-هلال خد هاجـر واطلعوا ..
عارضته هاجر وهي تتشبث بأختهـا :
-لا مش ههملها يا هارون ، سيبني معاكم أنت مش واعي لحالتها .
نظر لأخيه بهدوء ما يسبق عواصفه ، ففهم هلال على أخيه فقال بصوت متزن :
-هاجر لا تجادليـن !!
تقهقرت هاجر من جوار أختها بعد ما قبلت وجنتها وهي تقول بحـ.ـز.ن وخيـم :
-متبكيش تاني وإلا هروح اخلص على ضيا دهون ونستريحوا منه .
تبادلن الابتسامـ.ـا.ت الحزينـة حتى تمسكت هاجر بكف هلال أخيها وغادر الثنائي الغرفة ، أحكم هارون غلق الباب خلفـهم ثم دار لأخته فاتحًا ذراعيـه بحنان أب:
-خبر أيه !! حُصل ايه لده كُله !!
ثم جلس على طرف الفراش أمامها وكفكف بإبهامه دmـ.ـو.عها :
-دmـ.ـو.عك دي تنزل وأخوكي في ضهرك !! أومال لو متت ؟!
هبت بهلع :
-بعد الشر عنك يا خوي ، حِسك في الدنيا ..
بنبرته الخفيضة أكمل :
-جرى أيه ما أنتِ كُنتِ زينه من الصبح وفرحانة ؟
-حاجة كتمت على قلبي يا هارون ومبقتش قادرة اتحمل هملت المكان وقومت ، أنا مش فاهمة روحي ، ليّ شهور عاوز أبعد وكل ما افتح السيرة مع أمك تهت فيّ كإني عاملة عملة ، كنت بنزل المية بنفسي اذوق المراكب الواقفة عشان تسير وأقول معلش يابت بكرة ربك يحلها ويهديه أهي چوازة والسلام هتقعدي لحدت مـ.ـيـ.ـتى ..وهو كان يجي يضحك عليّ بكلمتين وبعديهم يقلب تاني ، تعبت يا هارون تعبت .. ومابقتش عارفة أعمل إيه!!!!
تأرجحت عينيه بغـــضــــب دفين :
-صفية كانت عارفة كل ديه وساكتـه !!
تدلت عينيها بانكسار على حالتها ، فأمسك بذقنها لترفع جفونه لعنده قائلًا :
-أبوكي وأخواتك حسهم في الدنيا ، وما عاش ولا كان اللي يكـ.ـسر عينك ..
ثم جلى حلقه وتعاهدت أعينه قبل الألسن :
-واثقه في أخوكي !! وواثقة في كلامه !!
ردت هيام ملهوفة :
-لو قولت لي أرمي روحك البحر مش هفكر حتى..
-وأنا عمري ما هسمح بحاچة تضرك ، وكلمة من أخوكي الچوازة دي مش هتتم ، بس عاوزك تسمعي كلامي زين !
اتسع بؤبؤ عينيها :
-كيف يا خوي!! ده الفرح بكرة وخـ…
-ويمين الله ما هيلمس منك شعره ، بس أنتِ فتحي مخك معاي وأنا هقول لك تعمـلي أيه ..
لقد كانت لديه القدرة الكافية على احتواء وترميم شقوق روح الجميع أما عن مصائبه هو عاجز تمامًا … فقط كُل ما يحتاجـه المرء منا وبالأخص الأنثى هو والاحساس بالأحتواء والدفء وأن هناك كتف قوي يتلقى من عنها الطـــعـــنات؛ اكتفت بإلقاء رأسها على صدر أخيها وهي ترتجف من الحـ.ـز.ن وتعتذر له :
-حقك عليّ يا خوي عشان هحطك في موقف محرچ زي ديه ، بس…
ربت على كتف صغيرته بهدوء :
-بطلي عـ.ـبـ.ـط … أنا أرمى روحي في النار ولا دخانها يطولك .
ثم تحمحم بهدوء لا يتناسب مع حرارة الموقف :
-قومي اغسلي وشك ونامي وسيبك من العالم اللي تحت وانا هتصرف معاهم …
••••••••••••••
~بالأسفـل …
-“قالوا شقيـة قُولت من يومي ، قسمـوا النوايب طلع النايب الكبيـر كومي ”
جلسـت صفية على أحد درجات السُلم وهي تنوح على بختها المائل بجملتها الأخيرة وسط السيدات اللاتي انقلبـن من اماكنهما ليواسوها ، فاردفت أحداهن :
-وحدي الله يا حچـة ..
وضعت كفها على وجنتها وأكملت فقرة النواح على حال ابـ.ـنتها :
-“لما قالولي ده ولد اتشـ.ـد ضهري واتسند ، ولما قالولي دي بِنية جات الدِنيـا وحطت عليا .. يا مخلفة البنات يا شايلة الهم للممـ.ـا.ت .. ”
فأعقبت الأخرى :
-عين وصابتها يا خالتي متقهريش روحك ، بكرة هتبقى زي الفل والياسمين …
مالت ليلة على مسامع أحلام التي تُسبح على أحجار مسبحتها البنية وسألتها بحيرة :
-طنت صفية بتغني ولا هي زعلانة كده ولا هي بتقول أيه ؟
صاحت “أحلام” بضيق كي تكف عن تعديدها :
-ما خلصنا يا صفية ، استغفري ربك وقومي اطمني على بتك .. وبطلي حديت فارغ .
صاحت الأخرى بجهل وقلة دين :
-اللي تكوي قلبي ما تبقاش بتي يا أحلام .. بتي مش عاوزاني أفرح بسترتها ولما اشوفها في بيتها متهنية .. ياريتني چبتهم كلهم ولاد ولا حرقة القلب دي ..
جاء هلال في تلك اللحظة وكلمـ.ـا.ت أمه تقع على قلبه كجمر يحرقه ، فاقترب من أمه واعظًا ومستدلًا بحديث الرسول :
-يا أمي لا يجوز لواحدة مثلك زارت بيت الله أن تقول أقوال جهالة .. ألا تتذكرين قول النبي “ليس منا من ضـ.ـر.ب الخدود أو شق الجيوب أو دعا بدعوى الجاهلية”
لم تكف صفيـة عن ندبها :
-واللي عملته أختك ، دي عاوزة تجرسنا وچوزها زمانو چاي يهنيها ويتحنى .. هتخلي سيرتنا على كل لسـان .
-أختي لم تفعل شيء نخجل منه ، ويحق لها الاختيار لمن سيرافقهـا الدرب .. نحن معهـا على أي حال .. أختي لم تقترف ذنبًا واحدًا ..
ألقت ” رقية ” نظرة لأمها كإنها تستأذنها للتحدث بما ما أعجبت بحديث ولطف هلال مع أمه ؛ فتدخلت قائلة برغبة منها :
-يا خالة صفية متزعليش واسمعي كلام الشيـخ هلال ..
ثم ألقت على وجهه المتدلي بالأرض وأكملت :
-أهم حاجة عندنا راحتها وفرحتها ، يعني هتفرحي لما تشوفيها متنكدة وقرفانة في عيشتها !!
-لا ، المهم تتچوز وتتسر ..
فأكملت رقية بجملتها التي رُدت بقلب مولانا المغرم بصوتها :
-تتچوز وتتهنى وبعدين نقولوا دي اتسترت .. لكن تتجوز ووتتنكد إكده مسهماش سترة دي جُرسة ياخالة..
-الله يفتح عليكِ يا أخت رُقية ..
قال جملته وهو ينهض من مكانه ليُقبل رأس أمه ويتأهب منصرفًا من مجمع النساء الذي اقتحمه إثر ثرثرة أمه الباغضة وقال :
-بالأذن .. استهدي بالله وقومي توضي وصلي وربك يرسل تيسيره إلينا …
ثم انحنت رأسه بالأرض تحت أعين بعض النسوة الخبيثات :
-تأمري بشيء يا أخت رقيـة ؟
أحمر وجهها وقبل ما تجيبه تدخلت زينـه لتقول بقلة حياء :
-هتعوز أيه يعني واجبها واتاخد – ثم صاحت بالباقية- ولو سمحتوا الحنة باظت ومفيش عروسـة يلا يلا كل مراه على بيتها أهل البيت عاوزين يرتاحـوا … المولد فض .
كظمت رقية غـــضــــبها من بجاحتها واكتفت بنظرة ثاقبة لها وهي تزيح كفها من عليها وبدون أي كلمة تخصها ، فخير رد على السفيه الصمت ، استغفر هلال بسـره وهو يعلن انسحابه فأوقفه زمجرة صوت هارون أخيه الواقف بمقدmة درجات السُلم وهو يقول بتأدب :
-“العروسة تعبانة شوية من الشقى ، وبكرة مستنينكم على الفرح في معاده ، نورتونـا … ”
رمقه هلال بنظرات معارضة سايسها هارون بإشارة منه بأن هناك أمر جديد لا يعلمه ، وثبت صفية لتستنشق نسـيم الراحة وهو تصدح بالزغاريـد :
-يعني الفرح هيتم !! يا فرحة قلبي .. مش قولتلكم چلع بـ.ـنته !! بتي متعملش في أمها إكده واصل ، ربنا يخليكي لقلب أمك يا هيام …..
•••••••••••
~السـاعـة الثانيـة بعد منتصف الليـل .
نام الجميع من الساعة العاشـرة مساءً ، كان الهدوء يـعم النجع بأكمله لا يقطعه إلا عواء الذئاب ونباح الكلاب ..اجتمع الأخوة بالحديقـة حول بؤرة النيران المتقـدة للتدفئة حتى قص عليهما هارون كل ما يتعلق بأمر أخته .. قفل هاشم هاتفه إثر رنين رغد المتواصل بعد ما ارسل لها جملته الأخيرة ” هكلمك لما اطلع ” وقال بنبرته القاطعة كالسيف:
-وكيف صفية تسكت على الكلام ده لحدت ما ورطتها !! هي مش هيام كانت حباه ورايداه وهو ديه اللي خلانا نحطو مركوب ونوافقوا بيه !
فأكمل هيثم مغلولًا :
-الناقص، ورب الكعبة ما هعتقده يا هارون..
لم يكف هلال عن ذكر الله الذي يفرغ به دخانه غـــضــــبه المحترق ، فقال :
-الجزاء من جنس العمل .. وهو يستحق كل ما يناله منا .. يستغل عرضنا ليؤذينا فيه .. الدنيء.
فتدخل هيثم مقترحًا :
-أحنا نروح له بربطة المعلم ونرنه العلقة التمـام لحد ما يقول حقي برقبتي ويطـ.ـلقها ، أنا مش هسيبله أختي يا هارون ..
فتدخل هاشم بحدة :
-محدش هيسيبها ، الواد ديه لازمًا يتصفى ويشقش عليه نهار ، ودي سيبهوالي .
تقابلت أعين هلال وهارون المتزنـة والتي تُحكم عقلهـا حتى ترجم هلال مقصد أخيه وقال :
-المچلس أنا هحلهـا ، بس التسچيل مش حُجة يُأخذ بهـا ..
أشعل هارون سجارتـه بهدوء وهو يهز رأسه عالمًا بسير بخُطاه :
-عالم حسابه ..
قاطعهم هاشم الذي يحترق داخله كما تحرق النيران الفحم أمامهم:
-أنتوا أيه البرود اللي أنتو فيه ده !!! أنا هروح بيتهم أخلص عليه الـ*** ابن الـ*** ..
فوثب هيثـم متحمسًا :
-وانا معاك ، أحنا نروح نولعو فيه وفي دارهم وفي اللي معرفوش يربوه .. الناقص ولِد الـ***، جاي يلعب مع أسياده ..
وقف هارون ليثبط من ثروة أخوته برزانة :
-اللي عدى البحر في سفينة نايم .. غير اللي عدى وسط القروش عايم .. يعني اركزوا عشان أنا عارف هعمل أيه لان لو غلطة واحدة هتغرقنا كُلنا ..
عارضه هيثم :
-يعني ايه يا هارون ؟! ما تفطمنا يا وِلد أبوي ؟
-يعني تروح تنام أنت وهاشـم والصُبـح هتعرفوا .
عارضه هاشم بضيق :
-ما دامت عارف هتعمل ايه قولت لنا ليه من أصلو ،، هارون افهمني اقطع عرق وسيح دmه أنا عاوز اختي تترمل ، أحسن من ندخلو في حوارات ومجالس وو
-وأنا قدامك مش عتحنجـل ، قولت لك الموضوع خلصان ومحدش هيفتح خشـمه .. روح نام واشبع نوم ..
ثم سحب عباءته الصعيدية بنفور وقال :
-بالإذن …
تراقصت النظرات الحائرة بينهم حتى أيده هلال قائلًا :
-اسمعوا كلام هارون هو عارف عيعمـل أيه ..
ثم ربت على كتف هاشم قائلًا :
-مش بالباع والذراع ، المخ له أحكامه يا سيادة الرائد ..
انتظر هثيم رحيل هلال فجهر مقترحًا على أخيه :
-أنا عارف فينو دِلوق ، تيچي نخلصـوا عليه ونتاووه في أي بير !
هناك مقولة عسكرية تقول :
“إذا كان الطريق آمن فاعلم أن هنالك كمين” صحة هذه المقولة لمْ تثبتها الأحداث التاريخية فقط بل أثبتتها حتى المعاملة اليومية بين أبناء البشر! فإذا ما قابلت شخصًا كُلُّ صفاته الظاهرة نزيهة، ولا تدع في قلبك مجالًا للشك، فإنّك حتمًا وبموقفٍ واحدٍ _ربّما_ سيتّضح لك أنّك كنت على خطأ، وأنّ تلك الثقة التي قمت بمنحها قد صُنع بها كمينًا محكمًا للإيقاع بالمخدوعين أمثالك .
هرب هارون لجُحره الخاص وعالمـه الذي يهون عليه مرارة العيش ، فتح باب غُرفتـه الخشبيـة وأشعل إضاءتها وتحرر من كل ملابسه الصعيدية التي تشـ.ـد أغلالها على عنقـه ، فتح خزانته الصغيرة وأخرج ملابسه الرياضيـة .. توضأ وصلي ما فاته من فروض أثناء يومه ثم أشعل النيران للتدفئة ووقف ليعد كوبًا من القهـوة يبدو أن هناك أمرًا يشغل رأسه فيود أن يصرف شبح النوم عن عينيـه حتى يتلقاه …
وعلى الجـهة الأخرى ؛ كانت ليلة متيقظة فهي لم تعهد النوم مبكرًا مثلهم فلم تنل إلا قسطًا قليلًا من النوم ونهضت على اتصال أمها التي لم تتوقف عن الرنين ، بعد ما انهت تلك المكالمة التي لا تخلو من الاوامر والتأكيد على تناول الأدوية بانتظام و التي اعتادت أن تنساها في الفترة الأخيرة .. فتحت باب غرفتها المُطل على الحديقة بعد ما ألقت وشاحًا على كتفيـها وأخذت تتفقد المكان بيأس .. تاه بها الفكر حول أي سبب آتى بها لهنا ؟! وأي قدر أوقعها مع أشخاص مثلهم ؟! وأي مجهول ينتظرها ؟!
وهي تسير تحت ظل النجوم المختبئة وراء الغيوم كإختباء قدرها المجهول تقاوم صدح تذبذب الجرعات السامة برأسها فـ بدّ لها قرص القمر الساطع يتلألأ نوره في خد السمـاء ، اتسعت ابتسامتها بمرحٍ وهي تقول بصوت مسموع يملأه الانبهار :
-واو !! القمر مكتمـل يعني الخواتم المفروض تكون اختفت في الوقت ده !! معقولة ؟
كان القمر ينعقد ضوءه فوق سطح غرفته المفتوحة والتي ينعكس منها النور فتعلن وجـوده ، مددت أنظارها للباب الموارب فخفق قلبها بدون أدنى إرادة منها بنبضة مجهولة لا تعلمهـا ، سارت خطوتين إليه ولكنها تراجعت برجفة قلب أصابتها :
-لالا .. عيب ميصحش آكيـد نايـم ..
ولت ظهرها معلنةً غروبها من اي مكان يجمعهما معًا ، فـ ظهر من باب حجرته وهو يرتشف قهوتـه وهنـا انعقد حاجبيـه باستغراب ، فنادى جاهرًا :
-أنتِ !!!!
تمنت ولو الأرض تنشق في تلك اللحظة وتبتلعها ، ما هذه الصدف التي تآمرت عليهمـا ؟! ما تلك الورطة التي وقعت بها في تلك الساعة التي تضم القمر والغيـوم ورجل مثير للفضول مثله !! أخذت نفسًا طويلًا وهي تدور نحوه وتدنو منه بخطوات مترددة :
-أنت لسه صاحي !!
هبط درجتي السُلم الخشبي وقال متسائلًا :
-فين المُشكلة ؟!
ردت مبررة :
-المفروض بكرة عندك يوم طويل وكمان النهاردة كان متعب ، وبتشرب قهوة في الوقت ده ،قصدي ترتاح شـوية عشان صحتك .
ارتشف رشفـة من فنجانه وهو يعقب على حديثها بشموخ :
-لا الصحـة بومب.
ردت بعفوية :
-يبقى تحافظ عليها ، مش تضيعها !!
رفع حاجبه مع تلك الابتسامة الخفيفة وأكد :
-قولت لك بومب …
أحست بالارتباك قليلًا فسحبت من يديه كوب قهوته التي أحبتها كثيرًا وأخذت منها رشفة بدون استئذان لتقول بمزاح يتنافس مع براءة ونقاء قلبها لا تقصده منه أي شيء :
-هشرب من كوبايتك عشان تجري ورايا ..
استقبل جُملتها باعتراض قطعه سيف حاجبه المرفوع :
-لا ياشيخة ؟!
-أنتَ مش مصدقني !! دي أسطورة شهيرة جدًا ، بتقول أن لو واحدة شربت من كوبايـة واحد أو العكس ؛ كده معناه أنه هيقع في حبها من أول وجديد وهيفضل العمر كله يجري وراها ومش هيشوف بـ.ـنت أحلى منها ..
ثم وضعت الكوب بيده وأكملت بثناء :
-وبعدين دي هو كل كلمة أقولها كده تقف عندها ؛ منا كلامي واضح أهو ؟! فين المشكلة مش فاهمة ؟!
مال إليهـا وهو يُطيل النظر بعينيها الخضراء :
-أهي هي دي المشكلة في حد ذاتها ؛ مشكلتك حافظة مش فاهمة ..
تعلقت بسحر عينيه التي تقرأ تعويذة الحُب عليها لتقول بخيبة أمل مواجهة تلك الحقيقة التي تحاول الهرب منها :
-يعني أنت كمان شايفني فاشلة زيهم ؟!
خربشت قطته على جدار قلبه بسؤالها ، فـ رد بنبرته الهادئة وهو لا يفارق موجة عينيها المتقلبة :
-أنتِ مش فاشلة ، أنتِ لسـه يومك مچاش ..
‏حقيقة: ” فقد يهبط القبول قبل الحبّ بمدة” فيكونُ على هيئة انشراحٍ عجيبٍ وأُلفة غير مفهومة، وتلك منزلة عزيزة تُساق إليها قدرًا ولطفًا؛ لا بسعيٍ منك ولا سابق اجتهادٍ وترصّد.. مازالت “ليلة” تحت سُكر تلك النبرة الهادئة الجميلة التي تملك دفء وبرودة الغيوم وعزف النجوم :
-ولما يجي هنجح وكُل الناس هتشاور عليـا وهكون مبسوطة !
-لو قلبـك مستني كل ديه مسيره هيقابله ..
فأخذ نفسًا عميقًا وأكمل :
-وما زرعَ اللهُ في قلبِكَ رغبةً ‏في الوصُول لأمرٍ معيَّن .. ‏إلا لأنه يعلمُ أنك ستصلُ إليه.
تجلى حلقها الذي جف من نار ونور ذلك الحديث الدائر بينهم لتسأله بعفوية :
-وأنت قلبك قابل اللي كان مستنيه زمان ؟.
-أنا عمر قلبي ما استنى حاجـة عشان يقابلهـا .. أنا غيرك وغير أي حد .. أنا رامي قلبي تحت رچلي .
‏غسان كنفاني اختصر القصة كلها لما قال :
أنا لا أستطيع أن أتحمل خذلاناً جديداً، ولو كان خذلاناً تافهاً .. هكذا هو حال شخص مثل هارون ، خذلته الحياة حتى أجبر على خلع مـ.ـا.تور الشعور بهذا الجسد كي لا يُعـ.ـذ.ب مرة آخرى ، عارضته ليلة السابحه بمعالم وجهه التي لم تكف عن تأملها :
-بس ده مش صح ..
انتبه لتصبب قطرات العرق من جبينها التي توحي بـ.ـارتباكها الشـ.ـديد من حرارة نظراته التي ذوبت ملوحـة حـ.ـز.نها وطرقت على باب المجهول ؟! باب الحب أم باب العـ.ـذ.اب يا ترى ؟!
عاد له رُشـ.ـده على الفور ، كمن نزع حذائه وحملق بالسمـاء وسارت قدmيه الحافية على الرمل بدون وعى حتى ابتلت أقدامه كإنذار له عن الغرق ففاق للتو وتشتت عن أمر شروده ، تحمحم وهو يولي ظهره محتجًا بترك الكوب بأي مكان :
-لو مش هتنامي تعالي نشوفوا حابة تروحي فين عشان تصوري .
ردت بصوتها المتهدج وهي تراقب بُنيته القوية التي تفتقدها بجسدها الضعيف وقالت :
-شوف أنتَ ، أنا معاك في أي حاجة …
هرول للعودة لغرفته وفرغ محتوى الرفوف بطاقة غريبـة ، يبدو إنه كان يود الهرب من أمور كثيرة فتمسك بطرف اجتماعهما معًا .. أعطى لها كتابًا خاصًا بمعالم “قنا” وطلب منها ان تطلع عليه وهو الأخر مسك كتابًا ورزع بذور أعينه المحملة بـ داء التطلع لها بصفحات الكتاب ، فما سيثمره يا ترى ؟!!!
مرة قرابة النصف ساعة فثاوبت ليلة وأحست بالملل من كآبة ذلك المحتوى الذي يقع بين يديها ؛استند مرفقها على سطح الطاولة التي تجمعهما ساندة وجنتها على راحة يدها وهي تتأمله بنظرات لم تعلم أنها تسحبها لقعر حُبه ، كان منشغلًا بالكتاب الذي بين يديه مرتديًا نظارته الطبية وما أن شرع في قلب الصفحة فتزحزحت عينيه عن ورقات الكتاب لورقتي أعينها المنفرجة نحوه وهي تقول :
-لايق عليـك جدًا تكون دكتور في الجامعة..
تحمحم بهدوء متجاهلًا خربشاتها على جروحه وسألها :
-خلصتي الكتاب اللي معاكي !!
-تؤ…
أصدرت صوتًا نافيـًا ثم أتبعت :
-لا طبعًا ، لو خلصت أنتَ كتابك ، خُد خلص ده كمان عشان أنا بصدع بسرعة !
رفع ذلك الحاجب الذي يسبقه في أي اعتراض وسألها :
-وأنتِ هتعملي أيه لما أخلص كُل الكُتب دي بروحي !!
هزت كتفيها ببراءة :
-مش لازم أعمل حاجة ، بس ممكن أحكي لك عن شهرزاد وقصص ألف ليلة وليلة وأنت بتذاكر !
رد متعجبًا:
-فاضية أنتِ تقري قصص لكن مش فاضية ت عـ.ـر.في لك معلومة تنفعك ..
هبت من مكانها لتنتقل لمقعد آخر أقرب له وقالت بحماس :
-ده كلام مفيد جدًا ، أنا أصلًا واقعة في حُب شهرزاد !! اسألني ليه يلا ..
قفل الكتـاب مرغمًا ومغرمًا لينصت لها وقال :
-اشمعنى ؟!
تكورت يديها المسنودة على الطاولة تحت ذقنها وهي تمارس على تمرده سحر النظرات وقالت :
-عشان هي الوحيدة اللي خلت الملك يتوقف عن بحور الد.م اللي كانت مغرقة المدينة في الوقت ده ، عارف ليه ؟! هقول لك أنا ..
ثم سحبت كتاب التاريخ من تحت يدها بعبث وقالت :
-لأنها الوحيدة اللي حبها …. تحب أحكي لك ؟!
هـنا لقد دق هاتفه بالرسالة المنتظرة التي سحبته من سطوها لهاتفه وهو يتفقده بلهفة حتى صاح فارحًا :
-ينصر دينك …
فرمقها بسعادة بالغة تتلألأ من عينيـه وهو يغادر مقعده ليجري مكالمة تليفونية ويخبرها :
-وشـك حلو عليّ ..
رمقتـه باندهاش عنـ.ـد.ما وجدته يغادر المكان :
-حصل أيه ؟! فهمني طيب ..
••••••••••
قضت ليلة بعض الوقت مع هارون حتى استقر الاثنان على مكان زيارتهم الجديد ثم عادت لغرفتها مع أذان الفجـر على صـوت الشيخ هلال الذي أشادت بجمال صوته ، ما أن رأتـه يتوضأ كي يستعد للوقوف بين يدي ربه ، أصابت الغيرة قلبها فطلبت منه أن تستأذن لتأدية الصلاة في غُرفتها وتدعه يرتاح قليلًا …
انفلق الصباح وانفلقت معـه حكايات جديدة وأقدار لا يعلمها إلا الله .. بدأ اليوم من منزل ” بكر فياض ” الذي يرن قعر صـوته بالبيت بأقذر المصطلحات الدنيئة وتطاولـه المستمـر على أهل بيته ، جاءت زوجته حاملة كوب الشـاي بغل ووضعته أمامه على الطاولة وقالت بنفاذ صبر :
-ينفع توطي حِسك عشان البت نايمة ..
رفثت قدmه الطاولة بما عليها وطالت يده زوجتها وهو يلعنها قائلًا :
-يعني ايه وطي حسك ؟ ديه بيتي واللي مش عاچبه يغور في ستين داهية ؟! هو أنتِ هتقوليلي أعمل أيـه ومعملش ايه ؟!
ظل يفرج حممه البركانية من الغـــضــــب بتلك المسكينة التي مسحت الأرضية المبللة بدmـ.ـو.ع عينيها وملابسها ، سحبها من شعرها بقوة وظل يعنفها بجنـون ثائر ، كانت تصرف وتستغيث ولكن لا حيـاة لمن تنادي عليه ولكن الله الواحد القاهر يطلع على كل شيء .. دفعته بكل قوتها كي تهرب من سطو اثره وهي توبخه :
-فالح تعمل رجل عليّ روح اتشطر على اللي فتحت نفوخك وقعدتك في البيت زي الولايـا ..
لم تستطع الهرب من تحت يده بل فرغ فيها بمنتهى الوحشة تجبره وقوته الجسدية التي ميزها الله بها ليحميها لا ليستقوى عليها حتى تصبغ جسدها بكدmـ.ـا.ت الشر الزرقاء والحمراء …..
~وعلى الجهـة الأخرى :
تقف ” رُقيـة ” مع أمها بالمطبخ التي تغسل الصحون وهي لم تكُف الحديث عن هِلال الذي شغل حيزًا كبيرًا من رأسها ، قضمت ثمرة الخيار التي بين يدها المضمومة :
-عارفة ياما أنا أول ما شفت هِلال كأني شفت عفريت و مكنتش طايقاه ، بس بعد موقفه الچدع معانا ووقفته قصاد بكر ، كبر قوي في عيني وحسيته جدع ، وشوفتي كمان وهو عيتحدتت مع أمه !! أخلاقه عالية قوي ..
فتحت أمها الصنبور وهي تغسل ما بيدها وتقول بخبث :
-والله الراجـ.ـل من ساعة ما شوفته وهو دخل قلبي .. ده مفيش زيه فالعزايزة كلهم .. أدب واحترام .. وحلاوة وعينه معتترفعش من الأرض .. يابختها يا هناها اللئ مكتوبـلها.
هزت رقية كتفيها باستنكار وهي تنفي تلميحات امها :
-آكيد مش أنا ، أنا أصلًا مش هتچوز وهعيش العمر كله جارك .. أنا بس عحكي معاكي والكلام جاب بعضه .. وأصلا مش حِلو ولا حاچة دي لحيته وأكلة وشه ..
ثم اقتربت منه أمها وقبلت وجنتها وأكملت بشغفِ :
-بس لما بشوفه قلبي بيدق بسرعة ، وبحس نفسي عبـ.ـيـ.ـطة قوي قدامه .. يمكن عشان هو هادي زيادة عن اللزوم وأنا أصلًا هبله ؟!
قفلت أمها الصنبور وهي تتراقص على اوتار قلب ابـ.ـنتها التي تنكرها :
-لا يابت بطني مـ.ـيـ.ـتة عاوزاكي تخللي چاري ، أعيش وأشوفك متهنية في بيت عدلك ، وياخد بكر ولد فياض ويريحنا ..
ثم غمزت بطرف عينيها :
-ويچعل من نصيبك اللي دق له قلبك يا هبلة يا بت الهبلة ..
أحمر وجهها بحياء وهي تفرغ خجلها بالخيارة :
-وبعدهالك ياما ..
-متتكسفيش يابت ، دا أنا أمك ومحدش هيعرفك قدي ..
قبلت رقية أمها بثغرها الضاحك شاكرة القدر على وجودها بحياتها ثم عادت لتروي لها عن تفاصيل أمس:
-شوفتي اللي اسمها زينة ، يا بوي منيها ياما ، بت سماوية قوي ، أنا مش عارفة كيف خالتي صفية مصرة عليها، ده حتى هارون ديه وِلد خلال ويستاهل الخير..
ردت صفاء بعد اقتناع :
-بت أخوها ولازمًا تچوزها لواحد من عيالها .. أومال هتسيبها وتسيب الخير اللي وراها لمين ؟
-وهما ناقصين خير ياما !!
-البحر يحب الزيادة يابتي ..
ختمت صفاء جملتها وهي تتأوه ممسكة بقلبها الذي عاد مرة آخرى ليـ.ـؤ.لمها مستغيثة بابـ.ـنتها :
-ألحقيني يا رقية يا بتي .. قلبي رچعت له الحالة من تاني و مش قادرة .. وديني الوِحدة يابتي …..
جن جنون رقية وهي تتحرك كالفاقد لعقله بالبيت ، وضعت وشاحًا فوق رأسهـا وأخذت مفاتيح سيارة أبيها ذات الطراز القديـم ، وهرولت بأمها للمستوصف الخاص بالنجع وهي تبكي تارة وتمنحها الأمل طورًا …..
••••••••••••
مر اليـوم سريعًا كل شخص منهم مشغولًا في مهام يومـه .. يوم نمطي لأي عروس بنجعهم ، الذبائح والولائم والازدحام والمارة في كل صـوب وحدب وجمهرة الأصوات ، الجميع يتحرك على قدm وساق والكل يتسابق مع عدد الساعات لينجزون ما يمكن انجازه ….
قرعت الطبـول بعد صلاة المغرب ، وفرشت الأراضي بالورد والرمـل ، وتوافد المعازيم من كافة القبـائل المجاورة والمعروفـة .. تزينت العروس وهي تحت تأثيـر صدmتها حول كيف سيخلصها أخيها من ذلك المأزق ، لم تجب على اتصالات ضيا المتكررة حتى فاض بها الصبـر وقفلت هاتفها وهي تتساءل عن أخيها ؛ أين هو ؟!
جهزت صفيـة مائدة عشاء العروس وأعطت له مفتاح البيت لهيثم كي يرسلها لبيت أخته بسيارته مع فردوس .. نفذ هيثم ما طُلب منه بنفور ، الأربع أخوة لم يلامس الفرح وجوههم ، بل كان الصمت يعُم الأجساد …
قضت ” ليلة ” نهارها نصفه نائمة إثر تناولها جرعة الدواء القـ.ـا.تل لخلايا مخها والنصف الآخر جاءت لتُرافق أحلام الجالسة بمفردها بغرفتها وتتبادل معها الحديث ….
أما عن “نغم” التي اغتالت مشاعرها وجاءت لحضور حفل الزفاف إثر إلحاح زوجة خالهـا ، كي لا تكن مضغة الأفواه .. كانت تتحاشى النظر تمامًا عن طيف هارون ، حتى الحوار الذي كانت تتعمد أن تخلقه معه ، اغتالته مع شوك مشاعرها …
مرت الساعات ولم يخلٌ الفرح من تهامـس وتنمر النسوة عن حادث الأمس وعن رفض العروس للزواج ، كانت هيام جالسة على مقعد العروس بصمت منتظرة مجيء عريسها ليأخذها لبيتهما كمن ينتظر قدوم قابض الأرواح .. الجميع يتحرك أمامها ويقومن السيدات بادعاء المعازيم للعشاء افواج أفواج وراء بعضهـا ومن بعدها يعودون ليضعوا نقوط العروس بذلك الصندوق الكائن بجوار قدmيها كمبـ.ـاركة لها .. الكل منشغل عنها أما هي وقلبـها لا يشغيلان بال أحد …
اقتربت منها ” ليلة ” التي ترتدي ملابسها العصرية لتجلس بجوارها بالكوشة وتربت على ظهرها :
-أنا واخدة بالي إنك مش مبسوطة ومدايقة ، أنا نفسي اساعدك بس مش عارفة إزاي؟
يبدو أن القلوب المتألــمة تُنادي بعضها وتنجذب لبعضها البعض ، رمقتها هيام لتقول بخزي :
-عمري ما اتخيلت أعيش اليـوم ديه ويكون جوايا الحـ.ـز.ن ده كُله …
أشفقت ليلة على حالها :
-طيب ليه سكتي كل ده ؟!
-النصيب ؟! ليلة ، هارون أخوي فين؟!
ليلة بحب لمساعدتها :
-تحبي أكلمه ؟!
هنا لاحظت زينـة حديث هيام مع تلك الغريبة التي تشعل النيران بصدرها ، فاقتحمت مجلسهم :
-جرى أيه يا عروسـة ؟! هنقضيها حكاوي وحواديت مفيناش راس !!و مش فاضيين دي الليلة ليلتك وهنيالك هتنامي في حـ.ـضـ.ـن حبيبك …
ثم رمقت ليلة بتخابث:
-عقبالي يارب أنا وهارون وساعتها انا مش هبطل رقص لحدت ما يطلع علينا نهار ..
زفرت ليلة باختناق من ثرثرة زينة العبثية :
-ممكن تحترمي حـ.ـز.نها شوية !! أنتِ مش واخدة بالك أنها مضايقة ؟! بلاش أسلوبك الأناني ده ..
صاحت زينة بامتعاض وهي تلوح بذراعيها :
-البيت بيت أبونا والغُرب چايين فيه يربونا !!
ردت ليلة ببراءة :
-ااه لما تكوني بقلة الذوق دي يبقى لازم الغُرب يعلموكي الأوصول ..
ثم نظرت لهيام مستأذنـة :
-انا هكلم هارون بيه أقوله هيام بتسأل عليك ..
وقفت زينة أمامها بإعتراض:
-وأنتِ تكلمي هارون چوزي ليه ؟! في ايه بينك وبينه …
تدخلت هيام التى فاض صبرها من حماقة زينة :
-أنا اللي قولت لها يا زينة ؛ ينفع تُسكتي وكفياكي حديت ..
لوحت بهاتفها أمامها وقالت :
-والله ما حد يكلم هارون غيري .. -فرمقت ليلة بسخط -اقعدي ريحي روحك من الفرك رجليكِ دابت ..
تمتمت ليلة بضيق وهي تشكو لهيام :
-بني آدmة لا تُطاق بجد !
حاولت زينة الاتصال بهارون مرارًا وتكرارًا ولكن دون جدوى عادت لهيام حاملة خبز خيبتها الساخن وقالت :
-ماعيردش ، شكلو مشغول مع الرچالة ..
في تلك اللحظة فتحت ” ليلة ” هاتفها الذي يزاحمه الأنوار والغلاف الخارجي المفعم بالرسومـ.ـا.ت وهي تحرك أظافرها المزينة لتهاتف هارون وشغلت مُكبر الصوت وكأنها أعلنت الحرب على زينـة ، وضعت ساق على الأخرى ومع ثالث جرس للمكالمة آتاهن صوت هارون قائلًا بعجل رغم الازدحام حوله :
-اتفضلي يا أستاذة .
ضـ.ـر.ب الغـــضــــب برأس زينة واتسعت ابتسامة ليلة التي وضعت ساق فوق الأخرى بانتصار وهي تقول بنبرتها المتغنجة التي تعزف على كمان قلبه :
-يا حضرة العمدة ، هيام عايزاك ممكن تيجي لعندها دلوقتي .
رد باختصار :
-قوليلها متفكريش كتير .
سحبت زينة الهاتف من يد ليلة عنوة :
-هارون أنتَ اشمعنا رديت عليها وعليّ انا لا ؟!
جز على فكّيه بامتعاض:
-كنت مشغول ولما فضيت رديت .. سلام يا زينة ..
كانت ليلة تربت على كتف هيـام بحنان ، ففاقد الشيء هو الوحيد الذي يمنحه وبقوة وقالت :
-انا مش فاهمة حاجة بس هو بيقولك متفكريش كتير ، اسمعي كلامه هو لما بيقول حاجة بيكون أدها ….
عادت زينة لـ ليلة المنشغلة بالحديث مع هيام وألقت لها الهاتف قائلة بغـ.ـيظ:
-محمولك ، وأبقي امسحي رقم چوزي من عندك عشان أنا عغيـر عليه ؟!
ردت ليلة متعمدة إثارة غـــضــــبها وهي تفارق المكان كي لا تصطدm معهـا :
-لا ده عشان بس انتِ مش واثقة في نفسك يا زينة … اللي بيني وبين حضرة العمدة شُغل وبس .
•••••••••••••
~المشفى .
-طمني يا دكتـور ، أمي مالها هي مش هتروح معاي ؟
خرج الطبيب من غرفة الفحص وقال بحـ.ـز.ن :
-انا طلبت الإسعاف تيجي تأخدها لمستشفى الجامعة ، عشان لازم تتحجز هناك ..
-طب فهمني هي مالها ؟
رد الطبيب بأمل :
-اطمني ، هتعمل الأشعة والتحاليل اللي قولت عليهـا وهنحدد حالتها بالظبط ..
ثم تدخلت الممرضة مقترحة :
-تقدري تروحي تجيبيلها هدوم ووكل عشان هتتحجز في المستشفـى مش أقل من يومين ..
جففت رقية عبراتها وهي تحس بالوحدة وثِقل الحمل عليها فقالت للممرضة موصية :
-خلي عينك عليها بالله عليكِ ، هروح أجيب طلباتها وخالتي چايلها دِلوق ، متهمليهاش واللي عاوزاه أنا هديهولك ..
ربتت الممرضة على كتفها لتطمئنها :
-اطمني والله في عيني ..
هرولت رقية الباكية لتغادر المشفى وتعود لبيتها لتحضر الملابس والثياب الشتوية والكثير من النقود المحفوظة بالخزانة من تحصيل إيجارات الأراضي .. تشعل كشافات سيارتها القديمة لترى الطرق الخالية من المارة إثر اجتماع أهلة البلدة كلهم بدوار العمدة .. فلم يشغلها شيء إلا العود لأمها في اسرع وقت ..
وصلت رقيـة البيت فهبطت من سيارتها وهي تركض وتدعو ربها أن يحفظها لها أمها ، بعد محاولات كثيرة من يديها المرتجفة آخيرًا فتح الباب ، دعت المفتاح بداخله وهرولت لأعلى بدون وعي ….
ومن الخلف ، ظهرت تلك الأعين التي تتلصص النظر أمام بيتهم ، تجرع آخر جرعة من زجاجة السُكر بيده ثم مسح فاهه بكُم جلبـابه وهو يخطو نحو بيتهـا بخطواته التي تحمل لهب الانتقام متبعًا نصيحة أحد رفاق السوء ” اغـ.ـتـ.ـsـ.ـب من تُحب وسيزوجها لك عرف العزايزة قسرًا لأنها باتت ملكًا لك ” ..
وقف على أعتاب البيت يراقبه بأعين الذئاب التي على موعد مع فرائسها ، منتظرًا اللحظة المناسبة للاقتحام ولقد حان موعـدها لشره .. خطوة واسعة من قدmيـه المغبرة بداء الانتقام وكان بداخل بيتهم وهو يحكم غلق الباب بقوة ويحكم غلقـه بالمفتـاح ..
فسقط صندوق النقود من يدها وهي بغرفة أمها وأبيهـا بهلع عند سماعها صوت قفل الباب :
-مين چيه تحت ؟!!!!!!!!
•••••••••••••
~عودة لدوار العزايـزي .
قيل :
“ستخوض غمار كل شيء حتى تؤمن أنك لن تُدرِك الأبد، ولن تبلغ الجبال طُولاً، وأنّ مغانمَ العمر في خلوِّ البال، وتمامِ الصحّة، وأيامٍ محايدةٍ تنام إثرها موفورًا بالرِّضا والأمان.”
وصل ضيـا وصُحبته إلى البيت وأعلن ناقوس الفرح والغنـاء بساحة البيت الواسعة ، تلألأت طلقات النار في الهواء والجميع يغني ويتراقص ، مال الحج خليفة على مسامع ابنه هلال :
-أومال أخواتك فيـن يا ولدي مش واعي لولا واحد فيـهم ؟!
رد هلال بهدوء يُحسد عليـه :
-الغائب حجتـه معه يا حچ ..
-أختك مين هيسلمها لعريسها معاك !!
-أهدأ يا حچ وكله سيكون على ما يرام..
ركضت زينة لمجلس النساء وهي تزف الخبـر السعيد وهي تتراقص :
-العريس چيه ياخد عروسـته ، يألف بركة .
وقفت هيـام تتفقد المشهـد حولها وإذًا بدخول ” ضيـا “من باب البيت في جلبابه الأبيض ليستلم عروسـته ، فطافت عينيها بالمكان تبحث عن أخوتها فلم تجد أحدًا منهم ، أغــــرورقت عينيها بالدmع والخــــوف وهي تقول في سرها :
-أنتَ فين يا هارون ؟!
لتفيق على نداء ضيا ويده الممتدة لها ونظرته المُخيفة لها التي لأول مرة تراها على حقيقتها الخبيثة :
-يالا بينا على بيتنا يا عروسـة ..
••••••••••••
هل تعلم …
بأنني ألوذ بالفرار إلى الكتابة علها تعبر عن الصراخ الذي استوطن القلب، علها تخفف من حدة الألــم، الكتابة هي ملاذي الأخير ومسكن شعور قلبي.
••••••••••••
••••••••••••
“” عليك أن تعلم ‏لا شيء يكتب ويحكى بكل تفاصيله القاسية ‏تظل هناك أشياء مختبئة وشعور شائك لا يحسه إلا صاحبه رُبما تكون أكبر من كل الأشياء المُصرح بها و ربما تكون لا تقدر إلا بالصمت كـ ظلمتي التي أعيشها الآن .””
-مين تحت ؟!
ظلت تكرر منطوق سؤالها مرات متعددة وكل مرة كان الخــــوف يحتل صوتها والذعر يتلبس بكيانها .. وطأت أقدامها أول درجات السُلم وهي تربت على قلبها كي يهدأ وتذكر اسم المولى عز وجل مرارًا وتكرارًا خشية من عفاريت الجن ولكنها لم تضع بحسبانها شكًا حول عفاريت البشر .. هبطت درجات السلم ببطء وهي تحاول اقناع شتات أفكارها بالهواء الذي قفل الباب .. أخذت نفسًا عميقًا وهي تجرئ من قلبها المهزوز :
-أجمدي .. مفيش حاجة ؟! بس الحق اطلع المفتاح شكلي نسيته في الباب ..
اتسعت خطواتها وهي تقترب من الباب وتحاول فتحه هنا دق ناقوس الرعـ.ـب الحقيقي البعيد عن كل خيالات العقل الآدامية .. جاءت يده الملعونة كي تكتم أنفاسها وباليد الأخرى يحاول السيطرة على حركاتها .. كتم صوت استغاثتها تمردها تملصها من قبضة يده بل تحولت لسمكة مذعورة فارقت المحيط للتو .. بخ سمه بأذنها :
-خلصت يا رقية والجاي كله بتاعي ..
دبت كوعها ببطنه لتتخلص من قبضتها وهي تنوح وتفر من أمامه لتحتمي بأي غرفة كي لا يلامسها شره :
-يخربيت أمك يا بكر؟! أنت عاوز مني ايه ؟!
قطعت درجات السلم ركضًا ما أن تعثرت بمنتصفه صاحت معاتبة لمن يلحق بخطاها كحـ.ـيو.ان مفترس يلاحق فريسته :
-أعقل يا بكر عشان خاطر حبيبك النبي ..
واصلت ركضها كالغزالة الشاردة التي تود الاختباء بأحد الأماكن بالغابة التي فارقت فيها القطيع وتاهب بدروب الشر تصرخ عسى من نجاة تلقاها :
-أنت عاوز مني ايه بس ؟!
لحق بها بعد ما تعرقل بطرف جلبابه وهو يقول :
-جاي أعلمك الأدب يا رقية .. جاي أقولك أن مش بكر ولد فياض اللي يتعلم عليه من مراه ..
-يقطع بكر واللي جابوه .. ورب الكعبة لو ما عقلت لاقــ,تــلك يابكر ومش هتردد .. غور من وشي ..
قالت جملتها الأخيرة وهي تلفظ في أنفاسها وتلمس أقدامها أعتاب غرفة أمها وأبيها .. جاءت لتقفل الباب الذي يسد عنها نيران غدره ولكن خيب أملها الأخير قدmه التي اندست بزاوية الباب وهو يدفعه بكل قوته كي تتعرقل تلك المسكينة لتقع بالأرض وهي تزحف للوراء وتترجاه :
-بكر أعقل .. أنت عندك ولايا .. طب شوف اللي يرضيك وانا هعملو بس اطلع من إهنه .. امي في المستشفى عيانة ..
رسم على محياه ابتسامة الغدر وهو يشمر كمه متوعدا :
-أنا جاي وناويها .. ما هيطلع عليكي نهار إلا وأنتِ مرتي ..
سالت دmـ.ـو.ع عينيها وهي تومئ بالموافقة وتجيبه بصوتها الباكي :
-موافقة .. وهعملك كل اللي عاوزو بس بحلال ربنا .. بلاش يا بكر أمي تروح فيها ..
جثا علي ركبته وهو يتأملها كما يتأمل المجرمون ضحاياهم :
-أهبل أنا عشان اصدقك .. أنسي يا رقية .. مبقاش فيه غيرنا وياقـ.ـا.تل يا مقـ.ـتـ.ـو.ل ..
في تلك اللحظة نالت يدها مطفأة السجائر من فوق الكمود وانهالت بها فوق رأسه صراخة :
-تبقي مقـ.ـتـ.ـو.ل وعلي يدي يا بكر كمان ..
صاح الأخير متألــمًا وهو يمسك بمكان الجـ.ـر.ح المتجدد الدامي :
-يلعن ال*****
رفسته بقدmها وهرولت لتهرب من سطوه وتعرقلت بمفرش الأرضية لتسقط على ركبتها متألــمة بصرخة الو.جـ.ـع .. وهنا قدmت له ضحيته على طبق من فضة .. تناولتها يده الطائلة للشر وهو مغلولا منها ودفعها بكل قوته بمنتصف الفراش كقطعة قماش متهرية :
-هتروحي مني فين ؟! مفيش مفر مني خلاص خلصت .
ظلت ترفث بأقدامها :
-همـ.ـو.ت نفسي ولا أنك تلمسني يا كــ**
كبل ساقيها بقبضة يده القوية كي تكف عن ضـ.ـر.به وهو يقول تحت تأثير سُكره :
-متخافيش مني .. أنا عحبك وهعمل إكده عشاننا عشان نكونوا بعض .. أنا خابر ولد خليفة شتتوا راسك عني .. بس أنا هعمل إكده لمُصلحتك .. متخافيش دي هــ
حاولت أن تمتص شره الثائر وهي تزحف للوراء متوسلة :
-أمي في المستشفى سيبني ألحقها .. سيبني وبعدين هنفذلك كل طلباتك صدقني .. طب سيبني وهكتبلك تنازل عن كل أرض أبوي .. لكن بلاش تضرني …
مال الاخر ليتأهب لنيل مطمعه المحرم وهو يلهث كحـ.ـيو.ان جائر :
-أنا عاوزك أنت ومن زمان .. حتى لما اتجوزت قولت لمرتي أنا هجيبلك ضُرة وهي رقية بت عمي بس مستنيها تخلص علام .. وأنت قليتي مني ولازم تتحاسبي على غلطك ..
ختمت جملته بركلة قوية من ركبتها طالت بأنفه التي سال منها الدmاء على الفور فتحررت المسكينة من قبضة يده وفرت هاربه وهي تمسك بالفازة الزجاجية وتلقيها عليه فتصيب كتفه .. حملت الطاولة الصغيره ودفعتها بوجهه ولكنه لم يتراجع .. لم تجد مفرًا لها إلا أن تهدده ، ركضت نحو النافذة وجلست فوقها وهي تلوح بكفها والدmـ.ـو.ع تزف من مقلتيها :
-لو مبعدتش عني هرمي روحي يا بكر .. قولت لك متقربش هرمي روحي ..
التهم كفه يدها التي تلوح بها كي يبتعد عنها .. فجذبها عنوة لتفر أمامه كالطير الذي حاول أن يتحرر من الظلم بالمـ.ـو.ت .. أثناء حركتها المندفعه وقعت بالأرض لترتطم رأسها بمقبض المقعد الخشبي ليسيل دm رأسها ويصيب الصقيع جسدها وتتراقص جفونها معلنة تشل مقاومتها .. هنا سنحت الفرصة للثور الذي يلاحقها لينفذ مبتغاه .. نزع جلبابه وتجرد من كل مبادئ الانسانية ولم يرحم ضعفها لينقض على جلبابها ويمزقه إربا إربا وهو يستمتع بما تراه عينيه من وجبته الشهية …..
أصبحت الحياة تتلاشى تدريجيًا من تحت أقدامها مثلما تتلاشى قطعة القماش التي تستر روحها الطاهرة ، تشعر بكل شيء كمن يحترق ولا يمكن أن يطفيء وهج احتراقه حتى إنها فقدت القدرة على أن تتخبط بالجدران ليقلل من حدة الألــم ، اغلقت جفونها المبللة بالدmع إثر تلك الخبطة القوية التي مهدت الطريق لعدوها وكل ما يشغلها أمها تلك السيدة التي كانت صفاء حياتها ونعيمها .. كانت الأم والأخت والصديقة والأبنة وكل ما تحتاجه الفتاة .. فرت دmـ.ـو.عها معلنة رفضها لتلك اللمسات البغيضة وهي تعاتب الزمن الذي ظنت إنه بكل مرة سيتبدل حـ.ـز.نها لفرحٍ ؛ وها هي في كل مرة تغرق بالحـ.ـز.ن مجددًا وتلك المرة تحاوطها رائحة المـ.ـو.ت والمـ.ـو.تى والقبرة ولم تصل بعد !!
ربما كانت أحلامها بلا أجنحة، أو ربما هذه الحياة ليست مكانًا مرحبًا بها وبأحلامها البسيطة على الإطـ.ـلا.ق بل هنا مكانًا لتشييع كل الأشياء المقربة إلى القلب وما باقي العمر إلا حدادًا مستمرًا عليها …
في عتمة الظُلم تتعانق أوجاعنا، وتتعالى صرخات القلوب المكـ.ـسورة تاركة وراءها أثراً من الحـ.ـز.ن الذي يعتصر الروح ويغرق العينينن…في اللحظة التي افترس الذئب ضحيتـه ولم يتبقى منها إلا دmاء نقية تلوث المكان ، أصاب خنجر الألــم قلب الأم التي لم تكف عن التساؤل عن ابـ.ـنتها ، لم يكف قلبها عن الفزع على مضغته التي نالت ما لا تستحق أبدًا ، ليتوقف جهاز رسم القلب لخط مستقيم بانه لا يقاوم الصدmـة التي أحسها وكأن الطـــعـــنة الغادرة قد أصابته هو ، لتصيح الممرضة صارخة :
-ألحقنـا يا دكتور ….
يُقال أن القلوب المحبـة تبصر مالا تبصره الأعين ذات الرؤية المحدودة ، فـ ‏هنالك بوصلة مدفونةٌ في القلوب لا يدركها إلا المحبيـن ، فالشوك أن أصاب قدmًا صرخ له القلب الأخر متألــمًا كأن الوخزة كانت بهِ ، ما بين الضجيج الازدحام حوله بعد ما سلم ” الڤيديو ” الذي يدين ضيا لمجلس القبيلة ، داهم الألــم الجزء الأيسر من جسد هِلال بو.جـ.ـع مبهم وشاق فجأة ، أمسكت يمينه بيساره الملتهب بوهج الألــم الذي لم يتجاوز الثلاثون ثانيـة فانكمشت معالم وجهه صارخًا بألــم ينخر في روحه كأن الخبر وصل لقلبه :
-يا ستـــار !!!!!
••••••••••••••
قيل أحدهم ذات مرة :
“” ما زلت لا أفهم كيف يكون الإنسان ملتزمًا تجاه الآخرين بحذافير اللطف واتقاء شر إيذاء القلوب لكنه مع ذلك لا ينجو من خيبة أو إيذاء أو حسرة.”””
وصلت ” هيام ” لقعر بيتها وهي لا تعلم كيف سينقذها أخيها، ودعت هِلال الذي رافقها لبيتها ثم انصرف على الفور وأختها وأهلها وما زال الأمل يملأها بأن أخيها لم يتخل عنها ويسلمها لتلك الحياة التي لا تُريـدها … فتـح ضيا باب بيتـه وهو يستقبـل عروسته ومفتاح أحلامه الجائرة ويقول لها :
-برجلك اليميـن يا عروسـة ..
سبحت عينها في وادٍ الحـزن وهي تخطو بكامل ثقتها في وعد أخيها لها بصمت .. قفل ضيا الباب بعد دخولها وهو يعض على شفته السُفلية ويقول بمكر دفيـن :
-يكون في معلومك أمي معاها نسخة من المفتاح يعني هتلاقيها داخلة علينا في اي وقت ..
قفلت جفونها على جمر الخيبة بدون نفاش على أمل النجاة من ذلك الأسر ، اقترب من مائدة الطعام المغطاة ورفـع المفرش من فوقه ليتفحص الأكل بأعين ساخطة :
-فين الديك الرومي ، أنا مش قايـلك لازمًا يكون مع العشا !! أقول أيه لأمي دِلوق ؟! عروسة من غير ديك رومي دي چوازة فقـر .
تجاهلت ثرثرته وهي تتجول بالمكان باحثة عن وسيلة اتصال واحدة بأخيها الذي لا يخلف وعده أبدًا مدmدmة لنفسها ” أنتَ فين بس يا هارون ومهملني !! ”
~بداخـل غُرفة نومـها …
-“دانـِا اللي هطلع ديك أمك يا وِلد الـ****.. ”
قال هارون جملته الآخيرة وهو يتلصص السـمع من وراء باب غُرفـة النوم الخاصة بأختـه وعريسـها الدنس .. وما أن تكورت يده على جمر غـــضــــبه المتقد ، مدد هيثم على فراش العُرس وبيده سلاحه الأبيض الذي يعبث به وهو يُعاين المرتبة تحته ليُردف بسخرية :
-المرتبة دي معضمة !! مسترخص وِلد النتن !! تعالي شوف إكده ياهاشم دي تچيب غضروف !
رمقه بحدة هاشم الذي يجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا على مراجـ.ـل من نار :
-مش وقت حديت فاضي عشان أنا على آخري ..
-وتچيب أخرك ليه ؟! إحنا اللي هنچيبوا أخره بس طول بالك !!
-أششش ..
حدجهما هارون بنظر خارسة لشجارهم الذي لم ينتهي بعد ، فأتاهم صوت ضيا الذي يفتح باب شقتـه ويُنادي على أمه كي تأتي لتأخذ عشاء العروس وهو يهينها بأبشع الإهانات مستخسرًا فيها وجبـة العشاء التي أحضرتها أمها ، لم يتحمل هارون تلك الشتائم على أخته وأهل بيته ففتح الباب بهدوء في لحظة خروج ذلك الدنيء لتراه أخته التي أصابها اليأس بمقــ,تــله وباتت دmـ.ـو.عها تنهمر حتى ظهر أخر الممر أخيها الذي كان ظهوره أشبـه بهطول المطر على أرض قاحلـة ، شهقت بفرحة تبللها عبرات الحـ.ـز.ن حيث رفع هارون كفيه ليأمرها ألا تتحرك من مكانها وأن تهدأ تمامًا ، ثم دارت سبابته حول بعضها البعض بلغة الإشارة طالبًا منها أن تُجاريه بالحديث ، فختم أوامره وهو يشير نحو الغرفة بأنه سيختبئ بها وألا تخاف أبدًا …
وثبت العروس وهي تلهث بفرحة تجفف عبراتها ، تخلصت من حذاء ضعفها مرتدية زي القوة بوجود أخوتها حيث وقفت بوجه الطوفان لتطيح بوجهه بقوة عاصفة لا يجرؤ أحد أن يقف أمامها وهو يحمل مائدة العشاء كي يعطيها لابنة أخته ويقفل الباب ورائها ، دار على سؤال هيام :
-والله !! هي بقيت كده يا ضيا ؟!
-أيوة هي إكده يا هيـام ، وانسى عاد كُل الحديت اللي اتقال ، ده كان طُعم واصطادت بيه السمكة خلاص !!
قال جملته وهو يتخلص من شاله المرمي على كتفيه فلحقت به وهي تديره ليتطلع لها :
-چاوبني أنتَ متچوزني ليه يا ضيا !! أيه في جوفك ناحيتي ؟
رمقها بنظرته الدنيئة والمدججة بداء رغبته فيها :
-مش وقته أحنا نأجلو الحديت لبكرة والليلة مش عاوز عكننة !!
تراجعت خطوة للوراء إثر شظية الخــــوف التي لدغت قلبها وقالت :
-ده بعينك ، يمين بالله ما هتقرب لي يا ضيا غير لما أعرف اللي في جوفك وإلا بفستاني هرچع بيت أبوي وما هتقدر ترجعني !!
قهقه ضيا بتلك الضحكة الشريـرة وهو يضـ.ـر.ب كف على الآخر وهو يرمقها بدناءة :
-هريحك يا بت خليفة ، مع انه مش وقته وكنت ناوي أعيشك ليلة ولا في أحلامك، بس هنقولو إيه دبور وزن على خراب عشـه ، وأنتِ اللي استعجلتي بقضاكي ..
ثم دار حولها بأعينه الماكرة وتلك النبرة الخبيثة التي تفصح عن سُم نواياه بصوته الذي يتردد صداه بآذان أخوتها :
-اسمعي الچديد عشان كلامي مش هكررو مرتين .. بيت أبوك تنسيه ؛ اعتبريهم مـ.ـا.توا لا حد فيهم يچيلك ولا أنت هتروحي لهم .. مفيش تليفونات .. الصبح هيچي المحامي وتتنازلي عن كل نصيبك في ورث أبوكي قولي آمين وربك يقرب البعيد ..
كادت أن تصرخ بوجهه ولكنه أوقفها بتلك النبرة المرعدة :
-مخلصتش ، وحسك مايعلاش … عاوزة ات عـ.ـر.في اللي في چوفي هقولك ، عاوز أبقى الكبير وأمسك العمدية مكان أخوكِ عشان مش عكره قده من وأحنا عيال .. ناوي أخلي راسهم في الوحل ..
اتسع بؤبؤ عينيها بذهول من وقع وقاحته :
-يخربيتك !! ايه السواد ده كله اللي چواتك ؟! كل ديه عشان أخوي أحسن منك وسيدك وسيد النجع كله يا كـ**
-هتغلطي هقل منك وأخليكي تلعني اليوم اللي بقيتي فيه مرتي ، ودِلوق يحلو الحديت قبل ما نبدأو ليلتنا … قدامك حل من الاتنين يا تقولي أمين على كُل كلامي وتساعديني أخد مكان أخوكي ، يإما هچرچرك من شعرك وسط النچع كله وأقولهـم تعالوا شوفوا بت الحسب والنسب غلطت مع مين وچايين يلبسهوالي وأنا عتكيف قوي بالفضايح دي !!
بصقت بوجهه بكل ما تحمله من كره واشمئزاز لذلك الرجل الذي أحبته يومًا وهي تقول :
-تبقى متعرفش مين هما أخواتي ، رچالة خليفة العزايزي ..
هنا فاض صبر الثلاثة أخوة ليخرجوا من حجرهم أمام ذلك اللعين ليجهر هارون مُقرًا :
-وإحنا چينا عشـان نعرفوه …
دار ضيا خلفه على نبع ذلك الصوت القوي الذي رج قلبـه وهو يوجه لومه لهيام :
-إكده هيحموكي مني يعني !!
ثم تراجع خطوة للخلف :
-أنتوا چايين بيتي ليه يا ولاد صفية !
-چايين نطربقوه على نفوخك ونفوخ أمك اللي معرفتش تربي زي صفية ..
قال هاشم جُملته وهو يسبق أخوته لينقض عليه فأتبعه هيثم هو يشمر كُمه :
-عاوز تعرف إحنا إهنه ليه ؟! لأنك استهلكت ١٠٠٪؜ من ردة فعلي المحترمـة ، وأنت الآن على نظام قــ,تــل العبـد ولا تربيته ..
أبعد هارون أخته عن ساحة تجمعهم بذراعه الممتد وقال بهدوء :
-ها يا ضيـا ، عيـد كلامك من تاني عشان مسمعتوش ، كنت بتقول جُرسة وفضايح وأخواتك وو سمعني، خليك راجـ.ـل وقولهم في وشي ولا أنت آخرك تتشطر على الحريم!!
طافت عيني ضيا المذعورة :
-عتتكاترو عليّ !! لا دانا صـ.ـا.يع وچايبها من تحت قوي !!
هم هيثم مقترحًا وهو يضـ.ـر.ب على كفته ويخرج سلاحه الأبيض :
-تحت !! هو ديه اللي چايين عشانه ، أحنا ناويين نخلوك متنفعش في چواز من أصلو وتقعد جار أمك كيف الولاية ..
تدخل هاشم مقترحًا :
-لا يا هيثم مش معاك هي رصاصة طايشة من مسدسي وأقول كُنت بنضفه فالوسـخ بتاعه چيه في رأس الخسيس .. ونبقوا خالصين ، أحنا لسه هنسلخ ونقطع ونشفي ؟!
فجهر هارون :
-وليه ! الديابة جعانين أهم نضمنوا لهم عشاهم ..
هتف ضيا بقلب المذعور :
-أنتوا ناويين على أيه ؟! اسمعوا هتقــ,تــلوني يبقى كلكم هتروحوا في داهية اللي انتوا عاوزينه أنا هعملو لكن ..
قطعه هارون بحدة :
-لكن !!! لكن دي سيبهالي ..
ثم جهر آمرًا :
-هيثم خُد أختك وانزلوا تحـت استنونا ، أصلـو اللي هيحصل فيه ماينفعش الحريم تشوفه !
عارضه هيثم :
-عاوز أضـ.ـر.به معاكم ..
فتدخل هاشم وهو يباغت ضيا بتلك الركلة القوية وبمهارته القتاليـة ليجثو على ركبته كالماعز ويلف شاله على عنقه :
-رقدتهولك أهو أضـ.ـر.ب لحد ما تتعب وأنا هكمل …
فأكمل هارون بثبات :
-كل اللي نفسو في حاچة يعملها قبل ما رچالة المجلس يچوا ياخدوه ..
ثم لف ذراعه على كتف أخته وقربها لحـ.ـضـ.ـنه :
-شوف يااخي تكون في خشمك وتُقسم لغيرك ، وأختي چاي أخدها من قلب بيتك زي ما أنت چيت وخدتها من قلب بيت أبوها ..
صاح ضيا متمردًا وهو يطيح بذراعيه في الهواء :
-أنتوا فاكرينها أيه ؟! دي مرتي وخلاص اتكتبت على اسمي ومحدش هيقدر ياخدها ..
لم يتحمل هاشم وهيثم أكثر من ذلك فانهال عليه الاثنان وكل منهما يضـ.ـر.ب به حتى نال الحقير ما يستحقـه وكل ما بالبيت تهشم فوق رأسه وخرت قواه وتمرده ليجثو على الأرض وهو يلهث :
-أنا هوديكم في داهية !!
وقف هاشم فوق رأسه وهو ينفض يده من غبـ.ـار ذلك الماكر ليقف هيثـم بجواره يلتقط أنفاسه مشجعًا أخيه :
-الله ينور يا هاشم بيـه ..
فأتبعه الأخر :
-عاشت إيدك يا هيثم باشا ..
اقترب هارون الذي كان يضم أخته بأحد الزوايـا ويتساير معها كي يشتت نظرها عن تلك المعركة الطاحنة .. وضع حذائه بجوار رأس ضيـا والقدm الأخرى رفعها على طرف الطاولة ليقول بهدوء :
-خمارة “علي بابا” عتسلم عليـك ، والليلة الفُحلقي اللي قضيتها إمبـ.ـارح هناك زمان الشيخ هِلال بيتفرچ عليها مع شيوخ المجلس .. دانتَ هتشوف سواد ، شوفت أهي أختي اطلقت حتى من غير ما تقولك طلقني..
قهقه هيثم ساخرًا وهو يطالع أخيه هاشم :
-هو له في شغل الچديان دهوت !! چاتك القرف ده بيعض من غيرنا يا هاشم بيه !!
مال هاشم على مسامعه متهامسًا بمزاح :
-الخمارة دي فيها نسوان تستاهل يعني !!
قهقه هيثم بصوت عالي وهو يضع حذائه على بطن ضيا ويضغط بقوة ليـ.ـؤ.لمه :
-أهي أشكال عرة زي اللي عيروحلها …
ثم همس له بمزاح :
-هوديك واحدة أنقح منها بس متقولش لهلال وهارون..
زمجرت رياح غـــضــــب هارون كي يكفان عن هذا الحديث الساخر أمام أختهم التي ضمها لصدره وقال لها :
-أهو متلقح عندك شوفي عاوزة تعملي فيه أيه وأعمليه ..
رمقته هيام باشمئزاز هي تحـ.ـضـ.ـن أخيهـا بنفور :
-لا يا هارون أخواتك مقصروش ، بس يلا بينا من إهنه عاوزة أمشي …
قال هارون آمرًا :
-هيثـم خد أختك وأطلعوا على البيت وأحنا هنسلمو الوا.طـ.ـي ديه ونحصلوكم ..
هيام برعـ.ـب :
-هارون .. طب وصفية ؟
تدخل هاشم وهو يركل ضيا في ظهره :
-سيبي لي أنا صفية ……
••••••••••••
~بيت خليـفة العزايزي .
-طيب لو حضرتك زهقانة أنا ممكن أحكي لك حواديت للصبح .
تجلس ” ليلة ” مع السيدة ” أحلام ” التي لم تُفارقها أبدًا أثناء الحفل إثر وصية هارون لأمه الثانيـة ، قالت ليلة جُملتـه بعد ما سرحت شعر أحلام الأبيض فهرولت “ليلة” التي ترتدي ” بيچامتها ” الزرقاء ذات خامة القطيفة وأحضرت المرآة من حقيبتها :
-بصي كده يا طنت وقوليلي رأيك .. الضفيرة عجبتك ولا لا ؟
أخذت تتطلع أحلام على ملامحها بالمرآة الصغيرة وقالت بروح طفلة بربيع عمرها :
-إيه العسل ده كله يا ليلة!! يسلمو ايديكي أحلى واحدة تضفرلي شعري ..
أحضرت ليلة حقيبتها ووضعتها على الفراش بجوار أحلام الجالس على طرفه وقالت بروح الفراشة التي تسكنها :
-ناقص حاجة بس ، حبة كحل من هنا وهتبقى بـ.ـنت عشرين سنة ، أيه رأيك ؟!
تحمست أحلام للفكرة:
-طب حطي لي أصلو الليلة ليلتي والحچ خليفة عاوزاه يشوفني حِلوة ..
غرد الضحك على معالم وجه ليلة البريئة وهي تستعد لوضع لمسات التجميل فوق وجه تلك العجوز صاحبة روح الصبية وتقول :
-ياسيدي يا سيدي !! بس كده أنا عينيا ليكي ولعمو الحج ..
ثم غمزت بطرف عينيها بمزاح :
-واضح أنك بتحبيه أوي ..
تنهدت أحلام متذكرة أيام الصبا :
-دانا عمـ.ـو.ت فالتراب اللي تحت رچليـه ، أقول لك على سر محدش يعرفوا غير هارون ..
لمعت عينيها بمجـرد سماعها للاسم وتمتمت بفضول :
-هارون !! أنتوا صحاب أوي كده !
أسهبت أحلام في وصف فلذة قلبها :
-ديه ولدي البكري وتربية يدي وحبيب قلبي .. هارون ديه أحن قلب ممكن تقابليه في حياتك ، ميغركيش الچعچعة بتاعته وخُلقه الضيق ، الواد ديه چواة قلبه حنية تغرق العالم بس هو عامل فيها چامد ..
انتشت ملامحها بعنبر السعادة لحديث أحلام عنه وهي تقول :
-وأنا كمان حاسة بكده ، بس دmاغه دي جواها حاجات كتير أوي ، بحسه بيفكر كتير ومش بيتكلم .. ودايما متعصب..
-حمال آسية يا حبة عيني من يومه ..
فغمغمت ليلة بتلقائية :
-بس هو لطيف مش هنكر وو
أشاحت أحلام بنظرة اكتشافية لقطت فيها طيف الحب يبرق بعيني تلك الفتاة ، فداهمتها بنظرة شفقة لقــ,تــل جنين ذاك الحب قبل أن يولد ، أدركت ليلة ما قالته حيث وثبت لتشتت تفكير أحلام عن جُملتها الأخيرة :
-هاا قوليلي بقا أيه السر ؟!
اتسعت ابتسامة أحلام وهي توشوش لها بحذر :
-أنا ما ععرفش أنام غير والحچ خليفة چاري ومتبتة في دراعه .. واليوم اللي يبات فيه عند البت صفية أبقى متقلقلة ومش على بعضي وعيني مـ.ـا.تشوف النوم غير فالليلة اللي بعديها لما يچيلي ..
ثم مسحت على رأسها داعية لها :
-ربنا يرزقك بزوج وحبيب مت عـ.ـر.فيش طعم النوم غير في حـ.ـضـ.ـنه وساعتها هت عـ.ـر.في أنا قصدي أيه !!
لا تعلم لِمَ قفز اسمه ذاك المدعو بهارون برأسهـا وقلبها يؤمم وراء هذه العجـوز التي تقرأ صفو عينيهـا بمهارة ربما لأن بداخلها آيضا تتمنى لها رجلًا كهارون ولكـن أي معجزة تلك التي تجمع إمراة الغرب برجل الشرق !!!!
فتحت ” زينة ” الباب بدون استئذان وقالت بنبرتها المعتادة على دس أنفها بكل شيء :
-جرى أيه !! خالة أحلام بتنام بدري ومش عاوزة رط فوق راسها ، وبعدين أنتِ إهنه ضيفة يعني مكانك في قوضة الضيوف مش قاعدة مع صاحبة البيت !!
ساد الصمت للحظة شمت فيها أحلام خجل ليلة من حديث زينة الجارح وردت بذلك الدهاء الذي ورثه منها هارون :
-بت حلال يا زينة ، هتعبك يا حبيبتي تچيبلنا العشا أنت والسكر دي عشان نتعشوا سوا لانها هتنام چاري الليلة !! دي أمانة هارون لحد مايعاود .
تجاهلت ليلة نظرات زينة القـ.ـا.تلة وتمتمت لأحلام بحماقة :
-وعمو الحج ؟!
ضغطت أحلام على كفها كي تصمت وألا تكشف لعبتها أمام زينة سليطة اللسان وأكملت :
-شهلي يا زينـة خليني أخد علاچي معدتي بتتسحب ..
غلى الدm برأس زينة التي تنتظر عودة هارون ليرجعها لبيت أبيها وهي تتأفف باختناق وتتوعد لليلة :
-والله !! على عيني يا خالة.. أنتِ وضيفتنا على راسي.. -ثم غمغمت- اااه يـاناري .
ما انصرفت زينـة فمالت أحلام معتذرة لضيفتها وأمانة ابنها :
-تزعليش من زينة دي عبـ.ـيـ.ـطة وهبلة ومدرياش باللي عتقـوله ..
ضمت ليلة على كف أحلام التي سكنت قلبها :
-لا أبدا ، أنا كُل اللي بفكر فيه أزاي شخص راقي ومثقف زي هارون بيـه هيتجوز واحدة مـ.ـجـ.ـنو.نة زي دي ؟!!!
تأوهت أحلام بو.جـ.ـعٍ :
-وإن چينا للحق ولا واحدة في النچع كله تليق بهارون حبيبي .. هارون عَدله واحدة أميرة زيـك لكن هنقولو أيه النصيب غلاب …
ضخت رأسها بفوضى عارمة إثر كلمـ.ـا.ت تلك السيدة التي حفرت مداخل للحب برأسها المائلة نحو ذلك الرجل الذي قلب حياتها رأسًا عن عقب ، رغم كل الهدوء الذي تتظاهر عليه يوجد بداخلها الكثير من الارتباك والقلق وعاصفة من المشاعر ذات مصدر عميق ومجهول حتى الآن … نفضت ليلة غُبـ.ـار أوهامها وهي تقول بتلقائية لتُغير مجرى الحوار :
-حضرتك ت عـ.ـر.في أن جدو كان شغال ظابط هنـا ، لو قولت لك اسمه ممكن ت عـ.ـر.فيـه …
-بتندب ليه البت الفقرية دي ؟!!!!!
قالت أحلام جُملتها الأخيرة عنـ.ـد.ما صدح صـوت صراخ ” صفيـة” بالخارج عند رؤيتها دخول ابـ.ـنتها بفستانها الأبيض بصُحبة هيثم ، ظلت تنوح وتطلق الصراخات المتعددة بساحة البيت ، فهرول هيثـم نحو أمه ليكتم صوتها :
-خلاص يااما .. ولا كلمـة وهيام اعتبريها فسخت ..
تأرجحت عيني الجميـع بصدmة حول سبب عودة العروس بفستانها ، لم تتوقف صفية عن لطم الخدود وهي تتساءل بجنون :
-عملتي ايه يابت راجعة لي بفستان الفرح !! عملتي ايه يا بت بطني ! يافضيحتك ياصفية ..
جاء صوت أحلام من الخلف :
-اقفلي خشمك يا صفية .. ولا كلمة تربية العيال دي تربية يدي ومفيهمش واحد هيقصر رقبة امه أحلام.
وهنا دخل هارون وهاشم من البيت فانتقلت الأعين صوبهم ، جهر هارون بنبرته الشامخة :
-أختي اطلقت عشان چوزها طلع خسيس وبتاع خمارات .. وخد جزاته .
ثم نظر لأمه :
-واللي هيفكر يجـ.ـر.ح أختي بكلمة أنا اللي هقف له !!
ركضت هاجر صوب أختها وضمتها :
-يا حبيبتي تعالي تعالي نطلعوا فوق ..
صاحت صفية بوجه هارون :
-فركشت چوازة أختك يا هارون !! ارتحت ؟! عاوزها تقعد چاري والعار يطولنا ..
لم يتحمل هاشم سماع المزيد من أمه ، بل طاحت يده بكل ما يقابله تحت أعين الجميع وبالأخص نغم الواقفة بعيدًا وكانت تنتظر الفرصة المناسبة لفتح موضوع رفضها لهاشم مع خالتها .. تمسكت بالستائر المتدلية بهلع وهي تراقب ذلك الثور الهائج أمامها :
-لحدت إهنه وخلصت يا صفيـة ، كفاياكي ياما عاد .. كفاياكي جهل كنتِ هضيعي البت بجهلك وادينا دفعنا تمن سكاتك .. عار ايه اللي عتتكلمي عنيه ..
ثم دنى من أمه ونبرته المزمجرة تصدي بالبيت :
-كام مرة چات هيام تشتكي لك هااا ردي ؟! أختي معيوبة عشان ترضى بأي چوازة والسلام !! فوقي ياما دي بت خليفة العزايزي ، وفي ضهرها أربع رچالة ياكلو الزلط ..
ثم ركل المنضدة التي تحمل مزهرية الورد بكل ما أوتي من غـــضــــب :
-عادات عادات عادات !!! اهي العادات دي كانت هتحط راسنا كُلنا في الطين .. أخر كلمتين تحطيهم حلقة في ودانك ؛ أخواتي البنات خط أحمر يا صفية ولو اتدخلتي لهم في چوازة تاني أنا اللي هقف لك .. مفهوم !!
-هــاشـم !!!!!!
ألجمه صوت أبيه الذي جعله يبتلع ما تبقى من كلمـ.ـا.ت بصـدره ويقف ليأخذ نفسه ببطء ؛ فاقترب منه أبيه المستند على عكازه :
-هي حصلت تعلي صوتك على أمك على حياة عيني !!
انخفضت نبرة صوته في حضرة أبيه فتدخل هارون ليوضح الأمر :
-هاشم مش قصده يا أبوي .. هو زعل عشان هيام وو
صاحت نبرة الحج خليفة موبخًا :
-البيت ديه بيتي ومحدش يعلي فيه صوته غيري .. لا أنتَ ولا أخوك ولا عشرة زيكم !! اي عاملين نفسكم كبرتوا على أمكم وأبوكم..
تمالك هاشم غـــضــــبه وقال جملته الأخيـرة وهو يعلن رحيله وعودته لعمله :
-أنا قولت اللي عندي .. اللي هيچي في سِكة أخواتي البنات هأكله بسناني .. بالإذن أنا راجع شغلي ..
ما كاد ليخطو خطوة فسقط أنظاره على وجه نغم التي تراقبه بذعر من بعيد ؛ فتوقف وقال :
-وخطوبة أنا مش هخطب حد ، لما ابقى تخطبو ابقوا خدو شورة التور اللي هتچوزوه الأول .. أنا مش همشي على كيف وعادات حد …
هتف هارون بوقع تلك النبرة القوية التي جعلت ليلة تتشبث بذراع أحلام و متجاهلًا وجود زينة التي تمسح على كتفه كي يهدأ وهو يضع حدًا لأخيه :
-هاااشم !!!!!! هتنسى أنك واقف قصاد أبوك هنسى أنك أخوي وهتعامل معاك كإنك و
قاطعه هاشم وهو يربت على كتفه :
-سايبهالك متخدرة بعاداتها وتقاليعها اللي هتحرقكك أنتَ أول واحد ، حافظ عليها أنت ؛ مش هاشم اللي حد يمشيه .. بالأذن يا خوي …
ثم تحرك خطوتين ليُقبل رأس هيام أختـه بحنان ذاخر :
-اللي يزعلك قوليلي عليه وأنا همحيـه من على وش الأرض .. خلي بالك على روحك ..
نادت عليه أحلام ثم نادت صفية بقلب الأمومة على ابنها الذي سيرحل دون أن يودعها ولكنه تجاهل ندائها كعقـ.ـا.ب لها عما فعلتـه واستقل سيارته وانطلق على مدينة الهادئة وعالمه الآخر الهارب منه ……..
ما غاب طيف هاشم عنهم اهتز عكاز الحج خليفة ليستند على ذراعه ابنه الأكبر الذي تلقاه صارخًا :
-هاتي ميـة يابت …
في تلك اللحظة رن هاتف المنزل ، فركضت هاجر لترد عليه ، فإذًا بنجاة ذات الصوت المرتعد :
-هاجر ، خالتك صفاء تعيشي أنتِ .. ورقية بتها راحت البيت ولسه معاودتش عكلمها ملهاش آثر ، الحقيها لتعمل في روحها حاجة…..
صعقت هاجر بصدmة مما سمعته ، فنادت بتلك النبرة المرتعشة وهي تراقب دخول هلال أخيها الذي لم يكف عن التساؤل حول عدm مجيئ رقية للحفل وقالت :
-الحقني ياهيثم !!! نصيبة ……
••••••••••••
~السـاعه الثانيـة عشر بعد منتصف الليـل :
فرغ بكر من أخذ حمامه الدافئ مستعينا بملابس المرحوم عمـه وهو يرش العطر ويمشط شعره مدندنًا بكلمـ.ـا.ت الغناء الشنيعة مثله بصوته الأشبه بصوت الغراب .. ثم عاد ليطوف حول مسرح جريمته ويترقب تلك المرمية بمكانها على الأرض تغوص في عالم الأحلام بدلًا من عالم الواقع الذي قُتلت ألف مرة به .. ظل يملأ عينيه الشريرة من آثار جريمته حتى جثا على ركبتيه وهو يحاول إيفافتها بلمساته الدنيئة :
-بزياداكي دلع عاد يا داكتورة ، قومي أفرحي بچوزك بكرة يومنا طويل .. هتبقي مرتي قاصد الكل ..
أخذ يمسح على شعرها ويكمل بتلك النبرة كمن فقد عقله :
-شكلك حلو قوي وأنتِ نايمة كيف الملايكة ، مش عاوزك تزعلي مني أنا عحبك واللي عيحب تملي معذور .. لما تفوقي هت عـ.ـر.في أنا عملت إكده ليه ، بكرة هنروحوا المچلس ونكتبوا والبيت ديـه هيبقى بتاعنا أنا وأنتِ ..
قطع خيال أحلامه الدنيئة صوت صراخ هاجر التي تطرق الباب بقوة مناديـة باسم ” رقيـة ” :
-رقيـة افتحي !!
فأتبع هيثم وهو يطرق الباب بقوة :
-رقية لو انت چوة ردي !!!
لم يزر الرعـ.ـب قلب المجرم الذي حمل ضحيته ووضعها بمنتصف السرير وهبط بهدوء كي يفتح الباب كمن لم يقترف إثمًا .. كانت الصدmة الكُبرى عنـ.ـد.ما فتح لهم الباب بابتسامته المتمددة :
-خير عاوزين أيه !!
برقت عيني هاجر صارخة :
-أنتَ بتعمل ايه عندك ، رقية فين ؟!
فارت الدmاء برأس هيثم وهلال عند رؤية ذلك الصعلوك البشري أمامهم ، فتفوه هيثم باشمئزاز :
-أنتَ عتعمل أيه إهنه ؟! وفين رقيك بت عمك ..
دفع هلال أخته من أمام الباب وهي ينقض على ياقة جلبابه وبشخص آخر متحول كرر سؤاله :
-رقية فين انطق بدل ما أخلص عليك بيدي !
رد الآخر بهدوء متعمدًا استفزازهم :
-قصدك رقية مرتي ، فوق مستنية عريسها وباعتاني أمشيكم …
تسللت هاجر من تحت يديه لتركض لأعلي صارخة باسم رقية ، أما عن بكر فكان فريسة لأنياب غـــضــــب هِلال الذي لطخ حمرة الغـــضــــب وجهه وهو يضـ.ـر.به بجنون ويساعده هيثم الذي لم يترك إلا عنـ.ـد.ما تلطخت يده بدmائه الخبيثة ، هنـا قرعت صوت نبرة هاجر صارخة مستغيثة بأخوتها اللذين تركوا بكر وركضن لعندها ..
أخذت هاجر تستر جسد صديقتها بصراخ وبكاء يسبح على كيان الضحية ويعلو صراخها أكثر فأكثر وهي تنادي على أخوتها ، وصل هلال أولًا فلحق به هيثم ليستمعان لجملة هاجر المقهورة :
-رقية بتمـ.ـو.ت .. ألحقوها ، الكـ.ـلـ.ـب ديه عمل فيها أيه !!
شعور ‏ولا أسوء ، حالة من الشلل الفكري صابت رأسه لقد تساوت أمامه الجهات وتساوت الطرق، باتت النهاية والوجهة المصيرية والنهاية التي لا تليق إلا بفيلم مرعـ.ـب لا شيء أبدًا أسوء من أنك تقف وكل شيء فيك يتمنى العبُور من أمام ذاك المشهد المُهين .
سقطت عيني هلال المصدومة على قطرات الدmاء الملطخة بالأرض والملابس الممزقة والمرمية هنا وهنـاك ، لحق به هيثم وهو يرى نفس المشهد المُشن ، استند على كتفه أخيه من هول المشهد وهو يلعن الجاني بأبشع الألفاظ ، فاق هلال من وقع تلك الجريمة الخسة ولف المفرش حول جسد الضحية التي لا حول لها ولا قوة وحملها بين يديه وهو يأمر أخيه بنبرته المرتعشة التي لا تصدق ما رأته صارخًا :
-الحـ.ـيو.ان اللي تحت ديه دmه يتصفى ياهيثم …
•••••••••••
~عودة لبيت العزايزي .
صاح هارون مناديًا على جابر الذي هرول لعنده ملبيًا النداء فأمره :
-توصل زينة ونغم لبيتهم وتعاود ..
فتدخلت زيـنة معارضة :
-مخليني معاكم يا هارون ، أديك شايف وضع البيت متكهرب وو
أنهي جداله معها بحدة :
-حال البيت زي الفل ، روحي ..
فأمتدت أنظار زينة نحو ليلة الواقفة بأحد أرجاء البيت ملتفة بشالها الصوفي وهي تتهامس مع نغم التي تطلب منها :
-هتعبك خلي بالك من أحلام دي نايمة زعلانة من اللي حصل ، وأنا هجيلها الصبح ..
أومأت ليلة بالموافقة على الرحب والسعة:
-شكلك بتحبيها أوي ..!!
ردت بأسف :
-ومين فينا ميحبش أحلام ، دي بركة النچع كله ..
دmدmت زينة بحرقة لهارون :
-طب خلي البت المصراوية دي تعاود على قوضتها وبعدين هي مش ناوية تعاود لبلدهم يا هارون !!
صاح هارون بنفاذ صبر :
-نغم !! تعالى ونسي بت خالك عاوزين نناموا في أم الليلة المقندلة دي .
لبت نغم النداء على الفور وهي تودع ليلة بلطف ، فركضت وهي تتأكد من ربط حاجبهـا الذي لم يظهر خصلة واحدة من شعرها عكس زينة التي تغطى الوشاح بشعرها بدلًا من أن يغطي هو شعرها .. غادرت زينة على مضض وهي توصي هارون :
-متزعلش روحك ومن النجمة هجيلك يا حبيبي ..
زفر هارون بجـزعٍ وهو ينصرف من أمامها متجهًا نحو ليلة التي تقف بجوار الباب الخلفي للحديقة .. تأرجحت عينيها نحوه وهي تقترب منه لتخبره :
-عارفة أنه مش وقته ، أنا حبيت أبلغك إني همشي بكرة عشان وجودي بدأ يضايق خطيبتك وو
لا يعلم لما عض خبر رحيلها على قلبه فقاطعها قائلًا :
-أنتِ هنـا ضيفة في بيت خليفة العزايزي مش عند حد ..
-بس …
-شغلك لما يخلص أبقي عاودي ، الصبح هتلاقي الدنيا كلها اتظبطت ..
أومأت بالموافقة دون الدخول في أي تفاصيل وهي تخبره :
-أنا هبات مع طنت أحلام جوه ، مش حابه اسيبها لوحدها كده ، نامت وهي زعلانة على هاشم أخوك ووو
-هنام أنا چارها متعتليش هم ..
-هو ليه باباك نام في أوضة لوحده ؟! طنت أحلام مش بتعرف تنام غير وهو جمبها في السرير !!
لمعت عينيـه بدهشـة إثر إفشاء أحلام سر مثله لتلك الغريبة وهو يقول :
-واضح أنك دخلتي قلب أحلام عشان تقولك سر زي دا !!!
وضعت أناملها على شـ.ـدقها بنـ.ـد.م :
-أحيه !! دي هي فعلا قالت لي ده سر وأنا نسيت وقلت لك !! بس هي قالت لي إنك عارفو يبقى كده عادي ؟! ولا مش عادي وأنا طلعت فتانة !! بليز ممكن مش تقولها عشان مـ.ـا.تزعلش مني !!
ابتلع ابتسامته إثر عفويتها التي صهرت ملوحة همومه وقال متعمدًا فتح باب الحديث معها :
-وقالت لك أيه تاني أحلام !!
ردت متحمسة :
-قالت لي إنك تربية إيديها وانها بتحبك أوي ؛ وشايفاك كتير على أي واحدة هتتجوزها من بلدكم ..
عفويتها طاحت بقلبه لشطرين ، شطر يقاوم وشطر يركض خلف سجيتها ، رفع حاجبه متسائلًا :
-ويا ترى مقالتش مين العروسة اللي شايفاها تستاهلني وأنا اتچوزها من الصبح !!
تعرقلت بلمعة عينيه التي تغازلها وقالت بفطرتها :
-لا ما قالتش مين ، بس هي قالت واحدة زيي !! لو عجبتك الفكرة أنا عندي صُحابي كتير في اسكندرية ممكن أرشح لك عروسة فيهم وكلهم هاي كلاس وبنات شيك جدًا وو …
خطى على صميم مجهول بقلبها وهو يدنو منها خطوة متسائلًا بمكر :
-هنروحوا بعيـد ليـه ؟! ما اللي نعرفوه أحسن من اللي لسه هنتعرفوا عليه ؟!
-قصدك أيه ؟!
-يعني ليه مش أنتِ مثلاً.؟!
يبدو أن الشعور المتواري تحت حواره معها تحول إلى إدmان، لو إنه يعلم بأنه يأخذه لها شيئًا فشيئًا لن يطاوعه أبدًا ولم يتعامل معها مرة آخرى .. يبدو أن لعنة ساكمت أصابت ذاك الوادٍ المقدس بقلب حضرة العمدة الذي نزع حذاء العادات وتناسى قيوده وهو يتراقص على أوتار تلك المسكينة و لا يدرك عـ.ـا.قبة عبثه ، تلعثمت الكلمـ.ـا.ت بحلقها لتقول بتـ.ـو.تر :
-أنا وأنتَ ؟!!!!! مستحيـل !!! انتَ لالا ..
-كُل دي لا !!!! ليه يا استاذة؟
قد يأتي الحب من أقل الأشياء تعمُدًا وأكثرها صُدفًا ، قد يأتي محملًا بقطرة المطر ، برغبة مُلحة في نسل الحديث مع من تحب .. أحست بحرارة تشع من قلبهـا وهي تعبر محتجة :
-طبعا !! أنا لازم اللي يتجوزني يكون بيحب الأساطير بتاعتي ومصدقها ؛ أنت بقا مش بتحبها ولا بتصدقها ….
ثم لملمت شتات قوتها وسألته :
-وبعدين أنتَ مش المفروض خاطب زينة وهتتجوزها ؟! الموضوع شاغلك ليه ؟
-الشرع محللي أربعة .. وأنا ناوي أقفله.
عجبًا لأمر رجل أوصد قلبه عن معشر النساء وعند لقائه بواحدة غيرت مجرى فكره وسير قلبه !! يا ترى هل فتحت شهيته على صنف النساء أم أراد أن يتزوج أربعة من نساء قبيلته ليعوض إمراة مثلها ؟! قالت ليلة بفلسـفة غير مقصودة:
-أنا خدت بالي أن الموضوع عادي عندكم ؛ بس أنتَ ممكن تتجوز واحدة بس تغنيك عن الأربعة لإنك استيل مش هتكون مرتاح لما تعمل كده .
ثم لملمت شعرها بتـ.ـو.تر :
-أنتَ بتسأل أسئلة غريبة مش وقتها خالص الصراحة ؟! أحنا بنقول أيه أصلًا ؟
حك وجنته بطرف سبابته وقال بدهاء يسبق دهاء الذئاب :
-أصل أحلام عتحلم ، قولت أشوف آخرة أحلامها معاكي لفين وصلت ..
-اااه يعني بتجرجرني في الكلام وأنا زي الهبلة ..
-وليه زي !!!
-لحظة لحظة !! قصدك إني هبلة !!
اكتفى برسم ابتسامته الثقيلة بوجهها وهو يرد على هاتفـه وعيناه تقتنصها بدقة :
-أيوة يا هيثم !!
-هارون في نصيبة .. تعالى دِلوق ….
‏”سبحان بـ.ـارئ الحب! ما في الوجود كله أعجب منه! أنفعُ شيءٍ وأضرُّه، وأبردُ شيءٍ وأحرُّه، وأحلى شيءٍ وأمرُّه، وأهيجُ شيءٍ وأقرُّه”
‏—حمزة أبو زهرة.
•••••••••••••••••
“تودُّ لو أنّ كل أيامك تمضي وهي فارغةٌ تمامًا من أي حـ.ـز.ن ، فارغةٌ من الناس، المسؤوليات، الضوضاء، فارغةٌ من كل شيء، حتى منكَ إن أمكن.. ولكن كيف وسمي الزمان بالعصر ؛ لأنه لا يترك شخصًا إلا بعد عصره تمامًا فلم يبقى منك إلا جثة ”
انصهر جليد ليلة أمس المُحمل بثلجية الأقدار التي لم ترحم الضعفاء اللذين لا مأوى لهم بهذه الحياة .. فر هاشم لملاذه مأمن قلبه بعيدًا عن أسلاك أعرافهم الشائكة التي تخـ.ـنـ.ـق روحه بعد إعلان تمرده ..
وصل لأعتاب منزل حبيبته مع دقات الساعة الخامسة فجرًا .. ظل يجوب ذهابًا وإيابا حول باب البيت إثر نسيان رغد هاتفها على الوضع الصامت كعادتها .. تردد كثيرا قبل أن يدق الجرس فحبذا الوقوف إلي أن تستيقظ فتاته التي لم تتأخر في النوم عن الساعة السابعة صباحا .. في تلك الأثناء لمحته السيدة “سامية” من أعلى إثر قيامها لصلاة الفجر وارتشاف مشروبها الصباحي بالشرفة أمام البحر .. تركت ما بيدها ثم هبطت بهدوء وفتحت الباب وهي تُهاتفه بصوتها الهادئ :
-هاشم حبيبي واقف ليه .. فين مفاتيحك ..؟!
دار هاشم ليراها خلف القضبان الحديد الفاصل بينهم وهي تخرج من الباب الخشبي للبيت وقال :
-محبتش ازعجكم .. ونسيت مفاتيحي في قنا ..
هرولت سامية لفتح الباب له وهي ترحب به على أرض الواقع .. حيث عانقته بحنان أم آمنت له ابـ.ـنتها الوحيدة فاستقبل ترحيبها بقبلة رأسها وسألها :
-عاملة ايه يا حبيبتي ..؟
ردت باختصار :
-تعالى جوه الجو هنا برد ..
تابع هاشم خُطاها وهو يحمل على عاتقه هم العزايزة الذي فر هاربا منه بعد ما أرسل رسالة إعتذار لأخيه عما قال ، لمست أقدامه أعتاب البيت الدافئ وهو يغلق الباب خلفه فاستئذانها :
-هسيبك تكملي نوم وهطلع لرغد ..
أوقفته معارضة ذهابه :
-استني يا هاشم عايزاك .. وفرصة رغد بـ.ـنتي نايمة نتكلم على راحتنـا …
حك ذقنه عالما بنوايا تلك النبرة وقال مجبرا :
-اتفضلي ..
عقدت سامية ذراعيها أمام صدرها وهي تحمل بعينيها سيل العتاب ونفاذ الصبر :
-وبعدين يا هاشم ؟ الوضع ده طول أوي وأنا بصراحة مش عاجبني ..
تعمد أن يطيل الحكي مستنكرا فهمه لمغزى كلمـ.ـا.تها :
-أي وضع بالظبط ؟!
-أنت ورغد ؟! اسمعني .. أنت لما جيت وطلبت أيدها مني أنا كنت رافضة بسبب ظروفك ولما لقيت بـ.ـنتي متمسكة بيك مرضتي أقف في طريق سعادتها ووافقت على إنه وضع مؤقت وو…
يبدو أن الجميع قد تآمر عليه ولابد من المواجهة .. قاطعها وهو يقول :
-وحصل وبـ.ـنتك اتعلمها أحلى فرح في مرسى علم .. ومش ناقصها حاجة .. هي اشتكت لك ؟
-أنت عارف أن رغد عمرها ما هتشتكي لي منك لأنك للأسف اختيارها ؟؟!
ثم دنت نحوه خطوة واحتدت نبرتها صوتها :
-ومن حيث إنه ناقصها فهو ناقصها كتير يا هاشم .. ناقصها تبقى أم .. ناقصها تتعرف على عيلتك وتبقى واحدة منكم .. ناقصها وجود جوزها جمبها كل يوم ..
ثم ابتلعت بقية الكلام المعلق بحلقها وبدلت نبرة العتاب لنبرة الخــــوف :
-تقدر تقول لي لقدر الله لو جرالك حاجة في شغلك اللي كلنا عارفين مخاطره .. المسكينة اللي فوق دي هتعمل ايه ولا هتروح فين ؟!
ثم تمسكت بيده عنـ.ـد.ما رأته يتحاشى النظر إليها وأتبعت بقلة حيلة :
-حبيبي أنت ابني ولو مكنتش دخلت قلبي عمري ما كنت هوافق عليك .. بس أنا أم من حقها تطمن على بـ.ـنتها ياهاشم .. حط نفسك مكاني لدقيقة واحدة..
سحب كفه من يدها وأخذ يمسح على وجهه ولأول مرة يقابله موقف كهذا يشعره بعجز وكأن ناقوس الحرب بدأت أجراسه وعليه بالاستعداد :
-بصي يا طنط .. أنا هربان من البلد بمشاكل مش ممكن تتخيليها .. فمن فضلك اديني فرصة شهرين بس والاجازة الجاية كل ده هيتحل وهعمل لك اللي عايزاه ..
كررت جملته الأخيرة وكأنها تأخذ ميثاق عليه :
-شهرين يا هاشم ؟!
-هاشم العزايزي لما يقول كلمة لازم يكون أدها .. وكل التأخير ده بسبب ظروف في العيلة متلخبطة لكن صدقيني كل اللي عايزاه هيحصل .. حضرتك معاكِ حق ..
ربتت على كتفه بحنان وأمل أن يصدق بقوله تلك المرة وقالت :
-متزعلش مني ياحبيبي .. ومهما كانت المشاكل فأنت أدها يا هاشم أنا واثقة فيك يابني ..
ثم ابتسمت بوجهه :
-يلا أطلع لمراتك صحيها هتفرح أوي برجوعك ، أنا عمري ماشوفت رغد مبسوطة من وقت وفاة باباها غير وأنتَ معاها ، بتحبك أوي على فكرة شيلها في عينك يا هاشم ..
أومأ بالموافقة وانسحب بهدوء من أمامها على عكس الطوفان الذي يحمله بداخله فأوقفته لتلطف الأجواء بينهم لأنهم أدركت مدى قسوتها بالحديث معه وهي تقول بمكر:
-وقول لرغد تخف فرط حركة .. الحاجات اللي بتتكـ.ـسر دي لسه عليها أقساط ..
مال ثغره بابتسامة مجاملة وقال :
-أنا هاخد مراتي تكـ.ـسر براحتها في بيتها أحنا مش علينا أقساط ولا حاجة ..
بادلته بضحكة خفيفة :
-ربنا يسعدكم يا حبيبي وأشوف ولادكم قريب يارب ….
•••••••••••
~بالمشفى ….
يجلس كل من هارون وهيثم الذي يصارع الغـــضــــب دواخلهم وبنهش بقلبهم نهشًا إثر ما وقع على تلك المسكينة وتهتك عرضها .. و بـ الزاوية التي يقف عندها “هلال” الذي يرتجف من هول ما رآه غير مدركًا بشاعة الحدث الذي وقع على تلك الفتاة التي شغلت محور قلبه وللحظة تمناها لنفسـه أن يُشاركها الدرب .. البكاء قد أصاب كل إنش بجسده جعله ينتفض إلا عينيه لم تدmع بقطرة ماء واحدة ربما لأنه لا يود ان يطفئ الدmع ناره التي ستطيح بكل شيء .. وبالنسبة لهاجر التي يعتصر قلبها حـ.ـز.نًا على رفيقتها وصديقتها المقربة وعلى رحيل أمها تلك السيدة الحنونة التي لم تر منها إلا كل الخير .. جاء جابر ليخبر هارون :
-هارون بيه الرجـ.ـا.لة راحوا يجيبوا ولد المحروق دهون من بيته .. والست صفاء الحريم كفنوها وباقي الصلاة والدفنة ..
نظر له هيثم بأعينه المحمرة :
-هتدفنها قبل بتها ما تشوفها يا هارون ؟!
غلى الو.جـ.ـع بقلب هارون وقال :
-هي مش مستحملة و.جـ.ـع تاني .. شوفوا حد من محارمها يدفنها وكل رجـ.ـا.لة العزايزة يمشوا وراها .. يلا يا جابر وأنا هحصلك ..
ثم دار هارون لأخيه بعتب :
-وحسابك لسه معاي أنت وهلال .. كيف كل ديه يحصل وانا معنديش علم بيه ..
جاء ليبرر له فهنا خرجت الممرضة من غرفة العمليات لتقول بأسف لكل من اجتمع حولها :
-هي كويسة .. الدكتور عملها تنضيف رحم من اللي حُصلها وو -ثم بللت حلقها-ومصمم يبلغ في النقطة ..
زأر هلال متو.جـ.ـعًا لما سمعه وهو يضـ.ـر.ب عرض الحائط بقضته المضمومة على جمر الألــم فخـ.ـطـ.ـف انتباه الجميع له ، اشتد غـــضــــب هارون بذكر الممرضة لاسم الشرطة وقال :
-انا هحل الموضوع ..
فتدخلت هاجر الباكية تتوسل لممرضة :
-طمنيني هي كويسة .. يعني ينفع أشوفها ؟
-الدكتور مديها مهدئات وحقنة عشان تنام .. ومتوعاش للحصل فيجيلها انهيار عصبي ..
قفل “هلال” جفونه بعد ما اطمئن على حالة المسكينة حيث صرخ بهيثم ليمنحه مفتاح سيارته بدون جدال وخرج ركضا من المشفى وهو يحمل على عاتقه جحيم الغـــضــــب من بكر منتويًا قــ,تــله .. نهر هارون أخيه معتقدًا أن انفعال هلال إثر تعصبه من الناحية الدينية فقط ولست للأمر أبعاد أخرى :
-هيثم روح ورا أخوك متسبهوش ..
ثم نظر لهاجر التي استقبلت اعتراضه على وجودها بالنفي :
-مش هقدر أمشي واسيبها يا هارون لا …
زفر بضيق وهو يخرج هاتفه :
-وماينفعش تفضلي إهنه بروحك .. هكلم أمك او نغم تجي لك وهسيب حد من الرجـ.ـا.لة تحت لو عوزتي حاجة ..
-بلاش أمك كلم نغم ، وانت رايح فين ؟!
-رايح أشوف حل للمصايب دي كلها ياهاچر ..
لا شيء يهون فـ مع مرور الزمن يتحول الألــم إلى حـ.ـز.ن عميق ، ويتحول ذاك الحـ.ـز.ن إلى صمت مريب ، ويتحول الصمت إلى وحدة هائلة وشاسعة كالمحيطات المظلمة التي حاولت كثيرًا الفرار منها ولكنك لن تنجو أبدًا .
••••••••••
وصل هاشم لغرفة رغد النائمة بعمق حيث حرص على فتح الباب بهدوء كي لا يقلق نومها .. نزع جاكته الشتوي ببطء وتركه على أحد الاريكة ثم اقترب من الكمود الذي يحمل الأباجورة المستنيرة ذات الضوء الخافت .. وبجوارها هاتفها وزجاجة أقراص منع الحمل التي مسكها وتأمل تفاصيلها بعناية ثم دخل المرحاض ليفرغ به محتوى العبوة منساقا وراء قلبه ثم ألقى العبوة فارغة بسلة القمامة الصغيرة .. فعاد إليها وجلس بجوارها بهدوء وأخذ يتأمل تلك الملامح التي آسرته و.جـ.ـعلت منه شخصا متمردا على أعرافه وأهله وقبيلته متسائلا : ماذا فعلتِ بذاك القلب ليعصى الجميع ويهواكِ ؟! ثم تنهد بحرقة :
-خلصت يا هاشم .. مفيش نار من غير دخان وانت لازم تحمل دخان النار اللي أنت قٍيدها دي ..
مدد بجوارها ولم تخلٌ يده من بعض اللمسات الخفيفة على شعرها ووجهها ثم كفها المتكور الذي يعلن تمسكه بحياة لا تخلو منه .. مال بشـ.ـدقه ليقبل تلك الأنامل الناعمة ثم انتقلت كفوفه لخصلات شعرها هامسًا:
-حشـ.ـتـ.ـيني و  ….
تراقصت جفونها النائمة غير مدركة بأن ما تراه حقيقة .. فقد وثبت من نومتها مفزوعة وهي تضيء الأنوار كي تتأكد مما تراه متمتمة بصوتها المفعم بالنوم :
-هاشم !! حبيبي أنت جيت أمتى ؟!
لم تمهله الجواب بل ارتمت بين ذراعيه لتتأكد أنه لست بحلم وأن وجوده أصدق وأهم حقيقة بحياتها :
-أيه المفاجأة الحلوة دي .. أنت كويس حمدلله على سلامتك ؟!
ألتف ذراعيه حول خصرها الأشبه بعود الريحان ودس أنفاسه بخصلات شعرها الغجري وكأنه يستمد منه الحياة وقال :
-الدنيا ضاقت عليا ومفيش غير حـ.ـضـ.ـنك اللي هيسيعني يا رغد ..
-يا نور عيون رغد .. أنت عارف أن حـ.ـضـ.ـني دايما مستنيك ولو حابب نسيب الدنيا كلها ونبعد عن كل الناس دي أنا موافقة المهم نكون سوا ..
ثم فارقت حـ.ـضـ.ـنه متخذه من ركبته المثنية متكأ لها لتتامل تفاصيل وجهه عن قرب .. فأخذت تتفحص ملامحه وتمرر أناملها فوقهم وهي تسأله بأسف :
-كل دي هموم على وشك .. حصل أيه مش هتحكي لي ؟!
ظل يراقبها بتلك الأعين التي تفيض من الهموم ثم أمسك بكفها الذي يحتضن معالم وجهه ليقبله قبلة طويلة وقال :
-أنا رمـ.ـيـ.ـت الحبوب اللي هنا !
بدت الدهشة على ملامحها :
-ده ليه ؟!
مسح ابهامه على وجنتها وهو يقول بحـ.ـز.ن :
-الصبح جاني خبر نقلي لسينا .. وحابب اسيب لك حتة مني عشان لو جرالي حــ
كتمت أنفاسه التي تبخ نارا على قلبها كي لا يردف بالمزيد وبرقت العبرات بمقلتيها وهي تترجاه :
-هاشم .. مفيش الكلام ده .. أنا مقدرش أعيش من غيرك أصلا أنت بتقول أيه ؟؟!
ثم حفر الخبر وادٍ من الحـ.ـز.ن على وجنتها وهي تلهث من البكاء :
-انا مش عايزة حاجة غيرك أصلا .. ولو هخلف يبقى نربيه سوا .. أنا مش هجيب طفل ونتيتم أنا وهو مرتين .. هاشم بليز ما تقولش كده أنت متخيل أنت بتقول ايه أصلًا ؟!
قالت جملتها وهي تميل برأسها على صدره تملأ فراغات يده باصبعها واتبعت :
-هاشم مـ.ـا.تسيبك من الشغل ده وأحنا معانا اللي يكفينا .. كل حاجة ممكن تتعوض بس أنت لا ..
ضم حبيبته لقلبه كي يروي عطش الأيام منها وقال :
-المحامي خلص شرا البيت وكله باسمك والنهاردة في مبلغ محترم هيكون في حسابك تصرفي منه ..
صرخت بوجهه كي يكف عن تلك السخافات :
-هاشم اسكت ..ممكن كفاية بقا ؟! أنت جاي تقول كلام زي دا ليه ؟! أقول لك روح امشي ولما ترجع هاشم اللي حياته كلها هزار وضحك تعالي ..
ثم تشبثت بيده على الفور :
-لا خلاص ما تمشيش .. بس مـ.ـا.تقولش كده تاني عشان خاطري .. أنت جاي تديني أحلى هدية منك وتقول لي أمشي أنا ؟! لا يا هاشم لا مش هسمح لك تروح في أي حتة أنت فاهم ؟
كـ.ـسر حاجز ذلك البؤس بيهما وهو يقول ممازحا كي يشتت همومه وهو يشير نحو قلبها :
-في كل الحالات أنا ضامن اني هفضل معشش هنا حتى ولو روحت فين ؟
قبضت على ياقة قميصه بتمرد :
-ومين قال لك إني هسمح لك تروح أي حتة ؟! أنت جار قلبي الشقي واللي مغلبني في عيشتي بس مقدرش استغنى عنه .. وانسى كده كل الجنان اللي قولته ده عشان مش هيحصل ..
ثم مسحت عبراتها ونهضت من جواره وهي ترفع حمالة “بيجامتها”القطيفة المتدلية وتبحث بالدرج عن تلك الأقراص :
-هاشم أنت رمـ.ـيـ.ـتهم بجد ، يخرب عقلك؟!
ثم وقفت متمردة وهي تشير بكفها لتضع حدًا له :
-طيب لو سمحت بقا متجيش جمب مني لحد ما أجيب غيرهم .. هنزل اجهز لنا فطار .
وثب متمردا على طلبها :
-مش بمزاجك …
-مزاجي أيه بس يا هاشم ؟! مفيش بيبي هيجي إلا وسط أهلك والدنيا كلها حلوة غير كده أنا مش موافقة .. وو
قيل بأن جرعات الخمر محرمة .. فما حكم السكير من نظرات عينيكِ .. جذبها من خصرها لتقفز بداخل حـ.ـضـ.ـنه وتحت سطوته وهو يتنفس الحب من قربها ليقول :
-اتفقنا ..
نظرت للوضع الحالك بينهم ونظراته التي لا توحي بأي اتفاق وتجاوزه الحد لنيل مطمعه من هواها المحلل للشرع والقانون للعالم كله إلا في عرفهم الظالم .. تملصت من قبضته بدلال :
-هاشم ؟! اتفقنا على أيه بالظبط ؟!
تغلغلت جذور حبه بأزقة تُربتها حيث لا مفر منه أبدا وهو يقول تحت سطو مشاعره :
-إنك تقولي قرارات وأنا منفذهاش !
صعقت من هول تمرده وهي تعارضه :
-هاشم ….!
تردد اسمه بأذنيه وهو كله أحضان مصغية ليقول :
-حشـ.ـتـ.ـيني و  …………..
‏”أنا أؤمِن بأن المشاعر كل مازاد صِدقها صعب الحديث عنها لذا هنـا سيتوقف كُل شيء ويدع المحب يعيش في كنفه الحب وحبيبهم أسمى وأرقى المشاعر بهذه الحيـاة ”
•••••••••
وصل هلال لبيت ذاك الحقير بكر وأخذ يدق الباب بقوة وهو يجهـر بعنفوان لا يرسو حد احترام حُرمة بيته ، فتحت أمه الباب وهي توبخه بأسلوب متدني:
-وه وه وه!! البيوت ليها حُرمة يا شيخ ولا الدقن دي ذوقه !!!
صرخ هيثم من وراء أخيه :
-ولدك فينو ؟!
-ولدي مش إهنـه ؟
فتفوه هلال بغـــضــــب يحرق كل ما يقابـله :
-وفي أي داهية نلاقوه ؟
ثم رفع سبابته وبنظرته المخيفة :
-قولي لولدك تارك مع هلال العزايزي ، واللي خلق الخلق ما في حد هيرحمه من تحت يدي ..
صاحت السيدة بوجهه :
-وأنت مالك بولدي، ولدي طول عمره في حاله وملهوش صالح بـحد وو
قاطعها هِلال معنفًا صارخًا بضجر :
-اللي عندي قولته ، الباقي بعمر ولدك ساعات لحد ما يقع في يدي ..
فدار هلال وجهه مغادرًا ليعود لاهانة تلك السيدة القبيحة :
-طبعا الحجة مكنتش فاضية تربي ، كان كل اللي شاغلها كيف تخاويه ، وأنا هحش لك رقبته مش هربيهولك .. هيثم العزايزي هيقطع خبره من على وش الأرض.
تقاذف الرعـ.ـب بعيني السيدة:
-بكر عمل ايه فهمني ، وإلا هصرخ والم عليكم الخلق ..
كاد هيثم ان يفصح لها عن جريمـة ابنها ولكن اتاه صوت هلال المُرعد كي لا ينطق ببـ.ـنت شفة تخوض في عرض تلك المسكينـة التي لم تقترف ذنبًا .. رمقها هيثم بنظرات الخسة ثم رحل مهرولًا لأخيـه ليشق الأرض بحثًا عن الجاني …
•••••••••
~مجلـس شيوخ العزايـزة …
احتشـ.ـد الرجـ.ـال وأعيان القبيـلة بما فيهم الحج خليفـة ليشهد على من قام بخداعه وخداع ابـ.ـنته منتظرًا محاكمتـه .. تجمهروا أهل ضيا بالمجلس الذي أخذوه ليلة أمس بعد اطلاعهم على الفيديو الذي قدmه ” هِلال ” .. وقف” ضيا” مُكمل الأيدي بواسطة رجلين أصحاب البنية القوية ليقول جاهرًا :
-افترى ، أخواتها هما اللي لفقولي الموضوع ديه كله !
فعارضه الشيخ :
-وذهابك لذاك المكان المشبـوه ؟! ألــم يكن بكيفك ؟! تعلم عقوبة الزواج الحلال من فتاة لا تربطك بها صلة الدm !! فما رأيك بإرتكابك فاحشة كهذه !! حـ.ـر.ام شرعًا ، ومجرمة عرفًا ؟!
فأكمل الأخر :
-سمـ.ـيـ.ـت عزايزة لأن دmائهم عزيزة ولا يجوز اختلاطها بالغيـر ، وأنت فعلتها بالحـ.ـر.ام تحت وطأة السُكر والخمر ، ولم يعد لديك حُجة تشفع لك ..
فواصل الأول :
-وأضف لذلك نوايا زواجك التي لا تبنى على المودة والرحمـة بل جاءت للانتقام والذل وهتك العرض ..
صاح ضيا :
-كـ.ـد.ابيين انا معملتش حاجة ..
وقف الحج خليفة مستندًا على عكـازه مغادرًا ابـ.ـنته التي تتشبث بذراعه منتظرة مصيرها ، واخذ يرمقه باشمئزاز :
-لولا المچلس له حكمـه كنت قــ,تــلتك بيدي الاتنين يا خسيس ..
انفجر ضيـا بوجهه :
-أنا معملتش حاچة ولادك هما اللي اتكاتروا عليّ !!
ثم نظر لهيام ليستجدي عطفها :
-قولي حاچة ياهيام ، قولي انهم كـ.ـد.ابيين ..
جهر كبير المشايخ ليقول حكمه :
-حان وقت نيل عقـ.ـا.بك يا ضيـا ..
ثم نظر الشيخ العجوز لهيـام ونطق بحكمه :
-تُطلق هيام خليفة العزايزي بقوة القانون خاصة أنه لم يكن زواجه بها زواجًا كاملًا .. ارمى اليمين على زوجتـك ووقع على ورق انفصالكم …
لقد انزاحت غُمة قلبها وهي تشكر ربها بفرحة لا توصف ، منتظرة باقية الحكم على ذاك المجرم الذي لم يدع شيئًا محرمًا إلا وفعله ، فأكمل الشيخ محتجًا بتطبيق أحكام الشريعة الاسلامية التي سقطت من بين أدراج القانون الحاكم الممتلئ بالفجوات وبتنا نحصد عواقبها :
-ويطبق حكم الشريعة الاسلامية لعقوبة الزنـا … وهي الرجم حتى المـ.ـو.ت للزوج المحصن ، إما الطرد من القبيلة وعدm عودته لها مرة ثانية مع غرامة ٢٠ فدان من حق المجلس لمخالفة أحكامه وأعرافه ..
جهر ضيا الذي يود الفرار من قدره :
-ظلم ، ظُلم وديني ما هرحمكم ياولاد خليفة … ماشي يا هيام ..
حدجه الشيخ آمرًا :
-ارمى يمين الطـ.ـلا.ق على زوجتك.. فلا يُشرفنا نسبك لاحدى بناتنا …..
••••••••••••••
~ظُهرًا ….
تقف فردوس بصُحبة صفية بالمطبخ تُعد وجبة الغداء معهـا وهي تلقى على مسامعهـا الأخبـ.ـار المتداولة بالبلدة باهتمام :
-ياست صفية قولي الحمد لله ، قضا أخف من قضا ..
قالت فردوس جملتها وهو تحاول أن تُطيب خاطر صفية التي ستطلق ابـ.ـنتها وتعول همها ، فدmدmت :
-وهو في زي اللي حصلنا !! البت ترجع بفستانها يا فردوس ، ده العار هيطولنا ويطول عيال عيالنا !!
مالت فردوس على مسامعها :
-طب اسمعي اللي حُصل عرفت من سعيد وِلد أخوي لانه شغال مع هارون زي ماانت خابرة .. رقية بت صفاء ، اللي أبوها كان إمام المسجد ومـ.ـا.ت ..
التفتت لها صفية باهتمام :
-ايوة صفاء وبتها ماهما جم الحنة بس ملمحتشهم في الد.خـ.ـلة !! البت كيف البدر يافردوس ، صفاء بت حلال وعرفت تربي … صُوح دي قالوا أمها عيانة والوِلد واقفين معاها ؛ فكرتيني ..
لطـ.ـمـ.ـت فردوس على خدها بحـ.ـز.ن :
-اسكتي يا ست صفية على اللي حُصـل ؛ البت راحت تجيب حاجات لأمها ، طب عليها ولد الحـ.ـر.ام بكر ولد فياض وعمل الحـ.ـر.ام مع البت ، والبلد مقلوبة على اللي حصل ، وشكل أمها متحملتش اللي جرى لبتها مـ.ـا.تت يا حبة عيني !!
ندبت صفية على صـدرها بفزع :
-يا مراري صفاء مـ.ـا.تت ؟! ياحبيبتي !! يا الجُرس والفضايح .. دِلوق السيرة هتبقى على كل لسان بتها جابت العار وو
فأتبعت فردوس :
-وأم بكر دايرة على نساوين البلد تقولهم البت هي اللي غوت الواد واستغلت غياب أمها ومحدش عارف فين الصدق !
-سترك على الولايا يارب !! البت دي ياريتها مـ.ـا.تت ولا حصلها إكده ، مـ.ـو.تها أشرفلها .. وانا اللي فاكرة الوِلد معاها في المشتشفى !! احفظنا واحفظ ولايانا يارب ، رني لي على هاجر تبعد عنيها إحنا مش ناقصيين شبهه .. وهي ربنا يتولاها بعيد عننا ..
~بغُرفة أحلام ..
شـ.ـدت “ليـلة” الستائر وفتحت النوافذ بناءً عن طلب أحلام التي رافقت ليلتهـا ، ففتحت جميع النوافذ المُطلة على حديقة البيت ودارت لهـا :
-تمام كدا !!
أشارت لها أحلام بترجي :
-آخر طلب عارفة إني تعبتك ، رني لي على هاشم قلبي واكلني عليـه .. طمنيني ..
تقبلت ليـلة طلبها بسعة صدر :
-طبعا يا طنت بس أنا مش معايـا رقمه عشان أكلمه ..
أخرجت أحلام من درج الكمود هاتفها القديم الذي أوشك أن ينفذ شاحن بطاريته ، ومدت لها :
-هتلاقيه متسجل عندك ، رني لي عليه عاوزة اسمع صـوته ..
فتشت ليلة بشاشة هاتفها المتهالك لتبحث عن رقمه حتى عثرت عليه ، نقلت الرقم بسرعة قبل أن يقفل الهاتف بيدها ، ثم ضغطت على اتصال ، دنت من أحلام فاتحة مُكبر الصوت منتظرة رده ولكن للاسف لم تجمع التغطية إثر كونهم بالطابق الأرضي ، تفحصت لليلة الشبكة وقالت باسف :
-أوبس !! الشبكـة مش أحسن حاجة ..
ثم أخذت الهاتف من يدي العجوز التي انشغل قلبها على بُنيها وقالت :
-هجرب اطلع بره يجمع السيجنل بس وهنادي عليكِ ..
خرجت ليلة للشُرفة وهي تعاود الاتصال مرارًا وتكرارًا بهاشم النائم ، كانت رغد حينها فرغت من أخذ حمامها الدافئ وخرجت من باب الحمام وهي تجفف شعرها حتى لاحظت إنارة هاتفـه برقم غير مسجـل ، امتد نظرها للشاشة لتقرا الاسم المُسجل على ” التروكولر ” فوجدته باسم ليلة الجوهري .. ألقت نظرة على هاشم النائم رغم ثقتها العمياء به إلا أن الفضول والغيرة تآمر على رأسها ، تركت الهاتف من يدها وهي تقول :
-رغد عيب ، ملكيش دعوة !!
ما تركت الهاتف فعاودت ليـلة الاتصال مرة آخرى ، تلك المرة لم تستطع رغد التحكم في غيرة المرأة التي تحرقها ، أخذت الهاتف وعادت للمرحاض مرة آخرى وقفلت الباب بحذرٍ ثم رد بصوت خافت :
-ألو !!
ألقت ليلة نظرة بشاشة الهاتف باندهاش :
-شكلي طلبت رقم غلط ..-ثم رفعت نبرتها -ده رقم هاشم بيه !!
ردت رغد بفضول يقضم قلبها :
-أيوة ، أنتِ مين ؟!
ردت ليلة بسجيتها :
-قوليلو ليلة الجوهري وطنـت ااا !
الثقة التي تتحدث بها ليلة جعلت رغد تقاطعها بصوت مبطن بالغيرة :
-وأنتِ عايزة أيه من جوزي !!
رمشت ليلة عدة مرات إثر سماعها جملة رغد الأخيرة بصدmة لا توصف ، تلعثمت الكلمـ.ـا.ت في حلقهـا وهي تتساءل بدهشة :
-نعم !! لالا أنا مش عايزة حاجـة شكل الرقم غلط..
جاء صوت رغد الصارم :
-لا مش غلط !! أنتِ ت عـ.ـر.في هاشم منين ؟!!
-هاشم بيه جوزك بجد ووو
فختمت جملتها بشهقة عالية إثر صوت هارون الذي اخترق مسامعها وهي تخبئ الهاتف وراء ظهرها :
-عتعملي أيه عندك !!
ردت عليه وملامح الذعر تسكنها:
-هارون بيه !! ابدا دي دي طنت أحلام كانت حابة تكلم أخوك وطلبت مني أكلمه، بس لما اتصلت ما ردش ، قصدي الرقم طلع غلط .. لا هي الشبكة واقعة متشغلش بالك ..
خمدت مشاعر الغيرة بصدر رغد التي زادت الأمر سوءًا فسرعان ما أنهت المكالمة وحذفت مكالمـ.ـا.ت ليلة من هاتفه كي لا ينكشف أمر حماقتها ، تفحص هارون علامـ.ـا.ت الذعر بوجه ليلة وجاء متسائلًا :
-مردش ولا الرقم طلع غلط ولا الشبكة ساقطة؟!وأنا سامعك بتكلمي حد ؟!
ردت بتلقائية وبدون إدراك لما سمعته وعن حقيقة زواج أخيـه :
-كلهم ..كلهم .
-كلهم ازاي يعني ؟! وريني هاشم ماله بيقولك ايه !!
ظن بأن أخيه يمارس عليها طقوس سخافته المعتادة فـ قال جملته وهو يحاول الإمساك بهاتفها المتواري خلف ظهرها فمنعته بعفويتها وتتشبث بالهاتف وراء ظهرها وتترنح بعيدًا عنه كي لا يمسكه وينفضح أمر أخيه السري ففي لحظة من إصراره ولحظة من عنادها تعرقلت قدmها ليتلقاها بذراعه فتجد نفسها فجأة بحـ.ـضـ.ـنـه وتحت مظلة أهدابه ..
ذراعـه يحاصرها ، كفوفها التي تحمل هاتفتها معلقة بياقتـه ، الأعين تتعانق كما تلاقت الأجساد تحت خيمة الصدفة القدريـة .. سيل كهربي ضـ.ـر.ب الاثنين فجمد خُطاهم ، في لحظة باتت تحت يديه إمراة من نسل الفراشات لا يليق بها إلا الاحتضان ..
قد يكون المرء مُرتجفًا ‏وتائِهًا ‏ويائِسًا ‏حتى تُعانقه ذراعين يحبها، حتى يرتب القلب أقداره فيلتقيان ، يتلامسان ، يتشابكان ببعضهما ذاك كافيًا أن يجُل ما أفسدتهُ الحياة ‏في لحظةٍ واحدة .. أن تُنسيه ما لا يمكن نسيانـه …
أول مراتب الحب هي أن تقع في حب كل الوسائل التِي تقُودك إلي نصفك الآخر مهما كانت صعبَة أو مُستحيلة ، تلك الوسائل التي تخبرك أنّ بعد كلّ هذِه الحواجز هناكَ حُضن آمن ينتظرك بحميميّة بالِغة ، وبقوتـه التي لا تسقطك أبدًا ..
تطايرت الستائر خلفـهم بالهواء فامتدت عيني أحلام لتقـرا تلك النظرات التي باتت محور شكها ، فهي لم تكن قط من طرف واحد كما ظنت ويبدو أن ابنها الآخر غارق بالموج وما زال يُكابر ، ظلت تراقبهم بصمت وتراقب براءة النظرات المتبادلة بينهم وكيف الاثنان خُلقا ليكونا لبعضهما ، تكامل فريد وعجيب من نوعه إن رأته العصافير لغنت له مواويـل حتى جاء أمشير … فتمتمت لنفسها بحسرة :
-يا قلب أمك يا حبيبي ..
تجلجلت ليلة التي يبدو أن الوضع قد راق لها ،ثلاثون ثانية فعلت بها ما لم تفعله سنوات العمر ، تزحزحت عينيها لهاتفها لتقول بصوت متقطع :
-الموبايل فصل .. مفيش
لقد تاه وضل في سحرها وهو يسألها :
-مفيش إيه !!
افترقا الاثنان عن بعضهما وما زال عناق الأعين موصولًا .. فوضعت كفها على صدرها الذي يعلو ويهبط من هول جملة المشاعر التي تسربت له فجأة لتقول بتمرد ولوم :
-كنت هقع بسببك !!
-منا لحقتك ، خالصين !
-والله !! لا كنت سبتي أقع كمان .. وبعدين أنت كنت عايز تمسك موبايلي بأي حق !! مالكش دعوة بموبايلي ولا بيا ولا بأي حاجة خالص تخصني ..
لقد لطخ الخجل وجنتهـا حتى باتت لا تعى ما تقوله ، أو ربما أحدث قربه بقلبها ما لم تتحمله فأعلنت تمردها عليه !! أعلنت هروبها من فخ تلك الأعين وهي تدخل الغرفـة لأحلام فاصطدmت بدخول زينة في تلك اللحظة ، تفقد هارون المكان حوله خشية من أن رأهم أحد وهو يرتب ملابسه ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ليبرر فعلته لنفسه :
-يعني كنت سبتها تقع !!!! ده جزاتي ؟!وكمان مش عاچبها !!
رؤيتها لليلة أشعلت وادٍ من النيران بقلبها ، فرمقتها زينة بسخط :
-انتِ بتعملي ايه عندك !!
تدخلت أحلام لتـرد مكانها :
-قاعدة معاي هتكون بتعمل ايه يعني ؟!
جلست ليلة بجوار أحلام وهي ترتعش مما حدث قبل لحظات وأيضا إثر خبر علمها بجوار أخيهم السري فبللت حلقها وهي تعاتبها :
-ياستـي أنا جيت جمبك !! أنتِ بتقولي يلا شكل للبيع وخلاص ؟!
نزعت زينة وشاح رأسها :
-ابعدي عن هارون وأنا هطلعك من راسي وهحبك ؟
-مش عايزاكِ تحبيني بس سبيني في حالي ..
ثم لمحت طيف مجئ هارون الذي حجب الضوء وهي تنفي علاقتها به تمامًا وهي تحت تأثير عطره الذي زاحم انفاسها وملابسها :
-انا مالي بهارون بيه أصلًا !! أهو عندك أهو حلوا مشاكلكم بعيد عني !!
جاءهم صوت هارون من الخلف :
-چايبين في سيرتي ليه !
وقفت ليلة لتدافع عن نفسها :
-شوف حل مع خطيبتك اللي كل ما تشوفني فاكراني هخـ.ـطـ.ـفك منها !!
ثم نظرت بعينيها لتنفي صحة مشاعرها تحت نظرات أحلام المشفقة على حال بيادر الحب المترعرعة بينهما :
-أصلا كلها يومين وماشية ومش هشوفه تاني ، ومع احترامي لحضرة العمدة بس هو نوت ماي تايب ، ارتاحي يا زينـة وخلي عندك ثقة في نفسك شوية !
تلعثمت زينة لعدm فهمها لمقصـدها :
-هي عتشتمنى ولا عتقول أيه يا هارون !!
تجاهل هارون سؤال زينة الأحمق ليرد إهانتـه من تلك التي خربشت على جدار فضوله :
-وايه هو التايب اللي يعجب الاستاذة ؟! شريف أبو العلا ..
قفز الهلع بقلبها إثر نظرته المربكة لتقول بتـ.ـو.تر :
-لا انت ولا شريف ولا حد خالص ، أنا أصلا مش بفكر في المواضيع دي كلها !!
ثم نظرت لأحلام وقالت بعجل لتهرب من حِدة نظراته التي باتت تحدث فوضى عارمة بقلبها :
-طنت أحلام ، هاشم مش بيرد، أنا همشي عشان -ثم نظرت لزينة -الجو هنا يخـ.ـنـ.ـق بجد !!
رمت شالها الصوف فوق بجامتها الفضفاضة وغادرت من أمامه كالغزالة الشاردة ، فساقه قلبها ليتبعهـا برزانة :
-زينة خدي بيد أحلام عشان تروحوا العزا ….
تابع خُطاها حتى باب الحديقة الخلفية ليقول بإقتطاب :
-خبر أيه بس؟! مالك متكهربة ليه النهاردة ؟
وقفت وهي تتحاشى النظر إليها كي لا تتورط فيه أكثر :
-عايزة أروح ، اسكندرية وحـ.ـشـ.ـتني ، وكمان خطيبتك دي مستفزة ، أنا اسفة بس هي خرجتني عن شعوري بغباءها وو
قاطع حديثها قائلًا :
-طب أنتِ بتترعشي ليه ؟
أخذت نفسًا عميقًا لتجيبه تحت وطأة التـ.ـو.تر :
-بردو مش عارفة !!
أخذت عينيـه تتفقدها من كُل الزوايا ليقول بهدوء :
-في شوية مشاكل في النچع ، هتخلص وصوري حلقتك التانية واتوكلي على الله !!
لملمت طرفي شالها الصوف أمامها بـ.ـارتباك :
-ااه تمام، طيب انا ممكن اروح أوضة الكتب ، حابـة اتسلى في أي حاجة !!
بدون تردد أخرج لها المفتاح وقال بخبث :
-اتفضلي ، بس اقفلي الباب وراكي ولو عوزتي حاچة رقمي لساته معاكِ !!
ردت بعفوية :
-ااه لسـه معايـا ، أنت عايزني امسحه !
-لو متقل محمولك امسحيه؟!
-ااه همسحه لما ارجع اسكندرية ، أنت راجـ.ـل خاطب وقريب هتتجوز وخطيبتك دي مـ.ـجـ.ـنو.نة وأنا مش أدها ..
-اللي تشوفيـه ..
كانت الابتسامـ.ـا.ت سيدة الحديث بينهم حتى جاءت صفية لتعيد له رشـ.ـده ومسئولياته والمصائب الناشبة بالنجع وهي تقول :
-ابعت حد يچيب هاجر أختك من عند البت اللي اسمها رقية دي، أحنا مش ناقصين شبهه .. البت بقيت سمعتها دايرة على كل لسـان ..
برقت عيني هارون بتحذير :
-صفية ده عرض ولايا اتقي ربنا ..
هبت بوجهه :
-وأنا مش عاوزة بتي تعرف بت اغـ.ـتـ.ـsـ.ـبوها ولا نامت معاه بكيفها ، يلا أهي امها مـ.ـا.تت وارتاحت من عارها ..
نهرها هارون بحدة :
-يامـا اقطمي واستغفري الله ربنا يهديكِ ..
تدخلت ليلة بفضول :
-هو في مشكلة وبـ.ـنت مين يا حـ.ـر.ام اللي حصل فيهـا كده ؟!
قطع هارون حبل شكوك ليلة وهو يوبخ صفية :
-ما خلاص ياماااا روحي اجهزي عشان ناخدوا عزا الست ..
ثم قطعهم رنيـن هاتفـه ، فأتاه صوت جابر :
-هارون بيه بكر ولد فياض معانا لقناه في بيتهم الشرقي ..
رد بهدوء :
-طب ارموه في أي زريبة عندكم لحد بكرة الصبح ومتحبوش سيرة قدام هيثم ولا هلال .. تكون البت فاقت …وأنا چايله .
تدخلت صفية بفضول:
-هتعملو ايه يا هارون ..
رد بأسف:
-الغالب المجلس هيكتب عليها لوِلد المحروق ديه عشان الفـ.ـضـ.ـيحة تتلم قبل ما تروح المركز ..
هبت صفية معبرة :
-دي عاوزة حش رقبتها مش تجوزوها ، ادفنوها حية وارتاحوا من عارها يا ولدي .. دي هتحط رأس العزايزة في الأرض ..
فاض صبره من جهل فتفوه بتلك النبرة المعنفة :
-استغفري ربك واعقلي ياما، البت ملهاش ذنب هو اللي ك**
أيدته صفية بإصرار:
-فيش حاجة عتتاخد غـ.ـصـ.ـب من البت يا ولدي ، دي لو في وعيها كانت قــ,تــلت روحها ولا أنها سلمت له .. لكن واضح زي مـ
ضـ.ـر.ب بقبضة يده على سطح الباب بغل :
-ما كفاية ياما ، دي بت ناس وابوها وأمها أنت عارفاهم زين ، كفاية خوض في عرض البت … ده جزاتها عشان ملهاش ضهر بالدنيا !!
في تلك اللحظة جاءت هيام برفقة أبيها التي ما أن رأت أخيها ركضت لترتمي في حـ.ـضـ.ـنـه فارحـة :
-بـ.ـارك لي ياخوي اطلقت وخُلصت منه !!
قبل رأس أخته وربت على كتفها :
-عرفت .. احمدي ربنا .. كـ.ـلـ.ـب وغار ، فوقي لنفسك عشان تقدmي على الماجستير ووتخلصيه.. وبعدها الدكتوراه وأشوفك أكبر محامية تحققي اللي محققهوش أخوكي .
دبت صفية على صدرها :
-يا مري !! وهي هتفضل داخلة طالعة قصاد الناس .. لا دي تتحبس في اوضتها لحدت ما حال نصيبها يجي ويخلصنا منيها !! ما كفـاية وو
صرخ هارون بوجهها :
-ما كفايـة أنتِ ياما !! بتك في حـ.ـضـ.ـنك ومحدش لمس منها شعره ولا حط راسنا في الطين .. مالك عقلك راح فين !!
لوحت بكفها بضيق:
-ماشية وسيبهالك يا هارون ..
تجاهل هارون ندب أمه وربت على كتف أخته :
-اطلعي ريحي وعاوزك تضـ.ـر.بي الدنيا دي بالجزمة .. حتى صفية نفضي لها ..
ابتسمت أخته بهدوء بعد ما طبعت قبلتها على خد أخيه تحت أنظار ليلة التي قرضت الغيرة قلبها لِمَ لم تمتلك أخًا مثله .. انصرفت هيام فنظر هارون لتلك التي ترمقه بإعجاب فبادرته متسائلة :
-أنت ازاي حواليك كل المشاكل دي وبتتعامل عادي وبتهزر !! أنتَ ازاي كده .. !!
-الحي بيقاسي .. ومش كل مشكلة لازم يبان عليّ وأنصب لها صوان..
سار الثنائي بمحاذاة بعضهما البعض في طريقهـم لغرفته الخاصـة ، فتطلعت له :
-عندك ثبات انفعالي رهيب .. براڤو عليك بجد.
ثم أشاحت بنظرة ماكرة :
-عشان تستحمل اللي اسمها زينـة ..
زفر وكأنه يطرد غبـ.ـار واقعه الثقيل من فوق صدره وقال ليوهم نفسه بزينة :
-عبـ.ـيـ.ـطة .. كلمة توديها وكلمة تجيبها متزعليش منها ..
وقفت أمامه لتعوق طريقها :
-شكلك بتحبها وبتكابـر وو
-حُب الحريم مش كيفي ..
-أومال كُنت هتتجوز أزاي أربعة !!
اتسعت ضحكته بهدوء :
-لا كُنت بنكشك بس ، عاوز أعرف أحلام قالت لك أيه ؟
هزت رأسها بعدm تصديق وقالت ببلاهة متعمدة إثارة استفزازه :
-اه عايز تعرف قالت عليك أيه كمان ؟!
-قولي ، شكل وقعتها مربرة معاي !
دنت منه وكأنها تعلن الحرب عليـه :
-قالت أنك عامل فيها جـ.ـا.مد وأنت ولا جـ.ـا.مد ولا حاجة.. وشكل كلامها هيطلع صح ..
اتسع بؤبؤ عينيـه بحيرة لامعـة حول كيفية التعامل مع جُحر السيدات الاتي اتفقن عليـه وقال بخبث :
-أنتوا كلكم إكده ماعتحفظوش سـر !!
ثم دنى خطوة فاردًا عضلاته أمامه وكإنه أراد أن يثبت عكس ما قيل :
-وقالت أيه كمان ، لتكون لعبت في العارضة منا عارفه ؟!
-لا هي مجتش جمب العارضة ولا حاجة وو
تلعثمت الكلمـ.ـا.ت بفاهها لا تدرك عـ.ـا.قبة ما قالت ، فهزت كتفيها بلامبالاه لتبرئ نفسها :
-هي اللي قالت كده أنا مالي .. الله!!
ثم تابعت سيرها نحو الغرفة ، فأتبعها صوته الرخيم وهو يقول خاتمًا جملته بغمزة من طرف عينيه :
-أحلام قالت كده بس عشان مشافتش الجانب الخفي من هارون العزايزي ، لو حابة أنا ممكن أوريهولك ..
-وأنا عملت لك أيه ؟! هو جر شكلي وخلاص ؟!
ثم هرولت لتفتح الباب بسرعة من سطو نظراته المربكة وهي تغير مجرى الحديث ؛ وتسأله :
-أيه حوار البـ.ـنت دي اللي حكيت عليها مع مامتك ؟! بليز ممكن تحكي لي !
شـ.ـد هارون أحد المقاعد الخشبية وجلس ليقول باختصار :
-دكتورة صاحبة هاجر أختى ، وِلد عمها اعتدى عليها الليلة اللي عدت والبت محجوزة في المستشفى ..
خيم الحـ.ـز.ن فوق ملامحها وهى تجلس على طرف المقعد بضيق :
-ياخبر !! ده مجرم ولازم يتعـ.ـا.قب ..
هز ساقه بقلة حيلة :
-للاسف المجلس هيحكم بجوار البت له عشان الموضوع يتلم .. لان العرف عندنا ما ينفعش دm اتنين يختلطوا ببعض ويفترقوا !!
تقاذف الاعتراض فوق ملامحها بعدm تصديق :
-أحييه !! وأنت راضي بالظلم والجهل ده .. المفروض أنك عمدة وكلمتك مسموعة ومحامي ودكتور جامعي ، يعني مهمتك تحقق العدل .. مش تمشي ورا الجهل والظلم ..دي لو أختك كنت هتعمل أيه ؟ انت لمجرد بس جوزها حاول يضايقها عملت فيه كده !! ما بالك بالمجرم ده !!
ثم لملمت شعرها بـ.ـارتباك واضح:
-أنت ماينفعش تسكت عن حق المسكينة دي !! انت عارف المصـ يـ بـةفين !! مش في ظلم الأشرار ، في صمت الأخيار ، بابي كان يقول كده ..
ثم وثب من مكانها وهي تجوب حوله بكفوفها المرتعشة التي تلوح بها لتتخيل وضع تلك المسكينة التي ذبحت بنصل الظلم وهي تجهش :
-أنت متخيل للحظة خــــوف البـ.ـنت دي وهو بيحصل فيها كده ! أنتَ متخيل انها خسرت كل حياتها وهتتجبر تعيش مع شخص د.بـ.ـحها وسرق روحها !! أنت مستوعب هو عمل فيها أيه !!
ثم ضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها بفزع ٍ:
-أنتَ ازاي هادي كده !! ازاي هتضيع حق المسكينة دي !! ده أول اختبـ.ـار حقيقي ليك ، يا أما تحقق العدل وتقف في وشك الظلم ده ! يا أما هيبقى يا خسارة بجد ونظرتي فيك مش في محلها !!
ثم شـ.ـدت مقعدها ودنت منه لتتوسل له بحرقه :
-أنا بـ.ـنت وحاسة بيها وعارفـة بقول لك أيه ؟! ارجوك أنصف المسكينة دي هي ملهاش ذنب ولا مجرمة زي ما مامتك قالت ! انتو كده بتسقفوا للمجرم وبتقولوله براڤو ..
نبرتها المرتجفة ، خــــوفها .. دmـ.ـو.عها الجارفة .. توسلها له .. أيقظ صوتًا خفيًا للضميـر يجرؤه ولأول مرة على الوقوف بمواجهـة العرف ويرفضه ، لم تكن كلمـ.ـا.تها مجرد كلمـ.ـا.ت بل كانت نجوم ترصع ظُلمتـه وتغيب عقـله .. انخفضت يديه ليراها تتشبث بكفه وتترجاه بتلك النظرة لم يستطع مقاومتها منتظرة موافقته حتى قال بهدوء لا يعلم مصدر؛ هل عينيها أم رقتها .. أومأ بالموافقة تائهًا ببحـر ذاك الدرب المجهول الذي ينساق له سقى الأمل ملامحها بدلًا من دmـ.ـو.عها وهي تسأله :
-أنت ساكت ليه !!
••••••••••••••
~بالمشفى …
كتبت إحداهن ذات مرة عنـ.ـد.ما طـــعـــن الخنجر قلبها :
‏”في الضباب اضعت موطأ ظلي، كما يضيعُ عمرٌ، حلمٌ، حبٌ، وطنٌ من بين الأصابع، مثلما يسقط خاتمٌ في نهرٍ، مثلما ينكـ.ـسر فنجانٌ أو إنسان جميعها أشياء أن فُقدت لا تُعود أبدًا ”
تراقصت جفونها التي تتأمل تفاصيل الغرفة من وراء الضباب ، ضباب ظُلمتها ، تتطلع بكل شيء وتدعو الله أن كل ما مرّ لا يكون إلا مجرد كابوس وأن الواقع أجمل من ضجيج حلمها البشع ، نهضت من مرقدها وهي ترتجف من الصقيع، من الخلاء الذي يعُمها ، والوحدة التي تلفح بقلبها ، وخزات خفيفة تضـ.ـر.ب برحمها وسكاكين تذبح بقلبها ،، ضمت ركبتها لصدرها وهي تنتفض ، تتذكر تلك التفاصيل المرعـ.ـبـة التي تسكنها والتي عاشتها ، تتذكر كيف ذبحت بسكين الغـدر ، قيل بأن هناك جروحُ نضجٍ تُشبه صدmـ.ـا.تَ الطفولة، جروحٌ تجتثّ منك شيئًا، وتزرعُ فيكَ آخر، تُصيبك بهلعٍ دائم وأنت الذي تظنّ بأنّك تخطّيت، جروحٌ تغزو أحلامك حتى بعد انقضاءِ حـ.ـز.نها، فتستيقظُ من حلمكَ فيها بفزعٍ وأنت تهشّ طائرًا غريبًا حطّ على صدرك، فتُحاول دفعه، ولاتجدهُ عليك ..
كل ما بها يـ.ـؤ.لم وكأن الألــم تلك المرة لست بعضو محدد بل جاء التعب من نفسها شعور قـ.ـا.تل ، شعور فتاك مهما طوفت الديار بحثًا عن مُستراح فأن دواءك لا ينزل بهذه الأرض الظالم أهلها…
دفنت وجهها بين ركبتيها وهي تئن بو.جـ.ـع حاملة هم أمها التي كيف ستواجه صدmة كهذه ، تحمل عناء الخبر الذي سيقــ,تــلهما معًا ، كيف تقول لها بأن كل ما كانت تسعى له بات هباءً منثورًا ، كيف كتبت ملائكة السماء امنيتها بأنها لا تود الزواج أبدًا ، كيف أنها ستعيش وحيدة باقي عمرها ، كيف ستواجه البشر والخلق ، كيف ستفر من أحكام المجلس الذي سيواصل قــ,تــلها كما فعل المجرم .. كيف؛ كيف !! تذكرت كيف اقتحم الذئب حصونها وهتك عرضها !! كيف اندست حوافره السامة بجلدها!! كيف تجبر على ضعفها ورفضها واختلس ما لا يحق له !! كيف أرعـ.ـبها لهذا الحد !! كيف لم يرحم ضعفها ؟! كيف ستنسى أقسى لحظات بعمرها ؟!
طاحت الأفكار برأسها ودق شاكوش الهزيمة بصدرها وهي تصرخ بقوة ولكنها خشيت أن يسمع أحد لصوتها فيأتي ويقطع خلوتها مع الحـ.ـز.ن الذي نصب خامته فوقها ، حتى الصراخ لم تنعم به بل بات مكتومًا وراء كفوفها .. تجاهلت صدح الألــم ونزعت ” الكانولا” من يدها ثم تحركت للتخلص من ملابس المشفى وترتدي ذلك الجلباب الفضفاض الأسود بلون أيامها والذي أحضرته لها هاجر التي هبطت مع هيثم لتنهي حسابات المشفى .. ارتدت جلبابها وهي تتشبث بجـ.ـر.ح رأسها المضمدة وجرت ذيول خيبتها وضعفها وهي تفارق الغرفة ، فلم تملك رفاهيـة النواح على ما ضاع منها ، الوقت لست بصالحها … غادرت المشفى على الفور دون أن يلتفت لها أحد لتستقل سيارة أجره وتطلب منه أن يوصلها لوجهتها …
وصل هلال الذي يحمل زجاجات العصير بيده والطعام وأوقف الممرضة طالبـًا :
-لو سمحتي دخلي دول ..
أخذت منه الممرضة بطاعة وظل يجوب أمام الباب وهو يتشاجر مع خطاوي الأرض يستحلف لبكر :
-ورب العزة ما حد هيرحمك من تحت يدي يا حقير ..
خرجت الممرضة ترتجف :
-المريـ.ـضة مش چوة !!
امتد نظره للداخل بهلعٍ وهو يخرج هاتفه ليتواصل مع أخيه متسائلًا :
-اومال راحت فين ؟!!!!
على الجهة الأخرى وصل سائق الأجرة أمام مخفـر الشرطة ، فطلبت منه رقيـة أن ينتظرها كي يوصلها لبيتها وستمنحه أجرتـه لاحقًا ، تقدmت لداخل القسم بخطوات ثابتـة ورأس مرفوعـة ولكن دmع العين خداع وقفت لتسأل العسكري :
-عاوزة أعمل محضر .. في الظابط اللي هنا ؟
أشار لها العسكري :
-مكتب شريف بيه رئيس المباحث آخر الطُرقة ..
جرت حُطامها وسارت بخطواتها التي لم تتردد للحظة ، سمح لها العسكري الآخر بدخول المكتب ، حينها أنهى شريف مكالمته وهو ينظر لها بقلة اهتمام :
-خير يا ست !!
بلعت غصة حـ.ـز.نها وهي تقول :
-أنا الدكتورة رقيـة أبو الفضل العزايـزي …
وثب شريف من مكانه إثره علمه بهويتها وأنها تابعة لذاك النجع الملعون بالنسبة له ، أشار بيده كي تجلس ، فأبت .. انتظرت لبضع ثوان حتى تتوقف عينيها عن سكب الحـ.ـز.ن وأكملت :
-مچلس العزايزة مش هينصفني .. أنا چاية أعمل محضر ..
أحس شريف بأن فرصته قُدmت له على طبق من فضة خاصة أن من المتعارف عليه بهذه القبيلة عدm تدخل الحكومة في شؤونها ، هز رأسه باهتمام وسألها :
-محضر ايه ؟!
بلعت جمر الحادث الذي تعرضت له وقالت بشموخ لا يلوثـه تدني الفعل الذي تعرضت له :
-تعدى واغـ.ـتـ.ـsـ.ـاب ، من بكر فياض وِلد عمي 
“‏للظلم جولة و للحق جولات، وعلى الباغي تدور الدوائر.”
– عبد الرحمن منيف ।
•••••••••••••••••
لقـد سربت “ليلة” لحقل فكره عودًا من الكبريت المشتعل الذي لم يتوقف عن الإحتراق أبدًا ، حمل دخان حيرته بين التمرد على تلك الأعراف القاسية و التي تعهد على حمايتها بما تحمـله من مظالم لآخر عمره ، أم كيف سيخمد بركان الضمير الذي أشعلته تلك الفتـاة برأسـه !! فأكثر الأشياء التي قد تدهشك حد الحيرة حينمـا تنساق وراء عُرف محتقرًا لآلام الآخرين ، أعراف وضعت بزمـان ربما كانت حينها تتناسب معه ولكن و مع دوران ساقية العصـر واختلاف مطالبه ؛ أ هل عدلًا أن نأسر قلوبنا في قوقعة السلف !!!
غادر “هارون” غرفتـه محتجًا بأنه في حاجة لإشعال لفافة من التبغ .. أو على الأقرب ربما يريد حرق كل الأفكار التي تتسابـق بعقله ، تركت له الحيرة حد التمرد على عقله وأعرافهم وترك لها التمرد حد الحيـرة حول أمر قلبها المتعاطف دومًا مع الجميع وثقتها الكبيرة بحكمته !!
خلت الغُرفـة من طيف وجوده وقفل عليهـا الباب كي لا يتسبب أحد بإزعاجها ، ما أن ذهب عنها أحست بالخلاء يحيطها ، خلاء لا تدرك معناه حقًا إلا بغروبه عنـها وعن أي مكان يجمعهمـا معًا ، تمرد القلب الذي احتج ببقاءه بالمكان للإطلاع على الكُتب لـ التفتيش حول متعلقاته الشخصية.. فتحت تلك الخزانة الخشبية الصغيرة المتكونة من ضلفتين ناحية معلق بها عباءته الصعيدية وبجوارها عدد قليـل من الملابس الشبابية والعصرية ذات الماركات المميزة ، توقفت عينيها على ذاك ” البلوڤر” المميز المختبئ بين ثيابه المُعلقـة وأخذت تعاينه بإعجاب لتقول لنفسها:
-واو ، واضح أن ذوقه حلو في كل حاجة إلا الستات !!
ثم رجعتـه مكانه وقفلت تلك الضلفة لتفتـح الأخرى المكونة من عدة رفوف فوق بعضها ، بدأ من ملابسه القطنيـة لـلرياضيـة لكسوته الصعيدية المكونة من عدة عباءات مصفوفة ومرتبة بطريقة مميزة للغايـة فوق بعضها البعض .. عاينت ماركة ملابسـه نوع نوع .. حتى مقاساته لم تنجٌ من حبل فضولها الممتد نحو خصوصياته ، تناولت يدها زجاجة العطر والتي يجاورها زجاجة من المسـك ذو الرائحة الخلابة ، أمسكت بعطره ونفثت القليـل على معصم يدها لتتنفسه بحبور يحضره بذاكرتها على الفور ؛ فالعطر من أخطر الأسلحة على ذاكرة المُغرميـن .. طيف من احتضانه لها مر على شريط فكرها للحظة أحدث رعشة قوية بجسدها جعلها تترك ما بيدها بسرعة وهي تقفل الضلفة وتعاتب نفسها وتتذكر جملة أمها التي كانت تقولها كل ما تعبث هذه الطفلة بأشيائها :
-عيب يا ليلة عيب ؛ ما تبقيش نوتي وتفتشي في حاجـة مش بتاعتك ..
حاولت أن تُشتت فكرها عنـه بانشغالها بأي أمر آخر.. ولكن كيف السبيل وكل ركن هنا يحمل جزءًا منه ، تقع تحت سقف مملكته وعن أي نجاة تبحث هذه الحمقاء !! فكرت للحظات في رقيـة وما وقع على تلك المسكينـة وكيف عانت ، وكيف الوحدة قطمت قلبها كما فعلت بكِ لسنوات متواصلة يا ليـلة !! نوبة من البكاء هجمت على مُقلتيهـا استقبلتهم برفض قاطع وهي تراقص جفونها وتهش على أوجاعها بيدها كي لا تفتح بابًا للحـ.ـز.ن الموصد :
-ليـلة ، ليـلة مش هنعيط ؛ أهدي كده …
تناولت بعض الحبوب التي لا تُفارق جيبها ثم قفزت الفكرة برأسها وهي تمسك هاتفهـا لتشتت انتباهها عن الحـ.ـز.ن ، وهي تقول:
-نشوف حكاية هاشم ده كمـان ، والله قلبي كان حاسس إنه مش سالك أبدًا !! نشوف كده يمكـن أكون غلطانة فـ الرقم ولا حاجة !!
سجلت الرقم ودخلت إلى تطبيق ” الواتس آب ” ، إذًا بصورتـه الشخصية موجودة على الرقم المُسجل ، رفعت حاجبها باندهاش :
-الله!!! ياابن اللعيبة ما الرقم صحيح أهو .. معقولة يكون متجـوز بجد ولا البـ.ـنت دي بتكذب !! أممم بس هعرف ..
قطع حبـل أفكارها رنين رفقتها اللاتي لم تتعرف عليهن إلا من أربعة سنوات فقط حتى أصبحن كل حياتها كي تعوض فراغ غياب أبيها .. فتحت ” الڤيديـو كول” وهي تعبث بشعرها وتقول بملل :
-وحشتـوني على فكرة ..
ملأت شاشـة هاتفها بصورهن وكل واحدة تعبر عن مدى اشتياقهـا للأخرى وعن عملهم والمواقف اللاتي مررن بها الأيام السابقـة ، حتى جاءت “علا” لتردف بفضول :
-ليـلة مالك سرحانة مش موجودة معانا خالص !!
وضعت قبضة يدها تحت خدها بملل :
-البلد هنا كلهـا أحداث وحاجات تخــــوف ، كل يوم عندهم جديد مش زينا ، عادي الأيام تتكرر وتعدي كده من غير أي حاجة مهمة .. لكن هما لا تحسي حياتهم فيلم سينمائي مش عارفة نهايته .. هما بيجروا وبيسابقوا الحياة بالظبط
انتبهن الثلاثة لحديثها ، فأدرفت “جوري” متسائلة بفضول :
-هارون تاني صح ؟! عمل ايه ؟!
جاوبت ليلة :
-مش هارون لوحده ، أخواته أهله قرايبهم بلدهم دي .. كله كله كده غريب ، فعلا دول لو اتعمل عليهم حلقة فالـTV هتكـ.ـسر الدنيا .. المهم سيبكم من كُل ده ؛ بنات أنا عرفت حاجة خطيرة جدًا ..
ثم فارقت مقعدها الخشبي لتجلس على طرف تخته بـ.ـارتياح كإنه ينتمى لها وتُكمل لهم :
-هاشـم أخوه طلع متجـوز فالسـر واحدة في البلد اللي بيشتغل فيها .. عارفين يعني ايه !! استنوا ده المفروض أنهم خاطبين له نغم !! ايه دا ؟!كل دي عُقد !!
ردت لميس بجهل :
-طيب وفين المشكلة في واحد متجوز ؟!
بررت لها عُلا :
-أنتِ مكنتيش معانا آخر مكالمة ، العيلة دي جوازها قائم على الدm ، بمعني لازم يتجوزوا يكون قرايب بعض !!
فأتبعت لميس :
-الجهل ده لسه موجود !! معقولة ؟! طيب وأنتِ عرفتي ازاي يا لي لي ..
كفت ليلة عن العبث بخصلات شعرها وهي تروي لهم ما حدث مع أحلام التي توسلت لها أن تطمئن على ابنها وقالت :
-لسه بقول ألو ، ردت عليا واحدة وبتقـول لي أنها مـ.ـر.اته ، وأنا من غبائي بكرر الجملة ، وهارون .. قصدي هارون بيه العمدة كان واقف قصادي ومعرفش سمع ولا لا ؛ بس هو حاول ياخد مني الموبايل لما عرف إني بتكلم مع أخوه وأنا رفضت ..
تدخلت جوزي معبرة عن إعجابها بهاشم :
-أوووه ؛ شكلي هحب هاشم .. يعني ده ضـ.ـر.ب بأعرافهم المتـ.ـخـ.ـلفة دي في عرض الحيط وراح اتجوز وعايش حياته !! لا جـ.ـا.مد .
فأكملت ” عُلا” بنصح :
-لي لي .. خلي بالك أوعي لسانك يقول كلمة كده ولا كده ، عدي اليومين الباقيـن يا ستي في هدوء وارجعي ..
ردت بخيبة أمل :
-هعمل كده فعلا ..
فهبت لميس مقترحـة بحماس :
-ندخل في المفيـد ؛ أنا عايزة أشوف أشكال الناس اللي بننم عليهم دول ..
أيدهن الباقية بضحك ومزاح حتى طاحت ليلة بوجههم :
-خلاص اسكتوا بقا .. لقيت صورة هاشـم وو
ثم وقعت عينيها على الإطار الموضـوع فوق الكُمود الذي بداخله صورة هارون والتي رسمت الضحكة على محياها وهي تقول بنبرة هائمة :
-وهارون كمان .. استنوا ..
سرقت الصورة الشخصية لهاشم ومن بعدها قامت بالتقاط صورة هارون بيدها التي ارتعشت وهي تلتقها .. لم تتردد للحظة وهي ترسل لهم صورة هاشم ، ولكن عند هارون صدح قلبها بصوت الملكيـة الذي كان يريد أن يمنعها في أن يتغزلن الفتيات بصورته .. تجاهلت نداء قلبها الغامض والمبهم وقامت بـ.ـارسال الصورة أيضا ، ذاع صوت الفتيات وهن يشاهدن الصور وكل واحدة منهم مبهورة بالزي العسكري لهاشم اللاتي أعجبن بكونه ضابط حربي .. ومنهن من أشادت بوسامة هارون وجديتـه .. تفوهت جوري التي وقعت بحب هاشم :
-ايه المُز الجامـد ده !!
فأتبعت لميس :
-واحد جـ.ـا.مد والتاني أجمد !! ينفع اتجوز الاتنين ؟!
فردت عُلا :
-لي لي أنا لو منك مش هرجع غير وأنا متجوزة واحد منهم …
فأتبعت جوري :
-حاسة الصورة دي قديمة لهارون ، لو صورة جديدة كان هيفوز بحبي عن هاشم الباد بوي ده ..
فتغزلت لميس بهارون مما سرب شعور الغيرة لقلب ليلة :
-بس جـ.ـا.مد عنده هيبة بـ.ـنت ستين في سبعين أنا اتخضيت … لي لي هارون ده فظيع بجد !! هو كده فعلًا في الحقيقة ؟!
فنادت علا على ليلة الشاردة :
-وأنتِ يا ليلة ؛ مين أحلى ؟!
ردت بشرود تائه في بحره وهي تستحضر ذكريات لقاءها بالمدعو هارون وتقول :
-هاشم جـ.ـا.مد ولذيذ بس مشـ.ـدنيش ، لكن هارون زي ما قالت لميس ، عنده هيبة تخض يخلي عندك فضول بيسحبك شوية بشوية لعنده عشان تت عـ.ـر.في عليه أكتر وأكتر ..
ثم ذابت في سحر صورته بين يديها وأكملت بتمنى يزهو بمقلتيها :
-راجـ.ـل مختلف عمري ما هقابل زيـه في حياتي ..
ثم هبت مذعورة وهي تعيد صورته لمكانها وتقول :
-مامي بتتصل .. باي باي أنتـوا …
••••••••••••••••
~بسيارة هارون ..
والتي حكم بجلوس “أحلام” بالمقعد المجاور له وبالخلف صفية وزيـنة التي يمتد غـــضــــبها لملامحها المنكمشة .. تفوهت صفيـة بضيق :
-هارون يا ولدي ، ساعة ونعاودوا .. أنا عندي مصالحي ..دي واحدة خاطية خسارة نعزوها حتى.
-البت معملتش حاچة تعيبها ياما ..
ثم عير مجرى العتب و أكمل بمـلل :
-ربك يسهل الأمور ياما ..
فتدخلت زينـة بكهن :
-إلا قول لي يا هارون ؛ بكرة هيكتبوا على البت دي والواد وِلد عمها ..
زفر باختناق :
-معارفش ..
فتدخلت صفية لتقلي سؤالها على مسامعـه :
-الواد راح المجلس يطلبها ولا لسه يا هارون .
انكر معرفته بكل شيء كي يقفـل أي بوابة للجدال بخصوص هذا الأمر الذي أشعلتـه ليلة بقلبه وبرأسه :
-معنديش خبر ..
أخذت زينة تخوض في تفاصيل الأمر مع عمتها :
-شوف الحرباية ، أمها في المستشفى ورايحة تمشي على حل شعرها ؛ دي بنات متربتش يا عمة ، وبدل ما يچوزوها يروحوا يدفنوها بالحيا ..
كان حديث زينة النقيض تمامًا عن ليلة التي رأفت بقلب تلك المسكينـة على مسامع هارون فأعقبت صفية :
-دي بت چليلة الترباية ، عاوزة قصف رقبتها .. انا من رأيي مـ.ـو.تها ولا عارها .. البت اللي تتكشف على راجـ.ـل مش حلالها متستلهش تعيش.
وضعت زينة أناملها على شـ.ـدقها وهي تقول مسددة النظر لهارون:
-يا مري يا عمتي .. لا ربنا يبعدنا عن الحـ.ـر.ام والفضايح ، وهو في أحلى من حلال ربنا يوعدنا بيـه ..
لم يرق موضع الحديث بالنسبة ” لأحلام ” التي ربتت على كتف هارون متولية أمر دفاعها عن تلك الفتاة التي يجلدها الجميع بدون سبب .. نظرت للخلف وهي تنهرهم :
-ما تكتمي أنتِ وهي ، أيه عاوزين جنازة ومـ.ـا.تشبعوش فيها لطم !! عرض الولاية بقا سهل !! مسكتوا حكم الدنيا أنتوا و أحنا مش عارفين !! اتقي الله يا صفية عندك بنات والبت دي مش خاطية البت اتاخدت غدر ..
تفوهت زينة باعتراض :
-غدر ولا مش غدر اسمها لامؤاخذة انكشفت على راجـ.ـل وماينفعش تتكشف على غيره بعد إكده .
ألجمها صوت هارون المعارض لجهلها :
-ولا كلمة زيادة يا زينة ومش عاوز اسمع صوتك لحدت ما نوصلوا .
-ليـه بس يا
قاطعها بإصرار وهو يبرق لها بالمرآة :
-ولا كلمة قلت …
لكزتها عمتها التي انكمشت بالمقعد كي تصمت ، كي لا تُجادله .. ربتت أحلام على كتفه وهي تقول :
-هدي روحك ياحبيبي ، عيلة مفهماش حاجة وعرفت غلطها ..
شتان بين صوت الضمير وصوت الحميـر ، شتان بين إمرأة تجلس ببساتين الحياة فكل ما يخرج من فاهها زهور في صورة كلمـ.ـا.ت ، وبين إمراة ترعرعت في حظيـرة كل ما تقوله مدنس بالحماقـة .. استحضرت أعينه وجه” ليلة “التي تتوسله أن يقف بجوار فتاة لم تعرفها وتترجاه أن يقيم العدل لأجلها ويرحمها ، وتلك التي تجلس خلفه وستكون يومًا ما زوجته وهي لا تعرف للرحمة لون … ما هذا النفور الذي قفز بقلـبه لمجرد تخيله للفكرة !!
قطع فكره المتواصل رنين هيثم الذي اتاه صوته المتقطع بأنفاس التعب :
-هارون ، رقية جات عزا أمها ؟!
-أنا لسه في الطريق !! في ايه ؟!
-مش لاقينها يا هارون !! فص ملح وداب .
••••••••••
أغرق بالحب كيفما شئت ولكن عليك بالحذر ، أن تبقى أعينك مفتوحة دومًا .. هذه هي قوانين البحار لا يمـ.ـو.ت سمك مقفول العينين وتلك أشارة لك أيها العاشق .. فلا تبقى عاشق وأحمق بآنٍ واحد .. يكفيك سُم العشق فالقلب سيشفع لك ، ولكن سُم الحماقة فلا يرحمك العقل وقتها ..
قبل ساعات وبالأخص حينما كانت تخفي رغد آثار جريمتها الشنيعة وتقوم بحذف رقم” ليلة” من هاتفه توقفت عند رقمها قليلا وقامت بالتقاط صورة الشاشة وأرسلت الرقم لنفسها رغبة ما بنفسها قادتها أن تحتفظ برقم “ليلة”ثم تابعت إخفاء باقي جريمتها بعجل وغادرت الحمام بحذر شـ.ـديد وفي لحظة قربها منه لتضع الهاتف بمكانه تأرجحت جفونه حتى أوشكت أن تنفضح أمامه فاضطرت أن تلجا لدهائها الأنثوية لتشتت تساؤلاته وهي تبادر بقبلة رقيقة نالت ملامحه هامسة له :
-سبتك تنام كتير .. مش كفاية بقا ؟!بتوحشني .
عادت من غفلتها على صوت فرقعة حبات الفشار بالطنجرة فاستردت وعيها على الفور وهي تجهز الإناء البلاستيكي لتكمل سهرتها الرومانسية معه بمنزلهم .. غسلت وجهها بالماء لتمحو من فوقه أثار الفكر واخذت نفسا عميقا لتهدأ ثم عادت لتفرغ الفشار بالطبق وتعود له ..
كان جالسًا في أجواء رومانسية يعمها الإضاءة الخافتــة والفيلم الأجنبي المفضل لهما حول الكثير من المقرمشات والعصائر للتسلية .. كانت ترتدي منامة شتوية بحمالات تصل لركبتها وجوارب شتوية تكسو قدmها لأعلي فدنت منه وهي تسأله :
-الفيلم ابتدا؟!
ترك الهاتف من يده وهو يجذبها لحـ.ـضـ.ـنه برفق :
-أهو هيبدأ .. وبعدين أنتٍ جايبة لنا فيلم رومانسي ليه ؟! أنا بحب الأكشن ..
-وأنا بحب الرومانتك ..
أصدر صوتًا نافية وهو يرفع حمالة كتفها المتدلية ويقول :
-كله كلام فارغ بيضحكو بيه على الهبل اللي زيكم .. مفيش بعد الأكشن وحلاوته ؟!
رمت حبة فشار بفاهه وهي تمازحه :
-ياسلام !! زي ما ضحكت عليــا كدا بالظبط ؟!أنت ناسي عملت أيه عشان تخليني أحبك !!
رفع حمالة سترته مرة أخرى وهو يتأمل ملامحها البدوية بإعجاب :
-في الأول كنت بتفرج عليه عشان أعرف أضحك عليكي بس ..
-ياسلام ؟! ودلوقتٍ خلاص بقا ضحكت عليا وجبتني في بيتك .. فـ خلاص كدا !!
تحمحم هاشم بخفوت وهو يغازلها بأنفاسه القريبة منها أرنبة أنفها :
-لا يا عبـ.ـيـ.ـطة هفضل أعلم فيكِ لأمتى .. فيلم رومانسي لزوم الشغل والأكشن لزوم ضبط الشغل ..
ثنت قدmها فوق ركبته المثنية وقالت بدلال بعد ما وضعت القليل المقرمشات بفمه :
-أزاي بقى ياهاشم بيه ؟!
رد بعفوية :
-عندك مثلا التكسير والحركات والخبط والرزع كلها حاجات لزوم الحاجات ؟! فاهمة حاجة ؟!
هزت رأسها وهي غارقة بالضحك :
-لا !!
فتحه فاهه ممازحا :
-ارمي ارمي فشار .. مفيش فايدة فيكي .
غمزت له بطرف عينها وهي تٌمسك بغلة الفشار وتسأل بخبث :
-فشار بس ؟!
-عندك حاجة تاني تتحدف جوة ؟!
جثت على ركبتيها لترمي قبلة أشبة لقطف الورود من خد البستان وقالت :
-حبة كده وحبة كده …
-سيبك من كده وخلينا في كده ..
أنهى جملته بغمزة من طرف عينيه وتحمحم متحمسًا بعد ما ألقت رحيق بيادر الحب بقلبه وهو يجذبها عنوة إليه فانسكب إناء الفشار فوقهم لتصيح صارخة باسمه وتعاتبه :
-تصدق مامي ليها حق تطردنا بالعلاقة الهمجية دي ؟! لم معايا كده ..
-استنى في حاجات تاني هتتلم بالمرة !
قطع حبل نواياه الخبيثة صوت رنين هاتفها ففرت من تحت قبضته كالغزالة لترد على الهاتف قائلا :
-شكلها سامية بتيجي على السيرة ؟! وهي اللي باصة لي في أم الجوازة دي ..
ألقت نظرة بهاتفها :
-اه هي .. اسكت بقا متعملش صوت ..
ثم فتحت الهاتف لترد على أمها :
-هيي يامامي .. بـ.ـنت حلال لسه أنا وهاشم كُنا في سيرتك ..
جاءتها نبرة صوت أمها الجادة :
-رغد .. أبعدي عن هاشم وكلميني ..
استأذنت منه بلغة الإشارة لتحضر ماء وهي تقول :
-معاكي يا مامي ..اتفضلي .
بتلك النبرة الخائفة حذرتها أمها :
-رغد أقفلي موبايلك لحد جوزك ما يمشي .. ممدوح الشيمي بيحاول يوصلك وأنا قولتله أنك مسافرة كندا عند خالك ..
ثم أشعلت تلك العجوز لفافة من التبغ الملقاة بفاهها :
-رغد .. أبوكي لو ظهر في حياتك تبقي تنسي علاقتك بهاشم للأبد …
انخرطت العبرات من طرف عينيها :
-يعني أيه يامامي .. هو مش كفاية اللي عمله .. راجع تاني يدmرلنا حياتنا ؟!!!!
••••••••••••••
~نجع العزايـزة .
نُصب الصوان ببيت الحج ( أبو الفضل العزايزي) لتلحق به زوجته ورفيقة دربه اللذان عانان كثيرًا في الإنجاب حتى رُزقان “برقية ” وباتت رُقيهم بالدنيا وبالآخرة .. عنـ.ـد.ما حققت حلم أبيها بدخولها كلية الصيدلة وبرت بأمها حتى رحلت وراء أبيها وتركوا معـ.ـذ.بتهم لدروب الحياة لوحدها .. احتشـ.ـد الجميع لتأدية واجب العزاء بعد ما دفنت السيدة صفاء ووقفوا أهلها والمقربين لأخذ طقوس العزاء ..
وصل نائب العمدة “هارون العزايزي ” وأهل بيته للعزاء ووقف في أول صفوف أخذ العزاء من أهل قبيلته بنفسه .. انضم لهم هلال وهيثم الذين يبحثون عن رقية في كل مكان .. تساءل هثيم بقلق :
-هارون رقية ملهاش وجود ..
فتدخلت هاجر الباكية وهي تلهث من الخــــوف :
-هارون اتصرف .. عشان خاطري يا أخوي لتعمل في روحها حاجة .. أنا خايفـة عليهـا ..
لأول مرة يتخلى هلال عن زيه الأزهري وطاقيته .. يقف قابضا على جمر الألــم والخــــوف بقلة حيلة .. قال هارون لأخته :
-خشي دوري عليها في البيت جوة ..لتكون قاعدة في مكان في البيت ..
ثم التفت لسؤال هلال المختنق الذي يكظم غـــضــــب وما أدراك وما كظم غـــضــــب الرجـ.ـال وقال لإيقاع أخيه حول إيجاده لبكر أم لا ليقتص منه :
-هارون ليكون الندل خدها وهرب ..
أدرك هارون فخ أخيه الذي يحترق غـــضــــبا لدينه ودنيته كظن هارون الذي لا يعلم أن أخيه غارق بلهب الحُب ، نجا هارون من الوقوع في فخ سؤاله مستنكرًا علمه بأي شيء يخص المدعو بكر :
-رجـ.ـالتي قالبين البلد .. متعتلش هم هجيبوا ومفيش مخلوق هيطلع من العزايزة من غير علمي ..
انفجر هيثم بنفاذ صبر ليجذب صوته انتباه الحاضرين :
-أنت ايه الهدوء بتاعك !!عقولك بت ملهاش ذنب أد.بـ.ـحت ومش لاقينها .. وواحد خسيس هربان وو
رمق أخيه بنظرته الحادة إثر رفع صوته عليه لأول مرة ولكن منعه من الرد صوت رنين هاتفه :
-أيوة يا جابر ؟!
-كارثة يا جناب العمدة .. البت راحت النُقطة بلغت والقوات جاية وو
هنا أقتحم صوت عربات الشرطة الأذان ودار نحوها الجميع .. تلك أول مرة تجرؤ الحكومة على دخول نجع العزايزة .. اتسعت الأعين وانفرجت الأفواه .. لم يكن الوقت متاحا لهلال أن يستفسر بل ركض نحو العربة التي هبطت منها رقية متجاهلا الجميع ليقف أمامها مهزوزا وبنبرته المنتفضة :
-أنتٍ بخير ؟!
قفلت جفونها وتحاشت النظر إليه متجاهلة الرد على سؤاله وربما فقدت قدرتها على التطلع له .. فباتت الجسور بينهما محطمة تماما .. كيف ستواجه رجل مثله منارة في العلم والخُلق ..رجل كانت تتحداه رأسا برأس وتناطحه بدل الكلمة بعشرة .. كيف ستواجهه الآن وهي فاقدة كل شيء وتحاول النجاة بحطام ما تبقى من روحها .. دخلت من بوابة البيت فهرولت لعندها هاجر وضمتها بهلفة لتقول معاتبة :
-مـ.ـو.ت من الخــــوف عليكي ..
كانت عبـ.ـارة عن جسد راسخ فقد كل وظائفه الآدmية .. شلت الحركة بكل جسدها ما عدا عينيها باتت تتطوف وتتجول المكان حولها .. تسرب الخــــوف لقلبها وهي تراقب الوجوه وتسألها :
-هي أمي ناصبة صوان ليه ؟! أنا زينة وحقي راجع وو
ثم جلى حلقها برقت تلك الأعين المحمرة :
-تعالى معاي يا هاجر أقولها أن بتك شريفة ووالله والله هو اللي عذر بيّ .. أنا كنت هرمي نفسي وو
ظلت تمسح على وجه رفيقتها وتترجاه :
-اهدي يا حبيبتي .. أهدي أهدي .. أنتٍ زي الفل ومحدش يقدر يقول فيحقك كلمة واحدة وو أهدي عشان خاطري ..
انسكبت العبرات من مقلتيها بغزارة وهي تقول بترجي :
-طب تعالى تعالى نفهموا أمي .. هي عارفة تربية بيتها .. تعالى خليكي جاري عاوزة اترمي في حـ.ـضـ.ـنها وابكي و أقولها رقية أد.بـ.ـحت ياما …
كفكفت هاجر دmـ.ـو.ع رفيقتها ثم ضمتها لحـ.ـضـ.ـنها وهي تصرخ باكية لتلقي جمر الخبر على مسامعها :
-صفاء سابتنا ومشت يا نور عيني .. قلبها حس بيكي مستحملش ووقف ..
بللت رقية حلقها الذي جف وهي تحت تأثير صدmتها :
-تعالي أقولها إني مش هسيبه غير لما يتعدm .. حقي راجع ياما ..
ثم كفكفت عبراتها وسيل أنفها المتقطر :
-هي خدت دواها ولا نسيته .. تعالي ياهاجر جوه نشوفوها يلا أنا غايبة عنيها من إمبـ.ـارح ..
توقفت هاجر أمامها لتعوق خطاها وهي تتشبث بذراعيها :
-حبيبتي فوقي مش جوة .. صفاء مشت عند اللي خلقها ..
ثم أتاها صوت أحلام التي جاءت من الخلف وهي تربت على كتف تلك الصغيرة :
-رقية يابتي انتي مؤمنة بالله صح وده قدر ومكتوب .. صعبة عارفة بس أنا جارك ومش هسيبك وو
قفلت جفونها للحظة محاولة استيعاب ما قالت هاجر وهي تسألها:
-هي يعني لساتها في المستشفى طب يلا نروحولها ..
ثم تجول عينيها لتراقب الوجوه حولها بعدmا استوعبت خبر رحيل صفاء عنها ، وبتلك النبرة التي رجت الجدران قبل القلوب أطلقتها رقيـه صارخة وهي تجثو على ركبتيها كأن صخور الحـ.ـز.ن تحطمت على كتفها لوحدها :
-أمـــي …….
لم يتحمل “هلال” هول الموقف الذي هُزت لأجله الجبال وما عليها .. فر من مرارة الحشـ.ـد المهين ليجد مكانا يفرغ به تراكمـ.ـا.ت روحه التي لم يعد قادرا لتحملها .. وعلى الجهة الأخرى يقف هارون مع هيثم أمام شريف الذي انتشروا رجـ.ـاله والطب الشرعي بالمكان .. فأخبره هارون بهدوء :
-خد رجـ.ـالتك يا شريف بيه وأمشي من إهنه ده واجب وعزا ومش عاوزين فيه عوچ.. أحنا هنحلو مشاكلنا ؟!
رمقه شريف بسخرية :
-أنت من أول ما ركبت العمدية والمشاكل مابتتحلش .. سيبني أحلهالك أنا .. وأعترفوا بدور الحكومة هي مش غابة يا عزايزة ..
رد عليه هارون بشموخ :
-والأرض إهنه أرض العزايزة ويبقي القانون بتاعهم وبس ..واللي يقف عليها يحترموا غـ.ـصـ.ـبًا عن عين اللي خلفوه .
فأتبع هيثم :
-فرد العضلات دهوت روح أعمله في أي حتة بعيد عن إهنه ..العزايزة لسه بقوتها وكلمتها سايرة على الكل .
أشعل شريف سيجارته وهو يطالع هارون بتحد بأنه لا يتراجع أبدا :
-بكر فين يا عمدة ؟!
مال ثغر هارون بضحكة خبيثة وهو يحك أنفه بسبابته :
-ديه شغلتكم مش شغلتي يا حكومة !
جهر شريف بوجهه كمن أعلن عليه الحرب :
-أنت كده بتقف ضدنا وأنا متأكد إنك عارفه فين .. هات معايا سكة وخلينا نساعدو بعض بدل ما ..
قطعه هارون بثقة :
-أه أنت تترقى وتعلق نجمة زيادة وأنا اتفضح وتبقى سيرتي على كل لسان .. ألعب غيرها يا شريف بيه .. العزايزة مستغنيين عن خدmـ.ـا.تك .
ثم دنى هارون منه خطوة أخرى وما زال محافظا على شموخه وأكمل بسخرية :
-وهو عدm اللامؤاخذة .. القانون بتاعك هيعمل ايه زيادة عننا ؟؟! ما هو الواد لو وقف وقال هتجوزها هيتجوزها .. ونبقي منبناش غير الحديت الماسخ والفرهدة !!سيب مشاكل العزايزة للعزايزة وكل عيش بعيد عنهم.
غمز له شريف برفض قاطع مرحبا بقيام الحرب بينهما :
-انتو بقيتوا شغلتي خلاص..
ثم وضع الهاتف على أذنه وهو يرسل لهارون آخر نظراته متواريًا خلف العربة وهو يتحدث مع المتصل والذي يشتغل بالصحافة كي يضمن قبضتـه على جمر الموضوع بعيدًا عن ألاعيب هارون ، ويحوله لقضية رأي عام :
-“فوزي بيه ، خبـر لسه طازة عاوزو يقلب الإعلام والصحافة ويلف مصر كلها بيت بيت .. سجل عندك .. ”
كل شيء بالحياة وله تاريخ صلاحيـة ، كُل المواقف في حاجـة لرد فعل مناسـب للحدث ذاته وفي وقته ، فبعض المواقف لا تقبل التأجيـل للرد عليهـا ، فما جدوى السيوف التي تُرفع بعد أن ضبت الحرب أوزارها ؟! الظلم يحتاج لصوتٍ يعارضـه ، لصوت يقف بوجهه .. الحـ.ـز.ن بحاجة لبكاء يخفف الحمل من فوق القلب.. الضعيف يحتاج لمن يأخذ بيده ليقويه .. ترك لها قلبه ورحل .. وصل ” هلال” لتحت إحدى الأشجار في الظلام الدامس كي لا يتيح لأحدٍ أن يرى دmع عينيه وهو واقف مغلول الأيدي يشاهد الظلم بعين حق متوارية .. يراقب تحطم فتاة ضعيفة ويود احتضانها ولكنـه عاجز لا يستطيع.. حتى البكاء لا يليق بهِ ، فعادات الرجـ.ـال لا تُقطر عينيهم أبدًا يسيل الدm ولا يسيل الدmع ؛ ولكن ما الذي يخفف حمل القلوب المُثقلـة .. وقف تحت ستار الليـل الذي لا يختلف عن ستار الظلم إلا أن كلاهما سيسطع عليهما شمس الحق في يومٍ ما ، فتح كفوفه معلنـًا اعتراضـه وتبرئة ذمته عن كل ما يحدث ، يزأر تحت عرش الظلم القـ.ـا.تل لكل معالم الإنسانيـة وهو يستغيث برحمة ربـه ، اشتدت حبال صوته التي برزت عروق رقبته ويده المتشنجة بصوت ينافس زئير الأسود الجائعـة في غابة حُرقت كل أشجارها .. راجيًا أن يهدأ احتراق قلبـه الثائر وهو يفجر غـــضــــبه فـ كلمته :
-يــــالله !!!!!!!! يــــالله ..
•••••••••••••
~في التاسعـة مساءً ..
عاد هارون وعائلته إلى بيتهم ما عدا هاجر التي أصرت أن تبقى مع رفيقتها وتولت نغم مهمة أنسهم .. ووكل هارون هيثم واثنين من الرجـ.ـال لبقاءهم خارج البيت لحارستهم .. كانت صفية تضـ.ـر.ب كف على الآخر وهي تشكو همـها لزوجها الجالس على الاريكة الخشبية مستندًا على عكازه بوهن :
-حج خليفـة لازمًا تشوف لك صِرفة !! بتك هاجر عصت كلمتي وفضلت مع البت اللي ما تتسمى دي !! سُمعة البت يا حچ !!
جهر صوت هارون من الخلف :
-قولها اطمني تروح تنام يا حج خليفة ..
أخذ جملة ابنه على محمل الثقة :
-سمعتي يا صفية حديت ولدك ، اتقي الله ابو البت جمايله مغرقانا والبت ما ينفعش تتساب بروحها ..
أخذت صفية تسب حظها سرًا وعلنًا معترضة على أحكام ابنها وزوجها وهي تنوح وتندب بختها المائل على حسب وصفها ، اسندت هيام ” أحلام” لغُرفتها بهدوء وهي تحكي معها حول ما حدث مشفقة على حال هذه الفتاة التي ذُبحت مرتين في نفس الليلة .. جلس هارون مع أبيها ليستفتيـه بالأمر متحيرًا :
-أيه رأيك يا أبوي ، المفروض أيه اللي يُحصل ؟!
نظر له ابيه نظرة حكيمة وبابتسامة لا تتناسب مع محتوى الحوار بينهم وقال :
-صوت قلبـك عيقول أيه !
عارضه هارون :
-ومن مـ.ـيـ.ـتى في القانون والعرف قلوبنا بيطلعلها صوت ياحج !!
عاتبه بهدوء :
-ومش معنى إنك حلفت اليمين إنك تحافظ عليهم ، يبقى تمـ.ـو.ت صوت قلبك ! لا يا هارون يا ولدي !!
قاطعه معتذرًا :
-بس أنا عمري ما شوفتك كـ.ـسرت عُرف ولا قانون للعزايزة يا ابوي .. طول حياتك بتنفذ القانون لو على رقبتك !!
غرز أبيه سبابته بصدر ولده مشيرًا لقلبه بقوة :
-عشان اللي إهنه مخفي ، وعشان يتعمل لازم يبقى في الخفي ..
تحير حول حكمة أبيه التي لم يفهمها قط ، وسأله :
-طب ما ترسيني !! البت حـ.ـر.ام تتچوز كـ.ـلـ.ـب زي ديه !! وحـ.ـر.ام تتساب لروحها في الدنيـا !
هز الحج خليفـة رأسه بعد اقتناع :
-احكم في اللي تُملكه وبس ، أمر الدنيا بيده لوحده – وهو يُشير للسماء – أنا سايب لك المركب تسوقها لوحدك عشان متتخبطش زيي ..
ثم استند على عكازه متأهبًا للذهاب :
-على فين يا أبوي !!
-طالع أنام يا ولدي ، رايح بكرة اسكندرية ..
انكمشت ملامح وجهه باندهاش :
-ده ليه ؟! ملناش شغل حتى في اسكندرية!!
ابتسم ابيه بحكمة لا يعلمها غيره :
-حقوق عباد ولازم ترجع لصحابها ..-ثم عاد يشير لقلبه وأكمل -أهي دي الأمور الخفية اللي لازم القلب يحكمها .. خلي حكمك قوي لكن متمـ.ـو.تش قلبك يا عمده ..
ظن أن لجوئه لأبيه سيستدل منه على الحل ليطمئن فكره ولكنه أشعل وهجًا أخر من الحيرة برأسه حول ما السر او ما الأسرار التي يخفيها خليفة العزايزي وستدفن معه !! تدخل مقترحًا :
-لو عاوز تعرف حد في اسكندرية ممكن تسأل الاستاذة .. قصدي الضيفة ، آكيد لافة وعارفة كل حاچة في بلدها ..
لم يكترث للأمر اكتفى بهز رأسه قائلًا :
-كله على الله .. وديني عند أحلام ،ليّ ليلتين غايب عنها ..
تعكز أبيه على رسغه ، فمازحه هارون قائلًا :
-أهو مزاجك ماعيتظبطش غير عند أحلام .. هنيالك يا حج ..
ضحك ابيه بوقار وهو يعترف بحق زوجته الأولى :
-أحلام من الحريم اللي تريح الراس والقلب ، أما أمك دي تقلب الرأس قلب .. -ثم وشوش له – احفظ سر أبوك متودناش في حديد أمك لساتها بصحتها وأنا مش كَدها ..
لاطف أبيه باحترام :
-لا أحنا چامدين يا حچ ولا يفرقلنا !! داحنا نتعلموا منك ..
-عند أمك وهيفرق ،وطي حِسك بس مش ناقصين خوتة ..
وصل الاثنان لأعتاب غرفة أحلام والتي خرجت منها هيام للتـو ، فألتقت بأبيها وأخيها اللذان بادلتهما بابتسامة هادئة ، ترك الحج خليفة يد ولده مستردًا عافيته على باب الغرفة :
-أنتَ مسندني ليه يا وِلد !! شايفني كَبرت !!
داعبه هارون ملاطفًا بالحديث وهو يضع يده على كتفي أخته ويقول :
-مش بقولك يا حج داحنا نتعلموا منك ..
ثم وشوش لاخته ضاحكًا :
-أبوكي شكله ناوي يعملها ويجيبلنا الواد الخامس .. مش مرتاح له ..
ضحك الأخوة معًا وألتفتت له هيام بامتنان :
-تعرف إني عحبك قوي يا هارون ، أنتَ مش بس أخوي ؛ أنتَ كُل حاچة في حياتي..
-أنتِ تربية يدي يابت !! وأنا ليا مين غيركم ..
ثم ختم جُملته بقبلة رأسها وسألها :
-روحتي لـ ليلي ؟!
انكمشت ملامحها باستغراب :
-أنا ما شوفتهاش خالص ، افتكرتها راحت معاكم ؟!
ضجرت ملامحه باختناق مناديًا على فردوس التي جاءت ركضًا :
-فردوس مش أنا قولتلك أعمل غدا وشيعيه للأستاذة مع هيام !!
ضـ.ـر.بت فردوس على رأسها تُعلن نسيانها :
-يقطـــعـــني يا هارون بيه ، اتشغلت في البيت ونسيـت وو
-يعني مأكلتش حاجة من صباحيـة ربنـا !!
حاولت تصلح موقفهـا معتذرة :
-حالًا حالًا .. هعملها صنية العشا ..
في تلك اللحظة انطفأت الأنوار إثر انقطاع الكهرباء عن بيتهم لعطـل مـا ، سب هارون ذلك الحدث وهو يشعل كشاف هاتفه طالبًا من أخته :
-روحي أقفي مع فردوس وأنا هروح أشوفها ، ازاي مخرجتش كل ده ؟!!
~بغرفة هارون الخشبية ..
مرعـ.ـبة فكرة أن هذه هي حيـاتي للأبد .. أخشى أن يمر العُمر وأنا أتجاوز فترات مختلفة من الضغط والتعب والتفكير والتشتت والبكاء ، أخشى أن يمر ربيع شبابي دون أن أقول لنفسي ..
“أخيرًا لقد أنتهى كل شيء “.
قضت ليـلة ساعات طويلة سجينة غرفته وتفاصيـلها ورائحته وكتبـه وكل شيء ينتمي إليه لوحده ، أسهبت الفكر به للحد الذي أشغلها عن الالتفات إلى ذلك الصداع المُجرم الذي يصـدح برأسها ويضـ.ـر.ب بجذوره بخلايـا جسدها .. ظلت تتمرد على التعب بتناولهـا جرعات زائدة من الدواء على معدة فارغة بناءً عن وصف أمها كلما يشتد وزر الألــم فالمسكن سيحل الأمر ولكن تلك المرة بات الألــم لا حد له فَجر وتفجر برأسها ، أصاب كيانها ورعشـة كفوفها التي تقلب الصفحات .. ثم تابعها ارتعاش عضلات وجهها وانتفاضة ساقيها بصورة مروعـة ، ظلت تئن تئن وهي تتحمل الو.جـ.ـع تتحمل تلك الدبابير التي تلهو برأسها ، ثم تلجأ لتناول المزيد والمزيد من تلك الأقراص الملعونة .. تمسكت بالهاتف كي تستغيث بأمها تلك السيدة التي تقــ,تــلها بسلاح بـ.ـارد .. سقط الهاتف من يدها لقد تدهورت حالة أعصابها فلم تقاوم على حمل ريشة إثر حالة الذعر التي أصابتها ..
تفاقمت الأزمة عليها في لحظة انقطاع الكهرباء عن المكان فلم تر إلا ظلام وذئاب وهمية تأكل بكيانها ، سقطت بالأرض فلم تعد أقدامها أن تسعفها حتى لمغادرة الغُرفـة ، وضعت كفوفها فوق آذانها وهي تصدح بالصراخ المكتوم وتضـ.ـر.ب قدmيهـا بكل شيء يقابلها وهي تزحف وتترتجع للوراء ، حالة الذعر خيمت على حالتها المرضية وهي تفتش بالظلام عن أيدي تمتد لها لتنقذها من هول المخاوف التي تحاصرها ، أغــــرورقت ملامحها بالدmـ.ـو.ع الذي بلل ملابسها وهي تفتش في ستائر الظلام عن ظل والدها الذي كان يضمها في أصعب لحظاتها ، مرت شرائط الوحدة البغيضة أمامها وهي تصرخ رافضة العودة للماضٍ خطوة واحدة ، لا تريد من الماضي إلا أبيها فقط ، سندت ظهرها على الحائط خلفها وضمت ساقيها لصدرها وهي ترتجف ، تصرخ ، تنحب بصوت هستيري مستسلمة للأسلاك الشائكة التي تضـ.ـر.ب بأصولها حتى انفرجت زاوية الباب التي جاءت بالنور وبرجل مثله .. رجل مثل ما يعث حوله قلبها كان ينادي باسمها ” ليلي ” تارة وبلقبها طورًا و بهدوء كأن قلبه على علم بحالتهـا ويخشى ألا يؤذيها ، لم يسمع إلا صوت أنينها وهي تبكي بأحد الزوايا بصوتها المكتوم الذي تعالى تدريجيًا عنـ.ـد.ما أحست بوجوده بالمكان ، كل ما بها يرتجف ، يرتعش فقدت قدرتها على النطق .. قفز الهلع في قلبها وهو يفتش عنها بزوايا الغرفة بالإضاءة الخافتة ومع خطواته القلقة عليها يدنو منها حتى سقط عليها النور فوجدها متكورة حول نفسها وتراقبه بجفون متسعة تعلن عن حاجتها للونس للاطمئنان لعناق يخفف وطأة الألــم.. حاجتها إليه ولا أحد يعلم لِم هو !!
تسمرت ملامحه التي تراقب تلك القطة التي تئن بالأرض وتصعق من نوبة الحـ.ـز.ن والألــم .. جثى على ركبتيه ليسائلها بتلك النبرة الخائفة :
-مالك ؟! في أيه ؟!
لم يمهلها فرصة للرد فأخذ يمسح على ملامحها بكفه الدافئ الذي احتضن تلك الملامح التي ترتجف من برد الخــــوف .. رفع شعرها عن وجهها بنفس اللهفة :
-انتِ سمعاني !!!
هزت رأسها تارك بالنفي ومرة آخرى بالإيجاب وهي لم تتوقف عن البكـاء ، كان يراقب ملامحهـا بنظرات مشفقة متشتته عاجزة على معالجتهـا كرر سؤاله :
-أيه وصلك للحالة دي !! ممكن تهدي أنا معاكِ أهو ..
كاد أن يتحرك ليحضر لها كاسة من الماء ولكنها باغتها متشبثـة بياقة جلبابه ملقية رأسها بحضه وهي تنتفض كالطير المذبـوح .. رفع كفوفه مستسلمًا كي لا يقع في فخ الذنـب ولكن تعلقها به كطفلة تعثرت في الحال بخطى أبيها .. اندست رأسها بصدره وقبضت كفوفها على جلبـابه وهي تهذي بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة.. أطفأ نور الهاتف وكأنه تعمد قفل نور العقل متبعًا نور القلب الذي أجبره أن يمسح على رأسها بحنانه الذاخر وينصحه الا تبدد الوقت سدى يا أحمق!! ظل يمسح على رأسها وهو يطلب منها أن تهدأ .. ظلت متعلقة بثيابه فكانت تلك الانتفاضة بقلبه ، لست جسدها فقط ما كان يرتعش ..
ظلام دامس ورجل يضم لقلبه إمراة برقة نسيم الفجر يود مساعدها ولا يعرف كيف الطريق لذلك ، أدرك بأنها تعاني من لعنة فقد ما بحياتها وفي حاجة لحـ.ـضـ.ـن يسد فراغ الألــم بها .. ولم يعلم أن الألــم الحقيقي ينصب كله بقلبـه الآن ، قلبه الذي ضم رأسها المتفجرة بالو.جـ.ـع .. راق له أمر بقائها بقربه لهذا الحد ، تناسى الزمان والمكان وكل شيء وباتت القلوب تتحدث بلغتها الخاصـة .. أغــــرورقت ملابسـه بماء دmـ.ـو.عها ولكن هنا بدأت اللعنة الجديدة ، فهبطت دmـ.ـو.عها على أرض قلبه القاحلة لتنبت حبًا فريدًا من نوعه .. كان هدوءها تدريجي وكأن قلبها ورأسها اتفقا على وجود ما كانا يبحثان عنه .. وباتت المشاعر تتحرك في الظلام بدون إرادة من أصحابها ، هل من المنطق أن يمر الحب علينا دون أن يعرفنا عليه؟! أم جاء لهنا كي يختارنا ضحايا له !!
لاحظ سكينتها وانعدام بكاءها فدmدm بهمس :
-بقيتي أحسن ولا اطلب دكتور !!
لم يتلقى منها ردًا ولكن النور هنا جاء ليكشف عن تلك الحقيقة التي ولدت بالظلام ، تدلت جفونه ليفحص وجهها فوجدها غارقة بالنوم ولكن بقايا الانتفاض ما زال يعبث بجسدها ، لم يكرر سؤاله بل تحرك بعطف أب على صغيرته ليحملها بين يديه فوجدها تتعلق به أكثر تدفن وجهها بصدره متخيلة مجيء أبيها الذي أدى دوره ببراعة وبكل صدق :
-بابي متبعدش تاني ، ليلة من غيرك اتعـ.ـذ.بت أوي ..
توقف بجوار السرير وهو يتأمل ملامحها النائمة والتي تهذي بدون وعي ، فـ رق قلبه لحالتهـا ، لم تمهله الفرصة لتأملها بسعة من الوقت، فباغتته وهي تردد حروف اسمه إثر تردده كثيرًا مع رفقتها :
-هـ ـا ر و ن !
اتسع بؤبؤ عينيه بتساؤل عن مدى أهمـ.ـيـ.ـته لحروف اسمه كي تنطقها في تلك الحالة ، انحنى ووضعها برفق بمنتصف الفراش لتتفتح جفونها فتلتقي بيعينه التي تحتضنها فعاود سؤاله :
-أنت زينة ..؟!
لم تجبه بل عادت لقفل جفونها مرة آخرى لتسبح في نوم عميق .. شـ.ـد الغطاء فوقها وهو يزفر بقوة كي يطرد كل ما تسرب إليه على سهوة ويستغفر ربـه ، وما كاد ليخطو خطوة فتعثرت قدmه بزجاجة الأقراص المرمية بالأرض ، انحنى للاطلاع عليها ثم قام بتصوريها و على الفور أرسلها لنجاة وكتب لها :
-نجاة اسالي أي دكتور عندك الدوا ده بتاع أيه ؟!!
لكل شيء علامته التي تحذرك قبل وقوع الفعل و لكنك لا تبصر، فلا شيء -ولا أدنى شيء- يحصل بغتة، لا المـ.ـو.ت، ولا الخيبات ولا الوقوع في الحب، ولاخذلان الأحبة ولا الخسارة في مبـ.ـاراة شطرنج، ولا التعثر في وسط الطريق ، كان كل شيء واضحًا ومتسلسلًا ومنطقيًا للغاية ولكنك فضلت ألا تُبصر ولا تأخذ بتلك الأسباب التي تُنبهك ، حقًا فـ نحن لانفهم بالعلامـ.ـا.ت والإشارات إننا نفهم بالصفعات ونفوق بعد فوات الآوان •
••••••••
أصعب ما يواجه الإنسان هو تجرده فجأة من كل العلاقات الإنسانية التي تحويه وتُحيي الحياة بقلبه .. أن تسلب الحياة من قلبه الأشخاص الذين آمنهم ورافقوه الدرب بكل صدق حتى ضمن لهم وسام الأبدية بهذه الحياة لم يظن أنه سيفارقه مهما مرت الأيام لأن وجوده شيء حتمي لا يمكن الاستغناء عنه .. ولكن فجأة تصفعك الحقائق التي آمنتها فتجد نفسك وحيدا .. متعريًا من كل سمـ.ـا.تك الآدmية .. تبقى عرضة للبرد والعواصف ليفعل بجسدك المرتجف ما تفعله الرياح بورق الشجر ، تساقط منك شيئا تلو شيء حتى لا يتبقى منك الا حطام الأيام وغدرها …
في ساعة وضحاها نبح شبح الوحدة بوجهها وبأركان منزلها الذي كان لم يملؤه إلا الدفء الكائن بوجود أمها .. وبدون سابق إنذار تحول لكهف مظلم في قوقعة جبل جليدي وهي تحت ظله ترجف .. ترتعش لأنها فقدت مأواها الأخير بهذه الحياة ..
غيوم ضبابية تملأ السماء وكأن السماء عقدت حدادها وارتدت ثوب حـ.ـز.نها على حالة هذه الضعيفة .. والتي لا تختلف عن الغيوم السوداء التي انعقدت فوق رأسها المشعة بحـ.ـز.ن لا تخمده أعوام العمر .. ركد صوتها ورقد صراخها في مقبرة فاهها وهي تجلس بصمت تراقب تفاصيل هذا البيت الخالي من صوت أمها وظلها .. عينيها ضحكاتها ندائها المتكرر عليها ربما سيأتي من مكان ما !! رائحة طعامها .. عطر عودتها ليكذب حقيقة رحيلها الأبدي ، كل شيء بهت بعينيها .. كل شيء ارتدى وشاح العزاء على غياب سيدته … كل شيء مخيف مروع لم يعد كما هو مثلما تركته قبل ساعات !!
خيمت الوحدة على قلبها للدرجة التي أحست فيها أنها انقطعت عن نسل البشرية جمعاء والآن تعيش في كنف الحـ.ـز.ن وأحفاده بكل عبثهم وثرثرتهم برأسها.. دنت هاجر منها وهي تحمل طبق الحساء وتترجاها :
-عشان خاطر ربنا كلي حتى معلقتين بس ..
ثم تركت ما بيدها على الطاولة وجلست بجوارها :
-طب اتكلمي بلاش تفضلي ساكتة إكده ..
خرت الدmـ.ـو.ع من مقلتيها بتلك النبرة المرتعشة :
-صفاء سابتني لروحي ومشت يا هاجر ؟! أنا وعدتها هعيش عمري كله جمبها .. بس هي اللي خلت بي ومشت ..
ربتت على ساق صديقتها وقالت بحنان يخالطه الدmع :
-قدر ربنا هنعارضوه ؟! ربك رحيم بعباده ..
قالت متعرضه :
-الدنيا استكترت عليّ أمي .. كانت خدت كل حاجة وسابتهالي ..
-وحدي الله يا حبيبتي أنت مؤمنة ..
ثم تحركت هاجر لتأتي بطبق الحساء :
-كلي معلقتين بس .. أنتي مكلتيش حاجة من إمبـ.ـارح ..
رفعت رقية جفونها للطابق العلوي وهي تتذكر تفاصيل ذبـ.حها بسكين الغدر لترسو أنظارها على غرفة أمها وأبيها :
-أنا اد.بـ.ـحت قدام عنيهم وفي المكان اللي كنت تملي علعب فيه يا هاجر .. طب ليه ربنا مخدنيش أنا وساب أمي ..كان رحمني ..ليه المُر ده كله يكون من نصيب قلبه لوحده !!
ربتت خالتها على ظهرها لتواسيها :
-كفاية يا بتي قطعتي قلبي .. كفاية ..
فتدخلت هاجر لتقوي منها :
-بعد الشر عنك .. استهدي بالله ومتفكريش في حاجة وقومي نقروا شوية قران لخالتي صفاء هي محتاجه له دلوق .
جاءت نغم التي فضلت أن تبقى معها بعد ما كانت واقفه مع هيثم بالخارج وانضمت لهم بحنان :
-أنسب حل .. قومي اتوضي وصلي ركعتين وكلنا هنقرولها قران ..
ثارت مرة أخرى أشباح الحـ.ـز.ن بجسدها ، دفنت وجهها بين كفيها وهي تهتز بدون وعي وتنوح بصوت مكتوم .. فزاد قلق هاجر على صديقتها .. فضمتها لصدرها كي تهون عليها الألــم .. فركضت نغم للخارج وهي تنادي على هيثم الواقف مع هلال الصامت والغارق في دوامة أحزانه لتقول بخــــوف :
-هلال .. رقية رجعت تصرخ تاني .. تعالى اقرالها شوية قرآن يمكن تهدي ..
رج قلب هلال وهو يحاور أخيه بلغة الإشارة حتى قطع المسافة مهرولا ليهون عليها بأبسط الأشياء .. لحق به كل من نغم وهيثم بعجل .. دخل هلال وهو يخفض وجهه بالأرض فنظرت له هاجر تعلن عجزها عن تهدئتها .. رفع كفه بوجهها كي تبتعد عنها ثم شـ.ـد الوشاح المعلق فوق كتفي أخته بهدوء ووضعه فوق حجاب رقية كي يعف نفسه من أي تلامس محرم وضع كفه المرتعش فوق رأسها .. فجثت هاجر تحت ركبتيها تترجاها :
-رقيه غمضي عينيك وارجعي بطهرك لورا وصلي على النبي في سرك .. هتلاقي نار قلبك بردت جربي ..
أشار هلال لأخته أن تصمت ثم ذكر علنا اسم الله وخصه بوصف الرحمن الرحيم .. وظل يكرر الرحمن الرحيم عدة مرات على مسامعها ثم ابتدأ مراسم الرقية الشرعية بقراءة سورة الفاتحة ليفتح الله عليها أبواب إيمانها ورضائها بقضاءه .. ثم أتبع بتلاوة الصمدية بما يوحي بأن البقاء والدوام لله الواحد الأحد .. فأتبع بالمعوذتين كي يعيذ قلبها من كل هموم الدنيا التي تملأها ..ما فرغ ما كل هذا وهي تنحب تحت يده وترتعش وتزيد دmـ.ـو.عها التي تزيل الهم عنها .. ثم ردد :
-﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾
رتلها ثلاثة مرات متتالية ثم انساق فواتح وخواتيم سورة البقرة وبعض الآيات من منتصفها .. ثم انتقل لسورة يوسف التي بدأت بفراق ثم انتهت بملك عظيم .. ثم أكمل مراسم الرقية النبوية حتى أحس بهدوءها واستسلامها للقرآن وصوته العـ.ـذ.ب المميز الذي اندست بأصولها حتى استكانت روحها .. أشار لهاجر بصمت كي تأتي بأحد المقاعد اليه ليجلس عليه بقربها وهو ينهي رقيتها من كل سوء .. نفذت هاجر مطلبه ووضعت المقعد الخاص بالسفرة بقربه كي يجلس فوقه .. ارتاح هلال وهو يلقى نظرة طويلة على ملامحها المنكمشة والمستسلمة لأي شيء يروي عطش قلبها ..رفع يده التي باتت محمرة كالجمر وكأن الألــم بوهجه انتقل منها إلى كفه .. رسم ابتسامة مريحة للنفس على محياه تتنافى مع دواخله المحترقة وقال بصوت هادئ :
-الله لا يبتلينا ليعـ.ـذ.بنا بل لأنه يحبنا .. اللي أنتِ فيه ابتلاء شـ.ـديد لكن المولى عز وجل اصطفاكٍ به ليرقي ويعلو مكانتك بالجنة .. هتقولي اشمعنا أنا ..
اعتصر قلبه على حالتها المستسلمة وأكمل :
-تذكري قوله تعالى : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها .. ربنا خصك بهذا الابتلاء لأنه يعلم إنك كفوه ..
تنهد بحرقة وهو يمسح على وجهه :
-هوني المصائب على قلبك مهما كبُرت وتذكري أن رسولنا الكريم ولد يتيم الأب .. وعاش يتيم الأم ، مـ.ـا.ت أبناؤه وزوجته وبناته إلا السيدة فاطمة .. ولما توفاه الله اهتزت الأرض حـ.ـز.نا على فراقه .. وده يعلمنا أن الحـ.ـز.ن مهما كانت قوته مش هيأجل أمرا من الله كان قضاءه مفعولا ..
ثم صمت للحظة وهو يطالع أخته التي تتمسك بيد رفيقتها وأكمل بنصح :
-إن لله ما أخذ وله ما أعطى .. يعني ، المؤمن بحق لا يحـ.ـز.ن عن كل ما خسره ،أحنا اتولدنا لا نملك شيء حتى أجسادنا لا نملكها وهنمـ.ـو.ت ولا نأخذ معنا أي شيء من الدنيا دي كلها .. فالآخرة خير وأبقى ..
ثم طلب من هاجر أن تحضر لها كوب الماء وأكمل حديثه :
-خلي دايما في بالك ولسانك قوله تعالى :”أنا لله وأنا إليه راجعون ” كما أوصانا الله و النبي .
أخذ دورق الماء من يد أخته وسكب الماء بالكوب الزجاجي وهو يقول بصوته المريح للنفس “بسم الله ” ويمد لها كوب الماء .. تحركت عينيها بحسرة وهي تودع أخر الأشياء التي فقدتها بجملة المصائب بعد أمها وشرفها وقوتها .. وهو أيضا فلم يعد الحلم يحق له أن يجمعهما معا .. رمقته بنظرة سريعة كشكر على مجهوده وتقدير لها وهي تأخذ الكوب بيدها المرتجفة وبدون أي كلمة إضافية .. بللت حلقها بالماء الذي يحمل رائحة المسك التي تغرق يده وقالت بأنين من الو.جـ.ـع :
-عاوزة أزور قبر أمي .. ودوني عنده أنا ملحقتش أودعها ..
تدخلت نغم لتوضح لها :
-الصبح روحي لها .. وهنروحوا كلنا معاكِ .. دلوق قومي نتوضوا كلنا والشيخ هلال هيصلي بينا ..
زفرت حريق روحها وهي تجفف عبراتها المتدلية وقالت بقوة من قعر الألــم :
-الصبح هنروحوا المجلس ..
تراقصت النظرات بين الجميع باندهاش فتدخل هيثم قائلا :
-رقية .. مش هينفع أنت عارفة مصيرك لو روحتي ؟! وكمان بلاغك عن وِلد المحروق ديه خربط الدنيا..
ردت بثبات وهي تتحاشى النظر لهلال الذي يترقبها بنظرات مختلسة وقالت بصمود وهي تُطالع صورة أمها :
-أنا مغلطتش ولا عملت چريمة ادارى منيها ، أنا راسي هتفضل مرفوعة لغاية ما أروح لأبوي وأمي .. المچرم بحق هو مش أنا .
النساء فراشات خُلقن من رقة أجنحتهـا لدرجة أن قطرة مطر يمكن أن تُغرقهن ، ولكن وقت اللزوم وعنـ.ـد.ما يتعلق الأمر بقلوبهن يتحولن لتنين مجنح من نسل ديناصور لا يرحم كل من يُعاديـه .. وثب هلال الذي يمسح على لحيته المبللة وقال مشجعًا :
-أنا معاكِ -ثم عدل منطوق قلبه – كلنا معاكِ .
نظرت له بخزى والوحيد الذي تُجبرها نفسها على خفض رأسها أمامه وكأن في الماضي عيونهم عقدت العهد على قلوبهم واليوم تطأ رأسها بكـ.ـسرة لأنها فشلت أن تُحافظ على وسام عفتـها كما أقر المجتمع العقيم أنه الدليل الوحيد على شرف الفتاة ؛ وقالت بنبرة مهزوزة بالبكاء :
-دي حربي وهخوضها لوحدي .. لازم أمي ترتاح في تربتها ..
•••••••••
لاحظت السيدة “أحلام” تقلب زوجها المستمر في فراشه وعلى غير عادته الهادئة كأنه ما يبسط عليه جسده لهبًا ولست قطنًا .. فأشعلت نور الأباجورة الخافت واعتدلت في نومتها .. وهي تربت على كتفه :
-أيه شاغل بالك يا أبو هارون ..؟!
اعتدل الحج خليفة وأخذت تعاونه في ضبط الوسادة وراء ظهره كي يستريح وهي توصيه أن يتمهل .. تنهد العجوز وهو يقول :
-الفجرية طالع على اسكندارية .. لازما نخلصو الموضوع دهوت !!
-إن شاء الله هيخلص !! وو
فقاطعها مكملا :
-عاتل هم كيف هواجه البت وكيف هثبت نسبها وهي هتتقبل دهوت ولا هتكدبني ..
ثم حانت منه نظرة حائرة لزوجته وأكمل بحـ.ـز.ن :
-ولو ملقتهاش !! حقها هيروح فين وهمـ.ـو.ت وسري هيدفن معاي يا أحلام ؟! طب أقابل أبوها أقوله إني 28 معرفتش أوصل لبتك !!الدنيا خدتني ومدورتش عليها غير في اواخر أيامي !!
طبطبت على وهج حموله المتقدة وقالت :
-أنت عملت اللي عليك يا حبيبي .. وربك شاهد ومطلع ، بس أنا عندي رأي تاني ..
رمقها بنظرة الغريق الذي يهفو لطوق النجاة وقال :
-قولي يا أحلام .. انجديني بيه ..
قالت بنبرة حازمة :
-لو معرفتش توصل لحاجة تخبر الولد .. هارون وهاشم وهما يدوروا بمعرفتهم .. هما في الأول والأخر شباب وخطوتهم واسعة عنك .. عشان تبقى ريحت ضميرك للأخير ..
عدل الحج خليفة قبعة رأسه البيضاء متنهدا بضيق :
-هشوف يا أحلام ..هشوف …
ربتت على صدره بحنو وقالت بهدوء :
-كله هيتحل ويبقى عال .. عارف يا حج اللي قطع قلبي صوح ! بت أبو الفضل يا كبدي حالها يحـ.ـز.ن .. كـ.ـسرة الولاية واعرة قوي ربنا ما يكتبها على حد ..
ثم أتبعت بترجي :
-سوقت عليك النبي لتقف جارها ومتظلموهاش .. البت مظلومة هو الكـ.ـلـ.ـب اللي غدر فيها .. البت بطولها لأب ولا أم ولا عم ..
هز خليفة رأسه :
-أنا واثق في حكمة هارون وهلال ومتأكد أنهم هينصفوا الغلبانة دي قصاد المچلس ..
ثم رمقها بإعجاب :
-دولت تربية يدك يا أحلام .. مفيش ست اتخلقت هتعرف تربي بعدك ..أنا لو سبتهم لصفية وهوسها كنت هعيش باقي عمري شايل هم العيال دي .. أنا محقوق لك بعمري كله .
قبلت أحلام يد زوجها بامتنان وقالت بنبرة مدججة بالحب :
-لأجل عين تُكرم ألف عين يا أبو هارون ..
-ربنا يبـ.ـارك لي في عمرك يا أحلام .. أنت اللي قال عليها النبي خير متاع الدنيا ،وأنا خدت نصيبي الحلو كله من الدنيا فيكي ..
زهر وجهها بضياء الحب :
-وجودك جنبي بالدنيا ..
ثم أطرقت لحديث آخر وقالت :
-بالحق .. هاشم كلمني وأنا في الواجب وطمني عليه وقال لي أوصيك متزعلش منيه ..هو عصبي هبابة ولدنا ونستحملوه زي بعضه ..
ثم توسلت له :
-عشان خاطري عندك بلاش تجبروه على جوازه من نغم .. البت غلبانة ومكـ.ـسورة معاك ، بس قلب ولدك سيبه يختار ..كيف ما أنت اخترتني وفضلتني عالكل ..
أشاح وجهه بابتسامة حب وأكمل :
-ولولا أمي مكنتش هتجوز عليكي عمري .. وكنت راضي ومكتفي بيكي لغاية ما أمـ.ـو.ت ..
باغتته باعتراض لطيف :
-أما أنت ناكر للجميل صوح يا حج ؟! طب جوازك من صفية كان أحلى حاجة حصلت .. لولاه عمرنا ما كنا هنشوفوا رجـ.ـا.لة زي الوحوش ماليين علينا البيت وبكره يملوه علينا بعيالهم ..
تنهد متنميا :
-يا مين يعيش لليوم ديه !!
**************
“لقد كان نصيبي من التعب أن أظل دائماً في تلك المسافة الرمادية بين الطمأنينة والقلق، بين غمرة الكلام وقوة الصمت، بين هزائم روحي وصلابة ظاهري ”
جلس بالأرض تحت ظل الشجرة و الأنثى الوحيدة الشاهدة على مآسي قلبه التي لا يفصح عنها لأحد .. أخرج من جيبه السماعات البلوتوثية ووصلها بالهاتف ووضع واحدة بأذنه ليستمع لصوت مطربه المفضل الذي يؤنس جميع أوقاته الخالية من البشر والمشاكل .. لجأ لأغنيته المأساوية والمناسبة لحالته الحالية :
“مش لايق عليا إني .. أبكي وسط ما بغني …” حتى جاء صوت منير ليتكئ أكثر على أحزانه وهي يشكو همه “أنا عايش في سـ.ـجـ.ـن جراح ”
هنا قفل جفونه وسند رأسه على جذع الشجر متأوهًا بصوت خافت وصورة تلك النجمة التي سقطت من رحم السماء على حياته بدون سابق إنذار تتلألأ هنا وهناك في الظلام الذي يعيشه للتو .. تذكر كيف كانت ترتعش تحت يده ؟! ما الذي عاشته تلك الفتاة النقية كي يحتفظ جسدها بهذا الكم من الأوجاع يثور عليها من حين لأخر .. أحس جهة يساره البـ.ـاردة من أثر الدmـ.ـو.ع التي أمطرت عليها .. ذكر كيف كانت يده الدافئة تمسح على شعرها كي تهدأ .. كيف كانت متشبثة بثيابه كأنه أخر طوق للنجاة !! راودته طيف ضحكتها .. كيف سقطت بحـ.ـضـ.ـنه قبل ساعات ولمَ باتت أعينه تفتش عنها باستمرارية !! لِمَ استحوذت على فكره لهذا الحد !!
تراقص أمام ذاكرته تمردها صوتها العالي .. عبثها و تلقائيتها .. كيف كانت تثور بوجهه غاضبة وسرعان ما يذوب صوتها في صحن ابتسامة هادئة كأن لا شيء يغـــضــــبها بعد .. رق شعور غريب بقلبــه جعله ينتفض من مكانه مع سماعه لصوت منير يقول “مش قادر أعيش وخلاص .. ألــمي غير آلام الناس ”
نزع تلك الالحان التي سربت مشاعر لا تليق به لقلبه وهو يتنهد بقوة كافية أن تحرك غيمة من مكانها .. قفل صوت الغناء ومسح على وجهه وهو ينهض من مكانه مثلما تعوّد دومًا كيف يدفن جراحه بعمق، ويمشي لكل شيء بخطواتٍ ثابتة وكأن لا شيء يهتز بداخله .. أرسل رسالة لمدير حسابات المصنع الخاص بهم :
-سعد جهز كل الدفاتر جاي بكرة أراجعهم ..
ثم تحرك بخطى ثابته نحو الغرفة التي تقطن بداخلها “ليلة” .. زحزح الباب الموارب بحذر لتسقط أعينه على أخته هيام الجالسة على الأريكة حتى غلبها النوم .. دخل من فتحة الباب بحذر وهو يدنو من أخته النائمة فوضع الوسادة بجانب الأريكة ثم ربت على كتف أخته التي وكلها بحراسة ليلهُ المظلم .. وهمس بوشوشة :
-هيام .. نامي زين ..
فزعت هيام من نومتها مرددة اسمه فأشار بكفه ليطمئنها :
-أشش .. أهدي متخافيش ..أعدلي رأسك بس ..
ثم ساعدها لتمدد جسدها فوق الأريكة وتحرك ليجلب لها غطاءً من الخزانة بحذر وبسطه فوقها ليحميها من صقع البرد ثم حانت منه طبطبة خفيفة على كتف أخته ليقبل رأسها وقال بهمس :
-تصبحي على خير ..
-وأنت من أهله يا هارون ..
غرقت أخته بالنوم وهي تشـ.ـد الغطاء فوق رأسها فدار بتلقائية لتلك المتكورة حول نفسها حيث كانت تضم ساقيها لصدرها وترتعش تحت الغطاء كطير مذبوح .. خيم الحـ.ـز.ن على ملامحه وهو لا يعرف كيف عليه مساعدتها .. أكتفى بوضع غطاء أخر فوقها وما أن جاءت يده لتمسح على رأسها كي تهدأ فتراجع بآخر لحظة وهو يستعيذ من شر شيطانه وأوامره .. تردد في قفل النور الخافت بجوارها فتراجع كي لا يخيفها الظلام إن استيقظت ..فقد كان يطيل النظر إلى ملامحها النائمة ولمح بياضها الناصع ثمة أغلب نساءهم بالنجع للحد الذي أحسه بأنها تنتمي لنسلهم العزيزي .. حتى وقف على ضفة تساؤله : ناجية أم ضحية يا فتاة ؟!
فارق مرغما المكان الذي أحس بأنه في حاجة لوجوده وقفل الباب خلفه فلم ينعم بالفكر حول تلك الملامح الرقيقة حد الصخب .. أتاه صوت رنين هاتفه فأخرجه بملل ليجد “زينه ” .. انكمشت ملامحه وجهه وهو يقول لنفسه :
-عاوزة أيه دي كمان ؟؟!!
رد بعد إصرارها في الاتصال وهو يخطو نحو غرفته ليجيبها بملل :
-أيوة يا زينة ؟
مددت على فراشها بميوعة :
-أنتَ نمت ؟!
-حتى لو نمت .. فأنا صحيت من تليفوناتك يا زينة .. خير ؟!
هتفت متمردة على طريقته :
-جرالك ايه يا هارون ؟! أحنا مش مخطوبين ولا ايه .. وديه الليل وأخره يعني وقتنا اللي نتحدتوا فيه على كيفنا ونحبوا في بعض .. أصلي سمعت الداكتورة على التلفزيون عتقول أن الحب بين أي اتنين عشان يزيد لازما يتكلموا بعد نص الليل ..وأنا عاوزة أحبك أكتر وأكتر.
تأفف باختناق وهو يقول بضيق :
-وماله نهار ربنا بس قال عني ؟! ما تحبيني في النهار وسيبي الليل لراحة الراس !!
اتاه صوتها الضاحك بدلال متزايد عن حده وهي تقول :
-دmك خفيف قوي يا هارون وده اللي حببني فيك ..
فتح باب غرفته بملل وهو يخلع حذائه:
-مين قال !! أنا دmي سم خصوصي فالليل وقت ما أكون عاوز أنام .. بعدي عني في الليل خالص..
-لا أنت حلو في كل أوقاتك يا سي هارون ..
ثم عضت على شفتها السفلية وهو تداعب خصلات شعرها :
-إلا قولي صوح .. أنت عتحب تسمع لمين من المغنيين .. أنا عحب عبدالباسط قوي وناوية لما نتجوزوا كل ليلة اشغلك أغنيته وانا باصه في عينيك اللي تدوخ دي وأقول لك “أنا مش عارفني أنا توهت مني أنا مش أنا ”
نزع جلباه من فوقه كمن ينزع غبـ.ـار اليوم عن قلبه وقال بسخرية :
-لا انتي إكده مسطولة و شادة ورقة بـ200 يا زينة ومحتاجة تفوقي ..
انفجرت ضاحكة متلقية سخريته على أنها مزاح حبيب وقالت :
-طب ما أنا هكون مسطولة من حبك يا سي هارون وو
قاطعها :
-زينة أنا عاوز اتخمد ده بعد أذنك يعني ..
تمردت بميوعة :
-طب ماقولتليش أنت عتحب تسمع مين عشان أحفظ كل أغانيه ..
شغل صنبور الماء كي يأخذ حمامه الدافئ قبل النوم وقال وهو يجز على فكيه :
-ماعسمعش ولا عحب اسمع لحد ..
-معاي هخليك تحب الدنيا كلها ..
-ااه وماله .. خلصتي حديت ؟!
-أنت عتحبني قد أيه يا سي هارون ؟!
فاض به صبره وهو يقول بنبرته الجافة:
-اسمعي يا زينة أنا مش طايق خلجلاتي دلوق ولا فيِّ راس لجلعك المرق دهوت .. روحي نامي الله يهديكي ..
لم تلتفت لاختناق صوته الذي يأبي سماع المزيد منها وقالت :
-أحنا هنجيبوا الشبكة مـ.ـيـ.ـتى ؟! عاوزة ألبس شبكتك في يدي عشان أشوف الدبلة عتدفي زي ما عيقولوا ولا دي كلها ترندات نت ..
لم يتحمل بـ.ـنت شفة منها جديدة بل قفل هاتفه بامتعاض بعد ما أخبرها بإنه سوف ينقطع شحنه وقال لنفسه بفتور وهو يرمي هاتفه فوق الحوض :
-ربنا يسامحك يا صفية على الورطة المهببة دي ؟! مالي أنا بالحريم وخوتتهم ؟!
••••••••••
انفلق صباح تلك الليلة القاسية على قلوب الجميع والتي كانت تحمل مشاعرها المختلفة على كل منهمـا .. في تمام السـاعة السابعـة صباحًا جاء الدكتور ” عمار ” برفقـة نجاة بعد ما أصر عليه هارون أن يفحص حالة ليلة بنفسـه .. هاتفت هارون وأخبرته بمجيئهم فنهض على الفور لاستقبالهم ..
كانت ليلة مستيقظة الصداع يزمل برأسها ، وكانت هيام معها تحاول أن تهون عليـها صدح الألــم .. هنا تحمحم هارون الذي يعلن بقدوم عمار .. شـ.ـدت هيـام حجابها بسرعة ونادت :
-اتفضل يا أخوي ..
ثم همست لليلة وهي ترتب الفراش بعجلٍ :
-الدكتور عمار چاي يشوفك ..
دخلت نجاة ثم هارون وآخيرًا دخل عمار الذي قبل ما يفحص مريـ.ـضته انفرجت عينيه بنظرة ثاقبة نحو هيام التي لم تنتبه لوجوده .. تقدm هارون إلي “ليلة” ليسألها بنبرته القوية عكس فيض الحنان الذي يشع من عينيه :
-إكده تقلقينـا عليكِ ليلة إمبـ.ـارح !!
فتذكرت عتاب أمها المستمر وهي توبخها ألا تكون طفلة مدللة ، أن تخفي و.جـ.ـعها عن الجميع كي لا يزعجهم ، فبادرته باعتذار سريع :
-أنا أسفة مكنش قصدي والله وو
قاطعه بغرابة لأمرها :
-أسفة على أيه !! أحنا عاوزينك شـ.ـديدة وقوية وفي أحسن حال ..
ثم نادى على عمار الذي يخرج أدواته الطبية :
-تعالى طمنا على الأستاذة يا داكتور ..
جلس عمار لباشر مهام عمله الطبي حيث هم بتعرية ذراعها وكشف عن بياض ذراعها المشع بضياء ينافس بياض قرص الشمس ليقيس ضغطها فشتت هارون انتباهه عنـها متحمحمًا كي لا تحرقه أو ربما لغيرته المخفية وهو يشغل نفسه بأي شيء آخر ما عدا النظر إليها ، عكسها تمامًا فلم يلفت انتباه عينيها ألا هو وظله وحركته العبثية بالمكان ، تابع عمار بأن يسألها العديد من الأسئلة حتى طلب منها أسماء الأدوية التي تتناولها فردت ليلة بثقة يقينية وهي تخرج له صور الأدوية على هاتفها:
-مامي هي اللي متابعة حالتي من زمان وهي بتديني الأدوية دي ، يعني آكيد مش هتديني حاجة تضرني !!
تفحص عمار الصور وقام بتدوين أسمائها وهو يقول :
-المشكلة إني أدوية الأعصاب محدش يقدر يعرفها غير هما ، مش أي حد يقدر يحكم على الدواء ده بتاع أيه !! أنا هبعتهم لدكتور صاحبي ويقولنا ..
ثم توقف على ضفة شريط ما ليقول بيقين :
-بس ده ليه !!! اللي بعته هارون بيه كان مهدئ مفيهوش أي ضرر ، لكن الشريط ده !!!
ثم نظر لهارون بشك :
-في حاجة غلط !!
ردت على سجيتها :
-لا طبعا ، مامي دكتورة كبيرة في اسكندرية وعارفة كل حاجة ..
تسرب الشك لقلب عمار وهو يقول لهارون بتردد :
-في حاجة مش مظبوطة، أنا هتأكد بس وأقولكم ، بس ان شاء الله ظني يخيب وو
قاطعه هارون بضجر :
-هي لو بطلت الادوية دي هيجرالها أيه يا عمار !
رد بأسف :
-أنا لغاية دِلوق مش فاهم هي بتعاني من أيه ؟! لازمًا دكتور مخ والأعصاب يشوفها !! عشان كده مش هقدر أحدد نتيجة وقوفها للدواء ..
هرولت ليلة مقترحة وهي تأخذ الهاتف من عمار :
-أنا هكلم مامي وهي هتقول لك ..
سحبت نجاة الهاتف من يدها أثر نظرة هارون التي تملأها الشكوك وقالت محتجة :
-بلاش تقلقيها عليكِ ، الوقت لسه بدري .. اصبري لحدت ما نشوفوا رأي الداكتور اللي سأله عمار ..
فأردفت هيام مؤيدة مما جعل عمار يلتفت بكله نحوها والسؤال الأهم الذي يشغله ( ما الذي تفعله تلك العروس هنا ؟! ) وهي تقول:
-نچاة عندها حق ، بلاش تقلقيها عليكي ..
فقطع هارون جذور أي محاولة منها وقال :
-طيب يا دكتور من رأيك تعمل أيه عشان حالتها دي متتكررش تاني !!
فكر عمار للحظة وقال :
-رأيي الشخصي قبل ما أعرف رأي زميلي .. أنها توقف الدوا فترة اسبوعين على الأقل ، أعراض الانسحاب هتتعبها شوية بس ممكن تشغل نفسها بالخروج والسفر وتتكلم مع ناس كتير ، محاولة تشتت بيها عقلها عن أي تعب أو أعراض وو
ثم نظر لهيام وأكمل :
-لازم حد يكون معاها طول الوقت .. وأنا هتابع حالتها مع الأستاذة نچاة ولو في أي جديد هبلغكم ..
ثم فرغ من كتابة دواء ما وأعطاه لهارون :
-تأخد بس القرص ده يخفف أي أعراض انسحاب وإن شاء الله -ثم نظر لليلة-مفيش غير كل خير يا أستاذة ..
فجهر مناديًا على نچاة :
-يلا بينـا .. عندينا شغل تقيل في الوحدة ..
رافق هارون عمار ونجاة للخارج ، خارج الغرفة تحديدًا ثم جهر مناديًا لجابر وأمره أن يوصل الطبيب لسيارته ويحمل الحقيبة نيابة عنه ويحضر ذاك الدواء الذي كتبه ، ثم عاد للغرفـة وقال بثبات :
-هيام ، روحي هاتي لها فطور ..
ردت معاندة :
-ماليش نفس !!
أشار لأخته بألا تسمع منها وأن تسير لتنفيذ أوامره ، فغادرت على الفور ، وأتبع حديثه مع ليلة :
-يعني أيه مالكيش نفس !! لازمًا تاكلي ..
-الله !! هو بالعافـ.ـية ؟
سحب المقعد الخشبي وجلس فوقـه :
-أيوة هي عافيـة .. ومتقاوحيش ..
أخذت تتكلم بسرها ساخطة على أوامره حتى آتاها صوته دون النظر وهي يفحص عُبلة الدواء الخاصة بها :
-متبرطميش ..
-الله !! ودي كمان هتدخل فيها ..
ثم رفعت الغطاء من فوقها متعمدة فتح نار العناد بينهما وهي تمد يدها لتخـ.ـطـ.ـف عُلبة الدواء من يده ولكنها فشلت وفجاة لقيت نفسها تواجه قامته المرتفعة:
-هات الدوا بتاعي ، أنا مش هسمع كلام الدكتور ده !!
رفع يده لأعلى كي يمنعهـا من أخذ الدواء :
-الدواء دا مش هتاخدي منه تاني ..
-كمان بقيت دكتور !! ماشاء الله عليك بجد !!
ثم تحدثت بجدية أكثر :
-اديني الدوا بتاعي لو سمحت.. بطل بقا .
أصر على رأيه :
-سمعتي الدكتور قال أيه ؟!
ثم تدلت عينه لملامحها التي تتأمله بسهب :
-معاكي أي دوا تاني !!
فقدت رشـ.ـدها على شط ملامحه التي باتت تأسرها و ردت بتلقائية وهي تدخل يدها بجيب بيحامتها القطيفة :
-ااه معايا الشريط ده كمان ، والباقي في الأوضة ..
خـ.ـطـ.ـف الشريط من يدها مع العُلبة وقال :
-حلو هاتي ..
صرخت متمردة وهي تتشبث بمعصميه :
-هارون بيه ، لو سمحت هات الدوا بتاعي مامي هتتضايق ودي مش بتتصالح بسهولة ..
لا يعلم لما يصر قلبه على منعها عن هذا الدواء فقال معاندًا :
-قلت مفيش ومتجادليش .. مابحبش الست اللي تقاوحني .
وهي تقفز محاولة أخذ الدواء من يده :
-يا سلام !! دا ليه بقا ؟!
طال النظر بعينيها :
-الست تقول نعم وحاضر وبس ..
تعلقت بأهدابه ورست كفوفها على معصميه وهي تعارضه :
-أيه النرجسية دي !! لا طبعا .. الست ليها كيانها ووضعها في المجتمع ومن حقها ترفض أي وضع مش عاجبها ..
رد بحزم :
-تقول رأيها في أي حتة لكن عند هارون العزايزي تقول نعم وحاضر وبس ..
-مغــــرور على فكرة !!
ختم جملته وهو يغفلها ليلقي ما بيده بموقد النيران المشتعلة للتدفئة وبيده الأخرى تلقاها كي لتسقط إثر قربه المباغت الذي جعلها تشهق وتميل للخلف مبتعدة عنـه ولكنه متعلقة بملابسه ، انفجرت بوجهه بصدmة :
-أنت عملت ايه !!
رفع حاجبه ببرود وهو يسحب كف من وراء ظهرها :
-زي ما شوفتي .. رمـ.ـيـ.ـته خلاص ..
ما زالت متشبثة بملابسه ولا تود التحرك إنشًا يبعدها عنه ، فجلى حلقها وهي تقول:
-هيام قالت لي انك قلقت عليـا أوي ، أسفة بجد عشان قلقتك ..
رد بجمود دون أن يفصح عن غوى قلبه بملامحها بنبرة صوتها بقربها منه وقال بهدوء :
-أنتِ ضيفتنا ، وأي حاجة تجرالك هتيچي في وشي !
ردت بخيبة :
-كده بس !! يعني مش عشان خفت تحصلي حاجة و منتقابلش تاني !!
ثم بررت مقصدها وقالت :
-قصدي يعني تعرف أن دي أول مرة حد يقلق عليـا بعد بابي .. ويهتم بأكلي وبصحتي و
تأرجحت عينيه على حالتها المثيرة للشفقة والحب معًا وقال بلطف ليكـ.ـسر حاجز الجدية بينهما :
-هو أنتِ واكلة عيش سلف !!
جمعت أفكارها وهي تبتعد عنه متسائلة:
-يعني اي عيش سلف !!
رتب ملابسه المبعثرة من قُربه أو على الأغلب كان يعد ترتيب مشاعره التي تبعثر على حد عينيها التي تخلو من أي عدسات لاصقة :
-يعني كل خطوة تقعي واتلقاكي !! المرة دي كنت موجود ياعالم المرة الجاية تقعي تتكـ.ـسري و خلي بالك يا استاذة ..
-والله !! يعني لما استلف عيش وأكله كده هقع كتير !!
ثم عادت النظر له بغرابة :
-هو أي كلام وخلاص !! عموما اطمن مش باكل عيش كتير عشان الدايت ..
-هنا تنسي المُحن ده كُله ، الوكل اللي هتجيبه هيام هيتاكل لآخره .. وبعدين أيه حوار الرجيم اللي واكل نفوخك ديه !!
لينسحب من لسانه مُقراً :
-دانا كنت شايل عيلة امبـ.ـارح ..
خفق قلبهـا إثر اعترافه الصريح بحمله له ليلة الأمس وهي تقول :
-أنتَ اللي نيمتني في السرير !! احكي لي هو أيه حصل !! أنا مش فاكرة حاجة خالص ..
عقد حاجبيه مستغربًا :
-خالص !!
أومأت بالإيجاب منتظرة روايته للأمر الذي يهم قلبها جيدًا فباغتها مستنكرًا:
-ولا أنا فاكر حاجة ..
وضعت كفها على رأسها وهي تحاول أن تتذكر أي شيء:
-أحيه !! أنا شوفت بابي وهو بيشيلني وو يكون شبح بابي هو اللي جيه ونيمني !!
رد مندهشًا من سجيتها :
-شبح بابي !! لا أنا اللي هقول أحيه !!
انفجرت ضاحكة على أسلوبه لتهب قائلة :
-أصل كنت قريت مرة الأسطورة بتقول ، الشخص المتوفى لما يحس أن اللي بيحبهم في حاجة لمساعدته ، بيكلم ملاك في السما ويتراجاه يروح يساعد أهله فالملك بيسمع كلامه ويظهرلنا في صورة الشخص المتـ.ـو.في دا !! فأحنا بنقول عليهم أشباح ..
رُسمت على محياه ضحكة واسعة وهو يقول بفقدان أمل :
-أنتِ هتبطلي أساطير مـ.ـيـ.ـتى وتقولي كلام يخش العقل !!!!
أشارت بسبابتها لتدافع عن أساطيرها وأفكارها أمامه وهي تجادله:
-والله اساطيري أنا مش عاجباك ، ولما استلف عيش وأكله كده هقع كتير !! مش ده كلامك ؟! على فكرة أنت كمان بتقول كلام مابيدخلش العقل أهو زيي بالظبط!! نبقى متفقين ! ولا هو حلال ليك وحـ.ـر.ام عليا !
رد ببرود وهو يقترب من خزانته ليفتش فيها :
-اه عادي ؛ حلال ليّ وحـ.ـر.ام عليكِ !
دنت منه وهي تثرثر فوق رأسه :
-بردو!! اشمعنا يعني ؟
رد بشموخ:
-عشان أنا هارون العزايزي..
تحدته:
-وأنا ليلة الجُوهري ..
حانت منه نظرة خاطفة وهو ممسك بزجاجة عطره فتعرقل على حد نظرتها ليقول:
-أنتِ مش ليلة ، أنتِ ليالي مقندلة وحطت على راسي .
••••••••••••
•••••••••••
وكل هلال أخيه هيثم بحراسة أختهما ورقية وعاد إلي بيته وبالأخص غرفته متجنبًا الحديث مع أي شخص بالبيت .. صعد لأعلى متجاهلا نداء زينة التي جاءت من الصباح الباكر لتجلس مع عمتها وبالتحديد لتفتح معها موضوع شراء الشبكة ..هتفت زينة بامتعاض إثر تجاهل هلال لها والذي يقطع خطاوي السُلم ركضا .. فبثت شكواها لعمتها التي خرجت من المطبخ وهي تنشف يدها:
-خير عليكي يا زينة ! مبدرة ليه ؟!
تجاهلت سؤال عمتها لتشكو لها من ابنها:
-شايفة هلال ياعمة خد في وشه من غير سلام ولا كلام ولا كأني مراة أخوه ..وصبحت عليه مردش عليّ.
ربتت على كتفها لتراضيها :
-يمكن راسه مشغولة هبابة .. تعالى معاي نجهزوا الغدا ..
مدت أنظارها للخارج :
-هو هارون فينه ؟!
-راح المصنع وقال إنهم هيروحوا المجلس بعد الضهر يخلصوا حوار البت دي وو
قاطعها زينة وهي تتبع خطاها للمطبخ :
-عمة صفية أحنا هنشتروا الدهب مـ.ـيـ.ـتى ؟! الناس كلت وشي وأنا مخطوبة من غير دبلة ..
عقدت صفية حجاب رأسها للخلف وهي تقول :
-يعاود هارون الليلة ونشوفوه ..
قفزت الفرحة بجوفها :
-وكتاب الله ياعمة !! طب ايه رأيك بالمرة تقوليلو نلبسوا يوم الخميس ..
حدجتها صفية بلوم :
-يابت اهمدي .. في واحدة مـ.ـيـ.ـتة مش هنعرفوا نعملو فرح ..
-وأنا مالي ؟!ما الحي أبقى من المـ.ـيـ.ـت .. أحنا نلبسوا بس وبعدين نفرحوا في الد.خـ.ـلة ونهيصوا ..
-هشوفه يا زينة هشوفه ..
ظل الحديث عن هارون متواصل لا ينقطع قرابة الساعة حتى أعطت صفية زينة سلة الملوخية وطلبت منها أن تقطفها .. حملت زينة الطبق على الرحب والسعة وتابعتها صفية التي تنقي الرز بعد ما وكلت فردوس بمباشرة باقي الطعام .. خرج الاثنان من المطبخ ففوجئوا بهلال الذي فاحت رائحة عطره قبل قدومه .. رفعت صفية جفونها لأعلى حتى رأته في كامل أناقته كأن الليلة ليلة عيد وهو يستعد لها .. صاحت زينة معبرة :
-أش أش أش ؟! هو النهارده الأحد ولا هو جمعة وأنا ناسية ؟!
رمقته صفية بإعجاب :
-أيه الحلاوة دي كلها يا هلال .. اللي يشوفك يقول عريس .. بسم الله حارسك وصاينك .
وقف أمام أمه ورغم فخامة ملابسه وهيئته المرتبة قال بمكر :
-أنفع عريس يعني ؟!
تركت صفية إناء الرز فوق ما تحمله زينة وقالت :
-وسيد العرسان ياحبيبي .. أنا بس أخلص من جوازة هارون والبت دي .. وهدور لك على عروسة مفيش في النجع في حلاوتها ..
فتدخلت زينة معترضة ومتدللة:
-مش هتلاقي ياعمتي .. عشان مفيش بت جات النجع دهوت في حلاوتي ..
-اتنيلي ..
قالت صفية كلمتها بسخط ثم نظرت لهلال وهو تمسح على صدره :
-سيبك من حديت البت دي .. عروستك عليّ يا حبيبي وهتبقى فرحتك غير الكل يا شيخ هلال ..
ألقى نظرة لأمه وقال متأهبا للذهاب :
-الله ييسر الأمور ياام هارون ..
تدخلت صفية بفضول يشع من عينيها :
-ما قولتش ..على فين العزم بالحلاوة دي كلها يا ولد بطني ..
رد بهدوء :
-على المجلس ..
فبادرت زينة :
-صوح !!النهاردة هيجوزوا البت الخاطية دي لولد عمها ونخلصوا من حديتها ..
ثم مالت على أذان عمتها وأكملت :
-المفروض يطردوهم من النجع كله يا عمتي دول شبهه لينا ..
أشتعل جمر الغـــضــــب بوجهه وهو يقبض على نار كظم غـــضــــبه وغيرته على سمعة تلك المسكينة فأخرج المفتاح من جيبه ووضعه بإناء الرز .. فسألته زينة باستنكار :
-ايه ده ؟!
بادرها بابتسامة خفيفة ولكن خلفها نوايا أخرى :
-هذا مفتاح غرفتي ؟!
فتعجبت صفية :
-ومن مـ.ـيـ.ـتي عتدخل حد أوضتك يا ولدي .. دانا عتحايل عليك انضفها بس معترضاش ..
تفوه من خلف فكيه المنطبقين وقال :
-زينة ستتولى أمر تنظيفها اليوم ..
ثم نظر لها بعينيه التي تتوهج غـــضــــبا :
-ألا ستكونين زوجة لأخي ؟! وأختي أيضًا ..
تحيرت ملامحها بين التمرد والتقبل لتقول بتردد :
-وماله ؟! على عيني .. هخليهالك فلة .. تطبلها ترقص ..
-يكفي أن تعجب ضيوفها .. بالأذن ….
انصرف هلال من موقفهم فتسرب الشك لقلب أمه وهي تقول :
-الواد ده قلبي مش مرتاح له ؟! شكله ناوي على حاجة ؟!
تأرجحت نظرت زينة بجهلٍ لتغير مجرى الحديث :
-هي البت المصراوية فين يا عمة ..
ردت بدون اهتمام :
-أهي قاعدة مع أحلام من صباحية ربنا …
هتفت زينة بغل :
-أنا مش هيرتاح لي بال الا اما تغور من إهنه .. مش بالعاها يا عمة مش بالعاها ..
~بمنزل رقية ..
بعد أن فرغت من تأدية صلاة الضحى وأطالت السجود .. اقتربت منها هاجر وجثت بقربها :
-تقبل الله يا حبيبتي .. يلا بعتوا حد يستعجلك من المجلس ..
جففت عبراتها وقالت بصوت خفيض :
-محمولك معاكي يا هاجر ..
ردت بعفوية :
-أيوة معاي .. عاوزة تكلمي مين ..
فارقت رقية سجادة الصلاة وهي تفتش في الكمود لتخرج كارت باسم شريف أبو العلا وأعطته لهاجر :
-ده رقم شريف أبو العلا ..  عـ.ـر.فيه بأن المجلس بعد صلاة الضهر .. وبكر هيكون هناك عشان يتقبض عليه ..
صعقت هاجر مما سمعته :
-رقية ؟! دي جريمة تانية ؟!
-دي الفرصة الوحيدة عشان يتقبض على بكر .. أكيد هيجي المجلس عشان يكتب عليّ ..أنا مش قادرة أتكلم كلميه أنت .
•••••••••••••
~الاسكندرية …
-دخلي أول كشف بسرعة يا هبه .
أردفت نادية جملتها وهي ترتدي ثوبها الأبيض تستعد لاستقبال مرضاها ، فنظرت هبه بالكشوف التي بيدها وقالت :
-في واحد صعيدي بره جاي من الساعة ١٠ الصبح ومستنى دوره وبيقوله إنه جاي من سفر طول الليل ، أدخله الأول .
جلست نادية على مقعد مكتبها بعجل:
-تمام دخليه وجهزي الاسم اللي بعده ..
تحركت هبه على الفور ونادت على الحج خليفة الذي حجز كشفًا ليقابل نادية .. فوثب مسنودًا على عكازه وأشار للخفير الذي يرافقه :
-خليك عندك .. هخش لروحي ..
سار مستندًا على عكازه حتى وصل لغرفة الكشف ، قفلت هبه الباب خلفه فاستقبلته نادية بضحكة مزيفة وهي ترحب به :
-اتفضل يا عم الحج ، ألف سلامة عليك ..
جلس خليفة أمام مكتبه وهو يراقبه بأعينه الفاحصة محاولًا قراءة الشخصية التي سيحاورها .. أكملت نادية بعد ما سجلت اسمه :
-بتشتكي من أيه ؟!
-تايه ليّ ٢٨ سنة ، راسي لفت الدنيا كلها ومش عارف ارتاح ، فكري مش بيبطل يا دكتورة .. ياترى اللي بدور عليه هلاقيه ولا لا!!
انكمشت معالم وجه نادية باستغراب :
-عندك قلق يا حج يعني !! طيب الأول طمني بتنام كويس!!
تأوه بضيق:
-ماينمش إلا خالي البال يا بتي ، وأنا أجيبه منين !!
-الحياة مش مستهلة كله ده .. طيب ممكن تحكي لي بتحس بايه طول السنين دي كلها !!
نظر لها بتوجس وسألها :
-رفعت بيه الجوهري عامل أيه !!
تركت القلم من يدها بغرابة ونظرت له باهتمام متأكدة بأنه لا يشكو من اي عارض نفسي وقالت بتردد:
-رفعت بيه !! حمايا؟! حضرتك تعرفه !!
-عز المعرفة ..
-ومعرفتش كمان انه اتوفى له أكتر من١٥ سنه!!
رد بثقة :
-عرفت .. وولده مـ.ـا.ت من أربع سنين ..
دب الخــــوف بقلبها:
-واضح إنك متابع يا حج!! طيب أقدر اساعدك أزاي ..
ضـ.ـر.ب خليفة الأرض بمؤخرة عكازه برفق وقدm لها نفسه :
-أنا خليفة العزايزي ، من قنا وكبير العزايزة ، سبق وحماكي جاب لك سيرتنا!!
انكرت تمامًا معرفتها بالاسم رغم أنها سمعته من قبل من شريف:
-لا خالص ، كل اللي اعرفه فعلا أن عمو رفعت اشتغل فترة في الصعيد
ثم جلى حلقها :
-بس ده سببه ايه !! حج خليفة ممكن تتكلم على طول أنا هنا في مكان شغلى و
قاطعها قائلًا :
-عارف ، هو سؤال و جوابه وماشي .. من ٢٨ سنة وِلد عمي ماهر العزايزي عطى بت صغيرة لحماكي رفعت بيـه .. وخد البت واختفى من بعدها قلبت عليه مصر حتة حتة .. ملهوش أتر .. دِلوق عاوز أعرف البت دي فين دِلوق ، آكيد ت عـ.ـر.في !!
غلت الحقائق برأسها كفقاقيع الماء وهي تتذكر ذاك الماضي الذي سُجنت خلف أسياجه ، لتغزو ذاكرتها ثمانية وعشرين عامًا من قبـل وهي تصرخ بوجه زوجها :
-أبوك جايب لنا بـ.ـنت معرفش من أي داهية وعايزني اسجلها باسمي يا سامح !! لا مستحيل !! أنا مش هعمل كده !!
حاول زوجها أن يقنعها بهدوء:
-ليه !! دي يتيمة وهنكسب فيها ثواب ، وبعدين يا نادية أنتٍ عارفة أن الخلفة عندك فيها مشاكل وبنحاول نحلها !! مش يمكن ربنا بعت لنا دي هدية !!
صرخت بوجهه :
-بردو لا !! أنا مش هربي بـ.ـنت مش بـ.ـنتي يا سامح !! قول لباباك مرتي رفضت خليه يروح يرميها في أي ملجئ بعيد عننا ، وأحنا نسافر أمريكا نعمل العملية الحقن وابننا يبقى مننا يا سامح !! ليه نربي بـ.ـنت ناس تانيين ياعالم من أهلها !!
عاد لها رشـ.ـدها على صوت خليفة الذي لاحظ شرودها :
-يا ست الداكتورة !!
نزعت نادية نظارتها الطيبة وهي تمسح على وجهها :
-انا عارفة الحوار ده ، كنت متجوزة ليا سنتين وحمايا رجع اخر أجازه له من قنـا ومعاه البـ.ـنت دي !!
تنهد خليفة بـ.ـارتياح وهو يترجاها بأعينه :
-الله يفتح عليكي !! دليني عليها يا بتي خلي الحقوق ترجع لصحابها ….
بدّ الارتباك على ملامحها المذعورة وهي تأخذها أنفاسها بتـ.ـو.تر أثناء محاولاتها أن تبدو أمامه هادئة لتكمل حيث أنها خشيت أن تقول الحقيـقة فتخسر كل ما كانت تسعى له :
-للاسف يا حج خليفة ، البـ.ـنت كانت ضعيفة اوي ، واتحجزت اسبوع في المستشفى وبعدين مستحملتش ومـ.ـا.تت والموضوع ده محدش يعرفه غيري أنا وجوزي وباباه .. وو
خيم الحـ.ـز.ن على ملامحه وهو يكرر كلمتها بصوته المتهدج :
-مـ.ـا.تت !!!
‏”أكثر ما يضرّ العلاقات بين الناس هي الصورة المثالية التي يضعها الفرد للطرف الآخر، وأكثر الخيبات من هذا السبب. لا يجب أن نغفل عن حتمية النقص البشري، ولا بد أن ندرك أن الأفراد في الواقع ليسوا مثل الأفراد في الذهن، الذهن دائما يطمح أن يرى الناس بصورة نقية، لكن الواقع مليء بالشوائب.”
#راقت_لي .
•••••••••••••••••••
يقف هاشـم أمام نافذة غرفـة نومـه يدخن سيجارته الصباحيـة بعد ما ارتدى زيه العسكري الكامل ويتحدث مع ” رؤوف ” قائده بالوحدة العسكرية ، حانت منه نظرة سريعة لرغـد النائمة بالأرض ومتلفحة بلحافها الأبيض وقال والدخان ينبعث من بين شفتيه :
-تمام يا رؤوف ؛ هروح أعمل إخلاء طرف وبكـرة وهطلع على سينا ..
ثم غير مجرى الحديث :
-أنت مطول عندك ؟!
ركل رؤوف الحجر الصغير بالأرض بمشط رجله وقال :
-يومين إكده هخلص كام حاچه ومعاود ..
ثم ابتلع باقي الكلام بحلقـه متوقفًا عن الحديث إثر تنبه ما وصـل لهاتفه ، فألقى نظرة خاطفة وهو يقول بصوت منزعج إثر رؤيته لذاك الخبـر :
-هاشم ، افتح شوف الورطة دي .
فتح هاشـم تطبيق الرسائل ليفتح ذلك العنوان الإلكتروني الذي ارسله رؤوف معتقدًا أن هناك أمر مـا يخص شغلهم ولكن كانت الصدmة الكُبرى وهو يرى اسم العزايـزي عنوانًا للخبـر ، فتح مكبر الصوت وهو يتحدث بدهشة :
-من مـ.ـيـ.ـتى والجرايد عتچيب في سيرتنا !! ووو
قاطعه رؤوف :
-عاوز أقول لك أنو البلد مطربقة فوق روسنا من إمبـ.ـارح ، من تحت راس اللي عمله بكر وِلد فياض .. والمفروض المجلس هيچوزهم خلاص ..
كان هاشم منشغلًا بالسباب إثر تطاول الصحفـي في إهانتهم حتى وصل لنهاية الخبر وكُتب تحت ناشره باسم ” ليلة سامح الجوهري ” ، حاول هاشـم تذكر تلك الفتـاة تقطن بمنزلهم ونفس الاسم الذي عرفت به نفسها من قبل ليقول بسخط :
-ليلة الچوهري اااه يا بت الـ*** ؟!! رؤوف الخبر ديه طلع من قلب العزايـزة ، كله من تحت راس البت بتاعت هيثم ..
كرر رؤوف الاسم ، وكل ما يشغله الاسم ليقول متستفهمًا :
-مش سامح الجوهري ديه اللي كان لواء في المخابرات العامة ، ولا ده تشابه اسامي ؟!
عاتبه هاشم :
-إحنا في ايه ولا في ايه ؟!! فكرك ديه هيشفعلهـا!! هارون لو عرف مش بعيد يدفنها حيـه ، الكدب والخيانة ملهمش دية في عرفنا يا رؤوف ودي واحدة مصنتش العيش والملح .. أقفل أروح ابلغه يشوف معاها صرفة ..
أوقفه رؤوف متعجبًا :
-بس هي هتعمل إكده ليه ؟!! ما يمكن هارون عنديه علم وو
رد هاشم بحزم :
-هارون عمره ما يدخل الحكومة ولا الصحافة في مشاكلنا ..
ثم لاحظ حركة رغد بمرقدها وتراقص جفونها فغير مجرى الحديث وقال :
-انا هتحرك على الوحدة دِلوق وهكلم هارون أشوفه وأنا في الطريق ..
نهى مكالمته بسرعة مع رؤوف ورمى هاتفه بعشوائية على الأريكة ليقترب من رغد لياليـه السرية وينكث على ركبتيه مداعبًا ملامح وجهها مستخدmًا لهجته الصعيدية التي تُزعجها كثـيرًا :
-ما بزياداكي نوم عاد وقومي فطري چوزك يا هانم ! ولا اطلع على لحم بطني ، يرضيكي؟
ضمت أناملها كفه وما زالت تحت سطو النعاس لتقول بصوت مفعم بالنوم :
-صوتك عالي ليه ؟! بتكلم مين الصبـح كده ؟
-شغل شغل متشغليش بالك ..
ثم أحكم قبضة يده على كفها الناعم كأنه سيلاعبها تحدي القوى ” ريست” وجذبها عنوة لتنهض شاهقة مرتمية بين يديه مدmدmة باسمه بعتب :
-هاشم !! عايزة انام كمان شوية بليـز .
-الساعة ١٢ الضهر ومش بعوايدك تتأخري في النوم ، يلا قومي وفكي التكشيرة اللي مش عارف سببها من ليلة إمبـ.ـارح دي ..
تبسمت مجاملة بوجهه لتقول :
-صباح الخير يا حبيبي ..
طبع قبلته الرقيقة على أرنبة أنفها وهو يداعبها قائلًا :
-لسه فاكرة !!
تأوهت قليلًا وهي تبث شكواها وتمسك ظهرها :
-آه !!جـ.ـسمي كله متكـ.ـسر وعايزة أنام كتير وبعدين أنتَ أيه عاجبك في نومة الأرض دي !! لو هتعملها تاني أنا هسيبك تنام لوحدك ..
ثنى ركبته كالخيمة المضللة فوق ساقيها الممدودة اتكئ على ذراعه الأخر وهو يدلل ملامح وجهها بابتسامة خفيفة :
-هقولك ، أصلـو زمـان وأحنا عيال كنا نناموا چار أحلام ، أنا وهارون ولما تيچي ليلتها وأبوي كان يطردنا من الأوضة كانت تنومـه كنا نبقوا مستنيها برة الأوضة كانت تيجي تأخدنا وتفرشلنا الفرشة فالأرض ومتسبناش إلا لما نروحوا في النوم .. فـ
ثم تأرجحت عيني ببحيرة عينيها التي تراقبه باهتمام واستمتاع ، فـ استغل الفرصة ليلطف الأجواء قائلًا بمزاح :
-بس كل اللي كان شاغلني زمان ليه أبوي كان يطردنا !! هاا ليه يا رغود ؟!
انفجرت ضاحكـة بوجهه ، ثم ظلت تعبث بثوبه الميري :
-بكرة لما يكون عندنا أولاد أنت اللي هتطردهم يا حبيبي ..
ضاقت عينيه بمزاح :
-يعني الحچ خليفة طلع خلبوص من زمان .. !!
-أنا دلوقتي عرفت أنت طالع لمين ، وهيثم أخوك كمان .. لالا واضح كده أنتوا الاربعة كلكم طالعين للحچ باباك ..
قفل عين وفتح الآخرى :
-هارون أقولك ماشي تعلب في نفسه !! لكن هلال ؟!! لالا مولانا ده أنا قلقان عليـه بقوله تعالى اديك دروس تقوية وأنت أديني دروس تقوى مش سامع الكلام .. ده مش باين له جواز من أصلـو .. أصلك مت عـ.ـر.فيش هلال حياته كلها حلال وحـ.ـر.ام ، ده لو شاف واحدة ست خالعة براسها ممكن يغمى عليه … الواد هيبوظ سمعتنا البابظة دي ..
خرت ضاحكة بشكل هستيري ثم قالت :
-يعني المحترم اللي فيكم عايز تبوظه !! ما تسيب الراجـ.ـل في حاله ..
ثم لفت ذراعها حول رقبتـه وأخذت تعبث بأزرار بذلته وهي تقول :
-بس من واقع خبرتي بالحيـاة يا سيادة الرائد يا مدرسة ، أن اللي زي أخوك هلال ده أكتر واحد بيعرف يحب ويعبر عن حبه .. الحب بيطلع منه العجب وهتشوف وبكرة هفكرك .
رفع حاجبه بعدm تصديق:
-هلال؟!! لالا مفتكرش .. بقولك أخويا وانا استعوضت ربنا فيه .. مفيش منه أمل وو
فقاطعته بنبرة اعتذار:
-اسفة يا هاشم بالليل نمت و سبتك بس فعلا كنت تعبانة أوي ، ممكن متزعلش مني .
انتقلت يده من زهور ملامحها لمشتل خصرها وهو يجذبها عنـوة إليه ويسند جبهته فوق جبهتها ليقول بشوق :
-لا بس أنا زعلان ، وزعلان أوي كمان .. هروح الوحدة أعمل إخلاء وهرجع لك تصالحيني بمعرفتك ..
ردت بتلك النبرة الخفيضة وهي تقول له بنبرتها الحنونة :
-هستناك …
نظر في ساعته ثم وثبت بحماس متأهبًا للذهاب بعد ما طبع قبلة على جبين رأسهـا وأخذ هاتفه وقبعة رأسه العسكرية :
-مش هتأخر عليـكِ ..
ودعته بأسمى المشاعر التي تسكن قلوب المُحبين ورافقتـه لباب المنزل حتى استقل سيارته الفارهة وغادر من البيت قفلت الباب وأول شيء فعلته هو أنها ركضت على هاتفـها لتحدث أمها التي أكدت عليها أن تقفل هاتفها نهائيًا إلى أن يغادر زوجها .. ظلت تتنقل في أرجاء المنزل وهي تتحدث من أمها بآهات ملتاعة وخــــوف من الغد وما يحمله ؛ حتى جهرت بعجزٍ وغـــضــــب إثر محاولات أمها التي تؤكد لها حب هاشم :
-آكيد يامامي لما يعرف أن أبويا ممتش ومتسجل على قوائم الإرهاب مش هيضـ.ـر.بلي تعظيم سلام !!
ردت سامية بتحدٍ :
-يبقى ده اختبـ.ـار هاشم اللي بجد ، أنتِ اتنازلتي كتير واستحملتي وهو لو بيحبك وشاركي مش هيفرق معاه ..
••••••••••
~بسيارة هلال ..
بنفضة جسد ‏فائض من شِدة القلق إثر شعور بالرهبة لذنب لم يرتكبه .. جاءت تلك اليد الحنونة لتُربت على كتفه فدار للخلف مذعورًا كي يكشف عن هوية صاحبها الذي همس له :
-اتبعني !!
ثارت ملامح هِلال على مرجل الحيرة وهو يتبع خطاه مكررًا أسئلته :
-من أنتَ ؟! وما تريـد ؟!
طالعه الرجل ذو اللحيـة البيضـاء مبتسمًا ليقول له :
-مما تخاف ؟!
عارضـه بيقين :
-لست خائفًا ، المؤمن بحق لم يخف ..
-أجل ، لِمَ تتساءل إذًا ؟!
كرر هلال سؤاله وهو يتبع خُطاه البطيئة :
-من أنت ؟! وما تريد ؟! لدي أشغال كثيرة لا أود أن أضيعها ..
دار لها الرجل الذي ينافسه في الطول ليعلق برقبتـه سبحة من الأحجار الكريمة ويزف له البشرى :
-دعنا نحتفـل بعريسنـا ..
تقطعت الكلمـ.ـا.ت بفاهه :
-أي عريس ؟! من سيتزوج !!
-أنتَ ؟! جئت لأبشرك و أهنئك وأخبرك ؟!
-بمـا !!
وتجولت عينيه بالمكان بغرابة :
-وما هذا المكان ؟! أين نحن ؟!
نزع الشيخ العجوز عِمة رأسه وتوجه بها وقال بحكمة مريحة للنفس :
-جئت أزفك بشخصي .. مبـ.ـارك لك.. لقد نفذ أمر الله ..
ما زالت الغرابة تحاوطه وهو يتساءل :
-أي أمر ؟! وكيف سأكون عريس بدون عروس ؟!
تفقد الشيخ هيئته بعد ما ارتدى السبحة من أحجار الفيروز والعمة البيضاء ، فأشار له نحو باب خشبي عِملاق تحاوطه زهور الياسميـن :
-خلف هذا الباب بُشارك .. وبُشرى أيام دُنياك وآخرتك ..
-كيف !!
ثم هـمّ على وجهه راكضًا نحو الباب ليتطلع إلى مقصده ربما يتعثر بجواب اسئلته العقيمة التي لا تنجب ردًا يطمئنه ، أثناء ركضه تعثرت قدmه بحجـر صخري ارتطمت ركبته فتأوه صارخًا من شـ.ـدة الو.جـ.ـع ولكن ذلك لن يعوقه لمواصلة سيره متبعًا فضوله ، امتدت يديه لتدفع ذلك الباب الخشبي الثقيـل لتُشرق قمـر قلبه على أحد درجات السُلم متوجـة بالزي الأبيض وتزفها الفراشات ، تقف رقيـة ممسكة بباقة ورد بيضاء وتتطلع له باستيحاء ، مازال تحت سطو دهشته دنى منها وهو يتلعثم غير مصدقا ما يراه ويطلع لها متساءلًا :
-رقيـة أنتِ هُنا ؟! ها أنتِ!!
فآتاه صوت الشيـخ الذي دب على كتفه ففزعه أكثـر وهو يلتفت له ليقول بوجهه البشوش وهو يشير لرقية المتوجـة بسبابته :
-أجل ها هي هنـا -ثم أشار لقلبه – ومن الآن ستبقى هنـا ..هذه أمانة الله ..
دmدm غير مصدقًا :
-رقية !!
فعارضه الرجل :
-كلا ؛ رُقى هلال بدنياه وآخرته ..
ثم تبسم مكملًا :
-ستقرع طبول السماء قبل طبول الأرض لتزُف عرائسها .
-شيخ هلال !! شيخ يا شيـخنا .. أنتَ ايه اللي نيمك إهنه عاد !!
جاء صوت أحد الرجـ.ـال ليوقظ ذاك النائم الذي حرقت وجهه أشعة القمر الذي زُف له ، وداعبت خيوط السمـاء وجهه من خلف النافذة الخاصة بالمسجد ، كان يتصبب عرقا ويرتعش ويهذي بكلمـ.ـا.ت غير مسموعة مما أثار قلق الرجل الذي جاء ليجعله يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم ففزع هلال صارخًا بصـوت المتألــم هو يلتقط أنفاسـه بعناء :
-يااااالله !!
تراجع الرجل مبررًا :
-مالك يا ولدي ! قوم أصحى نهار ربك چيه !! ده كمنه كابوس اللي شقلب كيانك إكده !!
ظل يتلفت يمينًا ويسارًا وكأن قلبه يفتش عن ذلك الشيخ ، عن تلك العروس التي تحول قلبه في حضرتها لطير يرفرف في سماء الحياة.. ظل يمسح على جبتهه وهو يقول بصوت مفزوع :
-انا انا كنت ، صليت الفجر ونمت .. نمت چار العمود وو
ثم نظر للرجل وكإنه يتعرف على ملامحه، ففزغ من مرقده مستئذنًا بلهفة:
-انا لازمًا أمشي .. عن اذنك !
تعجب الرجل من حالتـه وهو يضـرب كف على الآخر ويدعو له :
-سبحان مغير الأحوال !! ربنا يهديك يا وِلدي ..
“تدابيرُ اللهِ ملهمةٌ وعظيمةٌ لدرجةٍ تفوقُ أحزاننا.”
فرغ هلال من سطو ذاكرته التي استردت تلك الرؤى التي جاءته بعد صلاة الفجر وهو يبث شكواه للمولى كيف عليه أن يساعد فتاة مثلها تمزق قلبها إربابًا .. حتى غلبه النوم وفكره مشغولًا بأمرهـا فجاءه الحل من الله والذي غفل عنه ، فبرغم من ميله لها إلا أن فكرة الزواج بها لم تزر فكره أبدًا .. كان يعلم بمشقة الطريق لها وخاصة بعد ما اقترفه هذا المجرم بحقها باتت السُبل محطمة بينهما نهائيًا ؛ ولكنه قبل البشارة على سعة صدر وتهيأ لها ، لا يعرف كيف سيكون ذلك ولكن ربما يحدث الله بعد ذلك أمرًا !!!
صف سيارته أمام بوابـة مجلس العزايـزة الفخـم ونزل منها وهو يصفع بابها بقوة حيث التقي بهيثم أخيه مقبلًا عليـه ؛ لحظات قليلة وكان هيثم يقف أمامه بهيئته الصاخبـة :
-هلال ، موصلتش لحـل بخصوص اللي ما يتسمى ؟!
امتدت عينيه بنظرة خاطفة لرقية التي تجلس بالخلف تائهة في ملكوت الحـ.ـز.ن الذي حل على رأسها وقال بيقين :
-الله سيدبر الأمر وحده !!
عقد هيثم حاجبيه وهو يراقب زي أخيه الفخم ورائحة عِطره الفجـة ليقول بلوم :
-هلال !! أنتَ هتوافق تكتب كتابهم !! أوعاك يا هلال ، ورب الكعبة لا تبقى أخوي ولا أعرفك ..
رد بـ.ـارتياح وهو يشاهد مشهد مواساة أخته للتلك اليتيمة والمنكسـرة :
-دعها تأتي كما كتبها الله ..
هبطت خالة رقية من السيارة وهي ملفحة بحـ.ـز.ن اللون الأسود :
-يا شيخ هِلال هيعملوا أيه في المسكينة دي !! دي لأب ولا أم يا حبة عيني وآخرها يبقى اللي اسمه بكر دهوت الچاهل !!
سكن اليقين قلبه حد الهدوء العجيب الذي لا يتناسب مع الموقف وقال:
-المولى عز وجل ما خلق نملة وتركها في حُجرها ؛ فما بالك بالبشر !! وبرقية .. لا داعٍ للقلق ؛ رقية لن تتزوج ببكر ..
رمقه هيثم بذهول :
-أنتَ أيه البرود اللي أنت فيه دهوت ؟! اللي يشوفك دِلوق ما يشوفكش ليلة إمبـ.ـارح ، هلال أنتَ عارف حاچة وو
رد بهدوء :
-ربك رب قلوب وأحوال ؛ يقلبها في عشية وضُحاها ، علينـا بالتأني في مواجهة المصائب كي لا نزيدها سوءًا ..
-ولاه أنا چايب آخري من وِلد المدعوك ديه ومن العزايزة نفر نفر ، مش ناقصاك أنتَ كمـان ..
-أهدأ يا هيثم ..
في تلك اللحظة اقتحمتهم سيارة هارون التي يقودها بأقصي سرعة وخلفه سيارة آخرى مليئة بالخفـر الذين يمسكون ببكر الذي نال من ضـ.ـر.باتهم ما يستحقه حتى أنه لم ينجٌ من هارون الذي لم يتمالك أعصابه ليلكمه تحت عينه إثر فعلته الفاحشة التي اقترفها ذلك المجرم بولايته ..
ما رأى هِلال صورة ذلك المدعو بكـر وبدون عقل نزع عباءته وشاله وعلقهم بنافذة سيارته وهو يخبر هيثم :
-وبعض الأمور لا نستطيع عليـها صبرًا ..نحن في الأول والأخر بشر ..
ليقتحم صفوف الرجل وبكل ما أوتى من غـــضــــب مكتوم رفث بكر ببطنه ليسقطه أرضًا ، هرول هارون من سيارته نحو أخيه لينهره :
-هلال ، سيبو ..
لم يلتفت هلال لأمر أخيه بل أبركه بالأرض وانهالت على وجهه اللكمـ.ـا.ت القويـة المعنفة عن فعله الدنيء ، فجر هلال طاقته المكبوتة بوجهه الذي لُطخ بالدmاء ، حاول هارون أن يوقف أخيه ولكنه دفعه بقوة كي يواصل عمله في أخذ الحق من ذلك المجرم .. هبطت رقية وهاجر التي تصرخ باسم أخيها وتحـ.ـضـ.ـن رفيقتها و التي تراقب أسدًا يزأر في ساحة أخذ حقها وهو لا يربطها بها أي شيء !! حاول هارون ورجـ.ـاله منع هلال عما يفعله ولكن توقف هيثم بوجهه :
-سيبو يخلص عليه يا هارون وِلد المحروق دهوت ..
جهر صوت هارون وهو يراقب رجـ.ـال المجلس يركضون نحوهم فتدخل ليمسك بأخيه بمساعدة رجـ.ـاله وبصعوبة نجت رقبة بكر من أيدي هلال المغلولة وهو يلعنه :
-ورب العزة يا بكر ما هرحمك ..
ما نهض هلال مع أخيه بأعجوبة فركله بقدmه ، ما كاد هارون أن يلومه ففوجئ بهيثم إبترك فوقه وهو يلكمه بغلٍ :
-اااه يا كلـ* يا ابن الـ* .. منا مش كل يوم هضـ.ـر.ب واحد من العزايزة !! أنا مش چاي الدِنيا عشان أربيكم وبس منا مش فاضي لكم ..
ثم طبق كفوفه على عنقه :
-عملت إكده ليه يا ***، دكر أنتَ إكده يعني ؟! ماهي لو بالشنبات كان الصرصار سيد الرجـ.ـال ..
فاض صبر هارون الذي أبعد هلال عن بكر بأعجوبه ليركض صوب هيثم صارخًا وهو يرفعه:
-بزياداك يا هيثم أنت كمان .. مالكم چرالكم ايه اتجنيتوا !.
جاءت أم بكر تعـول وتصدح وتجثو فوق ولدها وتصيح :
-يا ولدي !! قوم يا حبيبي قوم ..اتكاتروا عليك .
وبخها هيثم باشمئزاز :
-بعد إكده المراة اللي تسقط تربي ، مش تطلق عُجولها علينـا .. أنا خُلقي ضيق هاا والتور اللي يسوق العوج قطع رقبته اشرف لنا ..
شـ.ـده هارون بصعوبة :
-أنتَ اتخوتت !! أي عوچ دايس فيه !! هتبطل بلطجة مـ.ـيـ.ـتى !!
-سيبني أمـ.ـو.ته يا هارون وأبقى دافع عني وطلعني .
-هيثم ؛ مش وقت چنانك.. اركز الله يرضى عنك .
حدجه هيثم بمكر:
-أنتَ كُنت مكمر على وِلد الحـ.ـر.ام دهوت ومش قايلنا يا هارون !!
-منا حاسس إني قصاد بلطجية مش رجـ.ـا.لة عتفكر وعنديها مخ .. و
فقاطعه أحد الخفر :
-يا چناب العُمدة ، اتفضلو .. المشايخ مستنينكم ..
اقترب هلال من رقية بعد ما رتب ملابسه وتذكر بإنه عريس اليوم ، دنى من تلك الخائفة التي تختبئ بحـ.ـضـ.ـن أخته وترتجف ، فقال بحكمة لا يعلمها غيره :
-أخت رقية ، أرچوكِ ساعدينا .. اللي هقوله توافقي عليـه بدون تفكير .. ثقي بيِ.
سألته أخته :
-كيف يعني يا هلال !! ما تفهمنا ..
رمقها بحدة :
-لا تدخلين بالأمر وابقن بالسيارة ..
قال جملته الأخيرة وهو يرحل ليتسلل من باب شيوخ المجلس الذي عُين مأذونًا ومستشارًا دينيـًا به بالإضافة إلى مهنتة التدريس بالأزهر الشريف والمعهد الأزهري .. نظرن الفتيات لبعضهما البعض:
-هاچر أنا مش فاهمة حاچة ..
أقبل هارون آمرًا :
-هاجر استنى في العربية عندك ..
كادت أن تقاوحه ولكنه ألجمها بنظرة جعلتها تتقهقر مترددة وهي تترك يد رفيقتها .. سارت رقية برفقة خالتها وهيثم ثم هارون الذي وكل أحد رجـ.ـال بحراسة أخته بالسيارة .. دخل الجميع لساحة المجلس ثم تبعهم بكر الذي يتعكز على ذراعي الخفر وأمه التي تُشيعـه بالصراخ .. جلس الجميع بأماكنهم لتبدأ المحاكمة …
بسيارة هيثم تجلس هاجر التي يكاد أن ينفطر قلبها على حالة صديقتها فجاءها اتصال من شريف الذي يعد قوته ويستعد لاقتحام مجلس العزايزة ، فردت هاجر بتوجس:
-اتفضـل ؟
رد بمكره وحديثه المعسول :
-ها يا هاجر ، ايه الوضع عندك !!
ردت عليه بجدية :
-أولًا اسمي الدكتورة هاجر يا شريف بيه ، ثانيا هارون بيه أخوي كان محتفظ بالزفت اللي اسمه بكر وكلهم دخلو المجلس دِلوق ..
فتح باب سيارة الشرطة ليركب بجوار العسكري مبتسمًا :
-طيب براحة علينا يا دكتورة .. أنا بس رفعت التكليف قولت أننا هنبقى أصحاب وبنساعد بعض وو
قاطعته :
-شريف بيه من غير حديت مذوق ، تخلص شغلك ومتكلمنيش تاني ، وإلا هيبقى فيه حديت تاني مش هيعجبك واصل …
رسم الضحكة على محياه وهو يأمر العسكري أن يتحرك وقال:
-تمام يا دكتورة هاجر ، أي جديد بلغيني ..بس براحة علينا شوية عشان أنا قلبي خفيف ..
-لا سلامتك يا شريف بيه ..
أنهت هاجر المكالمة بملل وهي تلعن الحظ الذي جمعها به وتعاتب نفسها:
-فوقي يا هاجر أخواتك لو عرفوا اللي حصل مش هيعدوها …
~عودة لسـاحة المجلس ..
افتتح الشيخ الكبير مجالًا للحوار بعد ذكر اسم الله ، ووجه سؤاله لبكر :
-يا بكر ، لقد قمت بالاعتداء على ابنة عمك ، الكلام ديه صح ؟!
أخفضت رقية وجهها بالأرض وبكر يتطلع لها بدناءة :
-حصل يا مولانا ..
فأكمل الشيخ وقال :
-وتقرير المشفى أثبت أن الاتصال كان كاملًا وبدون أي تراضي !
وقف بكر بوقاحة أمام الشيخ وقال بخبث :
-في الأول قاوحت چنابك وبعد إكده …. إحنا بردك وِلد عم والدm عمره ما يبقى ميه وسلمت بكيفها لإنها ريداني كيف منا رايدها ..
كظم الجميع غـــضــــبه وقبض على مرجل الغـــضــــب إحترامًا لذلك المجلس الذي لا يجرؤ أحد على رفع صوته بهِ ، دmدm هيثم في سره بآذان هارون أخيه ” الناقص” فألجمه هارون بتلك النظرة التي تخرسه حتى تلألأ صوت الحق لتنفيه رقية تمامًا والبكاء ينخرط من عينيها :
-كذب ، محصلش … ولا عمري اسلم روحي لخسيس زيك .. ما كفاياك كِدب ..
-اقعدي يا رقية .. لم أوجه لكِ سؤالًا ..
ثم نظر لبكر:
-سبق وقولنالك متتعرضش لبت عمك يا بكر ، كـ.ـسرت التحذير ليه ؟!
اخفض رأسه بالأرض:
-الهوى غلاب يا شيخنا وأنا رايدها في حلال ربنا ومستعد اكتب عليها دِلوق .. ويبقى صلحنا اللي حُصل ..
تكورت قبضة يد هلال على الطاولة أمامه وهو يذكر اسم ربـه كي يلهمه الصبر ، وعلى حِدى زفر هارون باختناق وهو يوشوش لهيثم :
-وِلد الـ*** تصدق أن غلطان كنت سبتك خلصت عليه وخلصنا…
تمتم له هيثم :
-أقوم أمـ.ـو.تهولك دِلوق ؟!!
-لا استنى هبابة نشوفوا اخرته أيه يمكن أمـ.ـو.ته أنا..
-عيل ناقص وحلال فيه القتـل .
أشار له الشيخ أن يجلس بمكانه ثم نظر لرقية التي تتشبث بيد خالتها وهي ترتجف ، حانت نظرة مشفقـة من هلال فحاورها بلغة الأعين بالأ تخف من أحد وتدافع عن حقها ولكن أكثر ما كان يخيفها أن ظهرها بات عاريًا لا يقف به من يتلقى السهام عنها .. توجهت لحديث الشيخ العجوز وهو يسألها :
-ما رأيك فيما قال وِلد عمك يابتي؟
ارتعش صوتهما كيفما ارتعشت كفوفها :
-كله كدب .. أنا كنت رايحة أجيب لبس أمي ، وهو اتهجم عليّ ولولا أني وقعت على رأسي وغبت عن الوعي عمره ما كان ..
ثم تحشرجت نبرة صوتها وجهرت :
-إحنا إهنه لي؟! عشان تسمعوا أيه !! عاوزين تعرفوا أنا كيـف اد.بـ.ـحت ؟! عاوزين تحققوا في جريمة كاملة متكاملة الجاني فيها معترف على روحه !! أنا عاوزة أفهم إحنا إهنه ليه!!
تدخل الشيخ الآخر ويبدو عليه علامـ.ـا.ت الضجر من وقاحتها :
-بلغتي الحكومة ليه يا رقية !! إنتِ عارفة اللي أنتِ عملتيه ديه مش هيحسن موقفك!
أشار لها هلال بألا تضعف وأن تكمل حربها للآخر ، استمدت القوة من نظرته وأتبعت:
-ويعني لو كُنت چيت واتشحتفت وندبت قدامكم دهوه هيحسن موقفي !! أي موقف اللي حضرتك عتتكلم عنيه !!
وبخها الآخر:
-صوتك مايعلاش في مجلس العزايزة واتكلمي باحترام ..
ردت ساخرة كمن باع الدنيا ما عليها:
-أي احترام لمچلس جاي يعظم الچاني على فعله !! أصلا أنتوا فين عقلـكم وأنتوا عتنفذوا القوانين دي؟! مين سمح لكم !! علشان حدوتة قديمة حُلصت من قرن ونص چايين تسـ.ـجـ.ـننونا معاهم !!
ثم صرخت بقلب المجلس بحرقة:
-أنا واحدة اد.بـ.ـحت وخسرت أمها في ليلة واحدة!! تقدروا تقولولي المجلس بتاعكم هيعوضني كيف!!
ثم تقدmت خطوة وقالت بغلٍ:
-على الأقل الحكومة هتعدmوا وتطفي ناري ، لكن أنتوا هتسقفلوا وتقولوا چدع ، يلا خُدها حلال عليـك .. تقدر تقولي لو بتك حُصل فيها اللي حُصل فيّ هتعمل أيه !!
فتدخل بكر ليشعل سوء الأمور :
-جنابك دي بتشكك في عدالاتكم وحكمتكم كل ديه عشان تكـ.ـسر العُرف وتبرأ روحها ..
صرخت بوجهه :
-محدش غيرك عاوز كـ.ـسر رقبته يا بكر ..
همس هيثم لأخيه :
-هارون ما تتكلم ، هياكلو البت ..
كان هادئًا يراقب الأمر بتريث ، يتذكر كلمـ.ـا.ت ” ليلة” نظراتها ، وضع واحدة من أخوته موضع تلك الفتاة ففي لحظة توهجت حمرة الغـــضــــب بعينيه وقال بضيق:
-مش هينفعوا نسيبوا البت له يا هيثم .. اطمن .
تمسك بذراع أخيه بشغف:
-صُوح يا هارون !!
ثم احتد الحوار بالمجلس حتى صاحت رقية بالكل :
-بحق ربنا أنا مش نـ.ـد.مانة إني بلغت الحكومة لاني للاسف مش شايفة راچل دmه حامي على العرض والشرف ممكن ياخدلي حقي ..
انفعل أحد أقارب بكر بمجلس الشيوخ الخاص بهم و الذي يناصفه في فعلته :
-أنتي بت قليلة الرباية ، ولا عندك احترام أعراف ولا كبـ.ـار .. وأنتِ إهنه عشان تنفذي حكم المجلس ورچلك فوق رقبتك ..
ثم نظر للشيخ الذي يكبرهم سنًا ومقامًا:
-احكم يا مولانا و ضع بالحسبان جرائمها المتعددة وأخرتها السب بالمجلس والتقليل منه …
كاد أن يقف هلال ولكن سبقه هارون الذي يبغض ذلك الرجل كثيرًا ويقف خلف رقية ليلقي عليه نظرة ثاقبة ثم يقول معتذرًا :
-يا شيخنا اسمح لي بالكلام قبل ما تأذن .. الكل عارف إهنه أن مفيش قرار هياخده المجلس إلا لما يصدق عليه العمدة خليفة العزايزي وأنا النائب عنه دِلوق .. وبصراحة كنت مستني حكم المجلس الأول وبعديها اتكلم ..
ثم رمق بكر بتلك النظرة الساخطة وأكمل:
-لكن واضح أن الجاني خطط ونفذ وهو عارف هيعمل أيه زين .. وقبل أي حديت يتقال هل ذكر بكر إنه لما اتهجـم على بت عمه كان تحت السُكر والمـ.ـخـ.ـد.ر !! وده في حد ذاته جريمة كبيرة في حق أعرافنـا …
هاج بكر معترضًا :
-كـ.ـد.اب ..
ثم رمق الضحية بنظرة واحدة لتأمن وأتبع :
-لما رجـ.ـالتي لقيوه في بيته القديم لقيو معاه قزايز بيرة وغيرها من المواد المـ.ـخـ.ـد.رة.. وديه اللي خلاني أقول لراجـ.ـل من رجـ.ـالتي ياخدو عينة منه من غير ما يحس وودناها المعمل وثبت كلامي بالحرف والنون .. وأدي نتيجة التحليل ..
أخرج الورقة من جيبه ووضعها أمام الشيخ الكبيـر وأكمل :
-وبعدين لو چينا نتكلمو من منطوق العقـل ، إن في الحالة دي مش هينفع نطبقوا العرف لانها ناقصة .. هتسألني كيف ؛ هقولك ..
ثم تحرك حول مسرح الجانى مستغلًا دوره الأساسي كمحامٍ أولًا وقال بشموخٍ :
-لما العُرف نص على قاعدة چواز أي اتنين حصل مابينهم علاقة في الحـ.ـر.ام ، الأهالي بتدخل ويلموا الموضوع ويچوزوهم ، والشرط الأساسي القبول بين الطرفين ، يعني اتنين رايدين بعض بس الظروف مش سامحة ، الأهالي رافضين .. ده مش يعفيهم من الحـ.ـر.ام بس أبسط الحلول چوازهم لانه قايم على أهم سند وهو القبول بين الطرفين ..
ثم نظر لبكر بغلٍ :
-وده مش موچود غير في خيالك ، حضرتك شايف بنفسك الدكتورة رقية سبق ورفضته كام مرة وأخر مرة خدت عهد عليه من المجلس وهو محترمهوش …
ثم رفع كفه وهو يعد الأخطاء :
-عندك سُكر ، ومخالفة أحكام المجلس ، والكذب ، وأخذ الضحية غدرًا وهي مغيبة عن الوعي تمامًا .. وده لا يتناسب مع أعراف ولا عدل يليق بالعزايزة ..
ثم دنى من رقية ليجهر بنفس صوت الحق وقال :
-ولو المجلس وافق على چوازهم بإكده هتبقى غابـة وكلنا وقفنا للمجرم وسقفلناله وقولناله شاطر .. ويبقى محدش يچي يلومنا بعد كام سنة لما النجع ديه يبقى مجازر …
نهض الشيخ الذي يدعم بكر ليعارضه :
-كله حديت فارغ ، العرف ما يعرفش مكر المحاميين دهوت ، الكلام عندينا اي اتنين يتخلط دmهم ببعض يبقوا لبعض ..
لم يفكر هارون للحظـة ليُجيبـه بحدة :
-والدكتورة رقية اتعملها تنتضيف رحم بعد ساعة من وقوع الجريمة ، يعني مفيش أي حاجة ممكن تربطها ببكر إلا الدm والقصاص منه …
تمتم هيثم بفخر بأخيه :
-يا وِلد اللعيبة يا هرن !! عليا النعمة عُقر ..
هدأت ضـ.ـر.بات قلب رقية وهي تحدج هارون بإمتنان وعرفان على وقوفه بجوارها ، فقفل جفونه بهدوء كي تطمئن ولا يوجد داعٍ للقلق .. تدخل الشيخ الأكبر فيهم ونظر لأستاذ هلال :
-نسمعوا رأي الدين !!
فتدخل الآخر ليزيد الأمر سوءًا :
-شايف أن المجلس يحكم وبعدها نشوف رأي الدين في الحكم .. ولا أيه يا شيخنا ..
كانت هلال قد تحمس للدفاع عن رقية ولكنه تراجع إثر انصات الشيخ لمعرفة رأي الآخرين .. تفوه الأول المؤيـد لبكر بتحدٍ :
-شايف أن اللي حُصل حُصل والمشكلة هتنتهي بجوازة والموضوع خلصان وملهوش لازمة الحديت …
بدّ الخــــوف على رقيـة وهي تمسك بقلبها وتنظر لهارون الواقف بجوارها ثم لهلال الذي أحمر وجهه من شـ.ـدة الغـــضــــب ، فالتفت الجميـع لرأي الشيخ الثاني الذي قال:
-لو كـ.ـسرنا العرف المرة دي، هنكـ.ـسروا ألف عرف غيره ، كل الأدلة تدين بكر ، ولكن لأجل عرف قبيلة كاملة لازمًا حد يضحى ، وأنا من رأيي رقية تقبـل بزواجها من وِلد عمها لأن العرف معه من يوم ما ولدت ..
أمطرت سماء عينيها بفيض من العبرات وهي تستند على أحد الطاولات، فأتبع الثلاث قائلًا :
-أنا ضد چوازهم لان الاتنين مخطئين ، ومع طرد بكر من النجع والحكم بعدm زواج رقية مدى الحياة لانه لا يوجد أحد سيقبل بعارها وعشان يبقوا عبرة للكل .
أحمر وجه هارون بغـــضــــب لتلك الأحكام الجائرة فزفر ليجلس بجوار أخيـه هيثم بضيق ، وعلى الجهة الآخرى لقد نفذ صبر هلال وهو يسمع لحكم الشيخ الرابع وكبيرهم الذي نص قائلًا :
-وأنا أؤيد أول حكمين ومع زواج الاثنان ودفع كل منهما دية مخالفته للأعراف ..
ثم نظر لهلال آمرًا :
-يا مولانا جهز أوراقك لتكتب كتابهم الآن ..
انتقلت كل الأعين لهلال الذي لم يتحرك إنشًا لينفذ الأوامر ، ظل صامتًا لدقيقة وهو يستجمع نفسه لمواجه ذلك العنفوان الآدامي ، قفل دفتره ونزع جلبابه الأزهري ليهبط من فوق المنصة الخشبيـة الخاصة برجل الدين ويقف متجردًا من كل سمـ.ـا.ته الأزهرية مكتفيًا بجلبابه الأبيض ناصع البياض .. لم تتحمل رقية الوقوف أكثر من ذلك ونظرات بكر التي انهالت فوقها بظفر بل لجأت للجلوس على أقرب مقعد وهي تدعو ربها وأخذت تخر دmـ.ـو.ع عينيها بحرقة ، وقف هلال بصمود أمام الأربع شيوخ فنهره بكر وهو يتفاخر :
-يلا يا مولانا اكتب الكتاب وخلينا نخلصوا ..
تجاهل هلال سفهه وقال بخشوع وهو يذكر الآية القرانية ويرتلها على مسامعهما:
-قال الله في كتابه العزيز (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ۖ وَلَا تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (2))
ثم رفع رأسه ليواجه شيوخ المجلس وقال بصوته الذي يزلزل جدران المساجد :
-ربنا چل عُلاه أقام الحد على كُل من يقترف إثم الزنا ، وليشهد عـ.ـذ.ابهما طائفة من المؤمنين ، يعني لم يقل زوجوه .. فبأي حق تآمروا بزواج مغتصب من فتاة كل ذنبها بالحياة أنها غابت عن الوعي ليواصل الذئب أكل لحم فريسته !!
ثم تقدm خطوتين وأكمل :
-بأي حق نتغاضى عن أمر الله في معـ.ـا.قبة السارق و المجرم مثله !!
فنظر لأخيه وأكمل بصوته المتحشرج بالبكاء :
-حضرة العمدة مقصرش وقدm كل الادلة اللي من المفترض يأخذها المجلس ليرأف بفتاة يتيمة مثلها ولكن يبدو أن الأعراف تغاضت عن أهم دور لها وهو الرأفة بالقلب ، سرنا نتبع أحكام ظالمة ونتحامى خلف مبدأ العرف الذي يحكمنا ، هو الأدرى بحياتنا، سرنا خلف كتاب وضعه البشر من معتقداته وتجاهلنا الكتب السماوية برحمتها ومبادئها !! تجاهلنا كلام المولى لنرفع صوت شخص ظالم يقف بظهر المستبد ويقهر المظلوم أكثر ..
ثم ألقى نظرة اشمئزاز على بكر الذي يأكله بعينيه وأتبع :
-وكلنا عارفين أن بكر متزوج .. وده بردك مشفعش للمسكينة اللي اتاخدت غدر ، ده القرآن بعظيم قدره ضاعف جزاة الشخص المحصن الذي يرتكب جريمة الزنا لمئتي چلدة، يعني الشخص المتزوج وارتكب فعل فاحش عـ.ـذ.ابه بقى الضعف عن الغير متزوج ، أما إهنه أحنا چايين نطبطبوا على كتف الچانى ونقوله تسلم يدك أعملها كل يوم وإحنا في ضهرك !! بل ملزم بدفع صداقها الذي نص عليه رسولنا الكريم ..
مال هارون على مسامع هيثم أخيـه متعجبًا من نفضة صوت هلال التي يتحدث بها :
-مال أخوك !!
ألقى هيثم نظرة عليه ثم على رقية التي تعلقت بطوق كلمـ.ـا.ته كأنه آخر حبل للنجاة :
-أنا شاكك في حاچة وشكل شكي هيطلع في محله..
رفع هارون حاجبه متهامسًا :
-هو أخوك رايدها !!
-باينله !! أنا عمري ما شوفته عيتحدتت بالحرقة دي !!
فـ رج الجدران نبرة صوت هلال الذي أكمل دفاعه عنها وهو يوبخ أحد المشايخ :
-ديه رأي الدين وكل الأديان السماوية اللي تجرم الفعل اللي قام به أفندينا … وبالنسبة لرأي حضرتك اللي قولت فيه أنكم تطردوا بكر وتحكموا على اليتيمة دي بعدm زواجها مدى الحياة؛ كان على أي أساس تحرموها من حقها الشرعي في الحياة!! أنها چابت لكم العار !! أي عار عملته لمجرد أن قوتها مش كد قوة الذئب !! أي العار اللي هيعر بتك لو كـ.ـلـ.ـب قطع عليها الطريق ونهش في لحمها !! أي عار هذا !!
ثم هز رأسه متقبلًا فكرهم :
-عار حقًا .. وما ترونهُ عار أراه تأجًا فوق رأسي .. ولو شايفين أن رقية هتعركم فـ تزيدني أنا شرف !!
ثم انتقل ليجثـو تحت ركبتيها ويُطيل النظر بعينيها المغبرة بضباب الحـ.ـز.ن ، سرحت عيناه التي تفيض بحبه الطاهر وهو يتأمل نقاء ملامحها ويترجاها في نفسه أن تقبل محاورًا عينيها الذابلة “لقد كُنتِ لـي شمسًا
‏فكيف أُخفي شُعاعكِ الساطع من عيني ! ‏وكيف أبرهن لقسوة الشتاء أني أحترقُ دِفئًا
‏لأن الشمسَ تسكُن فُؤادي .. وكيف أقنع شمسك أن تنير حياتي مثلما أنارت قلبي !!”
ثم أخذ نفسه بعمق وقال بنبرته التي تبطنها التنهيدات المُلتاعة بحنان:
– رقية!! تقبلين بأن تكوني زوجتي على كتاب الله وسنة رسوله ؟!
‏لقد تتعافى الأبواب الخشبية حين تطرقها أيدي الأحبة .. تتعافى بالكامل .. صدحت الأصوات بقلب المجلس والجميع يعارض ويسب والأخر بكر الذي انفجر مدافعًا عن نفسه وعن جريمة هلال بكـ.ـسر عرفهم، وثب هارون مشـ.ـدوهًا لفعل أخيه حائرًا كيف عليه أن يتصرف، كيف يسحب السكين من تحت رقبته! كيف لهلال أن يلقى بنفسه في قعر النار، أمسك به هيثم بقلقٍ:
-يخربيت أمك يا هلال وده وقته !! هارون ألحق أخوك .. ده لو نجى من العزايزة مش هينجي من صفية..
من أين جئت بكل هذا الوهج والبشاشة، وكيف أتيت؟ بخطواتك الثابتة والصادقة، كأنك نجمةً سقطت من سماء الله، في صدري..تجاهل الثنائي كل الصخب الذي يعُمهم وسبحت النظرات في وديان الحُب النابت بينهم، ارتعد قلب رقية وهي تنكمش بالمقعد وتحك يديها ببعضهما بـ.ـارتباك وانفاس عالية يقطعها دmع العين ، ما زالت عينيه تلمع وتدmع بطلبها ليقول مترجيًا :
-أقبلي ووعد عليّ ليوم الدين ما هخلي عِنيك تشوف إلا دmـ.ـو.ع الفرح ..
تحاشت النظر له وهي ترتجف وتولى وجهها بعيدًا عنه رافضة شعوره بالشفقة عليها ، رافضة أن تنسب له عارًا مثل هذا ، استكثرت وجوده عليها .. صاح بكر معلنا :
-وه وه وه ، هي الحدوتة إكده ..ولاد العزايزي مطبخينها .
لتكمل أمه بنفس الدناءة :
-شايف بعينك يا شيخنـا !! شايف البجاحة ، يبقى الكلام المتذاع في البلد صوح ، والبت مقصوفة الرقبة دي ماشية على حل شعرها مع اللي اسمه الشيخ هِلال.. وولدي عشان صان عِرضه عاوزين تحبسووه .. ملعوبكم اتكشف يا عمده
فابتع بكر ببخ سُمه بالمكان :
-حاميها حـ.ـر.اميها ، تعالوا شوفوا اللي انتوا مخلينهم كبـ.ـارات البلد ، چايين يكـ.ـسروا العُرف هما أول ناس .. بعد كام سنة مش هيبقى فيه عزايزة…
فأكملت أمه :
-عاوز يتچوز واحدة عدm اللامؤاخذة انكشفت على رچل غيره ، احمينا يارب من الفضايح..
وقف هارون بوجهه محذرًا :
-حط لسانك چوة خشمك وإلا ورب الكعبة ادفنك مُطرحك ..
أحيانا لا يريد البشر سماع الحقيقة، لأنهم لا يريدون رؤية أوهامهم ومعتقداتهم تتحطم .. ثم جهر بوجه الكُل ليتحدى الجميع :
-مالكم سانين السكاكين ليه على واحد طلبها قصاد الكُل على سنة الله ورسوله !! ولا أنتو غاويين تطبيل للحـ.ـر.ام !!
ثم نظر لمجلس المشايخ قائلًا :
-الضرورات تبيح المحظورات ، بالبلدي الممنوع شرعًا يباح عند الضرورة .. والخسيس في نجعي ملهوش عندي ديـة واللي يخالف شرع ربنا مايلزمنيش ، ولو المجلس هيظلم ومش هيحكم بشرع ربنـا كيف ما الشيخ هلال وضح ، يبقى فعلا اعتبروني مستغني عن العُمدية دي …
ثم كلم كبيرهم :
-الكل غلط بما فيهم بكر ورقية بسبب بلاغها للحكومة ، بس مش هنصلحو جريمة بجريمة أكبر منيها .. وشايف الأمر في أيدين الفتاة اللي وصانا عليها النبي .. ومن حقها تقبل أو ترفض ومن حقها متتچوزش من أصلو .. ولو قالت موافقة بوِلد عمها الشيخ هلال مُلزم يكتب كتابهم وانا أول شاهد !!!
صعق صوت هارون بالمجلس ليخرس كل الألسن رغم اقتناعه من الداخل بأن ما يفعله خطأ كبير وحرب آخرى يقدm لها أخيه قربانًا ولكنه لم يتخلى عن هلال بذلك الموقف، تجاهل الشيخ الكبير همهمـ.ـا.ت المشايخ بجواره لينظر لرقيـة ويكرر سؤاله :
-ما رأيك يا بتي ؟! تتزوجين بهلال العزايزي أم ببكر فياض .. القرار بين يديكِ والمجلس سيصدق عليه الآن .. وذلك أو انحراف عن عرفنا ولكنا مثلما قال حضرة العمدة الضرورات تبيح المحظورات.
اختبـ.ـار أصعب وضعت فيه بين قلبها وعقلها ، فكيف تورط هلال معها بهذه المصـ يـ بـةالشنيعة ، أخذت تتذكر حديث أمها المتكرر عن هلال وكأنها كانت وصاياها قبل المـ.ـو.ت وكأن دعوات أمها ساقته إليها بطريقة لم تخطر على ذهن بشر ، كيف ستعيش أن رفضت عرضه بمفردها بالحياة كيف سنتجو من شبح الوحدة كل ليلة !! ولكن كيف ستسامح نفسها على ظلمها له !! كي تنجو من نظرات الشفقة التي ستراها بعينيه !! حسمت قرارها برفض الاثنين وعدm قبولها لأي احد، كان هلال واقفًا بجوار أخيه منتظرًا قرارها فدنى منها هيثم متوسلًا :
-رقية وافقي ، ووعد تبقى أختنا التالتة وتنوري بيتنا .. رقية محدش هيقدر يحميكي منه غيرنا ..
سالت الدmـ.ـو.ع من مقلتيها وهي تهز رأسها يمينًا ويسارًا حيث تعثرت بنظرات هلال الدامعـة التي تترجاها ، اتفق كل إنش بجسدها على الرفض إلا أن جاء منطوق اللسان مخالف لإرادة المرء وجاءت إرادة المولى لتحقق كل شيء مستحيل ، فبدلًا من قولها لا وهي تحرك رأسها نفيًا والعبرات تسيل منها وتنظر لهلال بجسد يرتعش على فوهة بركان الحيرة قالت بصوت مهزوز :
-قبلت …….
في تلك اللحظة هجمت قوات الشرطة على المكان والأسلحة مرفوعة في وجه كل من يعارضهـا ليصيح شريف بنبرته النهاية :
-قولوا لرجـ.ـالتكم ينزلوا سلاحهم ، أنتوا مش أد حربكم مع الحكومة ..
تقدm هارون بوجهه :
-أنت أيه عرفك أن بكر إهنه!!
رد شريف ساخرًا :
-أنا ظابط مباحث مش جاي ألعب طاولة ..
ثم أمر العسكري مشيرًا لبكر الذي يحتمي بمشايخ المجلس :
-هات يابني الزفت ده ….
في تلك اللحظة باغتهم بكر جميعًا ليقفز من النافذة خلف منصة المجلس ويهرب من الجميع والكل يلاحقه محاولًا الامساك بهِ ، نظر هيثم لهلال ليصيح :
-وِلد المدهوك هرب ياهارون .. بس هنجيبوه ..
فنظر هلال للشيخ قائلًا :
-عقد القرآن يا مولانا ..
ثم رمق رقية المرمية بحـ.ـضـ.ـن خالتها وقال بلطف:
-أصلو هرب ؛ ولابد أن تكونين بمكان آمن كي لا يطولك شره .
فأكمل هيثم مرحبًا :
-وطبعا مفيش أمان كد حـ.ـضـ.ـن الشيخ هلال قصدي حصن قصر العزايزة ..
أيده هلال:
-أنار الله وجهك وصح لسانك يا أخ هيثم ..
-وحياتك يا أخ هلال والله .. وو
ثم مال على مسامع أخيه متنبئًا :
-صفية هتزفنا زفة الانچليزي في العشة..
‏مشهد ختام:
فالطير لا يعود إلا لغصنٍ يألفه و يرتاح له ، وهكذا هو حال القلوب المألوفة ، فكان قلب هلال هو الطير الذي اختلس غصنًا يأمنه من بين الزحام وكأنها كانت الفرصة الوحيدة لاجتماعهما ..
••••••••••••
~بقطـر اسكندرية للصعيد ..
-مالك يا حج خليـفة من ساعة من كنا عند الضكتورة دي وأنت سئمان ! هي قالت لك عنديك أيه ؟!
أردف الرجـل سؤاله على آذان الحج خليفة الذي شكك في أقول الطبيبة ولكنه أوهمها بحـ.ـز.نه العميق إثر ما قاله ، فعند نزوله من عياداتها أمر رجل ممن معه قائلًا له سرًا
-عاوزك تروح تغير الچلابية دي وتلبس بحراوي كيفهم وعينك متندلاش عن الضكتورة دي..
ثم عاد لسؤال الرجل الذي عاد معه وقال :
-قالت كتيـر وياريتها ما قالت ..
ثم تنهد ليغير مجرى الحديث وقال :
-هاتلنا حاچة ناكلوها لسه مشوارنا مطول …
~بالعيادة
-إلحقني يا رشيدي !! بتصل بشريف ما بيردش عليا ، مصيبة..
اعتدل رشـ.ـدي من نومته وهو يتأكد من عدm وجود أميرة زوجته بالغرفة ليقفل بابها بأحكام :
-خير يا نادية ؟! حصل ايه
ردت بتـ.ـو.تر بعد ما أمرت المساعدة الخاصة بها أن تلغي كافة المواعيد:
-أنا عرفت أهل ليلة الحقيقيين ..
ثم مسحت على شعرها بفزعٍ وهي تقص له :
-رجل عجوز صعيدي جيه ، جيه يسال عن رفعت الجوهري وقال كان معاه بـ.ـنت صغيرة
تلهف رشـ.ـدي لردها وهو يسالها:
-وأنتٍ قولتي له ايه ؟
-اتـ.ـو.ترت وحاولت امسك نفسي قدامه وقولتله البـ.ـنت مـ.ـا.تت وو
حياها رشـ.ـدي عما فعلت وأنها أحسنت التصرف ، فأتبعت نادية بتوجس:
-مش دي المصـ يـ بـة، المصـ يـ بـةأن الرجل ده هو نفسه اللي ليلة قاعدة عندهم في البيت ، بيت خليفة العزايزي أيوة صح نفس الاسم ليلة قالته وابنه البلطجي اللي اسمه هارون … هتجنن يا رشـ.ـدي وبكلم ابنك مش بيرد ، ليلة لازم ترجع من هناك حالًا …
-العزايزة !! اللي كان بيتكلم عنهم شريف ؟!
فكر رشـ.ـدي بالأمر ويتساءل:
-استنى بس !! والرجل ده عرف أزاي عنوانك و اشمعنا الوقت اللي لليلة راحت فيه هناك !!
ثم قفز من مجلسه ليقول:
-نادية أنا جاي لك ، في حاجة غلط….
•••••••••••••
~ بقصـر العزايـزة .
-” عمة صفيـة ، أنا والبنات خلينا اوضة الشيخ هلال تُبرق من النضافة ، وبخرتهاله بنفسي عقبال ما انضفاله يومه فرحه ”
جاءت زينة لتنضم لمجلس صفية وأحلام وليلة التي تجلس ملاصقة فيها وتبادلها الحديث المتهامس يبدو أن بين تلك الصبية وهذه العجوز أسرارًا كثيرة ، فمالت أحلام على مسامع ليلة لتقول لها :
-ما تكلمي الحچ خليفة نشوفوه فين ، قلبي واكلني عليه ..
ضحكت ليلة ببراءة وهي تناديها كما طلبت منها أحلام ، أن تقول اسمها بدون ألقاب:
-أحلام دي خامس مرة نكلمه هيزهق مننا ..
ثم وشوشت لها :
-وبعدين طنت صفية ممكن تغير ، ولا تتحسدوا ، مش معقولة يعني أنا اللي هقول لك كده .
قرصتها بذراعها مؤيدة حديثها:
-يسلم فومك .. خلاص بلاش لما ندخلوا الأوضـة چوة ابقى نكلموه ….
تناولت زينة طبق البامية من عمتها وشرعت بتقليمها بدلًا منها فدعت لها صفية :
-روحي يا بتي اللهي يسترك و يديكي الصحة ، يدي وچعتني من الصبح ..
لوحت زينة بكفوفها التي تملأها الأساور الذهيبة وقالت :
-دانا بس اتچوز هارون ومش هخليكي تقِلي ورقة مع على الأرض يا صفصف ..
ثم رمقـت ليلة بمكر انثوي :
-ألا قوليلي يا عمة ، هارون عيحب ياكل أيه عشان اطبخوله بيدي ..
ردت صفية التي تفرد ساقها فوق الاريكة :
-كل نعم ربنا عياكلها ..ماعيقولش لا لحاچة واصل ..
-بس آكيد لازمًا تكون له وكلة قريبة من القلب إكده ، تخليني أعشش بيها چوة قلبه..
فتدخلت ليلة التي لم تستطع الصمت على حماقتها :
-هو لازم عشان يحبك تكوني بت عـ.ـر.في تعملي أكل؟! كده يبقى مش بيحب بالعكس واخدك مصلحة ..
تمايلت زينة وهي ترد عليها :
-أقرب طريق لقلب الرجل معدته .. اطبخيله هيحبك ..
بادرت ليلة وهي تقول بعفويتها:
-غلط اقرب طريق لقلب الرجل الرقص .. ارقصيله وهيحبك أكتر ..
حركت صفية شفتها بسخرية :
-وأنتِ ومسلوعة إكده هت عـ.ـر.في تهزي !! بلا خيبة ..
ردت ليلة بعفوية:
-منا معرفش أصلا ، بس ناوية اخد كلاس رقص وهتعلم ..
مالت أحلام لتقاسم الضحك مع ليلة التي استخدmت أحد جمل جوري صديقتها لتنافس دهاء زينة ، فوشوشت لها أحلام:
-يحظك يا ليلة .. بس عتقول كلام صوح ..اتعلمي يا زينة .
وضعت زينة ساق فوق الآخرى :
-منا طبعا هرقص له ، لكن لازمًا لقمة طرية تنزل جوفه ولا هنشفوا معدة الراچل !!
فتدخلت صفية في حديثهم لتساءل ليلة:
-وأنتِ يا غندورة على إكده بت عـ.ـر.في تطبخي ولا فالحة في الذواقة والعياقة وبس !!
نظرت لأحلام لتستفهم منها معنى السؤال :
-لا يا طنت أنا مش بعرف اطبخ خالص ..بس ناوية اتعلم ان شاء الله ..
ردت صفية بسخرية :
-كمان!! ابقى قابليني .. يكون في عون اللي هيتچوزك ..أمه داعية عليـه .
تأرجحت عينيها بحيرة :
-هو أنا هعـ.ـذ.به ولا أيه ياطنت !! بالعكس ده مامته بتحب جدًا وبتدعي له ليل نهار ..
همست لها أحلام :
-سيبك منيها ، الوكل ملحوق عليه .. لكن الدلع مش لأي واحدة ، وأنتِ الدلع كله يا ليلة .
هبت بسعادة إثر مبالغة أحلام في وصفها لتقول بفرحة :
-بجد !! أحلام، أنا ممكن أبوسك صح ….
ظل الحديث متبادل بينهم بين الضحك والهزار ووقوف أحلام بصف ليلة دايمًا ، فجأة اقتحم هارون مجلسهم وهو يحمل لهيب غـــضــــبه وينشره بالمكان ليقف أمام “ليلة” مشيرًا بسبابته بعد ما أخبره هاشم بما فعلته ليلة ونشرها للخبر :
-اسمعي يابت الناس ، تلمي خلجاتك وتعاودي على بلدكم ، وتبوسي يدك وش وضهر أني سايبك تطلعي على رچلك ….
‏وقِيل:
أن الغربةُ لا تقتصر على الفراق؛ بل تجدُ نفسَك غريبًّا بتغيُّرِ النفوسِ عليك، وبجَفوةِ الكلامِ بعد لِينِه، وبالتجهُّم بعدَ البشاشة .. بهتت ملامح ليلة التي تراقب ذلك الشخص الثائر بوجهها والذي لم تتوقع هذا التصرف منه أبدًا لتقول بأعين دامعة:
-أنا عملت أيه ؟!
قد يحدث ويتركك الجميع بدون سابق إنذار ..
وتتقبل الأمر بقلب مؤمن يؤكد لك لو كان خيرًا لبقى ..
وقد تُغادرك كل الأشياء التي أحببتها..
فتصبر وتحتسب وتعلق خيبتك على شماعة النصيب ..
وتستمر الحياة و لا تبالي ولن تلتفت للخلف كأن ما تسرب من حياتك مجرد حبات رملية لا أكثر ؛ ولكن عنـ.ـد.ما حلت الطـــعـــنة الكبرى منك ، أنتَ الذي انحصرت معالم الحياة برُمتها بكونه هنا معي !! و من حينها و ‏أنا فارغ تمامًا ‏فارغٌ وأكثر وحشةً من ‏باب بيتٍ مهجور يخشى العنكبوت أن يسكنـه …
كنت راضيـة بكافة الهزائم وشتى الخسائر إلا أنت .. يا ليتك بقيت وبقي ما بيننا لآخر العُمر …
ولكن لم يتبقى لي منك إلا الحسرة والكثير من الشوق ..
#نهال_مصطفى .
••••••••••••
(‏(كُل إنسان مرسوم على وجهه حِملُه))
‏وقِيل:
أن الغربةُ لا تقتصر على الفراق؛ بل تجدُ نفسَك غريبًّا بتغيُّرِ النفوسِ عليك، وبجَفوةِ الكلامِ بعد لِينِه، وبالتجهُّم بعدَ البشاشة .. بهتت ملامح ليلة التي تراقب ذلك الشخص الثائر بوجهها والذي لم تتوقع هذا التصرف منه أبدًا لتقول بأعين دامعة:
-أنا عملت أيه ؟!
أصابت الرعشات جسدها الذي يصارع المرض ويحارب تخلصه من الأدوية السامة التي تقــ,تــل كل خليه بـه لتكرر سؤالها بصورة أكثر خــــوفًا عنـ.ـد.ما تعرقلت بنظراته التي تأكلها :
-مـ.ـا.تبصليش كده !! أنا معملتش حاجة والله ، آكيد أنت فاهم غلط ..
تدخلت أحلام بينهما :
-حصل أيه يا هارون يا ولدي ، مالك بيها !
ما زال محافظًا على هيئته الثائرة التي لم تلتفت لحالة الذعر التي بدأت تركض على ملامحها :
-بدأنا في الكِدب ؛ يعني مت عـ.ـر.فيش عملتي ايه ؟!! عملتي اللي چيتي عشانهُ !!
ثم نظر لأحلام التي تربت على كتفه وأكمل بحرقة على خداعـه بها :
-الاستاذة سربت خبر اللي حُصل لرقية في الجرانين و البچاحة كاتبـة اسمها على الخبر !!
نزلت الصاعقة على رأسها محاولة استيعاب ما قاله وما اتهمها به وهي لم تقترف ذنبًا ، اقتربت منه بصوت متحشرج وهي تجلي حلقها :
-أنا مش فاهمة أي حاجة !! خبر أيه وأنا هعمل كده ليـه أصلًا !!
ثم تمسكت برأسهـا التي ضـ.ـر.بها الصداع بقوة وأغــــرورقت عينيها بالعبرات :
-أنا معملتش حاجة والله !!أنا مش بكذب عليك ..
وقف كالثور الطائح بكل ما يقابله جاهرًا بصوت ارتعدت له الجدران وهو يفتح هاتفه ليوريها المقال :
-واسم ليلة سامح الجوهري اللي مغرق المقالات !!! الحركات دي تعمليها على حد غيري ولحدت إهنه يا بت الناس مالكيش عيش في بيتي ..وشوفي وكل عيشك بعيد عنينا.
تدخلت صفية التي تعول فوق رأسها :
-وه يا بتي نمدولك يدنا ونفتحولك بيتنا وأنت تفضحينا .. ديه آخر الزمان !!
فأكملت زينة التي تعشق موالد اللطم :
-قولت لك دي كهينة يا عمة محدش صدقني !!أهي چابت وحطت على روسنـا .
ثم نظرت لهارون الذي رق قلبـه وأكملت :
-هارون دي لازمًا نتاويها في الچبل ، دي خـ.ـا.ينة .. ملهاش عيش في دوارنا .
جرى صدى صوت اسمها بمسامع أحلام التي ردت اسم الجوهري كثيرًا وظلت تتأمل بربط الصلة بينها وبين ” رفعت الجوهري ” غاصت في دوامة فكرها ،جاء هيثم راكضًا بعد ما اطلع على الحدث وما وقع عليهما ليقف بصف ليلة التي أحس بأن هناك شيء مبهم ورائه ، جاء راكضًا من الخلف ممسكًا بكتف أخيه :
-هارون ما يمكن حركة من بتوع شريف أبو العلا .. نجس ويعملها .
ولكن ليلة التي غرس الخــــوف أنيابه بين خلاياها العصبية وهي تخر دmـ.ـو.ع عينيها لتقف مدافعة عن نفسها بنبرتها المهزوزة وهي تعطي له هاتفه بعد إطلاعها على المقال :
-أنا لو عايزة أعمل كده وأشهر بيكم في الجرايد زي مابتقول ، مش هعمل كده وأنا قاعدة لسه في بيتك !! وبعدين هعمل كده ازاي وأنا اللي اترجيتك عشان تقف مع المسكينة دي !!معقولة هقوم افضحها !!
ثم تلعثمت قطرات الدmع التي رسيت على حواف ثغرها وهي تلوح بكفها المرتعش وأكملت :
-لو هعمل كده مش هكتب اسمي على المقال !! وانا لو كنت عايزة اشهر بيك زي ما بتقول كنت سربت خبر أنكم بتاجروا في الآثار للدنيا كلها، لكن أنا طلعت هبلة وكنت هودي نفسي في داهية عشانك ..
ثم كفكفت عبراتها بهستيريا وهي لا ترى إلا ضباب أمامهـا :
-ومتقلقش يا هارون بيـه أنا ماشية ، ومش هتشوف وشي تاني ..
ثم ترجته بعينيها المحمرة وقالت بهمس يخاطب عينيه وحده :
-بس أنا والله معملتش كده .. ومش أنا اللي أخون ناس أكلت في بيتهم عيش وملح .
تشبثت أحلام بكفها وكأن قلبها أوحى لها بأنها عثرت عما تبحث عنه طوال الأعوام الماضية لتهون العيش على زوجها الذي كان يحمل وزرها عمرًا .. وواجهت هارون :
-ليلة مش هتمشي يا هارون ، وهي ضيفة خليفة العزايزي ، لما يرجع أبقا يحكم بنفسه ..
نبتت زهور الرقة بقلبه ولكن حشتها خناجر تمرده التي لا تود أن تشفق عليها خــــوفًا من عـ.ـا.قبة قلبه وراء انسياقه لحديثها يكفي أنها شجعته يقف بوجـه أعرافهم لأول مرة بحياته .. تزحزحت عينيها عنه وهي تتطلع لأحلام بخزى :
-أنا ماشية يا طنت .. ملهوش لزوم .
تدخلت زينة بحنق وهي تربت على كتف هارون بشمـ.ـا.تة :
-عين العقل يا عمدة ، من يوم ما چات وأنا أقول لك البت دي مفيش من تحت راسها عمار .. وو
حدجها هارون بحدة :
-مش عاوز أسمع ولا كلمة ..اكتمي يا زينة .
فعارضه هيثم :
-هارون، ما ينفعش .. دي ضيفة يا أخي ؟؟
صرخ بوجه أخيه وهو يتحاشى النظر إليهـا :
-هيثم ، كلمتي اتقالت ومحدش هيكـ.ـسرها ، تقعدش في بيتي ساعة زيادة ..
كيف يكون المرء سببًا في إنقاذِ أحدِهم من ضياعِ النفسِ، وكلالةِ الروحِ وتقديم وسام العيش وفجأة يجعله يتجرع السُم بدون رحمة ليقضي على كل ما قدmه ، كيف !!
دب خنجر إهانته لها بصميم قلبها فقسمه لنصفين ، حُجبت الرؤية أمامها فلا ترى إلا أمواج متحركة وصوت صاخب يضـ.ـر.ب برأسها ، اختل اتزانها وضعفت قواها ومع أول خطوة لها لتغادر موطن ذُلها من أمامه تراقصت جفونها السابحة في بِركة الدmع لتسقط متغيبة عن وعيها فكانت يديه أول الأيدي التي تلقتها قبل أن يرتطم جسدها بالأرض .. ألتهمها ذراعه من خصرها تحت صراخ أصوات النسوة حوله فحملها بدون تفكيـر وركض بها نحو غرفة أحلام بقلب يلهج خــــوفًا ، لحقت بهِ هيام التي جاءت على أصواتهم المرتفعة ثم هيثم ثم لحقت بهم أحلام التي تسير بخطوات عرجاء .. ولت زينة لعمتها بغل :
-شايفة الكهن يا عمتي !! هي اتعودت على اللفح ولا ايه حكايتها دِّي !! شوفتي ولدك اتلقاها كييف على قلبه هو مش لساته كارشها !!
صرخت صفية بوجهها :
-خفي نغج يا زينة ، راسي فيها اللي مكفيها بعد اللي عملتو البت دي !! خلت سيرتنا على كل لسان … وياعالم مخبية أيه تاني؟!
ضـ.ـر.بت زينة على فخذها بغـ.ـيظ :
-وربنا المعبود البت دي قدmها نحس و چاية وناوية على خراب وابقي قولي زينة قالتها ياعمة ….
صاحت صفية بغلب :
-يكش تمـ.ـو.ت وتچيبلنـا نصيـبة هي التانية قوليلو يمشيها ونخلصوا …
وصل هارون لسريـر ” أحلام ” وهو يصـ.ـر.خ بهيثم أن يهاتف الطبيب على الفور ، انحنى ليضعها بمكانها وهو يلهث من شـ.ـدة الخــــوف عما أصابها ويعاتب نفسه عن انفعاله بوجهها وإهانته .. انسحب ذراعها من حول رقبته ببطء وكل جزء بها ثابت إلا انهيار وادٍ العين المنجرف على خديها، وقعت عيناه على رقة ملامحها النائمة فنهشت قلبـه نـ.ـد.مًا وعتبًا ، جلست هيام بالناحية الآخرى وهي تتحسس وجهها وكفوفها لتقول :
-هارون دي چسمها متلچ !!
شـ.ـد الغطاء فوقها فساعدته هيام ، ثم أمرها :
-هاتي غطى تاني من الدِلاب عندك ..
جاء هيثم راكضًا وهو يقول :
-عمار قال ادوها من الدوا اللي كتبه لحدت ما يچي ..
ألقى هارون نظرة شفقة على ملاكه النائم الذي استقوى عليه اليوم وهذا آخر ما كان يتوقعه أن يصدر منه لها ، في معجم الصمت كل نظرة نحو الألــم تعادل صرخة ، جهر بوجه هيثم آمرًا :
-كلم أخوك هاشم واعرف لي مين ورا الخبر ديه يا هيثم ..
وبخه بضيق :
-ما كان من اللول ، ولا هي جعجعة وخلاص !!
انضمت أحلام لموقفهم لتُطيل النظر بعيني هارون التي تُبحر نـ.ـد.مًا وتقول بيقين وهي تربت على كتفه :
-البت غلبانة ومتعملهاش يا ولدي !! اسمع من أحلام .
اكتفى بقوله :
-خلي بالك منيها يا أحلام لحدت ما الداكتور يچي ..
ثم هرب من سطو نظرات أحلام التي تفضح أسراره المدفونة قبل أن يعرفها هو عن نفسـه ، تابعه هيثم وهو يوصي هيام :
-لما تفوق كلميني …
فنظر لأحلام بحنق :
-بذمتك قده البت الغلبانة دي عشان يخش فيها زي القطر إكده .. قده يا أحلام وقد هباته وچُعارته !!!
ردت أحلام مغلوبة على أمرها :
-ساعة شيطان يا حبيبي ، روح استعچل الداكتور البت حالها يقطع القلب ..
ولن أجنِ بحياتي ذنبًا إلا أنَّي ذو سُلطان
وأنَّكَ لي دُونَ الأنام مُحرمًا !
إعذرن ذلي وزلاتي فالخطأ في  عـ.ـر.في لا يرحمُ ..
بحـ.ـز.ن لا يشبه الغيـم ، يحترف فيه البكاء بدون دmع وهو يعض على قلبه نـ.ـد.مًا إثر تهوره واندفاعه بوجهها دون تيقنه ، ربما لأن الصدmة لم تمهله فرصة للتفكير ، أو ربما كان عقله يحتج له كي يتخلص من وجودها قبل تورطه فيها وفي عينيها ، خرج لحديقة منزله وهو يتشاجـر مع طوب الأرض ويركله هنا وهناك ويقبض على جمر الذنب كمن بقلبه النار وبفمه الوقود وهو يحترق بينهما …..
•••••••••
فرغ هِلال من إجراءات عقد قرآنه بواسطة شيخه الأكبر ومُعلمه ، تكفل كبير المشايخ بوكالة العروس ليجوزها له في ظل وجود الحكومة التي شلت كلمة المجلس ، وفي ظل هروب بكر الذي لم يعثروا عليه حتى الآن .. فجميع السُبل هيئت العروسين لبعضهما ..
أصرت رقية أن تعود لمنزلهـا رافضـة أمر الذهاب مع هلال وأهله ، فأطاع أمرها بهدوء في ظل المجلس بعد ما أكد على أخوته بألا يخبرون أهل بيته الآن .. وصل الجميـع لبيت أبيها وتحرر هلال من قيد التطلع لها بحرية فالآن أصبحت زوجته وملكه ولا تخص أحد غيره ..
جلست رقية على الأريكة وهي تتحاشى النظر نهائيًا لهلال الذي لم يخجل لإطالة النظر إليهـا .. اقتربت خالتها منها وهي تحدثها بحنو :
-يابتي الله يهديكي ، قومي روحي مع چوزك ، هتقعدي لروحك إهنه كيف !!
فأكملت هاجر :
-حبيبتي ، قومي نروحوا بيتنا وأنت هتقعدي في أوضتي متخافيش وكُلها يومين وهنرجعوا أسيوط ، لكن قُعادك لروحك إهنه غلط عليكي ..
أصرت على موقفها والدmع يتقطر من مُقلتيها :
-أنا مش هسيب بيت أبوي يا هاجر .. وو
ثم رفعت جفونها لهلال الواقف كالحصن المنيع بوجهها وأكملت بـ.ـارتباك :
-ووافقت على چوازي بس لغاية الغُمة دي ما تنزاح ، أنا مش هقدر أقف بطولي وو بس لكل شيء له آخر ..
عقد ذراعيه وراء ظهره بهدوء متقبلًا تلميحاتها الثقيلة بسعة صدر وقال بنبرة حازمة :
-هاجر خدي خالتك أم بدر وأطلعوا هاتوا حاجات رقية من فوق ..
وقفت رقية بوجهه لتعارضه بنبرة مدبوحة تحمل التمرد والترمد في جمر الحـ.ـز.ن :
-أنا مش هروح لحتـة قُلت ..
رفع حاجبه بتريث ليحدثها بالعربية واللغة المقربة لقلبه كأنه يعلن بكناية ما عن درجة قربها له :
-حسنًا ؛ سنبقى هنـا .
ثم نظر لهاجر وخالتها بنظرة ثاقبة وهو يمد لها مفتاح السيارة :
-هاجر خدي أم بدر وخلي حد يوصلكم للبيت.
ثم رمق رقية بتلك النظرة الحاسمة :
-على أي حال ؛ أنا لا أفارق زوجتي ..
تأرجحت عيني هاجر التي تكتم الضحك الغير مناسب للوقف وهي تهمس لنفسها سرًا من وراء أناملها الموضوعة على شِدقها :
-فينك يا صفيـة تشوفي الهنا اللي أنا فيه …
انفجرت رقية بوجهه بـ.ـارتباك واضح :
-كييف يعني !! أنا وأنت نقعدوا بروحنا !! مستحيل ..
ثم تلعثمت الكلمـ.ـا.ت بحلقها :
-شيخ هلال ؛ لازمًا تعرف أن الوضع ديه مؤقت ،فبلاش تعيش في الدور ..
ثم نظرت لهاجـر وقالت بضيق وهي تزيح عبرات حـ.ـز.نها :
-هاچر خدي أخوكي وروحي أنا اللي فيّ مكفيني والله ما قادرة أناهد قباله ..
كادت هاجر أن تتحدث فابتلعت كلمتها إثر نظرة أخيها الحادة وهو يرفع سبابته لينهي الأمر ويناديها باسمها رافعًا تكليفها بـ لقب الأخت :
-رقية ؛ هناك أمران ليس لهما ثالث ..
ثم تقدm منها خطوة وهو يفترس ملامحها الحزينة والتي يود أن يضمها ليهون عليها عناء ما مرت به :
-أما تيچي معاي على بيتي ، يا أما هاجر وخالتك هيمشوا ومحدش هيقعد معاكي غيري ..
انفجرت بوجهه وهي تتأهب للبكاء معاتبة :
-أنا اتچوزتك عشان الحِمل يخف من فوق قلبي مش تزوده ..
-الحِمل وصاحبته مسئوليتي لا تتدخلين بالأمر ..
اتسع بؤبؤ عيني هاجر التي تراقب أخيها في ثوبه الجديد فأرسلت له نظرة ضاحكة وساخرة على أمره فاستقبلها بنظرة حادة من عينيه أخرستها وملئتها رعـ.ـبًا لتقول بقلق:
-فضينـا عاد يا رقية متعصبهوش ، يا تيچي ، يا يقعد .. شيخنا خُلق ضيق وما عيحبش المناهدة ..
تدخلت خالتها متوسلة وهي تربت على كتفها :
-أنا حاسة بوچعك يا حبيبتي ، بس الشيخ هلال چوزك وهو الأولى بيكي عن أي حد .. روحي بيت چوزك يا حبيبتي وهدي سرك وريحي قلبي وقلب أمك في تُربتها ..
كلمة ” زوجك ” التي اندلعت من فم الخالة بعفوية أصابت قلوبهما في مقــ,تــل ، كل واحد منهم نظر للآخر بنظرات عجيبة لا يدركها عقل بشري ولكن ثمة لغة القلوب التي تجمع أحبتها بطرق لا يتقبلها عقل ولا منطق ، حرك هلال كتفيه متحمحمًا :
-أنا في العربية .. ساعديها يا هاجر وقفلوا البيت زين …
بعد محاولات عديدة من التوسلات والكثير من البكاء آخيرًا اقنعت هاجر صديقتها بالمجئ معهم للبيت ، لملمت حقيبة ملابسها بفتور وهي تودع أرجاء منزل أبيها الذي لا تطيقه بدون صوت أمهـا وهي تتقطع في صمت وهبطت مع هاجـر لهلال الذي ينتظرهم بالسيارة .. ما أن رأهم من فتحة الباب منع الخفير أن يقترب منهم ونزل بنفسه ليحمل لها الحقيبة ويضعها بمؤخرة السيارة .. ودعت رقية أرجاء بيتهم بأعين محـ.ـز.نـة ، انتظر هلال صعودها لسيارته تحت حقل النظرات المتطايرة .. سألتها هاجر بهدوء وهى تغمز لأخيها الواقف بثبات :
-تحبي تقعدي فين !! أقعدي من قِدام ؛ أصلو الكرسي القدmاني بيوچع لي ضهري وو
مدت رقية كفها لتفـتح الباب الخلفي بصمت وتجلس بالخلف بمكانها القديم ، فأشار هلال لأخته أن تدعها على راحتها .. تحمحم بخفوت وهو يستقل السيارة ويطلب من الخفير أن يوصل خالتها لقعر دارها .. ما استقل سيارته وهو يرتل بعض الأدعيـة ثم شغل المسجل الصوتي على سورة ” يوسف ” بصوت عـ.ـذ.ب وضبط المرآة الأمامية على صورتها ليطمئن عليها طول طريقهم .. كان الطريق قرابة الربع ساعة بين المنزليـن والتي اغتنم فيها هلال النظرات بعدد ثوانٍ المسافـة الفاصلة .. وفي ظل الــســكــيــنــة والهدوء الذي يُعم طريقهم والخالي من مزاح هاجر الذي لا يتناسب مع الظرف الواقع عليهما فلجأت للصمت مكتفية بمراقبة النظرات .. فجأة فزعن الفتيات إثر صوت قوي تسرب لقلبهن بسبب طفل صغيـر قام بإلقاء حجرًا على سيارة هلال فشُرخ زجاجها ..
صف هلال سيارته بعجل ليرى ماذا حدث فجاة ، نزل للطفل الذي عاتبه قائلًا :
-ليه كده !!
لم يهابه الطفل صاحب العشر سنوات وهو يقول :
-أمي قالت اللي يكـ.ـسر العرف نكـ.ـسروله راسه ، وأنت كـ.ـسرت أعرافنا .. يبقى أنت مالكش عيش وسطينا ..
استعان على صبره فهو يعلم جيدًا ما سيواجهه الأيام المُقبلة وجثا على ركبتيه لمستوى الطفل :
-ألا يُعلمنا رسولنا أن الضرورات تبيح المحظورات ، بمعنى لو كنت تايه في صحرا ومش معاك أي مية تشربها ومفيش قصادك غير كاس خمر وانت هتمـ.ـو.ت من العطش خلاص مش قادر !! هل لو شربته تبقى أنتَ مذنب !!
اتسعت حدقة عين الطفل محاولًا استيعاب ما يقوله استاذه ، فربت هلال على كتفه وقال :
-كلا ؛ فهو معصوم من الذنب .. لأنه مضطر .. ألا أخبرك بأن ديننا دين يسر ولست دين قوانين بل دين قلوب تنبض بالحياة!!
ثم مسح على رأس الصغير بحنان :
-روح قول لأمك أن لكل قاعدة شواذ .. واحكي لها اللي قولت لك عليها .. وقولها الشيخ هلال مكـ.ـسرش أعراف ، هو اتچوز العروس اللي تستاهله على سنـة كتاب الله ورسوله… هو معملش حاچة حـ.ـر.ام ..
لقد كانت لديه الطريقـة الساحرة لمواساة جميع الجروح بطريقة مُبهرة، كأنه جاء طبيبًا لأجواعها ولست حملًا مضاعف لها .. كانت تتلصص النظر والسمع له بطريقة رفعت من شأنه بعقلها ، بطريقة جعلتها تتساءل عن نوع الخير الذي فعلته بالحياة كي تُرزق برجل حكيم حنون مثله .. ما أن لحظته يقترب منهم قفلت النافذة بسرعة وتكورت ملاصقة بالبـاب لا تراقبه إلا بصمت وأعين يملأها الحيرة ….
•••••••••••
انتهى عمار من فحص ليلة بعد ما أعطاها حقنة مهدئة ، ثم قفل حقيبته ووجه حديثه “لهيام” الواقفة بجوارها وقال بتلك النظرات التي يفيض منها الإعجاب خاصة بعد ما علم بقصتها من “نجاة” وكيف انهار زواجها قبل إتمامه وهو يقول بعتب :
-مش أنا مأكد عليكم بلاش الزعل .. قصرتي معاها ليه !
صوبت “هيام” أنظارها لأخيها الواقف بعيدًا يراقب ليلة النائمة بنظرات غريبة، بللت حلقها بربكة فتدخل هيثم وهو يعفيها من مهمة الرد :
-معلش يا داكتور تقول أيه ، بعيد عنك في تور فلت في البلد وخش فيها من غير أحم ولا دستور !! لكن عندي أنا دي تصحى بس وأنا هخلي بالي منِها زين ..
تكورت يد هارون على جمر غـــضــــبه المدفون وغيرته المجهولة من أخيه ليلتفت لسؤال أحلام :
-يعني هي زينة يا ولدي ، طمني عليها ، دي فجاة طبت من طولها وزي ما أنت شايف ..
لملم عمار عدته وهو يقول :
-المشكلة يا خالة أن محذرهم الصبح من أي انفعال او ضغط نفسي هي مش متحملة ، لكن شكلها اتعرضت لصدmة قوية متحملتهاش فقدت وعييها .. عمومًا هي ساعة بالكتير وهتفوق ..
قاطعه هيثم وهو يرمق أخيه بسخط :
-ربنا يجازي اللي كان السبب يا عمار يا خوي ..
تحمحم هارون بنفاذ صبر وهو يبرق لأخيه كي يكف عن عبثـه ، ثم نظر عمار بوجهه المبتسم ليقول “لهيام” موصيًا وليلطف معها الحديث :
-الضيفة مسئوليتك أنتِ عاد ، لو حصلها أي حاچة المرة الچاية هقول لك أنتِ السبب ..
أحمر وجه هيام بـ.ـارتباك وهي تتحاشى النظر له وتشغل نفسها بأي شيء آخر :
-وانا مالي !! كنت عملتلها ايه وو
قطعه هيثم وهو يرتب على كفته :
-قول وسمع الناس يا داكتور ..
ثم همس له بصوت مسموع :
-حقا اللي يزعلها يبقى معندوش قلب ولا رحمة بعيد عنك .. دي ضيفة والمفروض تتشال فوق الراس .
فاض صبر هارون من عبث أخيه فتدخل برياح غـــضــــبه العاتية ليشكر عمار قائلًا :
-تعبينك معانا يا داكتور ..
وثب عمار حاملًا حقيبته وهو ينظر لهارون قائلًا :
-عاوزك برة يا عمدة ..
رافقه هارون الخطى وكل أسئلته دائرة حول ليلة وحالتها الصحية حتى وقف الاثنان على أعتاب الباب وهو يقول :
-أستاذي رد عليّ وقال لي الأدوية دي خطر وكلها أدوية جدول ، وبعد فترة من شربها بتدmر خلايا المخ وتدخل المريـ.ـض في حالات نفسية صعبة جدًا ..
حلت الصدmة على ملامحه بجبين منكمش وتلهف قلبـه خــــوفًا عليها وهو يقول بعدm تصديق:
-كيف !! المفروض أمها اللي كانت تديها الأدوية دي !! يعني أيه !!
زفر عمار باختناق :
-ده اللي مجنني فيه حاجة غلط !! والمصـ يـ بـةأحنا معندناش معلومة هي بتتعاطى الأدوية دي ليها كد أيه !! انسب حل دِلوق انها مترجعش للأدوية دي نهائي .. والدكتور كتبلها شوية أدوية بديلة تخفف أعراض الانسحاب منها.. بس قال إنه لازمًا يشوفها ..
رد متلهفًا :
-فين عنوانه ونروحوله !!
-عنوانه في مصر ، بينزل الصعيد يومين في الأسبوع ، هحجزلك معاه ونشوفه ..
ثم عاد ليؤكد عليه :
-بلاش تتعرض لأي ضغط هي مش متحملة كفاية وچعها اللي عايشاه ..
جاءت زينـة حاملة صنية الشاي والماء وتقول بعتب :
-على فين يا داكتور ، طب والشاي !! يا مُري عندنا بتين أنتَ عاوزهم يبوروا !!
دار لها “عمار” معتذرًا عنه وهو يكتفي بشرب الماء :
-سامحيني لازمًا أعاود العيادة مفيهاش حد ..
ثم تبسم بوجهها :
-ومحدش هيبور يا ستي ، لو أخوات جناب العمدة بـ.ـاروا أومال مين اللي هيتچوز بس !!
ابتسمت زينة بعـ.ـبـ.ـط المغــــرور وهي تقول :
-خطوبتي أنا وحضرة العُمدة قريب ولازمًا تنورنا يا داكتور ، ولا ايه يا هارون !!
رد عمار بامتنان :
-فرحة العمدة فرحتنا كلنا .. بالاذن انا ..
رمق هارون زينة بحدة كي تخفي شعرها الخارج من تحت حجابها بضيق على وجهه وهو يكظم غـــضــــبه منها ومن حديثها الزائد عن الحد وبالأخص خبر خطوبتهم الذي لف حبل الغـــضــــب حول قلبه ، ودع عمار بعرفان ثم نظر لهيثم المقبل من بعيدًا:
-ما تشوف هلال أخوك فينه مرچعش لدلوك !!
جاءت صفية من المطبخ وهي تقول :
-الوكل جهز ، أنتوا مش ناويين تتغدوا !! من ساعة البت الفقرية دي ما چات وأحنا متچمعناش على غدوة ..
فاتبعت زينة قائلة :
-قدmها شوم يا عمتي .. بومة .
قال هارون بضيق:
-أعملي وكل ليها ياما وخلي أحلام توكلها ..
فتدخل هيثم بحماس كي يزف خبر زواج أخيه ممسكًا بذراع أخيه :
-ألا قوليلي يا صفصف ، أنت طابخة أيه ؟! عاملة حمام !! بط !! كوارع !! لحمة ضاني .. أي وكلة من اللي يرموا العضم دولت !!
وبخته صفية بذهول :
-وأنت مال عضمك مين بعتره ياحزين !!
رد بعفوية :
-عضمي أنا حديد ، لكن عضم الشيخ هلال محتاج ترميم ولا أيه يا عمدة !!
حدجه هارون كي يخرس وألا يكشف سر أخيه فأكمل كلامه بعفوية :
-وهارون كمان محتاچ يترمم !!
فعارضته زينة بوقاحة وهي تقول بدلال :
-طبعًا مش عريس وداخل دنيا چديدة وكله عشاني وو
فقاطعها هيثم بسخرية :
-لا أنتِ مش مهم ، ده كله عشان ليلة اللي كل هبابة تطب منينا دي ، عاوزالها شيال عفي .. وهارون أخوي ما قصرش..
أزعقه هارون بحرقة لتطاوله وعلى الأقرب لأن الجملة لمست موطنًا حساسًا بقلبه :
-ما تحترم نفسك يا زفت ..
انضمت لهم فردوس بقلق :
-البت اللي كيف فرخ الحمام النمساوي عاملة ايه !! البت دي محسودة من يوم ما چات خلي الشيخ هلال يرقيها ..
حك هيثم رأسه :
-يابت الأيه يا دوسة جبتيها كييف دي ؟!! فرخ حمام على أبوه !!
ثم قال بحماس :
-ما ارقيها أنا !! هو هلال هيعمل أيه زيادة عني !!
لوحت له صفية بعتب :
-ولا يرقيها ولا يحـ.ـز.نون تاخد عفاريتها وتحل عنينا إحنا مش ناقصين نصايب ..
فجاءت زينة بغنج لتعاتبـه بعد ما كان متأهبًا للذهاب :
-اهو هارون زين ما عمل طردها وريحنا .. بس مالكش حق يا هارون ، هي كل ما تطب مننا تشيلها على قلبك وقدامي !!طب دانا حتى عغير طب راعي مشاعري .
تدخل هيثم بمزاح :
-تولع البومة ومشاعرها ، راعي فرخ الحمام النمساوي أنقح وأحلى ..
صرخت زينة بوجهه بضيق لتشكو له:
-وسكت هيثم يا هارون ، كُل كلمة اقولها يتمقلد عليها !! قوله إني هبقى مراة الكبير ومقامي من مقامه .. ولا أيه !!
انفجر هارون بوجههم بغـــضــــب يتطاير من شـ.ـدقيه وهو يغادرهم :
-ما تخفوا أنتوا الاتنين وبطلو خوتة !!
هنـا فوجئ بهلال بوجهه يقف على أعتاب البيت ، تراجع عن المغادرة وأحس أن وجوده لابد منه خاصة بوجود هاجر ورقيـة ورائه ، تحدث الاثنان بالأعين حتى أفسح له مجالًا بالدخول .. دلف هلال ثم وقف بساحة البيت منتظرًا دخول أخته وعروسـته ، هرولت صفية نحوه وهي تنفض ملابسه :
-حمدلله على سلامتك يا حبيبي ، جعان أجيب لك تاكل .. تلاقيك اتهديت في الشغل النهاردة..
حك هيثم ذقنه الخفيفة بتوجس :
-العركة شكلها هتدور ما هي بالدور يا ولاد خليفة ولا ايه !! هارون أنا تعبت ..
لكزه هارون بجمود :
-فكرني احش لك لسانك دهوت !!
-وانا كنت عملت ايه !
حدجه بحزم :
-أبعد عن الاستاذة ياهيثم وشيلها من راسك !!
وبخه هيثم :
-سايبلك البت أمانة تخلص عليها يا هارون كدك دي بالذمة !! يخربيتك !! ده انا هتنقط منك وو
فتقدmت زينة بعفوية لتقطع حديث الأخوة :
-خليت لك الأوضة تبرق من الحلاوة .. مش هيدب فيها مقشة شهر بحاله .
عقد ذراعيه أمام بطنه وهو يرفع رأسه بشموخ :
-لدينا ضيفة جديدة ..
هزت صفية رأسها ببلاهه :
-وماله فوق راسي يا ولدي بس هي مين !!
رفع هلال أعينه صوب الباب الذي ظهرت منه هاجر بصحبة رقية التي تتمسك بيدهـا وتنتفض من هول الموقف، طالعتها صفيـة بذهول وهي تقول بتلقائية :
-وإحنا ناقصين شبهة ياولدي وو
قاطعها هلال بحزم وهو يعلن أمام الجميع وبالأخص “أحلام” و” هيام ” الواقفات عن بُعد ليقول :
-الدكتورة رقية أبو الفضل ، مرتي..
دبت زينة على صدرها بأعينها البراقة وهي تدنو من هارون لتعارضه بأعينها ؛ أما عن صفية حلت نازلة الغـــضــــب فوق رأسها بعدm فهم :
-وماله تنورنا !! ضيفتك فوق راسنا كُلنا ووو بس ..
فتدخلت زينة مصححة بقهرة :
-ده عيقولك مرته يا عمة !! اتچوزها .. هلال اتچوزها ومن ورانا وكمان چايبها تعيش وسطينا !!!
رمقها هارون بنظرة تحذيرية:
-في وجودي مسمعش نفسك يا زينة انتِ فاهمة!
وضعت كفها على فمها بطاعة:
-حقك عليّ خرست أهو …
تفقدت صفية الوجوه حولها والذي لا يبدو عليهم الصدmة وقالت بعدm تصديق :
-مرتك كيف!!! يعني أيه مرتك .. !!
ثم نظرت لهارون :
-أنتَ كنت عارف ؟
فأفحمها هيثم :
-وأحنا كُنا شاهدين على الچوازة ، ماهو عشان إكده عسألك طابخة أيه عندينا عريس عقبالي يارب وو
صرخت صفية بوجهه :
-اسكت !!! اسكت !! لا في حاچة غلط !!
ثم نظرت لهلال وهي تحت تأثير صدmتها لتصرخ بوجهه :
-وملقتش غير دي يا هلال!! جايب لنا واحدة سـ …
قاطعها هلال ولأول مرة صوته يعلو على صوته أمه ؛ وبالبيت عمومًا :
-كلمة زيادة في حق مرتي مش هعمل اعتبـ.ـار لمخلـوق خلقه ربنا .. رقية مرتي واللي هيقول كلمة في حقها هيلاقيني قصاده ..
فأتبعت صفية بعناد :
-عتعلي صوتك على أمك يا هلال !! دا أنت عمرك ما عملتهـا .. طب يا انا يا هي في البيت يا هلال وو
أخرسها هارون مناديًا :
-أمـاا
فتدخلت أحلام لتضع لهما حدًا بصفتها سيدة البيت :
-ولا كلمة يا صفية .. أنتِ هتنسي روحك ولا أيه !! البيت له كبير وهو اللي يقول مين يقعد ومين ما يقعدش ..
فتدخل هارون قائلًا :
-والحج خليفة أمر مراة هلال اخت تالتة لينا وفوق راس الكُل …
فوبختهم صفيـة بحرقة و جهل :
-كُلكم اتفقتوا عليّ !! أنا اللي غلطانه دِلوك !! طب يبقى تقعد وأنا اللي ماشية يا هلال .. عشان تبدي أمك على واحدة اتكشفت على راجـ.ـل غيرك وخد غرضه منيها وو…
غلت دmاء الغـــضــــب بهارون الذي لم يتقبل حرفًا على زوجة أخيه مناديًا بصوته المريب :
-صفيـة خلصنا !!
هنا لم تتحمـل رقية كلمة زيادة ، فتركت يـد هاجر عنوة وتأهبت للفرار من سـ.ـجـ.ـن النظرات التي تعصر قلبها والكلمـ.ـا.ت التي تقــ,تــلها ألف مرة .. لم يمنحها هلال الفرصة للمغادرة بل قطع المسافة إليها ركضًا لتغلف يده خصرها على أعتاب الباب ويوقفها جبرًا :
-أنتِ مش هتروحي لمكان..
صرخت متألــمة ببكاء محاولة فك ذراعه من حولها :
-سيبني .. أنا مكنتش عاوزة اتو.جـ.ـع تاني كفاية اللي أنا فيه .. سيبني الله يرضى عنك روحني .
تحول في حضرتها من الشيخ الهاديء المسالم لـ حارس شخصي على قصر حبيبته ، لهثت الكلمـ.ـا.ت بفاهه وهو يقول لها بحذر بصوت لايسمعه غيرها وهو يخر بدmعة من طرف عينه :
-دي حربنا أنا وأنتِ .. ماينفعش تهمليها وتداري ورا الحيطان ، أنتِ معملتيش حاچة تخافي منيها ..
ثم انحنى ليحملها بين يديـه رغمًا عنها ويحدجها بنظرة حادة ألا تُجادله ليخترق صفوف الجميـع غير مهتمّا بأحد مدافعًا عن زوجته التي باتت أمانته من هذه اللحظـة متجاهلًا النظرات والأفواه الملتوية متجهًا إلى غرفته تائهًا في صحاري ملامحها التي ظل حائرًا يتساءل كيف يمكنه نبت الزهور من بينهمـا .. يبدو أن نور وجهه المشاع خدرها جعلها تنسى كيف يكون الكلام .. فجاة أصبحت بين يديه معلقة بنجوم عينيه التي تُربكها كثيرًا وهي لا تدري أي مرسى رسى بها هنا !!
أكمل هلال طريقه دون أن يلتفت تاركًا الساحـة لأخيه الذي يشتد عضده به في مواجهة التيـار ، ولقد كان وجهه بمحله وهو يقف بوجه امه محذرًا :
-رقية من الليلة بتك التالتة ، وأي كلمة تزعلها محدش هيزعل غيرك ياما ..
صرخت صفية بوجهه:
-لا انت عمدة على الكل لكن مش هتمشي كلامك عليّ !! لا انا مش هقبل بالبت دي في بيتي يا هارون، يجي أبوك ويشوف صرفة !
ثم أخذت تندب على وجهها وتلطم الخدود:
-يافضيحتك يا صفية اللي ما ليها آخر !! يا حـ.ـز.نك يا صفية !! الواد اتچوز بواحدة فضيحتها على كل لسان !! طب كيف اتچوزها كيف كـ.ـسروا العرف كيف !! ياشمـ.ـا.تة ام صديق والبلد فيكِ يا صفية !!
نظر هارون لزينة وأكمل :
-خدي عمتك اوضتها وعقليها يا زينة …
-تعالى يا مقصوفة الرقبة كله منك ..
فجرت صفية غـــضــــبها بوجه “هاجر” وهي تمد يدها لتنالها انتقامًا فاحتمت بكتف أخيها :
-الحقني يا هارون دي هتمـ.ـو.تني ..
فتدخل هيثم الذي يراقب أخيه بذهول حتى وصل غرفته ليقول بعتب :
-فضينا ياما ، البت ملهاش ذنب وغلبانة .
-كلنا غلابة على باب الله !! وأحنا كمان ملناش ذنب نشيلو عارها !! يا مرك يا صفية !! يا حـ.ـز.نك !! طب أودي وشي من الناس فين !!
دار هارون لأخته هاجر قائلًا :
-خشي أوضة أحلام ، شوفي أدوية الاستاذة واديهالها بانتظام يا هاجر ..
ثم رمق أمه بحدة :
-واللي يفكر يزعلك قوليلي بس ..
أخذت زينة عمتها التي لم تكف عن الصراخ والنواح والتعداد الذي لم يفارقها :
-ربيتي ياخايبة للغايبة ..
همست زينة بقهر لعمتها :
-دانا روقت لها الأوضة بنفسي ياعمتي !! شوفتي الحـ.ـز.ن ، كانت يدي اتقطعت ولا روقتها لواحدة خاطية زي دي !! ولدك شكله كان ناويها ..ياحـ.ـز.نك يا عمة !! أوعاكي تسكتي !! دي وصمة عار..
دنت أحلام من هارون الذي يسب نفسه سرًا وتهامست معه مردفة :
-هارون ؛ أي أصول الچوازة دي ؟! هلال عمل إكده عشان يستر على البت !!
زفر هارون بتعب :
-عمري ما كُنت هوافقه لو ديه هدفه ، لكنه رايدها يا أحلام وشوفت ده بعيني ..
تنهدت بـ.ـارتياح :
-ريحت قلبي يا ولدي !! طالما رايدها واختياره يبقى الله يهنيـه بيها ويجعلهاله الأولى والآخيرة .. أمها تربعن وقيموا فرحهم زي ما ربنا قال .
هنا قطعه صوت رنين هاشم الذي لم يمهله الرد على أحلام ؛ اكتفى بهز رأسه وهو يغادر مستئذنًا :
-راچع لك يا أحلام !!
ركض للخارج وهو يرد على أخيه بلهفة :
-هاه يا هاشم وصلت لحاچة ؟!
كان يقود سيارته مرتديًا نظارته الطبيـة عائدًا لرغده ، فقال :
-زي ما اتوقعت يا هارون .. ملعوب من شريف أبو العلا وهو اللي سرب الخبر !!
لطخت معالمه بحمرة الغـــضــــب وهو يجز على فكيه وهو يحمل هَم ليلتـه التي إهانتها :
-ااه يا وِلد الـ**** .. ورب الكعبة ما هعديهالك وهتشوف ..
ثم أتبع قائًلا ليخبره :
-صوح هلال أخوك اتچوز يا هاشم ..
فرمل هاشم سيارته مفزوعًا بسخرية:
-هلال!! أنتَ عتتكلم چد !! اتچوز مـ.ـيـ.ـتى وكيف !! ليه ملهوش أهل !
ثم أطلق ضحكة ساخرة :
-ومين سعيدة الحظ!!
أطلق هارون زفير اختناقه :
-رقية .. رقية أبو الفضل ..
حلت النازلة على رأس هاشم الذي كل ما يشغله بالأمر كيف كُسر العرف ليطمئن على مستقبله :
-ايه؟!!!! والمچلس !! كيف يا هارون !
-ما خابرش يا هاشم ، تحس ربك قفل كل الخشوم محدش كان قادر ينطق ، بس اظن المجلس وافق عشان وجود الحكومة في الموضوع ؛ لموا الدنيا وياعالم ! متأكد أنهم مش هيسكتوا …
رد هاشم ساخرًا :
-ولا يسكتو ، المهم أن هلال كسـر العُرف .. يعني !!
أنهى هاشم المكالمة مع هارون ليتحمس ويرسل رسالة صوتية لزوجته قائلًا بفرحة لا توصل :
-رغود ، أحلى فستان عندك ألبسيه وهسهرك سهرة مش هتنسيها طول عمرك ….
••••••••••••
~بغرفة هلال ..
“هناك أشخاص خُلقت الطرقات لتكون بجوارهم بيوتا دافئة ”
ارتمت رقية بجسدها الضعيف على الأرض دافنة وجهها بمعصمها وهي تنوح بصوت مكتوم تارة ومسموع طورا .. أخذ يراقب كيف ينتفض خصرها من قسوة الألــم كيف تنتفض كالطير المذبوح منتصف غرفته ؟! نزع جلبابه الذي يقيد حركته ورماه على طرف السرير وجلس بجوارها محاولاً لمس كفتها ولكنه تراجع كي لا يخيفها منه .. يكفي قدرا تجاوزه لرغبتها أمام أهله وخـ.ـطـ.ـفها عنوة من بين أعينهم .. مسح على رأسها بحنان وهو يقول :
-البكاء ليس حلا ..
لم تجيبه بل تركت الساحة للبكاء كي تفجر كل عبراتها المكتومة خلال اليوم .. أتبع قائلا :
-رقية وعد اللي حصل تحت مش هيتكرر ومحدش هيقدر يجـرحك بكلمة وو
اعتدلت في جلستها بوجهها وهي تكفكفت عبراتها وتسأله :
-أنت اتجوزتني ليه ؟!
-وهو الشخص بيتجوز ليه يا رقية ؟!
ارتعد صوتها من قسوة البكاء :
-سؤالي واضح اتجوزتني أنا بالذات ليه يا شيخ هلال ؟! صعبت عليك ؟! شفقة ؟! قلت تأخد الأجر وتتجوزها ؟! ولا لقيتني مكـ.ـسورة وضعيفة وماليش حد قولت أعطف عليها ؟!
طيف ابتسامة خفيفة ارتسم على محياه وهو يقول :
-إذا عقلك هيأ لكِ كل هذه الأسباب .. فهذا معناه إنك لم ت عـ.ـر.فين هلال بعد ؟!
ردت ساخرة :
-صدقني ملهاش مبرر تاني .. غير أنك اتجوزتني شفقة صعبت عليك وو
ثم كفكفت سيول عبراتها :
-بس أنت مش مجبر .. وأنا هعفيك من كل ديه ؟! روحني بيت أبوي .. روحني وسيبني وأنا لي رب كريم ..
-أنا لم يجبرني أحد عليك ؟!
هزت رأسها بحـ.ـز.ن وخيم :
-الزمن اللي أجبرك .. اسمعني …
قطعها بحدة :
-اسمعيني أنتِ .. وهاجي معاكي بما يرضي الله .. أنت من اليوم مراتي ومسئولة مني .. مهما كانت الأسباب اللي هيئتنا للحظة دي فـ دي مايمنعش أنك قدام ربنا في حمايتي ليوم الدين .. قولي كيف ما بدالك هعديه عشان أنا شاركي لأبعد حد يابت الناس ..
ثم سألها ملاطفا :
-وبعدين طالما مش موافقة وجوة راسك كل السود ديه من ناحيتي .. قبلتي ليه ؟!
صرخت بوجه بصوت مكتوم مدافعة عن نفسها :
– أنا لما قبلت طلبك ده عشان خــــوفت يدبسوني في بكر والحكومة متعرفش تعمل حاجة .. قبلت عشان قولت مفيش واحد بتاع ربنا هيظلمني .. قبلت ووو
ثم لمعت العبرات بعينيها بعجز وهي تراقبه بـ.ـارتباك :
-ماعارفاش .. لساني بدل ما يقول لا قال ااه …
اتسعت ابتسامته وهو يراقب اضطراب ملامحها في دروب الحـ.ـز.ن والشكوى :
-كلها تساهيل ربك وكله بإذنه وحده …
هزت رأسها بالنفي غير متقبلة ذلك الوضع الذي ورطته فيه وقالت :
-كل كلام أمك عندها حق فيه .. أنا منفعكش .. انت تستاهل واحدة أحسن مني ..
ثم أحكمت أمرها واتبعت :
-أنا موافقة أقعد إهنه لغاية ما يقبضوا على اللي اسمه بكر .. وبعدين طلقني وسيبني لحالي أنا هعرف أدبر أموري ..وأنت اتجوز اللي هتختارهالك أمك وارضيها ..
ثم وثبت من أمامه محذرة وهي تشير بسابتها ما بين ماء عينيها المنهمر :
-ولحد ديه ما يحصل أنا زيي زي هاجر أختك .. وأنا واثقة أنك هتخاف علي قدها ..وهتراعي ربنا فيّ .. صوح !؟
وقف على مضض وهو يدنو منها خطوة ليقول :
-أنت أمانتي قدام ربنا .. ويمين عليّ ما ملزمة لي بحاجة قدام ووحده الشاهد .. انا مش جاي ازود و.جـ.ـعك يابت الحلال ..اطمني ..وواثقي فيّ ..
تدلت جفونها بالأرض وهي ترتعد وتتراجع خطوة للوراء وتقوم بصوت خائف :
-وديني أزور أمي .. أنا محتاجة لها قوي ..قلبي بيتقطع وهي مش معاي ..
-هوديكي مكان ما أنتِ عاوزة بس بطلي بكى عاد .. كنت فاكرك اقوي من إكده .
طرقت هاجر الباب وهي تحمل مائدة الطعام على يدها وبعد ما سمح لها هلال بالدخول هللت قائلة :
-أحلام كانت عاوزة تجيبلك الوكل بنفسها لولا رجليها واچعينها.. يلا عشان تاكلي …
ارتدى ثوب العزة وقال بتأدب وهو يغادر الغرفة كي لا يخجلها منه :
-عليكٍ بها يا هاجر .. أن أكلت كل طعامها سأكفأكما معا ..
داعبته هاجر ممازحة :
-ولو مرضيتش !! أكله أنا ؟!
حدج أخته بنظرته المعتادة وقال برزانة :
-إن أبت سأطعمها بيدي .. بالإذن …..
•••••••••••
~اسكندريـة ..
أعباق من بقايا لفافات التبـغ المتكتلة بالمطفأة التي حرقتها نادية بمفردها ، واحدة وراء الأخرى وهي تتساءل ألف سؤال بين كل واحدة وتاليتها.. حتى ثنت بقلب المطفأة أخر واحدة بيدها وقالت بصوت مشحون :
-ازاي !! ازاي تكون رايحة تعمل لقاء صحفي وتصور شوية صور هوب تلاقي نفسها وقعت وسط أهلها وناسها اللي عشت أدور عليهم سنين !! ازاي يا رشيدي ..
ثم قعدت على طرف المنضدة وأكملت بغل :
-ولا الراجـ.ـل ده باين عليه مش سهل ، بيتكلم وهو واثق من نفسه وعارف بيقول أيه كويس!! طيب هما معقولة يكونوا عرفوا بـ.ـنتهم وبيستغفلوني !!
ثم ضـ.ـر.بت الأرض بساقها :
-هتجنن يا رشيدي ! دmاغي بتضـ.ـر.ب أخماس في أسداس مش متخيلة اني كل اللي خططت له هيروح كده !!
وضع رشـ.ـدي ساق فوق الأخرى وهو يقول بتفكير :
-مش المشكلة !! المشكلة لو حد شاف الأدوية اللي بتاخدها !! دي هتبقى مصـ يـ بـةبجد !!
تأرجحت عينيها بقلق :
-مظنش .. لالا ، مش للدرجة دي ، دول أغـ.ـبـ.ـية والأدوية بتاعتنا مش أي حد يعرفها حتى لو كان دكتور ..
فكر رشـ.ـدي قليلًا وأتبع :
-يبقى الحل في أيدك ، ليلة ترجع من هناك وهجهزلك الورق وتمضيها بأي طريقه على أملاكها ويبقى خدنا اللي عايزينه وهي بالسلامة كارت محروق بالنسبة لنا ..
هزت رأسها غير مقتنعة بانفعال :
-الموضوع أكبر من كده !! أنا لازم أروح لهـا .. لو مجتش أنا هروح لها يا رشـ.ـدي ….
•••••••••••
~مساءً ..
-مين يا فردوس !! ماهي ناقصة نصايب !!
أردفت زينة جملتها الأخيرة وهي تدنو من باب القصر متأهبة للمغادرة بعد ما تأكدت من نوم عمتها ، فأعطت لها فردوس الظرف وهي تقول بجهل:
-مخابراش يا ستِ زينة، واحد من رچالة المچلس چيه وقال ديه لچناب العُمدة ..
أخذت زينة منها الظرف وهي تفتحه كأنها أصبحت سيدة لهذا البيت وتقول بسخط:
-وريني !! واحدة داخلة البيت بجُرسة والتانية طالعة بفَضيحه !! ناقص أيه تاني!!
سلطت كل من فردوس وزينة أعينهم بالمظروف لتدب زينة على صدرها صارخة :
-يا مُري !!! دولت شالوا هلال من المچلس …
ثم طبقته كما كان وقالت بحذر :
-خشي وديه لهارون ، ومتچيبلوش سيـرة إني فتحته…
لم يغادر هارون البيت طوال اليوم حتى يطمئن على وضع ” ليلة ” التي ظلمـها وكان سببًا في حالتها الأخيرة، وأنه تسرع في حكمه عليـها ، كان يجلس بالحديقة ينفث دخان غـــضــــبه وتلك أول مرة يدخن بهذه الشراهة ، فجاءت له أحلام وهي تربت على كتفه فساعدها في الجلوس بجواره وهي تقول :
-سرحان في ايه !! اللي واخد عقلك ؟
خجل أن ينظر لأحلام وهو يقول :
-البت طلع ملهاش ذنب ؛ كله من تحت رأس الزفت اللي اسمه شريف أبو العلا ..
رمقته أحلام بنظرات فاحصة :
-نظرة أحلام في اللي قدامها متخيبش واصل .. قلت لك متعملهاش ..
زفر هارون بضيق وهو يشكو لها :
-مطربقة فوق نافوخي من كل ناحية والله يا أحلام ..
ربتت على ركبته بحنانٍ :
-أنتَ قدها وقدود يا حبيبي .. إلا قول لي يا هارون.. وأنت عتقول اسم ليلة .. اسمها ايه تاني !!
رمقها باهتمام :
-اسمها ليلة سامح .. الجوهري ؛ بس ليه !!
تمددت ملامح أحلام بشكِ :
-ماعارفاش حسيت الاسم مش غريب عليّ ، شكلي سامعاه في حتة و
فأسرع هارون معترفًا على سجيته :
-كانت عتقول أن چدها كان لواء إهنه واسمه رفعت الجوهري ، آكيد ت عـ.ـر.فيه وأبوي يعرفوا كمان ..
تفرغ فاه أحلام التي تحولت شكوكها ليقين وهي تكرر سؤالها بذهول :
-قولت مين !! رفعت الجوهري يبقى چدها !!! أنت متوكد يا هارون !!
قطعت حديثهم مجيء هيـام الراكضة وهي تخبره :
-هارون .. ليلة فاقت ومصرة أنها تمشي ..
مجرد ما سمع إنها استردت وعيها ركض ملهوفًا نحوها ليكفر عن سوء ظنـه بهـا .. والذنب الذي اقترفه ..
كانت ” ليلة” بغُرفتها تلملم أشياءها بعبث وهي تتحرك هنا وهناك وتهذي مع نفسها ، كان هيثم يتبع خُطاها محاولًا الاعتذار عما فعله أخيه بدلا منه :
-يابت الناس اهدي هتروحي فين الساعة دي !!
فأتبعت هاجر التي لم تترك رقية إلا بعد ما غاصت في سباتها ، وقالت بعتب:
-هارون لو عرف أني ..
صرخت بوجهها :
-متقوليش اسم أخوكي ده قدامي عشان بيعصبني ، ماشي !!
ثم دخلت الحمام وأحضرت بعد مستحقات التجميل ورمتهم بالشنطة فأتبع هيثم :
-طب هتروحي فين الساعة دي بس وأنت عيانة !! وبعدين ما انا قلت لك مين ورا اللي حُصل ؟!
تدخلت هاجر بجهل منه عما فعله شريف :
-مين يا هيثم !! في أيه معرفهوش ؟!
تجاهل سؤالها :
-اركني أنتِ دِلوق !!
تناولت حذائها من الأرض ورمته هو الآخر بجوف الشنطة :
-هروح في أي داهية يا هيثم، بس مش هقعد دقيقة واحدة في البيت ده .. وده مش هيفرق معايا ولا هيصلح اللي عمله أخوك في حقي .
توقفت هاجر بوجهها مقترحة:
-طب ما الصباح رباح يا ستي ..
فأتبع هيثم وهو يخرج صندلها من الحقيبة ويرميه في الأرض قائلًا بمزاح:
-ياستي هي تجي واحدة وتمشي واحدة!! داحنا بنجمعوكم بالعافـ.ـية ..
نظرت له بسخط وضعف يصعقها :
-هيثم بلاش تهرج عشان ده مش وقت تهريج وانا اصلا مش فاهمة حاجة ..
ثم انفجرت صارخة بوجهه عنـ.ـد.ما رأته يخرج ما بها :
-انت بتعمل ايه أنت كمان !! سيب حاجاتي !
في تلك اللحظة وصل هارون مطلقًا حمحمته المرتفعة قبل الدخول ، ما سمعت صوته فرت للتحامى بالحمام بعجل واضطراب شـ.ـديد يملأها حتى أتاها صوته قائلًا بشموخ :
-خفي چنان يا استاذة مفيش مشي من إهنه ..
خرجت من الحمام وبيدها الفرشاة والمعجون وهي تتجاهل وجوده تمامًا وتسأل هيثم بتيـه :
-هيثم شوفت الشاحن بتاعي كان هنـا .. ؟!
أحسوا أخوته بإحراجه وتعمدها تجاهل وجوده حتى أتبعت وهي تدور بالغرفة بعشوائية :
-كده ناقص أيه كمان !! أنا تهت .. انا نسيت !! يووه !! أحيه عليا !!
دmدm هارون بجزع وهو يضم يديه أمام بطنه :
-يا صبر الصبر ..
ثم جهر :
-ما خلاص يا استاذة سوء فهم وراح لحاله ..
حانت منها نظرة خافتة وسرعان ما ذابت في صحن غـــضــــبها منه وهي تقول :
-هاجر ، ماشوفتيش اللاب توب بتاعي !!
ثم ضـ.ـر.بت على رأسها بغباء:
-أحيه !! وأنتِ هت عـ.ـر.في ازاي بس !! راح فين ده كمان ووو
كانت تدور كالنحلة بمنتصف الغرفـة حتى أمسك بمعصمها ودارها إليه ليجبرها أن تستمع لحديثه التي تعمدت تجاهله هنا وصلت أحلام لتقف على الباب وتتأمل الاثنان بفيض من النظرات المختلفة :
-هو أنا مش عكلمك !!
شـ.ـدت ذراعها من قبضته وقالت معاندة :
-ومش واضح إني مش عايزة أكلمك !!
حك أنفه بـ.ـارتباك لإحراجه أمام أخوته وقال بثقل وغــــرور :
-حقك عليّ ..
ثم صمت لبرهة وأتبع مبررًا :
-سوء فهم حُصل وراح لحاله …
سبحت عينيها في بركة الدmع وهي تتذكر إهانته لها بالصباح :
-والله!! كتر خيرك .. وفر اعتذارك لنفسك .
ثم ضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها من شـ.ـدة التـ.ـو.تر والارتباك الذي حل بها وهي تصيح :
-الموبايل بتاعي فين !! يووه وده وقته !!
ثم تدخل هيثم قائلًا :
-أهو هارون بنفسه جيـه عشان يتأسفلك ، روقي عاد.. ويلا نتعشوا.
ردت بملل :
-والله !! تعب نفسه .. وهيثم بس عشان أنت مـ.ـو.ترني وأخوك ده كمان مـ.ـو.ترني وحاجتي كلها ضايعة وده مـ.ـو.ترني !! وانا كده هعيط ..
ثم نظرت له :
-ملهوش لزوم يا عمدة كمان اعتذارك ، كده كده ماشية ، سوري تقلت عليك ..
استغفر ربه في سره ثم قال :
-مفيش مشي وخلصنـا .. ميبقاش قلبك أسود عاد !!
تجاهلت وجوده مما أشعل النار بقلبـه ليناديها بصوت المرعد الذي جعلها تقف مكانها ولأول مرة يخرج منطوق اسمها صحيحًا :
-ليـلة !!
تسارعت ضـ.ـر.بات قلبها المضطرب ثم لملمت شتاتها لتعود له صراخه بوجهه :
-متزعلقيش !! واتكلم طبيعي زي الناس الطبيعية.. ووو وبعدين أنا مش لعبة في ايدك تقولي امشي واعقدي وو
أسبل عينيه في حضرتها كي يطمئنها ليقول بشموخ :
-أنا العمدة إهنه وكلمتي تمشي على الكل ..
عارضته :
-بس أنا لا ..
-طول ما أنتِ في بيتي يبقى كلمتي تمشي عليكِ !
زفرت بضيق :
-هيرجع تاني يقولي بيتي .. ارتاح كده هسيبهولك وأمشي ..
شـ.ـد ياقته محاولًا قــ,تــل غــــروره وقال بأسفٍ :
-متزعليش وكبري مخك عاد وو
فتدخلت هاجر لتُلطف الأجواء:
-افرحي يا ستي ، حضرة العمدة بنفسه چاي يراضيكي ، فكي عاد وأنتِ عيانة مش ناقصة ..
نظرت له بعتب :
-هو أكتر واحد عارف إني تعبانة ومع ذلك محترمش تعبي وجيه وطردني قدامهم كلهم .. واتهمني بالكذب … وو
وقف أمامها ليمنع خُطاها ببنيته القوية ؛ لقد كان لا يملك ثقافة الاعتذار فأكتفي بقوله :
-ما خلاص !!
كادت أن ترتطم بجسده الصخري لولا أنه تراجعت خطوة للخلف وهي تشكو له منه :
-لو سمحت متكلمنيش ولا توجه لي أي كلام ؛ كفاية أوي اللي قولته الصبح وو
فتدخلت أحلام وهي تربت على كتفها :
-خلاص يا ليـلة يا حبيبتي .. عشان خاطري أنا أنسي وأهو قالك سوء تفاهم وو
قاطعتها :
-خاطرك فوق راسي يا طنط بس أنا طولت عليكم ولازم أمشي وو
فتدخل هيثم :
-طب صوري حلقتك التانية وأمشي ، حـ.ـر.ام تعاودي وأنتِ مقضتيش مصلحتك ..
ردت بخزى وهي تتجاهل وجوده:
-خلاص يا هيثـم مش فارقـة ، مفيش نصيب.
حاولت هيام إقناعها :
-ياستي الدكتور قال ممنوع تروحي في حتة ، أقعدي عاد وو
أصرت على رأيها :
-هيحصل ايه يعني !! انا همشي وخلاص ..
لقد فاض صبر هارون من مقاوحتها وقال باندفاع:
-مـ.ـا.تخفي مُحن وقصري .. قولت حقك عليّ عاوزة أيه تاني !!
شهقت بوجهه وهي تشهد الجميع عليه :
-شايفين!! حتى الاعتذار مش من قلبه ولا حاسس بالنـ.ـد.م !! وبيعاملني كإني شغالة عنده !!
ارتسمت الضحكة على ثغر أحلام تراقب لمعة الانجذاب لبعضهما البعض متلألئة لتتمتم في سرها ” يارب اللي في بالي ومتكـ.ـسرش قلوبهم يارب ” ثم جهرت متوسلة لها :
-أقعدي ولما يجي الحج خليفـة هنشكوله من ولده ..كل كبير له الأكبر منيه .
فأتبع هيثم :
-وأنا شاهد معاكي !!
فاكملت هاجـر مقترحة:
-خلصي شغلك وعاودي ياستي ..
فتدخلت هيام:
-ولو كان على هارون مش هيچي چارك ، أصلا هو ماعيقدش في البيت .. بس بلاش تمشي وأنتِ مضايقة دي عيبة في حقنا ..
راقبت الأعين الحنونة التي تحيط بها لتقــ,تــل شبح فكرة رحيلـها و تبقى بمكان ألفة روحها لتوافق على مضض ، ثم رفعت سبابتها بوجه هارون لتلقي عريضة شروطها :
-اسمعني ؛ أنا هقعد هنا يومين اتنين بس ، هتقول لهيثم على المكان اللي هنصور فيه .. لسانك ميجيش على لساني نهائيًا .. تشوفني متقوليش حتى صباح الخير ، لا تكلمني ولا لك كلام معايا .. عشان أنا مستحيل هكلمك بعد اللي حصل منك .. ولو فكرت تكلمني أنا هسيبك وأمشي ومش هرد عليك ..
ثم نظرت لهيثم :
-موافق يا هيثم !!
غلت نيران الغيرة بصدره وهو يزفر حرائقه الداخلية لأول مرة أحد يتأمر عليه ، لاحظت أحلام لوحدها دخان غيرة وليس غـــضــــب لتراقبه وهو يقول بأسلوبه الاستفزازي متأهبًا للرحيل متقبلًا شروطها :
-طب أهدي وقولي هديت ..
فتدخل هيثم لاعبًا بالنار بوجه أخيه بفظاظة :
-هي مش قالت لك كلامك معاي وبس يا حضرة العمدة !!
كتمن الكل الضحك على المأزق الذي وضع به هارون وهو يشـ.ـد قامته أمامهم ليردف بتحدٍ متقبلًا لعبتها الطريفة :
-خليه هو يقول لك هتصوري فين بالمرة …..
قد يحدث و يعف المرء قلبه عن داء الحُب ويحشو قلبه بذخائر الحياة ومتاعبهـا كي لا يلتفت له أبدًا ولا يدع له منفذًا ليتسرب داخل جسده ؛ولكنـه شعور مكار كأنه جاء من نسل الثعالب قد يتسلل إليك نظرة نظرة ؛ بل قطرة قطرة .. حتى يملأ خزان قلبك كله وفجأة وبدون أي رغبة منك ينقلب صدرك لسِربَ عصافير تُحلق في مُدن الحُب وتظل تتساءل دومًا ؛ أي ريح عاتية أتت بك لهنـا ؟!
والحقيقة أن سفن الحُب تسير بما لا يشتهي المرء منـا !! ألا أخبرك بأنه شعور مخادع !!
#نهال_مصطفى .
#آصرة_العزايزة.
#من_يعيد_لي_قلبي .ج١
••••••••••••
قيل :
‏«تشعر أحيانًا أنّ كل ما تحتاجه هو أن تنظر الى كل شيء بالقياس الربّاني، في الخير الذي يصيبك، في الأذى، في الانتظار والانكسار والفشل؛ هذا هو الشيء الوحيد القادر على أن ينتشلك، أن يرمّمك، أن يجعلك أدنى للصواب وأنأى عن الخطأ.»
-أول مرة أشوفك بتضحك كده من قلبك يا هاشم !! حصل أيه وأنا معرفهوش ؟
كانت رغد تعانقـه على شط البحـر ويتبادلان الرقص على كلمـ.ـا.ت الأغنية الأجنبية التي يستمع لهـا الثنائي ، ضم خصرها إليه أكثر ليعلن امتلاكها له ولقلبه مدى الحياة و جاوبها وهو يغوص في لمعة هذه الأعين التي جعلته يتمرد على الأعراف ويظفر بها قائلًا :
-لأني قررت هروح سفرية سينا وهرجع أجازة وهجيب أخواتي واتقدm لك !
قفلت جفونها باستغراب :
-هاشم ، حبيبي أحنا أصلًا متجوزين !!
أجابها بلكنته الصعيدية :
-طب وأيه يعني ، نتچوزوا من أول وچديد ونعملوا أكبر فرح في مندرة الحچ خليفـة ، وفستان چديد وو
ثم ضمها بغتة لترتمي بحـ.ـضـ.ـنه شاهقة وأكمل :
-وكله يبقى چديد في چديد ..
رسى كفها على سفينة قلبـه النابضة ببحر الحب الذي يملأه لتخاطب عينيه :
-للدرجة دي بتحبني يا هاشم .. !!
-وأنتِ لسه چاية تسألي !! رغد أنا شفتك مرتين صدفة شقلبتي كياني !! فاكرة ؟
تدللت عليه بغنج :
-لا مش فاكرة …
همس بأذانهـا وهو يتمايل معها على لحن الغناء :
-فستانك الأبيض ولفة الشال البدوي والكحل اللي عمري ما شوفت واحدة عاملاه .. قولت بس هدفع نص عمري واتچوز البت دي !!
ثم غاص في تفاصيل شعرها وأكمل بنفس النظرة :
-والنص التاني عشان أعيشه معاها !!
ثم استرد نبرته الأجشه ونصب قامته قائلًا :
-ألا فين الغترة والكحل !! من يوم ما اتجوزنا ماشوفتش يعني !! ولا دول كانوا لأجل صيد الحوت وخلاص جات رجلي وادبست ..
عاتبته بلطف :
-هاشم حبيبي ، أنت بتجي كام ساعة وتمشي ومش بلحق أعمل أيه ولا ايه ، لأجل بس الكام يوم دول أنتَ راضي عني وو
ثم شهقت برقة :
-يعني أنت حبيت العترة والكحل وأنا لا !! يعني خدت بالظاهر مش بالجوهر !!
أطلق هاشم ضحكته الهادئة وهو يقول بحب :
-أنا واحد بتاع مظاهر ياستي نقطة ضعفي الست الحلوة ، وأول ما عيني شافت الجمال البدوي وقعت ومحدش سمى عليا .. نسيت أنا مين وفين كل اللي شغلني أن الحلوة دي تكون في حـ.ـضـ.ـني آخر الليل !!
لجأت لوصف حالته باللهجة البدوية وهي تقول بخفة :
– «الشوش ماشوش والخزق مبوش»
ثم داعبت وجنته بلطفٍ :
-يابني يابني مش معقولة كده !! أنت خدت قلة الأدب دي كلها لوحدك..
أشاد معجبًا بلهجتها التي نادرًا ما تستخدmها ليقول مغرمًا بلهجته الصعيدي :
-ياوعدي، اشچيني بالبدوي اللي طير عقلي مني .. بس يعني أيه ؟! ترجمي اللي قولتيه حالًا .
طوقت عنقه بكفيها تاركة خصرها المنحوت فريسة لحبه وقالت :
-يعني اللي يشوفك يتخدع فيك كده ويقول عليك راجـ.ـل زي الكتاب ماقال ، وميعرفوش أن تحت السواهي دواهي …يجوا يسألوني أنا بقا ..
ضاقت عينيه وهو يحاول تذكر المثل :
-كل ده شرح المشمش في الممشوش !! عظيم كملي ؛ قوليلي وبيقولوا أيه كمان عندكم !!
استقرت على شطي عينيه المدججة بحُبه الفائض لتقول بنبرة يخالطها الحـ.ـز.ن :
– بيقولوا «اللي زلمتها مطاوعها بتدير القمر بأصبعها»
ثم تنهدت بأسف :
-وأنا ملكت الدنيا كلها بيك ، وجودك عوضني عن أهلي .. وعن صحابي وعن الدنيا كلها ، أنا اكتفيت بيك يا هاشم ونفسي حبنا يفضل مكمل لآخر عمري ..
أمسك بكفها ليقبله وقال مستفسرًا :
-سامية سابت ليه البدو وجات تعيش هنا !!
-حياتهم صعبـة ، مستحملتش تعيش هناك خاصة أنها غريبة ، وجينا عشنا هنا جمب خالو .. ومستنية اليوم اللي نعرفهم أني اتجوزت أعظم راجـ.ـل في الدنيا ..
ثم اغــــرورقت عينيها بخــــوف من الغد وهي تغلغل أصابعها بفراغات يده وتترجاه بعينيها المحمرة :
-أنا وأنتَ هنا وربنا وحده شاهد علينا ، عايزة أقولك إني والله حبيتك وعمري ما اتخيلت إني هحب راجـ.ـل زي حبي ليك .. ممكن توعدني أنك مش هتسيبني مهما حصل ؛ عـ.ـا.قبني براحتك بس بلاش تحرمني منك يا هاشم .. أنا ممكن أمـ.ـو.ت فيها .
فاضت الأعين بالأسرار ولكن الألسن مازالت صماء ، طالعها بكل لهفته ليقول :
-بكرة لما ت عـ.ـر.في أنا حاربت أيه عشانك ساعتها هت عـ.ـر.في حبي أد أيه !!
ألقت حمولها بين يديه وهو تحـ.ـضـ.ـنه لتدفن صوت بكاءها بكتفه فتلاطمت صوت الأمواج وكأنها تصرخ شاهدة على حبهما .. فسألته بخفوت لتلطف الجو وتشتت حـ.ـز.نها :
-صفية هتحبني زي بـ.ـنتها ولا هتعمل عليا شغل الحموات وتطلع عيني !!
انحني ليحمل بين يديه متجهًا نحو سيارته المصفوفة وقال بمزاحٍ :
-لا طبعا دي هتطلع عينك وعيني وعين سامية !! بس متقلقيش أحلام هتحبك قوي ..
-وأنت بتحب مين أكتر ، أحلام ولا صفية ؟!
عقد ملامحه وهو يواصل سيره مفكرًا :
-سؤال تعلبي !! بس هقول لك ، دايما مقتنع أن الأم هي اللي ربت مش اللي ولدت .. أحلام علمتنا كيف نحبوا ، كيف نسمعوا صوت قلوبنا ، أحلام وهي أحلام فعلًا كل كلامها يفصلك عن الواقع كأنك في حلم جميل مش عاوزاه يخلص ..
ثم دللها براحتي يده كمن يلاعب طفلة صغيرة وأكمل :
-لكن صفيـة دي معندهاش فلتر اللي في قلبها على لسانها .. عصبية شويتين بس قلبها طيب ومفيش أطيب منه ، بس أحنا تملي بنميل للقلوب الحنينة ..
-يعني كفة أحلام هي اللي كسبت قلبك ؟!
ارتسم ابتسامة واسعة على محياه وهو يفتح باب السيارة ويجلسها برفق ثم شـ.ـد حزام الأمان فوقها وضبط المقعد لتمدد قليلا وتراجع ليجلس على طرف مقعدها وساق تلامس الإطار وآخرى بالأرض متأهبًا لاغتنام غزالته الشاردة وهو يقول بصوت خافت رافضًا اعترافه صراحة بحبه لأحلام أكثر من أمه :
-مفيش غير كفتك الكسبانة في قلبـي ..
قال جملتـه وهو يكسو عنقها الريمي بهمس القُبل ونال وجهها الذي يضوي كنجم الثريا بفتيل الحب والتي فاضت من قلبـه لتروي أراضيها .. لم تتمرد كعادتها لم تحتج بالبحر والصحاري خشية من أن يراهم أحد ، أكتفت بإغلاق عينيـه وهي تقبض على ملابسه بأصابعـه مانعة هبوط دmعهـا الذي أوشك أن يودعـه .. ابتعد عنها بعد ما روي جزره القاحلة وسألها :
-نروح البيت ولا نتعشى في أي مكان !!
تراقصت جفونها بتردد وهي تراقبه ملامحها الساطعة بعشقها وتقول بهمس شفتيها :
-نروح بيتنا .. الوقت اتأخر ..
••••••••••••
~العزايزة ..
كانت تجلس في منتصف فراش ” أحلام ” عاقدة ساقيـها بعد ما اقترحت عليها السيدة العجوز أن تقوم بتسريح شعرها وتصنع لها ضفيـرة قبل أن تنام .. فوافقت بسعادة وكانت هذه أول سيدة تلامس شعرها بعد مربيتها الشخصيـة ، عقدت أحلام شعرها بضفيرة زادت من براءتها وبرزت زهو ملامحها أكثر ، ثم زينتها بالطوق الذي يتناسب مع لون بيجامتها الفضفاضة ذات أكمام طويلـة من خامة القطيفة باللون الزيتي .. قفزت ليلة لتطالع صوتها بالمرآة منبرة :
-واو تجنن يا أحلام !!
ثم عادت لها بامتنان لتقبلها برأسها وتضمها بحب :
-حقيقي أنتِ أجمل وأحن ست شوفتها بحياتي ..
إمراة خُلقت بغريزة الأمومة دونما تبقى أم ، فباتت مشاعرها الفائضة من نصيب كل من يقترب من جنتها .. ربتت أحلام على ذراعها بحب حتى جلست ليلة بجوارها فأخذت تتأمل ملامحها ونقاء بشرتها ، عينيها ذات الرسمة المميزة التي تميز نساءهم ، أخذت تمرر يدها المنكمشة فوق تضاريس وجهها و تقارن بينها وبين ملامح عمتها ( مُهرة ) وصديقة أحلام المقربة وابنة عمها والتي توفت منذ عشرة أعوام .. وهي تتساءل بعتب:
-أنا كيف مخدتش بالي !!
ابتسمت ليلة مجاملة بعد فهم:
-نعم يا طنت!! بتقولي ايه !!
غيرت أحلام مجرى شرودها وقالت مؤكدة :
-يعني الواد اللي مع الحچ خليفة قالك باقي لهم ساعة ويچوا إهنه ..
-مش سمعتي بنفسك وكمان هيثم راح يستناهم على المحطة وو
ثم قفزت فكرة برأسها :
-أفتكر مفيش حد صاحي غير أنا وأنت الساعة دي ، أيه رأيك أقوم أعملنا كوبيتين شاي وندردش سوا لحد عمو الحج ما يرجع ..
راقت لها الفكرة وهي تقول بهمس :
-طب أمشي على طراطيف صوابعك عشان محدش يحس بيكي وحطي لي ملعقة سكر في الشاي بس أوعي هارون يوعالك ..
أومأت بحماس وهي تقفز من مكانها حيث راقت لها الفكرة ولم تتزحزح خطوة ففوجئت بصوت طرق الباب وصوت حمحمة هارون مستئذنا للدخول ، نظرت لأحلام بعتب :
-بيجي على السيرة ؛ يالهوي عليه بجد …!!
شـ.ـدتها أحلام عنوة لتجلس بجوارها وتنادي عليه :
-تعالى يا حبيبي !!
فتح الباب ووجهه بالأرض متلفحًا بعباءته الصعيدية فوق ملابسه الرياضية ، تعمدت ليلة ألا تطالعه أبدًا واحتجت بانشغالها بالهاتف وهي لا تعلم عما تفتش ولكنه الوسيلة الوحيدة التي تجذب انتباهها عنه .. أردف هارون بعد ما ألقى نظرته عليها وعلى تسريحتها الطفولية بإعجاب ليقول :
-چيت افكرك بدواكي يا أحلام ، خديته ؟!
انكمشت ملامح أحلام وهي تقول على سجيتها :
-خدته كله يا حبيبي متقلقش .. وو
احتدت نبرته وهو يحاور أحلام بعينيه لتتفهم مقصده وإنه لا يقصدها بل يقصد طائره العنيد الذي يتجاهل النظر إليـه :
-دواكي اللي قبل النوم يا أحلام خدتيه !!
أدركت أحلام مقصده وعلمت بإنه يقصد” ليلة ” فرفعت سبابتها بالنفي لتقول بتوجس :
-لا لسه يا حبيبي !!
زمجرت رياح غـــضــــبه بصوته المرعد وهو يأكلها بعينيه :
-يعني ايه لسه !!!متهزريش يا أحلام الچلع ديه ميرضنيش وو
دب الخــــوف بقلبها كي لا يفجر غـــضــــبه بوجهها ؛ بتلقائية إثر فزعها من نبرته القوية تركت الهاتف من يديها وهرولت نحو الأقراص التي وصفها لها الطبيب المعالج بواسطة عمار وبدون ما تنظر له وصلت للكمود الآخر و تناولت أقراصها بيدها المرتجفـة ثم جففت فمها من أثر الماء دون التطلع نحوه ولكنها اكتفت بشكر أحلام :
-مرسي يا أحلام فكرتيني بالدواء بتاعي .. هااا قوليلي بقا فين الدوا بتاعك أنتِ كمان عشان تاخديه ، عشان محدش يتعصب عليكي كل شوية .
ضحكت أحلام بدون صوت وهي تلقي نظرتها الماكرة على هارون وتقول بخبث :
-ليلة كانت هتعملنا كوبايتين شاي ، أيه رأيك تخليهم تلاتة وتقعد تتساير معانا ..
هبت ليلة معترضة وهي تتحاشى النظر إليه :
-أحلام من فضلك انا قولت لك هعمـل كوبايتين شاي ، أنا وأنت بس ؛ ولو حد تالت هيقعد معانا ، سوري أنا هرجع أوضتي و
قطع هارون نبرتها وهو يقول بشموخ :
-مش عاوز يا أحلام چيت بس أقول لك تصبحي على خير و ..
فقطعته بتمتمة :
-أحسن بردو ..
فتساءل متعمدًا إثارة استفزازها :
-بس أنتِ متوكدة أنها هتعرف تعمل لك الشاي بتاعك !! ولا هو إهدار موارد وربنا يعوض علينا ..
نظرت له باندفاع رافعة سبابتها بوجهه :
-على فكرة الشاي بتاعي حلو جدًا ولو دوقته مرة مش هتعرف تشرب غيره بعد كدع وو
ثم جلى حلقها متذكرة خصامه فنظرت لأحلام وهي تلوح بكفها وتتناول هاتفها :
-نسيت مش بكلمك !! طنت أحلام أنا ماشية .
منعتها أحلام:
-رايحة فين أنتِ هتباتي چاري الليلة ..
رفع حاجبه مستغربًا من لطف أحلام الزائد معها ، فأردفت ليلة بعفويـة :
-وعمو الحچ !! أنتِ نسيتي .. ؟!
-لا النهاردة ليـلة البت صفيـة ، خليكي واخدة بحسي أوضتك سقعة عليكي ..
قبلت على مضض وهي تقول لها بحماس وتغمر بطرف عينها متذكرة اتفاقهم :
-هروح أعمل لك الشاي ..
ثم دارت كالفراشة بخفة تحت أنظاره التي تحرق كل إنشٍ بها .. ألقت نحوه نظرة خاطفة ثم فرت من سطوه ، غادرت الغرفة بهدوئها الاعتيادي فأشارت أحلام لهارون أن يجلس بقربها ، تحمحم مستردًا جاهه وقوته :
-شكلك سهرانة !!
-ما أنت عارف عيني ما عتغمضش وأبوك مش فالبيت ..
جلس هارون بقربها يتساءل بمزاح :
-والله يا أحلام أبوي محظوظ بيكي ، ما تقوليلي ألقى واحدة زيك فين ؟!
-مسيرك هتلاقيها ؛ بس مش زينة ..
مسحت على رأسه وهي تتأمل ملامحه وقالت :
-أنتَ لساتك مُصر عليها يا هارون !!
-ليه عتقولي إكده !!
-حساك مش مبسوط ولا دي فرحة عريس ، وبعدين زينة مش علامك ولا تفكيرك ، ما تفكر تاني وتفكك من الچوازة دي ومن نغچ أمك .. قلبي مش مرتاحلها والله ..
رد بيأس :
-يا أحلام مافارقاش .. زينة ولا غيرها أهي چوازة والسـلام ..
سألته مشفقة على حاله :
-طب وقلبك ياحبيبي ، ماهو كمان له عليك حق .. اختارله اللي تونسه بقية عمره ..
رد بتلك النبرة التي يملأها الخزى :
-يعني بذمتك ٣٥ سنة فاتوا من العُمر ولسه هدور أحب واتحب ، يا أحلام خلينا نچيبوا عيلين في الدنيـا يسندونا لما نكبروا وخلاص ..
عارضته بإصرار :
-لا يا هارون متقولش إكده يا ولدي !! ومين قال لك الحب بيدوروا عليه !! الحب عارف صُحابه وعيچيلهم لحد عنديهم ، عيجيلك من غير اذن ، أنا مش عاوزاك تعيش عيشة أبوك وأمك .. أمك كانت لأبوك مكنة تخلف له عيال وبس .. لكنه كان يجي في حـ.ـضـ.ـني وينسى الدِنيا كلها ..
ثم وضعت كفها على قلبه اليأس من الحياة :
-أوعاك يا هارون تتچوز واحدة عشان الخِلفة .. اتچوز اللي تلاقي روحك معاها حتى ولو مش هتخلف لك يا ولدي .. لو لي غلاوة عندِك فكر في موضوع زينة دي تاني وو
قاطعها باستسلام :
-محدش هيقدر يكسـر كلمة للحچ خليفة ، النصيب غلاب خلاص .. وو
جاءت ليلة حاملة بيدها ثلاثـة أكواب من الشـاي ووضعتهم على طرف الكمود لتستمع لحديث أحلام مع هارون وهي تنصحه :
-الچواز ياحبيبي اللي وصانا بيه ربنا هو ما كَفا وما عَفا وما وفَا وما رَق بهِ القَلبُ واكتَفى ..
اتسعت الأعين نحو مدرسة الحُب التي تُنير دروب قلوبهم الحائرة لتقول ليلة بإعجاب شـ.ـديد وهي تعبر عن حالتها :
-الله .. حلوة أوي .. أنا قشعرت بجد ..
فما جذب انتباهه ملامحها التي أشرقت فجأة وهي تمدح حديث أحلام ولا يعلم أن قلبـه حركة بوصلة مشاعره نحو من ترافقه وتؤنسه سنوات عمره .. فتنهد بصوت منخفض والتفت لأحلام التي تشكو منه إليها بكناية :
-يرضيكي يا بتي واحد يتچوز واحدة مش رايدها قلبه !! ده ربنا خلق حواء لآدm عشان تونسه في الچنة مش عشان يخلفوا !!
عاتب أحلام همسًا وهو يحك ذقنه :
-بقيتي تطلعي أسرارنا بره يا أحلام !!
رد ليلة بعفوية وهي تقاوم بألا تنظر له :
-لا طبعًا ، كده بيظلم نفسه وبيظلم الشخص اللي معاه .. حـ.ـر.ام عليه بجد .
فـ رد متعمدًا إثارة غـــضــــبها :
-مش يمكن لما اتچوزها قلبي يحبها ؟!
فسألته أحلام على الفور :
-ولو محبتهاش !! أيه الحل ..
رد ببرود :
-اتچوز التانية والتالتة والرابعـة لغاية …
فقاطعته ليلة بضيق :
-لغاية ما يجننوك إن شاء الله ..
بلل شفته التي جفت من سخريتها فردت أحلام مسرعة لتؤيدها :
-بتتكلم صُح على فكرة ..
أخذت ليلة كوب الشاي الخاص بها ودارت حول السرير لتجلس في الجهة الآخرى وهي تقول :
-أحلام أنا عملت ٣ شاي عشان لو حابة تعزمي على ضيوفك .. كوبايتك اللي على اليمين ..
نظرت أحلام لهارون الذي يستشيط غـــضــــبًا من تجاهلها وقال بفظاظة :
-تشكري يا أحلام ؛ بس يارب يكيفني ..
صعدت فوق الفراش لتعقد قدmيها وتجلس بقرب أحلام وهي تتأفف بضيق وترتشف كوبها وتتمتم في سرها بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة ، مد ذراعه ليعطي أحلام كوبها ثم أخذ كوبه ليرتشف منه رشفـة خفيفة وبتلقائية تلصصت النظر لعنده لتعرف رده بفضول ، فـ بدّ الإعجاب على ملامحه وهو يرفع كلا حاجبيه مستلذًا بمذاقه وما أن جاء ليطالعها فصرفت نظرها عنه بسرعة وترتشف رشفة أخرى ، أشادت أحلام بمذاق شايها :
-أحلى كوباية شاي اشربها في حياتي .. تسلـم يدك يا بتي ..
ثم نظرت لهارون بخبث لتسأله :
-مـ.ـا.تقول رأيك يا هارون !!
رد بجمود :
-عادي .. أهو شاي ..
حملقت ليلة بأحلام التي طايبت خاطرها بنظرة ثم قالت محاولة تهدئة نفسها :
-مش هتعصبني لا ..
ساد الصمت لدقائق قليـلة حتى ارتشف هارون كاسته لأخرها ، ارتسمت الضحكة بتلقائية على وجهها وهي تلحظه يضع الكوب من يده ، فقالت بتمرد :
-أنتِ ت عـ.ـر.في يا أحلام أن الأسطورة بتقول ..بس الأول هحكي لك القصة ..
قاطعها بنظرة ثاقبة ممزوجـة بابتسامة خفيفة تُحس ولا تُرى ، فتجاهلت وجوده تمامًا ودارت نحو أحلام وهي تروي لها تفاصيل الأسطورة وتقول :
-قبل اكتشاف الشاي ، كان زمان في أمير صيني بطنـه كانت بتو.جـ.ـعه وصداع مستمر مش مبطل ، لدرجة أن باباه الملك جابله كل الأطباء على مستوى العالم محدش عرف يعالجـه ، فأخرج فرمان وقال الطبيبة اللي هتقدر تعالج ابني هتكون هي زوجته والملكة المستقبلية للحكم .. والطبيب اللي هيقدر يعالجـه هيمسك منصب كبير في الدولة .. المهم بقا جات طبيبة عربية اسمها صوفيـا .. وقالت أنها مستعدة تعالج الملك ..
ثم ترنحت في جلستها بدلال انثوي غير مبتذل أمامه وأكملت بنفس الشغف :
-طبعا الملك كان قلقان وحس بالخيانة .. وبعد ما أخد العهد عليها أن حياتها قصاد فشلها .. دخلت الطبيبة وعملت مشروب الشاي للأمير وشربه والغريب انه حاله اتحسن بعد كام ساعة مع أول كاس .. واتعافي الأمير وحب اوي الشاي ده. وأمر بزراعته في كل البلد واتجوز من الطبيبة صوفيا واتعملهم أكبر فرح فالمملكة ..
ثم لوحت بكفوفها بطريقة روي الحكايات وأتبعت :
-ومن هنا جات الأسطورة تقول ؛ أن كوباية الشاي هي رمز الجواز ، فـ أي شاب يعجبـه شاي حبيبته أ عـ.ـر.في أنها إشارة أنهم هيتجوزوا ويكونوا لبعض .
تمتم هارون بهُزئ:
-حتى الشاي صعبتوه علينا !!!
ثم رمقت هارون المستمتع بحوارها مع أحلام وقالت :
-والحمد لله طبيعي الشاي بتاعي مش يعجبه ولا حاجة .. بس شاي زينة آكيد بيعجبه !!
ثم نظرت له بخبث بريئ:
-مش كده !!
راقت له لعبتها الجنونية ليقول متعمدًا استفزازها :
-اومال !! مفيش أحلى من شاي البت زينة ، دي كفاية نفسها فيه .. يخربيتها معرفش عتعملوا كيف ! -ثم دندن سرًا وهو يحك ذقنه -مايتشربش ، آكيد برجليها ..
أول مرة نظرت له أحلام كوب هارون الذي ارتشفه لآخره لتقول بخبث :
-وأنا أقول الحچ خليفة مكنش يشرب غير من يدي الشاي ليه !!
تعلقت ليلة في قشـة صدق اسطورتها:
-شوفتي .. يعني الأسطورة مكذبتش !! عشان أنتي مـ.ـر.اته وحبيبته الشاي بتاعك بيطلع مميز بالنسبة له ما يعرفش يشربه من حد غيرك ..هو وسام الحُب ما بينكم عشان لونه أحمر بلون قلوبنا اللي بنحب بيها .
طالعته أحلام بإعجاب وهي تقول:
-عتقول كلام حِلو قـوي يا هارون .. اسمع واتعلم
رد ساخرًا :
-ماهو ديه اللي فالحة فيه ، الحواديت وكلام ميسواش تلاتة تعريفة ..
زفرت ليلة بضيق وبدون أي نية منها تمتمت جملته بعفوية وهي تنشغل بهاتفها :
-يا صبر الصـبر ..
اندهشت أحلام :
-ايه !! هو علمهالك !! ألحق يا هارون ..
ولت نحوه بصدmـة غير مصدقة ما قالته لترتطم بملامحه الفظة بداء الغــــرور وهو يقول :
-سيبيها تاكل عيش يا أحلام …
-مستفز …
~بالخارج ..
لقـد عاد هلال بصُحبـة رقية من المدافن بعد إصرارها بزيارة أمها في الليـل ، فلبى طلبها وأخذها ومرت أصعب لحظات عليها وهي تراقب أحبتها يحـ.ـضـ.ـنهم التراب بدل من ذراعيها ، لم يخلٌ لقاءهم بنصائحه وبمحاولات تهدئتها وحثها على الإيمان خيره وشره وهذا هو أمر الله .. دلف الاثنان من سيارته ، فـ كانت خطواتها ثقيـلة وبطيئة تتبع مسار سيره بهدوء ..
لاحظ هلال إشعال نور غرفة أحلام وصدى صوت منها ينبعث ، فتطلع نحوها قائلًا بنبرة حنـونة :
-أحلام لساتها منمتش ، تيچي تسلمي عليهـا ..
رفعت جفونها عن الأرض لتُرمقه بحـ.ـز.ن وخيم وبتردد :
-مش چادرة .. أي حاچة ..
ابتسم بخفوت وهو يتبع السير نحو الغرفة :
-لقاءها لم يرهقك بشيء ..
وصل هلال لأعتاب الغرفة فوجد ثرثرة أصواتهم عاليـة والخلافات والكثير من ضحك أحلام التي لم يراها بهذه البشاشة منذ زمن ، ألقى تحيته :
-السلام عليكـم ورحمة الله ..
توجهت النظرات ناحية هلال الذي يقف على الباب وخلفه فتـاة في ثوبها الأسود ، امتدت أعين ليلة بفضول تتساءل عن هويتها الحقيقة ، ولكن قطع هلال فضولها قائلًا :
-رقية چاية تسلم عليكِ يا أحلام ..
رفعت أحلام الغطاء من عنها وهو تقوم لترحب بضيفتها :
-يا مرحب يابتي .. نورتي بيتك .
ثم ضمتها بحـ.ـضـ.ـنه بحنان أم وهي تربت على كتفها :
-تعالى في حـ.ـضـ.ـني ، أمك راحت لكن ربنا رزقك بأمين غيرها ، أنا وعمتك صفية ، ولو مشالتكيش الأرض أشيلك چوة عيني يا حبيبتي ..
انفجرت رقية في البكاء مع أول ضمة ، فكان المشهد مثير لألف فضول يطغوا على جيش الكـبـــــريـاء ، مالت نحو هارون متناسية خصامهما لتسأله بلعفك :
-هي مين دي ؟! هاه ؟! مين؟!
وشوش لها بصوت يحترم فيه حـ.ـز.ن زوجة أخيه وأخيه ليُجيبها :
-مراة هلال !!
تثاوبت ليلة إثر بدء مفعول الدواء :
-أحيه !! هو اتجوز امتى ؟!
رد بتلقائية والبسمة لا تفارقه :
-الصبح !!
عقدت حاجبيها بذهول :
-الصبح !! أنتوا كلكم مجانين كده !! قصدي ازاي يعني الصبح انا متعزمتش على الفرح !! وو
قاطعها مستفزًا وهو يغمز لها :
-متزعليش ، هابقى أعزمك أنا على فرحي ..
سكب دلو مثلج فوق رأسها جعلت ملامحها تتجمد لتتراجع للوراء وتتشبث بالغطاء وهي تراقبه بسخط :
-أحيه !! أنا مش بكلمك أصلا !! لو سمحت متكلمنيش تاني واحترم اتفاقنا الله !! ولا هو اتفاق عيال يعني!!
لم يعلم سبب تسرب الضحكات لروحه وهو يستلذ بالنظر إليها ، تجاهل سجيتها ووثب بجوار أخيـه ليتهامس معه :
-عاوزك ..
فأوقفهما حديث أحلام وهي تخبره :
-هلال ، سيبها نايمة في حـ.ـضـ.ـني الليلة دي ، البت يا حبة عيني تقطع القلب !
رد بثبات وبدون أي ملامح وهو يقول :
-حـ.ـضـ.ـن زوجها أولى بها وبحـ.ـز.نها يا أحلام .. ولا أيه !!
فرت الضحكة المكتومة من على وجه هارون لترسو على وجنة” ليلة ” التي تمدد ثغرها ثملًا بالضحكة ، كل منهما أرسل نظرة سريعة للأخر ، فوشوش له هارون بنفاذ صبر :
-عقولك عاوزك ..
-صبرًا ..
تأفف :
-ديه ياصبر الصبر ..
ثم ربت على كتف رقية التي تجهش بصدر أحلام قائلًا :
-رقية .. هيا على غرفتنا ..
ابتعدت عن أحلام وهي تكفكف عبرات ، فمسحت العجوز على رأسها :
-حبيبتي هوني على روحك ، اطلعي افرطي جـ.ـسمك والصبح تعالي أقعدي معاي .
أومأت بخفوت ثم نظرت لهلال تعلن رحيلها .. سار خلفها وهو بتبع خطواتها ، فأتبعهم هارون الذي يراقب أخيه كي يودع ظهر زوجته بالنظرات مع كل خطوة تخطيها ، وقف أمام أحد درجات السُلم كي يحرسها بأنظاره ويطمئن أنها وصلت لغرفتـهما .. ضيف الحب أن حلَ لابد من أنه يرسم بيده الضحك على جميع الوجوه حتى وأن اقتحم موطن عزاء ، حك هارون ذقنه ليخفي ضحكته قائلًا :
-يا صبر الصبر !!
أما عن ليـلة التي استقبلت أحلام بفضولها :
-أحلام ، احكي لي كل حاجة ، أنا مش فاهمة حاجـة .. !!
عاد هلال لأخيـه ليرى ما الأمر الذي يحتاجه به ، أخذ الأخوة يتحاوران حول موضوع المجلس وخبر عزلهم لهلال ، وآيضا جاءت سيرة شريف أبو العلا الذي بات ثأره مع هلال وهارون الاثنان معًا .. مرت قرابة النصف ساعة على حديثهم حتى نهض هلال قائلًا :
-كل شيء سيبقى على ما يرام !!
غادر أخيـه ليصعد لغرفته التي زُينت بزهرة الحُب وأصبح بها من يؤنس لياليه ، وآيضا تحرك هارون عائدًا نحو غرفة أحلام ليخبرها بأنه سينتظر أبيه بالخارج ثم ينام ، ولكن لفت انتباهه غرق ” ليلة ” في النوم العميق على فخذها ، فنادته طالبة :
-تعالى ساعدني يا هارون نعدلوها .. كانت بتحدتني وفجاة لقيتها نامت ..
وضح لها هارون الأمر قائلًا :
-العلاچ لازمًا ينومها ؛ ديه زين أنها قادرة تكلمنا وتتحرك .. وو
حاولت أحلام أن ترفع رأس ليلة ولكن لضعفها وكبر سنها عجزت عن فعل ذلك .. مال هارون ليزيح خصلات الشعر المبعثرة عن ملامحها ويضع كفه تحت كتفيها ويحركها فوقه ليريح رأسها على الوسادة ، فأشفقت أحلام عليها وهي تشـ.ـد الغطاء فوقها وتقول بحـ.ـز.ن :
-بت زي توب القماش الأبيض ، مفيهاش ذرة خبث ولا مكر ، قلبها بفتة بيضة ..
ظل يتأمل ملامحها الهادئة وهي تنام بهدوء ليقول :
-والله ما عارف يا أحلام ! البت دي وراها سر غريب ولازمًا أعرفه !!
تسرب القلق لعقل أحلام :
-كييف يا هارون !!
شـ.ـد عباءته فوق كتفيه وقال بتردد :
-ليها فترة عتاخد علاچ غلط ، والفكرة أن أمها اللي مديها العلاچ دي !! علاچ يمـ.ـو.تها ما ينفعاش !! كيف أمها دكتورة وتغلط الغلط ديه !!
ندبت أحلام على صدرها ثم نظرت لوجهها الملائكي وأخذت تمسح على شعرها:
-يا ضنايا يا بتي !! اسم الله عليكِ ..
ثم رنت جملته الأخيرة بآذانها متذكرة الطبيبة التي ذهب لها زوجها :
-أمها داكتورة !!
همس لأحلام بحذر :
-أحلام أوعاكي تجيبي لها سيرة لغاية ما أتاگد .. خلي بالك منيها وأنا هفوت عليـك الصبح ..
~بغُرفة هلال ..
لقد فرغ هلال من تأدية صلاة قيام الليـل بعد ما أقنع رقية أن تصلي معـه .. ألقى التحية على يمينـه ثم واصل ذكر الله ثم الصلاة على الحبيب ، حتى دار لينظر إليها فوجدها ما زالت ساجدة وتبكي بصوتٍ مكتوم .. تمزق قلبه حـ.ـز.نًا على حالتهـا خاصة إنه لن يود فرض نفسه عليها ، ففارق سجادة الصلاة وشغل سورة “مريم” على جهازه ، ثم عاد لها وجثى على ركبتيه قائلًا :
-للعلم بكاءك يعـ.ـذ.بني ويعـ.ـذ.ب أمك .. ألا تشفقن علينـا !!
رفعت وجهها عن سجادة الصلاة وكفكفت دmـ.ـو.عها وهي تدكر للتو أنهما بغرفة واحدة معًا .. زاد تـ.ـو.ترها وهي تنكمش حول نفسها لتقول له :
-أنا عاوزة أروح أنام في أوضة هاجر ..
حاورها بالفصحى لغة القلوب لانه دومًا ما يرى أن الحديث العامي لا يليق بالأحبة :
-وغرفتك ! ألا تُعجبك ؟!
حكت كفوفها ببعضهما :
-وأنتَ ؟!
أشار نحو تخته وقال :
-ستنامين هنا ، ولا تحملين همي .. سأدبر أمري ..
أبت بحرج وتـ.ـو.تر ملحوظ :
-كيف !! لا أنا قصدي مش هينفع نباتو في الأوضة لوحدينا وو ..
أمسك بكفها كي يمنع ذهابها وهو يقول :
-لِمَ تصعبين الأمر عليكِ ، لابد أن تعتادي هذه غُرفتنا ..
طالعته بخــــوف من عقـ.ـا.ب الله وهي تسأله :
-شيخ هلال ؛ أنت متأكد أن چوازتنا صحيح أنا حاسة بالحرمانية ؟!
مسح على لحيته وأحمر وجهه وهو يتطلع لها بنظرته التي تربكـها كثيرًا وقال :
-حاسة !! والدين بالأدلة القاطعة وأراء الفقهاء وليس بأحاسسنا !!
ثم دنى منها خطوة وهو يتجرأ ليحوط ذراعيها بكفوفه ويقول متسائلًا :
-تقصدين العدة !!
رفعت جفونها له لترى عيني مقمرتين تفحصها بـ مشاعر غريبة ، أومأت بالإيجاب وهي تلقي نظـرة على موضع يديـه ليقول بحكمة :
-حسب رأي الشافعية والحنفيـة ؛ لا عدة عليكِ .. ولا يوجد أي صلة تربطـك بهذا الحقيـر لأنك الأطباء دبروا الأمر ..
ثم تعلق بأهدابها المبللة وأتبع :
-وحسب آراء المالكية والحنابلة ؛ تقع علي من في حالتك العدة وهي ثلاثة قروء ..
ثم أطال النظر بعينيها وهو يتبع :
-ورأي ثالث ؛ تبرئ المرأة بحيضة واحدة ..
ثم أمسك بذقنها ليرفع وجهها إليه وأكمل بصوته المُريح للنفس :
-زواجنـا صحيح وقائم على الإشهار والشهود وبالسنة النبوية ، وأنا لم ألزمك بشق تمرة من واجبك كزوجة ، نحن اتفقنـا إنك هنا مثل هاجر ..-ليكمل ملاطفًا- بل تزيدين درجة أو درجتين ، كوني أمينة للسر ولا تُخبريها ..
شبح ابتسامة خفيفة ركض على ملامحها يوحي بأمانها له ولكن بلغ التـ.ـو.تر ذروته بقلبها وهي تحت رحمته ونور عينيه وفي ظل الإضاءة الخافتة لتقول بصوت متهدج :
-بس أنا مش هقدر أنام معاك في أوضة واحدة ..
عض على شفته السُفلية محترمًا رغبتهـا وهو يسحبها من كفها لتخته ويجلسها برفق:
-تمام ، نامي بمكانك .. وأنا سأرحل .. هياا ..
لبت طلبه بطاعة وهي لا تعلم أين ذهبت رقية المتمردة التي كانت تناطحه دومًا ، مددت على جنبها غير مكترثة لوقوفه ، شـ.ـد الغطاء فوقها وهو يقول ناصحًا:
-على جانبك الأيمن كما أوصانا النبي ..
رق قلبه بجرس السلام النفسي الذي حل فوقهما وهي تعتدل على جانبها الأيمن .. وتقفل جفونها سريعًا .. شـ.ـد اللحاف حد ذقنه وقال :
-تصبحين على الخير كله ..
ثم تناول منبهه الرقمي ، وعباءته الثقيلة ومسبحته تاركًا محموله يدوي صوت القران ثم قال لها :
-هنام في البلكونة ولو حبيتي تطمني أكتر قومي أقفليها من چوة .. لكن أوصيكي خيرًا ؛ ألا تفوتني صلاة الفجر أن دق الجرس أخبريني..
فزغت من مكانها رافضة فكرة نومه في هذه الأجواء البـ.ـاردة ، قرأ الرفض بعينيها فاستقبلها بابتسامة رضا :
-كي تكونين بحريتك …
أومأت متقبـلة الأمر لتنهض من فراشها وتتبع خُطاه ، ثم وقفت على أعتاب الشرفة وهو يضع كرسين مقابل بعضهما البعض ، فشـ.ـدت جرار الشُرفة وأحكمت غلق الباب عليه بقلب يرفض تصرفها قطعًا وعقلًا يؤيدها ويُحييها كي تكون بأمان أكثر ..
•••••••••••••
بعد ما جاء الحج خليفة واطمئن قلـب أحلام بإنه وصل سالمًا غانمًا لبيتـه وبدون خوض في أي تفاصيل طلبت منه أن يصعد كي يستريح بغُرفته ليرتاح من مشقة السفر ..وسيؤجلان حديثهما للغد..
ثم عادت لغرفتها لتلقي نظرة على كاسة الشاي التي ارتشفها هارون فوجـدتها قد جفت تمامًا عن باقية الأكواب وكأن لعنة الاساطير أصابت قلبـه ، ففرغت السائل بقلبـه لـ يلين و امتصت جفاءه بدلًا عنه .. قفلت نور الأباجورة ونامت بجوار ليلة التي تتأملها بعيون أم مشفقة على حالتـها وهي تمسح على شعرها وتدعو لها من كل قلبـها …
انفلق الصبـاح وغازلت أشعة الشمس جفون هلال النائم بالشرفة والذي ولأول مرة يضيع صلاة الفجـر ، فزع من نومه كالملدوغ وهو يلتفت حوله كمن فقد عقله ، محاولًا استيعاب حقيقة استيقاظ بعد صلاة الفجر ، طالع قرص الشمس بالسماء وهو يردد بنـ.ـد.مٍ :
-يالله !!
ثم التفت للوراء وحاول فتح الباب ، فوجده مقفـولًا ، ظل يهذي بالاستغفار وهو لا يعرف كيف يتصرف في تلك الورطة وخاصة غـــضــــبه الشـ.ـديد الذي عشش في قلبه إثر تضيعه لصلاة الفجر فلا تلومن قلبًا تعلق قلبه بالمساجد أن أضاع فرضًا كأنه ضيع عامًا من عمره بالهواء عبثًا ، نزع عباءته الثقيلة ووضعها على سور الشرفة و التي كانت تدفئه وشرع بطقوس التيمم ليلحق صلاة الضحى ويكفر عن غفوته ،ولسوء حظه لمحه هيثم من أسفل ليمازحه :
-وعلى إكده نومة البلكونة مريحة يا هِلو !!
عض هلال على شفته السفلية متمالكًا غـــضــــبـه :
-أخفض صوتك يا أحمق..
عانده هيثم ممسكًا بأذنه :
-عتقول أيه مش سامعك ،أنت عتوشوش روحك عليِّ صوتك وخلي اللي مشافش يسمع .
توعد له :
-بس انزلك يا هيثم الـ ..
داهمه ساخرًا :
-ما تنزل ولا مقفول عليك ..!! ياعيني عليك ؟! شكلك إكده مصلتش الفچر ! واعرة قوي دي يا شيخنا ..
ثم قوس يده على جانب فمه وأكمل :
-ألحق اتاوى قبل صفية ما توعاك ..
جاءت صفية من الداخله لتلوم هيثم قائلة :
-عتكلم مين على الصبح .. ؟!
طالع أخيه صارخًا بصوت مرتفع ليوعيه ولكنه جاء ليفـ.ـضـ.ـحه أكثر :
-صفية چات ، عقولك صفية چات !! ادارى ..
ثم ركض نحو أمه ممازحًا ليشغلها عن أمر أخيه :
-صباحك مصفي يا صفصف .. لساتك زعلانة !!.
-الود ودي أسيبهالكم وأهج ومحدش يعرف لي طريق .. أبوك بس يصحى ولازمًا يشوف حل فالچوازة دي !! ويا أنا يا هي ..
-مين ؟! چوازة هِلال أخوي !! قولي حاچة غير إكده ياما ، معندناش طلاچ هو أنا اللي هفكرك .. هلال لبس …
-ماهو لازمًا يكون فيه حل !! البت دي متقعدش في بيتي دِلوق حريم النجع ياكلو في سيرتنا زي اللبانة ..
~بالداخل ..
كانت ليلة خارجة من المطبخ وبيدها مائدة الشاي والكيك بناءً على رغبة أحلام ، حيث أنها كانت تسير ببطء كي لا تقع الصنية من يدها حتى وقف هارون أمامها بجسده الصخري يمنع خُطاها .. قطعت خطوة نحو اليمين فقطع مثلها .. ثم آخرى نحو اليسار فوجدته أمامها ، وقفت بمكانها متأففة :
-عديني لو سمحت !!
تفقد المائدة التي تحملها ثم تناول قطعة من الكيك فعارضته :
-ايه ده !! بتاخد من حاجتي ليه وعلى أدي أنا وأحلام وبس ! اف ؟
-صباح الخير يا أهل الخير ..
أبت أن ترد عليه تحيـة الصباح وامتد نظرها لبعيد خاصة نحو هيثم الذي يقترب منهم ، فتجاهلت وجود هارون تمامًا لتخطو نحو هيثم مرحبة :
-صباح الخير يا هيثم .. !! لو لسه مفطرتش تعالى أفطر معايا أنا وأحلام .. أنا جايبة كيك كتير !
اندفع هيثم مهللًا بها :
-صباح اللي يغني مواويل على عيون ست الحلوين ..
شـ.ـد هارون عباءته المُلقاه على كتفه متحمحًا بضيق :
-ما تصطبح !!
-مالك يا عمدة !! مضايق ليه ..
تدخلت ليلة متعمدة تجاهلها :
-هيثم سيبك منه ؛ وتعالى اشرب معانا الشاي قبل ما يبرد ..
هب بوجهها :
-ايه سيبك منه ! عيل صغير أنا علعب معاكم !!
ثم هب بوجه هيثم والغيرة تلتهم ملامحه :
-عندك مقابلة في البنك اللي هتشتغل فيه بكرة ، وتنزل دِلوق تشرف على مصنع السكر ، مش فاضيين أحنا للچلع ديه !
تدخل هيثم ملاطفًا :
-مالك يا هِرن !! دي ليلة مش قصدها حاچة ، ولا ايه يا ليلة ؛ ما تقوليلو ..
نظرت لهيثم بملامحها المنكمشة :
-مش بكلمه ..
حك هيثم رأسه مصدرًا إيماءة قوية ويتذكر اتفاقهما بالأمس ، فقال :
-معلش يا عمدة ، عندي أشغال آخرى لازمًا أخلصها ، تقضي ليلة مُصلحتها ومرمطني كيف ما تحب .. رقبتي ليك !
فتحمست ليلة بفرحة متجاهلة زمجرة غـــضــــبه التي لا تخفى عن الأعمى :
-بجد يا هيثم !! هنروح فين ؟
تأرجحت عيني هيثم بحيرة وهو يطالع أخيه كي يلحقه من ذلك المأزق :
-مش عارف بس آكيد هعرف ..
جاءت زينـة من الخلف ركضًا وهي تصبح على فردوس لتهلل وتلوح بيديها :
-يا صباح النور على البنور ، صباحك هنا وزهور يا عمدة ..
مال هيثم على مسامع ليلة قائلًا بمزاح :
-أهي أم قويق چات !!
ثم جهر :
-أيه النور ديه يا زينة ، دخلتك ولا زينة العيد ، أؤمرينا ياما أنتَ هتنطيلنا كل صبح إهنه !! إكده كتير وهنتكهربو من كتر الأنوار !!
ثم برر مسرعًا :
-قصدي ادي فرصة للراجـ.ـل طب يتوحشك ..
تغنجت زينة وهي تقترب من هارون متعمدة غـ.ـيظ ليلة :
-أومال لو قولتلك أننا طول الليل مكالمـ.ـا.ت !! هتقول ايه ؟
رد هيثم بثقة وهو يطالع أخيه :
-هقول هارون أخوي من زمان وميعملهاش .. رغي التليفونات عيكهرب يده ..
-المرة هيكهرب قلبه ، طب حتى قوله يا هارون ..
رد هارون بضيق وهو يتأهب للذهاب :
-أقول حاچة محصلتش !!
بلعت ليلة طُعم كيد زينة ، فشـ.ـدت وتر الغيرة وهي تنادي هيثم :
-هيثم انا هفطر مع أحلام ، واجهز نخرج سوا .. هكلمك ..
هتف هيثم بسعادة ليثير غـــضــــب أخيه أكثر :
-على رنات يا لوليتا ..
برق له أخيه بغـــضــــب وهو يبتعد عن زينة ليلحق بـ ليلة التي طيرت برجًا من عقله:
-هصبح على أحلام ..
فجاءت صفية من الخارج لتقول بضيق :
-وانت يا كبيرنا !! ناوي تچيب شبكة الغلبانة دي مـ.ـيـ.ـتى؟! البت خللت چارك !!
وقفت ليلة على أعتاب غرفة أحلام وقلبها ينتظر رده ، لا تعلم لماذا وربما فضول منها ، فـ رمى نظرة لعندها وهو يرد على أمه بملل وألف صوت يصدح بقلبه رافضًا :
-خديها وروحوا هاتو الشبكة النهاردة وهعدي على الچواهرجي أحاسبه ..
في غِصة النظرات دmـ.ـو.ع خفية لا يعلم حقيقتها إلا القلوب وأعين من أحبوا بصدق .. انتفض قلبها مثلما انتفض كفها الذي يحرك مقبض الباب وهي تتطلع له وكأنها تتوسله أن يراجع نفسه في قراره ، أن يأخذ بنصيحة أحلام .. أن يتوقف عن فعله مهما كانت العـ.ـا.قبة !! هللت زينة بالزغاريد ولم تراعٍ حـ.ـز.ن أحد ، ففزعت رقية من نومهـا وأول ما بحثت عنه هو ذلك الرجل الذي قفلت عليـه باب الشرفة بالليل ، هرولت مفزوعـة من مرقدها لتفتح له الباب وهي تعتذر بجملة الاعتذارات :
-راحت عليّ نومة ، معرفش كيف ، والله فضلت صاحية للفچر مستنياه عشان أصحيك بس غـ.ـصـ.ـب عني نمت ، أنا مش عارفة أقولك أيه ، والله …
قاطعها برفع كف يده أن تكُف عن الاعتذارات ودلف الغرفة بمعالم وجهه التي تكظم الغـــضــــب ، فتح الخزانة ليتأهب لنزوله المعهد الأزهري يلقي محاضراته الأسبوعية في الفقـه .. تابعت خُطاه معتذرة وهي تترقرق بالدmع :
-حقـك عليّ ..
دار لها بغـــضــــب دفين وهو يراجع نفسه بحـ.ـز.ن :
-رقيـة ، ليس لكِ ذنب ، هذا ذنبي ..
فأكمل مبررًا:
-ربما هذه عـ.ـا.قبة رفع صوتي على صفية .. سأحل أمرها الآن ..
أحست بالذنب أكثر وأنه وقف بوجه أمها لأجلها ، فانفجرت بالبكاء وهي تعتذر بشكل هستيري :
-أنا أسفة مكنتش عاوزة كل ديه يحصل ، خربطت لك حياتك ، ودنيتك .. وأنتَ مالكش ذنب .. هلال حقك عليّ ، كفاية وسيبني أمشي أنا عايشة غريبة إهنه .. سيبني وليّ رب يتولاني ..
فجر غـــضــــبه وهو يضـ.ـر.ب باب الخزانه بيده البيضاء التي لُطخت بحُمرة الغـــضــــب وهو يزأر بوجهها ويأخذ نفسه بصعوبة لينجي عـ.ـا.قبة ضياع للفجـر لأخر اليوم :
-رقية .. يكفي ..
عاندته باكية وصدرها يعلو ويهبط وهي تتراجع للوراء :
-أنا ماليش عيش في البيت ده ولا معاك ، أنتَ مُصر تشيل حِمل مش حِملك ليه !!
أغــــرورقت عينيه بدmع الحـ.ـز.ن عليها ليقول :
-أنتِ حِملي يا رقيـة ..
هزت رأسها رافضـة قراره :
-لا يا هلال .. أنا غلطت لما وافقت ، غلطت .. أنا واحدة مش هتفيدك بالعكس هضرك .. أنا معنديش حاچة أديهالك .. وأنت مش مُجبر تقضي عمرك مع واحدة زيي ..
رفع كفيه كي تهدئ وهو يترجاها :
-الكلام ديه مش وقته يا رقية ، من فضلك أهدي .. وأنا يا ستي راضي ومرحب شايلة همي ليـه !! رقية أنتِ أعقل من إكده .. قومي هنصـلو ركعتين لله وهتهدي ..
هزت رأسهـا رافضة :
-انزل شوف مصالحـك وهملني ، أنا زينة ..
احتدت نبرته قليلًا :
-رقية ، أمرنا منتهي وسواء أبيتِ أم شئت أنتِ الآن زوجتي وملك يدي ، فلا تعاندين ..
نبتت بذور رقية القديمـة بها وهي تستقبل جملته التي حركت كل ساكن بها ، فاكتفت بهز رأسهـا بالموافقة وتجاهلت وجوده وعصبيته واندست تحت لحافها وهي تعاود كُرة البكاء من جديد ، تبكي على أمها وحالها ومر أيامها التي عاشتها .. استعان هلال بالاستغفار كعادته وشغل سورة ” البقرة ” بصوت عالٍ وهو يراقبـها بصبر يطاهي ثقل الجِبال فرق كتفيه ، ليضـ.ـر.ب كف على الآخر وكل ما فعله أنه أرسل رسالة لزميل له يبلغـه عن اعتذاره اليوم وتغيبه عن المعهد كي لا يتركها بمفردها في هذه الحالة …
•••••••••••
~بغُرفة هاجر ..
والتي استيقظت على صوت رنين هاتفها المتكرر لتجد اسم ” شريف ” الذي حسم مصير لعبتـه خاصة بعد عِلمه بنسب ليـلة للعزايزة ، فأراد أن يصنع جاسوسًا له منهما .. ردت هاجر بصوت مفعم بالنوم ويملأه الضيق :
-أيوة !!
-دكتورة رقية صحيتك ؟!
ردت باختناق :
-أنتَ شايف أيه !!
شـ.ـد شريف مقعده الجلدي ليجلس فوقه وهو يقول :
-شايف أن حظي حلو أوي عشان اسمع الصوت الجـ.ـا.مد ده وهو لسه صاحي من النوم !!
انتفضت هاجر من فراشها وهي توبخه :
-انت اتچننت ولا ايه !! شكل قعادك مع المبرشمين والشمامين لحس نافوخك زيهم .
استخدm نبرته الملونة بدهاء الثعالب :
-طيب اعتبريني مش في وعيي وعذري معايا وتسمحي لي أقول لك أنك مفارقتيش خيالي من إمبـ.ـارح ؟! وأنك أجمـل واحدة أنا قابلتها ومنعت نفسي طول الليل أكلمك بالعافـ.ـية . و
نهرته هاجر بحدة :
-و أنك محتاچ تفوق عشان تعرف أنتَ عتكلم مين !! أنا هاچر العزايزي بت في ضهرها أربع رچالة يسدوا عين الشمس لو مش ماليين عينك ، أنا هخليهم يقلعوهالك عشان ما تشوفش تاني ويبقى عذرك معاك صوح ..تمشي براحتك تخبط في بنات الناس ..
ثم قفلت المكالمة بوجهه وهي تسبه بسرها :
-عاوزة مني أيه الچدع ديه يا ربي !!! هي ناقصاه !! طب والله لأقول لهارون خليه يعلموا الأدب ..
•••••••••••••
~بغرفة أحلام..
مد لها هارون القرص العلاجي الذي من المفترض أن تأخذه بعد الأكل وناولها كأس الماء تحت عيني ليلة التي تتحدث بالهاتف مع أحدى رفيقاتها ، وما أن رأت اهتمام هارون بأدوية أحلام تحركت بخفة وتناولت قرصها الصباحي بهدوء كي لا تدخل بشجار آخر معه ، فأرسل لها نظرة خبيثة دون أن تلحظها ووجه حديثه لأحلام :
-نمتي زين ؟!!
لتردف على سجيتها :
-نمت يا حبيبي ، خدت البت السكر دي في حـ.ـضـ.ـني ونمت ومدرتش بالدنيـا ، نومها كيف الملايكة ؛ طول الليل نايمة على جنب واحد ما اتحركت يا ضنايا .. و
رمقها بنظرة مبطنة بالإعجاب :
-لأجل بس لسانها عاوز يتقص ..
لكزته أحلام معاتبة:
-متقولش إكده، دي سكر ولسانها عينقط سكر ..
ثم وشوشت له وهو تلقي نظرة على ليلة الواقفة على أعتاب الشرفة :
-عاوزاك تحكي لي علّى حوار أمها ديه ، بس لما تمشي ..
حدج أحلام بنظرة حادة متفهمًا مقصدها ثم لاحظ ليلة بأنها عادت لتأخذ نوع آخر من الدواء نسيته بعد ما انهت مكالمتها ، لينهض مفتعلًا أي حوار معها :
-ربنا يشفيكي …
تركت الأبريق من يدها بغـ.ـيظ وهي تعاتبه بجزعٍ :
-ملاحظة أنك كُل مرة تبص لي كده وتقول ربنا يشفيكي وتمشي !! ممكن أفهم فـ أيه مش عاجبك فيـا ؟!
تحمحم بخفوت قاصدًا الإطمئنان على حالها :
-أنتِ زينـة ؟!
ردت بعفويتها المعهودة :
-لا انا مش زينة أنا ليلة !!
كز على فكيه بنفاذ صبر :
-يا صبـر الصـبر ..
ولى وجهه متأهبًا للرحيل فمنعته بثرثرتها :
-استنى استنى مش هسيبك غير لمـا افهم ! كل مرة تقول ربنا يشفيكي وتمشي ؟! شايفني مـ.ـجـ.ـنو.نة بشـ.ـد في شعري !! ما تقولي حاجة يا أحلام !!
زفر بامتعاضٍ يطوى خلفه غـــضــــبه منها ومن تجاهلها له ؛ ليوضح :
-قصدي أسالك أنتِ زينة .. مليحة .. عتشكي من عييا !
تفهمت آخيرًا :
-اااه ، تقصد أنتِ كويسة !! اه يا سيدي كويسة وزي القـردة أهو قُدامك ! مش شوية دوخة كلنا عارفين سببهم اللي هتعمل عليهم حوار ، ولا عايز تراضي ضميرك وخلاص !!
ضـ.ـر.ب كف عـ الآخر مغيرًا مجرى الحديث لينفي اهتمامه بحالتها الصحية نهائيًا وهو يتأمل خُضرة عينيها التي تتماشى مع منامتها :
-طالمـا أنتِ سليمـة .. ما تشوفي شيخ يرقيكي .. ولا أنا الـ جالي عمى ألوان ! ولا أنتِ أيه حكايتك يابت الناس ؟!
-شيخ !!
لوحت بكفها مستفهمة :
-استنى بس .. بالراحة عليـا ، عشان أنا مش فاهمة أي حاجة !
زفر بضيق وهو يتحرك مودعًا أحلام ، فلحقت بخطواته ركضًا وهي تقف أمامه عاقدة ذراعيها أمام صدرها :
-استنى هنا ، وبلاش اسلوبك الاستفزازي ده !!
رد على مضض يغلف به لذته في الحديث معها وقال متأففًا وهو يتعجب من ضحكة أحلام التي تشاهدهم بأعين لامعة :
-يا صبر الصبـر .. ماشي قبـل ما اتخوت على يدك ..
ضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها وهي تعبر عن جزعها منه بنفس طريقته :
-كده بقا أنا الـ هتخوت على يـدك ! لما تقول جملة كملها للآخر !! ولا أنت مش عندك كلام وبتحاول تنكشني وخلاص !! كده مش هصالحك على فكرة ؛ فمتحاولش.
ثم بللت حلقها وأتبعت بسرعة وهي تشير بسبابتها ساخطة من نظراته الممتلئة انبهارًا بخفة روحها :
-أنتَ متعمد تجنني صح !! ده مش أسلوب .. اتفضل اشرح لي حالًا أيه مضايقك مني !فيـا أيه مش عاجبـك أنتَ بالذات ؟! ولا هو جر شكل وخلاص ! غريبة كل حاجة اعملها بتنتقدها !!
رد موضحًا حديثه الذي يخفي ورائه مواويل من الغزل قاصدًا استفزازها :
-ياستي مستغرب على حالك ! كل يوم عينك بـ لون شكل ، اسيبك لونهم زُرق ألقاهم تاني يوم خُضر … ما هو يا أما أنتِ عيانة ، يا ملبوسـة ؟! ما تثبتي على لون .
ردت بقنوط ممزوجًا بالسُخرية وهي تمسك رأسها منه :
-يعني مش ماشية معاك أنهم لينسيز مثلًا !! أنت جاي من أي عصر !!!
رد متفاخرًا وكأنه يذكر قلبه الذي رق لها بأعرافهم التي لا ترحم :
-أنا مخابرش غير عصر واحد وبس ، عصر العزايزة !
بثت شكواها لأحلام :
-شايفة طريقته يا أحلام !!
تدخلت أحلام الغارق بالضحك :
-ما تستهدوا بالله !! أنتوا مش عيال للمناقرة دي !! صل على النبي يا هارون ..
لوحت ليلة بكفها وهي تقعد بجوار أحلام لتشكو لها :
-أحلام قوليلو ميكلمنيش تاني ، أنا غلطانة إني رديت عليه أصلًا ..
ثم فتحت حِدقة عينيها وسألتها :
-لون عيني مش حِلو !!
-قمر واللي يقول غير إكده ما يوعى يشوفهم ..
تمتمت بخــــوف يحرك نبرتها :
-كلك ذوق يا أحلام وكلامك انتِ اللي قمر ، مش عارفة شكلك نسيتي تعلميه الآدامية في الكلام بدل ما هو ممم زي ما أنت شايفة مش محتاجة أقول لك …
ثم التفت لرنين هاتفها لتقول بعجلٍ:
-ده آكيد هيثم ..
فرغ دخان غـــضــــبه وغيرته بتنهيدة قوية وهو يتلصص السمع لمكالمتهم التي لم تخلٌ من الضحك حتى بلغت الغيرة أقصاها وهو يقول لأحلام بجزعٍ :
-خليها تخف مسخرة مع الزفت هيثم !!
•••••••••
خرجت ” نجاة ” من بيت أهل زوجها وهي تقفـل الباب ورائها مستعدة لذهابها للعمل بالوحدة الصحية ، ففوجئت برؤوف ينتظرها أمام البوابة بدون خــــوف ، فزعت من رؤيته وهي تتفقد المكان حولهـم خشية من أن يراهم أحد وتتراجاه :
-رؤوف ؛ أمشي من إهنه !! أنتَ أيه اللي چابك !! يا نهار مش فايت ؟
عقد ذراعيه أمام صدره وهو يقول :
-چاي أتقدm لك يا نجاة ، وأشوف صرفة معاهم ..
لطـ.ـمـ.ـت على وجهها وهي تترجاه :
-رؤوف بطل چنان ، أنا مش عاوزة اتچوزك ولا نيـ.ـلـ.ـة ، سيبني سيبني أربي ولدي من غير مشاكل .. أنا مش حِمل إنه يبعد عني ..
أمسك بمعصمها وهو يجذبها نحوه حاسمًا أمره بخصوصهم :
-نچاة خُلصت .. أنا مش هتچوز غيرك ولو السما انطبقت على الأرض ….
باغته طلق عيار ناري مر بجوارهم وصوت يصـ.ـر.خ من أعلى ويقول ……
أبدًا ‏لم أكن أبحث عن شخص يشبهني ..
لم أحتمل نفسي حتى أرغب بنسخة مماثلة منّي، كنتُ أبحث عن شخص أجد فيه ما ينقصني شخصٌ يسد الثقوب التي أحملها ويملأُ الأجزاء الفارغة منّي، شخصٌ أرمّمُ جدرانه وأتقمّص أفكاره واختلس كلمـ.ـا.ته التي أغرقتني بنهر حُبه ، أكون فيه كما هو فيّ، شخص تتلاشى بيننا كلمتي أنا و أنت ..
روح واحدة في جسدين مختلفين ..
••••••••••
لطـ.ـمـ.ـت نجاة على وجهها وهي تترجاه :
-رؤوف بطل چنان ، أنا مش عاوزة اتچوزك ولا نيـ.ـلـ.ـة ، سيبني سيبني أربي ولدي من غير مشاكل .. أنا مش حِمل إنه يبعد عني ..
أمسك بمعصمها وهو يجذبها نحوه حاسمًا أمره بخصوصهم :
-نچاة خُلصت .. أنا مش هتچوز غيرك ولو السما انطبقت على الأرض ….
باغته طلق عيار ناري مر بجوارهم وصوت يصـ.ـر.خ من أعلى ويقول مذعورًا :
-عاوز أيه من مراة أخوي يا حضرة الظابط..
وقف رؤوف أمامهـا مدافعًا عنها بهيبته القوية وهو يوبخه :
-أنتَ عارف عقوبة اللي يضـ.ـر.ب نار على ظابط ايه ولا افكرك !!
عانده” صديق ” بعنفوان :
-ظابط في وِحدتك عدm اللامؤاخذة ، لكن الدار إهنه له قواعد انا اللي عحكم فيها ..
تمالك رؤوف أعصابه ، فتدخلت نجاة لتُلطف الأمر :
-خلاص يا صديق ، رؤوف مش قصده وهو ماشي دِلوق !! مش إكده !!
مد رؤوف ذراعه أمامها ليُرجعها للوراء ووقف بوجهه قائلًا :
-ما تيچي نحلوها ودي !! البلد كلها خابرة إني رايد نجاة وچيه الدور عليك ، قبل ما أعاود هكتب عليها وأخدها هي وولدها يعيشوا معاي ..
-باه باه باه !!
تكدست النيران بعينه وهو يحملق بنجاة التي تندب على وجهها ليقول:
-دانتَ عفي على إكده وطايح في الكُل لا هامك عرف ولا كبير !!
ثم صرخ بوجهه :
-وطالما هي رايدة چواز ، مقالتش ليه كنت كتبت عليها ..
أفحمه رؤوف :
-هي رايدني وبس ، مش رايدة چواز .. ومهما كان رأيك ورأي أعرافك محدش هيأخدها مني..
عمت نظرات المكر بعيني صديق وهو يتلصص النظر لها :
-وأنتِ أيه رأيك يا عروسة !!
كل ما بها كان برتعش لتناظر رؤوف معتذرة وهي تعصر على قلبهـا :
-لاه مش عاوزة حاچـة لا رايداك ولا رايداه ولا عاوزة اتچوز ، وهو چيه إهنه وأنا سمعته رأيي ..
ثم شـ.ـدت أوزار قوتها وصرخت بوجه سلفها:
-وفضونا من السيرة دي عاد .. أنا حياتي كُلها لولدي وبس .. أنا مش هكرر الغلط مرتين واتچوز راجـ.ـل مش حابه ..
ثم نظرت لرؤوف بأعين يفيض منها البكاء:
-ولا هخش معاك في حرب تمنها ولدي ..
لتودعه بعينيها وتحاوره صمتًا آنتَ الوحيد الذي أحببتك عنـ.ـد.ما كان الحُب في عيني عدm .. وأنت الوحيد الذي رفضته وحبه بقلبي يرفرف كالعلم .. ثم استقلت سيارتها حاملة قفة حـ.ـز.نها وقلبها الذي يتقطر دmًا وهـ.ـر.بت من حربهما التي لا تجلب لها إلا الخسائر …
حك صديق ذقنه بتوعد ليقول سرًا :
-أما فرچتك يا نچاة !!
••••••••••
-هيثـم أنا جاهزة ، هنروح فيـن بقا ؟!
خرجت ليلة من غرفتها وهي ترتدي بذلتها الشتوية المصبوغة باللون الأحمر القاتم وتحته سترة شتوية باللون الأبيض وكوتشي بنفس اللون ، الكاميرا مُعلقة برقبتهـا وأخذت تتفقد السماء الملبدة بالغيـوم فوقهم ، أطلق هيثم صفارتـه الانبهارية وهو يقول :
-مش معقول هتطيري عقول إكده يا ليلة !!
تأرجحت عينيها بعبث :
-يعني أيه ؟!
دنى منهـا وهو يغازلها بنظرات بريئة ويقول :
-كل ما تدخلي الأوضة دي تطلعي أحلى !! ألا قوليلي السر في الأوضة و أنتوا الچمال ديه عندِكم وراثـة ولا أنتي كوشتي عليه كله وخدتيه لنفسك !!
شرعت أن تسير بمحاذاته بالحديقة متجهيـن للبوابـة الخاصة بالبيـت وهي تقول :
-مش عارفة بس جدو وبابي كانوا حلوين أوي .. بابي كان شبه حسين فهمي كده ، بس يا خسارة عينيا مش ملونة زيه .. أخدت عينين مامي..
-ماهي مش بالعيـون يا ليلة .. بالروح ..
وضعت كفوفها فوق الكاميرا المعلقة وأكملت سيرها بخطوات أسرع وهي تمازحه :
-بكاش مـ.ـو.ت ، عكس أخوك العمدة .. ما بيعرفش يقول كلمتين حلوين !! أبقى علمه شوية .
حك شعر رأسه مفتعل الإحراج وهو يمس لها:
-هارون أخوي يعرف الجن الأزرق متاوي عياله فين ؛ لكن عند الحريم ويعطل .. فقري ما يعرفش أنهم نعمة واللي يكرههم يعمى ..
-لا أنتَ كارثة بجد ..
كان الضحك يكسو خُطاهم ولم يخلٌ الحوار من طرفات هيثم اللطيفة حتى لفت نظرها وقوف شاحنات كبيرة بدهليز البيـت ، وكالعادة سبقها فضولها متسائلًا :
-أيه العربيات الكبيرة دي !!
أخرج هيثم ريمـ.ـو.ت سيارته وهو يفتحها بضغطة واحدة على الزر ويقول :
-ديه تموين أول الشهر ..
وقفت تراقب حركة العمالة وكل منهم يرص الصناديق بالعربة :
-مش فاهمة يعني أيه ؟!
اقترب الاثنان من السيارة وهو يقول :
-شوفي يا ليلة ، مفيش بيت في العزايزة ينفع تكون تلاچة بيته فاضيـة ، إحنا إهنـه شُرفة ومعندناش طبقة فقيرة وطبقة متوسطة .. كلنا أشراف في مستوى واحد .. والعربيات دي مساعدات أساسية من المچلس هو متكفل بيها حتى ولو مش محتاجين لازمًا خزين الشهر يوصلهم مش ناقص غلاية رُز ….
استقلت سيارته وهي تحت تأثير دهشتها :
-لحظة بس ، يعني الحاجات دي بتتوزع كده ببلاش !! بس دي ميزانية جـ.ـا.مدة ازاي !!
-ده العُرف !! العزايزة دولة چوة الدولـة ..
دور هيثـم سيارته متأهبًا للمغادرة تحت عيني هارون التي تركت براح البيت حوله واستقرت نحوهم وهو يراقبهم بملامح يفيض من الغـــضــــب الغير مبرر بل الأدق غيرة لا يسمح قلبه المغــــرور الاعتراف بهـا .. ما حرك هيثم سيارته ومر من أمام هارون فأجبر أن يوقف السيارة قليلًا احترامًا لأخيه وهو يفتح النافذة ويسأله :
-محتاچ حاچة يا عُمدة !!
لم يتكفل بنزع النظارة الشمسية عن عينيه كي لا يفـ.ـضـ.ـح دواخله ، كي لا يكشف عن عينيه اللاتي لا تُبصر سواها ، مازال محافظًا على معالم وجهه الثابتـة وهو يسأله بجدية :
-على فين ؟!
-مش عارف ، أهو مطرح ما رچلينا هتودينا !!
بوجه مستبد و طاغ وقلب هش كحلوى القطن ؛ كتم غـ.ـيظه بداخله وقال بحدة :
-ما أنت لو مش محدد هتروح على فين يبقى بلاها طلوع ، ولا هي سرمحة وخلاص !!
زفرت ليلة بضيق من سطو أوامره وتحكمـ.ـا.ته التي لا تنتهي أبدًا .. وعقدت ذراعيها أمام صدرها مستندة على الباب وهي تتحاشى النظر له تمامًا مما آثار غـــضــــبه أكتر ، أخرج هيثم رأسه من النافذة وهو يغمـز له بطرف عينيه بألا يخجله أمامها وهو يقول:
-وسع صدرك هبابة يا عُمدة .. ليلة چواة عيني متعتلش هّم !!
رد بجمود ونظرته لم تتزحزح من عليهـا رغم تجاهلها التام لوجوده وهي تلهي نفسه بمشاهدة الرجـ.ـال أمامها ، فهو لم يشغله خــــوفه عليها بقدر ما يفحمه تجاهلها له وتعمدها بألا تلتفت لوقوفه ، فقال بحزم وهو يشير بكفه :
-ساعة وتعاود ، ومش عاوز لف ومسخرة كاتير يا هيثم !!
أومئ رأسه بطاعة مسايسًا أمره معه وهو يعيد تشغيل سيارته كي ينجو من شظايا لهب أخيه المنبعثة نحوه :
-وأقل من ساعة ، هتزور الطريق وتعاود .
أشاح بغــــرور وهو يقول :
-وقولها تفرد بوزها ديه عالصُبح ، مش ناقصين فقـر .
دار هيثم إليهـا حاملًا رسالتـه ليُبلغها :
-عيقـولك مش ناقصين فقر وأفردي بوزك !!
اعتدلت في جلستها وهي تطل على هيثم لتقول بغـــضــــب :
-أيه العلاقة وبعدين هو ماله بيـا !!
حمل هيثـم جملتها الاعتراضية بمنتهى البساطة ليشعل النيران بينهم ليتأكد من شكوكه حوله أخيه :
-عتقولك مالكش دعوة بيهـا !!
سحب نفسًا طويلًا وهو يكز على فكيه ليصـ.ـر.خ مفجرًا طاقة غـــضــــبه المبهمة بأحد العمال :
-ما تشـد حيلك يا وِلد !!
أصاب الخــــوف قلبها إثر صوته المُرعد لتحث هيثم على الهروب بعجلة:
-هيثم أهرب قبل ما ياكلنا ….
الحُب ببدايته يكون كالطفل في مهده يبتدئ علاقتـه معك بالحبـو بدلًا من ثباتك بمكان والعالم يدور من حولك ، أن تحبـو في دروبه تتفقدها بفضول لا تعلم من أي جهة تسرب إليك وتدور أنت حول العالم ؛ عالمك الصغير الذي أعجبك ، ثم يعلمك المشي فـ الجري لتلحق الخُطى وتواكب سير العمر حوله .. ثم يسيطر على عقلك ويجعلك تتصرف كالصبيان ترسم وجه من أحببت بالطبشور على الحيطان وتدون اسمه على زجاج العربات المغبرة ، ثم ينتقل بك الحال لشاب يافع استبدل الطبشور بفرشاة ولوحات ، بقلم ومواويـل .. وتدرك حينها أن هناك أمرأةً قلبت تاريخك رأسًا على عقب وبتُ مذبوحًا فيها من الشِريانِ إلى الشِريان ..
ومن هنا جاءت لعنة الحُب لتُصيب قلبك وتغير مجرى حياتك يا أحمق .
عاتب هارون نفسه على اهتمامه المبالغ بها ، ولِمَ بات يطوف حولها كدبور عنيد يود لدغها بكلمـ.ـا.ته الجافة .. لِمَ بات لقاءها هدايـا وعينيها يتوه ، يتحول لصبي مراهق لم يعش فترة طيشه وهو بالسابعة عشر من عمرها ؛ لم يجد حلًا لاسئلة عقله المتراكمة والخالية من الأجوبة ليلجأ لحلـه السريع و ملاذه الوحيد في تفريغ طاقات غـــضــــبـه وهي لفافة التبغ التي لم تزور فمه لمدة ثلاثين عامًا ؛ فما حل عليه آخر خمسة أعوام يا ترى !! هل لكثرة ما فقده أم كثرة ما امتلئ بهِ !!
رج رأسه المتزاحم بالفكر وهو يعاتب نفسـه :
-ما خلاص يا هارون وشوف مصالحك عاد..
~بغرفة صفية .
رمت العباءة السوداء على كتفي زوجها المستند على عكازه وهي تبُخ سُمها بآذانه كعادتها وأخذت تواصل جولة ثرثرتها :
-لازمًا تشوف لك صِرفـة يا حچ الـچوازة دي قلبي مش راضي عنِها ، ولا البت نازلالي من زور .. كفاية فضايحها ..
ثم آتت بزجاجة المسك لتُعطر زوجها وأكملت مهددة بأسلوبها الكهين الذي يخالطه الترجي :
-البت دي لو قعدت على ذمة ولدي ليلة كمان أنا ههمل الدار وأروح لأخوي أقعد عنده وياني يا هي في الدار يا عمدة ..
كان يستمع لثرثرتها بهدوء لا يقطعه أي اعتراض وكإنه لم يستمع لحديثها من الأصل ؛ لأن رأسه غائصة في بحور الفكر التي لا تنقصها أبدًا ..
جلى حلقه وهو يطالع هيئته الشامخة بالمـرآة متذكرًا أكذوبة الطبيبة التي أوهمته بمـ.ـو.ت الفتاة التي يفتش عنها والتي لم يمر كذبها مرور الكرام على دهاء وفطنة رجل بعمره .. لقد صعبت عليه المهمة أكثر من قبل ، ألتفت لباقي ثرثرة صفيـة التي تمسح برفق على كتفه وتقول بفرحة :
-هاخد البت زينـة وأمها وأبوها ونشوفوا شبكة هارون ، خلي الفرح يخش بيتنا يا حچ ، بزيادانا ميآتم !! يبقى ولا بت ولا واد !! ديه أيه الخلفة اللي تُغُم دي!!
ما صبرت بأن تسمع رد فأعقبت مغيرة الحديث :
-والبت المصراوية بتاعت هيثم دي ، قعدتها طولت ؛ خليها تعاود بلدهم الناس تقول علينا أيه ؟!
عاتبها خليفة بنفاذ صبر بأسلوبه اللطيف:
-أنتَ فطرانة أيه على صُبح ربنا للرأس العمرانة دي كُلها يا صفية !!
هبت بوجهه مدافعة عن نفسها:
-حرمان يا حچ ما دوقته !! وأجيب نفس منين بس!!
لملم خليفـة شتات فكره من أمام صفية كي لا تزيد سوء الأمر عليه وغادر الغرفة متجهـًا نحو غُرفة هلال الذي جهر مناديًا بقوته المعهودة وهو يطرق الباب بمؤخرة عكازه :
-هلال !!! يـا هلال ..
تراقص قلب صفية فرحًا وهي تراقبه من باب غُرفتـها وتشكر ربها بأنها ستتخلص من هذه الغُمة الليلـة ..
توقف هلال عن ارتداء قبعة رأسه ليلقي نظرة مؤسفة على تلك التي تتنفض تحت فراشها وفتح الباب مُرحبًا بأبيه وهو يخرج له ويوارب البـاب خلفه :
-خير عليـك يا أبوي ..!
سأله بحدة :
-أومال فين مرتك !!
أطرق وجهه بالأرض وهو يقول :
-نايمـة يا حچ ، تحب أصحيها ؟
ربت الأب على كتفه وهو يتأمل ملامح وجه ابنـه بمهارة باحثًا على جواب لأسئلته ، اكتفي بقوله :
-اللي حُصل في المچلس لساتني مالومتكش عليه .. بس مش وقته ؛ خليك چار مرتك لغاية ما تعدي محنتها وبعدين هنشوفوا ..
اختصر الحديث مع والده وهو يتقبـله بسعة رحب :
-اللي تؤمر بيه يا أبوي ..
هز رأسه بحكمة :
-تصحى مرتك ونزلها تاخد بحس أحلام ، بلاش تقعد لروحها بين أربع حيطـان ..
حلت النازلة على قلب صفية التي خاب أملها وهي تدب على صدرها بحـ.ـز.ن :
-ديه ناوي يچلطني هو وعياله !! عملت أيه أنا بس لي حياتي يا ربي عشان يچرالي ديه كله !!
ثم لوحت بكفها متوعدة :
-وديني يا رقية ما طفشتك من إهنه مبقاش اسمي صفيـة …
عاد هلال لغُرفتـه و رد بابها بهدوء ، خطى خطوتين نحو تلك المنتفضة تحت فراشها ولكنه تراجع ، تردد ، ثم عاد لها مرة آخرى مناديًا :
-رقيـة …
لم تُجبه اكتفت بغلق عيونها المتورمة وشـ.ـد اللحاف فوقها ، استغفر الله في سره وتقبل الأمر بسعة صدر، أمسك بمصحفه وحرك الحامل المعدني نحو أقرب مقعد لتختها وشرع في تلاوة سورة ” الدخان ” بصوته العـ.ـذ.ب الذي يحرك كل ساكن .. ما سمعت أول آيتين بصوت أصابتها رهبة وعظمة القرآن الذي أجبرها بدون نقاش أن تكُف عن البكاء مستمتعة بدرجة الخشوع والإيمان الذي يقرأ بها .. ما قرأ عليها عشرة آيات فأجبرت أن تعتدل من نومتها احترامًا لما يتلوه ، ازاحت اللحاف عن وجهها ونظرت له بأعين ذابـلة يحرقها الحـ.ـز.ن لترمقه باستغراب حول نوع الــســكــيــنــة التي سربها صوته لقلبها فلقد كان بريق صوته قاربًا صغيرًا يحمِلها إلى برِّ الأمان والإيمان خيرها وشرها .. شبح ابتسامة طفيفة شقت محياه لأنه عثر على طرف الخيط الذي يوصلـه لقلبـها وأكمل قرآته بصوته الذي نال العديد من الجوائز والشهادات من الأزهر الشريف ….
“يكفي من الحُب بأنني كُلما نَظرتُ إلِيك شَعرتُ بِأنّ قَلبِي بردًا وسلامًا وهو في جُب النيران ”
•••••••••••
وصلت ليلـة مع هيثـم لساحة واسعـة من الأراضي المزروعة ، مهما امتد النظر فلم تحصد نهايتها ، هبطت مش السيارة وقفلت بابها برفق لتتساءل :
-إحنا جينا هنا ليه !!
تفقد هيثم المكان حولهم وهو يدخل كفوف بجيوب جاكته الشتوي ليقول :
-دي چنة العزايزة ، الزرع إهنه عيطلع أحسن من أيتها حتة تانية ، هتبصي في كل حتة تلاقي خُضرة وزرع وو
ثم دار نحو اليسار ليشاور لها على البناء الضخم :
-اللي هِناك ديـه مرعى العزايزة فيه أكتر من خمستلاف راس وطيور على عچب عينك ..
ثم أشار الجهة الآخرى :
-ودي چنينة هتاكلي منيها أحلى فواكه ..
ثم دار للخلف و تلعثمت الكلمـ.ـا.ت بفمه وهو يلاحظ الفتاة التي تُثير فضوله تهبط من سيارتها النصف نقل ليقول بشرود :
-ودي حور عين چنة العزايزة وو ..
التفتت ليلة نحو ما يشير متعجبة عما سيقصده حتى اندفع قائلًا :
-ليـلة .. ليلة أيه رأيك في چوز العينين اللي بيغرد هناك ديـه !
مال هيثم على مسامع ليـلة بتخابث وهو يتهامس لها مشيرًا نحو الفتـاة التي تقف بمنتصف الغيط ، تشـد الوشاح على أنفها وتصرخ بالعمالة وتآمرهم بالعجـلة ، امتدت أنظار ليلة لعندها لتُراقب فتاة يحاوطها الزرع من كُل جهـة ، ذات صوت جميل ولكنه حاد الطباع ، تجمهر بقوة عشـرة رجـ.ـال لتوقد العشرات من العمالة بأرضها .. ترتدي فستانًا طويلًا مريجًا باللونين الأحمر والأسود ، اتكأت على مقدmة السيارة الخاصة بهيثم مبنهرة :
-واو !! دي حبيبتك يعني ؟! أحكي لي ..
مسح هيثم على صدره متنهدًا وهائمًا في بحر خُطاها :
-اسمها چميلة بت الخواجة مهندسة زراعة ، من النسل المطرف للعزايزة ، هي من فرع عيلة أحلام والوحيدين اللي عينيهم ملونين في العزايزة ..
انجذبت ليـلة لحديثه عنها وقالت :
-طيب ما حلو ده !! باين إنك معجب بيها .. ما تتقدmلها ؟ بس لحظة لحظة يعني ايه نسل مطرف !!
-اسألي عليها أحلام دي !! هتحكي لك كل حاچة و..
ثم دار نحو ليلة ليقف الجهة الأخرى وهو يطالع خط سير جميلته السرية ويقول بقهر :
-معششة في مخي ليها فترة بس ملهاش د.خـ.ـلة بت الـخواجة ، أمها وأبوها مـ.ـيـ.ـتين وعايشة مع جدتها بتراعي أخواتها صغيرين وبت كيف القطر ملهاش كبير ياليلة ..
جاءت ليلة مقترحة :
-طب هيحصل أيه لو روحت كلمتها !! جربت ؟
حانت منه نظرة متحسرة وهو يسمعها تصرخ بالشاب العامل ويقول بحسرة :
-طب بذمتك دي كيف دخلتها !! خايف أمسي عليها تدوسني ..
انفجرت ليلة ضاحكة بأعين دامعة من شـدة الضحك :
-لك حق تخاف !! عارف دي عايزة مين بجد .. دي عايزة واحد زي العمدة هارون ده .. جـ.ـا.مد وشـ.ـديد ..
أسبل عينيـه معاتبًا :
-أيه تخبيط الحِلل دهوت يا ليلة !! لعلمك محسوبك مش سهلة بردو ، ده هارون ديه يتعلم مني وعشان الكلمتين دولت ؛ اتفرچي على الدخَلة دي …
انفرجت عيني ليلة لتوقفه صارخة عنـ.ـد.ما لاحظت سيارة هارون تقترب منهما ، فلحقته :
-هيثم هيثم .. هولاكو جيه ؛ قصدي هارون العمدة أخوك جاي علينا ..
تراجع هيثم عن فعله وهو يرمق جميلة التي تصرخ بصوتها الذي يردده الجبال ليحك رأسه قائلًا :
-وشكل چميلة كمان مش فاضية ، أبقى نفوتوا عليها وقت تاني …
غرق الاثنان بالضحك حتى هبط هارون من سيارته متواريًا خلف نظارته السوداء متعجبًا من تواجدهم بزيف :
-أنتوا إهنه !!
دارت ليلة ظهرها عنه وأخذت تلتقط الكثير من الصور العشوائية متجاهلة تواجده بالمكان وصوته الذي يرن بقلبها وليس بمسامعها ، فسأله هيثم :
-عرفت كييف مكاننـا !!
تفقد هارون المكان بغــــرور كي يشتت انتباهه عنها وينكر إخبـ.ـاره بواسطة أحد العمالة :
-وأنا هعرف منين !! چاي أشوف الأرض وو
وشوش له هيثم :
-چميلة بت الخواچة عمالة قلبان ، سامع صوتها !!
أشاد هارون مُعجبًا بشخصها :
-بت چدعـة وهي اللي ماسكة المشتـل چوة وعاملة شغل تقيـل وو
لكزه هيثم :
-هِرن أنا محتاچ واحدة زيها في حياتي ، كلام في سرك أصل أحلام كسلت تربيني معاكم .. وواضح أنها عاچبك ، ما تخطبهالي .
دار ليلة التي تزرع آذانها بينهما لتقول:
-هيثم !! أنت ملاحظ بتقول أيه !! عاجباه هو ويخطبهالك أنت ليه !! أنتوا بتعبدوا أيه ؟
زفر هارون بضيق :
-عاچبك إكده سمعتنا كلمتين ملهمش لازمة !!
فتدخل هيثم بينهما :
-اصل ذوقي أنا وهِرن واحد .
عارضته بتمرد :
-لا مش واحد !! يعني مثلًا أنا وأنت أهو صُحاب ..-ثم أرسلت له نظرة مؤسفة- وأنا وهو معرفناش نكون صُحاب .. يبقى ذوقكم مش واحد ..
ثم رسمت ابتسـامة خفيفة على ثغرها الرقيق متعمدة إثارة غـــضــــبها وتقول :
-تحب أبشرك أنها هتكون من نصيبك ..!!
تحمس لجملتها قائلًا :
-أيه مخاوية وهما اللي قالولك !!
اندست الضحك بجوف هارون الذي حفظها جيدًا وهو يطوف بعينيه في الفضاء الفسيح ليقول ساخرًا وهو يولي وجهه عنهم :
-هتخبطك واحدة أصل الأسطورة بتقول هتچيب أجلك ..
زفرت بضيق وهي تلوح بكفها :
-سيبك منه بس وخليك معايا ..
رغم أنه كان واقفًا مصدرًا ظهره لهما إلا أن مسامعه كانت تتجسس على كل كلمـة تقولها ، فأتبعت بحماس :
-في أسطورة بتقول أن الأسماء المشتركة في حرفين أو أكتر هيكونوا لبعض .. يعني أنت هيثم وهي جميلة .. الميـم واليـاء من أقوى الحروف في علم الفراعنة المُصنفة للحُب والعلاقات .. ولو تلات حروف هيبقى مابينهم حب أفلاطوني الدنيا كلها تتحاكى عنه ..
ألتوى ثغر هارون جنبًا بضحكة ليست ساخرة ولكنه وجود متاعه بحديثها الشيق ، فكر هيثم بالأمر وهو يزن الأمر برأسـه :
-اه يعني أنتِ ليلة وأنا هيثم ، كده مفيش غير حرف بس مشترك ، يبقى ما ينفعش .. طب لو مشتركين في حرف واحد يبقى إعجاب بس !!
هتفت بفرحة :
-الله ياهيثم بقيت تقول أساطير زيي !! دmاغك حلوة ..
راقت له الفكرة وهو يقول :
-استنى نچرب تاني عندك مثلا هارون وليلة !! ده ولا حرف يبقى طربقت على الأخير وأهي مطربقة من غير حاچة !! و وخليفة وصفية !! بس أحلام وخليفة ؟! ده حرف بس !! معقولة الحچ خليفة يكون معجب بس بـ أحلام وعيشتغلنا ..
-لا يا ناصح حرف الخاء من فصيلة حرف الحاء .. كلهم في مجموعة واحدة !!
زفر هارون بسخرية وهو يدور لهم مانعًا إظهار ضحكته التي تلمع بعينيه :
-العقل زينة بردك !!
انكمشت ملامحها وقالت منسحبة كي لا تغوص معه بأي شجار وهو تطالع رقم أمها يملأ الشاشة :
-هيثم ، هرد على مامي …
هتف هيثم فارحًا :
-سلامي وقُبلاتي للست الوالدة اللي چابت الچمال ده كله وو
ألجمه هارون بنظرة حادة أخرسته ثم رد على هاتفه هو الآخر وهو يوزع أنظاره هنا وهناك لترسـو عليها بالآخير ، ثم جهر قائلًا :
-تمـام هبعتلك هيثـم دِلوق يراچع الحسابات ومشوره كيف ما تحب ..
تدخل هيثم معارضًا :
-هتبعتني فين !
-تطلع دِلوق على المهندس خالد وتراجع الحسابات وقبض الموظفين في المصنع ..
-طب أروح ليلة وأروح ..
ربت هارون على كتفه قاصدًا زحزحت أخيه الواقف بينهما وقال بفظاظة :
-اخلص يا هيثم ، مفيش وقت للمراچيح دي !! هابقى اروحها أنا …
زفر هيثم بضيق وهو يتمسك بملابسـه :
-ماشي يا هارون .. أهو ماشي.. بالراحة على البت مش قدك ..
••••••••••
~بغُرفة أحلام .
بعد ما أكدت ” أحلام” على الفتاة التي تُساعدهم بالبيت والتي قدmت لهما الشاي وأوصتها تغلق الباب جيدًا خلفهـا ، مدت الكوب لزوجهـا وسألتـه بفضول :
-دmاغي شغالة تودي وتچيب يا حچ ، طمني عملت أيـه مع الداكتورة ؟!
تناول الكوب بيده المرتجفة وهو يقول بهدوء لا يتناسب مع منطوقـه :
-ما نكرتش الحكاية ؛ بس قالت لي البت مـ.ـا.تت بعديها بأسبوع .
هبت أحلام بحرقة :
-مـ.ـو.تة في قلبها ، بعيد الشـر ..
ثم تلعثمت الكلمـ.ـا.ت بفمها وهي تُفتش بدواخله :
-طب وأنتَ أيه شورتك ..
رد بيقين :
-كـ.ـد.ابة يا أحلام ، لقيتها اتنفضت وتهتهت في الحديت واتكربجت كأنها لدغتها عَقربة ، وبعدين حبت تنومنـي وقالت مامت ..
ثم رسم ضحكة ساخرة على فمه :
-فاكراني عيل صِغير ، بس أنا بلعتها الطعم وخليت واحد من الوِلد يُقطرها .. وأديني مستني ..
تنهدت ” أحلام ” بـ.ـارتيـاح وهو تلكزه لتقوم بمشيتها العرجاء تفتح خزانة ملابسه وتفتش على ألبوم الصور القديـم ، ثم عادت إليـه والبشاشة على وجهها :
-اسمع الحديت اللي عِند أحلام..
تأوهت وهي تجلس بجواره لتُكمل :
-الصحفية اللي مع الواد هيثم ..
-مالها يا أحلام !! دي صفية ماسكة ودني وبالدين بالعافـ.ـية إلا أمشيها ..
تنهدت بملل:
-سيبك من صفية دِلوق ومرطها ، اسمعنى للآخر .. أنت عارف البت طلع اسمها أيه ؟! ليلة سامح الچوهري ..
تراقص الكوب من يده والتفت لها خليفة بإهتمام واتسعت عينيه ، فأتبعت أحلام :
-عملت زيك بالظبط .. البت اسكندرانية والچوهري وأنت رايح اسكندريـة ، قولت بس ، دي آكيد بت عمهم ، قريبتهم من العيلة وهنلاقـوا اللي عندوروا عليـه عندها ..
تلهف لسماع المزيد :
-وبعدين يا أحلام ، قالت لك أيه ؟! قولي ..
أتبعت أحلام ببشاشة :
-روحت ميلت على ودان هارون وقبل ما أسأله عليها من كلمتين لقيتوا عيقـول دي چدها كان لواء إهنه واسمه رفعت الچوهري أكيد أبوي الحچ يعرفوا !!
‏تلك الآمال الصغيرة التي يتعلق بها المرء بعد أعوام من البحث كأنها تعثر على ثقب صغير دومًا في بقلبك تُخيطه ببعضه لتسد فراغات ما كنت تبحث عنه ؛ جلى حلقه غير مصدقًا وهو يتنفس بلهفة :
-كملي كملي يا أحلام …
فتحت الألبـوم على صورة “مهـرة” صديقتهـا وقالت :
-شوف يا حچ نظرة أحلام وقلبها اللي عمره ما ضلها واصل ..
فرغ فاهه بعدm تصديق وهو يقول :
-أنا كيف مخددتش بالي !! يعني البت هي غفران ولا ليها أخت !! رسيني يا أحلام ..
ابتسمت أحلام بوجهه :
-لا هي نفسها يا عمدة ، وتبقى أمها الداكتورة اللي أنتَ سافرت لها بس ووو
قاطعها خليفة غير مصدقًا :
-الدنيا دي صغيرة قوي قوي يا أحلام خُرم إبرة !! يعني أنا سافـرت عشان أدور عليها والبت في بيتـي ؟؟؟ بس بردك لازمًا اتأكد ..
ترددت أحلام في إخبـ.ـاره عن أمر الأدويـة ولكنها تراجعت حتى تتأكد من هارون ، ربيت أحلام على ركبته لتهنئه :
-خلاص يا حچ اللي عندوروا عليه ليقنـاه ، ريح لي قلبك وفكرك !!
تلهف الحج قائلًا :
-اتأكد بس ، وسيبي الباقي عليّ .. عارفة المُشكلة فين !!! هفتح ملفهـا قصاد مچلس العزايزة كيف ؟! وو
طبطبت أحلام على قلبه بكلمـ.ـا.تها الأشبه بالنسيـم :
-اللي چابها لغاية قعر بيتك هو وحده اللي هيحلها يا حبيبي ..
لقد طار عقل الحج بمعرفته لهوية ” غفران” الفتاة التي فتش عليها بتراب الأرصفة ولم يجدها ، بلل حلقها غير مستوعب فرحة الخبر وهو يقولد مقترحًا :
-نچوزوها لهيثم .. وتعيش وسطينا وتاخد حقها وو
قاطعته أحلام بيقين قلبي :
-چوزها ونصيبها هينديها لوحده يا حچ ، سيب الموضوع ديه عليّ ..
دقت صفية الباب وبدون إذن بالدخول فتحته وهي تقول :
-متأخذنيش يا عمة ، بس المچلس مشيعين للحچ خليفة وعاوزينه ، آكيد كله من تحت الچوازة الغبرة دي ..
وشوشت لزوجها قائلة وهى تلبسه العباءة :
-قوم شوف لك صِرفة مع البت دي أنا تعبت معاها يا حچ .. أنا ربيت ٦ عيال متعبونيش كديها ..
-ربك يهديها ..
ثم أعقبت صفية والفضول يقــ,تــلها حول الموضوع الذي يشغلهم وخروج ألبوم الصور القديمـة ، قفلت أحلام الألبوم بسرعة وسألتها :
-علي فين إكده ؟!
هللت فارحة :
-رايحين نچيبو شبكة هارون وزينة ، دعواتك يا عمة يتم الچوازة على خير !!
تمتمت أحلام بتمنى لنفسها وهي ترجع الألبوم لمكانه :
-شالله ما تتم يا رب اسمع مني …
••••••••••
‏قلوبنا لا تؤمن بالنهايات.. فهي لا تملك هذه الرفاهية ، رفاهة إنهاء شيء عانق قلوبنا ثم نسيانه .. فهي مازالت مُحملة بجروح عتيقة ، علاقة فريدة تحيا في القلب، غصة، خيبة صديق، ذكرى شخصٍ رحل وترك وراءه قلبًا تنهشه ثلجية الوحدة ، ندبة طفولة، آثار صفعة، أو رقة قبلة ‏كل شيء هو للأبد باقٍ ، باقٍ هنا بقلوبنا الحمقاء …
تبدو أمامه بهدوء غريب رغم كون قلبها يرتجف ، كانت ” رغد ” تعاونه في ضب حقائب وهو يستعد للسفـر والعِبرات متكدسـة بعينيهـا ولكنها مخفية عنـه .. لملم زجاجات عطره وهو يقول آمرًا :
-رغـود ، من البيت للشغل من الشغل للبيت ، لا كامب ولا سهر ولا صحابك السوء دول ..
كانت تحضر ملابسة المرتبة فوق بعضها من الخزانة بطاعة :
-حاضر والله .. وكمان هرجع أشتغل بايدي تاني وهعملك هدايا كتير ترجع تلاقيهـم وو
ثم قفلت جفونها كي لا تفر منها الدmعة وقالت :
-المهم ١٥ يوم وبس زي ما قولت ؛ متتأخرش عن كده ..
جذبها من خصرها إليه ليطبع قُبلته الطويلة على بجدار عنقها ويقول :
-أصلًا مقدرش اتأخر عن كده !! أنتي عاوزاني أمـ.ـو.ت فيها ؟!
عارضته بدmـ.ـو.ع تفجـرت بوجهه :
-هاشم ممكن بلاش السيرة دي بقا ، حـ.ـر.ام عليك وو
شـ.ـدها لعنده ليداعب خصلات شعرها المتطايرة ويتلقى عبرات المنهمرة ليقول معتذرًا :
-رغود حبيبتي اهدي !! أنا رايح شغلي مش رايح أحارب .. وبعدين أنت مش واثقة في قدراتي كظابط جيش ولا أيه !!
جففت وجهها المبلل بماء الحـ.ـز.ن وقالت :
-لا طبعًا واثقة بس ..
فباغتها ملاطفًا وهو يطوق خصرها ويحدق بدmـ.ـو.عها :
-طيب وقدراتي كزوج .. !!
انفجرت ضحكة خفيفة من جُب حـ.ـز.نها وهي تعاتبه :
-متهزرش عشان ده مش وقت هزار !!
-أومال وقت أيه ؟!
ثم ضاقت عينـيه بتخابث :
-يعني واثقة من الأداء الحربي والأداء الحُبي مش وقت هزار !! بت اتظبطي بدل ما اظبطك على مزاجي الساعة دي..
حدقت بعينيه اللاتي عشقتهما وهي تمرر أبهامـها فوق ملامحـه وقلبها يتساءل : لِم الخــــوف من الخــــوف ؟! لِمَ الفراق يرفرف فوق دارنا ؟! لِمَ أحببتك وحدك من بين الجميع ؟! ولِمَ سأجني أوزار أشياء لم اختارها ؟! يعلم ربي بأني فعلت المستحيل لأبعدك عني ولكنك آسرت قلبي وعقلي حتى بات طوعًا لك !! لمتى ستظل ذيول الحـ.ـز.ن ترافقني مهمـا غادرتها.. بات بين أعينهم بحرًا من العتاب ونهرًا جاريًا من الحب !! من سيقنع الآخر بمصبـه يا ترى !!
اهدته قُبلة خفيفة قبل أن تعانقـه عِناقًا طويـلًا وتعترف له :
-هاشم ، أنا بحبـك فوق ما أنت تتخيل ويمكن أكتر ما أنت بتحبني كمان .. وو
قاطعها قائلًا بمزاح :
-بس أنا بحبك أكتـر .. وممكن اثبت لك ..
-محدش هيحبك أد قلبي في الدنيا وبلاش الحركات دي عليـا يا هاشم بيه ..
أمسك بذقنهـا وهو يجذبها إليها ممازحًا :
-مش إحنا اتراهننا ليلة إمبـ.ـارح وأنا اللي كسبت !! بتنكـري ليه !
أحمر وجهها بحُمرة المشاعر المدججة بينهما وهي تتذكر تفاصيـل تحدي الحُب الخاص بينهما بليلة أمس حيث أعلنت هزيمتها أمام حبه بجدارة فحدقت بعينيه :
-اللي يهمني أن عمري ينتهي وأنا جمبك .. وهستناك تغلبنـي دايمًا ..
كاد أن يُجيبها ولكن قطعه صوت رنيـن هاتفـه فتبسم بوجهها وقال :
-ده مين الرخم ده !!
فارقها وهو يقترب من هاتفه ليرى اسم هارون فعاد معتذراً :
-لا ده هارون بيـه ، منقدروش نتكلمـو ..
ثم رد على أخيـه مُرحبًا وهو يمسك بورقة وقلم ليكتب رقم ما وهو يحاور أخيه الذي أخبره :
-هنصطادوه ، أعمل اللي اتفقنا عليـه بس وأنا هطيرهولك من قنا كُلها .. شريف أبو العلا لازمًا يتربى !!
رد هارون بثقة :
-كله تمام ياسيادة الرائد ..
انهى مُكالمته مع هارون ومد لها ورقة مكتوبًا عليها رقمه وهو يقول لها :
-رغود ، ده رقم هارون خليـه معاكي احتياطي محدش عارف بكرة مخبي أيـه …
~العزايزة …
عادت ليلة بعد إنهاء مكالمتها مع أمها التي أمرتها بالعودة في أقرب وقت وظلت تسألها اسئلة غريبة لم تدرك لها معنى حتى اطمئن قلب نادية قليـلاً بأنها لا تعلم شيئًا .. أخذت تتفحص المكان وتفتش عن هيثم :
-هيثم راح فين ؟!
وضع هاتفه على مقدmة سيارته وقال بمكرٍ :
-باين له خلع ..
-يعني أيه خلع !!
-مخابرش !! هو مش سبق وعملها مرة ، يعملها التانية عادي..
زفرت باختناق وهو تدور حول نفسها بنفاذ صبر حتى اقتربت منه مشيرة بسبابتها :
-أنتَ اللي مشيتوا صح !
رد بجمود :
-وأنا هعمل إكده ليه !! شيفاني فاضي عشان أقعد مستنيكي لغاية ما تخلصي !! ديه بس من أصلي وعدي الچمايل ..
رفعت حاجبها غير مصدقـة ما يقوله وهي تشُم رائحة المكر من بين كلمـ.ـا.ته لتقول معاندة :
-تمام .. يبقى تستناني لحد ما أخلص .. في صور كتير هنـا لسـه هاخدها ..
ثم رفعت سبابتها بوجهه:
-بس يكون في علمك انا لا هكلمك ولا تكلمني ولما اخلص هركب العربية الكرسي اللي ورا وتفهم إني خلصت فتيجي عشـان توصلني ..
عض على شفته السُلفية وهو ينادى على أحد الصبيان العاملين بالأرض ويزرعون القمح بصوته الرعدي متجاهلًا أوامرها :
-حمي قلبك منك له لسه قِدامنا كتير ..
تأففت بضيق وتركته مغادرة وهي تتوعد لهيثم علنًا .. ظلت تتفقد الطرقات والأشجار والجنائن وشجر الرمان الحزين ، وهو تعمد تجاهلهـا تمامًا ولكن كيف تتجاهل الأعين عن نفسها؟! كان يراقبها بعينيه كمن يراقب طفل صغير يخشى أن يتوه منه .. لاحظ وقوفها تحت شجرة البرتقال وهي تقفز محاولـة ألتقاط الثمرة المُعلقة فوقها ..
نزع جلبابه الصعيدي وتركه بالسيارة واقترب منهـا بخطوات واسعـة ولكنها هادئة لا تحدث صخبًا .. في حين محاولتها باستخدام العصا لتوقع الثمرة سبقتها يده لقطفها وفي لحظة ما تلقت يمينه الثمرة و تلقتها يساره إثر فزعها فتعرقلت قدmها بالضفة الطينية التي تحيط بالشجرة ..
لقد سقطت على سهوة من الغصن في رياح الحب كعود ريحان ضئيل لكن ما حدث ، أن قلوبهما تعطّرت .. تعرقلت ببعضها البعض .. فقُرأت تعوذيـة الحُب عليهمـا ..
قمرٌ بيساره يجاور قلبه ويلقي عليه الحُب ، ونجمة بيميـنه كأنه جاء بها من السماء لعندها رمزًا بأنه سيفعل المستحيل لأجلها ، بدون أي عتاب بينهم غمغمت وهي تتشبث بذراعه:
-مرسي لحقتني ،كُنت هقع ..
كانت أصابعـه تطوق خصرها الصغير وهو يقول ملاطفًا :
-وأيه الچديد !! ما أنتِ تملي عتقعي وو
عاد لها رُشـ.ـدها في الحـال وهي تستعين به لتنصب قامتها وتنفض بنطالها من الغبـ.ـار وتعاتبه :
-البدلة باظت وو
تمتم بصوت لم يصل لأذانها وهو يعلن ضجره من اللون الأحمر :
-بدلة الإعدام اللي لابساها ديه !!
-بتقول ايه !!
ثم غيرت مجرى الحديث فورًا وهي تُشير نحو حظيرة واسعة :
-أيه اللي هناك ده !! ينفع نروح هناك !!
لم تمهله الرد أيضًا وتوقفت بعد خطوة قطعتها لتسأله :
-مضطرة أصالحك الشويتين دول عشان مش قدامي غيرك للأسف ؛ ولمـا نروح هخاصمك تاني !! اتفقنا
شـ.ـد كُم جلبابه المثنى وتابع خُطاها ليقول بصوت خفيض :
-قلبك أسود يا ليـل ..
-أنتَ قولت ايه ؟!
-اللي تشوفيه ، بس نخلصـوا ..
ثار الاثنان فوق الخط الفاصل بين الأراضي الزراعية ، كانت خطوتها عرجاء تتمايل هنا وهناك لتعرجات الأرض عكسه تمامًا حيثت كانت خطواته تدرك مقصـدها جيدًا .. أسهبت في الثرثرة كعادتها وأسهب في الاستماع لهـا وكأن هناك أرض جافة متعطشة وتلاقي بسيـل من الماء ، فكانت أرضيه متعطشة لري كلمـ.ـا.تها وحدها .. أول مرة يكتشف صبره على الاستماع لإمراة ، ترابيس صبره كانت توصد الأبواب بوجه كُل من يدق فوقها ، إلا هي ؛ فتح بوجهها جميع الأبواب والنوافذ وهو بكامل متعـة رغم تفاهة ما تقـوله ..
وصل الاثنان لباب الحظيرة فنظرت له :
-انا ينفع أدخل ولا دي بتاعت حد !!
-دي بتاعت صفية ، كُلها ديوك رومي مربياهم هي …
ثم دق الباب لتفتح لهـما حارسـة المكان وقبل أن تسأله اندفعت كالفراشة لتلقي بنفسـها بين معشر الديكة .. فرك لحيته وهو يقول بحسرة :
-طب اتلقي اللي هيچرالك وو
لحظات قليلة وجاءت هاربة تصرخ وتستغيث به وخلفها مجموعة من الديكة يلحقونها ويزفونها بأصواتهم المميزة ، احتمت بظهره صارخة :
-الحقني والله ما عملت حاجة هما اللي اتعصبوا لما شافوني ..
تدخلت الحارسـة لتبعدهم عنها وأخذها هو للخارج تحت سطو ضحك ، نظرت له بذعر :
-أنتَ بتضحك !! والله ؟! آكيد أنتَ اللي قايلهم وو
قاطعها وهو يبتلع ضحكاته :
-ما لازم يتعصبوا لما يشفوكي ببدلة الإعدام دي !!
-يعني أيه مش فاهمة !!
-مقرتش بين أساطيرك أنو اللون الاحمر عيستفزهم ، وأنا وارث داء الديوك ديه منيهم .
ثم رمقها من رأسها للكاحل :
-ومن ساعة ما شوفتك وانت معصباني ..
وضعت أناملها على شِدقها :
-أحيه يعني هما مش بيحبوا اللون الأحمر !!
-وأنا كمان ..
ردت بعفوية :
-أنت مش مهم ، بس دي معلومة جـ.ـا.مدة أول مرة أعرفها …
قطم شفته بغـ.ـيظ:
-ياصبـر الصبـر .. هي أحلام مقالتش ممنوع البنات يلبسوا أحمر صِرف في بلدنا ؟
-لا مقالتش ، بس ليه ممنوع !
-عشان عيـب !
-ايـه ؟!
-ديه عاداتنا ، العروسة بس اللي مسموحلها تلبس أحمر .. اف تعالي تعالي أما نشوف أخرتها معاكٍ .
••••••••
~مساء
عادت نجاة لمنزلها بعد يوم طويل بشغلها بالوحدة الصحية .. حيث كانت تجر خطواتها جرًا .. فتحت الباب الحديدي ثم دلفت لداخله وقفلته خلفها .. سارت خطواتها نحو بيت العائلة .. فوجدت حمـ.ـا.تها تنتظرها بالطابق السفلي .. ألقت عليها التحية ، ثم سألتها :
-مازن نام ولا لسه يامراة عم ..
أجابتها بضيق دون أن تناظرها :
-مالكيش عيال عندينا يابت رابحة ..
لم تستوعب مغزى تلميحاتها :
-لا مفهماش ؟! يعني أيه ؟!
هنا تهجم عليها صديق بصوته قبل يده التي تناولتها بدون رحمة :
-اهلا يا عروسة طب زين والله إنك لساتك فاكرة عندك واد عاوزة تربيه ..
ثم تجاهل أصوات استغاثتها وجرها خلفه بمنتهى الوحشية :
-هي مش أمي قالت لك مالكيش عيال عندينا ؟! عاوزة تروحي تتجوزيه روحي محدش مانعك بس انسي ولدك ..
انفطر قلبها لنصفين وهو تترجاه :
-ولدي فين ياصديق وديت الواد فين انطق .. يا مراة عم عشان خاطري ولدي فين ..
دفعها صديق على المقعد بكل ما أوتي من قوة وهددها :
-تنسي حاجة اسمها ولدك لغاية ما ترجعي لعقلك ..
ثم مسح شـ.ـدقه بكم جلبابه وهو ينهرها بعنف :
-شكلنا دلعناكي عالاخير .. خروج وطلوع وبيات براة البيت ولا ليكي حاكم ولا رابط ؟! لكن خلاص عيني فنجلت عليكي .
قاطعته متوسلة :
-أحب على يدك يا صديق .. أديني ولدي وربنا ما هعمل حاجة وهعيش أربي ولدي العمر له بس متحرمنيش منيه ..
طالعها بنظراته الدنيئة والتي ترغب فيها من قبل زواجها بأخيه .. والأن قدmت له كقربان :
-هتشوفيه بس لو عقلتي يا نجاة ..
ثم سحبها بقوة لم ترحم ضعفها وهو يقول :
-مفيش مرواح الوحدة دي تاني ..فضناها
ثم ألقاها بداخل الغرفة فارتمت كقماشة بالية بالأرض وأوصد الباب خلفها :
-وهتفضلي محبوسة إهنه لغاية ما تقولي حقك برقبتي …
ثم رفع سبابته معلنًا ولم يراعٍ شعور زوجته الأولى :
-قصادك ياما .. توافق على جوازي منيها هتشوف ولدها وتعيش عيشة هنيه .. هتفضل سايقة العوج يمين تلاته اتاويها قبل ما تعرنا ..
ظلت تضـ.ـر.ب على الباب بقوة وتستغيث بأهله ولكن لا حياة لمن تنادي عليه الجميع اتفقوا على قوله ولم يستمع لها أحد ..
********
~بمنزل خلفية العزايزي ..
أحتشـ.ـد الجميع في ساحة البيت الواسعة .. فكان جالسا كل من أحلام وهارون وأبيه بمجلس منعزل قليلًا .. وبالمجلس الأخر كانت تجلس ليلة مع هيام وهاجر وفردوس يتبادلن الحديث والضحك .. كانت عيني هارون طائفة على عكس عادته لأنها للأسف نفذت وعدها له كما قالت .. منذ أن وطأت أقدامها أعتاب هذا البيت أعلنت عليه الخصام من جديـد ..
كانت نظرات أحلام وخليفة لم يفهمها أحد غيرهما وهما يتلصصان النظر من ليلة وهو لم يفارق لسانه قول :
-تبـ.ـارك الله ربنا يحرسك لشبابك يا بتي ..
ولكن كانت أعين أحلام تركز جيدا على هدفها و تراقب نظرات هارون ببشاشة وبروح مرحة .. تعالى صوت الفتيات بالضحك حتى جاءت هيام مقترحة :
-تيجوا نعملوا كيكة في الجو ديه ونتسلوا ..
عارضتها ليلة باصرار :
-يالهوي !! مابعرفش أعملها خالص .. معرفش أنتو بتعملوها أزاي ؟!
فتدخلت هاجر :
-البت هيام دي قروبة .. عتعمل كيك فنادق فاخر من الاخر وو
عارضتها ليلة بإنبهار :
-يابختك بت عـ.ـر.في .. أنتِ عارفة أن في أسطورة قديمة بتقول وو
هنا سُحبت أذان هارون قبل أعينه لعندها حيث باتت أساطيرها كجرعة مسكنة يستلذ بها .. تلصص السمع بفضول قـ.ـا.تل لاحظته أحلام بدهاء فأعقبت ليلة وهي تقف لتروي لهما الأسطورة وهي مقتنعة بها تماما :
-بتقول أن البـ.ـنت اللي حظها حلو في الكيك حظها بيطلع حلو في الرجـ.ـا.لة .. والبـ.ـنت اللي زي حلاتي كده ملهاش حظ خالص فيها بختها بيكون زي ما أنتوا شايفيني ..مايل زي حظي.
تفوهت أحلام بصوت عالٍ لتقول وهي ترمق هارون بخبث :
-ولا مايل ولا حاجة .. يكش حظك هيكون كيف الورد وأبقي قولي أحلام قالت ..
هبت هاجر مقترحة :
-طب أنا عندي فكرة .. أحنا نجيبوا ونعملوا كيكة وهيام هتعلمنا ونشوفوا مين بختها هيطلع حلو ..
تحمست هيام وهي تقول لفردوس :
-يالا يافردوس نجهزوا الحاجات ونعملوها إهنه على السفرة أحلام وأبوي وهارون يحكموا ما بينا ..
رفعت ليلة مبرئة ذمتها :
-لالا أنا برة اللعبة دي .. بنات أنا واحدة فاشلة في المطبخ .. أنتوا مش عاوزين تفهموا ليه ؟
نظرت أحلام لهارون وهي توضح الصورة له بطريقة مرحة :
-ولا خايبة ولا حاجة بكرة تتعلم وتبقي على كيفك ..
تحمحم هارون واقفا وهو يقول بفظاظته المعهودة :
-ماهي لو تتعلم لها طبخة بدل الخرافات اللي واكلة عقلها دي كانت نفعت ..
زفرت بضيق وهي تطالع أخوته قائلة :
-شايفين ؟! قاصد يعصبني أزاي ..
ثم فارقت مجلسهم واتجهت نحو أحلام لتقول :
-أنا يا أحلام بقول خرافات ؟! شايفة طريقته !! عمو الحج لو سمحت قوله يحترمني شوية هو على طول بيضايقني بكلامه ..
لم تنكر استغرابها من نظرات خليفـة اللامعة نحوها طول الوقت .. ولكنها تعمدت تجاهلها ، نظر له الأب بلوم :
-ما تسيبها تحكي يا هارون مالك بيها .. البت متعلمة ومتنورة و
عارضه هارون بلطف وهو يحدق النظر بها :
-كل ديه عشان عقولها تتعلم طبخة .. أصلو يا أحلام الراجـ.ـل منينا هيكون عاوز أيه غير لقمة يُرم بيها عضمه ، ربنا يكون في عون اللي هتقع في نصيبه ..
وضعت يديها بخصرها لتقول بضيق طفولي :
-والله الأكل في المطاعم كتير أما أنا هحكي له حواديت مش موجودة عند حد ..
تمدد ثغره بضحكة خفيفة إثر إصابة كلمتها طرف مجهول بقلبه وهو يقول بسخرية :
-وماله لما يجوع أبقي حمريلو حدوتتين !! ويبقى اتعشت قوي ..
غلت الدmاء بعروقها وتأفف بضيق :
-مش هرد عليك احتراما لعمو الحـج بس..
عاد هارون ليجلس بمكانه وعلى عكس عادته أول مرة يحبذ المكوث طويلا بالبيت .. أخرج هاتفه ليقول :
-هكلملك هاشم يا أحلام سألني عليكي الصبح .
زفر ليلة بيضيق مولية ظهرها للخلف ففي تلك اللحظة أخرج خليفة محموله ونادى بصوتٍ عالي :
-غفــــران يا بتي ….
انفرجت الأعين حول خلفية إثر ذكره اسما لم يكن بينهم .. توقفت خطى ليلة متراجعة فهذه أول مرة تسمع فيها اسم غفران بعد مـ.ـو.ت جدها .. زلزل وقع الاسم على مسامعها جسدها وتحرك قلبها بذكريات شتى .. تبادلت النظرات بين هارون وأحلام بتساءل .. اقتربت ليلة منه متعجبة والعبرات تتكدس بعينيها :
-عمو الحج حضرتك عرفت الاسم دي ازاي ؟!
ثم أشارت لهارون مستفسرة :
-أنت اللي قولت له ؟؟!
انكرت ملامح هارون لتناسيه أمر الاسم .. أخفض خليفة الهاتف من فوق مسامعه ويده ترتجف يود أن يقوم باحتضانها في التو .. تحكم في أعصابه ولكن ماذا عن ملعان العين وهو ينكر معرفته للاسم ويمد الهاتف أمامها :
-كنت عتحدد في المحمول وو
فبررت ليلة على الفور وهي تبد اعتذارها بتـ.ـو.تر ملحوظ :
-اسفة بجد .. افتكرتك بتنادي عليا ..
ثم مسحت على وجهها المحمر من شـ.ـدة الارتباك وأكملت العبرات تترقرق بعينيها :
-أصل حضرتك لما قولت غفران.. افتكرت جدو .. هو الوحيد اللي كان يناديني بالاسم ده وو
ثم أخذت نفسها من شـ.ـدة الارتباك و أتبعت:
-كان بابي يتخانق معاه دايما ويقوله اسمها ليلة .. بس هو كان مصمم على اسم غفران وبصراحة أنا بحب الاسم ده أوي ..
ثم رمقت هارون بنظرة سريعة لا تعلم لما أرسلتها له .. وواصلت باكية :
-قريت مرة أن أقدارنا تؤخذ من اسامينا .. كل ما بسمع الاسم ده بحس أنه مخبي لي أسرار كتير عشان كدة محدش يعرفوا ومش بحب أقوله قدام حد عشان مش يناديني عليا بيه ؟! فالمقولة تتحقق ويتفتح قدامي طريقين طريق ليلة وطريق غفران …واتوه بينهم ..
اغــــرورقت عيني أحلام بالدmع ولمعت عيني خليفة بالفرحة وطارت أنظار هارون فوق مدن الحيرة .. وثبت أحلام لتضمها بحب وتهدئ من روعة مخاوفها :
-تعالى في حـ.ـضـ.ـني يا حبيبتي متقلقيش .. ربنا يجعل كل اللي جاي من أيامك هنا .. انا قلبي حاسس .. بس بس متبكيش يا حبيبتي .. الله يسامحك يا حج خليفة قلبت المواجع على البت ..
جففت ليلة عبراتها وهي تفارق حـ.ـضـ.ـنها :
-لا خالص .. جدو بس وحشني عشان كده بعيط ..
رق قلب هارون وأراد أن يخفف الحمل عليها ولا يعلم لماذا .. نبض قلبها يريد ضمها ولكن كيف ؟! تحمحم بجمود يخفي حوله نواياه :
-خبر أيه أومال ؟! هتوكلونا كيكة في الليلة دي ولا نمشوا ؟؟!-ثم جهر مناديا-مـ.ـا.تيجي تشوفي يا هيام .
ربت خليفة على كتف ليلة وهو يقول :
-احنا كلنا أهلك يا بتي ..
ثم نظر لأحلام :
-مـ.ـا.تشيعوا لمراة هلال تقعد معانا .. عاوز اتعرف على البت وأشوف نقاوة ولدي !!
تدخلت هاجر بحـ.ـز.ن على حالتها :
-كل ما اطلعلها ألقاها نايمة .. تهدى بس وهنزلها تقعد معانا ..
ثم سحبت ليلة من يدها :
-يلا عشان هنعملوا الكيكة وبزيادة حديت عاد ما أحنا كنا حلوين ….
••••••••••••
~بغُرفة هلال ..
لقد قضى نهاره معهـا بالغُرفة وهو يتلو القرآن على مسامعها تارة ويراقبها طورًا .. حتى انتشرت الملائكة بالمكان وعمت حالة من الهدوء والــســكــيــنــة حولهما للحد الذي جفت فيه دmـ.ـو.ع عينيها وباتت تبادله الحديث لتشتت حـ.ـز.نها عنها و بعد ما أشادت بجمال صوتـه .. توقف على شفا طلبه منها بالمواظبة على قراءة آية الكرسي عقب كل صلاة ؛ قائلًا :
-ت عـ.ـر.فيـن لماذا سُمـ.ـيـ.ـت آية الكرسي بهذا الاسم ؟!
أحكمت ضب حجابهـا وهي تضم ساقيها لصدرها أمامه على سجادة الصلاة بعد ما صلى بها العشـاء في جماعـة وذاب حـ.ـز.نها في جمال الصلاة خلفه ، بدّ جهلها للجواب على ملامحهـا ، فرُسمت ضحكة خفيفة على محياه وهو يعد أحجار مسبحته المعطرة بمسك الذكر وقال بطيب نفس :
-الكرسي فالمعتاد هو أساس الحكم وهو رمز الملك وهى الدالة على الألوهية المطلقة .
رفعها الله في بدايتها باسمه ( الله ) وفى نهايتها باسمه ( العلى العظيم )
وهى ترفع معها كل من تعلق بها واستمسك بها ومن حفظها حفظته ورفعته معها إلى أعلى مقام وأسمى منزلة .
فركت كفيها ببعضهما وهي تبتسم بخجـل وتخشى التطلع له لتقول :
-طول عمري اعرف أن فضلها كبير بس عمري ما سألت نفسي ليه اتسمت بالاسم ده ..
هز رأسه متفهمًا وهو يسألها :
-لِمَ لم تتسألين لماذا طلبت منكِ أن تقرأيها عقب كُل صلاة !!
ردت بعفوية :
-ليـه ؟!
ملأ جيوب عينيه من ملامحها الباهتة التي يحاول أن ينيرها بذكر الله من جديد .. مد لها مسبحتـه فأخذتها منه متحيرة فقال بتأدب ورقي ووجه يشرق من نور الإيمان مع بياض وجهه الناصع والمتوارث من أمه :
-لن يصبح بينك وبين الجنة إلا المـ.ـو.ت-ربي يحفظك بحفظه- ، وأيضًا لأن لكل من قرأها دبر كل صلاة فإن الله ذو الجلال والإكرام هو الذي يتولى قبض روحه عند مـ.ـو.ته .. هذا بعد عمر مديد لكِ ..
ثم تنهد وأكمل :
-أما بأمورنـا الدنيوية لمن قرأها ليلا خرج الشيطان من البيت ولا يدخله حتى يصبح وأمنه الله على نفسه ومن قرأها في الفراش قبل النوم لنفسه أو لأولاده يحفظهم الله لا يقربهم شيطان حتى يصبحوا ويبعد عنهم الكوابيس والأحلام المزعجة ووسوسة الشيطان ..
أومـ.ـا.ت متقبلة نصيحته بنفس راضيـة وهي تُشير على السبحة التي تزين يدها ، فتضحك بخفوت :
-هذه هدية مني لكِ ..
ثم مسح على لحيته بهدوء وقال :
-تحبي تنزلي تقعدي مع الجماعة تحت ، الحج خليفة يود التعرف على زوجـة ابنـه ؟
طافت عينيها بالمكان بهروب وهي تعلن رفضها :
-مش قادرة اتكلم مع ناس والله .. لولاك أنت بس خدتني في الحديت وو
-رقية ؛ أنتِ هنا تخصينني وما يحـ.ـز.نك يحـ.ـز.نني .. فلا داعي من حرجك أمامي ..
ثم غير مجرى الحديث :
-أعلم إنكِ تحفظين كتاب الله ولكن ما أخبـ.ـار المراجعة ؟
-حفظته وأنا في ثانوي ، بس مع المذاكرة والكلية آكيد نسيت .
-سهلة ، سنبدأ من الأول و بالتفسير ، ما رأيـك ؟
رفعت جفونها باستغراب :
-ليه ؟! ليه أنا بالذات عتعمـل معاها كل ديه !!
-لانك زوجتي ..
أومأت بخفوت وهي تفارق سجادة الصلاة ولم يبد عليها الاقتناع برده :
-تمام ..
لحق بها :
-تمام مقتنعة ولا لن تقتنعين بعد !!
-أنت شايف أيه قدامك ؟!
‏ينظر إليها وكإنه يود الغوص بأعماقها ، متفحِّصًا كلَّ تضاريس روحها الباهتة ، مفتشًا عن الأسرار الخافية حتى عليها ؛ تأرجحت عينيه بغزل صريح وهو يقول :
-أرى أمامي بدرًا في ليلـة تمامـه ..
شهقة مكتومة اندلعت من جوفها وهي تفر هاربة من أمامه إثـر بريق عينيه المربكتين لتتحرك بعشوائيـة وتخرج ملابسه من الحقيبة وهي تتحاشى النظر إليه ثم فرت لتتحامي بالحمام من جُملة غزله التي رجت كيانها رجًا .. ضحك على صورتها العبثـية ثم اقترب من باب الحمام ليخبرها :
-سأرحل كي تكونين بحريتـك .. رقية لا تبكين مرة أخرى وهذا أمر ..
~بالأسفـل …
قدmت أطابق الكيك الذي أعدوه الفتيات ، فجاءت كل واحدة منهمن تحمل طبقها .. أفصحت ليلة فارحة :
-طنت أحلام ، دوقي كده .. أنا مبسوطة أوي هيام علمتـني أعمل كيك حلو أوي ..
رفع هارون عينيـه عن شاشة هاتفه ليراقبها بملامح مبتسمـة دون نية منه … فأقبلت هاجر نحوه لتُرشيه :
-هارون ، دوق كيكتي وقول حِلوة وانبهر ، عشان انا الوحيدة اللي صينيتها هبطت وبقيت كيف خد الندابـة ..
أعلنت هيام رفضها :
-اكده في غش من أولها ..
ضحكت ليلة واتبعت :
-أنا وهيام الكيك بتاعنا طلع قمر ، بس الكيك بتاع هاجر طلع وحش أوي ..
ثم دmدmت بصوت مسموع :
-أكليه لأخوكي بقا خلي بطنه تو.جـ.ـعه ..
تذوقت أحلام قطعة الحلوة الخاصة بليلة وأشادت بجمالها ثم منحت زوجها قطعة :
-دوق يا حچ وقول رأيك عاد ، ولا غلطـة ..
تذوق هارون كيك أخته هاجر واكمل بلعها بالماء وهو يعاتبها همسًا :
-فرحتي فينا الاسكندرانية !! متعمليش كيكة تاني ومالكيش دعوة باللي هقوله دِلوق !!
ثم جهر :
-كيكة هاجر ولا غلطة ، متسمعيش كلام البنات دولت يا بت يا هاچر دول غيرانين منك ..
تقدmت هيام لتقدm له طبقها :
-والله ، طب دوق بتاعتي وأنت هتعرف الفرق عشان تطبلها زين .
تناول قطعـة من أختـه وبدّ الإعجاب على ملامحه يتراكض :
-لا عاليـة قوي دي !! بس طبعا بتاعت هاچر أحلى .
ثم همس لهاجر محذرًا :
-أنتِ والكيكة بتاعتك تختفوا لغاية ما انسى اللي طفحته قبل شوية ..
فمدت له أحلام طبق ليلة بخبث:
-ودي .. دوق وقول رأيك !!
تدخلت ليلة بعناد:
-أصلًا رأيه مش مهم يا أحلام ، كفاية أنها عجبتك أنتِ وعمو الحچ ..
عاندها وتناول الطبق كله بدل من أخذه قطعة واحدة ، أمعنت النظر به منتظرة رأيه ، فلم يجب .. تناول واحدة وراء الأخرى فسألته أحلام :
-اظن مش محتاج يتكلم ، ديه هيخلص الطبق من حلاوتـه !!
رفع حاجبه متعمدًا استفزازها :
-دانا بدوق كذا حتة عشان محكمش بالباطل ..أصلو آكيد الطعم مش هيبان من أول قطمتين ..
زفرت بضيق وهي تسبـه بسرها :
-يارب صبرني عليـه ..
مع تناوله للقطعة الثالثة رفع جفونه ليقول بغــــرور :
-عشرة على عشرة يا استاذة .. والنجمة تاخدها هاچر عشان كيكتها أحلى بردك ..
حـ.ـضـ.ـنت هاجز ذراع أخيها وهي تقبله بخده:
-أشطر محامي يدافع عن أخته يا ناس !!
لمعت السعادة بعينيها رغم محاولاتها الكثيرة لإخفاء ابتسامتها عنه ، فهللت أحلام مدافعة :
-مش قولت لك ليلة بكرة تتعلم وتبقى على كيفك !!
هنا دق ناقوس الزغاريد بأرجاء المكان لتدخل صفية وأخيها وزوجته وزينة ثم هيثم الذي ذهب لعندهم بعد مشاوير هارون الذي اختلقها له وضل هو بالبيت ، كانت الفرحة تغرد على وجوههم لتقول :
-مقدرناش نستوا لبكرة لغاية ما يجي معانا العريس .. چيبنا الشبكة وچينا ، ويبقى هارون يحاسبـه على مهله ..
تعالى يا عمة أحلام اتفرجي وملي عينك ….
فجاء الخفير راكضًا من الخارج :
-حضرة العمدة ، إلحق نصيبة 
‏لا علاقةَ للريحِ باشتهاءاتِ السفن
كل ما في الأمر؛ أننا نحاول لومَ أي شيء
حين نسلكُ الطرق الخاطئة.
نلومُ القمر على ظلمةُ الأيامُ – نلومُ البحر
على ابتعاد السفن ونلومُ الحب- بعد كل بكاء وبعد كُل هجر ..
-لقائلهـا .
••••••••
-فيه أيه يا يا چابر وايه الغاغة اللي برة دي ؟
فزع هارون مجلسه بلهفة وخلفه أبيه الذي عطلته مهلاً حركة عكازه ثم انضم لهما هلال المُقبل من أعلى .. لم يكد ينطق الخفير فسبقه هلال متسائلا :
-ياستار ؟! ايه الفوضى اللي برة دي يا جابر ..لعله خير .
التقط جابر أنفاسه وهو يخبرهم بذعر يتقاذف من منطوق كلمـ.ـا.ته مهتاج النفس:
-البلد مقلوبة على اللي حوصل في المجِلس وأم بكر لفت على البيوت بيت بيت وقومت الرجـ.ـا.لة والحريم عليكم .. عاوزة ولدها يرچع لحـ.ـضـ.ـنها ويتچوز البت ..
أول ما جاء بفكر “هلال” هو أمر زوجته .. فطلب من اخته بعجلٍ وهو يلحق بخطى أخيه :
-هاجر أطلعي لرقية .. ولا تخبيرها بشيء .
تأهب هيثم بالرحيل خلفهم ولكنه وقف بمحاذاة زينـة قائلًا بمزاح يبطنه السخط :
-چاية وچايبة الخير في رچليكي .. ماشوفتش في فقرك يا بعيدة ..
ندبت على صدرها وهي تبث شكواها لأمها :
-شايفة ياما مِقلدته عليّ !! وأنا كُنت عملتلهم أيه !!
ردت أمها ببلاهة :
-عيضحك معاكي يا بت ، ميبقاش مخك صِغير .
أثر الخــــوف انصب على الوجوه .. فتمسكت ” ليلة” بيدي ” أحلام” وهي ترتعش إثر الفوضى والصخب المتردد بالخارج .. وتمسكت الحرباء بعمتها وهي تبخ بأذنها السُم همسًا :
-ولسه ولسه ياما هنشوفوا يا عمة .. قولتلك قدmها شوم البت دي !وقعادها هيچيب جُرس وفضايـح .
صاحت صفية بقهرة وهي تراقب الحشـ.ـد من خلف المربعات الخشبية للنافذة :
-يا مُرك اللي يتعبى فى شكاير ياصفية من تحت راس عيالك .. لا خير في واد ولا بت !!
ركضت هاجر لصديقتها بالأعلى فنظرت أحلام لليلة وأمرتها بحزم :
-هيام خدي ليلة كمان وأطلعوا فوق لمراة هلال .. ومهما حوصل لا باب ولا شِباك تفتحوه ، يالا وأچفلوا على روحكم زين ..
شـ.ـدت هيام ليلة برفق وهي تنتفض من شـ.ـدة الذعر وتومئ بالإيجاب :
-حاضر يا أحلام .. يلا يا ليلة تعالى .
أعقب هيثم خلف أخيه متعجبًا :
-أحنا لساتنا جايين ماشوفناش حاجة يعني ؟!ظهروا مـ.ـيـ.ـتى دولت !!
خرج الهارون لمنصة بيتهم العالية ليراقب جمهرة من الناس يشعلون كشافات ضوئية ومن يستعين بالنار لتنير طريقه وعشرات من الرجـ.ـال يقتحمون بوابـة منزلهم .. أمر جابر قائلا بعنفوان :
-خلى الخفر عينهم وسط رأسهم ..
فأكمل هلال بضيق :
-هارون أنا هنزلهم !! واللي هيقول كلمه في عرض مرتي أنا هقــ,تــله .
صرخ هارون ليوقفه :
-هلال .. مش عاوز تهور ؛ أهدى ..
ثم أشار لهيثم :
-خليك چار أبوك ..وأنا نازلهم ..
أسرع هارون لقطع درجات السلم القصير وهو يمر في دهليز بيته ويأمر خفره بفتح البوابة على مصرعيها ليزأر بوجوهم بغـــضــــب مفحم فاتحًا ذراعيـه :
-هي القيامة هتقوم ولا أيه !! ولا البلد مبقاش ليها حاكم !! خير يا عزايزة !!
تفرغت الأفواه بوجهه وكل واحد منهم يقول كلمته التي برئ العقل منها ذمته تمامًا :
-أحنا مش هنرضوا بالحـ.ـر.ام !!
-بت أبو الفضل ترجع لولد عمها ، هو أولى بيها .
-بت أبو الفضل كـ.ـسرت العرف ودخلت الحكومة بيناتنا تستاهل اللي يچرالهـا ..
-المجلس لو اتساهل فديه لوجود الحكومة عشان الموضوع يتلم .
-هو مش حـ.ـر.ام فضيلة الشيخ يتجوز واحدة مكتوبة لغيره !حتى مستناش عِدتها تُخلُص.
-واتكشفت على غيره .. هو كيف قابلها على روحه ..
-أنتوا لو ناويين تكـ.ـسروا أعرافنا يبقي هملوها أحسن .
-لو هتكـ.ـسروا يبقى اكـ.ـسروا الكل مش هتكـ.ـسروا اللي على مجازكم وكيفكم وبس ..
شـ.ـد هارون البندقية من أحد الخفر وأطلق عيارين بالهواء يكي يخرس الأفواه التي يتقاذف منها النار ، ثارت ثائرته واتبع بصوته الأشبه بالرعد وانحرف عن دائرة المعقول :
-خلصتو چعچعة .. كل اللي محشورة في زوره كلمة قالها !! هو ديه الموضوع اللي قوم رجـ.ـا.لة بشنبات !! والله عيب ..
ليخترق صفوفهم مكملًا عتابه و سخطه على حالهم :
-ايه خلعنا المرجلة وهنقضوها لت وعجن على المصاطب مع الحريم !! جرالكم ايه يا عزايزة ؟!
فعارضه رجل من بينهم :
-الحق حق يا عمدة .. وأنت اللي المفروض تقولنا إكده ..يعني أيه العرف مع واحد ونشقلبوه ..
وبخه هارون بنبرة لا تقبل النقاش :
-و أيةُ حق عيقـول نچوزوا واحدة لراجـ.ـل د.بـ.ـحها وهي مش رايداه !! ما نمـ.ـو.توها أحسن !!
فاتبعه معتز الخبيث والذي يحمل بقلبه حقائب من الحقد عليهم إثر إهانة هارون له من قبل :
-ويعني هي كانت رايدة هلال ومطبخينها ؟!
فأتبع الأخر على نهجـه :
-وغوت وِلد فياض لأجل تنول المراد !! والنتيجة أهو الواد راح في شُربة ميه ..
رفع هارون كفـه ليسدد له نصيبه من اللكمـ.ـا.ت إثر تلميحاته الدنيئـة ، ولكنه تمالك أعصابه بشـ.ـدة أوقدت بمعالمه وهو يضم أصابع يـده مُجبرًا ، سيل من النظرات العاتية والذي بتره هلال وهو يضـ.ـر.ب بالهواء عياره الناري من ” طبنجة ” أبيه ، ليقف بوجه الريح مواصلًا حربه وحده :
-چرالكم أيه !! هي أعراض الناس بقيت لعبة !! نسيتوا قول رسولنا الكريم :
: «إِنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ اسْتِطَالَةَ الْمَرْءِ فِي عِرْضِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ».
تحول وجهه لبقعة من الدm وهو يحدج الوجوه المتسلطة عليـه :
-بلاش دي !! بأي حق تسمح لنفسك كراجـ.ـل تخوض في عرض واحدة اتچوزت على كتاب الله !! أنتَ مين أصلًا !
اندلع أحدهم ليعارضه :
-أحنا مش عاوزين الواد بكر يتحاكم ويتسـ.ـجـ.ـن .. لو اتچوز البت كان الموضوع اتلم ..والوِلد رچع داره .
صرخ هلال بوجهه وهو يخفض فوهة سلاحه :
-اسمها الداكتورة رقية أبو الفضل مسمهاش البت وأعرف أنت عتتكلم على مين !! .. وبعدين بكر ديه لو ظهر هقــ,تــله أنا بيدي هو واللي متستـر علـيه .
ثم وقف بكتف أخيه وأكمـل بنفس قوة صوته المُجلجلة :
-من غير يمين ؛ لو سمعت لسان قال كلمة على مرتي ، مراة هِلال العزايـزي ، هيبقى هو الچاني على روحه ..وساعتها محدش يلومني ، وأقفلوا على السيرة دي ، ديه آخر تحذير بلساني قبل ما سلاحي يتكلم ..
فعارضه معتز قائلًا :
-وه ، ويرضيك يا عمدة وِلد عمنا يتسـ.ـجـ.ـن ونسبوه للحكومة ونضيعوا مستقبله !
تدخل هلال قائلًا بنبرة لا تقبل الجدل:
-ماهو لو الحكومة معدmتهوش ، هقــ,تــله أنا في ميدان عام قصادكم كلكم.. والرچل يوريني نفسه ويعارض.
فأكمل هارون بدهاء ليقف الطاولة على الكل :
-ومش أنت يا معتز اللي كُنت عاوز تتچوز واحدة مش عزايزية !! دانت ياخي غفلقتها على الآخيـر وداريت عليك قصادهم .. وكمان چاي تجعجع في بيتي ! مكنش العشم ..
ونظر للآخر الذي يسانده :
-ومش أنت اللي عتسهر معاه كُل ليلة في خمارات الجبال !! وانا عارف وساكت وأقول بكرة يعقلوا ..
ونظر للآخير وهو يشير له :
-ومش أنتَ اللي چيت تترچى أبوي من سنتين عشان يطـ.ـلق أختك ، وإحنا معندناش طـ.ـلا.ق ؛ لكن ابوي وقف معاك وساندكم في المچلس ونجا أختك وولدها من چوزها البلطجي ..
ثم صعق بوجوههم :
-وأنتوا فاكرين لما تتلموا وتقيدو نار وتخشوا علينا الد.خـ.ـلة دي ، هنخافوا ونقولولكم خدو مراة أخوي وچوزوها على كيفكم !! غلطانين ، لانها من الساعة اللي اتكتب فيها على اسم أخوي بقت أختنا التالتة ودmنا من دmها واللي يفكر يأذيها بكلمـة هيلاقيني في وشه…
وبحالة من الانفعال والهيجان :
-وبكرر كلام أخوي ، تقفلوا ضبة ومفتـاح على الحديت ديه !! وكلمة في عرض مراة أخوي يبقى يقرا الفاتحـة على روحه ..
ثم صرخ بالخفر :
-مش عاوز اشوف دكر في بيتي ، واللي عنده مظلمة يروح يشتكي في المجلس يلا .
في موكب الحشـد تسللت من بينهما عربتي “آل سويلم ” ،هبط خضر من سيارته العاليـة والشمـ.ـا.تة تسطع من عينيـه ليقول ضاحكًا :
-أي مساعدة يا عمدة !! أول ما شمـ.ـيـ.ـت خبر أنو في إنقلاب عنديكم في النچع قولت أجي أقف في ضهر أخوي وحبيبـي وكبيرنا..
فأتبع هيثم الذي انضم إليهم قائلًا بسخرية :
-لا ضهر أخوي متغطي .. على يمينه في هلال وعلى شماله هتلاقيني واقف ، أيه تحب تُقف في النص بيناتنا !!
أغمض هارون جفونه للحظة متحكمًا في زمام غـــضــــبـه :
-عاوز أيه يا خضـر !!
اخترق الصفوف بخطواته المتمهلة :
-چاي أهني وأبـ.ـارك لمولانا العاشق الـ العشق غواه وخلاها يتنازل ويأخد واحدة خـ ..
اقتحمت ذراعه رصاصـة هلال الذي لم يطق كلمة إضافية بحق زوجته وبين هول من الشهقات والهمهات ، والأعين المنفرجة من شـ.ـدة الصدmة حول تصرفه الجنوني ، لم يمنح أخيه الفرصة لأخذ السلاح منه بل تقدm لذلك الرجل الذي يسندون معاونوه وصرخ بوجه :
-اتقي شر الحليم إذا غـــضــــب ، وكلمة زيادة هتلاقي الرصاصة الچاية في نص راسك ..
صوت صخبه المتألــم وصراخه وهو يتمسك بذراعه الدامي :
-قلبتوها دm بيناتنا يا عزايزة ، ورب البيت ما هخلي واحد منكم على وش الأرض ويا انا يا أنتو ..
شـ.ـد هارون السلاح من أخيه عنوة بعد ما تلاقت عينيـه بأبيه الواقف بعيدًا فوق المنصة بدون أي تدخل ليراقب تصرف أبنه الحاكم ، ثم عاد ليجهر بمن حوله صارخًا :
-يلا مش عاوز اشوف مخلوق إهنه ..
الرصاصة التي اندلعت من مسدس هلال دوى صداها برأس صفيـة وهي تلطم الخدود وتشق الثياب متجاهلة حكم ومواعظ أخيها .. صرخت بوجه الجميع :
-وربنا ما هسيبها تقعد ليلة في بيتي بت صفاء الخاطية ..
~بغُرفة هلال ..
-يعني كُل ديه بسببي أنا !! يا فضيحتك يا رقية ..
أخذت تنوح بعجـز وبكاء مرير وهي تعاتب أقدارها بقلة حيلة :
-يارب خدني وريحني يا رب .. يارب أنا مش هقدر أكمل في الدنيا دي ..
حاولت هاجر وهيام أن تحـ.ـضـ.ـنهـا كي تهدأ وتواسيها ليلة ناصحة :
-ممكن تهدي ، أنتِ مش ذنبك حاجة ، بلاش تعملي كده في نفسك ..
ثم هبت مقترحة بشفقة :
-حالتها مطمنش ، نشـوفلها دكتور طيب ؟
اقتحمت صفيـة الغُرفة بعد ما بَخت الحية سُمها بآذانها وهي تعول صارخة بضجر ولو يغمض لها جفن الشفقة على حالة هذه المسكينة:
-عتبكي !! ابكي ونوحي واندبي .. ماهو كله ديه من تحت راسك يا ست العرايس .. داخلة علينا د.خـ.ـلة شوم وفقر ..
وقفت هاجر بوجه أمها لتُدافع عن صديقتها :
-ياما عيب الحديت ديه !! ورقية ايه ذنبها بس..
-ذنبها أديكي قُلتيها بعضمة لسانك !! چاية تشيلهولنا ليـه !! تفضحنا ليه !! اتربربت وغلطت مع وِلد عمها ، أحنا مالنـا بعارها ..
عارضتها هيام بذهول على قسوة أمها :
-أما !! أنتِ عتقولي أيه !! حـ.ـر.ام عليكي ياما مش إنتِ والزمن على الغلبـانة دي .. استهدي بالله .
ثم حاولت أن تُخرجها من الغرفة :
-أقولك بينا على تحت .. أنتِ أيه چابك ؟!
تدخلت ليلة في حوارها بصدmة من شـ.ـدة جهلها وهي تجلس بجوار رقية وتربت عليها :
-لحظة بس !! هي أيه الذنب اللي عملته عشان حضرتك تكلميها كده !! وبعدين دي مراة ابنك المفروض تكوني في مقام مامتها وتدافعي عنها مش تهينيها ..
برقت لها صفية مغلولة :
-ماهو ديه الناقص ، واحدة زيك مطلعتش من البيضة چاية تديني حكم ومواعظ .
أوقدت الغيرة بقلب زينة إثر تدخل ليله ، فارتدت قناع الطيبة وهي تتمسك بها :
-ياعمة هدي روحك .. خلاص مفيش فايدة بقيت مراة ولدك خديها تحت چناحك وخدي ثوابها ..
سحبت صفية ذراعها بحملة من المكر تقودها واندفعت نحو فراش رقية التي كانت تسد آذانها من جمر حديث صفية الذي تقصفه على قلبها ، أمسكت بمرفقها وهي ترجها بعنف :
-بت بصي لي !! هلال ولدي چيه چارك !! ولدي لمسك ؟
مالت هيام نحو أمها محاولة إنقاذ رقية من تجبرها وعلى الجهة الآخرى ركضت هاجر للخارج كي تستعين بهلال أخيه ، تراجعت ليلة ببطء لتتوارى بأحد أركان الغرفة وهي ترتجف .. كررت صفية سؤالها ولكن اكتفت رقية بسكوتها الذي ينحر روحها شيئاً فشيئاً.. اقتربت زينة منها وهي تسكب على النيران بنزين حقدها لتزيده بكلمـ.ـا.تها السامة:
-وديه سؤال يا عمة في أوضة واحدة ومقفول عليهم باب والشيطان شاطر، بس يا خسارة هنثبتوا كيف وهي مش بت بنوت!! قلبي عندك يا عمة ؛ كل ليلة في حـ.ـضـ.ـن راچل و
فاض صبـر رقية منها ، خاب من قال أن كثرة الحـ.ـز.ن تُعلم البكاء ؛ كثرة الحـ.ـز.ن تعلم الصبـر ، تمنح القوة .. تقتـل براثين الخــــوف من القلب ، تخلق منك شخصًا قويًا لا يهابـه شيء .. دفعت رقية صفية بكُل ما أوتيت من أحزان ووثبت من مكانها لتفرغ طاقات غـــضــــبها بـ ” زينـة ” وهي تنقض على شعرها وتصرخ بها :
-تصدقي إنك ناقصة ربايـة وأنا اللي هربيكي !
-ألحقيني يا عمة …
ارتفعت الصرخات النسوة حولهم ، وفرغت رقية طاقات غـــضــــبها بزينة وهي تسدد لها الضـ.ـر.بات حتى اسقطتها أرضًا .. ارتفع صوت صراخ صفية بحرقة عن بـ.ـنت أخيها محاولة التطاول على رقية ، وقعت هيام ضحية للثلاثة .. شعور غريب يملأه الخــــوف طاح بليلة التي توارت متشبثة بالستائر كمحاولة خفيفة للهروب من الارتباب والضجة والصرخات بان الذعر بعيونها المترقرقة وهي تشاهدهم بقلب يختلج من الهلع..
اقتحم هلال الغرفة ثم هاجـر فلحق بهما هارون إثر توسل أحلام له لان صوت الصرخات ملأ أركان القصر .. بمعاناة حمل هلال زوجته التي افترست زينـة من الأرض بذهول عما فعلته ، فعاتبها بتنهيدة :
-رقية !! اهدي .. حصل أيه خلاكي تعملي فيها إكده ..
صاحت زينة التي تستند على عمتها لتنهض :
-وديني لو حقي ما رچع دِلوق ياهلال من مرتك لاسففها التراب ..
صاحت رقية المحتمية بجسد زوجها بحرقـة :
-شكلك متربتيش وعاوزة العلقة التانية..
صرخ عليها هلال كي تصمت وتحترم وجوده :
-رقيـة !!!
-شاهدة شاهدة بت ابو الفضل عملت فيّ ايه !! وكل ديـه كمني قولت حقيقة الخلق كلهم عارفيها .. مـ
ثم قطع ثرثرته حمحمة صوت هارون ، حجب هلال الرؤية عن زوجته وهو يشـ.ـد فوق رأسها الوشاح ليستر شعرها الظاهر منه ويحاورها بعينيـه معتذرًا ، فتدخل هارون متسائلًا :
-فيه أيه إهنه ، مالكم !!
فتح زينة جرار فستانها وشـ.ـد الكتف وهي تبعثر في شعرها لتدنو منه وتحـ.ـضـ.ـنه بدون حياء متوارية خلفة دmـ.ـو.ع التماسيح :
-تعالي شوف اللي حصل لي يا هارون !! مرتك اتهانت يا سيد الناس على يد واحدة زي دي ..
رفع كفوفه لأعلى متحاشيًا لمسها وهو يبغض قربها :
-حصل أيه يا زينة !! اتكلمي طوالي ..
أخذت الحية تبخ في سُمها وأكاذيبها وإهاناتها المتكررة لرقيـة مستجدية استعطافه :
-والله يا هارون لو ما جبت لي حقي دِلوق منا مكملة في الچوازة دي ..
علقت عيني هارون بعيني ليلة المذعورة والتي خيمت على قلبها جملة من المشاعر العاتية خاصة عنـ.ـد.ما ارتمت زينة بحـ.ـضـ.ـنـه ولاحظت عيني هارون المُشتتة عنها والتي تعلن رفضها الصريح له .. رق قلبه لعينيه المذعورين والمتواريتين من بعيـد ، شعور ما كان يجذبه أن يضمها أن يطمئنها أن يرفرف عليها بجناحي أمانه حتى التفت لنداء زينة :
-هارون يا حبيبي اوعاك تفرط في حق مرتك ..دانا ماليش غيرك .
أبعدها عنه كمن يخلص غصن الشجرة من تمسح الأفعى بهـا ،وقال بضيق دون أن يطالعها :
-استري روحك ..
تقدmت صفية لابنها وهي تخوض في معركتها التي نشبتها :
-هلال بص لي .. أنت قربت من البت دي ؟
وقف هلال كالحصن مصدرًا ظهره لأمه وهو يعاتبها بعينيه بخجل من جراءة أمه :
-ما دخلك يا صفية !! هذا لا يُعنيكِ .
-يعني ايه ! لا ديه دخلي ونص ؟! دي متبقاش أم عيالك ولا تبقى في بيتي كفاية النصايب اللي من تحت راسها ؛ أوعاك يا هلال .. دا أنا أمك ..
رد بهدوء :
-وهي زوجتي وحلالي .. وفي عصمتي ياما ؛ مزعلة روحك ليه !
صاحت زينة من الخلف :
-تتأسفلي قدامهم كلهم وإلا هردلها الضـ.ـر.بة بعلقة يا عمة ..
دافع هلال عن زوجته :
-مرتي مش هتعتذر من حد ، وآكيد لكل فعل رد فعل ، هي مش مچنونة عشان تضـ.ـر.بك من الباب للطاق يا زينة ..
ثم ألقى نظرة لرقية المحتمية بظهره وأكمل :
-وأنا مأكد عليـها اللي يزعلها تفتح راسه وأنا هاچي أكمل عليه .
فتدخلت ليلة مدافعة عن حق رقية بوجه زينة :
-عنده حق ، هي اللي فضلت تهينها وتسمعها كلام جارح ميصحش ، أنتِ اللي بدأتي يا زينة متزعليش بقا وتشتكي زي الأطفال !!
شهقت زينة بكهن وهو تحاول مد يدها على ليلة :
-وانتِ كان مين طلب رأيك يا ام حق وحقيق .. انتِ أصلا قاعدة وسطينا بصفتك مين !! اتنين سلايف وعيقطعوا بعض ايش حشرك !!
ثم نظرت لهارون بخزى :
-وأنتَ مش هتدافع عني كيف ما عيدافع على مرته !!
عنفها هارون قائلًا :
-زينة ولا كلمة ، انزلي خدي أبوكي وأمك وروحي وبعدين لينا حساب على اللي قُلتيـه ..
رمقتها ليلة بسخط وتمتمت :
-واحدة قليلة ذوق ومش بتراعي مشاعر حد ..
دارت له بنبرتها الخفيضة الثعلبيـة :
-أوامرك يا سيد الناس ، بس أنا زعلانة وليا حق وهاخده .. وزعلي منك وراعر قـوي يا هارون .
تمسكت هيام بكف ليلة بلمسة اعتذار عما قالته زينة ، فأتبع هارون بنظرته الحادة :
-ماسمعتيش ! قلت يلا امشي وبلاها حديت ماسخ ..
-همشي يا هارون ، بس لازمًا أبوي يشوفلنا حل ، أنت لو عتحبني وباقي عليّ كُنت مسكت اللي مدت يدها على مرتك وقليت بيها وسط الخلق ، لكن انتَ جاي على زينة الغلبانة مكـ.ـسورة الچناح ..
فجهر هلال وهو يضع كفه فوق الآخر أمام بطنه ويقول بوجه أمه التي تندب حظها أمامه :
-مرتي عاوزة ترتاح .. اتفضلو كُلكم من إهنه ..
غادر هارون أولًا وهو يلعن تلك الخلافات جهرًا ويتشاجر مع الهواء الذي يتنفسه ، فأوقفه هيثم في منتصف السُلم متسائلًا :
-حُصل ايه فوق !!
جاءت زينة خلفـه تنوح بلحن المكر :
-مرة هلال مدت يدها عليّ يا هيثم ..
-تسلم يدها ..
رد منفعلًا :
-قصدي أقول هو أنا نسيت أقولك !!
-لا ما قولتش ياهيثم ؟!
وشوش لها بصوت مسموع كي يتعمد ابعادها عن زوجة أخيه :
-قبل إكده وِلد عمها ضايقها فتحت راسه بالقُلة ، نسيت أقول لك دي قوية بعدي عنها يا زينة .. إحنا مش قدِها ..دي ليها سوابق .
-يا مري!! وأيه اللي رماه على المُر ديه !! دي ساحراله يا هيثم !! تعالي الحقي يا عمة .
تركهم هارون وتأهب مغادرًا وهو يسب الستات ومشاجراتهما والفتن التي ربما تنشأ بين الأخوة بسببهم ، فنادته زينة :
-هارون أنت رايح فين ! لسه متكلمناش ..استنى بس .
وما أن رأت أبيها هرولت باكية بحـ.ـضـ.ـنه وتثب جمر شكواها المزيف لتشعل نار الغـــضــــب بقلب أبيها الذي وقف بوجه هارون قائلًا :
-أنت كيف مدافعش عن البت يا هارون! دي مش مرتك وشايلة اسمك دي ولا هو لعب عيال .. لو إكده نفضوها سيرة من اللول .
فأتبعت زينة برفض قاطع :
-لا يا أبوي هارون ميقصدش ، أنت بس قوله نلبسوا الدبل الخميس الچاي ويچيبلي بيت لوحدي بعيد عن الخاطية اللي فوق دي !!
صرخت صفية من أعلى رافضة جملتها :
-وه!! وكمان عاوزة تاخدي ولدي من حـ.ـضـ.ـني وبيته !! أنتِ اتچنيتي يا زينـة !
زفر هارون بضيق ، فرأسه فاضت من جُملة المشاكل المتراكمة حوله ، حتى صاح الحج صالح لصفية معلنًا :
-سامعة يا صفيـة .. تلبيس الدبل اخر الاسبوع ، ود.خـ.ـلة هارون وزينة آخر الشهر .. الحال المايـل ديـه ما يعچبنيش .
هللت زينة وأمها بفرحٍ حتى أتبعت بدلالٍ :
-خلى الفرح يخش وسطينا يا عمة ، وأوعدك محدش هيچيبلك الحفيد والواد قبلي .. قولت أيه يا هارون !
تمتمت هيام من أعلى بحـ.ـز.ن وخيـم على حالة أخيها وهي تشكو لليلـة :
-هو هارون مش متكلم وموقف الچوازة دي ليه !! أنا هنزله .
فأوقفتها ليلة معترضة :
-استنى الصبح واتكلمي معاه .. هو آكيد دلوقتي دmاغه مشغولة ..
•••••••••••••
~بالقسـم .
-أنا متأكد يا أفنـ.ـد.م زي ما بقولك ، هارون وأخواته بيحفروا فـ الجـبـل ..
أردف شريف جملتـه بعد ما جاءته الإخبـ.ـارية عن تفتيش هارون عن الكنوز بالجبل ، فقطعه اللواء قائلًا :
-اسمع يا شريف المأمورية دي لو فشلت أنت هتصرف نظر عن العزايزة ومشاكلهم ، أنتَ فاهم .. وهتكون نقطة سودة في تاريخك ، الأخبـ.ـارية جاية عن طريقك أنتَ .
ضب شريف متاعه وأسلحته بحماس:
-عيوني عليهم في كل مكان يافنـ.ـد.م ، المرة دي هنسلم رقبة هارون العزايزي للعدالة .
غادر شريف خلف الفرقة العسكرية التي خرجت معه لمداهمة رجـ.ـال هارون الذين يفتشون عن الآثار بالجـبل وأكبر مقبرة فرعونيـة واقعة بأراضيهـم .. استقل سيارته الشرطية بجوار العسكري وكلم عينه المنصوبة بالمكان :
-إحنا جايين !!
-وانا عيني عليهـم يا فنـ.ـد.م مش هتحرك ..
انطلقت القوات العسكرية في طريقها قاطعة المسافات والطرق المظلمة بين ثنايا الجبال ، لم يخلٌ طريق شريف من ذكرى هاجر الذي أرسل لها عبر ” الواتساب” قائلًا بمكر :
-طالع مهمة تقيلة ادعي لي تصيب .. وأجيب راس كبيرها تحت رجلي .
ثم شبح الضحكة الخبيثة على محياه وهو يقفل هاتفه :
-مش هرتاح غير لما أحبسهولك .
ثم هتف بحماس للعسكري:
-دوس بنزين خلينـا نستعجل بقدره اللي مستنيه ..
التقى شريف بالرجل المجند لحسابه على مقدmة الطريق فأشار له أن يصعد .. جلس الرجل جار وهو يرشـ.ـد السائق للطريق ويقول :
-بس واعرة قوي الطلعة دي ، دول مكلفين المكان ملايين متجمدة ورجـ.ـا.لة عتكحت في الصخر .. المقبرة دي لو اتفتـحت العزايزة هيستولوا على قنا تمًا ، وإحنا مش عاوزين إكده ولا عايزين أعرافهم .
رسمت الضحكة الخبيثة والعدوانية على أصداغ شريف وهو يقول:
-على جثتي ، أنا جاي وناويها ، همحي حاجة اسمها العزايزة من على وش الأرض .
-قدها وقدود يا شريف بيـه ..
وصلت عجلات سيارات عربات الشرطة للمكان الذي من المؤكد أن رجـ.ـا.لة العزايزة بهِ ولكن وجدوه فارغ تمامًا ، في لمح البصر طمست الريح خطاوي الرجـ.ـال من المكان ، هبط شريف على الفور من سيارته وهو يفتش بين صخور المكان حول طيف رجل منهم فلم يجد ، انتشروا رجـ.ـاله بالبقعة الصحراوية كل منهم بجهـة مختلفة متفرقين فلم يجدوا إلا حفرة دائرية بالمكان الذي تزفه أصوات الذئاب والعواصف ..
انضم الرجـ.ـال على بعضهم وكل منهم يبلغ شريف ويؤكد عليـه بخلو المكان حتى فرغ بركان غـــضــــبه بالمجند وهو يصفعه :
-راحوا فين !! مش قايلك عينك متغفلش عنهم !! دي فيها مستقبلي ..
قفز الخــــوف في قلب الرجل الذي يؤكد له بما قاله من قبل ولكنهم تعرضوا لخدعة وما كاد شريف ليصفعـه فأوقفه عن فعله الجنوني بعض الكشافات في عربة النقل .. هبط منها رجل ليفرغ حملته الحديدية فأوقفه شريف متسائلًا وهو يرفع السلاح بوجهه :
-أنتَ جاي هنا بتعمل ايه !
رد السائق:
-دي نقلة لزوم البير .. والتصاريح كلها مع الغفير هو فينه ؟!!
هنا جاء صوت رنين هاتف شريف الذي لم يزحزح فوهة سلاحه عن وجه الرجل و رد على ذاك الرقم المجهول بتأفف:
-ايوة مين !!
-هاشم العزايزي .
أتاه صوت هاشم المستريح بوحدته بسيناء ليرد له صفع تسريب خبر رقية بالجرائد ؛ قائلًا :
-قلت أبـ.ـارك لك بنفسي على النقلة الچديدة اللي هتغورك في ستين داهية بدل الترقية تتعوض السنة الچاية بس بعيد عنينـا وعن بلدنا .. تاني مرة متلعبش مع الأكبر منك .
ثم مدد على فراشـه بـ.ـارتخاء ونفس عميق :
– داحنا الحكومة يالا!!!
ركل شريف إطار السيارة بقدmه مغلولًا وهو يزأر بصوت يدوي صداه بالجبل وهو يتوعد لهم :
-اااه يا ولاد الـ******
••••••••••
~بغُرفـة هلال .
-هلال أنا معتش مستحملة ، أنا مش عارفـة ألاقيها من ناس البلد ولا ناسك ولا و.جـ.ـعي وحرقة قلبي على أمي ، ولا الزفت الهربان !! حاسة إني تايهه ومش عارفة اتصرف كيف !انا مش كِده عمري ما كُنت ضعيفة وقليلة حيلة زي ما أنا حاسة .
كانت تجوب الغرفة بعبث والدmع يتقطر من عينيـها على حالتهـا المأساويـة ثم نظرت له :
-هلال أنت ضـ.ـر.بت نار على الراچل بسببي ويا عالم بكرة ممـكن تعمل ايه ، ليه تِعمل كِده!! شقلبت لك حالك وأنت مالكش ذنب .. سيبني وشوف حياتك كفاية قوي لحدت إكده ..
رد بحسم :
-وأهد الدِنيا عشانك ..مش طلق أضـ.ـر.ب نار وبس .
قيل أن الأرواح الصادقة إن تاقَت لشيءٍ حرّكت الدنيا لأجله ووقفت بوجه التيار كي تُعارض خُطاه التي لا تروق لدواخلنا .. المُحِبّون يسيرون على ضـ.ـر.بات القلوب حتى تهدأ بلقاء أحبابهـم لا يقفون أمام رياح الحياة كي تُشتت أيديهم المتمسكة ببعضهـا ..
ثم قضمت أظافرها بتوجس والدmع يتغلل بينهما وهي تقف أمامه بهيئتها المهزوزة :
-كل حاچة فيها مرارة وچع ، أنا مابقتش لاقية مكان يطبطب على قلبي .. أمي مشت وخدت الحنية كلها معاها ومن ساعتها وانا تايهة بتخبط في حيطان الدنيـا وبس ..
كان يتلذذ بالنظر إليها بفخـر وهي تجوب بعبثها أمامه ، كان فخورًا بقوتها التي عادت لها لمواجهـة الظلم الذي تعرضت لـه ، والأهم لقد عادت رقيته القوية التي لا تخشى أحد .. وهو تحت سُكر جنونها وعِبراتها المسكوبـة تبسم بوجهها قائلًا بهدوء لا يتناسب مع ثورتها :
-لأنكِ لن تحاولي أن تلجئين لحـ.ـضـ.ـني بعد ..
رُج قلبـها وانفرجت عينيها من جُملته الأخيرة ، مجرد جملة بسيطة منها أشعلت حقول وحقـول من عبثها عن الأول .. بللت حلقهـا مشـ.ـدوهة مما قاله وهي تتراجع للخلف قائلة بخــــوف يملأها :
-يعني أيه !
أدرك خــــوفها الشـ.ـديد من مقصـده الصريح حيث جاء مبررًا بفطنة :
-لا داعي للخـوف ، ما أقصده هو رقيتك من كُل سوء ..
ثم أدخل خصلة هاربة من شعرها لتحت حجابها وأكمل :
-يعني لو ضاق بكِ الحال قولي لي يا شيخ هلال تعالى أرقيني .. وأنا دائمًا بالأمر ..
انتفضت قليلًا للمسـة سبابته جبهتها ، أخذت تملأ جيوب عينيها من معالم وجهه البيضاء والتي تُزينها اللحية البُنيـة ، ثم وقوفها على ضفة هذه الابتسامة الوردية التي لاتُفارق وجهـه أبدًا .. فعاد لها رُشـ.ـدها وهي تقول بتنهيدة:
-ترقيني .. اه فهمت ، لا لا ملهوش لزوم .. هنام !! هي الساعة كام ؟
ما كادت أن تهرب منه بخطوة فعادت له متسائلة :
-أنتَ ليه ورطت نفسك معاي يا هلال .. ليـه ؟!
‏كانت تتأمله بعيني يملأها الحسرة تمنيت لو كان كل ما مر بهما مجرد كابوس وسينتهي ، أن لو يعاد العمر مرة أخرى لتُمشيه معه خطوة تلو خطوة، عمرًا كاملا بصحبته لا أسف ولا نـ.ـد.م.
-ورطـة !! يا ليت كل ورطات حياتي تكون أنتِ.
ثم رفع حاجبـه ليبرر لها مقصده وهو يسحبها من كفهـا ويجلسان معًا على الأريكـة مستخدmًا نبرة صوته الساحرة وهو يقول متخابثًا :
-كلام في سرك ؛ أصل الشيخ استاذي موصيني منمش لوحدي في الأوضة عشان بتخيـل حاجات مش مظبوطة ، فأوصاني بالزواج في أسرع وقت من واحدة قادرة وقوية .. عشان تخــــوفهم ، فدmاغي فضلت تودي وتچيب من هي القادرة المفترية ! طلعتيلي أنتِ !! يعني چوازي منك مش ورطة ، كلا فهو لهدف علاجي !!
-أنا قادرة ومفترية!!
ثم ذابت في صِدق سرده للكذبة فقالت ساخرة وهي لم تبتلع طُعمه المعسول :
-وبعدين هو أنا المفروض أقول لك كام مرة أن الكذب حـ.ـر.ام يا شيخ هلال !
انفجر ضاحكـا هو يمحو أثر آخر دmعة تبرق على وجنتها وهو يقول :
-يحل الكذب بين الرجل وزوجته ليُرضيها ويرضي فضولها !!
تستكين الأوجاع برفقة الأحبـة ؛ ذابت في أعذوبـة ضحكته التي تسمعها لأول مرة ثم لاحظ هوى وهدوء نظراتها إليه ، فأتبع ليقول بجدية :
-عارف أن البلاء صعب عليكِ ، ولسـه محتاجيـن وقت طويل عشان الناس تنساه ، بس هطلب منك طلب ، عاوزك تبقي دايما قوية زي ما عرفتك .. مش عاوز حاجة تأثر فيكِ .. أنتِ متعملتش حاجة غلط تخافي منيها ، خالتي صفاء في مكان أجمل من دنيتنا ؛ كل ما توحشك ادعيلها وقوليلي تعالى وديني ليها يا هلال .. وسيبي اللي يقول يقول ، مراة هلال العزايزي تمشي رافعة راسها قصاد الكُل..
ما كاد أن يواصل حديثه فقطعهم صوت طرق الباب ، استأذن منها ليفتحـه فوجد هاجر معتذرة :
-هلال ، أمك عيانة واللي نازل عليها هاتولي هلال ..
••••••••••••
يرافق هارون أبيه بالخارج يتحدثان بالأمور الجارية بالبلدة والتي حلت فوق رأسهم، فأعقب خليفة بحـ.ـز.ن يحمل همه لأن مهمته باعترافه بقصة غفران هذه الفترة باتت مستحيلة ؛ حرك رأسه بمهل وهو يقول :
-ولولا بس عاملين لي خاطر كانوا هيطردوا هلال ومرته من البلد .. وكله كوم وأمك دي كوم تاني عاوزة تتربى من چديد .. طب يا صفية ..
يم تنهد بحرقة :
-والله يا ولدي ما عارف كل دي طاقات نار اتفتحت في وشنا ، طب نلموها كيف !
ربت على ساق أبيه قائلًا :
-كله هيتحـل يا أبوي متعتلش هم ..
هز رأسه متأملًا بربـه خيرًا :
-كله هيتحل ، خلاص عقدت النية شبكتك الخميس!!
رد بخزى وهو يعارض صدح قلبه:
-ان شاء الله يا بوي .. خلينا نخلصـو من زن صفية وبت أخوها .
-طب وهاشم أخوك !! البت خسارة يا ولدي.
-سيب هاشم لدmاغه يا أبوي ، هاشم لو رايد چواز كان چيه و قالك ، ونغم متتعيبش بس مش هنجبروه .. أنا هتحدت معاه وأشوف مـ.ـيـ.ـتـه أيه !
-ربنا يخليكم لبعض يا ولدي .. ااه يا هارون عاوز أوصيك على البت الصحفية اللي چوة دي ياولدي ! أنت وأخواتك متقطعوش الوصل معاها .
انكمشت ملامحه بذهول :
-أشمعنا يا أبوي ؟! مالها !! وبعدين أنتَ عرفت كيف أن اسمها غفران .. وبعدين وشك مخبي حاجة عن هارون يا أبو هارون ؟
قاطعه أبيه متعبًا :
-بأه بأه كل ديه عشان عقولك خلي بالك منِها كمنها باين عليها غلبانة وملهاش حد ..
حدجه هارون بنظرات لم تقتنع بعد:
-على راسي يا بوي ..والبت حقيقي غلبانة وملهاش حد .
~بغُرفة أحلام .
زفرت بضيق وهي تغلي من تصرفات صفية الحمقاء:
-أما ربيتك يا صفية ..
ثم التفتت لهيثم :
-ولاه يا هيثم طقطق ودانك معاي واسمعني زين .
شـ.ـدت أحلام آذان هيثم المتكئ على وسادة تختها بجوارها يتسامران معًا ، فقالت جملتها الأخيرة وهي تراقب ليلة الواقفـة بالشرفة تتحدث بالهاتف وأتبعت :
-خف هبابة مع البت ليـلة بلاش تبقى ملازمها كيف ضلها إكده !
-الله يا أحلام !! أومال اسيبها لمين يعني وهي ملهاش غيري في البيت ديه !!
ردت بنصحٍ وثغر يملأه الابتسامة :
-سيبها مع هارون ولدي !
-دول مقطعين بعض ، مش هسيبهاله تاني يا أحلام البت مـ.ـيـ.ـتى قِده .. وهو لما يتور يتور في الكُل مش عيكون واعي لحد .
فاض صبر أحلام من مقاوحتـه الزائدة :
-هيثـم اسمع الكلام عاوزاك تصالحها هي وهارون وتخلع نفسك ..
ألقى نظرة على ليلة التي يطاير الهواء شعرها وقال بخبث:
-أنا واخد بالي أن هارون عينه هتطلع عليها ، بس أحلام متحطيش البنزين فوق النار ونفضلوا نلطموا أنا وأنتِ .. ما تقولي اللي في چوفك وأنا هرسيكي .
لاحظت أن ليلة شرعت في إنهاء مكالمتها ، فهرولت بعجل لتقول:
-تسمع الكلام يا هيثم .. أصحى الصبح ألقاهم سمن على العسـل .. عشان أحبك چدع ولدي .
حدث هيثم نفسه وهو يتأمل براءة ليلة :
-اسيب القطة مع الفهد كيف ! ديه يتعشى بيها !!
~بغُرفـة صفية .
لقد توارت ألاعيبها خلف ثوب المرض المزيف وهي تصيح مستغيثة بولدها :
-كتفي بيغلي غلي .. قايد نار يا ولدي .. مش قادرة .
ثم تشبثت بكفه :
-ولا مُخي ، حاسة إكده من العصبية حسيته طق في يدي ..
لم تنتظر أن يجيبها لتواصـل خطتها بإبعاد هلال عن زوجته طوال الليل :
-هي عين وراشقة في حياتي يا هلال عين مراة صديق ، بص انت خليك نايم چاري عشان عصرخ في الليـل .. واقرأ لي قرآن .. كاتير ، أوعاك تهملني انا متونسة بيك ..
عارضتها هيام بعتب:
-ومرته ياما كيف يسيبها في الحالة دي !
رفع كفه ليجبر أخته على الصمت وقال مستجديًا رضاها :
-من عيني يا أمي..
انفرجت عيني أمه بسعادة :
-يعني هتبات چاري الليلة ديه !! روح اللهي يسترك ياولدي -ثم غمغمت-كيف ما اتفضحنا واللي كان كان !!
~بحديقة البيت.
انتصف الليل وتحول القمـر بالسماء لهلال يتناقص حجمه يوم بعد الأخر وتتقلص معه الأمنيات ويُعلن الفراق اقتراب أجله .. فجاءت ليلة مقترحة :
-طيب عندي فكرة ، أيه رأيك تكتب لجميلة جواب ..
غمز لها بطرف عينه وهو يترك الكتاب الذي مل منه :
-منا أحاول أجيب رقمها أسهل يا ليلة .
عارضته بإصرار :
-لالا سيبك من جو الموبايلات ؛ أنت خليك في الجو القديم الكلاسيك ده هياكل مع واحدة زيها .. جربني بس ..
ثم زفرت بضيق وهي تتفقد الأشياء المبعثرة حولها :
-هيثـم وبعدين إحنا فشلنا متحاولش خلاص !
بعد كثير من المحاولات والاقتراحات العبثية حول فكرة الحلقة الجديدة التي تود أن تُسجلها ، رمت “ليلة” الحاسوب من يدها على الأرض الخضراء اللاتي يجلسان فوقها وقالت جملتها الأخيرة بعجزٍ مُعلن ؛ حك هيثم رأسه متعبًا :
-يعني ولا فكرة عچبتك من اللي قولته !!
زفرت بسخرية :
-هيثم اسكت عشان هعيط بجد ، والمشكلة مش قدامي غير بكرة ولازم اصور آخر ڤيديو عشان هرجع بعده !!
-وه وه!! هتعاودي قبل ما تحضري خطوبـة هارون ؟! ودي تيـچي !!
أشاحت بنظرها بعيدًا حول ذلك المتغطرس الذي يراقبهما عن بُعد معاندًا نوم عينيه المتعبة ليراقبها فشعور غريب بداخله منعه من تركها بمفردها مع أخيه .. عادت لهيثم قائلة بضيق غير مبرر :
-هو معزمنيش ، ولا حاول حتى يصالحني .. وكمان رفض يساعدنا ويوافق يديك مفتاح أوضته وأهو مستقبلي بيدmر وهو واقف بيتفرج عليا .. يارب يكون مبسوط بس ..
ثم ثنت أقدامها جنبًا وهي تراقب الساعة وأكملت بسخرية:
-وبعدين زينة دي مش بتحبني ، آكيد مش هتحبني أحضر خطوبتها .. بس تصدق أخوك صعبان عليا !!
ثم رمقته فـ ولى وجهه الجهة الآخرى كي يُقلص خطوط مراقبته لها فينكشف أمره .. أغــــرورقت عينيها بحنيتها المعهودة :
-أكتر حاجة صعبة أن الإنسان يتجوز حد مش بيحبه .. يمكن أنا أكتر واحدة حاسـة بيه ؛ عشان الدنيا كلها فرضت شريف عليا ومكنتش عارفة أرفضه وأقول لا .. بس لما جيت هنا حسيت بالأمان والقوة ولأول مرة اتجرأ وارفضه وأنا قلبي مطمن .. مكنتش خايفة خالص ياهيثم ..
أخرج هيثم المناديل الورقية من جيبه وهو يلومها :
-وأيه لازمتها السيرة العكرة دي .. خدي خدي بدل ما أقوم دِلوق اسمعك خبره ، عيل ملزق كنتي متحملاه كيف !!
انفطر قلب هارون عنـ.ـد.ما لاحظ عبراتها وكاد أن ينهض ولكن غــــروره منعـه ، تنفس الصعداء وهو يحكم قبضته على مسندي المقعد البلاستيكي وهو يحترق ولا يعلم كيف لقطرتي ماء تشعل حرائق جمة بقلبـه كما فعلت دmـ.ـو.عها ، ألقى هيثم نظرة على أخيه ثم عاد إليها وشرع في بدايـة خطته مع أحلام مقترحًا :
-ما الصُلح خير بردك وتعالي أصالحكم ..إحنا محتاچينله .
هبت مذعورة وبقلب متراقص فرحـًا :
-أيــه !!! مستحيـل .. مش هصالح حد أنا ياهيثم .
وثب هيثـم متحمسًا لفكرة صُلحهم وقال:
-اصبري بس ..
ثم اتجه صوب أخيه تحت نظرات ليلة المتأرجحـة وهو يقول لأخيه :
-هِرن ، ليلة عاوزاك تيچي تصالحها .
انكمشت ملامح وجهه بغــــرور يخفى خلفه سعادته :
-افتكرت دِلوق لما احتجتني ، قولها مش هصالح حد ، اللي اتقمص لوحده يتصالح لوحده .
عاد هيثـم مطأطأة الرأس ليجلس على الأرض بجوارها تحت أنظار عيني هارون الثاقبة ؛ زفر هيثم بملل وهو يوشوش لها :
-هيمـ.ـو.ت ويچي يصالحك بس خايـف تكسفيه ..
فركت كفيها ببعضهما وهي ترسل له العديد من النظرات لتستفهم قائلة :
-هو قال لك كده !!
أجابها بثقة :
-شوفي بعينك أهو مش قاعد على بعضه كيف ..
وضعت سبابتها بفمها وبعد تفكير طويل قالت :
-روح قوله ، إني عمري ما هسامحه على اللي عمله معايا .. ومتحاولش تصالحني عشان بجد هحرجه قدامك يا هيثم .
نهض هيثم بكلل وهو يعود لأخيـه الذي ينتظر جوابها على نار :
-هارون عتقول لك أنت اللي زعلتها تعالى صالحها .. وخف على البت الدmعة هتفر من عينها إحنا مسكتينها بالعافيـة .
انفطر قلبه في مراقبتها وإلقاء نظرة عليها وهو يقول بنـ.ـد.م :
-طب الصبح هابقى أصالحها تكون راسي راقت ..
عاد هيثم لعندها واخبرها قائلًا :
-جاي يصالحك دِلوق ، استعدي ..
هبت ليلة متحمسة :
-خليـه يجي وأنا هديله درس في الأخلاق .. يالا هو وزينة دي لايقين على بعض أصلًا .
عاد هيثم لأخيه الذي يتجلجل على موقد الانتظار ليقول :
-عتقولك مينفعش تنام لحدت بكرة وهي زعلانـة منك عشان إكده عديتوا التلات أيام وهي مش عاوز تاخد ذنب ..
تراقصت الأنظار المترددة بيـن الاثنين حتى رق غــــرور هارون قليلًا وفارق مقعده ، فما رأتـه يقترب منها وثبت بسرعـة وهي لا تعرف ما عليها أن تفعله تهرب تواجه تنتظره ما ستقوله ؟ جملة أسئلة متعددة داهمتها ، اقترب هارون منها وهو يأكلها بعينيـه حتى وقف الاثنان أمام بعضهما البعض وهيثم بالمنتصف ، عقدت ليلة ذراعيهـا أمام صدرها بتمرد :
-كويس إنك عرفت غلطك وچاي تعتذر عليه !! بس يا ترى هقبله ولا لا دي بتاعتي أنا بقى وطريقة نـ.ـد.مك على أفعالك !
حملق بهيثم معاتبًا لتغيـر مجرى القول ، فأنقذ هيثم نفسـه قائلًا :
-ايه يا ليلة ما الصلح خير .. غيرنا رأينا ليه ؟!
طافت عينيها بحرية وقالت :
-تمام ، اتفضل صالحني .
زفر هارون بضيق :
-ما قولت لك خلاص مايبقاش قلبك أسود عاد!
-بذمتك في حد يجي يصالح حد ، يقوله قلبك اسود !!
تدخل هيثم :
-لا دي محبة ، عديها يا ليلة .
لوحت بسبابتها بوجهه وهي تتدلل قائلة :
-لو سمحت تصالحنى على مزاجي ؛ قول لي أنا أسف وأرجوكي سامحيني عشان أنا غلطت في حقك ، وقولها بقلبك كده عشان أحسها .
زفر بضيق وهو يطالع أخيه :
-ياصبر الصبر ..
كتم هيثم ضحكتـه إثر توعد أخيه له ، قطم شفته السفلية وهو يقول جبرًا :
-متأسف يا ستي وو !! ايه أرجوكي دي !! هارون العزايزي مش عيترجى حد !!
راقت لها اللعبة معه فقالت :
-طيب قول لي حقك عليـا يا لي لي .
تدخل هيثم بينهم بضحكته الواسعة :
-قوليها يا لي لي وهي هتهدى..
هب بوجه هيثـم بقوة ليفرغ بهِ شروخ كبريائه على حد إمراة عنيدة مثلها وكأنه العارض الوحيد للسانه :
-اخفي يا زفت من قِدامي ..
هرب هيثم من وجهه ضاحكًا ليزف الخبر لأحلام وهو يقول:
-بالإذن يا ليلة … الله يكون في عونك .
ثم دmدm لنفسه سرًا وهو يحك رأسه متقمصًا صوت الشيخ هلال :
-يحل الكذب للصُلح بين المتخاصمين ..
زام ثغرها بضيق وهي تتأفف:
-هيثم الندل على طول كده بيهرب ويسيبني لوحدي .. وانا ما بحرمش برجع أثق فيه تاني بردو .
دنى منها خطوة متسائلًا :
-ليـه وأنا عخــــوف للدرچة دي !
تراجعت نفس الخطوة للوراء وهي تعانق أهداب عينيـه بتوتـر وأحمرار أصاب وجهها :
-آه بتخــــوف كتير ، ولما بتكون متعصب بتكون واحد تاني بيخــــوفني الصراحة .
رُسمت البسمة على شِدقه وهو يتوه في شطي عينيها الخالية من العدسات اللاصقة وبراءتها مردفًا بنبرته الحنونـة :
-طب متزعليش وحقك عليّ يا ستي ..وعد من هارون العزايزي هتتكرر .
جف خلقها من سحره الطاغي على قلبها وقالت ببراءة ووجه ضاحك :
-خلاص مش زعلانة منك .
-يعني صافي يا لبـن .
أومأت رأسها بالإيجاب بتـ.ـو.تر يغمرها حتى جعلها تعكس الجملة :
-قشطة يا حليب .
ضحك منه ملء الفم ثم مدت يدها لتعقد عهد الصلح بينهما ليصافحها وهي تقول :
-سلم عليـا بقا عشان نبقي خلاص كده .
أخرج يده الدافئة من تحت عباءته الصعيـدية لتحـ.ـضـ.ـن كفها المُثلج والأشبه بالقابض على قطعة من القطن ، تشابكت الأيدي وتقارب الوريد من الوريد وتلاقت الأعين وتناغمت الأرواح ؛ فهطل المطر فارحًا بصلحهم في تلك اللحظـة لتختم السماء عهد صُلحهم الجديد والتي جاءت لتروى بذور الحب المنثورة فوقهما فابتلت كفوفهما المتشابكة ببعضها يجرى الدm مُحمل بنكهة الحُب لتثور ليـلة فارحة :
-واو !! آخيرًا مطرت في بلدكم ؟! أنا كنت قربت انسى شكل المطر ..
ثم سقطت أنظارها على كفوفهم المبللة بالغيث وقالت بعدm تصديق :
-أنا مش مصدقة عارف ده معناه أيه !!
رفع حاجبه مستنكرًا :
-يارب متكونش أسطورة ..
-تعرف عني كده !!
تفرقت كفوفهم المبللة وهي تقـول بفرحة :
-بس المرة دي بجد ؛ الأسطورة بتقول أن اللي حصل معناه إننا هنبقى صُحاب العمر كله وعمرنا ما هنفترق ..
ثم تحركت تحت المطر لترسو تحت سماء عينيه لتقول بنفس السعادة :
-السماء بنفسها ختمت صُلحنـا وبـ.ـاركته .. وبتحتفل بيـنا .. أنا مبسوطة بجد .
شرعت أن تلهو تحت المطر بفـرحة تحت عينيه وهي تتحرك هنا وهناك حتى خشى عليها من البرد فنزع عباءته الصعيدية ووضعها على كتفيها قائلًا بحنو :
-عشان متبروديش .
وضعت كفوفها فوق العباءة المرمية على كتفيها وهي تشكره بامتنان :
-بس أنا متعودة على كده ، أنا اسكندرانية على فكرة ..
-چونا بـ.ـارد وملهوش عزيز ..
رمقته بهدوء:
-زيكم كده بالظبط ..
هب الهواء مداعبًا ملابسها ومناديًا بجمالها الذي طغى قلبـه :”‏أيتها المرأة التي تعصف في غصن الوردة‏عاصفةً من عطر ؛ كيف انطوت فيك الطبيعة ‏كلها وأنت وردة واحدة.”
تقطر الطـل من فوقهم بقطراته الأشبه بالندى ورست قطرة على وجنتها وأعقب لتقول أثر اختيار المطر لخدودها الورديـة :
-أحكي لك أسطورة ومتضحكش عليـا ؟! أحنا اتصالحنا خلاص وهنبقى صحاب ، ماينفعش نتريق على بعض !
لمعت عينيه برغبـة عارمة لسماعها :
-احكي يا ستي .
سار الاثنان بخطواتهم المتمهلة نحو غرفته الخشبيـة الخاصـة وشرعت ليلة بروي تفاصيـل قصتهـا :
-اسمع يا سيدي .. زمان في المغرب وقبل معرفة الإسلام طبعًا ، كان في بلدة معينة بتؤمن بأن هناك إله خاص بالمطر !! تمامًا كده!
حك ذقنه مبتسمًا :
-براعم إلحاد من أولها .. كملي .
ثم ولت بوجهه لعنده وأكملت سيرها الهادي بظهرها وهى تتأمل النجوم على ملامحه والمطر يغسلها وأتبعت حكيها :
-المهم أن الإله ده وقع في حب بـ.ـنت جميـلة أوي ، جمالها ملهوش وصف .. أمم أحلى من بشوية أد كده !!
رفع حاجبه معجبًا بثقتها من نفسها :
-وليه چاية على نفسك!! مفيش أحلى منك يا أستاذة..
تفرغ فاهها بعد تصديق :
-ده بجد !! منا عارفة .
ثم أحمرت وجنتها وأتبع :
-ممكن بلاش تقاطـــعـــني ، هكمل لك .. البـ.ـنت دي كانت متعلقة بالنهر والمطر جدًا .. وفي يوم قرر أله المطـر خطبتها ، بس هي رفضته ورفضت حبـه خافت أحسن شعبها يتهموها بتهمة مش كويسة !!
ثم اعتدلت في سيرها وهي تواصل روي الأحداث باقتناع شـ.ـديـد وأكملت بشفقة :
-عارف حصـل أيه !! الإله غـــضــــب غـــضــــب شـ.ـديد ، ومنع نزول المطر على البلدة بأكملها ، وجف النهر ومـ.ـا.ت الزرع وجاعت الناس كلها وكلهم شيلوا الذنب “لتيسليت” .. وفي الآخر اضطرت توافق لأجل شعبها ..
ثم وقفت أمامه لتعوق طريقـه ويتوقف خُطاهم لتُكمل روى أسطورتها وهي تحاور عينيه التي تتشعشع ببيادر الحُب :
-واتجوزت البـ.ـنت الأله وخدها للعالم بتاعه ، ومع أول لقاء بينهم من شـ.ـدة فرحتــه أمر السماء إنها ما توقفش عن المطر لمدة تلات أيام متواصل حتى يمتلئ النهر كله .. وعاشوا الاتنين أجمل قصة حُب ..
ثم تبسمت بوجهه الذي يصغي إليها باهتمام وأتبعت :
-ومن وقتهـا الحُب مرتبط بالمطر ، لما قصص بتبتدي السماء بتزفهم وبتفرح بيهم .. ولما قصص بتنتهي السماء بتعيط من حـ.ـز.نها عليهـم .. بيقولو الرقص تحت المطر بيقوى الحب بين أي اتنين عن أي رقص في وقت تاني..
ثم اتسعت ابتسامتها بوجهها وهي تتنهد بـ.ـارتياح :
-اتمنى أكون فيدتك بمعلومـ.ـا.تي !!
تمتم ساخرًا :
-معلومـ.ـا.ت تستاهل الوأد .. بس عچباني.
فـ حك ذقنـه تائهًا في دروب جمال روحها قبل شكلها ليسألها :
-المهم صحتك عاملة أيه على الأدوية !
هزت كتفيها بحـ.ـز.ن :
-بدوخ كتير ، ودايما مصدعة .. وبنام كتير أوي ، بس بقاوم يعني .
ثم تنهدت بو.جـ.ـع خفيف يـ.ـؤ.لم قلبها :
-مبروك على خطوبتـك .. فرحت لك كتير على فكرة .
رد باختصار وبقلب غير مُؤممٍ عليه :
-عقبالك أنتِ كمان ..
نطقت الألسن وتمردت القلوب التي تشتهي بعضها البعض وحكت الأعين موالًا لم يقله خطيب .. ثم تهتت وهي تحت سحر عينيـه وقالت متمنية حياتها مع رجل مثله :
-أنت تعرف أن في حياة كل شخص مننا حياتين ، واحدة بنعيشها بعينين مفتوحتين ، وواحدة تانية رفضها الواقع نهائيا بنعيشها بعيون مغمضـة ..-ثم غمزت بطرف عينها- أشش حياة سرية محدش يعرفها غير الشخص نفسه وبس .
سألها :
-وأنتِ حابـة أيه أكتر !
-أنا بطلت أحب حاجة يا هارون عشان بتروح مني أول ما ابتدي أحبها ..
وكأنها ارتاحت في عينيـه للحد الذي جعلها ترفع الكلف عنه ، أحست بالخجل لتحرر لسانها من منطوق لقب اسمه فغيرت مجرى الحوار سريعًا ، قطعت سحر أعينهم المتكلمة لتقول :
-صح هنصور فين بكرة ! مش عايزة اقولك، هيثم أخوك سوحني .
-تعالي ..
“حين التقينـا أمطرت السماء نجومًا ”
•••••••••••
~فجـرًا ..
استيقظ ” هاشم ” من سُباته لبدء نبطشيته العسكرية وبعد ما ارتدى زيه الميـري كاملًا وفارق غرفته بـ الوحدة مُستقلًا سيارة الجيش الخاصة بـه ، وما تأهب أن يتحرك ففوجئ بشخص يقتحم سيارته ويصعد بجواره بدون إذن ، التفت له بدهشة وهو يخرج سلاحه من وراء ظهره ويرفعه بوجهه :
-أنت مين ؟!
بادره الرجل بهدوء يخفي خلفه العديد من العواصف:
-نزل سلاحك يا هاشم بيـه ، ما يصحش ترفع السلاح في وشي ، داحنا أهل !!
عنفه هاشم قائلًا :
-أنت لو ماقولتش انت مين أنا هصفيك مطرحك ، مطرح ما أنت قاعد ..
أجابه الرجل بثقة :
-هدي هدي .. أحنا جايين نتفقوا ونعقدوا مصالح بينـا ..
لقد نفذ صبر هاشم منه ، فصرخ بوجهه قائلًا :
-لو منطقتش أنا هفرغه في راسك ، أنت مين وعاوز مني أيه !
ارتسمت شبح الابتسامة الخبيثة على وجه الرجل :
-ممدوح الشيمي ، حماك …..
••••••••••
~العزايزة .
بإعجوبة تحرر هلال من سطـو صفية أمه كي تدعـه يصلي الفجر ، حيث قضى ليلته ما بين محاولات رحيله وبين صوت صراخها المزيف .. غادر الغرفة وهو يضـ.ـر.ب كف على الأخر ويستغفر ربه متجهـًا صوب غرفـته التي فتح بابها برفق .. تسلل بهدوء حيث انجذب من قلبـه لمخدعهـا ، كانت الإضاءة الخفيفة تنعكس فوق ملامحها فيشرق وجهها كالبدر في ليلة تمامه كما وصفها من قبـل .. جثا على ركبتيه وهو يتأمل تفاصل وجهها الملائكي النائم وبعض الخصلات الخبيثة التي تسربت من حجابها لتغويـه عمدًا ودmدm :
-بسم الله ماشاء الله.. سبحان من صورك .
ظل طويلًا جيوب قلبه من تأملها بحريته عن قربت حتى امتدت يداه لكتفها مربتًا فوقه بخفة :
-رقيـة ، رقيـة .
نهضت كالملدوغة من مكانها صارخة باسم أمها ، فأشعل الإضاءة بسرعة وهو يمد لها كوب الماء :
-بسم الله على قلبك حتى يهدأ ، رقية اشربي ميه ..
تناول الكوب من يده بكفها المرتعش و ارتشفت رشفة خفيـفة وهي تتنفس بصوت مرتفع وتطالعه وتروي له رؤيتها :
-أمي ، صفاء كانت معاي في الحلم .. وأنت كنت واقف وراها وبتحاول تطمنها عليّ .. كان وشها منور وكيف البدر ، بس ملحقتش احـ.ـضـ.ـنها .
مسح على رأسها وهي يبشرها :
-هذا ملك الفجر جاء ليوقظك ..
ثم ربت على كفها بحنان :
-هروح أصلي في الچامع واستنيـني ، هرچع وأخدك تزوري خالتي صفاء .. ونقرألها قرآن .
هزت رأسه فارحة لعرضه ، تركها ودخل الحمام ليتوضأ ويستعد للصلاة وهي أيضًا فارقت فرشتها وعادت تشغيل سورة البقرة بالغُرفـة وهي تفتح النوافذ لتطالع السماء التي تسكن بها أمها وتراقبها عن بعد وعجز :
-أنت بعيدة قوي بس قلبي حاسس إنك سمعانـي .. حشـ.ـتـ.ـيني و  ؛ مـ.ـيـ.ـتى ربنا يأذن ونتلاقوا ياما .. اتمنت لي الشيخ هلال وأهي امنيتك اتحققت ، بس أنتِ اللي روحتي وسبتيني ..
تذكرت نصًا قديمًا قرأته في أحد الكُتب يصف خندق الألــم بداخلها مشبهًا :
” أنها كُتلة عالقة في الحلق‏ قد تسبب الإختناق ، و أحيانًا يسمّونها غصّه ‏أما عني ، فلست أعرف عنها الكثير‏لكنّي أتذكر بدايتها كانت كومة أحداث و أحاديث ‏لم أجد لصوتها منفذًا ، ولا مسمَع ‏فـ إبتلعتها بصمت ورضا ”
سمع صوت همهمـ.ـا.تها وهو يرتدي ثوب الصلاة فدنى منها ومسح على كتفها فارتعدت مفزوعـة من قربه وهي تأخذ نفسها بصوت مسموع :
-اسفة بس اتخضيت .. مش قصدي والله .
ابتسم بوجهها :
-لا عليكِ .. قومي اتوضي وأنا مش هتأخر عليكِ .
يلملم أشياءه بعجل ليلحق الصلاة التي أقامها شيخـه الكبير ثم التقي بهارون أخيه الذي لم ينم بعد وقضى ليلته مع الليل نفسه بنجومه وقمره ومطره ؛ وترافق الأخوة نحو المسجـد بعد ما أمر ليلة بأداء صلاة الفجر بغرفتـه التي لم يُقفل بابها طوال الليـل ..
مرت دقائق صلاة الفـجر التي يملأها الراحة والسكـون والآمال المرسلة التي تُطرق أبواب السمـاء .. كان هارون يصلي بجوار أخيه كتف بكتف كما اعتاد الاثنان منذ الصغـر .. فرغ الإمام من الصلاة وتوافدوا المصليين للخارج ؛ ترافق الأخوة معًا وفي اللحظة التي انحنى فيها هلال ليرتدي حذائه وانشغل هارون الآخر بترتيب ملابسـه ، باغت بكر الشيخ هلال بحجـر كبير فوق رأسه وبكل ما أوتى من انتقام صارخًا :
-أنت فاكرني هسيبك !!!
*****
كان يعامل قلبي على أنه نهرُ جارٌ ، يقدح منه كل اللحظات المؤنسـة المليئة بالبهجة ، ولحظات الحب النادر الذي لم تُعاش إلا معه ، ولحظات خــــوفي عليه كأنه طفلي الذي رُزقت بهِ من رحم المحبـة ، ولحظات من التيـه بمجرى الكلمـ.ـا.ت التي لم تُقال إلا لعينيهِ ، ثم يمضي بعد ما يمتلأ تمامًا بكُل طاقات الحُب التي يحتاجها المرء ليواصل العيش ، وعنـ.ـد.ما تُستنفذه الأيام يعود إلىّ ويستكمل خِطته من جديد حتى جف نهري وجفت مياهه ولم أعُد أنا كما اعتاد ولم يعُد حبه بقلبي كما اعتدته …
#نهال_مصطفى .
•••••••••••••
عاد هارون وهو يسند أخيه هلال الممسك بشجة رأسه التي سالت منها مجرى الدmاء على كتفيه ولُطخت عباءته البيضاء بلون الغدر بعد ما أمسك المصليون ” بكر” وذاع خبره بالبلدة ولقد نال من هارون ما يستحقه من الضـ.ـر.بات ثم تم ارساله لمجلس العزايـزة .. ركض الخفير خلف هارون وهو يذيع الخبر بفزع ويعدل حمل بندقيته :
-يا وقعة مربربة يا عمدة .. ايه اللي جرالك يا شيخ هلال ؟! وه مين وِلد المدعوك ديه ونروحوا نقطعوا خبره ؟
-صوتك يا چابر الله يرضى عنك …
حذره هارون بحدة من ارتفاع صوته وهو يأمره بأن يأخذ أخيه لأحد الغرف النائية عن البيت كي يتجنب ثرثرة أمه وأمره أن يهاتف طبيب ما بالوحدة بعجل .. فحبذا هلال الذي يضمد جـ.ـر.ح رأسه بالشال مقترحاً :
-لا حاجة لي بطبيب ورقية موجودة .. ستتولي أمري يا عمدة ..
زفر هارون بنفاذ صبر :
-بذمة أمك وديه وقته !! أنت في أيه ولا أيه !!
وشوش لأخيه بنبرة ما بين الضحك والألــم متعمدًا اثارة استفزازه :
-يدها ترياق عجزت عن وصفه الأطباء ..
غير هارون مسار سيره وهو يرمقه بنظرات تعُمها الشمـ.ـا.تة على ما حدث له وهو يقول :
-تصدق تستاهل اللي جرالك ! ولو مسكتش هكمل عليك بنفسي .
ضغط على جـ.ـر.ح رأسه متألــمًا بصوت تغلفه الضحكة :
-ولد الحـ.ـر.ام غفلني يا هارون .. بس أنت يسلم يدك عطيته اللي فيه النصيب .. كنت خلصت عليه وريحتنا .
فتح هارون الباب بهدوء :
-طب اكتم عشان صفية لو شمت خبر .. هتمسع خبرنا كله للعزايزة .. ديه زين أبوك مجاش معانا الفجر .
دلف الأخوة ببطء شـ.ـديد كي لا ينفضح أمرهم .. ومن حسن حظهم خروج صفية التي لم يسبقها أحد في الاستيقاظ مبكرًا وما سقطت عينيها على ملابس ابنها والدmاء التي تلطخه رفعت يديها الاثنين لتنوح كمن يصـ.ـر.خ بجنازة .. حاول هارون أن يسكتها ولكنه عجز عن أمرها :
-أما اسكتي.. أما الناس نايمين .. صفية خلصنا ..
أخذت تلطم على الخدود وهي واقفة بمكانها وتهذي :
-اخوك سايح في دmه !! يا مراري .. كان نايم جاري زي الفل جرالك ايه يا حبيبي ..مين عمل فيك إكده ؟
ترك هارون يد أخيه ليضع حدًا لأمه التي لم تكُف عن الثرثرة :
-خلاص يا صفية خلاص صوتك ياما أبوي نايم ..
تحذيراته لم تزدها إلا صياحًا :
-يالهوي مكنش يومك يا ولدي .. لساتك صغير على الغلب ديه .. دmك اتصفى يا حبيبي .
ثم اندفعت لعنده بعد ما أيقظت أهل البيت وتوافدوا من كل صوب وحدب بفزع على حالة هلال المروعة .. جاء الخفير ركضًا من الخارج ليخبر هارون بعجلة :
-هارون بيه ألحق الحكومة كبست على المجلس وخدوا ولد فياض معاهم .
تمتم باختناق :
-أهي كملت أهي .. صرخي ياما .
لحظة وقوع اسم بكر على مسامع صفية فتحولت لإمراة فقدت عقلها وهي تصرخ :
-قول إكده الحكاية طلعت من تحت راس السنيورة ! جلابة النصايب .. دي داخلة علينا وشايلة الخراب يا ولدي ..ايه اللي رماك الرمية دي بس ؟
وما أن ظهرت رقية أمامها التي جاءت من أعلى تركض بخــــوف على هيئة هلال المقلقة .. فأمسكت بها صفية دون احترام لاحد وهي تشـ.ـد شعرها من تحت الحجاب بنبرة صوتها المبحوحة:
-شايفة أهو كل ديه من تحت راسك .. شايفة ولد عمك عمل ايه في ولدي اللي محدش كان يسمع له حس !! ملاك ماشي على الأرض حد يستجرى ويمد يده عليه !
صرخة رقية دوت في أرجاء البيت مستغيثة فأيقظت أحلام التي هرولت للخارج ثم أتبعها خليفة .. تقدm هلال ليدافع عن زوجته فسبقته هاجر وهي تحاول تخلص رقية من تحت يد أمها وأتبعها صوت هلال الأجش وهو يشـ.ـد رقية لعنده :
-أما يدك لو اتمدت تاني على مرتي أنا هأخدها واسيب لك البيت وأمشي .. وأنت خابرة كلمتي واحدة .
هرولت أحلام مفزوعة :
-في أيه .. ؟!
ثم ضـ.ـر.بت على صدرها :
-يا حبيبي يا ولدي .. يقطع أمك ..
سحبت رقية زوجها بهدوء متجاهلة ثرثرة صفية وإهانتها والعبرات المتقطرة تسبق خُطاها وطلبت منه أن يجلس وهي تسنده وتباشر مهامها كطبيبة رغم دراستها بالصيدلة .. أحمر وجهها وهي تزحزح يده عن موطن الجـ.ـر.ح لتكشفه فصرخت أحلام قائلة :
-أرمحي هاتي بن يا بت نكبسوا بيه الجـ.ـر.ح!
صرخت صفية على رقية قائلة :
-شيلي يدك عن ولدي أنتو نسل ملعون خربتوا بيتنا وحياتنا .. متقربيش من ولدي عقولك أها ..
صرخ خليفة بصفية وهو يرتدي قبعة رأسه البيضاء :
-عظيم يمين تلاتة يا صفية لو لسانك ما حطتيه جواة خشمك لتكوني طــالـــق ..
ثم جلس بجوار ولده وهو يربت على كتفه ويناظر هارون متسائلا :
-حصل أيه يا ولدي ؟
هز هارون رأسه :
-بعدين يا أبوي .. نطمنوا على هلال بس ..
ثم قال :
-هروح اجيب صندوق الإسعافات من العربية ..
همت أحلام بملأ جـ.ـر.حه بالبن وهي تدعو على بكر من صميم قلبها ولم تتوقف صفية عن التمتمة وفرط الحركة التي تلبست بها إثر كتمها للكلام الذي يحرقها .. ساعدت رقية أحلام في تضميد جـ.ـر.حه بعد ما ملأته بالبُن ثم قالت له وأحساس الذنب يحرقها وهي تأخذ الصندوق من يد هارون معترضة على البن :
-فوق هطهرلك الجـ.ـر.ح وألفهولك زين ..مش هينفع يتساب كِده .
رفع رأسه الموجوعة وهو يطالعها بو.جـ.ـع يسكنه ولكن يبدو أن السعادة غمرته لاهتمامها به ليقول والبسمة لن تفارقه بنبرة خفيضة وبغمزة ساحرة من عينه :
-من اليوم أنا ملك لكِ .
لم تصل الجملة إلا لمسامع أحلام التي طالعت رقية التي لطخ وجهها بحمرة الخجل والذنب على ما حدث له بسببها .. وربتت على كتفه وهي تأمرها :
-رقية يابتي خدي جوزك وغيريله خلقاته دي هيبرُد مش ناقصين ..اللي فينا مكفينـا .
هبت صفية معارضة بجنون :
-تاخده فين ؟! محدش هيراعي ولدي غيري .. شيلي يدك يا بت ..عاوزني أمنها على ولدي كيف وهي اللي عاملة فيه كِده ؟
ضـ.ـر.ب هارون كف على الأخر مختنقًا من تلك الثرثرة التي تربى عليها ولن يعتادها حتى الآن فنظر لأبيه كي تولى مهمة الأمر وغادر قائلا :
-أنا هروح أنام ساعة قبل النهار ما يطلع وبعدين نشوفوا المصايب دي .
ثم وثب خليفة مستندًا على يد هيام ابـ.ـنته :
-نقومو نصلوا فرض ربنا .. وأنت يا يابتي خدي جوزك وراعيه وخلي بالك منيـه .
ثم نظر بحدة لصفية لا تقبل الاعتراض على أوامره :
-وانت روحي اعملي لنا لقمة نشق بيها ريقنا ..
مدت رقية كفها المرتعش لهلال كي يستند فـ لبى عرضها على الفور تقدmت هاجر لتعاونها فرفع كفه بوجهها رافضًا وهو يغمز لها :
-رقية ستتولى أمري ..
تبادلت نظرات الصديقتين فاعتذرت منها رقية بعينيها فتقبلت هاجر متفهمة وهي تصيح بخبث وتشيع ظهروهم المغادرة أمامها :
-لا سلامتك يا هٍلو .. شكل الجَرح چيه في وقته ..
ثم مالت على أحلام لتشكو لها منه :
-خدتي بالك يا أحلام من رقية ستتولى الأمر !! وهاجر كخة ! ولا الولاه صدق ما لقي !
لكزتها أحلام بخبث :
-بس يامقصوفة أنت وبعدين عيب تقولي على أخوكي الكبير ولاه ! اتربي هبابة .. وبعدين سيبيه يقرب منيها لعل اللي حصل خير .. البت كيف الوردة الدبلانة ياحبة عيني .
رمقته هاجر بخبث بعد ما وصل لنصف الدرج :
-وقعة واعرة دي يا شيخ هلال ..فينك يا أبو الهياثم ..فاتتك الطلعة دي .. كُنا هنتمقلدوا للصبح .
ثم وشوشت لأحلام :
-عمري ما اتخيلت أنها تطلع من شيخنا الكُبرة المحترم ديه يا أحلام ..
قرصتها أحلام في خدها برفق :
-ما تخليكي في حالك يا بت أنتٍ ..خشي شوفيلك مصلحة جار أمك تنفعك ..
تدللت هاجر :
-لا هروح أقعد على النت من إمبـ.ـارح ممسكتش محمولي ..
-أهو هو ديه اللي فالحة فيه .. ربنا يهديك يا بتي ..
~بغرفة هارون الخاصة ..
تذكر أمر “ليلة” التي تركها بمفردها قبل صلاة الفجر .. فغير مسار سيره وتحرك نحوها متبعًا بوصلة قلبـه .. لمست أقدامه أعتاب الغرفة ذات الباب الموارب فوجدها ملتفة بعباءته ونائمة على سجادة الصلاة بعد ما فرغت من أداء فرضها .. توقف للحظة وهو يطالع هذه القطة المنكمشة حول عباءته وشعرها يغطي نصف وجهها .. فجثا على ركبتيه وهو ينادي عليها بهدوء :
-يااستاذة !!
لم يجد منها أي رد ..ربت على كتفها المغطي بتردد :
-ليلة !! أيه نومك كِده بس ؟!
لاحظ تراقص جفونها وهي تهذي بالكلمـ.ـا.ت المبهمة .. ثم نهضت وهي تحت تأثير النوم .. أمسك بكفها وتراقص كفه الآخرى وراء رأسها خــــوفًا عليها من ارتطام رأسها بالأرض لأنها لم تكن بوعيها .. ظلت تحت مـ.ـخـ.ـد.ر الهذيان تعبث بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة ولكن ابتسامتها كانت أجمل ما في الموضوع .. ظل مستمعًا بمشاهدتها في هذه الهيئة البريئة كمن يشاهد لوحة فنية أبدع رسامها .. فرع حاجبيه مهتمًا لكلامها العبثي :
-حتى الختاريف وأنتِ نايمة .. وبعدين كملي حصل أيه !!
هزت كتفها وهي تتأرحج في كل الاتجاهات :
-مش عارفة !
حتى استقر بها الحال لترمي رأسها على صدره وتعود لنومها العميق من جديد ..
لأول مرة يلتفت لصدح قلبه إثر قربها منه لهذا الحد .. لأول مرة يستلذ بتأملها ولا يود التحرك حتى ولو فارقه العالم برُمته .. على شطيها تناسى نفسه و أمره وهلل صوت قلبه بتصرفات لا تليق بجمود عقله ..امتدت أنامله لتزيح بعض الخصلات عن وجهها ليتأملها بحرية أكثر .. تدللت أنامله فوق عينيها النائمة بشهوة إطالة النظر بجمالها الذي حرك سكون قلبه أنفاسه هادئه تمامًا عكس الضجيج الذي يحاوطه ، كان وجهها الدائري الذي تطفو عليه حُمرة جمالها كرمانة مبهجة تلمع بالظلام وكانت ملامحها أشبه بفصوص الرمان المرصوصة بإتقان حبة حبة ، كل حبة بمكانها المناسب ، تنهد وكأنه يود أن يفرطهم جميعًا بين راحة يده …
رسم على زاوية وجنتها قوسًا بسبابته وهو يذوب بسحرها الطاغي الذي طغى على أعراف هارون العزايزي بجبروته ؛ قربها حفزه أن يكـ.ـسر قواعد معدودة لأجل النظرة منها فقط فالمرء حين يرغب لا يعيقه أي شيء ..
فأول مرة يكتشف حقيقة أن المرأة يمكن أن تتحول لفراشـة عنـ.ـد.ما تقفل بوابات ثرثرتها وتضب جفون عينيها ..كانت ملامحها مغرية بالحب بوسعك أن تشاهد الحياة تركض في وجهها ..
همس بصوته المهزوز :
-ليلة !!
صوت ندائه مع صوت ضـ.ـر.بات قلبه المدوية في قلبها استردوا لهـا وعيهـا ، فتحت عيونها بثقـل وهي تبتعد عن حـ.ـضـ.ـنه معتذرة بإحراج :
-أنا !! أنا نمت هنا أزاي ..
ثم تطلعت بهِ وهي تنظر لعظام صدره التي كانت مسند رأسها بخجل :
-هو أيه اللي حصل !!
تبسم بوجهها وهو يتكئ على كفه بالأرض :
-كُنت مستني أعرف الموضوع المهم اللي بتحكيه وأنتِ نايمـة !! كنتِ عتحلمي بإيه ؟
تراجعت قليلًا لتبعد عنه بحرج :
-يا خبر !! أنا قولت أيه ؟!قولت حاجة ما ينفعش تتقال طيب ؟.
عقد حاجبيه ببرود لا يعكس دواخله :
-هو كلامك كُله ماينفعش يتقال سواء صاحية ولا نايمة ..
-يعني كلامي مش مفيد ؟!
أطال النظر بعينيها المتراقصة :
-عاوز واحد غاوي .
-وأنتَ غاوي ؟!
رفع حاجبه هاربًا من سـ.ـجـ.ـن سؤالها ليبادله بسؤال آخر :
-حواديت ؟!
بادلته بنفس النظرة المدججة بشرارة الحب بينهما :
-لا كلامي .
-ماهو كلامك كله حواديت ..
-بس متنكرش أنها بتعجبك ، أنا بحس بكده .
ثم ترقرت عينيها بالعبرات :
-طيب لما أمشي هتفقد حواديتي ؟!
رجل كقرموط السمك كل ما تظن أنك ملكته بسؤال يهرب منك بالآخر :
-حلوة عبايتي عليكِ !
ابتسامة خفيفة شقت ثغرها :
-بتدفي جـ.ـا.مد على فكرة .. بس بردو ماجاوبتش على سؤالي .
عقد حاجبيه هاربًا من كل اسئلتها ليقول :
-وأنتِ هتمشي كييف قبل ما تحضري خطوبتي ؟ مالكيش حق ..
تبدلت ملامح وجهها بجملة واحدة كانت كالشومة على رأسها خلقت منها شخصية جديدة ملأها شهور غريب أول مرة يزورها وكأن وادٍ من الفئران تناوبوا على قلبها .. نهضت بعجـل وهي تقول لتهرب من الحقيقة التي يرفضها قلبها :
-عندي فرح واحدة صحبتي السبت ؛ ولازم أكون في اسكندرية الخميس بالكتير .. وو
فمن فرط ما تشعر به اختل اتزانها فكانت ستسقط لولا أنه لحقها وهو يحتضن مُعصميها بعيني مسلوبة العقل لسيطرة جيوش الغرام عليها ليقول ضاحكًا :
-بردو ؟!
-سوري .
تعرقلت بأهداب نظراته التي ترجمها القلب وحده فخلق شعورًا عجيبًا يحتاج لطبيب أن يكتب له وصفة علاجيـة قبل أن ينتشر به المرض .. تقف أمامه كقطة بريئة خُلقت من ضلع فهد قوي مثله ، النظر إليه يشحنها بطاقات عجيبة ، والنظر إليها يملأه بهِا لتعود لمكانها بقلبه بدون شكٍ .. سبحت بعينيه قائلة :
-هسيبك تنام ..
تخدر بشعوره الغامض الذي يجذبه إليها للحد الذي تناسى فيه إمساكه لمعصميها وقال وهو يراقص تفاحة آدm بقصبته الهوائية :
-مش چايلي نوم ، تيِچي تصوري حلقتك الباقية خلينا نخلصو ..
تحمست للفكرة بشغفٍ :
-بجد !! موافقة طبعًا .. وبعدين ايه نخلصوا دي ؟! أنت مجبور عليا ؟!
فعاد ليرمي جمرًا من شِدقه :
-أصل أنا عريس ومش هكون فاضي اليومين الچايين .
ردت بضيق وهي تتحاشى النظر إليه باستخفاف:
-ااه عريس ؛ مبروك .
لا يعلم أيذكر نفسه أم يذكرها بخبر خطوبته ، بإنها إمرأة المستحيل بالنسبة له ، لِمَ تعمد أن يُكرر جملة كهذه أكثر من مرة على مسامعها ، هل أراد أن يضع الحواجز بينهم أم يذكر نفسه بوجودها في الأصل .
•••••••••
~بغُرفة هلال .
أخرجت “رُقية” ملابس جديدة من الخزانـة ووضعتهم على طرف السرير ولسانها لم يكُف عن سيل الاعتذارات .. فعادت له بهيتئتها الخائفة :
-الچو سقعة ، قوم غير لبسك وأنا هنزل تحت ااا
قاطعها متأوهًا بتمثيـل :
-لا يجوز ، ومن يساعدني !!
ثم رفع عينيـه متخابثًا :
-كُل شيء يـ.ـؤ.لم ..
تفاقمت الحيرة فوق ملامحها :
-طب خد دش الأول ، مش هينفع تغيـر على كِده .
أيدها برحبٍ :
-ديه الكلام !!! لكن فيه مُشكلة ..
اتسعت عينيها :
-خير يارب ؟!
وثب قائمًا برأسه المضمدة ليقول :
-احتاج لطشت وكوز وشخص يُصب عليّ الماء بحذر بعيدًا عن رأسي ..
عيناه كانتا كأنهما نجمتان يتلألأن بسماء تفصح عن رغبه في اغتساله بمساعدتها ، هـ.ـر.بت من سطو اقتراحاته بذعر أرنبٍ :
-طب ؛ طب أناديلك هارون ولا عمتي صفيـة ولا …
-لِمَ وأنتِ هنا ! قصدي .. أنك ستتولي الأمر .
جف حلقها من مجرد تخيل الفكرة وهي تقف أمامه كطير مبلول من شـ.ـدة انتفاضـة جسدها .. اخذت تعتصر حلقهـا كي يقطر ماءه ولكنها فشلت ، فهزت رأسها يمينًا ويسارًا :
-يا مري !! كيف يا شيخ هلال !
حك لحيته بتردد :
-طالما قولتي شيخ هلال يبقى ماينفعش !!
تعلقت بحبال الكلمة :
-الله يفتح عليك !
سايرها متبعًا :
-وعليكِ إن شاء الله..بس متفقناش !! أنا مين سيتولى أمري .
هبت مقترحة :
-هيثم !!
-خسئتِ !!
-ايه ؟!
عاد للهجته الصعيدية الحادة :
-ايه مين ، عاوز اغتسل يا رقية وعقولك ساعديني ، تچيبيلي هيثم !! واللي مشتراش يچي يتفرج ..
بررت هاربة :
-منا مش عارفة أعمل أيه ، وأنت مـ.ـو.ترني ومتبصليش كِده يا هلال .. انسى ، أنا هروح أشيع لخالتي صفية ..
زفرت بامتعاض وهو يحرك ضميرها :
-تمهلي .. سأدبر الأمر بنفسي وأي عواقب وخيمة أنتِ المسؤولة .. لقد طلبت مساعدتك وأنتِ رفضتي ..
بعد مفارضات وترددات وصرخات وأعين منغلقة وضمير يقظ وثعلب مكار تعلم كيف يراوغ ؛ انتهى به الحال جالسًا ببنطاله الفضفاض يتوسط الإناءة المعدني ويعلوه سترته صعيدية بدون أكمام تحت صدح هواجسها وكل شيء تمسك به يتساقط من يدها .. بللت منشفة صغيرة واعتصرتها جيدًا وأخذت تمسح حول موطن الدmاء بحرص كي لا تقترب منه الماء دون لمسه بشتى الطرق وعينيها المغلقة طوال الوقت وهمهمـ.ـا.ته المدفونة ؛ عكسه تمامًا لقد وجد ملاذه بقربها وقرب تـ.ـو.ترها الذي يعقد خيمته فوق رؤوسهم ..
سقطت المنشفة من يدها المرتجفة وهي تعتصرها وتطلب منه :
-شيخ هلال متتحركش ..
رد غـــضــــبانًا من تلقبه بشيخ ؛ فـ رد متحسرًا :
-أمرك يا أخت رقية .
نظفت حول الجـ.ـر.ح ببراعـة ثم شرعت بسكب الماء الساخن فوق ملابسـه وهي تحدث ضجيجًا لا يوصف .. حتى فاض صبره :
-رقية الاغتسال ديه مش صحيح ..
-اومال أيه ؟!
-أين المشكلة في نزع السترة!
-ديه مش اتفاقنـا ، ولو هتقلعها هطلع برة ؟
قفل عين وفتح الآخرى :
-هل هي تُعصمك من الفتنة !! ولكن أي فتنـة يافتاة !! يعلم الناس أنني زوجك والفتنـة بيننا مطلوبـة شرعًا .
لقد كان يعتصر خــــوفها بمزاحه عصرًا حتى فاض بها الأمر ، فألقت الإناء الذي تسكب به الماء في يده وحسمت أمرها وهي تقول مقلدة طريقته :
-حسنًا ، لقد انتهت مهمتي .. دبر أمرك بنفسك يا شيخ .
ثم تركته وهـ.ـر.بت من آسر تلميحاته الخبيثـة وقفلت باب الحمام خلفهـا وهي ترتعد لتقول لنفسها باستنكار :
-قال شيخ قال !!
تكدس الضحك فوق أساريره وهو يتخلص من ملابسه ليتمم غسله بنفسه ويقول متسائلًا بصوت عالٍ وهو يدس الضحك :
-رقية ؛ هل غـــضــــبتي مني !
صرخت له بضيق وهي تندس تحت لحافها :
-سيب رقية في حالها ..
~بالغرفة الأخرى
قرأت هاجر رسالة شريف مراراً وتكرارًا حتى حسمت أمرها معـه ووضعته على قائمـة الحظر وهي تتنفس بضيق :
-ايه اللزقة دي بس !! حلال فيك البلوك .
•••••••••••
~ظهرًا
~مرسى علـم .
-اللي أوله شرط أخره نور ..
غرس هاشم فوهة سلاحه ببطنه وهو يقول بشكٍ :
-أنا حمايا مـ.ـيـ.ـت ، أنت مين وإلا ..
-أهدى أهدى يا حضرة الظابط ، داحنا أهل ..
أردف ممدوح جملته الأخيرة وهو يمعن النظر بعيني هاشـم ؛ فأكمل :
-عايزك تكون عيني اللي بشوف بيها داخل الجيش .. وتبقى حبيبي وابني اللي مخلفتهوش .. طبعًا رغد غالية عندك وعشانها تعمل كل حاجة ؛ يرضيك حماك وجد عيالك يتحبس !!
فقاق هاشم من شروده وهو يضـ.ـر.ب على مقود السيارة بذعر فاق وصفه بالكلمـ.ـا.ت ، حمرة الغـــضــــب تكاد تنفجـر من وجهه .. صف سيارته الواقفـة أمام بيته الذي تقيم به رغد ، وهرول نحو الباب الذي فتحه بدون طرقـه على عكس عادته ، ركل الباب بقدmـه بعنف وهو يصيح مناديًا :
-رغد !! رغـد ..
جاءت من أعلى متعجبـة وفارحة في نفس الوقت لمجيئه ، قطعت خطوات السُلم ركضًا وهي تُكذب أعينها لترتمى بين ذراعيه هاتفه :
-أنا آكيـد مش بحلم !! ولا وحشتك ومش قادر على بعدي ؟ايه المفاجأة الجـ.ـا.مدة دي يا هشوم !
لم يتكفل حتى بتحرك كفيـه ليربت على ظهرها بل ظلت يديه منصوبة على جانبيه تقبض عاى جمر الغـــضــــب .. لأول مرة تشعر فيهـا ببرودة حـ.ـضـ.ـنه فتراجعت وهي تحدث عينيـه بقلق:
-حبيبي ؛ أنتَ كويس .. فيك حاجـة يا هاشـم ؟
ثم جلى حلقها بـ.ـارتباك لتقول وهي تتأهب بالذهاب:
-هجيب لك ميــه ولا عصير ، استنى .
تكورت يديـه على معصمها ليديرها أمامه رافضًا رحيلها والغـــضــــب يشارك أنفاسه ، ألقت نظرة على قبضته التي تعتصـر ذراعها وقالت بحـ.ـز.ن يملأ عينيها :
-هاشم بتو.جـ.ـعني !! أنت مالك ؟
-ممدوح الشيمي بيسلم عليكِ !!
علقت الغصة بحلقها غير مصدقة ما قاله :
-أيه !!
-ما قولتيش ليـه ممدوح الشيمي عايش يا رغد !
ارتدى ثوبه الحربي الذي لا ينساق وراء عواطف أو مشاعر تشتته عن غايته ومصلحته القيادية ، لم يشفق على دmـ.ـو.عها المترقرقة وملامحها الباهتـة وهو يرجها بدون رحمة ليكرر سؤاله بعيون مُلتهبة بحُمرة الخزى :
-قولتي أبوكي مـ.ـا.ت ليـه !! هاه !!
نهر متدفق من العبرات شق وديان خدها حتى باتت صورته أمامها مشوشـة ، مهما طال عمر الكذب فهو قصير وسيحل الوقت الذي يكشفه عاجلًا أم آجلًا .. تمتمت شفتيها المرتعشة بذهول :
-أنتَ عرفت !! هـ..
انفجر بوجهها معاتبًا :
-هتكدبي تاني ! أنتِ مزهقتيش !! طبعًا معندكيش رد عارفة ليه ! عشان أبوكي وعيلتك من أكبر مرهبين السلاح في سينـا ومطلوب مني اصطادهم فار فار ، عيلة الفهلوة والبلطجة .. هاه اتكلمي هي دي خطة أبوكي !! عاوزين تزرعوني عيون ليـكم وأنت تساعديه .. تبقى مت عـ.ـر.فيش هاشم يا رغد ..
ثم دفعهـا بقوة على الأريكة وأكمل صياحه المتقاذف فوق مسامع هذه المسكينة :
– هاشم اللي داس على عيلته كلها واتجوزك ولسه كان هيعمل أكتر عشان وانت طلعتي بتلعبي عليـه !! وخداني لعبة ؟! ويا ترى بتكسبي حلو من الشغلانة !
صرخت بوجهه باكيـة :
-هاشم خلاص بقا كفاية كفاية حـ.ـر.ام عليـك كفاية إهانة وتجريح ، أنا ماليش ذنب في كل ده والله .. بابا وماما منفصلين من عشر سنين لما عرفت حقيقتهم ..وانا من وقتها اعتبرته مـ.ـيـ.ـت ويعلم ربنا والله والله ما بكلمه ولا أعرف عنه حاجة ..
ثم نصبت قامتها لتقف بوجهه متكئة علي عكاز الهزيمة:
-تفتكر كام مرة رفضت ارتباطنا ! كام مرة حاولت ابعدك عني واقفل السكك ما بينا !! كام مرة حاولت اتخلص من لقب ممدوح الشيمي وأعيش !! أنا واحدة اتيتمت وأبوها لسه عايش .. وأنت ، أنت جاي تظلمني زي ما هو ظلمني حتى من قبل ما تسمعني.
زأر بوجهها بصوت رُجت الجدران لقوّته والحـ.ـز.ن يغلي بقلبه :
-كفاية تمثيل ، كفاية مبقاش ياكل معايا ، طلعت أنا اللي غلطان في الآخر !! طب قوليلي وانا اللي اقرر اخاطر بشغلي ولا بيكي !! لكن متستغلفنيش يا رغد ، وكُنتي عاوزاني اخلف عشان تبقي كتفتيني أيدين ورجلين ..
ثم رمقها باسهم الخسة :
-يا خسارة يا رغد .. ياخسارة
ثم طاف العتاب والعشم بينهما للحظة فأتبع مؤسفًا :
-خلصت ، ورقتك هتوصلك وانسي أنك عرفتي حد اسمه هاشم العزايزي ، أنتِ فاهمـة !! مش عاوز أشوف وشك تاني !
ثم طاحت يده بالفازة الكبيرة الموجودة بالأرض بغل يتفجر من جوفه وهو يتجاهل صوت ندائها وصوت الزجاج المتهشم الذي لا يختلف عن صوت قلبـه حتى جر ذيول حبه المظلم من هذا البيت الذي شهد على أعظم قصة حُب بينهما وغادر دون أن يلتفت لتلك التي غلبها القهر وسقطت مغشيًا عليها غير مصدقة ما تعرضت له وحكمه على قلبها بالإعدام بدون رحمة .
استقل هاشم سيارته وفر من البيت وهو بحالة قائد في قلب المعركة يتشاجر حتى مع نسمة الهواء التي تتغللـه.. جاءه اتصال هارون في هذه الأثناء عائدًا من عند الجواهري ؛ فـ رد عليه بملل محاولًا دفن حـ.ـز.نه عن أخيه :
-خير يا عمدة ..؟
-خير يا سيادة الرائد ؛ قولت أكلمك قبـل ما أعاود البيت ، أبوك إمبـ.ـارح چابلي سيرة چوازتك من نغم .. وأنت قولتله يسيبك على راحت لغـاية ..
قاطعه هاشم بنبرته الصارمة بعد ما أحس بقيمة أعرافهم التي تخشى دmاء الغرباء وهو يحمل وصمة العار وتمرده بقلبـه :
-متأجلوش حاچة يا هارون ، خليـه يتمم الچوازة وهنزل الأجازة الجاية اكتب عليها …
صُدm هارون من قرار أخيه :
-وأيه اللي غير رأيك !!
•••••••••••
~بقصـر العزايزة .
-العُمدة جـيه وصالحني إمبـ.ـارح ، وصورت الحلقة الجديدة يا أحلام ، هابقى أوريهالك بس لما أجيب الكاميـرا ..
قالت جُملتها بفـرحة عارمـة تنتطق بحروف اسمه من فوق ملامحهـا .. ثم ارتشفت رشفـة خفيفة من فنجان قهوتـها وقالت بأسفٍ :
-أحلام أنتِ زعلانة ليـه !! متعودة عليـكِ بتضحكي وتهزري ، في حاجة مضايقاكي مني ..
مسحت أحلام بكفها الأبيض على رأسها وقالت :
-اتعودت عليكِ يا ليلة ومش عاوزاكي تهمليني وتعاودي ..وأنت مُصرة ترچعي .
أغــــرورقت عيني ليلة بالعبرات فتلك أول مرة منذ رحيل أبيها تشعر بتأثر في قلب أحد .. تركت القهوة من يـدها وارتمت في حـ.ـضـ.ـنها مدmعة العينين:
-متقوليش كده يا أحلام ، والله هابقى أجيلك كتير .. بس أنا قاعدة هنا ليا أسبوعين .. كتير أوي بجد ؛ أنا حياتي في اسكندريـة .
ضمتها أحلام لقلبـها وهي تقول بحنو :
-ولو هتقعدي العُمر كله ، على قلبي زي العسـل يا ليلة يابتي .
-ت عـ.ـر.في إني بحبـك أوي وشايفة فيكِ حنينة كأنك مامي والله .
ما كادت أن تردف ليلة جُملتها الأخيرة فدخلت فردوس من البـاب لتشاهد الدmـ.ـو.ع والحُزن يعقد سحابته بالمكـان ، دخلت وقفلت الباب ورائها مستنكرة :
-ليه البكا والحِزن دهوت ، دي حتى الدmـ.ـو.ع تچيب الفقـر .
ثم ميلت لتُلملـم الأطباق والفناجين فنظرت لليـلة بفضول :
-ديه فنچانك يا ستِ ليلة !! ما تيچي أشوف لك بختـك .
حملقت بها أحلام معاتبة :
-أنتِ معتحرميش ! مش هتهمدي غير لما هلال يطردك من البيت .. تحرم فنچان معدي لازم تقراه ..
قلبت فردوس الفنجان وجلست بالأرض مربعة ساقيها وهي تقول :
-أدينا عنتسلوا يا حجة أحلام ، استري عليّ بس وهو مش هيعرف .
-طب هتروحي من ربنا فين يا ناصحـة !
-متحبكيهاش عاد يا حچة أحلام وخليكي زي ست صفية كل يوم تخليني أقرهولها ..
-يكش هلال يقفشكم ويطين عيشتكم يابعيدة أنتِ والمدبوبـة صفيـة .
تبسمت ليلة بشغف وهي تستند برأسها على صدر أحلام لتقول بفضول:
-خليها تشوف ونهزر شوية يا طنت ..
أرسلت لها فردوس قبلة بالهواء :
-عليّ النعمة أنت سكر مكرر ..
ثم أخذت فردوس فنچان ليـلة بعد ما توسلت أحلام بألا تقوم بإخبـ.ـار الشيخ هلال ؛ ودورته أمام عينيـها وهي تقول بأسف لا يُطمئن :
-الفنچان مقسوم نصـين .. نص كله فرح ونص كله حِزن وهموم ..
ثم امتدت عينيـها لقاع الفنجان وأكملت :
-في لت وعچن كتير من ورا ضهرك وكلهم حبايبك بس مش عيتمنولك الخير ، شايفـة كل دي عقارب ، والعقارب هما القرايب يا بتي .. حرصي منيهم.
فلفت الفنـجان لفة بطيئة مع اتجاه عقارب الساعة وأكملت :
-فيه طريقين مفتوحين لك ، طريق سالك وطريق واعر قوي هتتعبي فيه بس أخرته فرج كبير..
ثم أكملت لف الفنجـان لترسو على يده التي تمسكه بها :
-عندك تغيـر كبير في حياتك وتوهان ، الماضي بيسلم دفاتره ومفيش يوم من الماضي راچع ولا هتعيشيه ، أنتِ داخلة على حياة جديدة بس واعرة .
ثم زحزحت الفنجان بدقة وأتبعت :
-وفي نهايـة النص ديه من الفنجان فيه في حياتك واحدة واقفـة في طريقك عتحاول تمنعـك وتعرقلك وعتقلب الدِنيا عليـكِ ، بس مش هتقـدر .. لأن بصي …
ثم وجهت الفنجان إليهم وقالت :
-شوفي يا حچة أحلام ؛ في سيـف واقف في ضهر الست دي وهو اللي هيحميهـا ..
نظرت ليلة وأحلام كل منهمـا لبعض بتوجس فأكملت ليـلة بفضول :
-كملي ..
دخلت فردوس على النصف الحلو من الفنجـان :
-طالعالك عصفورة ، وجاية تبلغك أنك هتحققي حلم قريب ..
ابتسم وجه ليلة بفرحِ :
-واو ! بجد يعني هابقى مذيعة، أصل هو ده حلمـي .
ربتت أحلام على كتفها فأتبعت فردوس:
-وظاهرلك طاووس ديله طويل .. والطاووس عريس يا ست ليـلة ، عريس مفيش حد زيـه ، وتصدقي ده طالع أهو ، طول بعرض راجـ.ـل ولا كُل الرجـ.ـا.لة
ضحك وجه أحلام وهي تدmدm :
-عارفاه ، هو بعينه اللي عليه القصد والنية..
فواصلت فردوس حديثها :
-واقف على البـاب بس في حاچة مانعاه يدخل بـس فـ
قطع جُملتها الطاووس المُعلن والمقصود بدخوله المفاجئ فـأخفت فردوس الفنجان وراء ظهرها وهو يتشاجر من خطاوي الأرض ليشكو لأحلام من زينة وعمتها بعد ما فاض بئر صبره :
-يرضيكي الهرج ديه يا أحلام !!
-وه وه !! مالك نافش ريشك كيف الطاووس إكده !! مين مكدرك يا حبيبي !!
تدخلت ليلة بعد ما أرسلت له بسمة سريعة :
-يعني ايه مكدر يا أحلام !
أشارت نحوه بسبابتهـا :
-يعني معكر وشه بالهم والغم ..
ثم نظرت له :
-تعالى يا حبيبي تعالى في حـ.ـضـ.ـن أحلام .
انضم له هيثم عند رؤيتـه للباب مواربًا :
-متچمعين عند النبي .
-أخوك من صبحية ربنا ما شوفتش وشه يا هارون ، وكأني نومته جار بت صفاء حليت له ..
فلحقت بهِ صفية وهي تدس أنفها في مجلسـهم :
-متزرز ليه أنتَ كمان ..
جلس بجوارها وهو يكمل شكواه :
-يعني أيه شبكة ٤٥٠ چرام يا أحلام ؟!!!
ثم نظر لأمه :
-هو مال سايب عنخفوه !!
تدخل هيثم معترضًا وهو يلتهم ثمرة الفاكهة وهو يعاكس ليلة متعمدًا استفزاز أخيه :
-يعني أيه زينـة يچيلها ٤٥٠ جرام ! أومال الشهد اللي قاعد حِدى أحلام دي نچيبولها أيه !!
دخلت صفية مدافعـة عن بـ.ـنت أخيها :
-وأيه يعني وأنتَ أي حد دانت كبير العزايزة !! ولا بت أخوي أي واحدة ، دي تستاهل تُقلها دهب .
تدخل هيثم ساخرًا :
-عليا النعمة من نعمة ربي زينة دي لو فكفكناها واتباعت قطاعي ما هتچيب ربع التمن ديه ياصفية !!
انفجرت أحلام في الضحك على جملة هيثم الأخيرة وهي تقول:
-يحظك يا هيثم، بصراحة الواد مغلطش .. چيبتي أيه بكل الدهب ديه يا صفية ، منا عارفاكي مخوتة دهب وآكيد بت أخوكي طالعة لك .
ترنحت صفية لوصف الشبكة :
-دول كلهم ٨ غوايش في يدها واليد التانية تمساح عچبها ومعاه كَفة يد .. وفرعين في رقبتها وسلسلة قرص شمس ، البت عچبتها وخلخال يملي رجلها ويجي ٥ خواتم لأجل الحسد ..
تدخل هيثم معترضًا وهو يرمى نفسه جالسًا بين ليلة وأحلام :
-دي مخطوبة لهارون العزايزي ياما مش أبو طلال السعودي ..-ثم نظر لأخيه- يا هارون يا هارون اسمع مني دولت داخلين على طمع يا وِلد أبوي وصفية مقوياهم .
تأفف هارون ممتعضًا :
-شوفي لك صِرفة يا أحلام ..
-أحلام مش لادة عليها الچوازة من ساسها لراسها .
تدخلت ليلة مبتلعـة غصـة قلبها المجهولة وهي توجه حديثها لـ هارون :
-على فكرة أنت لازم تكون كريم مع خطيبتك و
قاطعها هيثم وهو يقشر الموز ليقول ساخرًا :
-عقولك زينـة .. بالك لو واحدة تستاهل زيك نتاقلولها بالألــماظ ..
حدجه هارون بحدة مدافعًا عن خطيبته أم يشتعل غيرة على ليلة !! وهو يقول :
-احترم روحك يا هيثم ..
وشوشت له ليلة بتحذير :
-بس يا هيثـم ، دي بردو خطيبته .
زفر هارون باختناق وهو يرمقه يغـــضــــب ، فأعقب هيثم قائلًا لأحلام وهو يغمز لها :
-ما تچوزيني ليـلة يا أحلام !! عشان انا لو لفيت الدنيا كُلها مش هلاقي زيها !
احتج بأصفاد الأعراف التي التفت حول عنقه ولا يعلم حقيقة كونها الغيرة ، كور يده مغلولًا وهو يبرق لأخيه بتوعد ، فتدخلت ليلة معترضة :
-طيب وجميلة يا هيثم !! أنت نسيت !
أجابها من خلف فكيها المنطبقين وقال:
-اشش متفضحيناش ..
أمتدت أنظاره بفضول محاولًا قراءة لغة شفتيه ولكنه فشل ، فتدخلت أحلام بخبث وهو تطالع هارون :
-بس يا هيثم ، عريس ليـلة عندي ومش هتتچوز غيـره ..
هبت ليلة ملهوفة بفضول :
-بجد يا أحلام مين هاه مين قولي !! عشان ناخد رأي حضرة العمدة ..
انكمشت ملامح وجهه بضيق:
-وأنا مالي ، وهو أنا اللي هتچوزه !
تدخل هيثم :
-وأنا روحت فين ؟! من ساعة مـ.ـا.تصالحتوا وانتِ مطنشاني خالص ..
عضت ليلة على شفتها مغلولة من ثقل دmه :
-استنى أنت يا هيثم عشان شكلنا هنرجع نتخانق تاني !!
ثم نظرت لهارون :
-يعني أيه مش هتسأل على العريس وتعرف أصله من فصله قبل ما اتجوزه !
رد بجمود :
-مش عاجبك وعاجب أحلام ، كفايـة .. هتعملوا برأيي أنا أيه !
هبت بوجهه :
-على فكرة أنت مش صاحب جدع ..
تدخل هيثم معارضًا :
-أأه أأه واعرة دي يا عمدة ..
هارون بضيق:
-طب يا ستي تُشكري ..
ليلة بملل :
-العفو ….
فتأرجحت عيني أحلام بين هارون وليلة وكأن الفكرة راقت لها :
-طاووس وعصفورة .. يا حلاوة .
جاءت أحدى الفتيات العاملات بالبيت لتخبرهم:
-هارون بيه ، داكتور عمار چاي يكشف على ست ليلة …
••••••••••••
~ بعد مرور يومين ..~
أن يعـود الإنسان وحيدًا لغُرفتـه .. لا يسمع إلا صوت دقات قلبـه الضائعة في الضجيـج .. ينفـرد بنفسه وفي أذنيه صوتٌ يهمس له دائمًا ” استمع لي ولو لمرة واحدة بالعُمر ، صادقني وصدقني هذه المرة فقط ”
لقـد قرأتُ مرة عن ضعف الإنسان أمام قلبـه؛ ولكنني لم أعرف يوماً عن خيبة الإنسان من نفسه كالآن .._ليلمس قلبه مُكملًا_كما يحـدث هُنـا بالضبط .
لألف مرة قلت أن العيون ليست مرآة الروح ، حقيقة المرء بالعشرة ؛ وها أنت الآن تقف وحيدًا بين أربعة جدران وبين كفيك تحمل قمرين ؛ عينين غلبك طيفهمـا وبات ملازمًا لك أينمـا ذهبت ..
فقرة الهروب من الذات التي فعلتها وأنت تبتسم ربما كانت خيبة ، ربما إستغاثة وربما كانت محاولة لتشتت الحـ.ـز.ن عنـك !
ربما كانت محاولة لقتـل النفس التي تسكنك وتحويلها لروبوت متحرك .. وفي كل الأحوال كانت محاولات فاشـلة ويبدو أن القلب شن حملة على هذا العقـل المتمرد عليـه .. يا ترى من منـا سيُهزم في هذه المعركة !!
كان يتأمل صورته بمرآة الحمـام بعد ما فرغ من حلق لحيتـه القصيـرة مكتفيًا بترك شاربـه الأسود .. كان يتحرك خلال اليوم ، بل خلال العمر كجهاز متحرك متجاهلًا كونه انسان خُلق من كتلة متوهجة من المشاعر التي تُحركه .. قفل جفوفه ليرتاح قليـلًا من صوت قلـبه الثائر عليـه ، فحـل بآذانه صوتها وهي تقول له ببراءتها المعهـودة :
–أنا بطلت أحب حاجة يا هارون عشان بتروح مني أول ما ابتدي أحبها ..
هذه الجُملة التي تعلقت بقلبـه كزينـة العيد ، لِمَ لم يتخلص منها حتى هذه اللحظة ، لِمَ لم يكُف عن لحظات طيشه وبحثه عنها كمراهق لا يليق برجل يافع مثله ، لِمَ لم يتوقف عن التفكيـر بها وهو سيُلبس خاتم زواجه بيد فتاة آخرى !! منّ متى ألتفت هذا القلب الصخري لكُل هذه الأحاسيـس..
علق المنشفة التي بيده على مقبض الباب وخرج بملل وشرع في ارتداء زي خُطوبته وطيف وجودها يُلاحقـه هنا وهناك .. أخذ يغطي في تفاصيل صدره العاري حتى ختمه بلبس جلبـابه الأبيض ، ثم أمسك بعباءته الصعيدية ورماها على كتفيـه ، عاد للمرآة مرة آخرى ونثر القليل من العطر بملل وكسل رهيب، ثم تحرك نحو الخزانة وأخرج منها خاتم فضي ذو قبـة سوداء وما لفت انتباهه وجود دبلة ليلة بداخله ؛ سقطت الدبلة بكفه وأخذ يتذكر تفاصيل لقائهم الأول ليقول بتعب يشغل صدره :
-طلعتيلي منين بس يا بت الناس !! وايه طيفك مش مفارقني !! راسي مزحومة بيكِ !
ثم وخزه صدره بعتب ليوقف تلك الفوضى التي سيقوم بها ويطبع خاتم ملكيته بيد فتاة لا ينجذب لها كما فعلت ليلتـه الطريفـة .. ترك دبلتها بمكانها وهو لا يعلم سبب احتفاظه بها حتى الآن وقفل خزانته ونفض غبـ.ـار عبث قلبه من عليه ليطـ.ـلق حمحمة قوية ويذكر نفسه :
-فوق يا هارون وحياة أبوك … من مـ.ـيـ.ـتى عتسمع لصوت قلبك ما أنت دفنته من زمان .
كيف يمكن إقناع شخص بالحب اعتاد أن يقطع الشوارع بلا هدف محدد، وكأنه يحمل في داخله جبلًا من الحيرة والتـ.ـو.تر للحد الذي يشغله عن أهوائه ، شخص عيناه تتجول بلا هدوء كموج البحر ، تسحبه في كل الاتجاهات كأنه يفتش عن إجابات لأسئلة لم يستطع حتى تصوّرها ، يفتش عن نفسه بين الزحام ولا يجدها . شخص خطواته مثقلة بالهموم كأنه يحمل جبلًا منها على كتفيه، يسحبه إلى الأسفل فأسفل . كل جزء من جسده يشعر بالتعب والإرهاق لمحاولاته الدائمة في قتـل هذا القلب ؛ وعنـ.ـد.ما لامس شعاع الحُب قلبه زادت حدة اضطرابه وشعوره بالتشتت والحيرة . كان يشعر بأن هناك لص يترقبه ليسـ.ـر.قه من الحياة للأبواب المجهول ، وازدادت الأصوات في رأسه، تتراقص في ذهنه بلا هدوء .. فقرر أن يتخلص من كل هذا الخــــوف الذي سكنه على سهوة بالانسياق وراء المتاح ودفن الخيال الذي يجمعه بإمراة جذابة مثلها بمقبرة القلب الكئيبة …حسم أمره وطوى صُحف قلبه وهو يغادر غرفتـه متجهًا نحو خُطبتـه القائمة بالوقت الحالي ليعقد نيته الأبدية على زينة وهو يقول :
-ازحم قلبك بكيفك قبل ما يزحمك هو بكيفه .
••••••••••
ثمة شعور مُلغز يغلفـه شريط من التساؤلات التي تفتقر الجواب في قلب تائه لا يفسر حملة المشاعر التي غزته على حين غُرة ، ثمة شيء مبهم بمذاق الحلوى وبمرارة الصبـ.ـار عالق بمنتصف الروح ، لا يمكن أن يشرحه بمنطوق ولا يُخلصك منه بكاء الليالي حتى ولو بكيت دmًا ..
#نهال_مصطفى .
•••••••••••
عنوان الفصل :
(بين تنهيـدة وآخرى تسلل لص الحُب) 🍂
عنـ.ـد.مـا يغدو للقلب عزيـزًا ف‏ما أسرع أن تستولى اعلى قلـب المرء المخاوف .. وتتقلص مسافـة الأمان ببراح الأرض لتستقر كلها بين يديه ، تستغرق عمرك كُلّه تحت مظلة أمنهُ ، وتفزعك لحظة شـك واحدة وتقــ,تــلك كلمة وداع ..
تقدmت “سامية” حاملـة مائدة من الطعام الصحى لغُرفة ابـ.ـنتها التي باتت سجينة بين جدرانها تحت رعاية سجان الحُزن الذي جلد روحها بدون رحمة وهي تقول بشفقـة :
-رغد طيب لو مش خايفة على نفسك خافي على اللي في بطنك يا حبيبتي ، بتعملي في نفسك كل ده ليـه بس ..
ثم جلست على طرف السرير وهي تترجاها :
-طب كُلى لقمة واحدة تغذى حتة اللحمة الحمرة اللي في بطنك دي ، هو ملهوش ذنب .. أنتي شايلة روح تانية يا حبيبتي .
رفعت جفونها المبللة من مطر الدmع وهي تقول بحرقة :
-هاشـم خلاص مشي وسابني يا مامي ، طيب هو دخل حياتي ليه وعلقنـي بيـه وهو ناوي يمشي ..
ثم انتفضت عظام صدرها وأتبعت بنبرة مدبوحة :
-أنا ماليش ذنب ، محدش فينا بيختار أهله ، أنا دوست بالجزمة على حقوقي وغمضت عينيـا ومشيت وراه وسبت له نفسي ، أنا مستهلش منه القسوة دي ، ده حكم عليا من غير ما يسمعني ..ده حتى محاولش يكلمني وقفل كل تليفوناته .
أخذت تكفكف دmـ.ـو.ع حوريتها التي حمتها من وكر الأفاعي من قبل وهي تدعو علي زوجها الذي خرب حياتهما معًا ؛ وتقول :
-رغد حبيبتي ، أنتِ حامل دلوقتي .. لو عايزة هاشم يرجع لك يبقى تمسكي في الولد ده بأيدك وسنانك .. ووقتها هيكون ابنه في الكفتين ومفيش قدامه فرصة للاختيار .
بللت حلقها الجاف من قسوة الحـ.ـز.ن :
-وفكرك أنا هقدر أبص في وشـه بعد ده كُله .. بعد ما كذبت عليه يامامي .. خلاص طريقي مع هاشم اتقفل ضبة ومفتـاح.
وبختها بنصح وبعيني تتسع من هول سلبيتها :
-لا ؛ الطريق اتفتح يا رغد ، وأول حاجة هي لازم نوصل لأهله ، لو هو مش عايز ابنه فـ أهله صعايدة ومش هيضحوا بحفيدهم .. شوفتي كنت مصممة إنك تحملي ليه !!
سالت العبرات من عينيها بحنين :
-بس أنا عايزة هاشم وبس يا مامي ..
اعتصرت ذراع ابـ.ـنتها وهي توعيها بصوت مغلول :
-متبقيش غـ.ـبـ.ـيـة ، الطفل ده هو اللي هيجيب هاشم وعيلته تحت رجليكي يا رغد ؛ قومي اغسلي وشك وكُلي لقمة وفكري معايـا نوصل لأهله أزاي .. هاشم لو فاكر أن محدش هيقف في وشه يبقى غلطان .. العـ.ـيا.ط مش حل ..
قلبها المتورم من شـ.ـدة الشوق والحـ.ـز.ن أجهشت باكية وهي تضم ساقيها لصدرها متسائلة بحرقة :
-أنا ازاي هونت عليه بعد الحُب ده كله !
ردت أمها بحكمة :
-عشان الحُب لوحده مش كفاية يا رغد ..
ثم التوى ثغرها بحسرة :
-أنا أهو حبيت أبوكي واتخدعت فيه ، وفي الأخر خدت أيه !! في الزمن ده الحُب مش بيجي من وراه غير النـ.ـد.م والو.جـ.ـع ..
ثم حملقت بها بتوعـد :
-وأنا مش هسمح لهاشم يعمل فيكي زي ما ممدوح الشيمي عمل فيا يا رغد ، قومي دوري على مصلحتك ومصلحة ابنك متبقيش غـ.ـبـ.ـيـة …..
لقد بات الحُب في زماننا مثل ساحر ضـ.ـر.ب كفًا بكفٍ فأضاء لك الدرب وحوله لجنـات عدن ثم بعد ذلك لم تعد ترى مرةً ثانية ..
•••••••••••
~قصـر العزايـزة .
قيـل لي ذات مـرة :
أنكِ مرحة كـ غرفة مليئة بالزهور..
وعينيكِ حزينة بغُرفتي يملؤها اللهب أو ربما البكاء أو على الأغلب تذوب في صحن المجـهول .. ومن حينها وأنا مشتتة تمامًا حولي ، وحول فهم ذاتي، أن هناك حياة آخرى انتمى لهـا غير تلك العبثيـة التي أعيشها .. أن وراء باب مـا ستفتح لي أبواب مملكة ديزني بوجهي لأعيش مغامرة جديدة كما تمنيت في صغري ، وللآن فـ أنا لم أكُف عن طرق بابًا واحدًا لعلى أجد حياة المغامرة لم تبدأ بعد ..
شـد ذيل كحلها بالقلم ولأول مرة تتعمد وضع كُحل غزير بعينيها ، ربما كناية عن الحـ.ـز.ن الذي يحاوط قلبها فأنطبع حول عينيها !! أو رُبما كانت تحاول جاهدة في إخفاء هالاتها السوداء من كثرة التفكير بهِ !! كانت عينيها تبدو أكثر جراءة عكس طبيعتها تمامًا كأنها تحاول التجبر والتمرد على شعور ما يسكنها ..
فرغت ” ليلة ” من وضع الحُمرة الخفيفة على باقية ملامحها وهي تُطالع نفسها بالمرآة وتتحدث بنبرة مختنقة :
-كانت مجهزة حاجتي ومتعمدة أمشي وأهرب من البيت ده إمبـ.ـارح ، وكمان أخدت حجة أن مامتي تعبانة وبتلح عليا لازم ارجع .. بس السبب الحقيقي أنا مكنتش حابـة احضر خطوبة العمدة ، قصدي هارون .. حاسة في حاجة غلط في الموضوع ده ، أنا مش متقبلة فكرة أنه يتجوز زينة ؛ مع انها حلوة بس أنا مالي ، شاغلة بالي بيـه وباختياراته ليه ..
ثم شرعت في تصفيف قُصة شعرها متعمدة إخفاء ملامحهـا وأكملت :
-مقدرتش أرفض له طلب ، لما طلب مني أقعد النهاردة وبس ، لغيت كل حاجة ووافقت .. يمكن عشان دي أول مرة يطلب مني طلب وهبقى رخمة لو رفضتـه !!
وبدا عليها شبح ابتسامة حزينة :
-كفاية اهتمامه بيا ، إصراره أننا نروح للدكتور وأد أيه بذل مجهود عشان نعرف نكشف عنده ، وإصراره أني ماقولش لمامي عشان متضايقش .. بس أنا حقيقي لأول مرة أحس أني أحسن !! بس يا ترى مامي هتزعل لما تعرف بقيت اتابع مع دكتور تاني ؟ بس والله هارون هو اللي ألح عليا وو
ثم مالـت لتأخذ الشال الصوفي وتضعه على كتفيها وأخذت نفسًا عميقًا :
-بس أنا قلبـي واجعني و تايه ومشغول بحاجة مش عارفـة هي أيه !! عيـنيه ؟!
ثم رجت رأسها بخفة رافضـة تصريح قلبها بانشغالها بعينيـه :
-أيه الهبل ده !! لا طبعا انا وهو صُحاب بس .. وبعدين أنا اتعمدت مخصوص احضر خطوبته دي عشان اقــ,تــل أي شعور تاني من ناحيتي له .. بس لأول مرة أحس أني بقيت غريبـة فـ البيت ده !!
يألف المرء الأماكن بعيون أحبته ، فأن غرُبت عاد غريبًا كما جاء .. أصابت قلبها وخزة متمردًا على حماقتها جعلتها تتأوه للحظة وهي تجُر المقعد الخشبي أمام التسريحة وتجلس عليه بملل واضعة وجهها بين كفيها وظللت ستائر شعرها فوق خيمة حيرتها تتساءل بكلل :
-أف !! مالك بس يا ليـلة !! أهدي أهدي .. خلاص .
‏أقصى أماني القلب أن تستريح سفن مشاعره في ميناء الحُب وسلامـه الواضحة ، لكن الإبحار في بحر الشكوك يقتـل صاحبـه ..
~بغُرفـة هلال .
لقد كان عابث الوجـه يقف أمام المرآة يرتدي ملابسـه بفتـور شـ.ـديد إثر ذهابه لإلقاء أحد الدروس الدينيـة بالمسجد فلم يجد إلا طفلًا واحدًا من بين العشرات وكان السبب أن النساء امتنعن لإرسال أطفالهم لعنده لأنه بات غير مؤهلًا لتعليمهم على يديه ، يبدو أن المعاناة الحقيقية لزواجه لم تبدأ بعد ، فكانت رقية المتكورة تحت لحافها تراقبـه بعيني يعُمها الفضول والتساؤلات .. فرغت من قضم أناملها وهي تسأله بقلق:
-شيخ هلال ، هو حصل حـاچة ؟!
كان منشغلًا بلف عِمة رأسه وهو يقول بإيجاز :
-لا .. لم يحدث شيء.
-لاه كيف ووشك عيطق منه شرارة من ساعة ما رچعت وو
رفع عينيـه بالمـرآة التي تنعكس فيها صورتها ليقول متغلبًا على شعوره :
-دعنا نثنّي على الحـ.ـز.ن الذي لفت انتباه القمـر لانطفاء النجم .
‏ثمة وهج خفي في كل انسان، لا يظهر إلا مع أشخاص معينة، وفي أوقات معينة، وأماكن معينة .. سؤالها واهتمامها كان سيفه الذي حارب بهِ العبوث ، زفرت رقيـة بخجـل لمغازلته اللطيفة وكررت سؤالها :
-يعني بچد مفيش حاچة !!
دار لها بعد ما فرغ من ربط عِمته الأزهريـة ذات الطابع الصعيد وقال مغيرًا مجرى الحديث:
-رُبما لأن زوجتي تمتنع عن المجئ مع للخِطبة .
أصرت على موقفها بحـ.ـز.ن أغرق عينيها :
-أمي لسه مربعنتش وأنا أروح فرح !!
أحس بالنـ.ـد.م الشـ.ـديد وهو يدنو منها :
-حقك عليّ ، وحـ.ـز.نك فوق رأسي وإحنا اتكلمنا واتفقنا يا رقيـة أن دنيتنا فانية ؛ والآخرة خير وأبقى .. وأنتِ مؤمنة وموحدة بالله ..
جرى صدى صوت أمها بأذانها وهي تساءله بقلب يختلج :
-طب والشوق !! ميـن يطفيـه !
تحركت يده لتتلقى دmعة من طرف عينيها تمزق قلبه ولكنه تراجع كي لا يُصعب عليها الأمر مكتفيًا بضم كفها المبلل ليقول بنبرة تملأها الرضا :
-أنا معك حتى أغسل عن هذا القلب غبـ.ـار الحياة وو.جـ.ـعهـا ليعود كالسحابة البيضاء ..
ثم أطال النظر بعينيـها وأتبع بأسفٍ :
-وحتى يُعدm من تجرأ على قطتي النقيـة .. وتعود الحقوق لأصحابها ..
من بين الدmع والأمل انفرجت عينيها بسعادة :
-يعني هيتعدm ، وهيشفى غليلي منـه !! والله عيني ما بتشوف النوم من القهر ..
تبسم متأملًا :
-سلامـة هذا القلب من أي سوء يا رُقيـة..
ثم أومئ بهدوء:
-هروح خطوبة هارون وأرجع لك نكملو درس اليـوم ..
لقـد كان ذكيًا للحد الذي تسلل بين قطرات عينيها ليشغلها عن البكاء ، وبدلًا من تركها فريسة لأنياب الليل ، بات ليلهُ برفقتها حلقـة من الذكر يملأها الونس والكيثر من النظـر ، كانت تتطلع إليها بدهشة أعمى يرى شعاع الشمس لأول مرة لتقول دون رقابة منها :
-أنتَ طيب قـوي يا شيخ هلال وو
ثم هبت مذعورة :
-أنا ماشوفتش جـ.ـر.حك وريني عايز يتغير عليه وو
قاطعها بوجهه البشوش وهو يُسبل عينيه بغــــرور الثقة وكأن الأسرار بدأت تتولد بينهما تدريجيًا للحد الذي تُقرأ الكلمـ.ـا.ت من الأعين :
-بالليـل .. لنـا ليلنـا يا رُقية ..
يشتت النهار الأحبـة ويجمعها القـلوب ، رغم نقاء مقصـده بمدح الليل الذي يجمع قلوبهم في السهـر إلا أن الجملة كانت تشمل كل طقوس الحب الطاهر الذي يضم روحيـن تحت سحابـة العشق المحلل .. كأنهما زوجيـن حقيقيين كما جاء في الكتاب والسُنة ؛ ولكن أي حُب هذا الذي يجعلها تشاهد المطر دونما تُعانقـه !!!
~بُغرفـة أحلام .
-يا أحلام استهدي بالله وقـومي يلا ، أنا مش هروح حتـة من غيرك ..
لقد نفذ صبـر هارون في محاولاته المتعددة بإقناع أحلام أن تأتي لخطبته ولكنهـا رفضت رفضًا قاطعًا .. تحاشت النظر له لأنها تأكدت من شرارة الحُب بينه وبين ليلة :
-مش چاية يا هارون ولا قلبي راضي عن الچوازة دي ، وأنت عاوز تكمل فيها كمل من غير رضا أحلام ..
فأتبعت هيـام بهدوئها المتوارث من أخيها الكبير:
-طب والناس يا أحلام ، زوقي معانا اليوم وبعدين هارون لو مرتحش يبقى الچواز قسمة ونصيب ..
هبت أحلام بوجهه :
-وفكرك دي لو مسكت واتمكنت منه هتسيبه ! يا ولدي ما تفتحلهاش باب متعرفش تقفله ، طالما مش رايدها مكمل ليـه ..
انفجر بوجهها بحـ.ـز.ن شـ.ـديد طفطف من قلبه :
-من مـ.ـيـ.ـتى عاخد اللي رايده يا أحلام ..
ثم رفع سبابتها واضعًا حدًا لمجزرة قلبه وهو يعانده :
-شوفي يا أحلام أنا مش هچبرك وعلى راحتك .. بس جوازتي من زينـة خلاص اتكتبت ، خلينا نفوقوا لمصالحنـا ..
صرخت عليه بحرقة :
-أعمل اللي في راسك يا هارون ، بس اللي ما ينـ.ـد.مش ..
شـ.ـد زعابيب غـــضــــبه وهو خارج من الباب فارتطم بالليـلة بوجهه وسقطت عينيه على تفاصيلها المُهلكة لقلبـه ولرجولتـه .. جمالها كان مختلفًا عن كل مرة رأها بها .. كانت بعينيها تقطن نظرتي قوة تتحداه جعلتـه يود أن يتحرك نحوها ويمضغهما بفكيـه ، عينيها كانت ساحرة بتعويذة جعلتـه يتنهد مغمضًا جفونه ليتفاداها .. رمشت بأهدابها بقلق :
-أنتَ مالك !! مضايق ليه ..
-مفيش ..
رد بملل هاربًا من سطو التطلع إليها الذي آتى بقلبه مجرورًا لقعـر وجهها .. فجاء هيثم من الخلف متعجبًا :
-ماله هارون واخد في وشه وماشي؟
هزت كتفيه بعدm فهم :
-مش عارفة في أي، تعالى نشوف أحلام ..
حينهـا آتاهم صوت صفيـة مناديًا :
-يلا يا هيثم وهات أخواتك عشان أبوك عينام بـدري .
خرجت هيام بقلة حيلة وهي تقفل الباب خلفها وأخبرتهم :
-أحلام بردو مش راضية تروح ، حكمت رأيها خلاص ..
•••••••••
~بغُرفـة زينـة ..
لقد كانت ترتدي فستانًا منوشًا باللون الوردي أشبه بفساتين الزفـاف بأكمام تصل لمعصمها ، تاركـة شعرها المموج وراء ظهرها ويعلوه تاجًا من الفضة ، لم تكن هيئتها وإطلالتها مناسبـة لهذا العصر ، حيث كانت متبعة موضة قديمـة من عشر سنوات .. جرت ذيول فستانها واقتحمت غُرفة نغـم التي اكتفت بها عن العالم وتعمدت أن تتمايل بخصرها المُحاط بالجواهر وقالت بمكر :
-يوه ! لساتك ملبستيش يا نغـم !! أومال مين يقدmلي الشبكة ، ماهو لازم اللي يقدmها تكون بت فاتها سن الچواز عشان ربك يحـل عقدتها .
رفعت نغم عينيها بجراءة :
-خليكي في حالك يا زينة ، وسيبيني في حالي!!
رفعت حاجبها كالحية :
-ديه جزاتي عشان عاوزة افرح واطمن على بت عمتي يعني!! أما أنتِ قلبك اسود يا نغم !!
ثم وقفت أمام المرآة لتدلل شعرها:
-ما تخفي نمردة وقعونة ، مستنية عريس يتقدmلك أحسن من هاشم فين !! كفاية هياخدك معاه .. ولا أنت ناوية تعيشي عالة على أبوي .
ثم تنهدت بخبث:
-هنبقوا سلايف بس يلا ، مراة الكبير محدش هيتعداها..
انفجرت نغم بوجهها وهي تفارق تختها:
-اسمعي انا قاعدة هِنه مش عالة على حد ، أنا قاعدة في ورث أمي اللي أبوكي عيوكلك منه .. ولو وچودي عالة زي ما عتقولي ، يبقى بيت أبوي وعمامي أولى ..
دارت لها مرتدية ثوب الأفعى :
-وه وه !! كل ديه عشان عاوزة مُصلحتك .. وبعدين مالك شايفة روحك علينا ليه ، شهادتك دي تبليها وتشربي مـ.ـيـ.ـتهـا ، مش بالشهادة يا نغم ديه بالراجـ.ـل اللي يخلي الست فوق فوق فوق..
رمقتها بسخط:
-ده تفكيرك المريـ.ـض يا زينة ..
مالت لها بكيد أنثوي:
-ولا أنت رافضة هاشم عشان عينك هطق على أخوه !! أنا قارياكي يانغم وفهماكي بس ديه بعينك ، خلاص خِلصت هارون لزينة وزينة لهارون ..
قاومت دmع عينيها وهي تقول:
-تصدقي إنك ناقصة وقليلة عقل بصحيح !! واطلعي يا زينة بدل ما أفرجك مقامك وساعتها لا هعمل حساب لخال ولا عم .. هارون يحرم عليا من الساعة اللي قال رايدك فيها وبعدين كلنا عارفين أنتِ چايبة رچليه كيف ، بالدجل والحنچل بتاعك مخليين الرجل مش واعي قِدامه ولو مبطلتيش السكة دي وربنا لأقول لأبوكي وخالتي صفية ..
ثم جزت على فكيها :
-هارون لو في وعيه كان شاف حقيقتك زين .
لُطخت الدmاء بوجهها وهي تعارضها:
-وه عاوزة تتبلي عليّ وتلبسيني جِناية يا نغم !! طب لو چدعة قولي وساعتها هفضحك قصاد الكُل وأقولهم أنك رفضتي هاشم لأجلك رايده أخوه وساعتها الكل هيشوفك خطافة رچالة وحقودة ..
ثم قبضت على معصمها والأساور تحدث صخبًا بيدها:
-شيليني من راسك يا نغم وبلاش أنا ، عشان اللي عيقف قصادي عدوسـه برچليّ .
دفعتها نغم بكل قوتها لترتطم بالخزانة متأوهة وهي توبخها:
-اطلعي برة يا زينـة وبكرة هتشوفي أعمالك السودة هتاخدك لفين ، يا خسارة محدش صعبان عليّ غير هارون ؛ واقع في حيـة …
تراقص حجبها على أسلاك المكر وهي تقول:
-همشي عارفة ليه !! عشان مش عاوزة واحدة غِلاوية زيـك تعكر فرحتي بعريسي .. وأنتِ خليكي تحت سقف الأوضة دي لغاية ما تعفني .
‏نار بالقلب وشرار بالرأس .. انتظرت نغم حتى تغادر زينة الغرفـة فتركت نفسها للأرض وهي تضمد و.جـ.ـع قلبهـا الدامي والمقهور من ظلم الحياة والبشـر ومن كل شيء يعاندها .. فرفعت جفونها نحو السماء من تحت نافذة غرفتها تشكو حـ.ـز.نها :
-طب كُنت سبت لي واحد من الاتنين يارب ، لا أب ولا أم !! ليـه ؟
أحست أن العالم بأكمله تآمر عليها ثم وثبت من مكانها وعزمت أمرها وأمسكت هاتفها متحدثة مع خالها التي تراقبه من أعلى ، فرد عليها وبدون أي مقدmـ.ـا.ت أردفت بحرقة:
-خال صالح !! أنا موافقة اتچوز هاشـم ..
••••••••••
~ سينـاء ..
“‏هلعٌ من خــــوفٍ قديم أن تُعاد المأساةُ من جديد دون النجاةُ مِنها تلك المـرة ”
تنقلات مع حركة الساعة للجنود والعساكر ، وحملات عسكرية متواصلة بقيادة هاشـم العزايزي الذي كان ينتقم لقلبه من كُل إرهابي بالمنطقـة .. رصاص مسدسه لا يرحم أحد ، غارات عسكرية متتاليـة وطلقات فوق رؤوسهم كالمطـر ، وبين كل هذا يخرج منتصرًا في المعركة التي كان ثمنها قلبـه ..
تسلل من بين الأشجار بزيه الميـري وهو يلهج من شـ.ـدة المعركة التي أوقعت بـ١٣ إرهابي بأحد ممـ.ـر.اتهم تحت الأرض ، ربت صديقه على كتفه متفاخرًا :
-عاش هاشم باشـا .. أحنا بالحال ده لمدة سنة مش هنشوف إرهابي واحد في سينا.
بصق غبـ.ـار معركته المريرة وقال :
-خليها تنضف من أعوانهم ، دانا ناويهالهم ولاد الـ***
أتبع زميـل له وهم في طريقهم للسيارة بعد ما القوى أخذت المجرمين :
-وأحنا في ضهرك يا باشا ..
حياههٌ قائلًا :
-تعيش يا منتصـر ..
ثم أخرج هاتفه الذي لم يزل من خلفيتـه صورة رغد التي أشعلت النار بقلبـه وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة :
-مفيش شبكة هِنه ..
ثم أخرج جهاز اللاسلكي وتحدث مع قائده قائلًا :
-كله تمام يا فنـ.ـد.م .. وأحنا في طريقنا للمعسكر..
-هاشم بيه !!
مع نهايـة جملته جاءت رصاصـة مستهدفة وقاصـدة هدفها بغدر لتخترق كتفه وفينفجر صارخًا من شـ.ـدة الألــم بين رفاقه الذين تحمسوا لخوض معركة آخرى في لحظة غدر …
~مرسى علـم .
دوت صرخـة ” رغد ” النائمة بحـ.ـضـ.ـن أمها في أرجاء الغرفة مناديـة باسمه ، وهي تهذى كمن فقد عقله وترتعش باحثة عن هاتفها :
-مامي ، مامي هاشم جراله حاجـة ..
فضـ.ـر.ب الأرض بقدmيها:
-اتصرفي لازم اطمن عليه !! قلبي هيقف من الخــــوف يامامي .،
ثم تناولت هاتفها بيدها المرتعشه وهاتفته وكعادته مغقلًا ، ألقته بالأرض عاجزة وهي تصرخ بصوت مكتوم :
-حـ.ـر.ام عليك يا هاشم متعملش في قلبي كده حـ.ـر.ام عليك ..
حاولت أمها أن تهدئها بشتى الطرق ولكن نيران القلب أن توهجت لا يطفئها إلا حبيب .. هنا دق جرس البيت فهرولت سامية لتعرف هوية الطارق متوسلة ابـ.ـنتها أن تهدأ.. وما فتحت الباب ففوجئت بفؤاد يقف أمامها والسيجارة تحتل بين أصبعيه ، تفحصته سامية بضيق:
-فؤاد !! أنت جاي هنا ليه !!
دخل قبل أن تأذن له ؛ فوقفت بوجهه:
-رايح فين وإحنا هنا اتنين ستات لوحدنا !!انت مش هتبعد عن بـ.ـنتي بقا يا فؤاد وتشيلها من دmاغك !
أصدر صوتًا نافيًا :
-لوّ شيلتها من دmاغي تتشال من قلبي ازاي يا طنت !! هي فين عايزها .
-اطلع برة وسيب بـ.ـنتي في اللي هي فيه يا فؤاد ..بـ.ـنتي واحدة متجوزة وعلى ذمة راجـ.ـل تاني .
رفع حاجبه والشمـ.ـا.تة تركض فوق ملامحه :
-لا ازاي !! منا جاي أعرفها حقيقتـه ، وأنه كان واخدها يومين أفراح وخلع …
-عايز أيه يا فؤاد ؟!ومالك بهاشم ؟!
ما سمعت اسم هاشم جاءت من غرفتها بقلب ملهوف لسماع أي خبر عنـه .. فنظر لهيئتها الشاحبة :
-أيه يا رغود الوش ده ؟! هو جوزك عملها وهرب !!
صرخت سامية بوجهه :
-انت لو محترمتش نفسك ومشيت من هنا أنا هطلب لك البوليس ..
تدخلت رغد بصوتها المهزوم من الحب والحياة :
-استنى يا مامي .. عايز أيه يا فؤاد ؟
جلس معجباً بسؤالها وهو يفك زر بذلته ويقول :
-هو ده كلام العقل … أنت ت عـ.ـر.في أيه عن هاشم يا رغد .
-يعني ايه ؟! ده جوزي أكيد أعرف عنه كل حاجة !!فؤاد ممكن بلاش طريقتك السخيفة دي !
قهقه بسخرية ووقف أمامها وهو يتحداها بعينيه :
-يعني كنتي عارفة أنه من العزايزة .. أكبر وأشهر قبائل في الصعيد ؟؟
تراجعت للخلف بشك :
-أه طبعا عارفة ؟! وبعدين وأنت مالك ؟!
أكمل بنفس النبرة الثعلبية :
-بقولك عزايزة .. يعني العيلة دي مش بتسمح غير بجواز الدm وبس ، يعني هاشم مش مسموحله غير يتجوز واحدة من دmهم .. وأي حد بيخالف أعرافهم مصيره المـ.ـو.ت ؟!
ثم ضاقت عينيه بخبث :
-أيه الحب عماكي للدرجة دي وخلاكي تبيعي عمرك وتتجوزي واحد محكوم عليه في عرفهم بالمـ.ـو.ت .. ومش هو بس .. وأنت قبله .. ولو في طفل مصيره من مصير أبوه وأمه !!
حلت النازلة على رأسها فلم تستوعب ما يقوله وهي تضع يدها على مضغة جوفها .. فتمتمت بشفاه مرتعشة :
-انت جبت الكلام ده منين ؟! لا طبعا كذب ..
رد بثقة :
-مش بكذب يا رغد أنا ليا 3 أسابيع متابعه خطوة بخطوة .. أه مكنش سهل أعرف كل الحاجات دي بس أنتِ تهميني .. عشان تبقي ت عـ.ـر.في مين شاركي ومين بايعك ..
ثم أطال النظر بعينيها :
-كلمي جوزك وأتأكدي من الكلام ده بنفسـك .. بس لما تتأكدي أهربي عشان لو عرفوا مش هيسيبوكي عايشة ..
ما رمى قذيفة أخبـ.ـاره برأسها استأذن مغادرا والشمـ.ـا.تة تقاسم معالم وجهه .. نظرت رغد لأمها بصدmة كبيرة وهي تشكو لها :
-مامي أنتِ مصدقة الكلام ده !! هو أيه اللي بيحصل فيا ده !!
***********
~بدوار الحج صالح .
احتشـ.ـدوا أهله القبيلة بأكملها لحضر حفلة خطبة عمدة البلد وكبيرها واحتراما لحـ.ـز.ن هلال وزوجتها اشترط هارون أن يكون الحفل خاليًا من أي قرع طبل أو غناء .. تجلس ” ليلة” بأحد الزوايا وهي تراقب النساء وهن يغتابن أنفسهن بدون رحمة .. وفرحة “زينة” التي كادت أن تعلق جناحين وتطير بهما في المكان .. ربتت هيام على كتفيها :
-مالك يا ليلة .. سرحانة في أيه ؟!
ردت بملل :
-مش عارفة بجد يا هيام .. مخـ.ـنـ.ـوقة أوي .. حاسة بحاجات كتير مش عارفة هي أيه !!
-أنت بس قلبك واكلك على أمك .. خلاص أديكي الصبح هتروحي لها .. وهتقطعي بينا !
أشاحت ليلة بنظرها بشك :
-تفتكري ده السبب ؟!
ثم غيرت مجرى الحديث ممازحة :
-وبعدين خطيبة أخوكي أيه اللي عاملاه ده !! أنا ماشوفتش الموضة دي من زمن !
ضحكت هيام معها وهي تقول :
-هقولك .. أصل الفستان ديه جايبها من وهي في ثانوي .. وشبطت فيه واشترته وفضلت شايلاه في دولابها لغاية اليوم ده .. وأهي المـ.ـجـ.ـنو.نة لبسته ..زينة دي عبـ.ـيـ.ـطة قوي !!
-هي بجد سو فاني مش عبـ.ـيـ.ـطة .. طيب والعمدة أخوكي عاجبه الكلام ده !
ضحكت هيام بخفة :
-أنا شايلة همه ليتصدm من دلوق .. بس هو قاريها وعارف أنها هابة منها .. هارون عيقرأ الناس زين .
-طيب وليه مجبور عليها ؟! ده مش مبسوط خالص؟
ردت هيام باسف :
-صدقيني يا ليلة .. معرفش ، اللي قدامي ديه مش هارون أخوي ده واحد تاني عيجدف بمركبته في النهر بس هو مش عارف بيهرب من إيه ؟؟ ودي أول مرة يكـ.ـسر كلمة لأحلام !! في حاجة مش مفهومة …تحسيه بيحارب نفسه المرة دي وبيفتري كمان.
نظرت لها ليلة والإعجاب يشع من ملامحها :
-على فكرة هارون أخوكي شخص جميل بجد .. أنا اتعاملت معاها وبصراحة عمري ما قابلت حد في جمال قلبه وهدوئه وعقله وحتى وهو متعصب الحنية مالية وشه .. بجد هو شخص لطيف جدا ومثقف أوي وذوق !! وزينة دي زي ما أنت شايفه ..فرق السما والأرض .
يبدو أن هيام قرأت الحب المغرد بلسانها فتمتمت بخبث :
-أمم هاورن فيه كل ديه !! وأيه تاني !!
تـ.ـو.ترت في جلستها :
-أيه يا هيام !! عادي أنا بفضفض بس .. لكن هو وخطيبته حُرين يشبعوا ببعض .. مش هو اللي اختار.
ثم وثبت من مكانها :
-أف أنا اتخـ.ـنـ.ـقت وعايزة أروح .
أمسكت بمعصمها :
-طب أقعدي بس .. كلها ساعة يلبسها وهنمشوا ..
هللت الزغاريد بمكان حيث تقدm هارون الذي كان يتكئ على تمرده وعناده ويسافر شعراً إلى وجهته المفقودة، ولا يصل إلا لطريق الضلال ؛ وتابعه وهيثم مخترقًا صفوف النسوة اللاتي لم تنزع اللون الأسود بعد من فوق رؤوسهن .. ما أن رأته زينة وقفت مغردة بالزغاريد كفرحة العبـ.ـيـ.ـط وتابعها البقية من النساء وباتت كل واحدة تتنافس من أعلى صوت فيهن .. جلس هارون ذو الملامح القاضبة بمنصة العروس التي تمسكت به كالجرادة وهي تمسح على ذراعه :
-يا فرحة قلبي بيك يا عمدة .. وأخيرا ..قول لي عجبك الفستان أكتر ولا صاحبة الفستان .
ضـ.ـر.ب الأرض بمشط قدmه بخفة وهز رأسه قائلا دون التطلع إليها :
-كله زين ..
-والله ما حد زين النجع كله غيرك يا سيد الناس وسيد قلبي ..
تسابقت الدmاء في عروق ليلة التي بات وجهها يشع بنيران لا تعلم مصدرها .. لهب الغيرة تمكن منها فجعلها تتطلع يمينًا ويسارًا و أي جهة أخرى لا تنتهى به .. خرجت صفية من أحد الغُرف حاملة علبة الذهب والزغاريد تنبعث من أفواههن فاقتربت صفية من هيام ومدت لها صينيتين من الذهب :
-بت يا هيام ، خدي قدmي شبكة أخوكي خلي نحسك يتفك وتحصليه .
أخذت الصنيتين من أمها .. أعطت ليلة واحدة حملت الأخرى بضيق :
-تعالى معاي يا ليلة خلينا نخلصوا ..
عارضتها صفية :
-أختك هاجر فينها تساعد أخوها ..البت دي عتخفى تروح فين !
حملت بين يديها صنية ممتلئة بالذهب وتقدmت خطوتين عن هيام وكانت خطواتها متمهلة كمن يقدm كفنه على ثأر لم يرتكبه .. تعلقت الأعين ببعضها وهو يرقب الفتاة التي سرقت نوم عينيه بفحم كُحلتها وهي تدنو منه تدريجيًا بحرص وتتحاشى رؤيته في هذه الصورة التي تحرق قلبها .. صعدت ليلة فوق المنصة وتطلعت بملامحه التي أصبحت مأوى روحها وقالت بصوت مختنق :
-مبروك يا عريس .. شكلك حلو.
لم يزحزح عينيه المرفوعة لأعلى من عليها وشرارة حبه تفيض منه واقعًا في غرام مدحها ؛ ليجيبها :
-عقبالك يا أستاذة ..
أكتفت بهز رأسها فصاحت زينة متمردة :
-وه مفيش غيرك يا هيام أنتِ والبت دي تقدmوا الدهب .. ديه فال عفش ما تتكلم يا هارون ..
رد باختناق :
-مالك بس يا زينة ؟!
-هيام والبت دي فاسخين خطوبتهم و ديه فال مش حلو علينا .. لالا شيعي لهاجر _ثم أكملت بكيد _ أو لنغم يقدmوا هما الشبكة ..
تدخلت هيام باختناق :
-هارون قولها حاجة بدل ما أهبد الصونية في وشها !! أن محترمة وجودك بس .
اكتفى هارون بنظرة واحدة من عينيه أخرستخا فانضم لهم هيثم ساخرًا :
-فقري ومتأرعن وأنت كنتِ لاقية .. ما خلصينا يا ست حلويات عاوزين نتعشوا .
مدت هيام الشبكة لأخيها التي بدأ أن يلبسها لعروسته الفارحة بغباء والملل الشـ.ـديد يطوف فوق ملامحه .. حرقة مجهولة بقلب ليلة كان دخانها يستشيط بقلبه العاصي عليه .. شتت “ليلة” انتباهها عن هارون الذي يضع خاتم زواجه بأصبع أخرى لا تشبهه تماماً فاعتصر قلبها حـ.ـز.نًا وهي تقاوم دmـ.ـو.ع عينيها التي توهمها بأنها مشفقة على حاله .. فالأصعب هو أن تشعر بوزن الحـ.ـز.ن في قلبك بدلًا من سببه وهذا أثقل ما في الأمر .
‏يحدث أنك قد تتمنى أكثر مما ينبغي تمنيـه بقصـر الأحلام البعيدة ، وهذا ما يجعلك الآن تُعاني ، متعب أكثر مما يحتمله قلبك الهش .. حتى تجد نفسك عالقًا وسط حشـ.ـد من الأحلام الجائعة، تلك الأحلام التي لا تملك إطعامها، وهي لا تعرف كيف تمـ.ـو.ت من حولك ، فما زال صخبها يدوي بقلبك …
كانت نغم تراقبــه من أعلى بقلب يحترق بحرائق لا تختلف كثيرًا عن “ليلة” الحمقاء في درب الحب إلا أن نغم كانت تعلم بالسر وسببه أما ليلة فكان حبها خفي عنها .. كان يحركها ويعبث بها بدون علمها .. نفذت صنية الذهب الأولى بدلت هيام الثانية من يد ليلة .. فتقدm هيثم ساخرا :
-ليه صونيتين دهب يا زينة أنت داخلة مسابقة ؟
شخللت الغوايش بيدها :
-لا دي شبكة العمدة لمرته وأم عياله .. قول أن شاء الله يا عمدة ..
هب هيثم ضاحكا :
-أوعى تأمم يا عمدة أنا عندي أمل الجوازة تتفشكل ..
صرخت زينة بوجهه :
-فال الله ولا فالك يا هيثم .. عقولك ايه خف نبر فوق رأسي وسيب العرسان يشبعوا من بعض .. ديه لُقا من بعد شوقة …
زفر هارون بضيق معاتبًا نفسه عما يفعله بها :
-ديه مرار طافح ..
غمغم ضاحكًا بصوت لم يصل إلا لأذان هيام التي كتمت ضحكتها :
-لا دي شبع من بعد جوع بعيد عنك و أنتِ الصادقة ..
لم تتحمل ليلة البقاء بجوارهم أكثر من ذلك .. رمت الصنية بيد هيثم وهي تركض هاربة من المكان لتشم الهواء إثر اختناق نفسها بالمكان او قلبها ؛ أيهما أقرب ..وهي تدmدm :
-هيثم امسك دي ..
وقعت الأسوار من يد هارون الذي شـ.ـد رأسه لعندها رغم عنه مستغربا تصرفها الغامض وخطواتها التي تتسابق مع الأرض وهي تتسلل من بين السيدات باحثة عن مكان تتنفس فيه هواء نقي يكون خاليًا من عطره ونظراته الحارقة ..وقفت بجوار النافذة واضعة يدها فوق صدرها الذي يعلو ويهبط والحرارة تشع من وجهها فأخذت تهش على أوجاعها تتساءل بـ.ـارتباك حائر :
-ليلة مالك بس.. أهدي أهدي ..مش على بعضك ليه ؟
ظلت تأخذ شهيقا وزفيرا ونظرة منه وتلجأ لأبواب السماء راجية أن تهدأ نيران قلبها المتقدة :
-ياربي هو في ايه !! أنا مش مظبوطة خالص ، وواخدة الدوا !! في أيه بس؟
تائهه كمن تورط في حكاية لم تكن حكايتـه ، ففي موكب الأحلام تلمح العين ما تبقّى من رمادِ لياليها المُظلمة فترى قلبك في أشلائها يترنحُ ، وفي موكب الحُب يبصر القلب كُل شيءٍ ويطوى اللسـان صفحات اعترافه بالحقيقة ..
••••••••••
“أتيتك من كُل المنافي أجرجِر تعبي وقلّة حيلتي لأترك علىٰ أعتابك محاولات صبري، لا جلد لي على السير إن لم تكن أنتَ وجهتي، أرجوك رجاءً لا أعرف كيف أصيغه وأنت ربّ قلبي وقاضي حاجتي، لا أملك من زادٍ إلا تسبيحة يُونس والكثير من اليقين، عبدك يناديك، بِئس العبد لكنك نعم المُجيب الواسع”..
رفعت يديهـا للسماء بعد ما قفلت مصحف هلال الذي كانت تمسكه بقماشة عازلة وظلت تردد هذا الدعاء وتدعو بالرحمة والمغفرة لأمهـا وأبيها تاركة حِملها للمولى عز وجل .. ثم قفلت النافـذة وما كادت أن تهرب لفراشها فسمعت صوت طرق على الباب ، هرولت مسرعة لفتحه مدهوشـة :
-عمتي أحلام يالهوي !!! كيف ركبتي ورجلك و.جـ.ـعاكي !
استندت أحلام على كفها وهي تدلف للغرفة وتلتقط أنفاسها بمعاناة :
-خُلقي ضاق يا بتي ومحدش واخد بحسي ، كُلهم راحوا الخطوبة الغبرة دي .. قولت أجي اتساير معاكي ..
-تعالي يا عمة تنوريني .
سحبتها ببطء شـ.ـديد ورفعت طرف الغطاء لتجلس على سريرها وساعدتها في الجلوس برفق وهي تقول :
-لو كنت أعرف إنك مروحتيش الفرح كُنت نزلت لك من بدري ..
ثم شـ.ـدت اللحاف فوق قدmيها التي تؤلمها:
-أجيب لك ميه !!
أمسكت أحلام يدها:
-أقعدي بس أنا چاية اتونس بيكي مش اتعبك، طمنيني عليكِ يا حبيبتي عاملة ايه !
جلست رقيـة أمامها على طرف السرير :
-ولا حاجة بحاول ارضى ، ادعي لي ربنا يمن عليّ بالرضا وكله هيهون ..
-كله عند ربك بأجر وحساب يا ضنايا، حـ.ـز.نك دي أنتِ هتتجازي عنه في الآخرة..
ردت بخفوت والدmع يترقرق من عينيها:
-الشيخ هلال قال لي..
تبسمت أحلام بوجهها:
-چدع هلال وواثقة إنه مش هيسيبك للحـ.ـز.ن، نيچوا للمهم .
-خير يا عمتي؟!
-مش عاوزة تعاودي ليه على كليتك مع هاچر بكرة؟؟ هتفضلي محبوسة بين اربع حيطان لمـ.ـيـ.ـتى !!
انخفضت أنظارها بالأرض بيأس:
-مش قادرة، مش هقدر اسمع كلمة تسم بدني من حد، هأجل السنة تكون الناس نسيت و
-غلط يابتي! وتضيعي سنة من عمرك مش كفاية اللي ضاع! طب وهلال أيه رأيه ؟
غمغمت بحـ.ـز.ن:
-هو كمان ماموافقش، بس رچع وقال لي اللي يريحك اعمليه..
ربتت أحلام على كتفها بوجهٍ بشوش:
-وأنا هقولك زيه، اللي يريحك أعمليه وأحنا في ضهرك يابتي.
حـ.ـضـ.ـنتها رقية بامتنان لتشم بها رائحة أمها ثم عادت بخجل:
-عمتي هو أنا ممكن اسالك في حاچة!
-طبعًا يابتي…
حكت كفوفها ببعض بحرج وقالت والحياء والحـ.ـز.ن يملأها:
-من ساعة ما عملولي العمليـة ، وو .. في نـ.ـز.يف بيروح ويجي، وأنا مش عارفة اصلي ولا أعمل أيه .. وساعات بتحرج من الشيخ هلال لما يقول لي قومي نصلوا ، بتضطر اغتسل واصلي بس … هو ديه حـ.ـر.ام !!
ضحكت أحلام على حالتها المرتبكة :
-يعني أنتِ متچوزة الشيخ هلال منارة العِلم كلها وچاية تستفسري من أحلام الغلبانة .. !!
-يالهوي!! أسال هلال كيف!! دانا بتكسف أبص في وشه !
تبسمت العجوز ذات ملامح الوجه المصبوغة بلون العسـل وهي تقول:
-ديه جوزك يا عبـ.ـيـ.ـطة عارفة يعني أيه جوزك !! يعني أنتوا الاتنين بقيتوا روح واحدة في جسدين !!
عاتبتها رقية بخجل :
-أنتِ عتقولي أيه يا عمتي!! لا مفيش حاجة من دي !!
ثم رفعت أهدابها المبللة لتقول بحرقة:
-أنا مستاهلش أكون مراة هلال .. أنا ظلماه معاي ومش قادرة اصلا عاوزة اسيبه و
قاطعتها أحلام :
-بس يا عبـ.ـيـ.ـطة .. هلال لو سمع كلامك ديه هيزعل قوي، وبعدين انتي مش مبطلة نبش في قبور الماضي ليه!! اللي حُصل حُصل ايه هنمـ.ـو.توا روحنا يعني ولا اللي حصل كان بمزاجك !! متعكريش حياتك وتوقفها وأحمدي ربك أنه عترك في واحد كيف هلال عارف ربنا .. ارمي ورا ضهرك وشقي طريقك لسه الحياة قدامك واسعة ..
ثم مسحت على رأسهـا:
-ربنا خد منك حاجات كتير متتعوضش بتمن ، بس كرمك ورزقك براچل حنية الدِنيا فيه وشاريكي ، وأحنا كُلنا هنا أهلك .. وبكرة يكون عندك حياتك وشغلك وعيالك وچوزك اللي معاه هتفوتي في الحديد.. بصي للي في يدك دلوق وحافظي عليه ؛ متبصيش للي راح خلاص ..
ثم ختمت جملتها بأصوات ” تلكسات” السيارات التي أحدثت ضجة بالمكان وقالت :
-شكلهم چم ، بصي كِده يا رقية يا بتي ..
•••••••••
-كِده ياما تسافري من غير ما تقوليلي ؟
استقبلت ” نجاة ” ابنها الذي حُرمت منه لمدة ثلاثة أيام ظلت محبوسة بالغُرفـة ، ما رأته جثت على رُكبتيها وهي تقبل كل حتة بوجهه وكفوفه وصدره بشوق أم انفطر قلبـها على صغيـرها .. ما انتهى لقاءها بصغيـرها أتبع صديق الواقف بجوار أمه قائلًا :
-هااه يا نچاة !! قولتي ايه !!
وقفت مستندة على كتفي ابنها الذي ضمته إليها تحت سطو تهديده بحرمانه من ابنها وهي تعاصـر قلبهـا حـ.ـز.نًا وهمًا ، نفس المشهد يتكرر أمامها ولكن تلك المرة تقبل الألــم بأيدي مغلولة وتقول بمرارة :
-موافقة يا صِديق .. موافقة اتچوزك بس متبعدنيش عن ولـدي …
هلل فارحًا :
-على بركة الله .. نشيعوا نجيبوا المأذون !!
هبت مذعورة :
-لا مش دِلوق، خليها آخر الأسبوع الچاي أكون جهزت روحي …
-يا صبري عليكي ، وماله نصبروا ، بس يكون في معلومك رجلك مش هتعتب عتبة الباب ديه ، وكمان مفيش لا محمول ولا مكالمـ.ـا.ت .. وولدك أهو في حـ.ـضـ.ـنك بس كلمتي هي اللي هتتسمع يا نچاة ..
قلبت على مضض وقلبها يتمزق إربابًا :
-اللي تشوفه أنا قابلة بيه .. بس بلاش ولدي ..
-طول ما أنتِ حِلوة وعتسمعي الكلام محدش هيزعلك …
ثم صاح مناديًا على زوجته التي تتو.جـ.ـع في الزواية آمرًا :
-جهزي الأوضة اللي فوق يابت ، هشيع أجيب أوضة نوم چديدة للعروسة …
•••••••••••
~بعـد منتصف الليـل .
طرق الحج خليفـة باب غُرفة هيثم الذي فتحها وهو تحت تأثير نومه :
-خير يا بوي !!
هتف أبيه بنبـرة آمرة :
-اعمل حسابك الصُبح هتسافر مع ليلة اسكندرية توصلها لغاية بيتها وتعاود .
-ليه !! قصدي حاضر يابوي ..
كانت ليـله يتسللها الشتاء نسمـ.ـا.ت هواء تلامس الروح هذه المرة قبل ملامستها لجسد لتفتح أبواب شتى بالذاكرة .. كل القلوب بلا استثناء تحتـرق ، كُلها مولعـة بمشاعر مجهولة !!
ليلة التي لم تكف عن التحرك بغرفتها وهي تتحدث مع رفاقها بثرثرة كبيرة، تارة تجلس وآخرى تفزع واقفة .. تتجوب بزواية الغرفة ثم تتوقف بمنتصفها فجاة وهي تهذي بقلبها ودmـ.ـو.ع عينيها :
-بنات الحقوني قبل ما اتجنن !! انا حاسة إني اصلا اتجننت .. من وقت ما عرفت انه هيخطب زينة دي وانا بقول عادي وانا مالي .. وبتجاهل ، لكن النهاردة انا كنت بمـ.ـو.ت حرفيا ، شعور غريب مد أيده في قلبي وبقا يقطعه حتة حتة .. كل ما أبص ناحيته اتـ.ـو.تر وأحس بالعجز ..
ثم شـ.ـد خصلات شعرها :
-في دmاغي دوشة وفي قلبي دوشة وتعب في كل حتة ، صورته مش راضية تفارقني ، اوقاتنا مع بعض ، كل حاجة كل حاجة ملازماني ، حتى حتى المواقف الرخمة بتاعته اللي كانت تجنني وتعصبني الغريب أنا بقيت بحبها وببتسم لما افتكرها..
تدخلت علا مشفقة على حالة صديقتها:
-احيه !! ليـلة انتِ لازم ترجعي بسرعة من عندك وتنهي كل وسائل التواصـل مع العيلة دي!! أنتِ شكلك غرقتي ..
فأتبعت جوري:
-لا هي loved him شوري .. مفيش احتمالات ..
قفلت جفونها محاولة استيعاب الجملة :
-حبيته !! يعني ايه حبيته وحصل امتى الكلام ده !! احيـه !!
ثم جلست على طرف السرير وهي تتحسس نبض قبلها :
-بنات متهزروش .. انتوا والله لو جيتوا تشوفوا قبلي بيدق ازاي هصعب عليكم ..
فأيدتها شروق بمزاحٍ:
-ده شكل الحُب مولع في قلبك وانتٍ غيرانة يا لولي !
صرخت بوجههن بصوت عاجز :
-محدش يقول حب دي قدامي ، لاه ..never..انا مش بحبه -ثم أغــــرورقت عينيها-مش بحبه خالص ..
فغيرت مجرى الحوار لتشتتهم عن فكرة الحب التي يتهمونها بها :
-عارفين الغريب فين !! انه طول الطريق ساكت مقالش كلمة .. لبس خطيبته الدهب وقام كده عايز يمشي .. ولما وصلنا البيت متكلمش ولا نص كلمـة ، وطلع على أوضته ..
ثم أتبعت :
-دي حتى أحلام قالت له يرن على هاشم عشان قلقانة عليها .. قالها خلي هيثم وسابها ومشي.. بقولكم أحلام الست دي بيعشقها … و
فكرت عُلا بحديثها لتقوم بتخمين:
-مش ممكن يكون هو كمان حب واحدة..
ردت بيقين:
-تؤ، ملهوش في الحُب ولو كان بيحب كان خطبها ..
فأتبعت عُلا موضحة :
-يابـ.ـنتي افهمي، ما يمكن الواحدة دي انتِ ، وهو حاسس بالعجز قدامها عشان اعرافهم دي وبيحاول يرتبط بأي واحدة عشان ما يورطش نفسه معاكي..
انفرج ثغر ليلة بصدmة:
-لا متقوليش كده !! مستحيل ، هارون يحبني أنا ؟! ايه الهبل ده .. أحنا صحاب وبس ..
ثم أتبعت بغيرة واضحة :
-طيب على فكرة بقا ، من وقت ما رجع وتليفونه ويتنج آكيد بيتكلم مع البـ.ـنت اللي بيحبها او زينة دي .. انا مراقبـاه على التروكولر ..
تحمحمت شروق بخبث:
-وتقول لك قال أيه مش بتحبه.. اتكلموا أنتوا..
فهبت ليلة التي تغلي الغيرة بدmها:
-يعني بيكلم مين كُل ده افهم بس ؟!
ردت جوري متعمدة إثارة غيرتها:
-آكيد مع زلابيـة خطيبته ..
-جوري اخرسي !!
~بغُرفة هارون ..
فارق مكتبه بعد ما كتب العنوان الذي ألقاه الرجل على مسامعه :
-يعني دي عنوان العيـادة بتاعت نادية أبو العلا !! شكرا ياباشا منتحرمش من خدmـ.ـا.تك ..
أنهى هارون المكالمة مع ” الضابط عمرو ” من عائلتهم ويخدm باسكندرية بعد ما طلب منه عنوان عيادة نادية أبو علا وبعد ما حذره الطبيب الذي رشحه عمار لليلة وأخبره بأن هذه الأدوية مأخوذة عن قصـد وهدفها قــ,تــل الفتاة ببطء .. فأخفى عنها هارون ذلك السر وأخذ يتتبع خُطى المدعية أمها ، ولِمَ تفعل ذلك !!!
ثم نظر بساعتـه ليهاتفها ، فتردد :
-الوقت متأخر ، ماينفعش.. اووف ..
ما كاد ليخطو خطوة فأوفقـه جرس اتصال زينة ، تأفف باختناق لكثرة تليفوناتها المتكررة التي لم يُطعمها بالرد إثر انشغاله بمهامه .. أجاب بملل وهو يرتب فرشته :
-خير يا زينـة ؟!
-خير ايه فينك يا هارون ، شوف رانة عليك كام مرة !
-وافرض مخمود ، اي مش تنامي أنتِ كمان !
تمايعت قائلة :
-لا منا قلبي كان حاسس إنك صاحي !
رد بملل :
-وديه من ايه إن شاء الله !!
تنهدت بميوعة:
-من الحُب يا هارون ، الحُب اللي بيزور القلب ويطير من عينيـه النوم .. كيف منا عيني متشعلقة في السقف كِده وعفكر فيك .
-فكري لغاية ما تتبدي ..
-انا اتدبيت في حبك واللي كان كان .. هارون ما تقولي عتحبني قد ايه !
-لما أعرف هقولك حاضر ..
هبت مصفوعة من جفاءه :
-يعني ايه لما تعرف ؟! هو أنت مش دايب في حُبي كيف منا دايبة !
-لا انا عاوز انام وارتاح يا زينة .
انبطحت على بطنها وهي تحرك قدmيها بالهواء :
-عقبال ما تنام وترتاح في حـ.ـضـ.ـن زينة يا عمدة ..
فاض صبره من وقاحتها واشمئزازه لحديث لا يشتهييه مع واحدة مثلها :
-يابت ما تتحشمي هبابة !! أيه المياعة وقِلة العقل دي !! زينة تصبحي على خير !!
قفل قبل أن يسمع ردها وهو يغلق نور الأباجورة متأففًا ، ففاجأته برسالة نصية :
-وانت من اهلي يا سيدي الناس ، يارب تحلم بيّ ..
قرأ الرسالة بضحكة ساخرة وهو يقول :
-يبقى لا راحة في نوم ولا صحيان !! أنتِ چايبة الصحة دي منين !!
ثم ترك هاتفه على الكمود ووضع يديه تحت رأسه وهو يراقب السقف الذي يزاوله صورتها ، فهبت الفكرة برأسه وهو يأخذ هاتفه :
-انا لازم اعتذرلها عشان قلة ذوق النهاردة ..
وبدون تفكير ضغط على زر اتصال فاستقبلت ليلة مكالمته صارخة بفزع مستغيثة برفقاتها :
-يا خبر ابيض بيتصل ، الحقوني .. امشوا امشوا باي ، هشوفه عايز ايه .. باااي .
انهت المكالمتيـن في آنٍ واحد وهي تجوب الغرفة بعشوائية تأخذ شهيقًا وزفيرًا وتتفحص حمرة خدودها :
-ليلة ليلة نثبت ونجمد ، اهدي اهدي خلاص ..
ثم قفلت نور غرفتها ومددت في فراشها وعاودت الاتصال به ، فـ رد من أول جرس ملهوفًا :
-زين لساتك صاحيـة ..
اتكأت على وسادتها مستخدmة نبرة صوتها الهادئة التي كانت تتحدث بها شهرزاد للملك :
-بجهـز حاجاتي لزوم السفر عشان منساش حاجة ..
-هتتحركي الساعة كام !
-اتفقت مع عمو چابر على قبل الفجـر كده ، عشان مش بحب الوداع ، همشي في هدوء والكُل نايم ؟!
هل من المنطق أن يمر الحب علينا دون أن يعرفنا عليه؟! وضع يساره تحت رأسه فبرزت عضلات يده :
-يعني لو مكنتش كلمتك كُنت هصحى مش هلاقيكي !!
كتمت صوت ضحكتها وهي تضم الوسادة :
-بالظبط .. حتى مامي معندهاش خبر ، حابة عملهالها مفاجأة ..
-أمم ، قوليلي مالك ، وشك كان ماله النهاردة !
-لا خالص ، أنتَ عارف بس عشان تعب مامي وكده !! قلقانة عليها هي ملهاش غيري ..
ثم أتبعت:
-مبروك ، كان شكلك حلو ، عريس بجد .
-الله يبـ.ـارك فيكي ..
ثم صمت لبرهة وأتبع لسانه داعيًا وبقلب غير مُؤمم :
-عقبالك ..
-لو عريس شبهك أنا موافقـة !!
غرد وجهه بمعالم السرور :
-شبهي كيف يعني !!
قضمت شفتها السُفليـة بتوجس وهي تذكر نفسها سرًا -ليلة خلي بالك ده شخص خاطب أنتوا صحاب وبس – فأتبعت متنهدة :
-جدع و طيب وعنده هيبة تخض أي حد .. وطويل زيك ، ويناكف فيا كده طول الوقت .. وأنا هحبه على طول.
اعترف قلبها بحبـه بدون ما تنتطق حروف الكلمـة ، رفع حاجبيه مستمتعًا بحديث العـ.ـذ.ب معها وقال بخبث:
-لو عترت فيـه همسكهولك من قفاه وهجوزهولك غـ.ـصـ.ـب عنه .
-ليه غـ.ـصـ.ـب عنه !! هو لما يشوفني آكيد هيحبني .. صح !
رد مؤيد وهو يتنفس صوتها :
-صح يا ليـلة .. هااه اسيبك تنامي زين طريقك طويل!
فتح شهيتها في الكلام معه ، فبسطت جسدها بهدوء وهي تفتح له أبواب قلبها :
-تعرف انا ليا ٤ سنين مش بعرف انام كويس
بنام وانا حاسة بخــــوف ، بكون بردانة في عز الصيف .. بابا مشي وأخد كل حاجة حلوة معاه ، والغريب أني حاسة نفس الإحساس ده النهارده.
راقت له الفكرة فقال :
-لو حابة ممكن نرغوا لغاية ما تنامي عشان متخافيش ..
ردت بعفويتها المعهودة :
-أنا كُنت خايفة ، بس دلوقتِ مبقتش خايفة ، تحب نحكي في أيـه !! أحكي لك حواديت ؟
ضحك قلبه قبل وجهه من اقتراحها العـ.ـذ.ب :
-هو أنا كام مرة أقول لك أن الرجل مننا عاوز لقمة طرية تطري على قلبه اخر اليوم مش حكاوي .
-ماهي شهرزاد مكنتش تعرف تعمل أكل زيي ، أصلها قدوتي ..
سكب عليهـا بحر حنانه ليعود مراهقًا فـ الصبى وهو يقول :
-طب احكي يا ليـلة ..
أجمل ما قيـل لوصف إمراة تُشبهها :
‏”أنتِ المرأة التي تكدستْ فيها الرقةُ ، حتى فاضت ، فأزهر اليأسُ موسيقى ، وتحوّل الألــمُ إلى شلال. يجَوْهركِ الحبُّ ، والألــم من الحب ، لأنكِ تبرقين في العتمة ، تشعّين مثل ماسة ..”
كل منهما وجهه بالسقف يتأمل صوت الآخر والضحكات لم تفارق وجهه بابتسامـ.ـا.ت الحُب المترعرع بينهم .. باتت الكلمـ.ـا.ت لحن مدوي بينهمـا تنقله الفراشات في تلك الليلة البـ.ـاردة التي لم تخلٌ من أساطير وحكاويهـا المثيـرة ….
ظل حديثهم متبادل قرابة الساعتين حتى أنها كانت تُلملم أغراضها وهي تُكلمـه حتى دق ناقوس الساعـة الثالثة ، فودعها لينام محتجًا بتعب اليوم وتركها تُكمل لملمة أشياءها .. بدلت ملابسها وارتدت ملابسها الشتوية الثقيـلة وللمرة الأول تشعر بثقل قلبها رغم أنها ستعود الإسكندرية موطنها الأصلي ..
أخبرها ” جابر” بإنه في انتظارها أمام البيت ، فضبت حقيبتها وأكدت عليه بأنها ستكون أمامه خلال دقائق .. كتب رسالة نصية لهارون :
-بليز سلم لي على أحلام كتيـر وبوسهالي ..
ثم سحبت حقيبتها خلفـها وغادرت غُرفتها وتحركت نحو الحديقـة الخلفية وهو تعبث في هاتفها غير منتبهه للطريق حتى وصلت لموقف سيارتها الذي ينتظرها بهِ جابر، فرفعت عيونها باستغراب عنـ.ـد.ما وجدت هارون يقف أمام سيارتها في كامل أناقتـه وملابسه الشتوية ويقول ضاحكًا مقلدًا صوت جابر :
-في تأخير ٣ دقايق يا ستِ ليله ..
انفجرت ضاحكة غير مصدقة ما تراه :
-أيه ده بجد!! أنت ما نمتش ؟!
أخذ الشنطة من يدها ثم أعطاها لجابر ليضعها في مؤخرة سيارتها :
-وانا قليل ذوق للدرچة دي !!
بوجه أشرقت بهِ الشمس قبـل السماء:
-لا بجد !! أنت هنا بتعمل ايه !! مش قولتلك مبحبش الوداع !
-لا منا مش هودعك ، أنا هوصلك لغاية بيتكم .
-ايـه ؟! أزاي !! لالا مستحيل أقبل ، أنا أصلا وافقت بجابر عشان مكـ.ـسرش كلمة عمو الحج ، لكن اتعبك معايا ! مش هينفع .
أخذ مفتاح سيارتها من يد جابر وقال :
-متكـ.ـسريش كلمة أبوي ، لكن كلمتي أنا تتكـ.ـسر عادي !! اركبي ..
أمسك بكُمه غير مستوعبة :
-هارون بيه أنتَ بجد هتوصلني اسكندرية بنفسك !! طيب وشغلك ؟كده هتتعطل !
قال مبررًا بكذب :
-بصراحة نفسي رايحة على وكلة سمك وجمبري محصلتش ، فـ أنا چاي لمصلحتي أصلا مش عشانك ، يلا اركبي …
-لا والله !! خلاص هعزمك !
وقف جانب السيارة من جهة القيادة :
-موافق بس أنا اللي هحاسب ..
••••••••••
~في الثامنـة مساءً من نفس اليـوم ..
صفت سيارة ليلة التي قادها هارون أمام “ڤيلا الجوهري” بأحد الأماكن الراقية بالاسكندرية .. فأصرت ليـلة ألا تتركه يعود للفندق قبل أن يتعرف على أمها، وكأنها قدmت له ما يبحث عنه منذ أيام .. صف السيارة وهبط الثنائي منهـا ..
حمل هارون حقيبتها واتبع سيرها وهي تفتح البوابة مندهشة:
-غريبة هو السكيورتي فين!! بس عربية مامي هنا تبقى فوق.
ثم وشوشت له :
-متعملش صوت بقا عشان نفاجئها ..
فتحت باب الڤيلا بحرص شـ.ـديد ووسوست له أن يدخل بمهلٍ ، فرحبت به بهمس:
-نورت بيتنا ، استناني هنا وأنا هروح أشوف مامي فوق ..
جلس هارون مكان ما أشارت له وهو يتأمل تفاصيل البيت العصري والمكون من أثاث باهظ الثمن بإعجاب، تسللت ليـلة على أطراف أقدامهـا نحو غرفة أمها التي فتحتها مهللة كالطفـل :
-مامـي أنا جـ…..
لتقع عينيها على فراش أمها الذي يجمع كل من نادية ورشـ.ـدي في وضع مؤسف وصعب للغاية أن يراه أي أحد مهما كان ، تجمدت الدmاء في عروقها وسقطت حقيبة يدها بالأرض وهي تراهم يستران أجسادهم باللحاف لتقول بأعين تائه في بحور الصدmة :
-أيـه ده !!!!
قرأت ذات مرة نص شهير يقول :
“لا تُطعم طعامك إلا لمن يشتهيه.”
وهنا يتحدث عن البذل في غير موضعه، وآيضًا عن مشاركة إنجازاتك وخطواتك مع مَن لا يأبه لها.. أو بالأحرى لا يأبه لك “أنت”…..
‏•عنوان الفصل :
( قُل لي بربك من تكــون )🍂
••••••••••
~العـزايـزة .
يجـلس ” خليفة ” مكفهر الملامح أمام هيثم الذي غلب سلطان النوم سلطان هواه في مرافقة لليـلة لبلدها ؛ وهو يلومه :
-أنت عُمرك ما كُنت قَد أيه حاجة اطلبها منك !! يعني أيه تنام وتخلي أخوك يسيب مصالحه وخطيبته ويوصلها هو !! وأنتَ فاضي لا شغلة ولا مِشغلة .
ضـ.ـر.ب كفًا بكف وهو يقول :
-هي مش قالت مسافرة ٦ الصبح ، صحيت لقيتها مشت ، أيه ذنب هيثم يا عمدة !! المرة الچاية هنجـم وأقرا الأفكار عشان يبقى لي شُغلة ومِشغلة ..
كانت أحلام بينهمـا غارقـة في الضحك لتأكدها يوم بعد يوم من مشـاعر هارون ناحيـة ليلـة ، فربتت على ظهر خليفة بنوايا خفيـة :
-هو أيه وأخوه أيه بس يا حج ، ما واحد ، كبر مخك وخلي هارون يشم شوية هوا نضاف بعيد عن العزايزة وغُلبها ..
-استنى أنتِ يا أحلام .
ثم تطلع لابنه معاتبًا :
-أنت ما روحتش ليه شُغلانة البنك اللي أخوك چابهالك !!
-يا وقعة سودة هي أي عركة وخلاص !!
قال هيثم جُملته وهو يحك برأسه ليبرر سبب عدm ذهابـه بعفويته :
-أصلهم بيصحوا بدري قـوي!!
-أيــه !!
برر بحُجة :
-لا منا رُحت المقابلة وشكلي معجبتهمش !!
اختنق خليفة من استهتار ابنه :
-يعني ايه معجبتهمش !! هو لعب عيال !!
هب هاربًا كالفأر من القـط الذي تحالف عليه للتـو :
-قالولي هنشوف ونردوا عليك يا حچ !! وبعدين أنا اتفقت مع هارون همسك المصنع الواقع ديـه وهخليه أكبر مصنع في صعيد مصر ، أنت خليك واثق في هيثم حبيبك .
رد بيقين :
-والله ما واثق فيك من هِنه للباب ، عمرك ما اخترت حاجـة عِدلة ونفعت فيها !!
فتدخلت أحلام التي زاد حُبها لهيثم إثر عدm ذهابه مع ليلة وتركة الفسحة للعاشق أخيه لتقول مداعبـة :
-هو من بعد ما ساب الهندسـة وخش تجارة والواد خاب يا حچ !
غمز لها كي تهدي النفوس لا تُشعلها :
-خليكي فاعل خير يا أحلام وانا سبتها بمزاجي !! منا سقطت وبعدين مالها تِجارة دي كُلية الشعب وأنا من الشعب !!
ثم وشوش لها بضحك :
-هو مش الشعب ده كله بنات تتاقل بالدهب !!بيني وبينك انا مسقطتش بكيفي ، دول بنات هندسـة معجبونيش ، لقيت بنات تجارة أنقح وأحلى ..
ثم تنهد وهو يمسح على صدره :
-وأنتِ عارفة قلب هيثم ضعيف ..
ضـ.ـر.ب خليفة الأرض بمؤخرة عكازه وهو يتمتم :
-عليا النِعمة ما أنت نافع ! وما هتتلم غير لما أجوزك .. وعروستك لقيتها ..
تلهف هيثـم لجُملة أبيـه :
-أنا في عرضك ألحقني بيـها ومش هنسالك الخِدmة دي .. هي مين ! حلوة كيف أحلام ولا عفيـة كيف صفية !!
قرأت أحلام بعينيه ترشيح ليلة لهيثـم فتدخلت لتنقذ الموقف قبـل أن يعلق ابنه بآمال خائبة وقالت :
-أمشي يا هيثم أنتَ دِلوق ..
-والعروسة !!
-اختارها وهجوزهالك أنا .. يلا .
انصرف هيثم على الفـور بدون أيه نقاش إثر رنيـن هاتفه من أحد الخفر المعينين بمراقبـة ” جميلة ” ، فخرج وقفل البـاب خلفه :
-أيـوة يا مرسي !
توارى مرسي خلف الشجرة وهو يقول متهامسًا :
-ايوة يا هيثم بيه ، الست جميلة خرجت من بيتهم الساعة ٧ و٤٠ دقيقة ، راحت الأجزخانة قعدت بالظبط ٧ دقايق ثم عادت وبحوذتها كيسة سودة ، بس معرفتش چواتها أيه !!
-أعرف وكلمني !
ألتفت خليفـة لأحلام وهو يشكو لها :
-عاوزة أقرب البت من هيثم عشان أجوزهاله وهو زي ما أنتِ شايفة ، حارق دmي !
عاتبـته أحلام بلُطف:
-كيف يا حچ وأنا اللي عقول عليـك تفهمـها وهي طايرة ، هيثم مش رايدها دي واخدها كيف أخته ، بس هارون يا عيني وياقلبي على هارون ..
برقت عيني خليفـة على تلميحات أحلام :
-قصدك أيه يا أحلام !!
-قصدي الحب ملى قلب هارون وخلاه يهمل الدِنيا كلها ويروح معاها على اسكندارية .. أنا كنت شاكة بس دِلوق اتاكدت ، ولدك حب غُفران يا حج ، حب بيتنا من دmنا ومن لحمنا ..
رد مندهشًا :
-يعني ايه !! وخطيبته !! طب كمل ليه وهو مش رايدها !
-عشانه الكبير ومش عاوز يعلق قلبه بحبال دايبـة ، ما يعرفش اللي فيها يا حبة عيني ، ورط نفسه قبل ما يتورط في قلبـه ، بس هنقولوا أيه الحب كيف الدخان مهما حاولت مش هتعرف تداريـه !
-هو قالك حاجة!
-ماقالش ، ما أنت خابر هارون زين ومستحيل يكـ.ـسر عُرفنا ، هارون هو عريس غفران ، هو اللي هيقف في ضهرها قصاد العزايزة ويفرض وجودها على الكُل ، البت عاوزة ضهر شـ.ـديد تتكي عليه ..
ثم امسكت بكفه :
-اتصرف يا حج قبل ولدك ما يتورط في بت صالح مهياش توبه ..
-البلد مقلوبة على هلال واللي عمله وإحنا مش حِمل نفتحوا طاقات نار في وشنا ، قلت اصبر شهر ولا اتنين تكون الدِنيا راقت .. بس أنا مخلي عيني على البت وأمها ..
تأوهت أحلام بسرها :
-ااه أمها القرشانـة دي _ثم غمغمت بالسر المدفون بينها وبين هارون_يارب يا هارون تعرف توقفهـا عن حِدها..
~بالمطبخ ..
دخل هيثم وراء ثرثرة زينة التي تدوي بالمكان وهي تتشاجر مع الهواء الذي تتنفسه :
-يِلد عليكي الحال ديه يا عمة !! أنا من ساعة ما سمعت اتكربجت حطيت الطرحة على راسي وچيت لك جري !! يعني ايه يهمل مصالحه ويروح معاها !! اااه يا ناري ؟ ايه هتتخـ.ـطـ.ـف فـ السِكة ماهي زي العفريتـة ملفلفة مصـر كُلها !!
ثم دارت لعمتها التي تصنع الجُبن بنفسها :
-واللي يشل تلفونه بيرن ولا حتى معبرني !! ياما يتقفل في وشي !! عمة انا الحال العوچ دي مش عاجبني !! شوفي لك صِرفة .
-وه وه يخربيتك !! كل ديه ريـحة شياط !! هتولعي يا حزينة !
اقتحم هيثم المطبخ قائلا جملته الأخيرة بسخرية ، فانفجرت زينة بوجهه :
-هيثم مش ناقصاك ، رن شوف لي أخوك عيعمل إيه مع البت دي !
سحب ثمرة فاكهة من الطبق الكبير أمامه وقال :
-آكيد قاعد على البحر بيضـ.ـر.ب وكلة سمك من اللي يرموا العضم !
-مع البت دي ؟!
-أومال مع أبو چالمبو !! طبعًا مع القمر ..
ضـ.ـر.بت على سطح الطاولة بغلٍ :
-واعية لتصرفات عيالك يا عمة !! هي البت دي ملهاش أهل يلموها بعيد عنينا !!
-طب بذمتك يا صفية مش البيت دmه تقيل من ساعة ما مشت والله ما طايق اقعد فيه !! البت كانت عاملة روح في البيت ، مش زي واحدة كل ما شوفها بتنوح !!
ثم مال على مسامع أمه :
-لقيتي أيه عِدل في جواهر دي عشان تجوزيها للراجـ.ـل العاقل اللي حيلتنا ..
هبت زينة معترضة :
-وهو أخوك كان هيلاقي ضُفري فين ! ديه مفيش راجـ.ـل في النجع كله متقدmش لبت صالح .. لولا بس القلب وما يريد!
-قصدك القلب لما يخيب !!
ثم دنى منها وهو يستلذ بمذاق الفاكهة وإغضابهـا :
-ت عـ.ـر.في يا زينة أن في أسطورة عتقول ، لو بينك وبين الراجـ.ـل اللي عتحبيه حرف واحد مشترك في اساميكم ؛ يبقى ديه اسمه حُب من طرف واحد وهيمـ.ـو.ت عطشان بعون الله !
انفرجت عينيها :
-كـيف ديه يا هيثم!! خدتها في الكُتب !!!
••••••••••••••
~اسكندريـة.
عم الصمت على غصن الصدmة وكل منهما يحاول إدراك هول الموقف الذي عجزت الكلمـ.ـا.ت عن وصفه .. اعتدلت نادية من نومتها لتبرر بوقاحة :
-ليلة .. متفهميش غلط أنا وأونكل رشـ.ـدي متجوزين !
حانت منها نظرة ساخطة على اعترافها :
-على سرير بابي !! وفي أوضة نومه !! ليه تعملي فيه كده .. هو ده اللي تعبانة وتعالي فورًا يا ليلة !!
ثم بللت حلقها الذي جف من قسوة الصدmة وحانت منها نظرة مهزوزة لرشـ.ـدي :
-طيب وطنت أميرة !!تستاهل منك كدا ..دي أكتر واحدة وقفت جمبك ؟!
ثم انخرطت العبرات من مقلتيها هي تضـ.ـر.ب الأرض بقدmيها :
-أنتوا أزاي كده ؟! أزاي !!
تأهبت نادية لمفارقة فراشها بقميصها القصير للغاية.. فتحاشت ليلة التطلع إليها بضيق:
-لو سمحتِ .. أنا ماشية وياريت متعملوش صوت عشان معايا ضيوف تحت مش حابة يشوف مامي وهي متجوزة في السر ..
ثم انحنت والتهمت حقيبتها وصفعت الباب خلفها وهي تأكل خطاوي الأرض ركضًا وسُخب عينيها تمطر حـ.ـز.نًا وقهرًا .. اقتربت من هارون الجالس وهي تحاول إخفاء دmـ.ـو.عها عنه بأسف :
-لو سمحت يلا نمشي من هنا ..أنا أسفة بس .
وقف ببطء وهو يتأمل وجهها الشاحب :
-مالك !! وشك متغير ليه ؟!
كفكفت دmـ.ـو.عها بكفها المرتعش وهي تجر حقيبتها متأهبة لمغادرة البيت وهي تترجاه :
-لو سمحت ممكن متسألنيش أي حاجة مش حابة اتكلم .. وو و يلا بينا من هنا بسرعة ..
أخذ الحقيبة التي تجرها من يدها وغادر الثنائي البيت بعجلً في اللحظة التي انتهت فيها نادية من ارتداء روبها الطويل خارجة من الغرفة تبحث عنها وتنادي باسمها .. فعادت بأسف لرشـ.ـدي الذي يكمل ارتداء ثيابه وهي ترتمي على أقرب مقعد :
-مشيت .. أنا هبص في وشها أزاي يا رشـ.ـدي بعد النهاردة .. موقف زي الزفت .
اتبع رشـ.ـدي مبررًا جريمتهما بوقاحة :
-متكبريش الموضوع يا نادية ليلة مش عيلة دي مش صغيرة وفاهمة .. و اللي حصل حصل مش معقولة هتعملي حساب لبت فاشلة وهبلة زي دي !
انفجرت بشكواها :
-مكنش لازم تعرف دلوقتي يا رشـ.ـدي .. كدا فقدت السيطرة على ليلة .. و دي فقدت فيا الثقة كمان !! خسرنا كل حاجة .
ثم أكملت وهي ترجع شعرها الفوضوي للوراء :
-هي قالت جاية بكرة أيه جابها النهاردة بس !!
عاتبها :
-وأنت مادام عارفة أن المفاتيح معاها !! مقفلتيش ليه الباب يا نادية !!
تناولت يدها المرتجفة كوب الماء وأحد الأقراص المهدئة التي ابتلعتها على الفور وأتبعت :
-استلمت العشا من الدليفري ونسيت يا رشـ.ـدي نسيت .. وبعدين كفاية كلام شوف لنا حل للورطة دي !!
علق الكرافت على كتفيه وهو يسب بليلة علنًا كأن هناك ثأر قديم معها :
-فصلت الدmاغ اللي عاملها بت ال***
ثم جلس بجوارها وقال بمكر ذئب لعوب :
-ولا حاجة يا نادية سبيها يومين تهدأ .. وكلمها وشوية شحتفة من بتوعك على دmعتين وهي هتحن وترجع ..
ثم حك ذقنه مكملا حياكة خطته الدنيئة :
-وأنا هكلم شريف يخلصنا من التهمة دي ويتجوزها في أسرع وقت .. نادية الأرض اللي في العلمين دي كنز لوحدها .. لازم ناخدها منها حتى ولو التمن روحها ..
اختلج قلبها عند سماعها لجملته الأخيرة إثر تلميحه بنواياه الخبيثة جهة ليلة التي يود قــ,تــلها لمجرد الحصول على مصلحته .. فهبت معترضة :
-لا يا رشـ.ـدي .. ده مش اتفاقنا .. الاتفاق أننا نطلعها فاقدة الأهلية مش نقــ,تــلها .. دي بردو بـ.ـنتي وو
ارتدى قناع الإقناع وهو يقبل كفها:
-منا عارف يا حبيبتي مفيش أحن وأرق من قلبك .. بس المصلحة تحكم .. واتمنى ما نوصلش لكده .. أنت بس كسفي الجرعات عليها الفترة دي خليني أسدد ديوني وأفوق لك وأطلق أميرة وارمي لها فلوسها عالجزمة وناخد بيت لوحدينا بعيد عن الدوشة دي ..
ثم طبع لدغة العقرب كفها بقبلة أخرى :
-أنت عارفة أن رفعت الجوهري اشترى الأرض دي من أبويا بكام !! بملاليم !! وحاليًا سعرها يوصل كام!! ملايين الملايين !! مش حـ.ـر.ام كل الفلوس دي تبقى مع البت الهبلة اللي اسمها ليلة ..فكري فينا يا ندود ….يرضيكي رشـ.ـدي حبيبك وجوزك وابن عمك يتحبس وانتي في إيديك تنقذِه من الحبس !!
قــ,تــلت أخر ذرة من مشاعرها صوب ليلة التي تربت على يديها :
-تمام يا رشـ.ـدي .. اديني شهرين بس وموضوع ليلة دي كله هيخلص والأرض هترجع لك ..
رسمت الضحكة على ملامحه :
-هو ده الكلام وهي دي نادية اللي أعرفها ..
بسيارة ليلة والتي يقودها هارون الذي لم يكف عن التطلع لها في صمت بناءً على رغبتها كان يتبع الخريطة كي ترشـ.ـده على الطريق للفندق الذي حجز فيه قبل ساعة .. كانت جالسة في مقعدها ترتعش من البرد ومما رأته وتهذي بكلمـ.ـا.ت غير مفهومة لتختم صرختها بالسؤال المعتاد والذي يفتقر الرد وهي تخبط في صندوق السيارة أمامها :
-ليـــه ؟!ليـه كده !!
لم يتحمل رؤيتها في هذه الصورة وهو يشعر بالعجز في تخفيف همها الذي شك في سببه بدهائه ولكنه ما زال مجهول عنه زفر بضيق وهو يصف السيارة جنبًا وهبط منها بدون أي كلمة ..
كل ما فعلته تكورت بداخل مقعدها ودفنت وجهها بيدها وهي تتوسل للذاكرة أن تمحو صورة أمها وقدوتها من ذاكرتها وهي تئن بآهات مكتومة .. غاب هارون عدة دقائق حتى عادي وبيده علبتين من القهوة التي ابتاعها من المتجر المختص بها ..فتح بابها وقال بهدوء :
-هتحبي تشربيها فى العربية ولا تنزلي تقعدي على البحر ..
رفعت جفونها وهي تراقب يده الممتدة لها بالمواساة .. فأخذت منه القهوة بمهلٍ وقالت بفتور :
-عادي .. أي حاجة .
قفل باب السيارة ودار ليجلس بمكانه وهو يحكم قفل الأبواب ويلقى نظرة على البحر الثائر على يمينه كحـ.ـز.نها تمامًا وقال:
-الجو صعب .. خلينا في العربية أحسن .. عشان متبروديش .
أخذت تلتمس دفء يديها من الكوب الساخن ورمقته بعينيها التي لم تكف عن البكاء قائلة :
-أنا ليه بيحصل معايا كل ده !! ليه بجـد ..
نزع غطاء كوب القهوة وهو يقول :
-أنا مش عارف أيه اللي حُصل .. بس أحلام تملي عتقول أن رب العالمين مش بيجيب حاجة وحشة .. كل حاجة ليها حكمتها ..
لفت الكوب بين يديها وهي تخر بالبكاء خارجة عن صمتها وكتمان و.جـ.ـعها أكثر :
-طيب وأيه الحكمة اللي تخليني أقضي أحلى سنين عمري في مدرسة داخلي .. أيه الحكمة اللي تو.جـ.ـع قلبي على جدو وبابا .. أيه الحكمة اللي تخليني أخد أدوية وأنا لسه في السن ده !! أيه الحكمة اللي معطلة تحقيق حلمي لحد اللحظة دي ..
ثم انخفضت نبرتها المقهورة وهي تطالع عينيه التي تراقبها باهتمام بالغ وقالت :
-أيه الحكمة من إني أشوف مامي في سريرها مع واحد غير بابي ..
ثم اختلج قلبها وارتفع صوت أنفاسها وهي تقول :
-أسفة مكنتش حابة أحكي بس جوايا نار مش عارفة تهدأ ..
تأكد من شكوكه التي تزاوله منذ مفارقتهما لبيتها في هذه الحالة .. تنهد بضيق وهو يمضغ حـ.ـز.نه عليها بين فكيه ويتحاشى النظر إليها شاردًا في حقيقة هذه السيدة التي تثور حولها الشكوك .. أخرج نفسًا طويلًا وهو يعصر مقود السيارة بيده مغلولا ويعاود النظر إليها وهي تقول :
-مامي طلعت متجوزة بابا شريف في السر .. طيب ليه تعمل كده !! ليه وهي مش مجبرة لو عايزة تتجوز تقول أنا مش همنعها.. بس ليه في السر !! ومالقيتش غير بابا شريف !!وطنت أميرة صاحبة عُمرها !
أطفئ النيران التي تحرق دواخله برشفة من قهوته وأتبع قائلًا ليلطف الأجواء بينهما :
-وايه الحكمة اللي تخليني سايب كل مصالحي وقاعد اتساير معاكي ونشربوا قهوة على البحر !!
أرسلت إليه نظرتين مهزوزتين وأخبئت الثالثة بقهوتها وهي تتمتم :
-مش عارفة !!
-شوفي يا ليلة .. مش لازم كل حاجة تحصلنا نعرف حكمتها في لحظتها .. الانسان مش ملزم يعرف كل حاجة في حياته ..
ثم ملأ رئته بنفسٍ طويل ممزوج بعطرها وأكمل :
-يعني لو جينا قبل عشر سنين وسألتك أيه الحكمة من واحد كان بيلم شنطة هدومه عشان يتحرك على مصر في اليوم اللي صدر فيه قرار تعينه عشان يكون قاضي عسكري !! لقى أبوه واقف قصاده وقاله مش توبك .. أنت توبك العمدية وكرسي أبوك .. العزايزة عاوزة راجـ.ـل من جبال زيك ..
لمعت عينيها بشغف الدهشة :
-ده المفروض انت ؟؟ وسمعت كلامه طبعا وضحيت بمستقبلك !!
رد مقتنعًا غير نادmًا على قراره :
-أبويا أمر يا ليلة ومينفعش أكـ.ـسرله كلمة حتى ولو غلط .. ديه كلام ربنا هو مخلفنيش عشان أخيب أمله في ، وأصغره وسط الخلق…أو على الأغلب دي مشكلة الكبير بيكون شايل المسئولية .
-أحيـــه بجد !!!
رفع حاجبه ممازحًا :
-مفيش فايدة فيكي !!
رسمت ابتسامة خفيفة على وجهها لا تتناسب مع أجواء حـ.ـز.نها الذي سحبها منه بدهائه وفطنته .. فقالت :
-لا أنت هنا في اسكندرية يعني أقولها براحتي ..
-مش براحتك قوي .. استني لما امشي ابقى قوليها براحتك ..
-ما أنت قولتها على فكرة .. ولا تحب أفكرك !
ضحك بوجهها منتصرًا على حـ.ـز.نها الذي يملأه :
-ما انتِ تخرجي الواحد عن الملة مش عن شعوره وبس ..
كانت تتأمله كأنه طوق النجاة الوحيد لشخص غريق وهي تقول :
-بجد بجد شكرا لانك معايا في الظروف دي .. مش عارفة لو مكنتش هنا أنا كمان ممكن أروح فين .
انكـ.ـسر غصن من شجرة تمرده على قلبه ليفول بهدوئه الاعتيادي :
-ولا حاجة متكبيرش الموضوع يا ليلة .. امك اتچوزت معملتش حاجة حـ.ـر.ام .. ااه حقك تزعلي بس يومين وهتتقبلي الموضوع ..
ثم أتبع من وراء عقله :
-اقعدي معاها وأفهمي الدنيا … يمكن عندها عذرها ..
تأرجحت عينيها بشك :
-انت شايف كده !!
تأهبت لقيادة السيارة :
-ديه كلام العقل .. في الأول والأخر دي أمك ومن حقها تعيش حياتها كيف ما هي عاوزة ..
صمتت للحظة تفكر في كلامه وهي تضع الكوب بمكانه بالسيارة :
-بس هي لو كانت بتحب بابي مستحيل تقدر تتجوز غيره ..
رد بملل :
-الأيام اللي أحنا فيها تنسي الواحد اسمه .. مش هتنسي الحب !!
-ااه طبعا .. انا لو قلبي حب حد مستحيل يعيش مع حد غيره .. ده ما يبقاش حب ..
رد بنبرة العقل :
-ده يبقي هبل يا ليلة .. الحُب اللي يسـ.ـجـ.ـنك يبقى قِلته أحسن.. متخليش حاجة تِلوي دراعك وتشغل قلبك .. متخليش فرحتك متعلقة على وجود نفر.
أجابته بنبرتها الحالمة :
-الحب مش هبل .. الحب أحلى حاجة في حياتنا .. والحياة كلها شخص واحد نرتاح له يا عمدة ونعيش معاه العُمر .. أنتَ ليه مصمم تحبس قلبك في تابوت!! ليـه مش سايبه يحب ويتعلم ويغلط ، ليه كل حاجة محسوبة أوي عندك!! كده مش صح .
أرسل لها نظرة خاطفة :
-ونلاقوه فين الشخص ديه !!
-مش لازم تلاقيه .. هو هيجي لحد قلبك ويفتح الباب ويتربع جواك وأنت مش هتقدر تقوله لا .. ولا تمنعه .
ثم عادت لأخذ الكوب الخاص بها وأتبعت بمزاح :
-بس انا مبسوطة بجد أنك عرفت تقول ليلة .. معرفش ليه كنت مصمم على ليلي دي كانت تضايقني ..
رد ببرود :
-منا كنت قاصد .
-قاصد تقول لي ليلي ؟
-لا قاصد أضايقك …
هبت كالطفلة بوجهه :
-ياسلام!!وأنا كُنت عملت لك ايه يعني؟! انت والدُنيا عليا! ده مش عدل .
تحرك بالسيارة وهو يقول :
-لا هو ديه العدل عشان عضمك طري ، لازمًا تنشفي هبابة …
•••••••••••
‏”متى سينتهى الخريف الذي لا جرد روحي من كل شيء ، متى سوف تنتهي كُل هذه التناهيد الحارقـة، متى سوف تخرج هذةِ الليالي الموحشـة مني !”
عنـ.ـد.ما وصلت رسالة نصيـة لرغد بفتـح هاتفـه الذي ظل مُغلقًا لمدة أربعة أيام ، هرولت كالمجنـونة لتطلب رقمه من خط مجهول اشترته صباح اليـوم .. كان يتمدد على فراشه بجـ.ـر.ح كتفه المتعري والمُضمد بالشاش الأبيض بالمشفى العسكري ، رفع جفونه لأعلى نحو الضابط رفيقـه وهو يقول :
-حمدلله على سلامتـك يا سيادة الرائد ..
رد بصوت متألــم وهو يكتم صوت رنيـن هاتفـه ويقول بابتسامة رضا :
-عمر الشقي بقيِ ، يكش يضبط نيشانه المرة الچاية ويجيبها في القلب .
عارضه رفيقه :
-بعد الشر عنك يا باشا ، البلد محتاجالك .. شـ.ـد حيلك لسه طريقنا طويـل ..
-وراهم وراهم لغايـة ما أخلص عليهم يا يخلصـوا هما عليّ ؛ مُحى مش عاوز أي خبر يوصل لناسي في الصعيد ، كُلها يومين وهبقى زي الفل ..
ربت مُحي على كتفه السليم :
-معلوم يا فنـ.ـد.م ، هستأذن أنا عشان عندي دورية .. وهزورك الصبح ..
انتظر هاشم حتى غادر مُحى من غرفته الخاصة بالمشفى العسكري التي يقطن بها ليطلع على هوية الرقم المجهول بقلب يشُم رائحتها ، لم يستطع أن يتجاهل الرنين المتواصل ربما إنه في حاجة لمسكن صوتها ، اكتفى بسحب زر القبول ووضع الهاتف على مسامعـه ، فتسرب لقلبه أنفاسها المحترقة في محرقة الغياب ..
انتفضت من مكانها وهي تلهث مفطورة البكاء وهي تتوسله :
-هاشم ، عشان خاطر حُبنا متقفلش ، أنا رغد حبيبتك ومراتك وحتة من قلبك زي ما كُنت دايمًا تقول..
ثم هبطت بالأرض وهي تمسح الحائط بظهرها ، وأكملت باكية :
-طمني عليك الأول ، قلبي حاسس فيك حاجـة بس مش عارفة هي ايه ! أنت كويس مش كده ، ولا مش كويس عشان بعيد عني !! وانا زيك بالظبط بمـ.ـو.ت كل دقيقة ألف مرة .. أنا مش قادرة أعدي الساعات من غير ما استناك فيها !! بس يا ترى هتيجي أمتى ؟!
تكرر صدى تعب الرصاصة التي ضُربت بكتفـه وهو يعتصر جفونه من شـ.ـدة وهج القلب الذي سمع احتراقه بموطن الجـ.ـر.ح .. لم يصلها من صوته إلا آهات تحترق مثلها تمامًا ، تبللت أناملها بماء لعابها وهي تكمل شكواها منه إليه:
-كل حاجة وحشة من غيرك يا حبيبي.. هاشم بلاش تعمل في قلبي كده أنا ماليش غيرك .. صوتك وحشني ، اسم رغود منك وحشني.. حـ.ـضـ.ـنك واهتمامك ولهفتك عليا وحشوني؛ كل ده راح فين .. انا عمري ما هبطل استناك حتى ولو مش جاي يا هاشم !!
حرائق كلمـ.ـا.تها اشتعلت بصدره وهو يستمع للمزيد منها كأنه أراد أن يروي قلبه منها ، فأتبعت :
-تعالى ننسى الماضي وننسى كل حاجة ونرجع ، أنا مخترتش أهلي زي ما أنت كمان مخترتش أهلك .. أهلك اللي لو عرفوا بحقيقة جوازنا هيقــ,تــلونا ، مش هو ده السر اللي أنت مخبيه عليا ..
ثم احتنضت جوفها الذي يحمل مضغة حبهم الكبير :
-تعالى نهرب ونسيبلهم حياتهم الظالمة دي ، ونعيش أنا وأنت في أي مكان ، المهم أنك تكون معايا، هاشم انت اختياري الوحيد في الدنيا كلها متخذلنيش.. تعالى وأنا والله مش هعاتبك ، أقولك موافقة جوازنا يبقى في السر العمر كله بس متحرمنيش منك ..انا بمـ.ـو.ت بالبطيء يا هاشم ..
ثم ضمت ساقيها إلى صدرها وأكملت :
-هاشم متعملش في رغد حبيبتك كده ، زي ما أنا خبيت أنت كمان خبيت ، أنت التمن شغلك وأنا التمن حياتي .. والله ما تغلى عليك ؛ بس تعالى أمـ.ـو.ت حـ.ـضـ.ـنك مش عايزة أمـ.ـو.ت وحـ.ـضـ.ـنك واحشني … رد عليا هتفضل ساكت كتير ؟
رفس كمن يركل كُرة الحنين بقدmه وهو يشتعل شوقًا وشوكًا لرغد قلبه وهناه ليقول :
-أحنا الاتنين غلطنا يا رغد ، وبندفع التمـن ده .. معنديش حاجة أقولها غير أن ورقة طـ.ـلا.قك هتوصلك في أقرب وقت ..
من هذا الذي يتكلم !! أ هل هاشم القيادي رجل الجيش أم هاشم أليف روحها وحبيب عمرها !! من يكون ذلك القاسي الذي قدm لها شهادة وفاتها بسكين بـ.ـارد وهي ما زالت حية ترزق بحبه !! لم ينتظر ردها بل أنهى المكالمة على الفور حتى انه لم يسمح لقلبه أن يسمع اعترافها بوجود طفل برحمها ما ذنبـه !! ما ذنبه أن يُعـ.ـا.قب بنفس عقـ.ـا.بهم .. قفل جفونه وانكمشت ملامحه قابضة على جمر الحـ.ـز.ن الذي يقلع حبيبة فؤاده من روحه .. أما عنها فانفجرت حد الانهيار العصبي كالبركان الذي لا يمكن أن يخمده أحد .
ويبقى التساؤل هنا :
“ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود أو قشة لتنقذه من الغرق !! ما الجُرم في إشعاله لفتيـل من اللهب كي يُنير الدرب بعينيه فيحرقه !! ما الجريمة في سعى المرء ليحيا بعد ما قــ,تــلتـه الحيـاة فيُمت وهو يحاول!! ما الكارثة في حبي لك !! ما سينقصه العالم أن تركك لي لآخر عمري ”
••••••••••••••
ذهب كُل من ليـلة وهارون لأحد الفنادق الراقية بالاسكندريـة .. حجز لهما غُرفـتين مجاورتين وبعد البحث المتعدد آخيرًا وجد الموظف غرفتين كطلبه .. صعدت ليلة غُرفتها ورمت أشياءها بملل ، ثم رمت جسدها على السريـر الذي يحمل النار والنور في آن واحد ، نار أمها ونور وجوده معها ، ضمت الوسادة لحـ.ـضـ.ـنها متمنيـة أن يبقى هنـا للأبد ، لا يفارقها ولا تفارقه لقد وجدت أمانها المفقود منذ سنوات مضت ، لقد كان لوجوده سحر الونس والأمان السند الذي تفتقده بحياتها ….
أما عنـه لم تخلٌ رأسه من الشكوك خاصة بعد رؤيته لأحد رجـ.ـال أبيـه يختبئ أمام بيت ليلة !! فما السبب يا ترى !! أخرج هاتفـه ليتواصل مع الرجل الذي سبق و أوقف السيارة عنده قبل ساعتين ليعرف سبب وجوده وترك ليلة بالسيارة غارقة بحـ.ـز.نها لم تلتف لأي شيء حولها .. ظل يفكر دومًا حول ما يدور برأس أبيه ليراقب هذه السيدة وما صِلته بها ، حتى رد عليه الرجل بالهاتف فاكتفى متسائلًا :
-الراجـ.ـل اللي كان فوق نزل !!
-نزل يا عمدة من نص ساعة ، الرجل ده كل ليلة يجي ويمشي الساعة ٢ بعد نص الليل ..
-تمام متبلغش ابوي بحاجة وخلي كلامك معاي !! وخليك ماشي ورا الدكتورة دي لغاية مانشوفوا أيه وراها ..
انتهت مكالمتـه مع الرجل وهو ينزع سترته الشتوية وملابسه ليأخذ حمامه الدافئ من مشقة الرحلـة ويقضي فروضه الفائته على مدار اليوم وهو يستغفر ربـه جهرًا ..
~في تمام السـاعـة الثامنـة صباحًا ..
استيقظت ليلة على صوت رنيـن هاتفهـا باتصال هارون الذي لن يعتاد النوم أكثر من ستـة ساعات ، ما صلى الفجـر وقرأ أوراده مثلما اعتاد مع أخيه هلال من قبل ، ظل يجوب بالغرفة بملل من الشُرفة للغرفة للتلفاز الذي يمله ويمل من مشاهدته ..
آتاه صوتها المفعم بالنـوم وجفونها المُغلقة :
-صباح الخيـر !
لا يعلم سبب خفق قلبه المفاجئ بنبضة غريبة عليه عنـ.ـد.ما سمع نبرتها هذه ولكنه ما زال محافظًا على نبرة صوته الشامخة والثابتة وهو يطالع البحر من وراء الزجاج:
-كله ديه نوم ! أنا عاوز افطر .. وأنتِ مجوعاني على فكرة !
ضحكت بخفـوت ودلالٍ يحتل نبرتها :
-طيب اديني نص ساعة كمان أكون فوّقت وجهزت .
قال مهددًا :
-نص ساعة لو مجتيش هستندل وانزل افطر لوحدي ..
-لا والله نص ساعة بس .. مش هتأخر عن كده .
قالت جملتها وهي تُفارق فراشها بسرعة وتركض صوب الحمام لتكون بالموعد ، كان يحركها شيء أسمى من خطوات رجلها ، ربما قلبها .. صوته ، سعادتها بوجوده ، فرحتها بلذة هذه المشاعر التي تعيشها لأول مرة .. قبل الموعد المحدد بخمس دقائق كانت تطرق باب غُرفته وهي في كامل أناقتها … فتح لها الباب والابتسامة تشغل ملامحه وهو يقول ممازحًا و يقفل باب غرفته خلفه:
-أنا كُنت نازل بس لحقتيني على آخر لحظة !!
-من غيري!
-الجوع والنوم ملهمش سلطان …
تابعت خُطاه :
-ليه بقا ..
ضغط على زر المصعد وهو يقول :
-عشان هما الاتنيـن سلاطين ..
كانت مع كل كلمة منه تتعمد النظر إليه كأنه الشيء المميز الوحيد الذي تراه .. وصل الثنائي الي المطعم وكل منهما سحب طبقـه ليملأه في ” البوفيه ” ودار الحديث بينهما وهي تسأله بحـ.ـز.ن :
-أنت هترجع النهاردة!
كان منشغلًا بتعبئة صحنه الأبيض :
-لا قاعد معاكي يومين طلع لي شغلانة لازم اخلصها ، مضطرة تستحميلني..
-الله بجد !! خلاص مادام كده تروح معايا فرح النهارده.. أنا مكنتش ناوية أروح بس أي رأيك نروح سوا ! وننبسط شوية .
رفع حاجبه معترضًا :
-أروح فرح معرفش فيه حد!
-ما أحنا هنروح سوا ، بليـز وافق عشان خاطري ..
لم تمهله فرصة للاعتراض فأتبعت:
-أحنا هنروح لصاحب القناة عشان بيجي اسكندرية يومين بس سبت وأحد ، واقدmله الفيديوز وبعدين نلف سوا نشتري حاجات لزوم الفرح ، وحاجات ليك آكيد مش هتقعد باللبس ده يومين .. هاه قول موافق بقا ..
رغم عدm اقتناعه إلا أنه أحب حماسها وفرحتها بوجوده معها في هذا اليوم ، وافق على مضض وبعد ما فرغ الاثنان من تناول وجبة الإفطار، بدأت رحلتهما لـ مكتبت المدير التنفيذي بأحدى القنوات الفضائية.. أخذت ليلة الكاميرا وهي تطلب منه أن ينتظرها بالسيارة والقلق يحوم بملامحها:
-ادعي لي بقا ! يارب الفكرة تعجبه ..
-منصورة أن شاء الله يا ليـلة .. خليكي واثقة في نفسك متخليش حاجة تهزك مهمـا كانت النتيجة..
قال جملـتـه بنبـرة ناصحة وهو يتكئ على مقعد القيادة ثم رفع حاجبه مشجعًا :
-يلا اتوكلي على الله وهستناكي …
تقبلت نصيحته بسعة رحب وهي تفارق السيـارة وتدلف بداخل المبنى الفخـم المُحاط بالزجاج ، هبط هارون من السيارة متجهًا نحو عربة القهوة الواقفة ليطلب قهوته و يتساير مع الرجل حول هوية ذلك الشخص صاحب هذا المكان الذي ستُقابله ليلة ..
مرت قرابة النصف ساعة حتى غادرت ليلة مكتب هذا الشخص الذي عاد ليجري اتصاله برشـ.ـدي ليخبره :
-رشـ.ـدي بيه ، ليلة لسه نازلة من عندي .. وزي ما اتفقنا ، مفيش قناة في مصر هتشغلها … أنا حطمتها على الآخر .
-عفارم عليك يا شناوي بيه ، دي خدmة عمري ما هنساهالك …
عادت مطأطأة الرأس محاولة اخفاء دmـ.ـو.ع عينيـها عنه والخزى يعقد ضبابه فوق رأسها .. كان واقفًا أمام سيارتها في انتظارها فما اقتربت منه سألها:
-خير يا ليلة !! حُصل ايه !!
هشت على دmـ.ـو.عها بآهاتٍ مُلتـاعة :
-زي كُل مرة يا هارون ، محدش راضي يشغلني .. هو أنا بجد فاشلة زي ما بيقولوا ، ولا هما اللي اتفقوا عليا يدmروني .. انا تعبت أوي .
كظم غـــضــــبه بنفسه وهو يقول :
-كله هيتحل متزعليش نفسك .. هو يعني مفيش غير الراجـ.ـل ده في البلد!!
-مش زعلانة بس مقهورة ، هما ليه مش عايزين يشغلوني ليه بيقفوا في طريق حلمي!! طيب المفروض أعمل أيه تاني ؟! أنا مفيش حاجة مش عملتها .. والله فكرة البرنامج اللي أنت قولتها جـ.ـا.مدة بس هو اقتنع وبعدين قالي هنبقى نشوفلك ممول ..
اختنق لحـ.ـز.نها فقال مشجعًا :
-دول هما اللي خسروكي ، بلاش إحباط وكبري مخك ، متيأسيش .. فكي عاد ، عندك فرح ماينفعش تروحي بالمنظر ديه ..
-نفسي اتسدت والله ..
-طب انا ليه حاسس إنهم شوية وهيكلموكي ويوافقوا ، اتفائلي خير بس ومتحطيش في دmاغك ربنا بيقلب الليل والنهار في ساعات ، قادر يبدل حالك لافضل حال في لحظات .. قولنا نرضى مهما كانت النتيجة ..
ثم أخرج من جيب بنطاله منديلًا وقدmه لها:
-امسحي الدmـ.ـو.ع دي ، عيبة في حقي لما تكوني مع هارون العزايزي وتبكي .. ولا انتِ عايزة تزوغي من عزومة السمك !!
أخذت المنديل من يده وهي تُجفف دmـ.ـو.عها بضحكة مكـ.ـسورة :
-لا خلاص ، هعزمك ونحتفل بالخيبة اللي أنا فيها ..
ثم كلمت نفسها بقلب مهزوم :
-انسى انسى خلاص يا ليلة ، يعني دي مش أول مرة !!
ثم نطرت لعينيه تسألهما:
-المفروض أكون أخدت حصانة مش كده !!
••••••••••
~العزايزة ..
عاد هِلال برفقة رقيـة من “النيابة العامة” بعد إثبات التُهمة على بكرة وصدور قرار بتجديد حبسه لمدة أربعة عشر يومًا على ذمة التحقيـق .. بعد ما رفضت رقية التنازل نهائيًا عن حقها وطالبت بمعاونة محاميها بنيل المتهم أقصى عقوبة يستحقها وهي القصاص..
عند وصولهما للبيت كانت تسير بمحاذاة هِلال بمهلٍ حتى ألتقت بصفية التي رمقتها باشمئزاز :
-عاجبكم أنتوا الفضايح والجُرس دي !! جبت لروحك و.جـ.ـع الرأس ليه يا ولدي ! كان مالك بس بالهم ديه !
ربت على كتف رقية :
-رقيـة روحي على أوضتك ..
هزت رأسها بالنفي معارضة طلبه بتأدب ثم تقدmت خطوتين لـتواجهها :
-وأيه الغلط في وخد الحقوق يا مراة عم !! أيه الغلط اللي أنا عملته عشان أمشي كاسرة عيني !
-معملتيش حاجة آه ، بس شيلتي ولدي حِمل ملهوش ذنب فيه يابت الناس !!
تدخل هلال القابض علي جمر غـــضــــبه:
-انتهينا يا أمي .. رقية بقيت مرتي وانتهى الأمر ، مش عاوزة تقفلي على الماضي ليه وتنسي !
تدخلت رقية التي تقاوم دmـ.ـو.عها:
-بعد إذنك يا شيخ هِلال ، سيبني أكلم مراة عمي باللغة اللي تفهمها ..
ثم تطلعت لصفية :
-لو هاجر ولا هيام حصل فيها اللي حصلي كُنتي هتعملي أيـه !! قوليلـي .. هتقــ,تــلي بتك ولا تاكلي كبد اللي عمل فيها كِده ولا ترميها وتچوزيهاله !! ليـه مش راضية تشوفيني بتك ونازلة تجريح فيّ !! ليه بتشاركي حـ.ـيو.ان زي بكر في جريمته !!
دنت منها صفية محافظة على كلمـ.ـا.تها التي تعاكس سُم نواياها لتقول:
-أنا بناتي عارفين عرفهم ومصيرهم ،متمردوش على نصيبهم .. أما أنتِ افتريتي على الراجـ.ـل وطلعتيه عن شعوره ، وخلتيه كيف المـ.ـجـ.ـنو.ن يدافع عن حقه .. ياريت بس تكوني فرحانة بروحك ومچيتك على المحاكم وأحنا عنقولو يا حيط دارينـا ..
تدخل هلال بينهما ليضع لأمه حدًا ، فلم تتحمل رقية إهانتها أكثر من ذلك ففرت لغُرفتها باكيـة :
-أنتِ ليه مصممة تخليني أخد مرتي ونسيبوا البيت ونمشوا !! ليه أنتِ الوحيدة اللي شايفاها مجرمة مش مظلومة !! ليه مصممة تحطيني بينك وبينها !! خلاص يا صفية أنتِ اللي اخترتي .. ومن الساعة دي مش هتشوفي وشي أنا ومرتي في البيت تاني ..
صرخت عليه :
-ليه عاوزني أغـــضــــب عليك يا هلال يا ولدي ليه بس !! كمان بتعصيك عليّ وعاوزة تطلعك من بيت أبوك !
قال جُملته وهو يلحق بخطى المسكينة التي اتخذت من الجدران مأوى لها متجاهلًا ثرثرة أمه حاسمًا قراره ليُعزل من بيت أبيه كي يرحم زوجته من إهانات أمه المستمرة ..
وصل لغُرفته فوجدها نائمة بمنتصف فراشها وهي تنتقض من لوعة الحـ.ـز.ن الذي لم تتحمله بعد .. قفل باب الغُرفة وهو يقول بهدوء :
-رقية .. قومي هنمشوا..
-هي ليه مصرة تد.بـ.ـحني بكلامها !! ليه !
قالت رقية جملتها وهي تنهض لتواجهه بحرقة وأتبعت:
-ليه كل ما أحاول انسى تيجي تفكرني ، ليه هي والزمن عليّ !! يا ريتني ما وفقت بجوازنا كُنت قعدت فـ بيت أبوي أكرملي .. طلقني يا شيخ هلال وعذرك هيكون معاك ومحدش هيلومك ..
أن تحاشي لوم الجميع فأين يذهب من لوم قلبه يا ترى !! هناك دخان يتصاعد من قلبه من ملامحه كل شيء بداخله يحترق تحول لرمادٍ ، لم يتحمـل رؤيتها في هذه الهيئة الضعيفة المستسلمـة ، بنظرات حادة كالمشارط يود أن يزيـل تجاعيـد الحـ.ـز.ن عن وجهها ، وبضمة مفاجأة وقوية منـه وكأنه يود حشو الأمان بـ جسدها المتعطش للحنان برغبة جامحـة ..
ضم بقوة على جسدها الضعيف فسقطت عِمة رأسه أرضًا ، دفنها بداخل حـ.ـضـ.ـنه كأنه يقدm قربان اعتذاره عن أيامها القاحلة التي عاشتها .. كلما ازدادت انتفاضة جسدها الذي لم يكد يتحمل قوته التي تعتصره بحـ.ـضـ.ـنه تضاعف احتضانه إليها .. لأول مرة يشعر باكتمال روحه وقلبـه .. لأول مرة يشعر بأنه قطع شوطًا طويلًا في درب الوصول إليهـا ..
ابتلت ملابسه بدmـ.ـو.عها ، لم تقاومه ولن تعارض حـ.ـضـ.ـنه الذي كـ.ـسر كل الأوجاع بجسدها ، حـ.ـضـ.ـنه الذي تأخر كثيرًا حتى ترك فسحة للحـ.ـز.ن أن يتغلغل فيها .. وجدت نفسها تميل على صدره ، تستمع لصوت ضـ.ـر.بات قلبـه الثائرة بجفونٍ مقفولة تأبى فتحهمـا كي لا يعارضان ذلك الشعور الغريب الذي سكنها ولا تود الابتعاد عنه ..
حلقة من الصمت الطويل ، تعمقت بحـ.ـضـ.ـنه وتعمق بحمل و.جـ.ـعها عنها وهو يقبل رأسها التي تزحزح عنها الحجاب ويقول معتذرًا :
-حقك عليّ ، وأسف على كُل كلمة و.جـ.ـعتك ، وأسف على اللي عمله بكر عشان مقدرتش أحميكي منه .. وأسف عـ
ثم خاطب عينيها المحمرة وغير مجرى كلامه وهو يمسك وجهها و يكفكف عبراتها بكفيه ويتعمق بجمال أهدابها المبللة بالدmع :
-هنمشوا من هِنه عشان اللي يزعلك كأنه زعلني بالظبط ..
هزت رأسها نافية :
-لا ، مش هبعدك عن ناسك .. أنا اللي همشي .. طلقني يا شيخ هلال أنا مستاهلش واحد زيك ..
قطب حاجبيه برسم ابتسامة مترددة ويمازحها :
-أي طـ.ـلا.ق يافتاة !! أنتِ خلاص ادبستي فيّ لآخر عمرك .. ومُجبرة أن تتقبلي هذا الوضع حُبًا ولست أمرًا ..
كادت أن تعارضه وهي تشـ.ـد حِجاب رأسها وتبتعد عن حـ.ـضـ.ـنه الذي أغرقته بالدmـ.ـو.ع ، فقطعها :
-أول مرة بعمري أرى أعين يُجملها الحـ.ـز.ن !! أنتِ أغويته هو كمان !!
-يعني أيه !!
-يعني تسمعي الكلام وتجهزي نفسك عشان هنمشوا .
رفضت قطعًا :
-لا ، ديه بيتك ومينفعش تبعد عن ناسك بسببي انا هستحمل كلام أمك خلاص دي في مقام أمي وست كبيرة ..
-وأنا مش هستحمل يا رُقية !!
تعرقلت بنظرات عينيه المُربكة بقلق مدركة ما حدث قبل لحظات بخجل لتُعاتبه على فعله وعن احتضانه لها وهي تقول :
-شيخ هلال؟!!
دنى منها بهدوئه المعتاد بعد ما قرأ العتاب والخجل بعينيها ثم تنهد قائلًا :
– لست مضطرًا لتبرير شيء يا رقية !!
ظلت تراقبه بنظرات حائرة تتساءل بنفسها من أنت يا رجل !! من أنت الذي يحطم حصوني شلو وراء الآخر ولم أمانعه ! خيم التوتـر على ملامحها وهي تطوف بأعينها في كُل مكان :
-أنتَ مش عِندك محاضرة في المعهد ، أمشي قصدي هتتأخر وو
ثم توقفت عن ارتباكها الذي زاد ابتسامته وسألته :
-أنتَ ليه مصحتنيش أصلى الفجر الليلة دي !!
دنى منها خطوة وهو يشـ.ـد حاجبها على رأسها رغبةً من أنامله أن يتحسس نعومة شعرها اللامع تحت الحجاب والذي يغازل عينيه كثيرًا كشعاع الشمس :
-سَهّى عني أمر إجازتك من الصلاة .. مع أن الخطأ منك وو
-هي عمتي أحلام قالت لك !! ولا أنت عرفت منين !! انتَ تعرف أيه بالظبط ؟
لم يتوقف عن محاولة إدخال شعرها تحت الحِجاب وهو يقول دون النظر لعينيها :
-أنا أعلم عنكِ كُل شيء يا رقيـة ، أعلم أن هناك مدة إجازة من الصلاة، وأعلم أن ما يسبقها فترة كآبة تحتاج ليد حنونة لتهونها عليك ..
ثم أطال النظر بعينيها وأكمل :
-وأعلم أن هناك فترة تتفتح فيها الفتاة كالوردة الزاهيـة وتكون في قمة جمالها وجاذبيتها وأيضا تحتاج لنفس اليد الحنونة التي تضمها وتمدها بأسمى معاني الحياة .. أنا أعلم كل هذا !!
انفجرت عينيها بدهشة ، خاصةً عند علمها بدراسته الأدبية الخالية من أي معلومـ.ـا.ت علمية كهذه وهي تسأله :
-أنتَ عرفت كل ديه كيف ومنين !!
انفجرت منه ضحكة خفيفة وهو يقول :
-يقولون أني شيخ ومُعلم .. ولا لازم أكون طبيب لكي أعرف كل هذا !!
أحست بتجردها أمامه من كل شيء لتقول بـ.ـارتباك :
-وديه أكبر دليل عشان منصدقش كل اللي بيتقال .
-ديه أكبر دليل أنكِ لما تحتاجي لاستشارة من أيا نوع متروحش تستفسري من أحلام ..
ثم ولى ظهره ليسحب حقيبته :
-يلا عشان هنمشوا من هِنه …
🍒الآصرة الثامنـة و العشرون 🍒 ج٢
” قل لي بربك من تكون “ج2
وصل هارون وليلة لأحد المولات العملاقة بالإسكندرية بعد ما بذل مجهودًا جبـ.ـارًا بـتشتيتها عن همها الذي يكتظ بملامحها .. استقل الثنائي المصعد متجهين صوب أحد محلات الفساتين ذات العلامـ.ـا.ت التجارية المشهورة وهي تشير له نحو متجر ما :
-أهو المحل ده بجيب منه كل فساتيني .. هيعجبك أوي .
سبقت خطاه بخطوة لتدخل المتجر وطافت عينيها بانبهار في المكان بالمجموعة الجديدة الخاصة بالفساتين التي يعرضها .. ألقى كوب العصير البلاستيكي من يده بالسلة ووقف مكانه يُراقب المكان بصمتٍ .. أو على الأغلب كان يراقبها ويقارن جمال الفساتين المعلقة بها ، فكلهم يناسبون رقتها .. جاءت إليه وبيدها فستانين لتخيره :
-أيه رأيك يمين ولا شمال ؟
كان الفستان بيمينها باللون الأسود من القطيفة ذو أكمام واسعة ولكنه قصير يصل لركبتها .. تعكرت ملامح وجهه وهو يطالع الأخر الذي كان باللون الأحمر ذو حمالات رفيعة للغاية وطويل حيث يلامس ذيله الأرض .. حك ذقنه وعدm الاقتناع يقاسم ملامحه :
-لا ده يمشي ولا ده يمشي .
هبت معارضة لرأيـه :
-ليه ؟؟ دول تحفة بجد !!
-دانتِ اللي تحفة !! هو يا عريان من فوق يا عريان من تحت !! لا لا متمشيش جمبي باللبس ده !!
تأففت بضيق وقدmت الفساتين للفتاة العاملة بالمكان وذهبت لتختار غيرهم .. ظلت تكتشف كل الفستان مراعية لقواعده بألا يكون مكشوفًا ..ثم جاءت بأخر باللون الأخضر ليس بقصير ولا بطويل وذو أكمام طويلة .. وقفت أمامه لتستشيره :
-طيب وده ؟!حلو ؟! قول حلو !
-شبه الخيارة يا ليلة !! لا لا شوفي غيره ..مش حلو .
-والله !! طيب ما تختار أنت أحسن !!
لقد فاض صبرها من تعليقاته السلبية فنظر للفتاة التي ترتدي سترة مقفولة من أعلى و تنورة قصيرة للغاية قائلًا :
-الله يسترك ياشيخة تحت زي ما سترك فوق .. ما تشوفلنا فستان محترم مقفل فوق وتحت ميبينش الحركات .
-بس بقا عيب متحرجش البـ.ـنت ..
ثم حاولت بلع ضحكتها التي لمعت بعيونها هامسة له بحذر :
-هارون .. حركات ايه ياعمده؟!
رد متأففا :
-الحركات !!أقولك اسكتي الأستاذة فهمت طلبي .
انصرفت الفتاة وهي تبحث عن شيء يتناسب مع طلبه ولم يخل وقوفهم من الهمهمـ.ـا.ت :
-لازم تبقى أوبن مايند شوية .. أحنا هنا مش في الصعيد ..
-لا أنا عقلي القفل الصعيدي ملازمني في كل حته أروحها .. ديه طبع .
انكمشت حول نفسها :
-خلاص يا عم بالراحة عليا .. الله .. عرفنا إنك صعيدي أوي .
جاءت الفتاة وبيدها فستانين أحدهما باللون الأرزق الغامق الطويل من خامة القطيفة .. ذو أكمام طويلة بذيل طويل .. وأخر باللون البني من خامة الحرير ذو أكمام واسعة يصل لتحت ركبتيها .. عرضت الفساتين عليه :
-رأيك في دول يا فنـ.ـد.م !!
راحت عينيه نحو الأزرق وهو يتفحصه متسائلًا :
-ده كله مقفل ولا هتفاجئ بشبابيك ومناور فيه لما يتلبس ؟!
ضغطت على كفه بحرج وهي تعتذر للفتاة بابتسامة :
-هارون بيه أنت بتقول ايه !!
ثم شـ.ـدت الفستان من الفتاة بحماس :
-اشطا هقيس ده !!
ما كادت أن تخطو خطوة فتراجعت لتسائله بخبث انثوي :
-على فكرة أنا بلبس حاجات قصيرة عادي!! أنت ليه مكبر الموضوع ! دي موضة .. ولا أنتَ ليك وجهة نظر تانية؟
أخفي غيرته عليها قائلًا :
-الجو سقعة مش ناقص مكابرة .
سألته بخبث :
-بس كده ؟ عشان الجو و بس !!
رد بجمود وهي يتحاشى النظر إليها كي لا تفضحه نظراته المدججة بالغيرة :
-أومال هيكون عشان أيه !!
رفعت حاجبها معاندة وهي تشـ.ـد أحد الفساتين القصيرة وكأنها تتحداه :
-كده !! عموما أنا مش ببرد ومتعودة .. وهقيس ده كمان !!
تمتم لها مغلولا :
-قيسي هو القياس عليه جُمرك !!بس مش هتجيبي غير اللي يعجبني ..
دخلت غرفة “البروڤا ” وشرعت بلبس الفستان القصير أولا حيث كان باللون الوردي يصل لركبتيها ذو أكمام قصيرة وفوق فرو بناتي بنفس اللون .. فخرجت له متشوقة لرؤية الغيرة بعينيه .. دارت له كالحورية :
-ده واو بجد ! طلع جـ.ـا.مد .. أيه رأيك؟
نظرة واحدة على سهوة من عينيه حفرت صورتها بالذاكرة للأبد .. ثم تجولت أنظاره بالمكان ليتأكد من خلائه من معشر الرجـ.ـال وقال بحدة دون التطلع لها مشيرًا بكفه :
-خشي أقلعي المسخرة اللي لابساها ديه !
-ليه والله حلو ومحترم .. أهو طويل ده مغطي الركبة !!
زفر باختناق متمتمًا :
-يا صبر الصبر ..
ضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها مستسلمة لأوامره وتحكمـ.ـا.ته وهي تشكو منه للفتاة :
-هو مش حلو عليا !! أومال مش عاجبه ليه !!
-واضح أن خطيبك بيغير عليكي .. والغيرة حب يا استاذة !!أنتِ مش شايفـة نظراته عاملة ازاي!
-قصدك أنه بيغير عليـا !!
كررت في سرها جملة الفتاة التي نطقتها بدون قصد ولكن للكلمة وقع سحري على قلبها وهي تنزع فستانها وتتخيل للحظة ماذا لو سمح لهما الزمان ليكونا أحبة !! لا تعلم سر الابتسامة المفاجأة التي طغت على ملامحها وهي تلبس الفستان الأزرق الجميل الذي جعلها أشبه بحوريات البحر .. ولت ظهرها لتقفل لها الفتاة الفستان لتنبهر بجماله عليها .. ما فرغت من ترتيب هيئتها شـ.ـدت الستار وخرجت له بوجه يحمل ملامحها المبتسمة :
-طيب وده ؟! أظن مفيش غلطة ..
تفصحت أعينه ذيل الفستان الدائري بالأرض تحتها ليصعد تدريجيا لتفاصيله التي تبرز معالم أنوثتها وجمالها الساحر الذي استولى على عقله .. رفع حاجبه بثبات وهو يقول لها :
-أهو حلو ده الحشمة حلوة بردك .. والجو مش مستحمل مرقعة ..
-بجد عجبك !! يعني تمام !
أومئ رأسه مؤيدا اختياره للفستان فدارت للفتاة فارحة :
-خلاص هاخد ده ..عجبه اخيرًا ..
ساعدتهت الفتاة في نزع فستانها ثم أخذته وخرجت لتتركها تواصل ارتداء ملابسها .. أما عنه أشار للفتاة العاملة ومد لها بطاقته البنكية ومعها فرو بنفس لون الفستان وهو يقول لها :
-شوفي حساب الحاجات دي ..
خرجت ليلة بعد عدة دقائق وهي تخرج من حقيبتها بطاقتها البنكية .. وتمدها للفتاة التي تبسمت بوجهها قائلة :
-الحساب وصل ..
تطلعت له بصدmة :
-نعم !! حساب أيه اللي وصل ؟! لا طبعا أنت هتصرف عليا !!
أخذ الحقيبة من يد الفتاة ورمى جملته الأخيرة همسًا :
-اصرف عليكي وعلى عيلتك كلها .. يلا وشيلي فلوسك دي .
غادر المحل قبلها فعلقت حقيبتها وتابعته معاتبة :
-على فكرة الكلام ده ما يصحش .. ده فستاني يعني أنا اللي هحاسب عليه !
-ليلة .. أهدي وقولي هديت .. شوفي هتجيبي أيه تاني خلينا نخلصوا ..
فكرت للحظة :
-كده باقي الباك والشوز .. هنجيبهم من هناك .. والدور اللي تحت هنزل اختارلك بدلة على ذوقي ..
سار الثنائي في أجواء يعمها الضحك والهزار حتى فرغت ليلة من استكمال طلباتها والتي أصر على دفع حسابهم أيضًا واستقلت معه المصعد لتهبط للدور الأسفل لتتولى مهمة اختيار ملابسه .. هنا جاءها اتصال من رقم مجهول ، فتجاهلت الرد عليه وتابعت السير معه وهي تخبره :
-هخليك النهاردة اخر شياكة .. وأحلى من العريس كمان !!
دخل أحد المحلات الشبابية .. وشرعت في فحص البذل المعروضة عكسه تماما انشغل بشراء بعض الملابس الرياضية والشبابية التي يفضلها .. عادت له وبيدها أربعة من البذل مختلفة التصميم وقالت :
-دول أحلى حاجه في المحل .. يلا قيسهم كلهم حابة أشوفهم عليك ..
-أيه ده كله ؟؟ وريني هي واحدة بس اللي هتتقاس ..
عاين الملابس المميزة التي احضرتها وقال باعجاب :
-تصدقي كلهم حلوين ..
-اشتريهم كلهم .. سهلة أهي !!بصراحة كلهم جـ.ـا.مدين .
ثم أشارت على واحدة باللون الكحلي كي تتناسب مع فستانها الخاص بحفلة اليوم وقالت :
-ممكن دي تلبسها في فرح النهاردة ..
ثم أشارت على السوداء وقالت بحـ.ـز.ن كأنها تذكر نفسه بأنها على ذمة الأخرى غيرها حتى لا يتمادى قلبها في التعلق به :
-ودي ممكن تلبسها في فرحك .. والباقيين فأي مناسبات تانية بقا ..
ثم اتبعت :
-ممكن واحدة في فرحي لما أعزمك .. وو الرابعة دي مش عارفة خليها ففرح هيثم ..
-مش هنقدروا البلا قبل وقوعه ..
أحس بالاختناق من تلميحاتها التي فتحت دفاتر الواقع بوجهه وضبت دفاتر الحُلم الجميل بعينيـه فترك الثلاثة ولم يختار إلا التي أشارت عليها أولًا وقال :
-متسبقيش الأحداث .. هشوف دي ..
-طيب يلا وأنا هختار الشوز والاكسسورز بتاعها ..
انشغلت في اختيار الحذاء المناسب لبذلته وازاز أكمامه والمشبك الذي سيضعه بجوار قلبه وسيكون هديتها .. دقائق قليلة وخرج هارون من غرفة “البروفة” وهو يقفل زر بذلته :
-هاا ايه رايك ..؟
تركت ما بيدها ودارت إليه منبهره بوسامته الطاغية :
-واو بجد .. أنت مفيش حد بعدك ينفع يلبس بدل على فكرة .. بجد بجد ولا غلطة .
-تمام يعني ..
قدmت له الحذاء والاكسسوارات :
-ده تمام ونجمة كمان .. وبص دول كمان !! بص كل البنات النهاردة هتقع في حبك وهتعاكسك .. أنا مش مسئولة لو خـ.ـطـ.ـفوك من زينة .
ثم شرعت بتركيب مشبك البذلة بجوار قلبه للحد الذي تعانقت فيه انفاسهم وبدأ سيل وصال المشاعر بينهما مشتعلًا فتمتمت متجاهلة تراقص قلبها :
-كده برفكت يا هارون بيه .. أيه رأيك في ذوقي ..
-تمام طالما عجبك يبقي نتوكلوا على الله ..
دخل هارون ليبدل ملابسه فانشغلت باختيار العديد له من الثياب الشبابية وهاتفها لم يتوقف عن الرنين بعد .. ردت بضيق وهي تقدm الثياب للموظف بالمكان وتبلغه :
-دول تبع حساب هارون بيه ..
ثم ردت على هاتفها بضيق :
-الو مين ..!!
تنفست رغد الصعداء :
-أخيرا رديتي ..
فارقت ليلة المتجر وهي تسألها :
-حاسة إني سمعت الصوت ده قبل كده !! مين معايا ..
-أنا رغد .. مراة هاشم العزايزي .. لو سمحتي متقفليش .. أنا عايزة مساعدتك ضروري ..
رمشت بجفونها مرتين متتاليتين :
-ده بجد !!أنا مصدقتش لما قولتي لي أول مرة وقلت أكيد فيه حاجة غلط ..
اعتصرت رغد جفونها :
-اسمك ليلة مش كده … أنا هحكي لك بس مش عايزة حد يعرف إني كلمتك .
لمحت ليلة اقتراب هارون منها فقالت بعجل :
-طيب بصي هارون بيه معايا دلوقتي .. ومش هعرف اتكلم ممكن بالليل اكلمك براحتنا .. سوري بس بجد فى أسئلة كتير حابة أعرف إجابتها منك ..
دنى هارون منها متسائلا بنبرته التي وصلت لمسامع رغد وسألها :
-مين بيكلمك !!
ردت بقلق :
-دي !! دي واحدة صحبتي من زمان ..
ثم قالت لرغد :
-ماشي يا رغد هكلمك بالليل ياحبيبتي …
تحرك هارون الذي يحمل حقائبه متجاهلا احساسه المُلح بهوية المتصل .. فسألها :
-هتعملي ايه دلوق ؟!
-بص المفروض أروح الفندق وهكلم الكوافير اللي بتعامل معاه عشان يبعتلي واحدة من البنات تظبط شعري .. و
تعلق في ذيول انشغالها :
-عال .. هوصلك الفندق واستأذنك بس في العربية هروح أعمل كام مشوار !! تكوني خلصتي ..
هزت رأسها برضى :
-اتقفنا .. بس ممكن نتغدى الأول عشان بجد واقعة من الجوع.
-ومين سمعك .. يالا تعالي اغديكي .
••••••••••••
-مالك يا زينـة مش على بعضك ليـه ؟!
رمت أمها ذلك السؤال على مسامعها إثر جنونها المفرط فيه و التحدث مع نفسها وهي تجوب بالمكان ذهابًا وإياباً، فضـ.ـر.بت على فخذيها:
-هارون من ساعة ما سافر مع البت بتاعت بحري دي والفار بيلعب في عِبي ياما !! ديه مش معبر تليفوناتي واصل ! هتجنن ياما ..
رمقتها نغم الجالسة على المقعد تقرأ بأحد الكُتب الخاصة بعلم النفس وتقول :
-أهدي ليطق لك عرق يا زينة .. يمكن مشغول ولا حاجة مش فاضي لخوتتك .
-وأنتِ مالك بي !! مركزة معاي ليه ؟! ما تركزي يا ختي في خيبتك ..
ثم نظرت لأمها بغلٍ :
-يعني أيه ياما البت نغم دي هتتجوز قبلي ، عمي خليفة قصده أيه لما قال هاشم هينزل يكتب عليها بعد اسبوعين !!
ثم نظرت لها بحقد:
-وبعدين مش هاشم ديه وقف قصاد الكُل وقال مش عاوزها !! أيه غير رأيه فجأة ورجع اتكلم عليها تاني !!
قفلت نغم الكتاب الذي بيدها وهي تهم مُغادرة :
-والله يا زينة انا شايفة أنك تطلعيني من راسك وروحي شوفي خطيبك اللي مش معبرك من أصلو !!
ثم مالت على آذانها متعمدة إثارة غيرتها :
-ولا مفعول السحر بِطل في اسكندرية !! مـ.ـا.تشوفي إكده ..
ثم جهرت :
-انا راكبة اريح راسي هبابة يا مراة خالي .. عقلي بتك وقوليلها تتقي ربنا ، الچواز مش عافـ.ـية .
•••••••••
صف هارون سيارة ليـلة أمام المبنى الذي تقطن به عيادة نادية ، اقترب من الرجل الذي يُراقبها وسأله :
-حجزت لي كشف ..
-كله تمام يا عمدة ، بس هو أيه قِصة الولية دي !! هي عملت لكم أيه أنتَ والحچ خليفة .
ارتدى نظارته الشمسية وقال بحدة:
-خليك في حالك ..
ثم تحرك نحو البناية وصعد درجات السُلم وانتظر دوره بالكشـف ، لم ينتظر كثيرًا حتى نادت باسمه الممرضة فدخل بخطواته الواثقة وجلس قبل أن تأذن له نادية التي رمقته بنظرة سريعة وقالت مرحبة :
-استاذ هارون ، متجوز ولا أعزب !
نزع نظارته الشمسية ورماها على مكتبها وقال:
-هتفرق في أيه ؟!
-عادي عشان نعرف بس سبب المشكلة اللي بتعاني منها !! بتشتكي من أيه !!
نظر لها بكامـل قوته قائلًا :
-بشتكي من قلة الأصـل … وبصراحة راسي هتتقلب ليها اسبوع أيه اللي يخلي أم محترمة زيك تصرف علاچ غلط لبتها وتمـ.ـو.تها بالبطيء!!
سقط القلم من يدهـا وهي تراقبه بأعين مرتعشة :
-أنتَ ايه الجنان اللي بتقوله ده !! أنت مين أصلا !! وايه الكلام المـ.ـجـ.ـنو.ن ده!
وقف بوجهها حاملًا عواصف تهديده :
-أنا هارون العزايزي .. أظن سمعتي عن الاسم ، بس مت عـ.ـر.فيش الوش التاني لصاحبه .
وقفت نادية صارخة بوجهه مدافعة عن نفسها :
-والله انا مش عارفة أيه رمي البلا ده !! مرة باباك يجي يدور على حاجة تايهة ليها ٢٨ سنة ، وأنت جاي تتهمني إني بحاول أقــ,تــل بـ.ـنتي وكلام فارغ !! أنتو مجانيين !
صرخ بنبرته القوية التي هزت جدران المكان :
-أنا كلامي واضح !! كاتبة علاچ يدmر بتك ليه !! مصدقش دكتورة في سنك بتتعلم في بتها ! العلاچ ديه بيتاخد من حد عارف شُغله زين ..وقاصد .
أشارت نحو الباب مهددة :
-أطلع بره وإلا هطلبلك البوليس ..
-وماله هاتي الشرطة والنيابة وأنا بالي معاكي طويل للصبح .. أقولك أنا فاضي لك !
ثم ضـ.ـر.ب على سطح مكتبه مهددًا بذعر :
-اسمعي هما كلمتين .. تبعدي سِمك عن ليلة ، ولو حاولتي تديها العلاچ ديه تاني لو اشتكت لي بشوية صداع هفهم أنك لعبتي في الدواء ..
ثم ترك مكانه وقرب منها معلنًا حربه عليها بنبرته المخيفة :
-ومن غير يمين متخلنيش ألبس روب المحاماة عشان ساعتها هقفلهالك ضبة ومفتـاح .. ومش هرتاح إلا وأنت مسجونة .. فاهمة !!
ثم ضـ.ـر.ب مرة أخرى على سطح مكتبها فانتفضت من الرعـ.ـب وهي ترتمي على مقعدها الجلدي وقال محذرًا :
-اسمعي الكلام و ابعدي عن ليـلة وسيبي البت في حالها .. مفهوم وإلا متجبرنيش أوريكي الوش التاني لهارون العزايزي ….
ثم رمقها بنظرة ساخرة :
-اه ومبروك الجواز يا عروسة ، شريف أبو العلا ده حبيبي ولازم اكلمه ابـ.ـارلك بنفسي..
صرخت عليه بخــــوف :
-استنى هنا ، شريف ما يعرفش حاجة!!
رد ببرود:
-منا قاصد أعرفه !! عقولك صاحبي وحبيبي لازم نبـ.ـاركوله على عروسة أبوه الچديدة ….
••••••••••••
-روحي يا صفيـة منك لله !
تمتمت أحلام بجملتها الأخيرة وهي ترى هلال حاملًا حقائبه مُعلنًا مغادرته للبيـت .. فظلت تتوسـله :
-ياحبيبي من مـ.ـيـ.ـتى عناخدوا على كلام أمك ، ما كُلنا عارفينها عقلها صغير ..
رد مصرًا على رأيه :
-كِدا أحسن للكُل يا أحلام ، أمي هي اللي اختارت .
رمقت صفية رقية بغِلٍ وشغلت بعينيها نافورة التماسيح :
-ليه يا ولدي عاوز تسيبني وتبعد عني ، وانا ليا مين غيركم في الدِنيـا .. ليه عاوز تحرق قلبي عليك ..
-دي سُنة الحياة يا أمي ، ولو سمحتِ الموضوع منتهي .. أنا هاخد مراتي وأشوفلها بيت بعيد عن هِنه .
تدخلت أحلام بضيق:
-وفكرك أبوك لو سمع هيوافقك !! ليـه عايز تقلبها حريقة يا ولد !! ما تعقلي چوزك يا رقية يا بتي .. !!
صوت زمجرة خليفـة خيم على المكان وهو يراقب تجمعهم فسألهـم :
-في أيه إهنـه !!
تدخلت صفية الباكية بزيف:
-ولدك عاوز يهملنا ويمشي يا حج خليفـة !! يرضيك الكلام ديـه !! يرضيك ؟
فعقبت أحلام لتشكو له:
-ولدك واخد على خاطره من صفية يا حج ، مش كل ما تشوف البت تسم بدنها بكلامها !! اهو الرجل هملها الدِنيا وواخد مرته وماشي .
انفجر خليفة صارخًا بوجههم :
-أيه قِلة العقل دي !! مهمل بيتك وبيت أبوك ورايح فين يا هلال !!
-أي مكان يا أبوي ..
نهره أبيه :
-خِف حديت ماسخ !! وطلع الشِنط دي وخد مرتك واطلع ، مفيش واد هيطلع من بيتي على حياة عيني ..
ثم دار لصفية ليوبخهها محذرًا :
-يمين عظيم يا صفية لو لسانك قال كلمة عفشة لمراة هلال لتكوني طــالـــق….. سمعتي ..
ثم أشار بعكازه آمرًا :
-قِل الشِنط دي من إهنه بلا قلة عقل وحديت فارغ ….
•••••••••••
~في تمام الساعة الثامنة مساءً .
عاد هارون إلي الفندق بعد ما فرغ من كل مشاويره الخاصـة .. استلم بطاقة غرفته وهو يتحدث مع ليلة التي لم تُكف عن اتصالاتها المتواصلة والتي لم يتجاهل منها مكالمة واحدة على مدار ساعات غيابه .. وقف أمام باب غُرفتها وهو يحدثها :
-أنا وصلت الأوضة ، هاخد دش وأجهز ..
لقد كانت انتهت تمامًا من لبسها لم يتبقى إلا لمساتها الخفيفة من مستحضرات التجميل وهي تختار لو حُمرة شفتها باللون الوردي الفاتـح وتقول مترجية :
-طيب بليز متتأخرش ، صُحابي مش مبطليين زن .. وبيستعجلوني .
ركل الباب بقدmه :
-حالًا أهو ..
قفل المكالمة معهـا واتجه صوب الحمـام ليباشر طقوسه الخاصة قبل الحفل والابتسامة لم تفارق ملامحه ، شغف غير طبيعي في رؤيتها مرة ثانية لم يكن اليوم كافيًا ليشبع خفة روحها .. بات الشوق لها يطادره أينما ذهب ..
مع دقات الساعة التاسعة مساءً كان هارون واقفًا أمام المراة ينفث القليل من عطره الذي أهدته له ليلة .. نوع مميز وجديد عما يستخدmه أصرت أن يجربه .. ترك الزجاجة من يده وهو يحكم قفل زر معصمه .. فجذب أنظاره رنينها الذي أجابه على الفور :
-هااه تمام يا عمدة ولا لسه ؟؟!
-انا تمام شوفِ أنتِ ..
-وأنا كمان تمام ..تمام جدًا .
ثم رسمت ابتسامة واسعة على محياها وهي تطلب منه بخفة روح :
-أنا على الباب على فكرة .. لو تمام ممكن تفتح لي ..
أخذ مفتاح سيارتها وشفرة غرفته الخاصة وقفل الأنوار بعجل ثم فتح لها الباب ليتفاجأ أمامه بإمراة لم ير أحلى منها بحياته .. كل تفاصيلها متناسقة كما قال الكتاب .. من جمالها يتأملها القمر بنفسه لا هو وحده .. أخذ يتأمل تفاصيل الفريدة والمميزة بدءً من عقد رقبتها الأنيق باللون الفضي .. لتسريحة شعرها التي برزت معالم جمالها .. للون عينيها الأرزق المتناسق مع الفستان ولمسات التجميل البسيطة التي برزت جمال ملامحها ..وكحل عينيها الأزرق الذي سقط على جفونها دون أن يذوب ، كيف لا يغرق بجمال أهدابها ؟! كيف بحُمى أنفاسها لا يشتعل مثلما اشتعل قلبه لرؤيتها ؟!
دقق في تفاصيل فستانها الذي ينحت تفاصيل رشاقتها بطريقة تذهب العقل وتسكره .. حذائها ذو الكعب العالي الذي جعلها بمستوى ذقنه .. كل هذا كان أشبه بشعور من فتح نافذته ووجد السماء مرصعة بالنجوم في ليلة سحرية ينيرها قمر ابتسامتها .
لأول مرة يهتم بجمال التفاصيل وحلوها وبها .. لأول مرة تشغله إمراة كما فعلت هي .. لأول مرة يقف أمام حسنها ولا يود التحرك خطوة .. ابتسمت بوجهه مطلقة صفارة هادئة منبهرة بهيئته التي تشع بـ الوسامة والرجولة الطاغية معًا .. تفاصيل أناقته كأنه عريس في ليلة عرسه .. أشادت بصورته مشـ.ـدوهة :
-أيه الشياكة دي كلها .. يسلم ذوقك يا بت يا لي لي ..حقيقي سوبر جنتل مان .. أنت تلبس بِدل على طول بقا ..تجنن عليك .
قفل باب غرفته وهو يفحصها بعناية وبأعين منبهرة :
-وأنت كمان شكلك حلو ..
-أيه الرخامة دي !! حلو بس !! يعني انبهر شوية كده وحلل الفلوس اللي دفعتها .. على فكرة هتاخدهم .
هز برأسه بخفة وهو يشير لها نحو المصعد :
-طب أمشي وبطلي كلام فارغ ..
سارت بمحاذاته فكان يطالع الطريق وكانت تستدل من جماله على عنوان الجاذبية .. دخل الثنائي المصعد فأخرجت هاتفها لالتقاط صورة لهما بالمرآة :
-يلا نتصور ..
لم يمانعها بل دنى منها خطوة لضبط زاوية الصورة ليلتقط الاثنان أجمل صورة بحياتهما صورة اجتمع فيها الشمس والقمر في لحظة واحدة .. فتح باب المصعد فسمح لها بالخروج أولاً ثم تابع خطاها بشموخ وهيبة لفتت أنظار الجميع .. كل الأعين تلتفت لجمالهم وتناسقهم بانبهار كأنهم خلقا ليكملا بعضهما البعض ..
فتح لها باب السيارة بشياكة وأشار لها أن تدلف .. فأعجبت بلفتته الساحرة وشكرته :
-كمان أيه الدلع ده كله !! مرسي ..
قفل الباب خلفها برفق ثم دار ليجلس بجوارها وقبل ما يحرك السيارة سألها :
-ليلة أخدتي أدويتك في معادها .. مش عايزك تأهملي العلاج .
لمعت فرحة اهتمامه بها بعينيها وهزت رأسها بالموافقة :
-أخدتها كلها متقلقش .. أنا كويسة حتى الصداع خف خالص بطل يجي زي الأول ..
-إن شاء الله مفيش غير كل عافـ.ـية ..
-يارب ..مرسي .
ثم اعتدلت في جلستها لتطلع عليه :
-الفرح في فندق سان ستيفانو ..قريب من هنا مش بعيد ..
حرك السيارة مفارقا المكان بهدوء فاقترحت عليه قائلة:
-ما تسمعني حاجة على ذوقك .. قصدي بتحب تسمع مين !!
ارتسمت الابتسامة على وجهه وهو يغادر بوابة الفندق ، رد ببشاشة :
-بحب اسمع منير .. تقريبا مش بحب اسمع غيره .
-أول مرة أقابل حد يقولي بيحب منير .. أو !! أنت دايما غريب كده حتى في اختياراتك ؟!
ثم فتحت هاتفها المتصل بالسيارة وقالت :
-حابب اشغل ايه .. اختار اغنية ؟!
حانت منه نظرة سريعة ثم عاد لينشغل بأمر الطريق :
-شغلي أغنية يونس ..
شرعت كلمـ.ـا.ت الاغنية التي كانت تستمع اليها ليله باهتمام لأنها اول مرة تسمعها ..حتى تلاقت أعنيهم عند سؤال منير وهو يقول :
-وده حب أيه اللي من غير أي حُرية !!
كأن أعينهم تعتذر لبعضها وللحب المستحيل الذي يزهر بين قلوبهم المُكبلة .. فتعالى صوت الغناء الذي ملأ قلبه بالتنهيدات والنظرات المتقطرة منها فوق قلبه كالمطر .. حتى تمتم سرًا مع كلمـ.ـا.ت الأغنية التي جاءت على و.جـ.ـعه وقلة حيلته :
-يا عزيزة يابـ.ـنت السلطان لو يتغير الزمان وقابلتيني في أي مكان .. كنت أعشقك من غير ما تقولي ..
أجواء الأغنية بكلمـ.ـا.تها سلبت قلوبهم لعالم أخر عالم لا يلونه الا الحب .. انتهت الأغنية مع انتهاء المسافة فتولدت بينهما ذكرى طريق عمرها أغنية لمنير .. فهتفت :
-وصلنا وكمان الأغنية خلصت .. الأغنية طلعت حلوة أوي أبقى نسمع منير وأحنا راجعين ..
هبط من السيارة التي فتح بابها العامل أمام الفندق .. فترك له مفتاح السيارة ليقوم بركنها ووقف بجوارها منتظرها أن تعيد ترتيب فستانها دون التطلع إليها .. وما نصبت قامتها و لاحظ ظلها فوجئت بكفه الممتد لها لتتمسك به .. صدmة كانت إثرها تنهيدة ملحوظة وهي تدس أصابعها بين فراغات يده ليتقدmان معاً نحو صالة الفرح …
هبط الثنائي على درجات السُلم بتناغم يلفت نظر الأعمى .. احتارت الأعين عن هوية ذلك الرجل ذو الخطوات المغــــرورة وأناقته الطاغية .. أم على جمال الفراشة التي تتمسك بالغصن فتزيده هيبة وسحر .. ارتفع صدرها بتنهيدة واسعة وهي تنظر له وكأنها تكذب أنظارها تشعر وكانها بحلم جميل يشبه أفلام ديزني التي تعشقها وقالت له مقترحة :
-تعالى نقعد هنا ..
شـ.ـد لها المقعد بشياكة لتجلس فوقه ثم فك زر بذلته وجلس بجوارها وهو يتأمل تفاصيل الحفل فسألته :
-عجبك المكان ؟!
-حلو …
-بابا العروسة يبقي مساعد وزير والعريس باباه كان طيار في الدفاع الجوي ..
-فرح تقيل يعني !!
تفاخرت بنفسها :
-يابني أنا مش بصاحب أي حد ..
توافدوا عليها الفتيات ليرحبوا بها فأخذوها من هارون الذي لم يتزحزح أعينه عنها .. ونظرات رفقاتها التي لم تتركه بعد .. شهقت جوري منبهرة :
-ليلة !! الولد طلع مز يخربيت حلاوته ..  عـ.ـر.فيني عليه ..طيب ينفع اتجوزه !! قولي ااه ..
فأتبعت شروق :
-يانهار جمدان !! ده طلع غير الصورة خالص .. أنا حبيته .. بصي هروح أخد نمرته .
زفرت بضيق وهي تقرصها بكتفها :
-عيب على فكرة مش بيكلم بنات .. بيكلمني أنا بس !!
-ده ليه ؟
ردت بثقة :
-عشان أحنا صحاب ..
أتبعت علا بدهاء :
-صحاب مين يا هبلة ده منزلش عينيه من عليك !! ليلة لو متنازلة عنه أنا ممكن أخده وهخليه يحبني ..
توهجت الغيرة بصدرها من سخافات صديقاتها :
-ممكن تسكتوا وعيب الكلام ده !! بلاش ياخد عنكم فكرة وحشة وأنتوا أصلا هُبل وبتهزروا ..تيجي تسلموا وتمشوا على طول ..بأدب .
ثم تقدmت له ليلة لتعود جالسة بمكانها :
-هارون بيه .. أحب أعرفك على صحابي .. شروق علا جوري .. وده يا بنات هارون بيه العزايزي ..
مدت شروق كفها لمصافحته بلهفة :
-هاي يا هارون بيه نورتنا .. أنا شروق .. ليلة حكت لي عنك كتير ..
امتنع عن مصافحتها بابتسامة خفيفة واضعا كفه على صدره ليقول :
-أهلا بيكي ..
فتدخلت ليلة بعدmا ألقت نظرة على يمينه فوجدتها خالية من دبلة زينة التي نزعها عمدًا وكأنه أخيرًا تصالح مع حقيقة رفض قلبه لها .. فبررت الموقف بحرج :
-قولنا مش بيحب يسلم كتير .. ده راجـ.ـل صعيدي يا بنات ..
سحبت شروق كفها وأخذت تختلق أحاديث مع هارون عشوائية كان لا يجاريها وظلت الفتيات تخلق المواضيع التافهة بينهم للتحدث معه فتدخلت ليلة لرفع الحرج عنه :
-خلاص يابنات هارون بيه مالهوش في الكلام الكتير ..ولا ايه !!
بعد كثير من المحاولات انسحبت واحدة تلو الأخرى منهن فمالت ليلة نحوه متسائلة :
-أنت ليله مسلمتش عليها .. أحرجت البـ.ـنت ..
برر موقفه :
-لو كنت سلمت عليها مش هخلص منها ومن صحابها .. ومش حلوة لما ألــم البنات دي كلها حوليا فأنا قطمت الكلام معاهم …
لمعت عينيها بإعجاب :
-طيب واشمعنا أنا ؟؟!
تحمحم مشوشا على الموضوع :
-أحنا مش صحاب ولا إيه .. ما أنت لسه قايلة ..
-أيوة صح أحنا صحاب .. بس هي فين دبلتك ؟!
كور يده حاسما أمره بخصوص دبلته :
-شكلها وقعت مني .. كبري ..
-يعني ايه وقعت !! وزينة هتضايق …
هنا أنقذه أحد الشباب الذي تعرف عليه بعد محاولات :
-مش معقول !! هارون بيه العزايزي !!
وقف هارون ليرحب بصديقه:
– شهاب عز الدين ؟! أيه الصدف دي ؟؟
أردف شهاب :
-بصراحة اخر واحد كنت متوقع أشوفه هنا !! فينك وفين أراضيك ..
ونظر لليلة :
-وايه لم الشامي على المغربي ..أنتو تعرفوا بعض!
تدخلت ليلة مندهشة :
-أيه ده أنتوا تعرفوا بعض … ؟!
بادر شهاب قائلا :
-هارون بيه دفعتي .. كنا دفعة واحدة في الوادي الجديد .. وأحلى أيام قضيتها في العزايزة عندهم .. وكنا مقدmين نيابة سوا بس هو اللي خسره القضاء ..
هز هارون رأسه متسائلا وهو يبلع غصته التي لم يستطع التخلص منها بعد :
-وحاليا ماسك فين يا شهاب بيه ؟!
-ماسك في الجيزة وجيت أحضر فرح أختي .. بس أنت تعرف ليلة الجوهري ازاي ؟.
رد بدون تفكير :
-شغل …
فأيدته ليلة :
-ااه شغل ..
فمد شهاب يده متغزلا بجمالها وهو يتأهب لطبع قبلة خفيفة على كفها :
-عمرك ما فشلتي تبهريني بجمالك ..
أصبحت عينيه ككرتين من نار أرعـ.ـبتها فشـ.ـدت يدها بسرعة وهي تبتسم بتصنع بوجهه :
-مرسي يا شهاب بيه .. وأنت خطبت ولا لسه ؟!
-لا لسه .. وشكلي كده لقيت الوسيط اللي ممكن يتوسط لي للعروسة اللي تقلانة علينا .. سمعت إنك سبتي شريف أبو العلا !!
قال جملته وهو ينظر لهارون بتأمل في تحقيق مراده .. هارون الذي تبدلت ملامحه في لحظة .. لم يكمل شهاب جملته فأقبلت أخته الصغرى :
-شهاب بابي بيقولك تعالى استقبل معاه ناس مهميين ..
استأذن شهاب مؤكدا بعودته مرة ثانية .. جلست ليله على مقعدها وهي تملا كوب الماء بتـ.ـو.تر والخــــوف يملأ من نظراته الصامتة ..وضع قبضة يده على سطح الطاولة وسألها بنبرة محقق :
-ت عـ.ـر.فيه منين؟! ..
ردت بتلقائية :
-ده يبقي أخو العروسة وجيراننا في الكمبوند .. وو كان متقدmلي زمان بس مامي رفضته واصرت على شريف ..
فأتبع هارون الذي قرأ نظرات شهاب :
-وشكله ناوي يجدد طلبه !!
هزت كتفيها بذعر أرنب :
-يجدده كدا كدا أنا مش بفكر في الموضوع أصلا .. بس …
ثم راقت لها فكرة النبش بمشاعره :
-لو أنت شايفه عريس كويس أنا ممكن أوافق ..
رد بحسم لينهي عبثها الذي يخـ.ـنـ.ـقه :
-لا مش كويس وبتاع بنات من زمان .. وعينه زايغة ..ومش بطيقه .
-ااه .. مش يمكن عقل طيب وبطل ..
-بطل أيه !! دي لو الناس كلها تابت وبطلت شهاب عزالدين ميبطلش ..
ثم دار إليها بزعابيب غيرتها الساطعة :
-بس لو عاجبك أنا ممكن أقوم أطلب لك يده ..
شغلت نفسها بالبعث في الزهرية الموجودة أمامها وهي تتمتم:
-لا مش عاجبني ولا حاجة !! أصلا كبير عليا ده 35 سنة !! وأنا لسه في العشرين..
-وايه عيب أبو 35 سنة !هاه؟!
أدركت صعوبة المأزق الذي تورط به نفسها :
-لا خالص .. حلوين أنا ماقولتش حاجة .. كلهم حلوين لكن شهاب نوت ماي تايب خالص ..
كرر سؤاله :
-وايه التايب بتاع الأستاذة اللي همـ.ـو.ت وأعرفه !!
كتمت ضحكتها مرتديه وشاح الجدية وهي تتأمل تفاصيله بإعجاب :
-أي راجـ.ـل لون أبيض نوت ماي تايب .. بحب الرجل الأسمراني ..عارف ليه ؟!
شع النور بوجهه مرة أخرى وسألها بفضول :
-ها ..!!
اقتربت منه وهي تغازله برقة وتتأمل بشرته الخمرية :
-عشان لما يزعلني أغني له أسمر يا سمراني ..مين قساك عليا ، لو ترضى بهواني بردو أنت اللي ليا ..
ثم شـ.ـدت نفس طويل من جمال ضحكته المدفونة :
-ماقولتش عليا هبلة ممكن .. أحنا صحاب ومفيش مابينا كده ..بس دي حقيقة مش بحب الراجـ.ـل يكون لونه أبيض خالص!!
-هي الرجـ.ـا.لة بقيت باللون الزمن ده !!
ثم رفع حاجبه آمرا :
-شهاب لو جيه تاني كشري في وشه ..أحسن عليا النعمـة ااا
-حاضر والله هكشر …بلاش تضايق .. أصلا هو رخم ومش بحبه !
مرت فقرات الحفل المتنوعة بين نظرات هارون وليلة التي قرأها الجميع إلا قلوبهم المتمردة .. ولن تخلو من مزاح ليلة المتكرر وهارون الذي يكتفي بابتسامته الخفية والثقيلة .. فاشتغلت أحد الأغنيات الرومانسية فكل شخص أخذ شريك حياته ليشاركه رقصة سلو مع العرسان .. تحمست ليلة بفرحة :
-الله ! بحب الأغنية دي أوي .. أحنا ينفع نرقص عليها صح ؟؟
رمقها بنظرة حادة تحمل الرفض القاطع جعلتها تعود لمقعدها بتفهم وهي تقول :
-صح ماينفعش .. خلاص والله مش هتكلم تاني ..
جاءهم شهاب من بعيد وهو ينضم لهم من جديد معتذرا عن تأخيره ليقول مقترحا :
-أنتو قاعدين ليه .. صح نسيت هارون بيه مالهوش في الرقص والكلام بتاعنا ..
ثم مد يده لليلة وقال مستأذنا :
-يبقي تسمح لي أخدها منك الرقصة دي ياباشا ..
تراجعت ليلة للوراء خائفة من رد فعل هارون الذي فزع قائما وهو يقف أمامها ويصافحه باختناق :
-اعذرنا يا شهاب بيه .. بس أحنا يادوب نحلقوا نمشوا .
ثم نظر لليلة :
-أنت مش عملتي الواجب ؟!
ردت ببلاهه :
-واجب أيه !!
ثم أدركت على الفور قصده :
-اااه اهه عملت الواجب خلاص ..خلصت الواجب أصلًا .
فأكمل هارون بضيق :
-اسمحلنا نمشوا يا شهاب بيه .. وان شاء الله الفرحة الجاية تكون فرحتك ..
ثم مسك حقيبة ليلة الصغيره بيده وهاتفها وباليد الأخرى سحبها وراه متجردا من كل القواعد التي تمنعه بأن يأخذها من الحفل وينفرد بها .. تابعت سيره ركضا حتى فارق الثنائي الحفل واتجه بها لخارج الصالة نحو الشاطئ الخلفي للفندق .. قدm لها حقيبتها وتركها بمكانها ثم تقدm خطوتين وهو يتأمل البحر الثائر أمامه الذي أشعله بالصبابة والحب وأفلت زمام قلبه من تحت يده ..
تقدmت له ليلة بعد ما نزعت حذائها المهلك لقدmها ودنت منه معتذرة :
-أنت اتضايقت عشان شهاب ده .. بس انا ماليش ذنب تزعل مني ليه !! هو اللي قليل ذوق على فكرة بس وو
ثم قاطع حديثها رنين هاتفها الذي أجابته على الفور بتأفف :
-ألو !!مين ..
اتاها صوت فتاة تعرفها بنفسها وتخبرها :
-أستاذة ليلة أنا سارة مديرة مكتب شناوي بيه .. هو مستنيكي بكرة عشان تمضوا العقود .. لقى ممول للبرنامج والفكرة ..
قفزت بفرحة :
-أحلفي كده !! والله قولي أنك مش بتكذبي عليا !!
أكدت لها الفتاة بفرحة وهي تخبرها بالميعاد :
-بكرة الساعة 11 هيكون في انتظارك في مكتبه ..
قفلت المكالمة مع سارة وهي تقف أمامه لتزف له الخبر بأنفاسها المتصاعدة :
-هارون .. عارف مين كلمني.. ألحق ! ده الشناوي .. ده غير رأيه وعايزنا نمضي عقود البرنامج ..
ثم قفلت جفونها وفتحتهم مرة أخرى وهي تهلل لتحـ.ـضـ.ـنه من فرحتها :
-أنا مش مصدقة .. حلمي بيتحقق .. أنا سمعت صح مش كده ..
كانت بين يديه بكل فرحتها وسعادتها التي لم تشاركها مع أحد غيره .. نسى كل تصرفات شهاب التي أغـــضــــبته واكتفى مربتاً على كفتها بفرحة هو السبب فيها بعد ما عقد اتفاقه المُغري للشناوي فتخلى عن رشـ.ـدي وفضل مصلحته :
-مش قولتلك كله هيتحل .. أنت بس اللي معندكيش ثقة في نفسك .. مبروك عليكِ .
ابتعدت عن حـ.ـضـ.ـنه وهي تأخذ أنفاسها بصعوبة وتضحك :
-أنا هيبقى ليا برنامجي .. بس هو اقتنع ازاي ..دانا خرجت من عنده بعيط .. أنا فرحانة أوي …
ثم أطالت النظر بعينيه واغــــرورقت عينيها بالبكاء :
-أنا مش فاشلة زي ما كلهم بيقولوا عليا .. أنا هعمل برنامج وهيبقى أشهر برنامج في مصر ..حاسة قلبي هيقف من الفرحة وشك حلو عليا .. حقيقي شكرا ..
-مبروك يا ليلة أنتي تستاهلي كل خير وفرحتك دي عندي بالدِنيا وما فيها …
ظلت تقفز أمامه كالطفلة معبرة عن سعادتها :
-تعرف عايزة أرقص واتنطت وأقول لكل الناس أن ليلة الجوهري هتبقى أكبر إعلامية في مصر .. وبكره أنافس منى الشاذلي ولميس الحديدي ..
ثم وقفت تحت مظلة أنظاره بأعين باكية :
-كان نفسي بابي يكون معايا دلوقتي ..بس هو أكيد حاسس بيا ومبسوط .
وقف أمامها وهو يخرج السماعات اللاسلكية من جيبه ويضع واحدة بأذنها والأخرى بأذنه فسألته بتوجس :
-أنت بتعمل أيه ؟
أراد أن يرد على إهانة شهاب له واتهامه بإهماله للرقص والتقليل منه .. فقال :
-هت عـ.ـر.في حالًا …
ثم شغل على هاتفه اغنية “ناداني لمحمد منير” .. التي بدأت بالكلمـ.ـا.ت الهادئة التي منحته الفرصة في تأمل تفاصيل وجهها عن كثب وهو يرجع تلك الخصلات التي تزحم ملامحها وراء أذانها ..
أخذ يتأملها متمليًا في تفاصيلها التي آسرته وهو يمرر كفه الخشن من حمل الصخور على وجنتها الأشبه بالقطن فهتز جسدها للمسته الحرة التي لا تخلصت من كل قيودها وكلمـ.ـا.ت الأغنية باتت تصدح بمسامعهم معاً ويحتفل موج البحر ثائرا محتفلا ببوادر مشاعرهم المشتعلة .. وبدأت سماء إسكندرية التي لم تتوقف عن المطر بالتقطر فوق ملامحهم الغارقة بالحب وببعضهم البعض ..
خاطب عيونها بكلمـ.ـا.ت منير
“شىء من بعيد ناداني .. و أول ما ناداني .. جرالي ما جرالي ”
ثم تدلت كفوفه عن وجهها ليقبض على خصرها الذي يتناسب بمقدار كفه ..
وبالأخرى مد لها كفه فلبت طلبه بوضع كفها بداخله فقفل عليه بأصابعه كمن يعزف على بيانو .. كانت المسافة الفاصلة بين أجسادهم قرابة الربع متر ..
تكررت الكلمـ.ـا.ت وتكرر اللحن وتراقص نغم الحب بينهما وبين أعينهم الحائرة .. ثم تاه في السحر الملامح الذي جعلته ينزع ثوب العمدية والصعيد .. ويخضع لأوامر قلبه الذي أبرأت الديانات السماوية ذمتها على عتابه .. وهو يعتذر لعرفه وقوانينه ولحياة المستحيل بينهما
“ده مش بايدي يابا .. ده مش بايدي يابا ”
ثم باغتها بضمة قوية إليه بترت المسافة الفاصلة بين أجسادهما لتشهق مفزوعة بدون صوت وهي تغرق أكثر وأكثر بسطوه المسلح الذي هجم على قلبها …
-“ناداني من يميني ولسه بيناديني ”
كانت ملامح وجهه ثابته لا يتحرك منها الا عينيه فقط .. وكانت خطواته متزنة كل خطوة محسوبة بمقدار .. قطع معها خطوة لليمين ثم للأمام وعند لحنه:
“بيقولي حصليني على بلد العجايب ”
دارها أمامه كفراشة في حقل زهور .. لقد كان يحركها كمن يحرك عروسة خشيبة يلعب بحبالها ببراعة .. كرر تلك الخطوات نحو الشمال وهي تذوب في سحره الذي اكتشفته معه للتو .. وجملة المشاعر المتدفقة بقلبها وهي تتوه وتتوه في طريق عينيه الي مالا نهاية .. ثم دورها مرة أخرى وتلقاها مائلة على كفه ..تحكي الخطاوي قصتهم ، غرباء ثم لقاء ثم تشابكت الايادي واتحدت الانفاس وتناغمت الخطوات وتعانقت الارواح المغلفة بالحب
انحنى ظهرها وخيم بأهدابه المنحنية عليها وهو يملأ جيوب قلبه من ملامحها وعنـ.ـد.ما قال منير “تعالي قوام تعالي خدي من الحب نايب”
ضمها مرة ثانية لحـ.ـضـ.ـنه بعد ما وضع كفها الرقيق على كتفه لتنفرد يساره بضم خصرها على بقية الاغنية يتمايلان بحالة من الحب فريدة لم تزر الاثنان طوال عمرهما ..
تدلي كفها برقة ليستقر على صدره الصلب وطالعت عينيه معبرة بصعوبة لجملة المشاعر التي سكنتها على سهوة منه :
-انت اتعلمت الرقص فين ..؟
إذا كانت الشجرة لا تعرف كيف ترقص فستعلمها الرياح .. وإذا كان المرء يجهله فسيحركه القلب الذي يحرك الصنم ؛مدرسة الرقص الأولى هي الحب ثم عينين من تحب .. أن وطأت الأقدام بوابتها سبحت وسرحت القلوب بدون رقيب ..
رفع كفها ليديرها مرة ثانية ويشـ.ـدها بقوة حـ.ـضـ.ـنه الذي أحست بملكيته وانه لا يحق لاحد أن يشاركها فيه .. فتمتمت معترفة وكأنه سكب على قلبها بحرًا من حنانهِ في الحِين الذي كان العَالم كله يخيفها:
-تعرف ان دي اول مرة ارقص فيها مع حد .. أحساس مختلف وجميل .
أحيت ألف عرق ممتد لقلبـه بقُربها الساحر .. فدmدm معترفًا لعيونها وهو تحت تأثيرهما :
-ودي أول مرة يرجعلي فيها هارون القديم اللي فقدته من زمان !
ارتشفت الحُب من عينيه حتى بعد معرفتها بأعراضه الجانبية :
-القديم كان شخص غير هارون اللي أعرفه دِلوقت !!
-فرق سما وأرض ..
-بتحب مين أكتر طيب !
-القديم .. كان تايه ورجع !!
-مش فاهمة !! المهم إنك مبسوط ؟
-أنتِ مبسوطة ؟!
-مش عارفـة بس لما قلبي يدق بسرعة أوي أبقى كده مبسوطة !! صح ؟
ثم جلى حلقها وهي تشاهد تضاعف المطر فوقها .. فاحتمت بحـ.ـضـ.ـنه ضاحكة كأنه قدm لها صك الملكية لهذا المكان :
-دي بتمطر اوي .. الجو تحفة ..
ثم تحمست ممسكة بكفيه :
-أتمنى أمنية بسرعة ..
تمعن النظر بها ولأول مرة يكتب قلبه امنية تكون إمراة .. تنفس حروف اسمها وهو يرسل أمنيته للسماء بصمت لا يليق بقلبه الثائر :
-أخلق معجزة يالله واكتبها لهذا القلب الذي لم ينل شيء تمناه بحياته.. ويوم ما تمنى تمنى إمراة مثلها .. كلا إمراة تكون هي وحدها ..
لاحظت شروده :
-اتمنيت !!
هز رأسه بهدوء فاتبعت بعفويتها و تلقائيتها :
-أقولك قصة مضحكة مع المطر والبحر !!
-متقدريش تعديها من غير حكايات !! قولي ..
شرعت في رواية القصة الطفولية :
-وأنا صغيرة كنت متعلقة أوي بفيلم سعاد حسني .. صغيرة على الحُب ..ولما كانت بتمثل المسرحية في الفيلم .. و طلع لها عم حـ.ـز.نبل فاعل الخير اللي دايما بيحب يساعد الغير ..
ثم أخذت تقلد حركات سعاد حسني بالتفصيل بالفيلم وهي تمشي على طراطيف أصبعها :
-ففي المسرحية لما طلبت منه طلب واتحقق !! فاكر المشهد ده ؟
لقد كان يتذكر المشهد بتفاصيل ولكنه فضل أن يسمعه منها ، داعب الهواء ملابسه :
-وبعدين ..
تدللت أمامه بنفس شغفها الطفولي وهي تتمنى أمنيتها تحت عينيه بكناية :
-لما قالتله ، عايزة افتح عيني أغمض ألقى عمري بقى عشرين .. علشان ايه ؟! علشان اعجب شاب يكون 35 ….علشان خاطري ياعم حـ.ـز.نبل بس ولو ليومين اتنين ..
ثم انفجرت ضاحكة أمامه وأتبعت :
-كل ما تمطر وأنا على البحر افتكر المشهد ده ، ولازم أمثله تحت المطر ، مش عارفة أيه العلاقة بس بحبه أوي !!
ثم نظرت لعينيه :
-يمكن عشان قلبي بيتمنى فعلًا حد زي عم حـ.ـز.نبل يحقق لي أمنيته حتى ولو يوم ..
ثم شهقت بفزع :
-يا خبر !! كلام فردوس بتاع الفنجان طلع صح !! قالتلي حلمك هيتحقق وفي عريس!! يكون قصدها على شهاب !! بس هي قالت زي الطاووس لكن شهاب ده زي الدب القطبي !! يارب تكون غلطانة .
أشعلت جمر الغـــضــــب والغيرة بملامحه من جديد :
-هي الست دي مش هتبطل قراية فناجين !! طيب يا فردوس ..
ثم أشار لها بنظرة من عينيه :
-أمشي قِدامي !! هو أنتِ أيه بينك وبين حرف الشين !! يعني بالعقل تسيبي شريف عشان تاخدي شهاب !! طب غيري العتبة !
وقفت أمامه متراقصة على أوتار تمرده :
-يعني اركز على حرف أي في المستقبل !! أيه رأيك في حرف الهاء طيب !!
تخابث عليها :
-هيثم أخوي !! حلو مجانين زي بعض ..
-ااه هيثم ده وحشني جدًا ، أنا قصدي هيثم على فكرة، اقولك انا عايزة اروح ..
سبقت خطاه وهي تمحل حذائها بيدها وتسير نحو السيارة فأتبع خطاها وهو يتحدث مع امه الذي لم تتوقف عن الرنين :
-أنت هتعاود مـ.ـيـ.ـتى يا هارون !! ومعتردش ليه على البت زينة !! البت هتتعـ.ـبـ.ـط بسببك ..
رمق ظهر ليلة بنظرة حائرة وهو يقول حاسمًا قراره بخصوصها متأملًا أن ينال مراده يومًا ما :
-صفية ؛ قولي لزينة الچواز قِسمة ونصيب وهارون مش هيكمل في الچوازة دي …
•••••••
“وقلب الإنسان غريبٌ، رحّالٌ في سفرٍ، أينما هامَ أو حلَّ يتقصَّى مواطِن الأُلفة.. فتارةً يلقاها في روحٍ، أو في سكنٍ، أو في لحنٍ، أو في صورةٍ، أو في كتابٍ.. وتارةً يأنسها في نفسه.
ومرّاتٍ يفتقِدُها في أيّامه الحاضرة، فيستحضِرها حِينًا في خياله، ويرْثِيها حينًا في مَباكِيه.”
#لقائلها .
•••••••••••••••
عنـوان الفصل :
( تقـاوم ألــمًا .. وتهزم ألــمًا )
” امرأة جاءته كضـ.ـر.بة حظ في الدقيقة التاسعة والثمانون من اليأس الذي كاد أن ينهي حياة قلبـه ”
كُل شيء رائع بوقته ، كُل شعور فريد نعيشـهُ؛ نحيا بهِ .. يكون جميلًا لولا وجود ذئب النـ.ـد.م الذي يُراقبك من بعيد ، يشاهدك وأنت تمرح كيفمـا تشـاء ثم يسبقك ركضًا لغُرفتك ويُقفل عليكما البـاب مساءً ، وتبدأ جولة صراع فتاكة يخوضها القلب وذئب النـ.ـد.م بدون طرف تحكيـم ينهي هذه المعركة في ساعة ما …
عاد هارون لغُرفتـه بعد انفلات زمام قلـبه الذي ساقـه لطريق الذنب ، والنـدm .. قفل بابه بعد ما ودع ليلتـه الشهية ووقف أمام المرآة غارقًا بتفاصيل إمراة رممت قلبه المشروخ وأعادته للحيـاة ..
راودته تفاصيل ذراعه الذي عانق خصرها وكأنه كان ممسكًا بيده زهرة من الجنـة شعورها لا يوصف من شـ.ـدة الجمال ..
أخذ نفسًا طويلًا وهو يتذكر تفاصيـل عينيها المُقمرة التي فعلت بقلبه كافة الظواهر الكونيـة ، أحدثت ظاهرتي المدّ والجزر في مجرى شواطئ دmه الهادئة طوال عمره ..
نزع ساعة يده وظل يتذكر كلمـ.ـا.ته ، أوامره .. فرضه المُبالغ في السيطرة عليها ، كونه معها شخصًا لم يعرفه ولكنه اكتشفه على حدود دولتها ؛ ليتساءل.. لِمَ كل هذا التحول المفاجئ يا عزايزي ؟!
فك زر بذلته ونزعهـا ثم رفعها لمجرى أنفاسه ينعم برائحة عطرهم الممزوج ببعضه ، كما امتزجت قلبهم منذ الرقصة الأولى .. ترك السترة بهدوء ثم عاد للمرآة وهو يفك رابطة أسرها من حول رقبته ، قلبه بتشتت وهو يتساءل ألف مرة بينه وبين نفسه حول كفارة الذنب الذي اقترفه للتو ! خــــوفه الشـ.ـديد من عقوبته إثر ملامسته لإمراة لا تحل له !!
برر قلبه المتمرد على عقله وضميره قائلًا :
-هذا كله يعود لسحر إمراة مثلها .. لقد غلب سحرها إيمانك !!
زفر بضيق كأنه يطرد حرائقها من جوفه ممسكًا بهاتفـه ليتصل بأخيه ، يستفتيه ، يشرح له الأمر !! كيف يغتفر ذنبه !! كيف ينتصر على تأنيب ضميره الشرس !! تردد كثيرًا ثم رمى الهاتف من يده بتأفف :
-إذا بُليتم فاستتروا يا هارون !! ديه هِلال ممكن يجيلك هِنه يقيم عليك حدود الله ..
قلب الشاشة عن رقم هلال ثم فتح معرض الصور فأول صورة كانت تخصهما معًا .. دقق بكُل شيء حتى أنوثتها ، جمالها وبراءتها الطاغيـة لم ينجٌ منها ، أحدثت زلزالًا بصدره دوّى أثره بابتسامة خفيفة على وجههُ ويبدو أنه أقنع فرقد ذئب النـ.ـد.م مبررًا :
-ربي لا تلوموني فيما لا أملك !! وأنا مش عارف عملت كِده ليه !! بس أنتَ غفور رحيم يارب ..
ثم ملأ صدره بالهواء وهو ينزع حذائه متجردًا من دنس قلبه الذي خدعه تلك المرة وساقه لبحر الهوى :
-استغفر الله العظيم وأتوب إليه….
~بغُرفتها .
كانت مُمددة بفراشها وساقيها متدلدلتين يُلامسا الأرض بعد عودتها مساءً من مدينة الحُب التي طلت عليها من عينيه لدقائق محدودة ، تحملق النظر بالسقف كفها على قلبها تتحسس أول قشعريرة حُب استدعت معها انتشاءً بعودة الحياة لهذا القلب المهزوم من الأيام ، ذلك الرجل المثير للعقل والقلب !! تبعه شعورٌ بحـ.ـز.نٍ رقيق على العواقب التي تُحيل بينهما حتى وأن جاء ضيف الحُب ، نفسه الحـ.ـز.ن الذي يزورها بعد كُل لحظة أمل ، يُسقط على قلبها مثل ورقة شجر هشة سقطت من غصن، لكنها لا تلبث طويلًا حتى يحملها نسيم صوته التي سكن مسامعها بعيدًا.
مدت يدها وشـ.ـدت الوسادة ووضعتها فوق صدرها المتراقص كي يهدأ كي يدفأ بعد ما ذاق الحرارة الحقيقية بحـ.ـضـ.ـنه ، ضمتها بقوة وهي تنتشي برائحة عِطره التي كست ثيابها وروحها ، حـ.ـضـ.ـنه الذي أحدث بجسدها الضعيفة ما لم يحدثه مولد كهربي .. تتراقص الضحكات حافية على وجهها وهي تردد اسمه بين كل نفس والآخر ، لتثرثر رافضة ذلك العبث :
-لالا !! اكيد ده حلم !! حتى ولو حلم كفاية إني مبسوطة .. مبسوطة أوي كمان .. أنا طول الطريق كنت سرحانة وتايهة في عالم حلو أوي .. عالم يجنن مش فيه غير أنا وهو وصوت منيـر .. أيه الحلاوة دي!!
ثم قضمت أناملها ببراءة وتنهدت معترفة :
-حـ.ـضـ.ـنـه كان ليـل من كتر ما هو مريح لو نامت النجوم جواه هتصحى شموس كلها حب وحيوية ..
ضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها كالطفلة صارخه بشغف :
-هو ازاي كده !! قلبي هيطير مني ومن تُقله وجماله وشياكته ورخامته ! أنا عُمري ما قابلت في حياتي التركيبة دي أبدًا .. رجل جاي من عالم تاني .
ثم قفلت جفونها وهي تستحضر بالذاكرة صورة ملامحه الجادة التي كانت تُراقصها فتمنت راجية :
-لو كان الزمن وقف عند الحتة دي وبس !!
ثم وثبت بملل تبدل ملابسها وهي تُغنى مقاطع مشتتة لمنير ، ” ناداني من يميني ولسه بيناديني ” .. ” يا عزيزة با بـ.ـنت السُلطان لو يتغير الزمان ” … ” وده حُب أيه اللي من غير أي حُرية ” .. ” تعالي أوام تعالي خُدي من الحب نايب”
رفضت أن تتحمم كي لا تزول رائحة عطره من فوقها ، ما فرغت من تغير ملابسها مرتدية ” سلوبته ” شتوية على شكل أرنب .. فأول شيء فعلته بعدها هاتفت رغد التي كانت تنتظر اتصالها على مراجـ.ـل من نـار ..
تعرف الاثنتان على بعضهما البعض وجرت المكالمـة روتينية حتى تفوهت ليلة مشـ.ـدوهًا :
-خبر أبيض ؛ يعني أنتِ وافقتي تتجوزيه ومش ت عـ.ـر.في أنهم بيرفضوا جواز الأغراب عنهم !! أزاي هاشم يعمل كده ؟!
اعتصرت رغد جفونها بحسرة :
-إحنا الاتنين خبينا يا ليـلة ، وأنا بكلمك عشان اتأكد وبس من الكلام اللي سمعته ؟! لو روحت عند أهله بجد ممكن يقــ,تــلوني ؟
احتلت الشفقة عيني ليلة المتأرجحة :
-بصي يا رغد ، أهل هاشم ، أخواته وأحلام وباباه ناس لطيفة جدًا وأنا اتعاملت معاهم شخصيًا .. بس المشكلة في الأعراف عندهم .. أنتِ مت عـ.ـر.فيش عملوا أيه في هِلال أخوهم لمجرد أنه نصف بـ.ـنت اتظلمت واتجوزها ..
ثم ساد الصمت للحظات وأتبعت :
-أنا عايزة اساعدك ومش عارفة ازاي !! بس أي رايك لو قلت لهارون .. آكيد هيساعدك ؟
انخرطت عبرات رغد :
-لا ، أنا معايا رقم هارون لو كُنت عايزة اكلمه كُنت كلمته ؛ بس .. حتى الحياة بيني وبين هاشم بقيت مستحيلة هو استغنى عني بسهولة يا ليلة بعد الحُب ده كله .
كانت ستُخبرها بخبر زواجه من ” نغم ” ولكنها تراجعت كي لا تحمل قلبها عبئًا جديدًا .. فأكملت رغد :
-الفكرة أن دلوقتي فيه بيبي !! البيبي ده هيتربى من غير أب !! ولما فكرت خفت أظهر في حياة هاشم يتأذى هو وابنه وو
صاحت ليلة بحسرة مصدومة :
-وكمان في بيبي !! وهاشم يعرف طيب !! ازاي ساب ابنه ومشي ، لالا هما مش كده صدقيني ..
كفكفت رغد سائل أنفها وأتبعت:
-هاشم ميعرفش إني حامل ، مشي قبـل ما أقوله ..
-يا روحي !! بجد زعلانة عليكِ مـ.ـو.ت .. بصي عايزة تسمعي نصيحتي !!
-قولي ، بس أنا خدت قراري خلاص ..
أتبعت ليلة مقترحة :
-أنتِ كده كده جوازكم رسمي وعند مأذون يعني البيبي هيتسجل بسهولة ، وسيبي هاشم شويـة لحد ما يهدى ويراجع نفسـه هو بس اتصـ.ـد.م آكيد ، وأنا هحاول اتابع الدنيا عندهم ونفكر بهدوء هنعمل أيه .. دلوقتِ أي قرار هناخده مش لصالحنـا .
ردت بيأس:
-ملهوش لزوم ، أنا عرفت خلاص هعمل ايه .
ربتت ليلة على قلبها وظلت تمنحها اقتراحات عدة بخصوص حياتها ووعدتها بأنها ستجد معها حلًا بأقرب وقت ممكن .. ولم تتركها إلا وابتسامة المجاملة والشكر على وجه رغد .. قفلت المكالمة وهي تستثقل حجم المسئولية عليها :
-حـ.ـر.ام رغد مسكينة ونغم كمان أيه ذنبها والبيبي .. كل ده من حضرة الظابط !! حـ.ـر.ام بجد ..
بالغُرفة الأخرى ؛ جُن جنونه من كثرة محاولات اتصاله المتكررة بـ ليلة فيجد الهاتف مشغوًلا ، دبت براثن الغيرة في قلبه حول هوية من تحدثه بعبث مراهق لا يليق بشخصه ، حتى أجرى مكالمة لأخر مرة وهو يقنع نفسه بأنها الأخيـرة وسينام بعدها فورًا ، ولكن تلك المرة خيبت ظنه و ردت بسرعة ، فآتاها صوته ثائرًا ويتردد صداه من الشُرفة :
-أنتِ بتتكلمي مع ميــن كُل ديه !!
شرعت بفتح الشُرفة ببطء وهي تعتذر منه :
-سوري بجد والله !!طيب أنت متعصب ليـه ؟
ثم خرجت للشرفة فوجدته أمامها بشرفته ، تدلى الهاتف عن أذنها وسألته :
-ها أنت متعصب كده ليه !
دار لعندها وهو يقترب من الجدار الفاصل بين الغُرفتين محاولًا تمالك أعصابه :
-ولا حاجة كنت ووو كنت جعان وبشوفك لو حابة اطلب لك معايّ وكل..
ثم رمقها بتخابث:
-شوفي بقا كنتِ شغالة محمولك مع مين ساعة وربع _فتسرب الشك لعنده متمتمًا_شريف ولا شهاب ولا أي شين معدية من معارفك وو
أعقبت بعفوية وبدون تفكير مقاطعة لحديثه :
-لا دي كانت مراة أخوك .. ر
عقد حاجبيه باستغراب مُقاطعًا الكارثة قبل أن تحدث :
-رُقية !!
ضـ.ـر.بت على رأسها بتردد وكأن وعيها عاد إليها :
-اه هي ، مين غيرها يعني !! أنت حد متجوز في أخواتك غير هلال !! كُنت بطمن عليها والكلام أخدنا وبس ..
حدجها بخبث:
-كل الرغي ده مع رقية !! بتچيبوا طاقة منين للرغي ديه كله مش عارف !! بالكم فاضي قوي .
ثم افتكرت المكالمة المفتوحة بينهما فقفلتها على هاتفها واستند معصمها على الفاصل الخشبي بينهما لتصالحه بصوت منخفض :
-و يا سيدي جعانة ، وبالمناسبة .. أنا حابة أعزمك على العشا ونحتفل بخبر النهاردة .
ثم أدخلت الهاتف بجيبها وهي تشـ.ـد غطاء رأسها الأرنوبي على شعرها فجملها بعينيه أكثر :
-تتعشي سمك و جمبري واستاكوزا ؟!
فكر للحظة وهو يرمى هاتفه على الطاولة الصغيرة متحيرًا :
-ما بزيادة فسفور !! غدا وعشا !
-ليه ؟! ماله الفسفور ده ڤيتامين يعني مش فاهمة زعلان ليـه ؟!
-أفهمها كيف دي !!
حك رأسه إثر وقوعه بالفخ وهو يبرر :
-ياستي كُتره مضر على صحة القلب .. قصدي مضر بصحتي .. شوفي حاچة غيره !!
دست كفوفها بداخل جيوبها وقالت بدلال:
-مش فاهمة حاجة بس ماشي ، طيب أيه رأيك أوديك مطعم بيعمل حمام محشي أجمد من بتاع صفية بكتير ؟!
بملامح وجهه المشـ.ـدوهة :
-يعني يا حمام يا جمبري واستاكوزا !! هو حد قال لك عليّ أني عريس وناقص تغذية !! ليلة بقول لك نفسي اتسدت هنامو خفيف .. ماله الخفيف ؟!
جاءت مقترحة :
-طيب خلاص شكلك مش حابب نخرج ، نطلب سندوتشات خفيفـة من الرستوران تحت وناكلها هنا قُدام البحر ؟!
-معقول ديه !!
راقت له الفكرة وقام بطلب بعض السندوتشات سريعة التحضيـر من مطعم الفندق ثم عاد إليهـا متناسيًا أمر نومـه الذي خـ.ـطـ.ـفه طائر الحُب من عينيه وهي تتطالعه بنظرة لا يتحملها قلب العاشق وتستعرض ثيابها الفضفاضة :
-أيه رأيك في لبسي ؟! الأرنوب شكله حلو .
شبح ابتسامة خفيفة على ملامحه مكتفيًا بنظرة سريعة وهو يقول :
-لا شياكة !!
-بجد !! يعني شيك ؟!
-على قولك شيك ..
استند مرفقها على سور الشُرفة وهي تُطالعـه بإعجاب وتقول بعفويـة :
-أنتَ عارف ، مرة واحد اتجوز واحدة كانت شيـك صحى من النوم لقاها كمبيالـة ..
ما أنهت مزحتها ونكاتها فتراجعت للوراء بضحكة تراقص القلـب ويغير منها ترنيم العصافير ،بجانب جمالها الساحر كانت مرحة خفيفة ظل و هذا ما يعقّد موقفه أكثر .. بات المفر منها مستحيلًا ؛ ابتلع ضحكته بثقل كي لا تتزحزح هيبته وهو يتأمل ملامحها الثوريـة التي تحدث بصدره قلقًا :
-ربنا يشفيكي ، أدي اخرة قُعادك مع هيثـم ..
عادت له وهي غارقة في دوامة الضحـك لتُداعبه بالحديث:
-طيب والله حلوة ، أنت مضحكتش ليه ؟! وشك بيضحك على فكرة .
حك أنفه ليخفي ضحكته محافظًا على غــــروره أمامها :
-أنتِ مش ناويـة تعقلي !!
-منا عاقلة أهو ، وأعجب الباشـا كمان ، وبكرة هبقى مذيعـة مشهورة وكُل الناس هتشاور عليا ، ووقتها تليفونك مش هيبطل رن من طلبات الجواز ، كُلهم هيجي يطلبوا أيدي منك عشان هديهم رقمك .
تأفف بهدوء ليقــ,تــل ذرات مشاعره المتطايرة:
-وماله !! ما أنتِ زي هاجر وهيام .. وعريسك عليّ لازم اختار عريسك زيهم .
كورت يدها تحت ذقنها مدركة الحدود الفاصلة بينهما ولتذكره بعهده مع زينة :
-على فكرة .. لازم تتصـرف في دبلة بسرعـة ، بصراحة أنك توقع الدبلة دي مش لطيفة وزينة هتزعل واسمها قلة تقدير لخطيبتك .
رد على الفور بدون تفكير :
-أنا سبت زينـة يا ليـلة .. ومش هكمل في الچوازة دي ..
خفق قلبها من مكانه فارحًا ولكنها ارتدت قناع الاهتمام لأمره :
-أيه ؟!!! أنتَ لحقت !! فجأة كده قررت هتسيبها ، خطبتها ليه من الأول ومسمعتش كلام أحلام !!
تنهد بـ.ـارتيـاح :
-لما فكرت لقيت كِده أحسـن ، قولت بلاش أظلمها معاي .. وو
أكملت مستفسرة :
-مقدرتش تحرك مشاعرك مش كده !! زي ما أحلام كانت حاسـة وبتقول .
-حاولت مقِدرتش .
-المهـم إنك مرتاح طيب؟!
تطالع لعنـدها :
-مش عارف ، كنت فاكر أنها أي چوازة والسـلام ، وعيلين والعمر هيخلص في الشغل .. كل ديه اتبخر فچاة وبقيت بقول مش هو ديه اللي أنا عاوزه ..
بللت حلقها وهي تقول ناصحه :
-مش صح ، الطفلين دول عشان يجوا لازم يلاقوا أب وأم بيحبوا بعض عشان هما كمان يحبوا الحياة .
حانت منه نظرة إعجاب :
-أنتِ صح ..
داعبته بالكلمـ.ـا.ت بمرح :
-يعني أنا وأنتَ سينجل زي بعض دلوقتِ !! ماشاء الله جيت بلدكم فسخت خطوبتي ، أنت جيت بلدي فسخت خطوبتك !! للدرجة دي وشنا حلو على بعض !!
مازحها بخفة :
-هي أقدام يا ليلة !
-اسمها أقدار يا عُمدة ، بالمناسبـة ؛ أيه الفرق بين هارون القديم وهارون بتاع دلوقت ؟!
تذكر أيامه القاحلة بعـ.ـذ.اب مرير يدفنه كل ما يرى طيفه :
-الفرق أن هارون القديم كان يحلم، يسمع لصوت قلبـه ، ويفتش على اللي يِسعدهُ وبس ..
أما اللي قِدامك شخص معندهوش قلب ، قلبه رماه في تُربة وقفل عليه من زمان .
اقتربت خطوة أخيرة لتلصق بالسور الخشبي الفاصل بينهمـا :
-لو سألتك سؤال .. هتجاوبني بصراحة مش كده ؟!
-أنتِ عارفة ماليش في التحويـر .
بللت حلقهـا :
-هارون بيـه أنتَ حبيت قبـل كده ؟! حبيت والحب ده مكملش ومن وقتها قفلت على قلبك وبقيت كدا!!
تناول سيجارة من عُلبـته واستأذنها قبل إشعالها فوافقت على مضض متحمـسة لسماع جوابه الذي استغرق وقتًا طويلًا في التفكيـر بهِ :
-في تانيـة جامعـة ، عچبتني واحدة معاي في الدفعـة ، كانت زعلانة أني طلعت الأول وهي خدت ترتيب تاني ، عچبني شطارتها وذكائها ..
-حلوة !
-كانت حلوة ..
تنهدت بشغف:
-ها وبعدين كمل ..
-ولا قبليـن ، خدت شهر اتنين لآخر التيرم ، كنـا نتكلمـوا لغاية ما قفشتني أحلام وحكيت لها كُل حاچة ..
تحفزت لسماع المزيد :
-عملت أيه أحلام !! نصفت قلبك مش كده!
-أحلام في الحق چبـ.ـارة ميعركيش حنيتها ..
أشادت معجبه:
-أحلام دي سُكرة .. كمل .
-قالت بالحرف كِده
“توبـنا واسع وبنات العزايـزة على قفا من يشيل اختار منيهم من بكرة أروح أخطبهالك .. بس بلاش تصغر أبوك وسط الخلق .. أنتَ الكبير والكبير لازمًا يبقى فوق الكُل ، متخليش حد يمسك عليك غلطة ومتظلمش البـت اللي معاك يا هارون وتخش في مشاكل منتش قدِها .”
رمشت مرتين بشفقة :
-وسبت البـ.ـنت ؟
-سبتها طبعًا ، وقفلت بابي في وشها ومن ساعتها قفلت باب قلبـي لمدة ١٥ سنـة !
سألته :
-لسه بتفتكرها ؟!
نفى قطعًا :
-لا خالص لوّ شوفتها مش هعرفها أصلًا ، وهي اتجوزت وخلفت وعرفت أنها سافرت كمان من بعد الچامعة ..
-زعلت عليها ؟!
-في وقتها زعلت ، لكن بعدين عرفت أن ديه الصح ورضيت .. وأن الحُب مش كُل حاچة
-الحُب أهم حاجة …
أنكر :
-كلام مراهقين ..
ابتسمت ببشاشة :
-طيب أيه هي مواصفات البـ.ـنت اللي ممكن تفتـح قلبـك ده المقفول لـه ١٥ سنـة يا عُمدة ؟!
ضلل على سؤالها الذي لامست به جدار قلبه :
-قصـدك يحبها يعني ؟!
-بالظبـط كـده..
-طب أنتِ شايفة يعني أيـه الحُب أصلًا ..؟!
هشت على وجهها الذي يشع حرارة بتوجس لتقـول :
-أنا معرفش الحُب غير من الأغاني القديمـة وبس ، مرة صباح غنت وقالت أن الحب ده له علامة ، ياخدك ويلف بيك بحور ياما ..ويسيب القلب في دوامة ..ويصحيك بالليل من غير داعي وتلاقيكي بين عقلك وقلبك ..
ثم أخذت نفسًا طويلًا وأتبعت بشرود وهي تتأمل البحر لتقـول :
-بس قالوا كمان أن بحر الهوى غدار والخطوه فيه فدان نزلوه فى ساعة شوق .. قبل الاوان باوان .
ثم عادت لتنظر له :
-بس بابي مقاليش يعني أيه حُب .. قال لي اختاري الشخص المناسب يا لي لي ، لأن الشخص المناسب هيخليـكِ تقعي في الحب تلات مرات ..
ثم دارت لتسند ظهرها على السور وتتأمله:
-لأنك ساعتها هتقع في حُب نفسك مرة ، وحب الشخص ده مرة وحب الحياة كُلها مرة .. أظن بابي كان قصده أن الشخص المناسب هو اللي هيعلمني الحُب مش كده !
ألتفت لحديثها المثير لقلبه وعقله باهتمام متسائلًا بفضول خفي :
-وأيه هي مواصفات الشخص المناسب ليكِ .. أحم عشان أعمل حسابي قبل ما أوافق أو أرفض أي عريس يچيلك ؟!
اندلعت من صدرها ضحكة مسموعة وهي تُجيبه متدللة :
-بصراحة أنا عايزاه زي ما شادية غنت وقالت وو
ثم وضعت كفها على سطح الفاصل بينهما واستندت بذقنها عليه وأتبع تشـ.ـدو على قلبه كأنها تُخاطب عينيه بغنج خاصة بعد تجردها من شعور الخيانة لمشاعر زينـة أحست بملكيته :
-في إيديه قوة تهد جبال ، وعليه صبـر و طولة بال ، وعينيـه حلوة …
ثم أصدرت صوت إيماءة:
-لو كان شبهك وافق على طول ..
ثنى سيجارته بقلب المطفأة وهو لا يزحزح عينيه المنتشيـة بسماعها وبسماع ترانيمها المُسلية و يراقبها بعينين تحترم عفويتها وتلقائيتها مجردًا نيته تمامًا من بيادر الإعجاب بينهما :
-أنتِ سبتي الأساطير والحكايات وبقيتي مغنواتية !
-شهرزاد لازم تكون بتعرف تعمل كل حاجة مسليـة ومختلفة ، عشان الملك ما يزهقش .. وبعدين أنت مجاوبتش عليـا في مواصفات البـ.ـنت!
-هي شهرزاد دي الملك كان سايبها ضايعة كِده وبيتفرچ عليها !!
ثم حرك حاجبيـه :
-دانتي مش عتنسي واصل !!
-تؤ .. جواب بقا وسيب موضوع شهرزاد هنتخانق عليـه بعدين بس أبقى فكرني .
استند على الحائط وعقد ذراعيـه أمامه صدره بفتور وقال متعمدًا إثارة غـــضــــبها :
-عادي ، تكون عاقلة وبت ناس وتهدي السـر ..
تمتمت المواصفات في سرها وهي تقول بصوت مسموع :
-هي أكيد مش هتفضح السـر يعني وبـ.ـنت ناس طيبين !! بس عاقلة ؟! اممم دي شرط اساسي لابد منه !
-طبعًا !!
-طيب لو عاقلة نص نص ؟!
تعمد اللعب معها :
-تُؤ متمشيش معاي .. لازم تكون عاقلة ومش بتاعت حواديت ولا ختاريف ( تخاريف) .
خيم اليأس على ملامحها :
-خلاص بقى مفيش فايدة روح دور عليها بعيد عن هنا ..
أخرج ضحكة هادئة وقال منسحبًا :
-شكلهم جابوا الأكـل ، هروح أخده ..
تركها لحيرتها وهي تهذي مع نفسها بخيبة :
-قفلها خالص ، طبعا هو شايفني مجنـونة ومنفعش ، أحسن بردو جت من عنده .. وهو يطول أصلًا ياخد واحدة زيي بتعرف تقول حواديت!
غاب عدة دقائق ثم عاد وبيده طبقين من السندوتشات المحشية، قدm لها طبقـها وشرع هارون في تناول خبزه الساخن المحشو ، ما أخذت قطعة صغيرة بفمها ، قالت منبهرة :
-الشاورما بتاعتـهم تـجنن .. تدوق !
مدت له الخُبـز كي يتذوقه مكان ما قضمت وكأنهما يتبادلان نوعًا لذيذًا من القُبل وهي تطعمه بيدها وتخشى من تبعثر الخبز المحشو ، فتشربت ملامحه دفعة واحدة وهي تسأله :
-عجبـك !
-شغال ..
أخذ قطمة من خبزه الخاص وهو يطالع القمر المُتقلص بالسماء واختبئ بـ عينيها المقمرة لتضيء ليله .. لقد كان ثابتًا يقاوم ألــم الذنب ويخمده بترانيم القلب برفقتها ، يحافظ على هيبته تعبيراته صوته بنبرة محدودة حذرة لن يتغيـر به إلا عينيه اللامعـة باتت أكثر بريقًا .. ما فرغت من نصف وجبتها فسألته :
-ممكن أسأل سؤال تاني ..؟
أتمنى أن تعذِر انهماري الدائِم لديك ، أنا لا أعرفُ طريقًا يصلُني للأمان كالطريق الذي يجلبُني لعنـدك .. و تنفسته بقُربك ..
-هاه ؟!
-أنتَ ليـه رفضت نرقص في الفـرح ، بس رقصنا عادي على الشط !! خفت حد يشوفنـا ويحصل لك مشكلة !!
ضغط على الورقة الملفوفة حول الخبز ورماها بالسلة ثم ارتشف القليل من الماء وعاد ليُجيبها بصراحة :
-شوفي يا ليـلة ، هارون العزايزي مبيخافش من حاچـة !! ولو عملت حساب لحاچة كانت عشان شكلك قُصادهم مش حِلوة يشفوكي بترقصي مع واحد لا هو أخوكي ولا چوزك !!دي نقطة .
ثم تطلع بها :
-النقطة التـانيـة .. إذا بُليتم فاستتروا ؛ مبقاش عامل معصية وتجهر بيها ! مش عاصي وبحچ !! مش هقول لك اللي عملتـه صح ، ديه ذنب كبير أن يدي تلمس واحدة مش حلالي بـ
قاطعتـه :
-طيب ليـه رقصنا على البحر ولا كُنت حابب تُرد على جُملة شهاب السخيفة لما قال مالكش في الرقص زينـا !!
-سيبك منه ديه تافه .
ثم أخذ نفسًا طويل وأكمـل متحيرًا :
-يمكن حسيت أنك نفسك ترقصي محبتش أكـ.ـسر بخاطرك ، أو احتفال بفرحة البرنامچ مثلا .. أو
ثم بلع اعترافه بأنه تصرفه كان نايعًا من أمر قلبـه وقال هاربًا :
-أنتِ مش هتنامي ولا أيه !
ردت بشـك :
-أنت عايز تنام !
-مش عندك مشاوير بكرة لازمًا تنقضي !
-هتيجي معايا على فكرة !! مش أنتَ محامي وجـ.ـا.مد وكده !! لازم تيجي معايا عشان تراجع العقـود …
رد بدون اعتراض :
-هاچي معاكِ ، مش همشي غير وموضوعك ديـه خلصان..
رُسمت الابتسامة على وجهها وهي تلوح له مُعلنـة عودتها لغُرفتـها والقلوب تتعانق .. دخل كل واحد منهم لغرفته وهي يفتش عن شيء ما ينقصه غير معروف.. كانت تتفقد الغرفة بيحيرة وحماس وهي تنظر بهاتفها تفكر :
-اكلمه !! أممم طيب أقول ايه مثلا !! أوف آكيد نام !!
في تلك اللحظة جاء الرد من نفس قلبه الثائر الذي يلح عليه بأن يهاتفها ، فـ رن هاتفها باسمه فقفزت مهللة وهي تجمع شتاتها:
-لسه منمتش !
قفل أنوار الغُرفة وترك هاتفه وهو يحدثها من السماعات المُعلقة باذنه متحججًا وهو يرتب فراشه للنوم :
-قولت لي بكرة الساعة كام !!
مددت على فراشها وهي تحـ.ـضـ.ـن الوسادة فوق بطنها لتسد فراغ ما بروحها وتقول :
-الساعة ١١ ياعمدة ..
بسط جسده على الفراش وهو يطالع السقف والابتسامة تحتل ملامحه :
-ماشي ..
-ماشي ..
ساد الصمت للحظات كل منهما ينتظر الآخر أن يختلق أي موضـوع غير أنهما ينهيان المكالمة ، تدخلت ليلة معترفة :
-أنت تعرف ، جدو كان بيحبكم أوي ، كان دايما يحكي لي عن العزايزة ، وبيقول لي لما تكبري لازم تروح هناك تزورها ..
-عشان كِده چيتي !!
تحمست :
-هحكي لك …
انفجـرت ليلة بالثرثرة التي تنزل على مسامعه طربًا ، موضوعًا يعقب الآخر ، ليلة مميزة لا أُغنيات، لا كُتب، لا قهوة، فقط صوتـه ..
ضحكة يليها قصة مضحكة ، حـ.ـز.ن يتبعه الأمل في عوض الله .. الكثير والكثير من المواضيع التي خلقتها حتى طلوع الشمس ..
خرج الثنائي من غُرفهم ليلتقيان بالشرفة من جديد فوجدها غارقة بالضحك ، نزع السماعة عن أذنه :
-الصوت ، فيها ازعاج للسلطات دي !!
كتمت صوت ضحكها غير مصدقة :
-الصبح جيه !! أحنا بنزغي من الساعة ١٢ بالليل !! متخيـل !
رمى اللوم عليها :
-الله يسامحك ياشيخة .. خشي نامي واقفلي الزفت ده ..
قبل أن تنصرف من أمامه رمت جملتها التي تُعبر عن شعورها وهي تقول له بخــــوف :
-محستش بالوقت خالص على فكرة .. أول مرة اتكلم مع حد وأكون مبسوطة كده !!
ثم تنهدت بريق عينيه وأكملت مشيرة نحو الشمس التي في بداية اشراقها :
-في شعاع نور في أخر الطريق هناك زي الشمس كده !!
فعادت لتحدث عينيه مُكملة :
-خايفـة أمشي لأخره النور ده يحرقني …
اكتفى بهز رأسه قائلًا :
-خشي نامي يا ليـلة ..
أدرك للتو أنه بين أحضان الساعات التي عاشها معها قصـة جديدة تلمع بالأفق ، ترجم قلبـه تصرفاتها وفهم أنها تحمل طير الحُب بقلبها ويريد أن يتحرر على يديه ، علم بأن لعنة الرقصة أصابت قلبها مثلما أوقدت ألف نار بقلبـه ، أحس بنيران قلبها التي لا تختلف عنه ولكن الفارق بينهما صمتـه سكوته حول تلك المجازر التي تُقيم بهِ .. لمح نجوم الليل تترصع بوجهها بمشاعر حُب مغرية للأعمى .. تأكد أن من ذيل هذه النجوم ثمـة حياة جديدة ستبدأ ..
قرأ على أهدابها الاستحالة أن ثمـة حكاية بينهما سيرويها البحر منسوجـة من أمواجه الثائرة ، بقاعة السماء وبشهادة الشمس والقمر وكل نجـوم السماء معازيـم يحتفلون ببدايـة قصتهـم المستحيـلة.
” يقاوم ألــمًا ويهزم ألــمًا .. ويلوح بالأفق حُبًا من سينتصر يا ترى ؟! ”
•••••••••••••
❗️الآصـرة التاسعـة والعشـرون ❗️ج٢
<الجُزء الثاني من الفصل الـ 29>
“سقطتُ في فم الحُب ابتلعني ؛ قبل أن اتذوقه حتى ”
••••••••••••••
منذ إعلان هارون رغبته في إنهاء علاقته بزينة ، طول الليـل لم تتوقف صفية عن النـدب والهذيـان حتى فاض بها الأمر مع مطلع الصـبح وهي تدق باب غُرفة احلام لتزف الخـبر المحـ.ـز.ن لقلبهـا وتشكو من ابنها الذي ترك خطيبته .. فتح لها ” خليفة ” الباب ، فانفجرت شكاء بكاء كالمُقبل على جنازة حارة :
-عيني مش زارها النوم يا حج ! تعالى شوف ولدك عمل فيّنا أيه !! عيالك ناويين يچيبوا أجلي ..
تدخلت أحلام :
-ما تخفي ندب وتنطقي !!مالهم عيالك ما زي الفُل ..
لطـ.ـمـ.ـت صفية على فخذيها بحرقة :
-ولدك هارون مكلمني عيشة يقول لي مش مكمل في الچوازة ، ديه سبحان من صبرني لطلوع الشمس .. عاوز يسيب بت خاله !! طب أقول أيه لأخوي !!
تبادل كُل من خليـفة وأحلام النظرات اليقينية حول مشاعر هارون التي صرحت بها لخليـفة من قبل ، فردت بفرحة :
-خير وبركة ، هو ادرى بمصلحته .
فأكمل خليفة :
-صفية سيبي الواد على راحته ، يختار البت اللي على كيفه ..كبري مخك منه وخفي زن على راسه .
فأتبعت أحلام :
-وزينة لا توبه ولا كيفه ولا علامه ، تصدقي فرحتي قلبي .. الواحد يُفطر بنفس.
لم تكد تندب حظها أمامهم فدخل هيثم الذي عزم نيته على “جميلة” والبدء في خطته معها ، دلف على صوت أمه التي تصيح :
-ياما ، يـاما الحياة دي عاوزة الشخص البـ.ـارد ..أما الشخص اللي قلبه أون فاير ملهلب ديه زيك بيمـ.وت مجلوط .. وأخنا عاوزينك .
ثم جلس بجوار أحلام :
-عتولول على الصبح ليه!
شكت له صفية :
-أخوك فسخ خطوبة زينة وابوك وأحلام ساكتين وهينقطوني كأنها مش بت ناس دي !! دي البت غلبانة ..وهتروح فيها .
-يا فرج الله !!
ثم غمز لأحلام بدهاء :
-شالله يا مرسي يا أبو العباس …بركاتك يا حلومة ..
لكزته أحلام كي يصمت ولا يبوح بسرهما ، صرخت صفية بمنتصف الغرفة وهي تشكو همها بجهل :
-الخِلفة دي منظورة ، عيالي الستة محسودين دول عاوزين زار يفك نحسهم !! عملت أيه أنا في دنيتي يا رب !! دا أنا حتى غلبانة ونيتي صافية كيف اللبن ..
ثم توسلت لزوجها :
-كلم هارون دِلوق قوله يچي يا حچ .. هو ناوي يخلل في سَكندرايه ! ما بزياداه ..قلبي واكلني عليـه .
نهرها خليفة الذي حرك عينيه عن قراءة المصحف :
-اصطبحي وقولي يا صبح يا صفيـة .. الله يهديكي.
مال هيثم لأحلام راجيًا :
-دعوة طب لأبو الهياثم حبيبك كيف ما عتدعي لهرن اللي واخد كُل الدعاوي لروحه ..
فارقها هيثم بعد ما تبادل الضحك معها والكثير من الهمسات وهو يصفق بمرح حول صفية بخفة ليحتفل بفسخ خطوبة أخيـه :
-طب أقروا الفاتحة لأبو العباس دي اسكندرية يا أجدع ناس …
ثم داعب خصر أمه بمزاحٍ ليصيح ضاحكًا :
-حلاوتك وأنتِ شايطة يا صفصف .. ااه يا هرن يا نمس بس تعاود.
فجرت صرختها بوجهه :
-امشي من وشي قبل ما أغـــضــــب عليكم واحد واحد يا عيال بطني .. ديه أيه خِلفة الحِزن دي!!
~فـ تمام السابعـة صباحًا ..
هيثم الذي يشكو من الاستيقاظ مبكرًا لشغل البنك ولكنه يفيق على الرحب والسعة ليعقـد مقابلاته النسائية الهوائية !! يبدو أن الحُب هذه المـرة نصب خيمـته بقلبه الذي قرر ألا يُضيع جميلة من يديه واتخذها كأكبر تحدي له ، يبدو أن لعينيها المُغريـة سحرٌ طاغي طغى على كُل الفتيات بقلبـه ..
توارى بجوار ” مرسى” خلف الشجرة الضخمة بالقرب من منزلها وسأله :
-ولاه يا مرسي ، متوكد أنها عتطلع في تمام الساعة السابعة صباحًا ؟
أيده بنفـس النظرة المتلصصة :
-مظبوط يا هيثـم بيه .. دانا مترقدلها ليّ أسبوع.
رمق ساعة يده :
-أدينا مستنين هانت .. باقي دقيقتين .
في هذه اللحظـة فُتح باب منزلهـا فطلت منه جميلتـه الحسناء مرتدية ملابس الزراعـة متأهبة لذهابها للمشتـل ، تعثرت قدmيها في جوابٍ ورقي بالأرض ، فانحنت لتكتشفه بـ غرابة ، خفق قلب هيثم فارحًا :
-مَسكت الچواب يا مرسي ، ها ها يلا أقري يا جميلة ..
عارضه مرسي :
-هيثم بيه ، الشيخ هلال لو شم خبرنا هودينا ورا الشمس!
-تعرف تكتم !! اصبر بس تقرى الچواب ..بلا هلال دِلوق .
استندت جميلة على السور وهي تفتح الورقـة وتسب سرًا ، فتحت المرسال وقرأت ما كتبه هيثم إثر تعليمـ.ـا.ت ليلة :
-أهنئك على الحب الذي أكنه لكِ أنتِ محظوظة بقلبي يا قلبي ، وهذه فضيلة واختيار أحسده في أعين المشاهدين لنا يا چميلة الچميلات ..
وكانت الإمضاء بحرفي ” مـ&ي” ، زفرت جميلة باختناق إثر هذه التصرفات الطائشـة المتكررة لمدة أسبوع ، فشقت الجواب لنصفين ورمته بالسلة ، إثر تصرفها العنيف مسك هيثم بقلبـه متأوهًا ويسنده مرسي لأنها مزقت قلبه قبل الجواب قائلًا :
-يا بـت الجاحدة !! ااه ياقلبك ياهيثم .
ثم تهامس مع مرسي :
-وبعدين !! كل مرة على ديـه الحال !!
-ما تصرف نظر عنيهـا يا سي هيثم دي قويـة ومحدش عاچبها !
-ماهي حِلوة عشان قـويـة ..
أخذ يراقبها وهي تتجول حول منزلهم الريفي فهبت الفكرة برأسـه :
-ولاه يا مرسي ، اسمع اللي هقولهولك بالظبط ونفذه وهديك ألفين جنيه حِتة واحدة ..دي لازملها دَخلة تطلعني بطل .
تابع الاثنان خُطاها حتى يبدأ هيثم بتنفيـذ خطتـه .. هرول مرسي خلفها وهو يتبع مسار سيـرها متغزلًا و منفذًا خطته مع هيثم :
-يا أرض احفظي ما عليكـي ..
أكملت مسار سيرها وهي تستغفر ربها وتطلب منه أن يمنحهـا الصبـر كي لا ترتكب جناية على الصُبح تدخل هيثم وهو يمسكه من جلبابه ويصفعـه على رأسه ويعطيه دورس في الأخلاق:
-مش عيب قِلة القيمة دي وتحترم نفسك يا وِلد المحروق !! أنتَ معندكش أخوات بنات تخاف عليهم !!
همس له الفتى مرسي متو.جـ.ـعًا :
-عتضرُب واعر يا سي هيثم ..
دارت له جميلة معنفة :
-أنتَ واد مين في البلد !
تدخل هيثم مجيبًا بدلًا منه متغزلًا بجمال عينيها :
-أنا هعلمهولك الأدب .. متشغليش بالك يا قمر ..
حدجته بعنفوان :
-خليك في حالك أنتَ ..
ثم أشارت بسبابتهـا نحو الشاب المراهق :
-أنتَ الجـ.ـا.مد بتاع الجوابات !!
أكمل هيثم بصفعه معاتبًا :
-يا بجح وكمان چوابات هي حصلت !! أيه هي البلد مفيهاش كبير تعمله حساب ؟!
ثم نظر لجميلة التي لم يظهر من وجهها إلا عينيها الملونة قائلًا :
-تحبي ناخدوه على كبير العزايزة هارون بيه ونعلموه الأدب ؟ والشيخ هلال يستفتي في حكمه على قليل الرباية ديه؟
رمقتـه مشبههة عليه :
-أنتَ هيثم وِلد الحچ خليفة مش كِده !
اتسعت ابتسامته :
-هو بشحمه ولحمه .. تصدقي هيثم طالعة من خشمك زي السُكر !
هزت رأسها كاظمة غـ.ـيظها بنفسها وهي تقول بحدة وبعينيها شك في الأمر :
-واضح أن مش الواد ديه لوحده اللي عاوز يتربى !!
-مين كمان عاوز يتربى غير مرسى، وهيثم العزايزي يربيه !!
ثم ترك الفتى وهو يتمسك بشاله ويدنو منها :
-أعرفك بنفسي هيثم العزايزي ، مدرسة تأهيل وتأديب وإصلاح ! مين مزعل الجميلة وعاوز يتربى .. شاوري عليه .
رمقته بسخط وقالت جملتها بعد ما تذكرت وجه الولد العامل بأرضهم :
-مرسي واللي مشغله ، المرة دي هعديها المرة الچايـة ورحمة أمي وأبوي ما هعديها غير وأنا مفرچة الخلق عليكم .
ثم جهرت باسم مرسى وهي تضع عينيها بعيني هيثم بعد ما كشفت مخططه :
-لو لمحت چواب تاني قصاد البيت هوديك المچلس يا مرسي و هما يتصرفوا معاك ..
ما أردفت جملتها التحذيرية ثم دارت متأففة لتباشر مهامها ، فعاد هيثم لمرسى وطوق كتفيه وهو يحك ذقنه ليخفي إحراجه :
-قَلت منك قوي ياد يا مرسي دي بعترت الكرامة ، عمال أقول لك بلاش بلاش ، أنت اللي تبت وقولت دي وحلاوتها عشان قوية .. كسفتنا الله يكسفك !
-وانا مالي يا هيثم بيه ؟! فين الألفين چينيـه !!
-تصدق أنك بچح وتستاهل كل اللي عملتـه فيك جميلة !! امشي قِدامي …
•••••••••••
~مسـاءً …
قبل أن ينام لقـد حجز هارون تذكرة طيران بمساعدة موظفي الفندق إثر مكالمـ.ـا.ت صفية المتعددة .. انتهـت مهمته مع ليـلة وقام بمراجعة العقود دون الإفصـاح عن دوره الحقيقي بتمويل برنامجها .. تناولا وجبة غدائهما معًا وعقدوا العديد من الاتفاقيات المذعنة بواسطته ، فكانت جميعها توصيات لا تقبل إلا الموافقة منها دون أي اعتراض .. طلب منها العودة لبيتها ، و الحرص الزائد وعدm ثقتها بمخلوق .. أكد على الانتظام في دواءها وعدm إهماله .. وكثير من التوصيات على أعتاب المطار ..
وصلته وعادت للفندق خاليـة القلب تفتش عنه بكل مكـانٍ .. لملمت حقائبها وغادرت الفندق بعد ما دفع هارون مصروفاته كاملة .. ثم استقلت سيارتها متجاهلة اتصالات امها خلال يوميـن ..
وصلت البيت بملل وكآبة تملأها ولكن ما طمئن قلبها قليلاً رسالة هارون التي أبلغها بوصوله قـنا .. قفلت الهاتف لتلتقي مع أمها التي تنفجر من شـ.ـدة الغـــضــــب :
-والله لسـه فاكرة أن ليكِ بيت ياهانم !! كُنتِ فين اليومين اللي فاتوا !! هاااه..
ثم اقتربت منها وأتبعت تحقيقها :
-كُنتِ مع أبو عِمة وجلابية !! النصاب بتاعك!
تأففت بامتعاض وهي تتحاشى النظـر إليهـا :
-حضرتك مراقباني ولا ايه!! وبعدين اسمه هارون يا مامي .. حضرة العمدة هارون العزايزي ، ومالها العِمة والجلابيـة ، سوري كتير ببِدل ومظاهر واو وهما كذابين ومزيفين من جوه وحياتهم في السر ..
صرخت نادية بوجهها عنـ.ـد.ما قرأت تلميحاتها التي تقصدها :
-ليلة بلاش تلميحاتك السخيفة دي !! أنا خايفة عليـكِ الولد ده مش تمام وعيلته كلها مش مظبوطة ..ده بيضحك عليكِ وبيستغلك ، آكيد عارف أنك وارثة وجـاي ..
-مامي هو مش محتاج لده عشان يطمع في ورث ميعرفهوش أصلاً !! ولا أنا اعرفه فين ..
ثم رمقتها بملل وهي تنسحب من أمامها :
-ما بلاش حضرتك يامامي تتكلمي في النقطة دي!!كلنا عارفين مين الطماع الحقيقي وساكتين ..
قبضت نادية على معصمها صارخة بدون مراعاة لحالتها العصبية والنفسية :
-أنتِ عارفة هما عملوا ايه في شريف خطيبك !! دول نقلوه من مكان شغلوه وآذوه !! هما دول اللي أنتِ مأمنة لهم .. ضيعوا مستقبل الولد والترقية بتاعته.
-مامي من فضلك صوتك .. وبعدين انا مالي بشريف …هو لا خطيبي ولا حاجة.
ثم انفعلت بوجهها :
-انا وشريف خلاص خلصنا !! كفاية بقا وسبيني في حالي .. أنا حُرة أنا قرفت من الوسط المزيف اللي حضرتك مُصرة تزرعيني فيه .
-يعني أيه خلصتوا !! من بمزاجـك ، جوازتك بشريف هتتم ورجلك فوق رقبتك ؟! هو لعب عيال!
تحدتها بقوة استمدتها من مرافقة الجبل وابنه كما دلها قبل رحيله ليضمن أمانها لفترة محدودة حتى يعود لها :
-الموضوع ده قصاد أن طنت أميرة تعرف أن جوزها متجوزك ، منا مش هبني حياتي على كذبكم ، لو مُصرة أنا هقول لطنت أميرة وشوفي بقا هي ممكن تعمل أيه ، دي ممكن هي اللي ترفض جوازنا .
اهتزت نادية أمامها مندهشة من شخصية هذه الفتاة التي فقدت السيطرة عليها تمامًا :
-أنتِ ازاي بتتكلمي معايا كده !! أنتِ واحدة قليلة الأدب ومش متربية.
وقفت ليلة بوجهها وهي تزيح بحور الدmع :
-لا أنا متربية كويس أوي ، سامح الجوهري رباني أحسن تربية عشان مامتي دكتورة نادية أبو العلا اللي مش عاجباها تربيتي دلوقتِ مكنتش فاضيـة تربي هي ..
ثم غرق وجهها في بحور الحـ.ـز.ن :
-أنا متربية عشان عمري ما أعمل حاجة في السـر .. كفاية يا مامي لحد كده بلاش نجـ.ـر.ح بعض أكتر ؛ كل واحد فينا حُر يعيش الحياة اللي اختارها .. حضرتك اخترتي أونكل رشـ.ـدي تمام مش همنعك ..
ثم رمقتها باستحقار :
-بس يا ريت تتقابلوا في مكان غير هنا ، مش في بيتي وبيت بابي وسريره .. بعد إذن حضرتك ….
صرخت نادية عليها بهزيمة وهي تهرب لغرفتها:
-ليلة انا عايزة مصلحتك افهمي بقا ..
••••••••••••
~العزايـزة …
ما وصل الخبـر لمسامع زينـة فسقطت مغشيًا عليها من وقع الصدmة ، ظلت صفية تنوح وتعاتب هارون الذي لم يرتاح من سفـره بعـد .. هارون الذي تحاشى الجميع وانساق لغرفة أحلام باحثًا عن أبيـه .. ما دخل الغُرفة بنيران أسئلته وقفـل الباب خلفه متساءلًا :
-حچ خليفة .. أيه بينك وبين نادية أبو العلا يخليـك تحط واحد من رچالتنا يراقبها ..
قفلت أحلام المصحف من يدها وهي تُطالع أبيه الذي يصلي ركعتي قبل نومـه .. خفق قلب أحلام من تعرية الحقائق وهي تشير له :
-تعالى أقعد يا هارون ….
كرر سؤاله :
-أحلام أنتي وأبوي مخبيين حاجة !! الست دي وراها أيه ؟! في سر أنا لازمًا أعرفـه دِلوق .
ثم نظر لأبيه الذي فرغ من صلاته :
-أنتَ ليه يا أبوي رُحت لها اسكندرية !! أيه بينك وبينها !! تعرفها منين ؟
استند أبيه على عكازه وهو يتحرك بمهلٍ ليجلس بفراشـه بجوار زوجته ويقول :
-مكنتش أعرف أنها أم ليـلة ياولدي.
-أومال سافرت لها ليه !! تعرفها منين ؟
اتكئ بتعب وهو يقول :
-كانت في أمـانـة مع حماها رفعت الچوهري روحت عشان أرچعها لصحابها ..
تسرب الشـك لقلبه حول ليلة :
-أمانـة أيه دي !! وكيف أنا معرفش الموضوع ديـه ؟
ربتت أحلام على كتفه :
-ما تهدى يا حبيبي مالك متكدر ليـه !! بالراحـة وعلى مهلـك .. وكله هيتعرف في وقته .
-ياصبر الصبر ..
كرر سؤاله :
-أمانة أيه دي يا أبـوي اللي چاي تدور عليها دِلوق ؟! وبعدين أنت عرفت كيف أن ليلة اسمها غفران !! أنا نسيت أسألك !
حسم خليفة أمره عازمًا الصمـت على أمر الحقيـقة حتى يمسك بيده دليلًا ملموسًا يثبت فيـه انتماء ليلة للعزايزة وصدق روايته ، اختلق له كذبة مؤقتـة كي ينجو من تحقيقه :
-نص خريطة في قلب الجبـل لمقبـرة كبيرة العزايـزة مقطعين بعض عليها .. نص الخريطة دي مع رفعت الجوهري من وقت ما كان بيشتغل إهنه ..
ثارت الشكوك برأس رجل القانون :
-ومن مـ.ـيـ.ـتى يا أبوي ليـك في حوارات المچلس والحكيت اللي في الچبل !! في حاچة تمخول النفوخ وأنا لازمًا أعرفها !!!!! ما تحكي أنتِ يا أحلام …..
••••••••••••••
~بغُرفـة هِلال .
عاد هِلال في وقت متأخر من الليل بعد غيابـه اليوم بأكملـه في المعهد الأزهري والأمتحانات المُقبـلة وغيرها من دروس الفقـه بالأزهر .. قفلت رقيـة المصحف من يـدها وهي تنظر نحو الباب الذي فُتح فطل منـه .. ألقى عليها تحيـة الإسلام .. ردت عليه وهي تشـ.ـد طرف جلبابها لتخفي أقدامها :
-وعليكـم السلام ورحمة الله !!
أرسل لها ابتسامة جميلة وقال بالصعيدي :
-لساتك منمتيش ؟
زفرت بضيق :
-عادي ، كُنت بقرأ قرآن لأمي وأبوي ومنمتش ؟
نزع قفطانه الأزهري :
-كلتي ؟
ردت بتوجس :
-لا لا مكنش چايلي نفس .. عمتي أحلام حلفت عليّ قولت لها هستنى الشيخ هلال .. عشان مزعلهاش وو بس .
تنهد متحيرًا وهو يقترب منها :
-مالكش نفس ولا مستنية الشيخ هلال !! عشان هتفرق كتير معاي .
بررت بتـ.ـو.تر وهي تتجنب النظر إليـه :
-منا اتحججت بيك عشان متغـ.ـصـ.ـبش عليّ أكل ..
-دعنا من هذا الآن ، وجهك شاحب ويزحمه الحـ.ـز.ن ما بهِ ؟!
ثم جلس على طرف فراشه مداعبًا :
-لولا أني أعرفك جيدًا لقُلت كل هذا بسبب غيابي عنك !!
قضمت أظافرها :
-أم بكر جات الصُبح وزين خالتي صفية مكنتش قاعدة ، بس عمتي أحلام وقفت لها ومن ساعتها وانا مضايقـة وو ..
كظم غـــضــــبـه بنفسـه كي لا يحملها همًا جديدًا وقال بإيمانِ :
-ليه تضايقي يا رقيـة !! ليـه انسانة جاهلة العقل والقلب تأثر على واحدة في مكانتك ؟!
-غـ.ـصـ.ـب عني ، الأيام بتصعب عليّ وأنا تايهه ومش لاقية تفسير لحاجـة ..
أتبع بنفس راضية :
-“السَّفينةُ التي لو لم تُثقَبْ لسُلِبتْ!
والغلامُ الذي لو لم يُقــ,تــلْ لأشقى والديه!
والجدار الذي لو لم يُقَمْ لضاعَ مالُ اليتيمين!
مع كلِّ ثقبٍ، وكل فَقْدٍ، وكلِّ نعمةٍ”
ثم جلى حلقه :
-رددي دايماً بيقين : اللهم صبراً على ما لم نحط به خبرًا .
ثم غير مجرى الحديث قائلًا :
-أنا آيضًا لم أتذوق الطعام على أمل أن نأكله سويًا .
ثم تجرد من الفصحى مكملًا :
-ولا هنام على لحم بطني ويبقى ذنبي في رقبتك ؟
-لا ميصحش ، طب أعمل أيه ؟!
-أنا خدت جولة بالبيت ، الكُل كان نايـم .. انزلي المطبخ جهزيلنا عشـا خفيف وأنا هحصلك ..
لبت طلبه بطاعة واحترام ، انتعلت حذائها وغادرت الغُرفة دون النظر له .. نهض هلال ليبدل ملابسـه مرتديًا ” ترينك رياضي” أول مرة يلبسـه أمامها ، ثم فاحت منه رائحة المسك الذي لم يستغنى عنه أبدًا ولحق بهـا لأسفل ..
وصل للمطبخ فوجدها تقف أمام الموقد ، تحمحم بحرج وهو يتطلع إليها بنظراته المبتسمة :
-هتعشينـا أيه يا رُقيـة !
-لقيت رز وفراخ وبطاطس من الغدا ، سخنته ..
حك لحيته بعدm اقتناع :
-وماله ، كل شيء من تحت يدك جميـل .
شـ.ـد المقعد منتظرًا أن تغرف له الطعام الذي سيأكله جبرًا ، بعد عدة دقائق كانت تجهز الأطباق ، لم تتمكن من مهارة طهي الأكل وغرفـه ففزعت صارخة إثر حرق يدها بـ ” صنية الفراخ ” وهي تخرجها من الفرن ..
فزع ملهوفًا ليطمئن على حالة يدها :
-رقية وريني ..
شكت له والدmع يرقص بعينيها :
-يدي اتحرقت مخدتش بالي ..بتحرق قوي ..
سحب يدها بسرعة تحت مجرى ماء فاتر وأمرها :
-متحركيش يدك ، سبيها تحت الميـة هبابة ..
ثم ركض نحو الثلاجـة وأخرج منها مكعب من الثلج بيده .. قفل صنبور الماء وضم كفها بيساره ثم وضـع المكعب فوق إحمرار جلد يدها ، تأوهت بألــمٍ مدفون وهي ترفض إمساكه ليدها محتجة بألــم ، فألهمها الصبر بتحذير :
-رقية تحملي .. لا تبقي كالطفلة ..
ظل يدلك حرق يدها حتى ذاب الثلج وذاب معـه قلبه وذاب جدار المسافات الفاصل بينهما .. ‏بقربه وخــــوفه عليها باتت ترى الأيام بشكل أفضل أن عاشتها معـه ، رأت من اهتمامه حقول خضراء تنتظرها بصُحبة رجل مثلـه .. كانت تتأمل تفاصيل لحيته المنمقة شعرة شعرة وبياضه المُلفت و المتوارث من أمه ، ملابسه الرياضية التي تراها عليه لأول مرة ومنحته سنهُ الشبابي عكس الجلباب والقبعة .. وجهه كان لافتـة مغريـة لعالمـه الجميل الذي يسحبها إليه خطوة خطوة ، تخدر ألــم يدها واتقد ألــم آخر بالقلب .. خاصـة وهي تراه يسحب منديلًا ورقيـًا ويجفف حول الإحمرار برفق تام .
‏إمرأةٌ.. و وردةٌ .. ووسادة .. أتخذهم رجُل ناسك مثله مكاناً للعبادة ، طريقًا للجنـة ، كانت ‏إمرأةٌ تقودُ قوافلَ من الريحان ‏بو.جـ.ـعِ مريم العذراء و‏هو بمحرابه يُجففُ الياسمين ويصنع من روحهِ لها قِلادة ‏تاجًا من الزهور ، ‏يُؤرخانِ الليل معًا عشقًا وذكرًا ..
-لا بأس طهور عليكِ إن شاء الله ، لقد رُفع عنـكِ ذنبًا ما..
لن يكتفي بهذا بل انحنى لمستوى كفها وطبع قُبلة طويلـة دوّى تأثيرها بالقلب الذي رُجا من مكانه وهي تشـ.ـد يدها برجفة قبل أن تلتقي بعينيه :
-شكرًا ..
انتقل احمرار يدها لوجهها الذي لُطخ بدmاء الخـجل فتبسـم :
-تصبحين أكثر جمالًا عنـ.ـد.مـا تخجلين..
كادت أن تفارقـه فمنعها وهو يقف أمامها :
-إلي أين !! لم نأكل بعد .. أني جائع وسأمـ.ـو.ت جوعًا .
-أصلووو ..
فهمهـا وفهم هروبها المتكرر :
-تتعمدين وضع حدود فاصـلة بيننا لا أرى من وجودها أي فائدة ..
ثم اقترب كاسرًا قانون المسافات ليحملق بعينيها ويتحسس درجة حرارة خجلها المتوردة على وجنتها :
-كم مرة باليـوم يجب عليِّ أن اذكرك بأني زوجك .. برب مُحمـد أنتِ كُلك لي وقلبـي لكِ .
اندلع صوت قرقعة من معدتها أم من قلبها فشهقت بتـ.ـو.تر لا تعلم من أي جهة تسرب لها لتقول هاربة من هذا السطو المسلح الذي اقتحمها فجأة ، وكأن إنسانًا آليًا تلبس بها :
-شيخ هلال ، أنا عاوزة ارجع أسيوط وكليتي عشان الامتحانات قربت وبس كِده …..
||••••••••••••••||•••••••••••••||
~بعـد مرور شـهر ….
مـرت الأيـام سـريعًا ..
بدء من هارون وليـلة التي تشتعل علاقتهم يوم بعد يوم ، بات وجودهما بحياة بعضهما شيء أساسي كالهواء والماء .. لا تمر ساعة عليهمـا بدون كلمة ، رسالة ، مكالمـة ، مزحة .. بات الليـل يحلو بمكالمـ.ـا.تهم الطويـلة التي يُجمعها القمر ويفرقهـا الشمس ..
وبات النهار تسكنه الفراشات التي تقطف من كُل ساعة رحيق صوتها الذي أصبح مُخدره .. وصلت المشاعر لقمـتها ، وتألفت أرواح الاثنين لدرجة لا يمكن الفصل بينهما .. كان عُكازها الذي تتكئ عليه في أيامها الصعبة التي تواجهها لوحدها ..
شرعت في تصوير حلقات برنامجها الذي سيُذاع يومين بالأسبوع باسم ” حكاوي ليـلة ” .. شهر مليء بالحُب والنجاح ما الذي يمكن أن يحتاجه المرء بعد !.. طوال هذه الفترة لم يدع هارون حجة او سببًا ليقطع المسافات إليها حتى ولو كان كوبًا من القهوة معها ويعود لبلـده ..
عاشت قلوبهم في حالة من سُكر الحب البكري الذي يلامس قلوبهم لأول مرة ولم يبقى سوى الاعتراف الذي أجله هارون حتى يضـع حلًا بأعرافهم …
حن هاشم خلال هذه الفترة ، سمع صوت قلبـه ، هُزم أمام حُبـه ولكن كيف بعد ما قام بالقبض على ثلاثة عشر شخصًا من عيلتها وقدmهما للعدالة !! كيف .. رق لسماع صوتها وهاتفها في مرة من المرات ولكن وجد واحدة غيرها ترد عليه ، واحدة قــ,تــلت جنين الحُب بقلبها حتى ولو سيُسمها ، واحدة لم تتقبل أن تسمع حتى صـوته ، أدركت أن العيش بينهما مستحيلًا لحمايته من ظلم أبيها ومن أسر أعرافهـم الظالمة ، طوت حبها وجنينها بأحشائها وعزمت أمرها مكتفيـة بآخر طلب منه وهي ورقة طـ.ـلا.قها الذي لم يرسلها لهذه اللحظة ..
سافرت رُقية لأسيوط مع هاجر التي ما زال شريف يُلاحقها من كل صوب وحدب… انشغلت كل واحدة منهن بامتحانات منتصف العـام مع علاقتها التي بدأت بهلال منذ ذهابها ، فلم يمرر ليله دون الاطمئنان عليها ، لم يدعها تفوت صلاة فجر واحدة .. استقرت الحيـاة نوعًا ما بينهما ويوم بعد يوم انشغل الجميع بمشاكلـه حتى تناسوا أمرها إلى حد كبير … وصدر حُكم بالسـ.ـجـ.ـن المُشـ.ـدد لبكـر ابن عمها ..لص روحها .
نجاة التي تحججت بامتحانات ابنها ودراسته وأنها تريد بيتـًا لوحدها بعيدًا عن بيت زوجها الاول وعقدت وعدًا على نفسها بانهما سيتزوجان عند انتهاء فترة الامتحانات وتنفيذ كل شروطها ، وظلت طوال هذه المدة سجينة الغرفة هي وولدها بعد ما أجبرها أن تقطع أجازة طويلة من عملها بالوحدة … وهددها بولدها أن حاولت الاستغاثة بأي شخص !!
ما زال خليـفـة يُطارد أشباح الماضي يفتش عن دليل واحد يثبت بهِ قوله ، يثبت فيه عودة فتاة لأهلها وأخذ حقها حتى توصـل لطـرف الخيط !!!!!!!!!
*•••••••••••••*•••••••••••••*
~صباحًا ..
كبرت ومرت أيام العُمر وأنا اراقب أصابعي المرتجفة ، كبرت وفي قلبي ثقبٌ واسع يتسرب منه الأشخاص بدون كلمة وداع يظلل عليـه خيمـة الوحدة الأبديـة ، يهرب مني كل شيء تمامًا مثلما يهرب الخفاش من النهار إلى حـ.ـضـ.ـن الليل.. هذه أنا وهذا هو قلبـي الذي أعتاد أن يبقى وحيدًا ..
سحبت ” نغم ” كُحل عينيـها باستسلام لحياتها الجديدة والتي اتخذتها بكـامـل قواها العقلية بصرف النظر عن عدm اكتمال أهليـة القلـب .. اكتفت بالكُحل الأسود الذي يزين لوحة بشرتها النقيـة صاحبـة الخدود الوردية الربانيـة ، ثم أحكمت لف حِجابها وهي تلقي نظرة على ملابسها المتكونة من بنطال فضفاض باللون الأسود ويعلوه سترة من الصوف بنفس اللون ثم ” بليـزر ” أنيق باللون الأخضر الغامق ابتاعته قبل عام من أحد المُتجرات ..
سحبت حقيبتها إثـر رنيـن هاتفهـا باسم ” هاشم ” فعلمت بوصـوله ، حملت حقيبتها على كتفها وساعة يدها باللون الذهبي وهي ترتديها لتزين مُعصمهـا ثم غادرت غُرفتها بهدوء مستسلمة لقدرها معه .. هبطت على درجات السُلم بتئن وهي تخطو على أصوات قلبها التي تتمرد على قرارها حتى وصلت لساحـة البيت واستأذنت خالها :
-خال صالح ، طالعة مع هاشم ننقوا الدِبـل .
فارت الدmاء بصدر زينة التي لم تتوقف عن الندب والصياح خلال الأيام الماضية ومحاولاتها المتكررة في التوافد على الدجالين لتستعين بهم في رجوع حبيبها .. ألتهب قلبـها بالغيرة الشـ.ـديدة نحو “نغم” التي تظهر بهيئتها الانيقة كعادتها وملابسها المميزة التي كانت ترتديها بالجامعة .. فهبت معترضة :
-بالعربي كِده يابا ، طالما چوازتي من هارون باظت ، چوازة البت دي متمش وإحنا مش عاوزين ننسابوا حد من عيال عمتي صفية ، اشمعنا هي .
تدخلت أمها محذرة :
-ما تتلمي يابت أنتِ ، مالك مش مبطلة ندب ليـه ، قال لك الچواز قِسمة ونصيب ، ونصيب بت عمتك چالها ، هتوقفي حالها ليه!!
هبت مذعورة والحقد يملأها :
-عشان نغم مش أحسن مني يامـا .. ومتتجوزش قبلي .. وكمان تاخد هاشـم وهيسفرها معاه !! وأنا أقعد چارك اندب حظي ؟
نهرها أبيها بحدة :
-مالك يا بت عيارك فَلت ليه !! كُل ديه عشان خطوبتك اتفسخت !
-مـ.ـا.تقولش اتفسخت ، هارون هيرچعلي ومش هيتچوز غيري ، وهتشوفوا !!
وثب أبيها ليصفعها بلطمة قوية على وجهها وسرعان ما ارتمت في حـ.ـضـ.ـن أمها وهو يحذرها:
-هارون لو چيه بنفسه وقال عاوزك أنا مش هقبـل .. وهقوله معنديش بنات للچواز ..انسي يا زينة حاجة اسمها هارون..
حـ.ـز.نت نغم على حال أبنة خالها والحالة التي وصلت لها بسبب حُبها المرضي ، فقالت :
-أنا ماشيـة يا خال .. ومش هتأخر ..
ثم لحقت بها زينة وهي تشـ.ـد غطاء رأسها :
-أنا هروح اشتكي لعمتي صفية منيكم ..
••••••••••••••••
~بغُرفـة أحلام .
-هاشم أخوك مش عاچبني يا هارون !! الواد دِيه مخبي حاچة !
أردفت أحلام جملتهـا بشكٍ على مسامع هارون الذي كان منشغلًا في مراسلة ليلة على ” الواتساب ” ، لقد كانت تأخذ رأيه بثيابها المقفولة قبل النزول لـ تصوير الحلقة .. رد على أحلام :
-هابقى أشوفه واتكلم معاه يا أحلام ..
رمقته بتخابث وهي تعلم بهوية من يحدثه صاحبة الابتسامة الفريدة التي تُرسمها وحدها على وجهه ، عصفورته التي تشكي لها لوعة الحُب كُل ليلة ، لقد وجدت بحنيتها أمها المفقودة ، سألته بمكـر :
-طب هي زينـة دِلوق وصحتها حِلوة !
-هي مين يا أحلام ؟
-اللي عتكلمها يا قلب أحلام !!
هنا رنت ليلة لتأخره عليها في الـرد فوثب ليقبل رأس أحلام متأهبًا للذهاب لينفرد بصوتها بين أربع حيطان لوحده بعيدًا عن أعين أحلام الكاشفة لأمره رغـم عدm نطقه بكلمة :
-مش كبرنا على الحركات دي يا أحلام .. ديـه كُله شُغل .
ثم فر من الغرفة متجهـًا لغرفته وهو يعاود الاتصال بها …
بالمطبخ كانت زينـة تنوح وتندب حظـها على مسامع عمتها التي تنشغل بمهام المطبخ ، فجاءت زينة مقترحة :
-أيه رأيك أعمله كوباية لمون وأروح له .. يكش يحنن قلبه علي..
ملت صفية من نواحها :
-قومي أعملي اللي عاوزاه وحِلي عن نافوخي يا زينة ، فيّ اللي مكفيني ومطفطف ..
تدخلت فردوس :
-ارتاحي يا ستِ زينـة ، هعملوله أنا .
عادت زينـة لتجلس على مقعدها بمضض وبريق الشر يتلألأ من أعينها ، انتهت فردوس من إعداد العصير ، فخـ.ـطـ.ـفته من يـدها :
-هاتي أنا هودي له العصير ، يمكن القلب يِحن والميـة ترچع لمچاريها ! أدعولي أحسن أمـ.ـو.ت فيهـا ..
قطفت زينة الكوب من يدها ، وصعدت لأعلى متجهة نحـو غُرفـة هارون وهي تتفقد أجواء البيت حولها بنواياهـا الخبيـثة بحرص كي لا ينكشف أمرها .. توارت خلف أحد الجدران كالحيـة لتبخ سُمهـا بالعصـير ..
كان هارون جالسـاً على مكتبه يتحدث مع ليـلة التي تتأهب للنزول لتصويـر حلقات اليـوم وهي تُلملم عدتها وتمنحه تقريرًا كافيًا ووافيـًا حول خط سيرها اليومي ، حتى نوع القهوة الذي ترتشفه بيدها أخبرته عنـه .. ما فرغت من كل شيء جلست على طرف السرير قائلة:
-وأنت بتعمل أيه ؟!
قفل دفتـر حسابات الزراعـة من أمامه وقال والابتسـامة لا تُفارقه :
-عكلمك !!
تدلل صوتها الذي يبطن بالضحك :
-الله مفيش شغل النهاردة ولا ايه ؟!
رغم جدية ملامحـه إلا أنا بسمـة المتعة بسماع صوتها كل ساعة لم تفارقه رغم انشغال عقله وعينيه بالمهام التي يُنجزها إلا أنه دومًا ما يتعمد أن يشعرها بأن أي شيء يمكن أن يتعطل لأجلها ، فقال :
-لما تقفلي هشتغِل ..
أصدرت صوت إيماءة خافتة وسألته بتوجس :
-أنا لو طلبت طلب ممكن تفكر فيه وتنفذه .. طلباتي كتير أنا عارفة !!
-أيه عاوزاني أچيلك اسكندرية اشرب معاكي شاي ولا قهوة المرة ديي !!
أطلقت ضحكة طويلـة عنـ.ـد.ما تذكرت هذا اليوم الذي تحدته فيه ونهضت الصبح وجدته بانتظارها بأحد المقاهي القريبة منهـا :
-لا المرة دي بجد ، لو طلبت طلب صعب شوية هتنفـذه ؟!
وثب من مكانه وهو يُعيد الدفتر للخزنـة ويفتش على ورقة آخرى :
-علشانك يحصل يا ليلة ..
اتسعت ابتسامتها وهي تعبر عن إعجابها بجملته التي لا تُعارض لها طلبًا :
-بحب اسمعها منك أوي .. بحس أني شخص غالي عندك كده ومهم وو كل طلباته مُجابة .
وقف في منتصف الغُرفـة معبرًا بسطو قلبه :
-ما أنتِ غاليـة بحق !!
-إذا كان كده اطلب بقى بقلب جـ.ـا.مد ..
ثم غيرت مكانها لتنتقل أمام المرآة وهي تراقب ملامحها المشعة بحُب رجل المستحيل ، رجل لا يجمعها بهِ إلا الحُلم وقالت مترجية بأمل:
-هارون .. سبق وقولت لي إنك مستحيل ترجع القضاء صعب ، بس أنا نفسي ترجع تشتغل دكتور في الجامعة تاني !! أنتَ مكانك هناك .. المكان ده اتعمل عشان واحد زيك ..
ترك الدفتر من يده على سطح مكتبه وعلى وجهه ملامح الرضا والفرحة باهتمامه بهِ وبمستقبله ، تحرك ليقف أمام النافذة يراقب غيوم السماء التي تُقاومها الشمس لتنصهر وتتحول لغيث جديد بجمال نظراتها وهي تتطلع إليه ليقول معترفًا :
-أنا بالفعل عملت كِده يا ليـلة ، وقدmت طلب لرئيس الچامعة من كام يوم ومستني الرد عليـه .
فزعت فارحة :
-بجد !! وماقولتش ليه !! ده أحلى خبر أنا سمعتـه أنت ازاي تخبي عليـا خبر زي ده؟ أنـ
قاطعها بهدوء:
-كنت مخليهالك مفاجأة وأهي اتحرقت ، زي حاچة كمان بس مش هت عـ.ـر.فيها غير لما تتم .
كان قلبها يُراقصها من شـ.ـدة السعادة وهي تسأله بدلال لطيف:
-يعني مش هتقول لي وهتسيبني بفضولي كده !
-لغاية ما تحصـل قُلت ..
-أنا مبسوطة أوي ، يعني راجـ.ـل جـ.ـا.مد في مكانتك وكمان هتبقى دكتور في الجامعة وتكون فارس أحلام كُل البنات هناك ، بس أنت المفروض تكون في قلبك واحدة وبس كل اللي يقرب منك يشوفها في عيونك .. وممم كده باقي العروسة وهتبقى الصورة كِملت يا دكتور ..
تنهد مبتسمًا ملمحًا بنيته نحوها :
-طب دعواتك عشان شكلي لقيتها ..
تنهدت متمنيـة بحدوث معجزة بينهما :
-بجد يابختها .. هتعرفني عليها ؟
ثم حملت حقيبتها متأهبة لمغادرة الغُرفة وهي تتنفس حبه وسألته بنفس النبرة الحنونـة برغبة جامحة في البقاء معه لآخر عمرها وهي تقفل الباب ورائها :
-طيب سؤال كمان ، هارون القـديم اللي بيكلمني .. لو حب ،قصدي ولو قلبه طلب حاجة مستحيلة هيتصرف ازاي!!
-هيهد الدِنيا بحالها علشان ياخدها …
خفق قلبها فارحًا :
-بجد !!!
بدهاء المحاميين أدرك مقصدها ، أدرك أنها تود أن تطمئن على حالة قلبها بصحبته ، تود أن تعرف مصيرها معه ، طوى كل صفحات اعترافه بمشاعره رغم أن كل تصرفاته وأفعاله أقرته حقًا ، عاشق مع وقف التنفيذ ، منتظرًا الوقت المناسب ليُفجر طلبه واعترافه برغبته فيها صراحة ، نواياه التي تتجه نحوها أن تكون هي وحدها حلاله وزوجتـه أمام العالم … أن تكون له بدون عوائق ..
استأذنت منه لرؤية أمها أمامها تود التحدث معها ، وفي تلك اللحظة طرقت زينـة الباب فسمح بدخول الطارق قبل معرفته لهويتهـا .. دخلت زينة لغرفته وقدmت له العصير .. أخذ الكوب من يدها دون التطلع بوجهها ووضعه على سطح مكتبـه قائلًا وهو يشتت نفسه عنها:
-تشكري يا زينة.. تعبتي روحك .
تابعته بتوسل:
-هارون ، ما بزياداك چفا ، وخلينا نرچعوا والفرحة تبقى فرحتين .. محدش هيحبك غير زينة يا عمدة ..
تأفف ممتعضًا:
-زينة قفلنا الحديت في الموضوع ديه وقولت لك أنا مش عاوز اتچوز يا ستي ، ربنا يكرمك بالأحسن مني.. طلعيني من راسك .
-مفيش في عيني أحسن منك ولا رايدة غيرك يا عُمدة ، أنا ليّ شهر لا باكل ولا أشرب ولا دُوقت الزاد من حـ.ـز.ني عليك .. طب زعلتك في أيه علشان تسيبني !
تأفف مختنقًا ليلتهم كوب عصير الليمون ليهدئه قائلًا:
-زينة قِعادك إهنه غلط ، اطلعي وخدي الباب في يدك .. مينفعش أصلًا تيچي لإهنه .
رفعت جفونها وهي تراقبه لينهي كاس العصير كله ، فتسرب الارتياح لنفسها ، ظلت تراوغ على مسامعه كالحية ، تفتح بوابات مواضيع كثيرة ليس لها أي علاقة ببعضها ، تعمدت أن تمد وقتها معـه أكثر ممـا يمكن حتى سرى مفعول المُخدر بجسده وباتت الزغللة والرؤية المشوشـة تطارده ، ما لاحظت بوادر نجاح مخططها دنت منه وظلت تبادر بلمسات بغيضة ، لامسات مليئة باللهفة والطمع في الاستيلاء عليه عمدًا .. غمغم بدون وعي :
-بت حاطة أيه في العصير !!
مرت قرابـة السـاعة فهبط هيثم من سيارته راكضًا نحو أبيه الجالس بالحديقة وهو يأخذ أنفاسـه بصعوبـة بالغة :
-ألحق يا أبوي ، نصيبة والبلد كُلها مقلوبـة ..
نهض خليفـة من مكانـه مذهولًا :
-نصيبة أيه يا وِلد ، انطُق .
-هارون قَدm طلب الصُبح للمچلس عاوز يلغي چواز الدm من العزايـزة ، والدِنيـا مقلوبة قلـب عليـه .. ومحمول هارون ما عيردش عليه .
هرول خليـفة للداخل وهو يصيح مناديًا على هارون ، فخرجت صفية ترتعـد :
-خير يا خوي ؟!
-فين هارون..؟
ردت بعجل وهي تُجفف كفوفها المبتلة بملابسها وهي تصعد لأعلى منادية عليه خــــوفًا من غـــضــــب خليفة الذي يتطايـر :
-هركب أشوفهولك .. وأنت ياهيثم روح بص عليه في أوضته اللي في الچنينة !! بس هو عمل ايه بس !!! يا هارون يا ولـدي ..
أسرعت صفية الخُطى وهي تهلل :
-استرها علينا يا رب أحنـا مش ناقصـين مصايب ..
وضعت يدها على مقبض الباب ودفعت الباب فجأة للتفاجئ بجفونه تتراقص تحت نور المصباح وزينـة المتجردة من ملابسـها ، ترتدي قميصـًا قصيـرًا للغايـة نائمـة بحـ.ـضـ.ـنه ، أخذت تندب على وجهها وهي تقفل الباب وتنوح فوق رؤوسهم ، ففزعت زينـة التي تُمثل النـوم وهي تتوسل لها وتراقب هارون الذي يقاوم سطو نومـه :
-استري عليا يا عمـة .. أنا معملتـش حاجة ..أحب على يدك متفضحنيش أبوي يقــ,تــلني فيها !!!
ثم تعمدت رفع الغطاء لتُريها الزهرة الحمراء التي تدنس فراشـه لإثبات التهمة عليـه فصرخت صفية بعدm تصديق وأعين مُبرقـة وهي تضـ.ـر.ب على صدرها كثيرًا :
-يا مري !! يا نصيبتي !!يا مري يا مراري !!!! يا الفضايح !! يا حـ.ـز.نك يا صفية على عيالك !!
أحيا على أملٍ أن يأتي الغد الذي ستكبر فيه زهرة عبّاد الشّمس ‏وتدير رأسها الأصفر الصغير في كلِّ الاتجاهات ‏ذاهلة باحثة عن مصدرٍ ما يمدها بالحياة ، خائفة ، مُشتتة
فثَمّة وجه أكثر من الشمس !!
‏وعنـ.ـد.ما لا تجد خيارًا أو ملاذًا ‏ستلقي بنفسها تحت ظلال شمسك ، والأحرى بين يديك ‏لتهدأ ، تأمن ، تغفو ، مثل ما فعلها قلبي معكَ تمامًا ..
*عنوان الفصل :
(شمس الحُب لا تنطفئ أبدًا) 🌻
••••••••••••
” قبـل سـاعـة ممـا حدث ”
وصل كلٌ من هاشم ونغم لإحدى محلات الصاغـة بمركـز “قنـا” خلال مسافة من الصمت مقدرة بمقدار الطريق .. صف سيارته وبدون التطلع إليها بل كانت عينيه وفكره مُشتتان حول مكالمته الجافة مع رغد التي صفعته بقـلم الرفض ، بعد ما مرت الليالي الخالية منها وأحس بقدرها بقلبـه وتأنيب ضميـره ولكن كيف غــــروره يسمح لها أن ترفضه ، ألــم تكن تنتظره كعادتها ، ألــم تكن دومًا ذراعيها مفتوحين لاستقباله !! بل على الأحرى كيف لشخص مثله تربى على أخذ كُل شيء بهـواه يُرفض مثلما رفضته ، تمـرد ، عاند ، دعس قلبه بكعب حذائه وأكمل في طريق عِناده الذي لا رجعه منه بدلًا من علاج الأمر .. زفـر و قال :
-انزلي هاتي الشبـكة اللي تعچبك خلينا نخلصـوا .
اندهشت من طلبـه وأسلوبه ، فجادلته:
-نخلصوا !! ما نفضوها سيرة من أصلوا ؟! بصراحة ربنا مش فاهماك ولا فاهمة راسك فيها أيه !! أنتَ حد چابرك عليّ ..
سند كفـه على مقود السيارة وهو يتطلع الطريق أمامه :
-هاشم العزايزي محدش يِقدر يچبره على حاجة ..
-أومال أيه !! أصلو بطريقتك دي أنا اللي مش هكمل في الچوازة يا وِلد خالتي !!
أخرج زفير حُرقته :
-انزلي اختاري شبكتـك يا نغم ..
تأرجحت عينيها باستغراب حول أمره :
-وأنت مش هتنزل !! هروح اشترى دبلة كيف لروحي ؟! هي دي الأصول ؟
زفر بامتعاض راسمًا على وجهه معالم الرضا متأهبًا للنزول معها :
-معاكي حـق يا ستي .
شـ.ـد مفتاح سيارته وهبط منها وسبق خُطاها بخطوتين ، دخل محل الصاغة وجلس على المقعد الجلدي تاركًا أغراضه جنًبا وقال للصائغ :
-عاوزين أحلى شبكة عِندك للعروسة .
طالعته :
-مش للدرچة دي ، هي دبلة وخلاص .
انغمست نغـم في اختيار دبلتـها بملل لمجرد شيء لامع يكـ.ـسر شحـوب كفها الباهت وحياتها وانغمس هاشم في تفاصيـل شراء شبكته من قبـل مع رغد التي لم يفارق خُطاها خطوة .. مداعباته المستمرة في اختيار شبكتـها .. تذكر تفاصيـل يومهم عنـ.ـد.ما شـ.ـد خاتمًا مميزًا وقدmه لها :
-ده هيبقى تحفة في يـدك .
رغد بخجل :
-هاشم كده كتير بجد كفايه .. هتدفع كتير وأنا مش عايزة أغرمك .
-يا ستي غرميني وأغرمي في حُبي .. وأنا هتچوز كُل يـوم !!
ثم وشوش لهـا بمداعبته الاعتيادية :
-أنتِ هتبقي مراة هاشم العزايـزي ، يعني وجهتي برة وجوة ،الخاتم ده يلمعك بره ، وجوة بقا سبيه عليا .
فاق من شروده على صوت نغم التي اختارت أصغر دبلة بالمحـل بحجم أصبعها ثم نادت عليه باستسلام :
-أنا خلصت ؛ چبت دي !!
نظر في كفها فوجد حجم الدبلة بوزن خفيف للغايـة ، انعقد حاجبـه :
-دي بس !!
-اه ، أهي تأدي الغرض وخلاص ، مبحبش ألبس دهب ..
بدون جدال أخرج بطاقته البنكية وأعطاها للصائغ ليأخذ حسابه ثم لملم أشيائه وهو يسألها باحترام وتقديـر لهدوئها وقناعتها :
-متأكدة مش عاوزة حاچة تاني؟!
هزت رأسها بالنـفي وسبقت خُطاه للسيـارة كي ينهي الحسابات مع الصائغ .. بعد القليل من الدقائق عاد هاشم حاملًا بيده دبلتـها بعلبة صغيـرة ، ففتح باب السيارة طالبًا يدها .. مدت له يمينها ليُلبسها الدبلة بنفسـه ثم قال قبل أن يطالعها:
-كتب كتابنا الجمعة الچاية عشان اجازتي مش طويلة .. اتفقت مع خالي وعمامك على كِده .
طالعتـه بحيرة حول أمره :
-عارفة ، قالولي ..
ثم قفل باب السيارة وهو يُطـــعـــن بخنجر حبـه لرغد الذي بتر شرايين قلبـه التي كانت تمده بالحيـاة وعاد لمقعده ، فسألته :
-هقعد في البيت ولا هرچع معاك ؟!
رد على سؤالها بجفاء :
-اظبط أموري وبعدين هاخدك ، آكيد مش متچوزك عشان اسيبك أنتِ في بلد وأنا في بلد .
كاد أن يعيد قيادة سيارته فأوقفه سؤالها :
-أنتَ ليه غيرت رأيك ورچعت تُطلبني تاني !! في حاچة مش مريحاني عاوزة أفهمها !!
رد باختصار :
-وأنتِ لو مش مرتاحة وافقتي ليه !!
انفجرت بوجهه تشكو همها الذي فاض مكياله من صدرها :
-وافقت عشان زهقت من زينة وبيت خالي وحياتي الكئيبة يا هاشم .. وافقت عشان تعبت من الوحدة ومن حيطان أوضتي اللي شققت من كُتر الدmـ.ـو.ع ، وافقت عشان عاوزة اسيب العزايزة وأمشي ومحدش يعرفلي طريق .. وافقت عشان مش قِدامي غيرك يخلصني من السـ.ـجـ.ـن اللي عايشة فيه !!
سحب منديلًا وقدmه لها وهو يزفر بكلل ، بات حِمله حملين !! أيحـ.ـز.ن على رغد التي أراد استبدالها بغيرها كي ينساها ويُرضي كبريائه !! أم نغم التي تبدو أمامه كمبني منهار يلزم ترميمه !! نغم التي تعامله كأنه طوق النجاة الآخيـر لحياتها البائسة !! أم يغتال عقله وقلبه اللذان خضعا تحت أهداب إمراة كان سيحارب الجميع لأجلها !! إمراة قُربها لا يحمل إلا الخسائر !! طرد كل أفكاره المشتتة بنفسٍ طويـل وأتبع مسار عقله الذي قاده لأعتاب ابنة خالـته ” نغم ” كي يبدأ معها حياة جديدة ، تاركًا رغـد على ذمته التي لم يهن عليه إطـ.ـلا.ق سراحها من آسره .. أشعل سيجارة أخرى ، متكلمًا بالصعيدي :
-طب أنتِ أيه عيبكيكِ دِلوق !
رمقته بعينيـها الحائرة وهي تُجففهما:
-خايفة !! جوازة أيه دي اللي بعد أيام وأنا وأنت منعرفوش بعض غير بالشكل ؟! حتى متربناش مع بعض زي ما زينة اتربت وسطيكم عشان أعرف طباعـك !! حياتي كُلها كانت في الكُتب والمذاكرة وحياتك كلها كانت في الحربية ، كُنت اسمع عنك سمع !!
ثم نظرت الجِهة الآخرى وأتبعت :
-كله عيقول هاشم واعر ، وعصبي مخــــوفيني منك ..وأنا خايفـة كلها أيام ويتقفل علينا باب واحد مع راجـ.ـل كل كلامي عنـه سمع !
ما نفع النورِ في أعيُن أظلَمت؟ مال ثغرة جهة اليمين بضحكة ساخرة :
-عمري ما كُنت اتخيـل ان هاشم العزايزي يتچوز واحدة عشان يكون لها طوق نچاة وبس ..
عاندته مُحافظة على كبريائها :
-وأنا عمري ما اتخيلت إني اتچوزك أصلًا ، أنا لا عايزة چواز ولا نيـلة .. بس الظروف حكمت ..بس لو مش عاوز يبقى بلاها سيرة .
دعست على غــــروره فأراد أن يثبت لها العكس ، هبط من سيارتـه بنيرانه التي باتت تحرقـه من كُل صوب وحدب وهو يفتح باب السيارة ويطلب منها بهدوء يخفي عواصفه أن تنزل ، دلفت باندهاش وهي تتبع خُطاه لمحل الصاغـة ململمًا شِتات نفسـه وقال للرجل :
-عاوز شبكة كاملـة للعروسة ..
ثم نظر إليها بدون أي تعابير واضحة :
-مراة هاشم العزايزي مش أقل من أي واحدة في العزايزة … متصغرنيش وتصغري روحك قِصاد حد …
••••••••••••
~اسكندريـه ..
-أنتِ جرالك أيه ؟! ما كفاية يا ليـلة كل القسوة دي عشان بس اتجوزت !!
رمت ليلة هاتفها بالحقيبـة بملل وهي تتأفف :
-اتجوزتي في السر يا مامي ..
ربطت “نادية ” حزام روبها الشتوى حول خصرها:
-في الأول والاخر اتجوزت ابن عمي .. الدور عليكِ يلي ماشية مع واحد مش عارفين له أصل من فصل .. واحد بيستغلك .
-مامي لو سمحتي أنا مش ماشية مع حد ، وهارون شخص محترم وأنا وهو صُحاب وبس ..
وقفت نادية أمامها لتبُخ سمها:
-أنتِ فاكرة إنه ممكن يكـ.ـسر أعرافهم عشانك!! الولد ده بيقرب منك عشان مصلحة هو بس اللي عارفها، ليلة أنا أمك وخايفة عليكي ابعدي عنه..
ثم صرخت عليها:
-أنتِ مت عـ.ـر.فيش شريف بيقول عليه أيه!! ده بلطجي وبيتحامى بالقانون اللي دارسه ..
وقفت مدافعة عنه ببسالة:
-أهو هارون ده برقبة ألف زي شريف، شريف اللي كل حياته بنات وعك حتى وهو خطيبي وكنت بعدي ومستحملة عشان حالتي الصحية وبس …
ثم أخذت نفس :
-لكن هارون هو الوحيد اللي وقف جمبي واتقبلني زي ما أنا ، خلاني احب ليلة ، احب ليلة زي ما هي مش زي ما أنتوا بتكرهوني فيها طول الوقت .
سالت الدmـ.ـو.ع من عينيها وأكملت بحرقة :
-مش هكذب عليكِ يا مامي ، اه اتشـ.ـديت له وبتمنى يكون نصيبي، بس الطريق بينا مستحيل ، طريق مـ.ـو.ت .. عشان كده عايزاكي تطمني ، أنا وهارون صُحاب وبس .. وأنا راضية المهم يكون في حياتي ..
ثم تناولت حقيبتها بنفور :
-عندي تصوير ، بعد اذنك …. ياريت تطلعيني من دmاغك أنا عارفة بعمل ايه، انا مبقتش ليلة اللي مستنية حد يمشيها ويقولها روحي فين وتعالى..
زفرت ” نادية ” بكُره شـ.ـديد ناحية هارون الذي خلق من قربه نِمرة صغيرة تهجم على كُل من يعيق خُطاها، صفعت ” ليلة” الباب بقوة فـ لجأت نادية لرشـ.ـدي لتستعين بهِ:
-ألحقني يا رشـ.ـدي !! ليلة بقت واحدة تانيـة .. اللي اسمه هارون ده لعب في دmاغها وقواها عليا ..
وصل رشـ.ـدي لمكتبـه الكبير بمجال المُحاماه وهو يجلس على مقعده الجلدي ليقول :
-لسـه مكلم الشناوي يوقف المهزلة دي وبرنامج ليلة .. رفض وقال لي ده شغل والبـ.ـنت عاملة شغل جـ.ـا.مد وو
ثم أشعل سيجارة ورماها بفمـه :
-وخدي دي ، اللي اسمه هارون العزايزي هو اللي ممولها البرنامج العبـ.ـيـ.ـط بتاعها ومكلم حد تقيل فـ الإذاعة والتليفزيون مساندها ، فاكر نفسه هيأكل عيش من وراها ..
ثم نفث دخان سيجارته:
-هو اللي اسمه هارون ده عايز من واحدة هبلة زي ليلة ايه ؟!
رمت نفسها على المقعد :
-مش عارفة مش عارفة يا رشـ.ـدي .. كُل حاجة اتقفلت في وشنا فجأة ..
هز رأسه :
-متقفلتش ولا حاجة .. ابتديتي تديها الحبوب !!
-مش بتاكل أي حاجة في البيت ، ولا بتقعد معايا على سفرة واحدة … وكُل أكلها من بره ، البـ.ـنت اتغيرت خالص يا رشـ.ـدي ..
-يبقى تتصرفي يا ناديـة !! زي ما أنا هتصرف وههدلها البرنامج بتاعها مع أول حلقة هوا ليها .. أنا مش هضيع نفسي عشان واحدة تافهه زي ليلة .. الناس عايزة تشتري الأرض دي النهاردة قبل بكرة …
••••••••••••
~العـزايـزة .
“-علشانك يحصل يا ليلة .. ”
من مطلع هذه الجُملة التي أوقفت زينة تتجسس على أعتاب غرفته و التي قالها هارون حتى نهايـة مكالمته مع ليـلة ودخول زينة الذي أشعل نيران الغيرة بقلبهـا إثر حديثه المعسول ورقته مع صاحبة الحواديت التي تبغضها .. ارتدت قنـاع الخبث ووضعت بعض النُقط الطبية بالعصـير التي استدلت على اسمها عن طريق الانترنت .. حتى سمح بدخولها ودار الحوار البغيض بينهمـا ، فشرب هارون العصير الذي أكدت عليه أنه من صنع يد فردوس ، فلم يصل لتفكيره لمستوى حقارتها وما تنتويه ، ما لاحظت تراقص جفونه بعد جولة طويلة من الثرثرة هرولت لتقفل باب الغُرفة عليهـما وهو يسألها بدوران :
-حاطة أيه في العصيـر يا بت !!
ألقت نفسها بين يديه لتجعل صورتها آخر شيء يراه وهي توشوش له بإغواء :
-أنتَ عارف أنا لو اتجوزت غيرك ممكن أروح فيها .. هارون أيه حكايتك مع البت بتاعت الحواديت دي !! أنا بحبك ورايداك .
دفعها عنـه بتعب وعدm اتزان وهو يتمسك برأسه ويقاوح تغيب عقله :
-ابعدي يا زينة ..
رمت نفسها بين يديه وهي تسحبـه لفراشه رغم إنه يقاوم ينفر منها حتى غلبه المـ.ـخـ.ـد.ر وألقى نفسه بدون وعي على السرير ، جردته من سترته العلوية ورمتها بالأرض ، ثم هرولت لتمحو أثر جريمتها وتغسل الكوب جيدًا ، ثم قامت بإخفاء الزجاجة الخاصة بالمـ.ـخـ.ـد.ر بأحد الأماكن المتوارية بالغرفة .. ثم عادت لعنـده ونزعت عباءتها لتظهر تحتها قميصًا باللون الأصفر يصل لتحت رُكبتها .. بعثرت شعرها ثم ركضت عائدة للحمام تبحث عن حد شفرات الحلاقة ، وتعود لفراشه من جديد .. رمقته بمكر :
-أنتَ اللي اجبرتني أعمل كِدِه يا هارون .. أنا مش هسيبك لواحدة تاخدك مني مهما حصل .. أنا مراة الكبير وبس.
تركت زجاجة عطره بجانبها وبدون رأفة بنفسها قامت بشق جـ.ـر.ح صغير بقدmها فتسـربت منه قطرات الدmاء على مفرشـه .. فضت قطرات دmاء الجـرح ثم تناولت عِطره لتوقف النـ.ـز.يف من رجلها ولفت حجابها حول قدmها حتى تتخلص من بقايا جريمتها .. أرجعت كل شيء بمـكانه ثم عادت لتنام على ذراعـه ، تفقدت ملامحه عن قُرب ، تجرعت الكثير من القُبلات التي لا تحق لها ، طبعت حُمرة ثغرها على أجزاء صدره ظلت تغمغم باسمه ليصحو ويشاركها لحظاتها المريـ.ـضة ، ثم توسدت صدره متأملة أن يستيقظ ويجدها بين يـديه وهي تُمرر كفها بوقاحة على صدره وبطنه ..
ولكن كانت صدmتها الغير متوقعة بدخول ” صفيـة ” التي أفشلت مُخططها ….
~عـودة للأحداث الحاليـة …
قفلت صفيـة الباب خلفها وهي تسحب زينـة من شعـرها بدون رحمة :
-الله يخربيت سنينك ، وأنا اللي قولت تلاقيه مدهاش وش غارت مشت على بيتهم !! يخربيتك وبيت أمك ..عتعملي أيه في سَرير ولدي!
انفجرت زينة في عواء الذئاب بدmـ.ـو.ع التماسيح وهي تُقبـل يدها بتوسل :
-أحب على يدك يا عمة متفضحنيش .. والله مدرتش بروحي غير بعد اللي حصل ما حصل .. هو هو اللي قالي تعالي مقدرتش و
صفعتـها صفية بدون شفقة على حالها:
-اكتمي يا بت !! اكتمي هارون ميعملهاش ، ولدي متربي ، أنتِ الناقصة قليلة الحيا .. عملتِ أيه يا حزينة !! هارون قوم يا هارون شوف الوقعة المنيـ.ـلـ.ـة دي !
فاق هارون من نومه على صوت صراخهم وهو يفرك في جفونه بتعـب وينهض بثقل يصدح برأسه :
-مالك عتصرخي ليه يا صفية !! هو فيه أيه ؟!
رمت زينة بالأرض واندفعت نحوه :
-قوم ، قوم يا ولد بطني وشوف النصيبة اللي عملتها !! لا لا وألف لا متطلعش منك يا هارون .. ولا عملتها !! يا مري يا مري حتى أنتَ يا كبير يا عاقل !!
-حُصل أيه بس يا ما !!
زحفت زينة لترتدي العباءة على جسدها ووتركها مفتوحة من الأمام .. ثم ارتمت تحت قدmي صفية :
-أوعى تقولي لأبوي يا عمة ، ورحمة أبوكي استري عليّ ..ديه يمـ.ـو.تني فيها !! خلي هارون يصلح غلطه ويكتب عليّ لكن مايفـ.ـضـ.ـحنيش ..
انفرجت عينيـه تُراقب الأوضاع حوله ، زينـة وهيئتها المشبوهة ، قطرات الدmاء التي تُلطخ فراشه ، صدره العاري المزخرف بحمرة نسائية .. فزع قائمًا :
-في ايه !! والبت دي عتعمـل أيه هِنه يا ما .. أنتِ عملتي أيه يا بت !!
ثم أتبع بصدmة :
-يانهار أبوكي مش فايت !!
لطـ.ـمـ.ـت على وجهها وضـ.ـر.بت الأرض بتصنع :
-يالهوتي يا لهوتي ، أنت نسيت ، يا عمة ياعمة هو اللي قال لي تعالي وكمني كِده كِده هبقى مرته .. وانا معرفش سلمت نفسي كيف ولا كان فين عقلي .. هارون قول الحقيقة !!
وقف هارون مذهولًا من وقاحتها :
-البت دي بتحور يا صفية !! أنا ملمستهاش !!
ثم صرخ عليها وهو ينزل لمستواها :
-بت كُنتي حاطة أيه في العصير !! انطقي.. وايه الفُجر اللي أنتِ فيه ديه !!
ندبت صفية على وجهها :
-كيف كيف ملمستهاش ، طب واللي شوفته بعيني !! هتكدبني يا هارون هتستعماني !! ليه تفوت في الحـ.ـر.ام يا ولدي ما كانت قِدامك وهتبقى حلالك ..
انفجر بوجه امه مشتتًا والصداع ينخر برأسه من أثر المُخدر :
-صفية أنتِ هتعومي على عومها ، أنا ملمستش البت دي !! البت دي كـ.ـد.ابة وملفقة الحوار من راسها ، ولو متعدلتش يمين الله لأكون دافنها حيـة وما هيهمني حد ..
ثم قبض على معصمها موبخًا وهو يرجها تحت يده:
-بت اتعدلي .. عملتي كِده ليه !! أنا مش عيل صغير يضحك عليـه ! فُضي المسخرة دي !! قبل ما أروح فيكي في داهية وأنتِ متساويش تلاتة تعريفة ..
دفعتـه زينة بكُل قوتها عنـ.ـد.ما أحست ببوادر فشل خطتها ، فعنـ.ـد.ما وصل آذانها صوت نداء “خليفة” انطلقت كالصاروخ لعنـده فلم يتمكن أحد من إيقافهـا .. توقف هارون بمنتصف غرفته حائرًا مشتتًا ، ممسكًا برأسه التي كادت أن تنفجـر :
-صفية وقفي بت أخوكي وبلاش فضايح البت دي فچرت ، أنا مقربتش منيهـا .
جاءت زينة من أعلى وعباءتها تُرفرف خلفها لترمي نفسها تحت قدmي خليفة مترجيـة بصراخ :
-يا عم ألحقني أنا واقعة في عرضك استرني .. ولدك ولدك .. انصفني يا حچ خليفة دي شرف ولاية ..
صاح هارون من أعلى :
-متصدقهاش يا أبوي دي كـ.ـد.ابة .. وحشي الكلام بدل ما أچي أحش رقبتك يا بت .
خرجت هيام من غُرفتها على صوتهم المدوّي ، وجاءت فردوس راكضـة من المطبخ وبيدها بشكيرًا لترى ما الأمر الذي أشعل أصواتهم فجأة ..
-حُصل أيه يا بتي؟!
نظر خليفـة لزينة التي تتبجح تحت يده :
-هارون هارون غواني وأنا غـ.ـصـ.ـب عني اتعمـ.ـيـ.ـت وطاوعته وحصل اللي حصل .. وبينكر ، نكر كُل اللي حُصل بعد ما خد غرضه مني يا حچ ..
ضـ.ـر.بت أحلام على صدرها وهي تضع حدًا لسخافتها :
-هارون ما يعملهاش ، قومي يابت استري نفسك وبطلي رمي جتت .. هما اللي اختشوا مـ.ـا.توا ، قومي قامت قيامتك ..
نظرت لها ببجاحة وهي تبكي بزيف :
-عملها ، عملها يا عمتي .. الشيطان حضر وعمانا إحنا الاتنين .. دِلوق مين هيدفع التمن !! أنا لوحدي وهو واقف ينكر كأنه معملش حاجة؟!
فأكملت صفية المدلفة من أعلى بصراخ لتفهم هيام ما حدث :
-دخلت عليهم وشوفتها نايمة في حـ.ـضـ.ـنه يا أحلام واللي حصل مـ.ـيـ.ـتحكيش ، طب أصدق مين واكدب مين !!
لكزت أحلام زينة بكتفها بقوة :
-لو حلفتي على المية تچمد بردك كـ.ـد.ابة ، هارون تربية يدي ميعملهاش .. ولو عمتك هتصدق عنيها أنا مش هكدب تربية يدي .. قومي فزي واختشي على دmك .
نظر خليفة لهارون الذي يستشيط غـــضــــبًا :
-هارون أيه اللي حُصل ، انطُق يا وِلدي !!
رمقها بنظرات الخسة:
-مش عارف ، ولا فاكر بس اللي متأكد منيـه انا ملمستهاش ولا چيت يمها يا أبوي..
ثم صرخ عليها :
-بس شكلها عاوزة تتربى وتشوف وش هارون التاني .. كُنتِ حاطة أيه في العصير يا بت !
بجحت بوجهه وهي تخر دmـ.ـو.ع الكذب :
-محصلش ، واللي عمتي شافته !! أنا هتبلى عليك ليـه يعني !! شايفني واقعة !! ياريتني ما طلعت يا ريتني ما هوبت ناحيتك !! طب كُنت استنيت لما أبقى حلالك…ما أنتَ رايدني سبتني ليه!
زفر هارون باختناق:
-ياصبر الصبر ، بت بزياداكي مسخرة..وقلة عقل .. أنا حايش نفسي عنك بالعافـ.ـية ومش عاوز أعمل عقلي بعقلك ..وعزة وچلالة الله اقــ,تــلك بيدي!
زعق خليفة:
-هارون ، مع إني واثق في ولدي ميعملهاش، بس الشيطان ….
قاطعه هارون بحزم :
-ورب العزة ما لمستها يا أبوي !! أيه هتعرفوا أكتر مني ، هتجننوني !! البت دي كـ.ـد.ابة .. ولو متعدلتش واللي خلق الخلق هعدلها أنا وماهخلي فيها عضمة في مكانها ..
واثق الخُطى يمشي ملكًا ثم نظر لها بتحدٍ:
-طب قومي هوديكي مستشفى يكشفوا عليكِ، ولو اللي عتقوليه صُح ، هكتب عليكي الليلة، لكن أنا مهوبتش منيها .. وهثبتلكم كِدبها دِلوق ..
اهتزت زينة لفشل خطتها الدنيئة ، وقفت البومة تنوح بوجهه وتندب حظها:
-يا مري يا مري يا هارون عاوز تفضح وتجرس بت أخوي !! واللي مايشتري يچي يتفرج علينا !! عاوز تعرف سرنا للخلق ..لا لا يا هارون بت أخوي ميحصلش فيها إكده .. أنت تصلح غلطك وتكتب عليها الليلة ..
ثم نظرت لخليفة مدافعة عن ابنة أخيها:
-هي البت هتفضح نفسها ليه يا حچ خليفة دي عاوزة ستر ربنا ، وحصل محصلش بت خاله وماينفعش يفـ.ـضـ.ـحها دي لو شافها عريانة يغطيها ..لكن دكاترة ومستشفيات لا .. ميرضنيش .
رمقها هارون بعدm تصديق لما يسمعه والنار تفور بجوفه :
-أنتي عتقولي أيه يا ما!!! زينة دي لو آخر واحدة في الدِنيا ما هتكون مرتي ولا هتتكتب على اسمي هي چابت الآخر … كُنت عارف أنها قليلة عقل ، لكن طلعت قليلة عقل ورباية …
صاحت صفية بوجهه:
-بت أخوي متربية أحسن تربية و مش هتتكشف على دكاترة يا هارون، أنا اللي هقف لك!!
زحزح أمه عن وجهه وانحني ممسكًا بمعصم زينة ليجرجرها بعنف متجاهلًا صوت الجميع وصرخاتهم ، توجه نحو غرفة أحلام ورماها بمنتصف الفراش فلملمت ملابسها بخــــوف مزيف :
-أنت هتعمل أيه مش مكفيك اللي عملته فوق؟
-خفي أوهام وقرف، عشان أنتِ لو آخر مراة قصادي يدي ما هتطولها ..
ثارت النيران بعيونه ، فدخلت صفية تترجاه ، فصاح هارون :
-اكتمي ياما .. ومش عاوز اسمع حس مرة.
ثم زعق بأعلى صوته لأحلام المُقبلة عليهم :
-أحلام !! تعالي اكشفي على البت دي وشوفيها صادقة ولا كـ.ـد.ابة ..
ثم حدجها بعنفوان والنيران تثور من عينيه :
-كـ.ـد.ابة يبقى تتربي ومحدش هيربيها غيري ، صادقة يبقى شوفوها غلطت مع مين وچاية تلبسهاني .. جاتك القرف ..
صرخت بوجهه :
-وديني لأروح المچلس وأحكي لهم كل حاجة، أنا مش حسيب حقي يا هارون ، أنتَ عتنكر أيه !! وليه !! حـ.ـر.ام عليك دا أنت عندك أخوات بنات .
-سكتيها ياما وإلا هخرسها عمرها كُله .. أنا حقيقي ما شوفتش في بچاحتك !! وحايش نفسي عنك بالعافـ.ـية..
ارتمت زينة في حـ.ـضـ.ـن عمتها :
-الحقيني يا عمة ، حـ.ـر.ام عليكم كفاية فضايح ، يقطع الحُب وسنينه .. دي وعدني أنه عمره ما هيتخلى عني .. حوشي عني انا زي بناتك ..
أشارت أحلام لهارون أن ينتظر بالخارج ، فتدخلت بينها وبين صفية وابعدتها عنها ولفت شعرها حول كفها بعنفٍ فصرخت زينة من شـ.ـدة الو.جـ.ـع :
-حـ.ـر.ام عليكي يا عمتى ، وربنا ما عملت حاچة ! عتقــ,تــليني ليه!
-حُرمت عليكِ عيشتك يا بت صالح ، بصي لي يا بت ،هارون مهوبش ناحيتك وقلة الحيا دي لو مبطلتهاش هربيكي أنا عشان شكلها أمك معرفتش تربيكي ..
ثم شـ.ـدت على شعرها بعنف أكثر ورمتها على السرير :
-لكن ترمي بلاكي على هارون عشان يتچوزك ولا في أحلامك ؛ ومش هكشف عليكِ عارفة إنك كـ.ـد.ابـة وحيـة ، ومش هقبل أن هارون يتچوز واحدة سماوية زيك ..
تدخلت صفية مدافعة عنها :
-وهي هتكدب ليه يا عمة أحلام ، ديه كلام فيـه كِدب !! دي تطير فيها رقاب ، أنا شوفتهم بعيني وهي ..
قاطعتها أحلام بحدة :
-أنا مش هجيب صفية تاني في بيتي كفاية عليّ أنتِ وخوتتك .. و أنتِ لو ربيتي كُنتي هتفهمي يعني أيه ولدك ميعملهاش، لكن معذورة أنتِ مكنتش فاضية غير تحبلي وترمي لي في عيال اربيها ..
خرجت صفية عن ثوب احترامهـا أمام أحلام قائلـة :
-على الأقل كُنت له أرض خِصبة ، غيري كانت بور معرفتش تچيبله ضُفر عيل ، يعني ولا تچيبي ولا تربي !! أومال حُرمة كيف !!
تلقى الصَدmة عنها خليفـة وهو يصـ.ـر.خ باسمها :
-صفيـة !!
قفز الرعـ.ـب بقلبها عنـ.ـد.ما رأته أمامها كالجبل ، خلال خمسة وثلاثين عامًا لم يقبل بإهانة واحدة بحق أحلام ، هرولت صفية لعنده بذعر أرنب وهي تبرر ما قالته ، فـلم يستمع لحرف منها بل أخرسها بلطمة قويـة على وجهها وهو يقول :
-لولا الزن اللي كان على وداني مكنتش هتچوزك ، ومن يوم ما دخلتي البيت ديـه وأنتِ عارفة دورك زين .. لكن تغلـطي في ستك وست العزايـزة احطك تحت رجلي يا صفية ولا هيهمني حد .. أنتِ عارفة أحلام خط أحمر وهي اللي مصبراني عليكِ واللي يغلط فيها كأنه غلط فيّ ، روحي وأنتِ طـ
تدخلت أحلام بينهم لتهديـه كي لا يسبقه سيف شيطانه ربتت على كتفه :
-استهدى بالله يا حچ ، دي عيلة صغيرة من مـ.ـيـ.ـتى عناخدوا على كلامهـا بس.. متعكرش دmك .. مش بعد العُمر ديه كُله ياما استحملناها ..
انضم هارون لـ أبيه بعد ما سمع إهانة أحلام من أمه وانضمت لهم هيام وهيثم الذي جاء ركضًا من الحديقـة ، صرخت صفية بوجهه :
-دِلوق طلعت صفية وحشة ، صفية اللي خلفت لك اربع رچاله يشهلوا بلد !! هي دي كتر خيـرك يا صفية وهو ديه رد الچميل يا حچ !!
تدخل هارون وضم أحلام وقبل رأسها وحـ.ـضـ.ـنت هيام أمها :
-حقك عليّ أنا يا أحلام ، -ثم نظر لأمه- استهدي بالله يا ما حصل أيه ؟!
طافت عيني هيثم بالمكان فوقعت عينيه على زينة التي تقفل أزرار عباءتها وقال بعدm فهم :
-هو فيه أيه !! وزينة مالها ..
حسم خليفـة أمره مستغفرًا ربه متراجعًا عن قرار طـ.ـلا.قها :
-مش عاوز اشوف وشك قِدامي لغاية ما أنسي الزفت اللي قُولتيه .. وتحبي على راس أحلام دلوق ويكش بس تسامحك ..
ثم نظر لزينة التي ترتعد من بعيد بحدة :
-وأنتِ روحي روّحي بيتكم لغاية ما نشوفوا هنعملوا ايه في نصيبتك دي..
كاد هارون أن ينفجر ، أن يُعارض أمره ، أن يبتره .. فجاءت فردوس تركض بخــــوف:
-حچ خليفة في ٤ رچالة من خفر المِچلس عاوزينك أنت وسي هارون ضروري ..
-وأنتِ تعالى ، حسابك لسـه مجاش ..
اخترق الجميع مندفعًا نحو زينة بزعابيب غـــضــــبـه وسحبها كما تُسحب الأغنام متجاهلًا نداءات الجميع وصراخهم وصراخها وتشبثها بيده وتوسلاتها ، وتعرقل خُطاها ، فزعق صائحًا بها:
-مسمعش حِسك …
لم يلتفت لنداء أبيه لأول مرة بعمره ، وتوسلات أحلام وصراخ صفية ، وتدخل هيثم الذي حاول أن يمنعـه ، فتح أحد الغُرف الصغيرة ورماها بداخلها بكُل قوته وأحكم غلق الغرفة بالمفتاح صارخا بفردوس :
-فردوس هاتي لي چلابيتي من فوق ..
انهالت ضـ.ـر.بات زينة على الباب المقفـول بتوسل وصراخ ، فزعق صوت قدرها الذي أراد أن يعيد تربيتها من جديد وكي يضمن أنها لا تُحدث أي فوضى عليـه .. فـرعد صوته الصارم وهو يرمى المفتاح بجيبه :
-ورب العِزة اللي هيهوب ناحية الأوضة دي هحبسه مطرحها ، ولو أبوها سأل عليها قولوله عُمدة البلد هيربيها عشان شكلك معرفتش تربيها .. وأنا ميرضنيش بت في العزايزة بالحال ديه !
ثم زعق صارخًا :
-سامعيـن !!
فصرخ عليهـا بتوعد :
-يمين الله ما حد هيفلتك من تحت يدي غير عزرائيل يا زينة ، وأدعي يجي لك قبل ما أرجع لك ….
شجعته أحلام هاتفة :
-ينصر دينك ويد اللي ربتك ، خليها تتربى قليلة الرباية دي ..
••••••••••••••••••
دخلت “أسماء” زوجة صديق غُرفة نجاة المقفولة بالمفتاح بعد ما عاد صغيرها من آخر امتحان له بالترم ، وبيدها مائدة الطعام.. فركضت نجاة لاستقبل ابنها وتقبله وتطمئن عما فعله باختبـ.ـار اليـوم .. قفلت ” أسماء” الباب خلفها ووضعت الطعام على الطاولة وقالت بخــــوف يتقاذف من ملامحها :
-روح يا مازن غير خلچاتك عشان تأكل ..
ثم لاحظت ” نجاة “نظرة من عيني أسماء تحمل التساؤل، ربتت على ظهر ولدها:
-خش الحمام غسل يدك يا حبيبي وتعالى ..
ثم وقفت أمام أسماء:
-مالك يا أسماء !! أنا ماليش ذنب في كُل اللي بيُحصل ولا عاوزة أخرب عليكِ..
هزت أسماء رأسها متفهمة:
-عارفة يا نچاة….
ثم أخرجت الهاتف من جيبها بحذر:
-خدي كلمي رؤوف لو عاوزة تمشي من إهنه، كلميه يلحقك .. سمعت أنه عاود أجازة، وكل يوم بيستناكي قصاد البيت .. لو روحت لعمدة مش هخلص من شر صديق ، اتصرفي أنتِ..
ثم ارتعشت وأكملت:
-خُدي ولدك واهروبي معاه ، ومتظلميش روحك مرتين ولا تخربي بيتي .. اختاري نفسك يا نچاة وابعدي عن صديق وتحكمـ.ـا.ته …
فوضعت الهاتف بيدها :
-هأخد مازن بره لغاية ما تكلميـه ، بالله عليكِ ما تعوقي وخلي بالك …. خليه يجي يلحقك ، صديق شغال بيده وسنانه في بيتكم الچديد …
•~عودة لبيت خليفة العزايزي .
-غلطت يا هارون ، كُنت سبت البت تروح على بيتهم .
أردف خليفـة جملتـه وهو يتحرك مع ولد صوب السيارة متجهين لطلب المجلس ، فأجابه هارون بفتور :
-بت قليلة الرباية ، مضمنهاش لو مشت ممكن تعمل أيه .. بس هروق لها .. لازمًا تتربى يا أبوي .
تأفف خليفـة بضيق :
-البت عقلها شَتّ منيها ، بقيت تتصرف كيف العيال الصِغيرة ..
فتح باب سيارته وصعد أبيه بجواره ، فـ رد عليه هارون :
-دي مش مچنونة دي واعيـة ومخططة هي هتعمل أيه !! دي لازمًا توقف عند حَدها ويتكـ.ـسر عضمها ، هي حصلت البچاحة تحطلي حاچة في العصير وتغفلني !!
ثم تحرك بسيارته متوعدًا :
-طب يا زينـة ، أنتٍ اللي اخترتي الوش التاني لهارون ..
تطلع له خليفة بمكـر رغم علمـه بالجواب :
-أنت عملت إكده ليـه يا هارون ، ليـه عاوز تلغي چواز الدm وأنتَ عارف أنه ماينفعش .. أيه طلعها في رأسك ..
نظر لأبيه مختصرًا الجواب :
-كله لازم يتغيـر يا أبوي ، أحنا عزايزة مش عبيد تحت ضرس أعراف ومجلس ، كُل واحد حُر ، أديك شايف الأمراض المنتشرة في النجع الغربي ومش هنخلصـوا .. كفاية ولا أيه !! بالحال ديه العزايـزة هيضيعوا ..
سأله بشـكٍ :
-وبس !! وكان فين الكلام ديه من زمان !! أنتَ نسيت أن دي الأمانـة اللي أمنتهالك من الساعة اللي مسكت فيها الحُكم !! نسيت كيف العزايـزة اتهانوا في أول عهدهم ومحدش كان راضي يناسبهم !! نسيت رمـ.ـيـ.ـتهم في الجبل وهما منبوذين من أهل البلد !! أحنا مطلعناش من راسنا جواز الدm ، ديه اتفرض علينـا فرض ..
زاد هارون من سُرعة سيارته وهو يطالع الطريق ويجيب باختصار :
-الزمن بيتغير يا بوي وبينسي ، العزايزة دِلوق بيقيوا أسياد الصعيـد وألف مين يتمنى يناسبهم ..
لجأ خليفـة للصمت وهو يُتابع تصرفات ابنه الذي يُحركه قلبـه وهو يملك مُفتاحـه ، ظل مترددًا حول حقيقة إخبـ.ـاره بأنه لا يوجد داعي لتغير أعراف ، فحبيبتك كُتبت لك بالسماء قبل الأرض !! ولكن ماذا يحمـل مجيئها ، أي ذنب ستغفـره غُفران !! ذنب خطأ أبيها وأمها !! أم ذنب القــ,تــلى أعمامها !! أم ذنب أعراف فرضها الزمان !! أم ذنب صمتي طوال هذه الأعوام ! أم ذنب هارون الذي يشق الصخر لأجلها وأبيه جالسًا من بعيد يُراقبـه بصمتٍ !! أي ذنب سيُغفر بعودتك يا غُفران !!!
وصل هارون وأبيـه إلى مقر مجلس العزايـزة ، ومن بين صفوف الازدحام والتكدس تسلل هارون وأبيه وهو يتجاهل أصواتهم الصاخبة حتى دخل لقاعة المجلس الذي يتكون من كبـ.ـار أعيان العزايـزة .. ثار الجميع حول هارون :
١-أنا قلت لكم هيخربها بتاع القانون ديه ؟
٢-ديـه عاوز يمشي الدِنيا على كيفه !!
٣-مفيش دm غريب هيخش بيناتنا .. واللي مش عاجبه يسيبها ويتوكل على الله يغور .
١-مكنش له مسكة من الأول يا رچالة ..
٤-تلاقي العمدة عجباه بت من عيلة تانية لعبت في نفوخه ورايـدها ..
جز هارون على فكيـه وهو يجلس بجوار أبيه :
-يا صبـر الصبـر ….
•~بمنـزل خليفـة .
بعد عودته من محلات الصاغـة وصل نغم لبيتها ، وعاد حاملًا ثُقل جبال على كتفه ، تساءل حول صراخ زينـة الذي لم يتوقف بالغُرفة حتى شتته أحلام عن معرفة الحقيقة وسحبته لغُرفتها وقفلت عليهما :
-مالك أنتَ كمان ، واخد في وشك وزاعق !!
أردفت أحلام سؤالها على مسامع هاشـم الذي جلس بجوارها بتأفف بضيق ، توقفت عن التسبيح منتظرة رده ، تنهد هاشم بكلل:
-تعبان والله يا أحلام ..
-سلامتـك يا حبيبي ، طب أحكي وفضفض لأحلام .. أيه البت نغـم زعلتك !! دي غلبانة والله .
طافت عينيه بأرجاء الغُرفـة باختناق وهو ينزع ساعـة يده وهدية رغد المُفضلة عنده ، لتقرأ الحيرة والتشتت بعينيـه ، وربتت على رُكبته :
-قول يا حبيبي متشغلش بالي عليك …
نظر بجُرأة في عينيها :
-أحلام أنا متچوز ..
قفلت جفونها للحظـة تحاول استيعاب ما سمعته:
-عتقول أيـه .. !!
زفر كأنه يخرج حملاً من صدره :
-من سنة ونص واحدة عجبتني وحبيتها في مرسى علـم واتچوزتها على سُنة الله ورسوله .. بس لسه العقد متسجلش عشان ظروف شُغلي .
سايرته في الحديث تحت ضباب دهشتها :
-وماله عقد عُرفي عالسنة !الف مبروك .. وبعدين .
فرك بدايتي عينيـه :
-عارف إنك مش مستوعبة اللي عقوله ، بس ديه اللي حصل ، ولمـا رفضت چوازة نغم الأول ديه كان عشان مش عاوز غيـرها ، ولغاية اللحظة دي قلبي مش عاوز غيرها .. وكنت نازل أجازة وهقولكم ..
شحب وجه أحلام حـ.ـز.نًا وعتبًا عليـه :
-وبعدين !! كمـل يا وِلد يدي … غيرت رأيك وطلبت نغم تاني ليه ، طالمًا متچوز ومرتاح في چوازتك اللي من ورا ناسك !!
وثب كي يهرب من طريقة أحلام التي لم ترحمه أبدًا ، فأمرته بنبرتها الحادة :
-اقعد وكمـل يا هاشم ، متهربش زي كُل مرة …عمرك ما هتغير الطبع ديه فيك !!
جلس على مضض ليخرج عن هدوئه :
-كُنت مجهز كُل حاجة يا أحلام ، وهقف قصاد العزايزة عشانها ، بس طلعت مخبية علي سـر ، سر أن أبوها وعيلتـها تُجار سلاح في سينـا لتمويل الدواعش .. وأبوها نفسه محطوط على قائمة الإرهابيين .. كانت قايلة أن أبوها مـ.ـيـ.ـت !!
هزت رأسها بهدوء يحمل جبال من الحـ.ـز.ن :
-وهي كانت عارفة أعرافنـا ؟!
-لا ، مكنتش تعرف .. أصلاً كانت رافضة چوازنا من غيـر أهلي ما يعرفوا ..
ثم نظر لها :
-لما خدت قرار نغم كنت بقــ,تــل علاقتي بيها للأبد، مش هينفع يا أحلام حتى لو قلبي معاها !! قوليلي أعمل أيه ؟؟؟!محتار وعقلي هيشت مني.
رمقتـه بأسف:
-عاوزني أقول لك أيه غير أني معرفتش أربي بعد العُمر ديه كله !! ومصممين تو.جـ.ـعوا قلبي عليكم يا ولاد خليفة!
ثم شـ.ـدته من كُمه بقوتها الضعيفة التي لا تُذكر مقارنة بقوة عضلات التي سينفجـر منها القميص :
-من مـ.ـيـ.ـتى عنتچوزوا من ورا أهالينـا يا هاشم ، قول لي ..عقلك كان فين!! وچاي دِلوق بعد الفاس ما وقعت في الراس!! اتچوزت واحدة لا أنت عارف أصلها من فصلها!!
-أحلام أنا مش ناقص ، أنا عقول لك عشان نشوفوا حل مش عشان تبكتيني..
حاولت تمالك أعصابها بـصعوبة بالغة وهي تسأله لتُجاري معه مصيبته بعصبية مدفونة :
-هشوف لك حل ، أي حل بص لي ؛ مستعد تستغني عن چشيك وشغلك وترچعلها .. ؟!
مسح بكفوفه على وجهه ثم ضمهما فوق ثغره بنـ.ـد.م بالغ ، وتطلع لعندها فقرأت الرفض بعينيه ، فأتبعت :
-فهمتك ، مش هتقدر تستغنى عن شُغلك وتضحي بيه …
ثم هزت رأسه وقالت مقترحة بنبرة مغلفة بالعتاب واللوم :
-لو جبتها العزايزة هتقدر تحميها وتكـ.ـسر عرف له ٣٠٠ سنة !! وتضمن حمايتها !!
حدجها بعجز على أن يعدّها بذلك ، فرسمت ضحكة الحـ.ـز.ن على وجهها :
-طبعا مش لاقي رد .. ولو قولتلك خدها واهرب في أي بلد هتقدر تستغنى عن اخواتك وناسك وشُغلك وتعيش مقطوع من شجرة باقي عُمرك !!
تلقى سؤالها بصمت يحمل النفي ، من شـ.ـدة حُزنها عليـه انفجـرت بوجهه صارخة :
-أنا مش بلومك ، أنا مقهورة عليك وعلى اللي حطيت نفسك فيه !! ظلمت نفسك وظلمت بت الناس معاك …
حاول أن يبرر لها :
-أحلام افهميني ..
أحمر وجهها من شـ.ـدة الحـ.ـز.ن عليـه وقهرتها منه وأردفت بقسوة :
-انت غلطت وعقـ.ـا.بك تعيش محروم منها عمرك كله حتى ولو عتحبها ، هي ملهاش ذنب عشان تاخدها بذنب أبوها وانا معرفهاش عشان أحكم عليها ومحدش بيختار اهله زيك مخترتش اهلك بس غلطت لما خبت وخدعتها ، وغلطت لما وافقت تتچوزك من غير أهلك .. ده عقـ.ـا.بكم انتوا الاتنين.. لازمًا تدفعوا تمن غلطكم ..
رد معترضًا :
-عقولك حبيتها يا أحلام لولا بس موضوع أبوها قفل الدنيـا مكنتش هسيبها .. أنا مش ندل عشان اسيبها ..
-ولما تدوس على أعراف عيلتك وناسك برچليك ديه تسميه أيه !!
ثم ضـ.ـر.بته بكتفـه بو.جـ.ـع :
-حب أيه ونيـ.ـلـ.ـة أيه !!! أنتَ لو حبيتها صُح مكنتش هتقبل تتچوزها غير قصاد الخلق وفي النور .. فكرك هارون أخوك لما راح وقدm طلب يلغوا الأعراف النيـ.ـلـ.ـة دي ، من هواه !! لا عشان قلبه مال ناحية ليلة ، وقارية الحُب في عينه من زمن ، بدأ يتحرك عشان تبقى حلاله في النور ، مش زيك !!!
تمتم بصدmة:
-هارون عمل كِده !!
ثم امسكت بذراعها الذي زاد و.جـ.ـعه من ضغط التـ.ـو.تر العصبي وأتبع خافية و.جـ.ـعها :
-لا وكمان عاوز تظلم شخص تالت معاكم ! قول لي .. لو اتجوزت نغم هتقدر تعيش مع البت من غير ما تحسسها بوجود واحدة غيرها في قلبك !!
ثم أطلقت تنهيدة شفقة على حاله :
-مش قادرة اقولك سيبها لانك لو متجوزتش نغم هتتجوز غيرها وهتظلم غيرها ..
وهزت رأسها بنفي وأتبعت :
-ومش قادرة اقولك دوس على قلبك وكمل معاها تظلم البت معاك وتحسسها بالنقص ودي يتيمة ومتستاهلش ..
ثم صرخت عليه وهي تضـ.ـر.ب على فخذها بحسرة :
-مش قادرة أقول لك أنك عقـ.ـا.بك تفضل عايش بطولك من غير چواز ، مش هتهون عليّ أشوفك موچوع ووحداني العُمر كله مع أنك تستاهل حش رقبتك .. قول لي لو أبوك عرف هيعمل فيّ أيه !!
ولى نحوها متفهمًا :
-كل كلامك صح يا أحلام .. بس رغد ؛ أنا معرفتش قيمـ.ـيـ.ـتها غير لما الأيام مرت ، الأول كُنت مصدوم مش مستوعب ، فاكر إني چامد ومفيش واحدة تلوي دراعي .. كلمتها رفضتني وقالت لي مش عاوزاني ، وخطها اتقفل من ساعتها .. هتچنن عليها يا أحلام !!
حسمت أمرها معه :
-تروح تقلب الدِنيـا على مرتك .. وتحب على رأسها ورچليها وتراضيها وتخليها تسامحك في النار اللي رمـ.ـيـ.ـتها فيها وتديها كُل حقوقها يا هاشم وتطلقها بالمعروف … أنا مش مستغنيـة عنكم .. حتى ولو العرف اتكـ.ـسر مفيش حاجة هتكـ.ـسر چد عيالك إنه ارهابي .. طريق المـ.ـو.ت اللي ماشي فيه لو متراچعتش عنه أنا اللي هقف لك يا هاشم .. فاهم ..وقبل ديه كُله تقول لنغم الحقيقة يا تقبل يا توافق فهمت !!!
•••••••••••••••
~عوده للمجلس .
مرت اللحظات تحت هذه الجمهرة التـي تنزل جمرًا مشتعلًا على قلب هارون قبل مسامـعه ، أدرك بأن المعركة ابتدأت للتو .. فاق من شروده على رسالة ليلة التي كتبت فيها :
-“هارون ، بكلمك كتير ممكن ترد عليا متقلقنيش .. في حاجات كتير حصلت حابـه احكيهالك”
اكتفى بـرده كتابةً :
-“في المجلس ، هخلص وأكلمك ”
ردت على الفـور :
-“هستناك ”
قفل هاتفه ليلتفت للحوار الدائر بينهمـا والأمور المنقلبـة فوقه كتفيـه ، آراء ومعتقدات متبادلة لا تقبل أي جدل ، كُل شخص متمسك بآرائه كأنها نهاية الحياة ، ليردف آخر معترضًا قطعًا على تبدل الأعراف :
-أنا ميرضنيش بتي تخُش في بيت غريب ، وِلد عمها أولى بيها وبمالها وبعرضي ..
=العمدة عاوز بناتنـا تتكشف على الغُرب ، ليه وهي من قِلة الرجـ.ـا.لة اللي في العزايزة !!
*بتي ادفنها قبـل ما تنام في حُضن الغُرب ..
اهتزت ساق هارون بتـ.ـو.تر إثر كظمه لغـ.ـيظـه ومعاتبته لنفسه كيف أقسم أن يحافظ على هذه الأعراف الحمقاء ، كيف تجرأ من قبل ووقف أمام قلبٍ يملأه العشق ومنعه !! وهو ينكوي بناره الآن! كيف … رفع أحد الأعيان عينيـه ناحية هارون وسأله :
-أيه قولك يا عُمدة .. اتفضل سمعنـا ..
تمالك أعصابه بصعوبة بالغة هو يُفارق أبيه ويقف أمامهم ليقـول :
-الدِنيا عتتغيـر ، والزمن مش هو الزمن ، والعزايزة أشرف من يمشهم عُرف له سنين ..
عارضه الشيخ :
-والله لو مش عاچبك عُرفنا تقدر تسيبها وتمشي .. طالما مش كد العُمدية كيف أبوك ..
هاجت الأصوات بالقاعة والجميـع يؤيد رحيله حتى أخرسهم الشيخ متبعًا :
-كمل للآخر يا عُمدة !!
انفجر هارون مُدافعًا عن قلبه وما يدفنه بمقبرته ، عن عجزه بالتصريح عن مشاعره وهو يقول مستعينًا بالدين :
-الأمراض الوراثية في النجع الغربي مبهدلة الدِنيا ، لازمًا يبقى فيه وقفه قبل ما العزايـزة ينقطع نسلهم واحد ورا التاني وديه مش كلامي .. ديه كلام الصحابة والسلف .
ثم نظر للجالسين وأتبع :
-سيدنا ‏عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لبني السائب – وقد اعتادوا الزواج بقريباتهم:
‏”مالي أراكم يا بني السائب قد ضَوَيتم؟!، غرّبوا النّكاح لا تضووا”
‏بمعنى :تزوجوا الأباعد لئلا يضعف نسلكم!
‏.
ديه كلام أميـر المؤمنيـن رضى الله عنه ، وجيه أكده الإمام الشافعي رحمه الله لما قال:
‏”ليس مِن قوم لا يُخرِجون نسائهم إلى رجـ.ـال غيرهم، ولا يُخرجون رجـ.ـالهم إلى نساء غيرهم، إلا جاء أولادُهم حَمقى!!”.
‏.
عارضه رجل آخر :
-والله أحنا من زمان على ديه الحال لا شوفنا أمراض ولا نيـ.ـلـ.ـة إلا هي تقاليـع فارغة بتتحججوا بيها ..وبتعترضوا على خِلقة ربنا.
فسأله الآخر :
-واشمعنا دِلوق يا عُمدة اللي چاي تتكلم !!
اقتحم خضر أبو سويلـم المجلس وعدو هارون الأول ، بشمـ.ـا.تـة :
-هقولكم ليـه ، ديه بس عشان عُمدتنا وقدوتنـا طب وقلبه سايقه وعاوز العزايزة يتساقوا معاه كيف عدm اللامؤاخذه الغنـم !!
ثم قهقهه بحقد يملأه ليُرد ضـ.ـر.بات هارون الماضيه ويقول مُكملًا :
-حضرة العُمدة حابب بت اسكندرانيـة ، المذيعة اللي كانت ضيفتهم ، ومقضي معاها يومين عسـل على البحر ..
ثم رفع كفيـه مبرئًا نفسه :
-معنديش خبر إذا كان كتب عليها ولا لا ، بس اللي حُصل أنيل ..
انقض عليـه هارون مغلولًا ممسكًا بياقة جلبابه وبصوته الذي هز حيطان الساحة :
-لما تتكلم على كبير العزايزة تظبط وتعرف أنتَ عتتكلم عن مين ، أنت هتنسى نفسك ولا أيه يا خضر !!
تلقى الآخيـر تعنيف هارون له بضحك :
-أبلع ريقك يا عُمدتنا ، أنا مش چاي أرمى بلاي عليك !!
ثم تخلص من قبضـة وهو يفتح هاتفـه على مسجل صوت وصورة لرقصة هارون وليـلة على شواطئ اسكندرية في حالـة من الحُب لا تخفى عن الأعمى !! فتح هاتفه أمام أعيان المجلس وهو يجمهر :
-خدوا شـوفوا وملوا عنيكو !! الكبير عيرقص حُرمة غريبة عنيـه على البحر ، دي ولا أفلام أبيض وأسود ..
في لحظة واحدة؛ تبدلت الأحوال وثارت العواصف ، وانفجرت الهتافات وثرثرت العقـول والألسن التي لم ترحم هارون .. الجميع يلومه ويعاتبه ويسخر من حكمه ويذكرونه بفعل هلال من قبـل .. انقلب السحر على السـاحر وتسلطت الألسن وبساط الحُكم والعُمدية ينسحب شيئًا فشيئًا من تحت أقدامه ، ومن بين كل هذا لم ينجٌ خضر من تسديد هارون له لكمة تحت أنفه التي سالت منها الدmاء .. ثورة غير الثورة اندلعت ولا يمكن إخمادها بقلب مجلسهم الظالم ..
وثب خليفـة صائحًا بقلب المجلـس ليضع حدًا للأفواه المفتـوحة بنيرانها بوجههم ، كي ينقذ ابنه وغفران ونفسه من سُم العزايزة الذي أن نطق بطرف الحقيقة سيُكذبوه قطعًا :
-محصلش ، ولا في بينهما وبين ولدي حاجة !! خضر بيرمي بلاه على هارون والدليل ..
كاد أن يُعارضه أحد الأعيان فلم يمنحـه الفرصة وهو يقول بنبرته الحاسمـة :
-فرح ولدي على بت صالح العزايزي آخر السبوع .. ومش عاوز حد يفتح خشمـه تاني في الموضوع ديه ، مش هارون ولدي اللي يتجرأ ويخالف شرع ربنا ..
انتهينا يا عزايزة …
هنا في هذه المدينة الظالم أهلها لم يقــ,تــلونا ويقــ,تــلوا قلوبنا بالرصاص بل قــ,تــلونا بالقرارات..❕
•••••••••••••
كتب أحدهم في وصف حبيبته :
قد تدفعك فتاة واحدة إلى أن تُحب النجوم، ثم الكواكب، ثم الأرض، ثم أصحاب الفكر ،ثم القصص الخيالية، ثم عناقها ، ثم جِدار غرفتها، ثم لونها المفضل، ثم إبتسامتها، ثم المشي لمسافات طويلة عبر أغنية، ثم أدق تفاصيلها، إمراة واحدة كافية لتجعلك تُغرم
بمدينة ، ثم حي ، ثم شارع ، ثم أصحاب الدكاكين الموجودة فيه ، ثم الجيران ، ثم بيتها ، ثم قهوتها ، ثم التفاصيل الصغيرة ، فتاة واحدة بعيونها قادرة على جعلك حيّ بكل ما تحمله كلمة حي من حياة مخزونة .
عنوان الفصـل :
” من سيُعيد لي قلبي ” 🩶
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
“يقولون أن يشيخ المرء عنـ.ـد.ما يتقدm به العمر، لكنه في الحقيقة يشيخ عنـ.ـد.ما ينطفئ ضوء ما كان يسكن بروحه”.
عاد هارون برفقـة أبيـه بعد غروب الشمس .. وما أن ظهر شبح عودتـه من الباب هرولت صفية لعندهُ تعاتبـه بحُرقة تحت أصوات صرخات زينـة بالداخـل التي مازالت مستمرة تصدح في جميع أرجاء البيت .. ضـ.ـر.بته أمـه على كتفه بقهر ولوم :
-حـ.ـر.ام عليك يا هارون ، البت صوتها اتنبح من چوة ، بزياداك البت هتروح فيه ، أهو محدش كسـر كِلمتك وأبوها كل هبابة يسألني عليها أقوله قاعدة مع البنات فوق سيبها .. عشان خاطر أمك هات المفتاح افتح لها .
تجاهل أعين الجميع المصوبـة نحوه وبدون أدنى كلمة معارضة أخرج المفتاح من جيبـه ورماه بالأرض ، ثم جر ذيول يومه المكدس بالأحداث اللعينة ولجأ لغُرفتـه الشاهدة على ألوان ابتسامته ونجوم الحُب المتلألأة بعينه كُل ليلة وصوتها العـ.ـذ.ب الذي يغرد في المساء بدلًا من عصافير الصباح .. انحنت صفية لتأخذ المفتاح المرمي وركضت نحو الغُرفـة لتُحرر أسر ابنة أخيهـا الخبيثة .. لحقت هيام خطوات أخيها وهي تُنادي عليه فأوقفها بصرامة :
-مش عاوز أشوف وش حد !
ضـ.ـر.بت أحلام على صدرها وهي تنظر لهيام بحسرة :
-يا قلبي يا حبيبي… أخوكي چراله أيه يا بت !! ماله؟!
-مبقاش زينة لو ما نـ.ـد.متك على اللي عملته ، أنا مش هعديها .
خرجت البومة من قفص أسرها وهي تنوح كالغُراب وتتعود وتهدد بأنها لم ترك الأمر يفوت عبثًا ، حاولت أن تُخرسها عمتها وتهدئها ولكن بدون جدوى حتى جاء صوت خليفة السيف القاطع :
-خفي نواح يا بت ، روحي بلغي أبوكي وقوليلو الحچ خليفة أمر فرحك أنتِ وهارون مع فرح هاشم أخوه ، يالا اتحركي ومش عاوز كِلمة زيادة…
حلت النازلة على وجه البومة وعمتها بسعادة لا تُوصف وتبدل حالهم من حال لحال ، نست زينة كافة تهديداتها وتوعداتها لهارون واندلعت صوت سعادتها بالمكـان وهي تزُف الخبر .. ولكن كان للخبر أثر مدوى على مسامع أحلام التي هبت معترضة :
-يعني أيه الحديت الماسخ ديه يا حچ !! يعني أيه هارون هيتچوزها !! أنت نسيت اللي عملته مقصوفة الرقبة دي ! لا وو
فتدخلت هيام تؤيد رفض أحلام :
-بس ديه ظُلم يا أبوي !! كفاياك ظُلم لهارون .. هو ما رايدش زينة ما تسيبه على راحته .
صرخت أحلام بقهرة :
-عتعمل في الواد كِده ليه يا خليفـة !! البت زينة دي لو دخلت البيت أنا اللي هسيبه وأمشي .. ويبقى أنتَ اللي اخترت.
فأتبعت صفية وهي تمسح على كتفه :
-عين العقل يا حچ زيتنا في دقيقنا والعيال متربيين سوا .. هو هيلاقي زي بت خاله فين !!دي طايشة وغلبانة وهيحطها تحت جناحه تشرق تغرب بطوعه .
كان هاشم جالسًا يُتابع حوارهم في صمت ساخر حتى حسم خليفـة الأمر:
-اللي سمعتوه هو اللي هيُحصل ، مش عاوز اسمع حِس مراة منيكـم.
هزت هيام رأسها رافضة وهي تقطع درجات السُلم ركضًا :
-أنا هروح أشوف أخوي ..
دخل هيثـم بلهفة ليطمئن :
-حصل أيه يا أبوي في المچلس !! البلد برة ملهاش سيرة غير هارون و لـ….
قاطعه أبيه قائلًا :
-خد عاوزك في مُصلحة …..
~الاسكندريـة ..
” مُجرد أن اسمع صوتك يهدأ عقلي الثائر في موقد الغياب ” ..
كانت ليلة تتحرك بخطوات عبثية في غرفتها ، تعض على أطراف أصابعها قلقًا ، تجوب ذهابًا وايابًا منتظرة اتصاله على مراجـ.ـل من نار ..
زفرت باختناق وهي تفتش عما ينقص يومها بملل .. عن صوته الذي اعتادته كل ساعة ، عن شعور الونس والألفة في حضرته ، كل هذا بات ناقصًا بل معدومًا في ظل غيابه المفاجئ ، القلب والعقل يبحثان عن ملجأهم ولكن بدون فائدة غربت شمسه عنها ولم تشُرق حتى الآن .. حاولت الاتصال به مرة جديدة ولكن بدون رد ..
وضعت الهاتف بـ جيب بيجامتها الشتوية وشـ.ـدت غطاء رأسها وهبطت من الغُرفة لتشغل فكرها عنه قليلًا .. نادت على مساعدة منزلهم :
-دادة .. هي دكتورة نادية جت !
-لا أنسة ليلة ، واتصلت وقالت هتتأخر شويـة ومعملش حسابها في الغدا ..أجيب لك تأكلي .
أدركت ليلة سبب تأخير أمها وربطته بـ لقائها مع زوجها السري ، فقالت بفتور :
-تمام يا دادة ، ممكن تعملي لي نيسكافية ، وأنا هقعد في مكتب بابي شوية ..
تحركت ليلة نحو غُرفة أبيها التي لم تدخلها منذ أربع سنوات و المزدحمة بالكُتب التي ورثها أبيها عن جدها من قبل ، والتي تتشابه كثيرًا مع غرفة هارون ولكن الفارق بأنه الوحيد الذي اقنعها بحُب الكتب والقراءة بعد محاولات متعددة من أبيها وجدها باتت بالفشل ..
أشعلت الأنوار وأخذت تتفقد الكُتب بالمكتبة.. ظلت ذكرياتهم الجميل تتردد أمامها وتبتسـم .. استحضرت ذاكرتها هيئته الأنيقة بالنظارة الطبية وتركيزه العالي أثناء قراءة الكُتب ، لقد أحبت ملامحه التي دلتها لحُب الكُتب ، شـ.ـدت أحد الكُتب بشغفٍ لتقرأها وهي تتجه لمكتب أبيها وتتقمص جلسته بملامح هارون التي استولت على عقلهـا وقلبها ..
ما كادت ان تطلع على الفهرس فجاءت المساعدة حاملة كوب القهوة بيدها وهي تقول :
-طلبك أهو أنسة ليـلة ..أي أوامر تانيـة ؟؟
-تسلم أيدك يا دادة ، لو سمحتي اقفلي الباب وراكي بس .
خرجت السيدة وفعلت مثلما أمرتها” ليلة” ، وانغمست الأخرى في الاطلاع على الكتاب بذهن شارد نحو هارون بل كانت تنظر على هاتفها بعدد كلمـ.ـا.ت الصفحة على أملٍ أن تجد منه مكالمة واحدة تطمئن قلبها المشغول عليه …
مرت قرابة النصف ساعة وبعد ما فرغ كوب القهـوة من يدها ، راقت لها فكرة الاتصال ” بهيام “، ولكن هي الآخرى لم ترد على هاتفها ، تسرب القلق لرأس ليلة التي خشت أن يكون قد أصاب أحدهم مكروهًا ، وثبت لتتفقد تفاصيل الغرفة التي لم تدخلها منذ سنوات ولم تهتم بتفاصيلها .. شئ مجهول حركها لكي تقـف أمام خزنة أبيها وتفتحها لأول مرة بعمرها رغبة في إيجاد صوره لهما معًا .. تنهدت بشوق :
-وحـ.ـشـ.ـتني يا سيادة اللواء ..
وقفت للحظة أمام الخزانة الخاصة به بعيدًا عن خزنة الأعمال وتحاول أن تتذكر كلمة السـر ، فربطتها بكلمة سـر هاتفه وهي تاريخ ميلادها .. 1/1/96 ، فتحت الخزانة من أول محاولة ، فتبسمت بـ.ـارتياح:
-ياحبيبي يا بابي …
ظلت تفتش بين أوراق أبيها بحُب وتكتشف بعض صورهم معًا وتغوص في تفاصيلها وتصورها بكاميرا هاتفها لتشاركها مع هارون .. استغرقت وقتًا طويلاً في استرداد ذكرياتها مع الصـور ، تركت الألبوم جنبًا ثم لفت نظرها عُلبة صغيرة ، أخذتها بفضول :
-وأيه دي كمان يا سي بابي!!
فتحت العُلبة الصغيـرة فوجدتها تحوي على ميدالية فضيـة مُعلقة بدبوس صغيـرة والصدmة كانت باسم “ماهر العزايزي ” بخط عربي دائري مميز .. جحظت عينيـها بذهول:
-أحيــه !! دي زي بتاعت هيثم بالظبط بس مكتوبـة باسمه ، وكمان هارون كانت معاه واحدة !! بس أيه جابها هنا !! ومين ماهر ده !!
#فلاش_باك ..
عادت لليوم الذي كانت غاضبة منه وأثناء توريطها معه بسبب تخلي هيثم عنها ، واليوم الذي أجبرت فيـه أن يكون مرشـ.ـدها بحظيرة العزايـزة .. استقلت سيارته بالمقعد الخلفي مرتدية رداء الخصام الطفولي :
-متكلمنيش ولا تبص عليـا في المراية لو سمحت !
لم تمهله الفرصة للرد كي يخبرها بأنه يشاهد الطريق خلفه ليس عيونها الجميلة ووجهها الذي يزينه العبوس الطفولب ، فتحركت للجهـة الأخرى من السيارة وقالت :
-كده احسن .. سوق وأنتَ ساكت بقا !ومتتكلمش يا ريت .
زفر بضيق وهو يستغفر ربـه بسره وقال :
-عارفة لو حد غيرك كلمني بالأسلوب ديه مكنش هيطلع عليـه شمس !!
ارتسمت ابتسامة خفيفة على ثغرها لتميزها :
-واشمعنا أنا بقا !! أفرق أيه عن كُل دول؟
صعد بسيارته على الطريق وهو يقول :
-خدنا في الكُلية أن فاقد الأهليـة مش عناخدوا بأقواله …
ركلت المقعد الأمامي بقدmها وهي تتمتم بغـــضــــب :
-عارفة أنك بتجر شكلي ومش هرد عليك عشان مش بكلمك أصلًا .. اف !!
ثم التفت لشيء ما وقع من جيب المقعد فانحنت لتكتشفه ، إذًا بميدالية مكتوب عليها اسمه بالخط العربي الدائري فقالت بصوت مسموع :
-هارون العزايزي !!
رد بعفوية :
-في أيه تاني !!!
-مش بنادي عليك على فكرة ؛ خد مفاتيحك دي لقيتها واقعة !!
تناول منها الميداليـة بعرفان :
-والله انتِ بت حلال ، زين لقتيهـا .. كنت دايخ أبرم عليها وشكيت أنها وقعت في الچبل.
سألته بفضول :
-هاه هاه ليه هي مهمة أوي يعني !! قصدي ممكن حد غالي عليك ادهالك هدية وو أنا بسأل بس ما تقولش عليا فضولية ..
رد ليشرح لها سبب أهمـ.ـيـ.ـتها :
-مفيش الحديت ديه ! دي بيعملوها في المچلس ، كل نفر عزايزي لازمًا يشيلهـا ، واللي يمـ.ـو.ت تتاخد منيـه وتتسيح .. والبنات لو تلاحظي لابسين سلاسل عليها اسم العزايزة .. دي ميزة وشرف لناسنا ..
لم تهتم بالحوار بل قالت بعجب:
-أحيه !!
-ياصبر الصبر ؟!
بررت سريعًا :
-خلاص خلاص أنا شفت عندكم العجب مش هستغرب لا ، اتعودت … اتعودي يا ليلة !
#باااك
ثم فكرت للحظات :
-ممكن جدو لما كان هناك أخدها هدية من حد اسمه ماهر ، أو قبض على حد منهم بالاسم ده !! صح مفيش تفسير تاني غير كده .. هابقى أوريها لهارون وهو يقولي يعرف أيه … بس ازاي !!
دستها بجيبها ثم أكملت تفتيش بمحتوى الخزنـة حتى تعثرت على ملف طبي .. قرأت الاسم فوجدت اسمه أمها وبالملف الآخر اسم أبيها منذ عام 2008..، تحاليل الخاصة باعتراف عدm قدرة نادية على الانجاب .. تسرب القلق لقلبها بخــــوف :
-وايه التحاليل الكتيرة دي !! دي أصلاً مش في مصر !! معقولة مامي بتشتكي من حاجة ومخبية عليا!!
حاولت فحص التحاليل بصعوبة ولكنها لم تفهم أي شيء.. ففتحت كاميرا هاتفهـا وأخذت تلتقط صور لنتائج التحاليـل بيدها ، ثم قامت بتحديدهم وإرسالهم لهيام ، مع تسجيل صوتي :
-هيوم ، فاكرة أن الدكتور عمار اداكي رقمـه قبل كده ، ممكن تبعتي له التحاليل دي يقولي فيها أيه !! سوري هتعبك .. بس محتاجة اطمن على مامي..
ضغطت على زر ارسال ثم تذكرت شيء آخر فعادت بتسجيل صوتي جديد:
-هيام أنتوا كويسين !! يعني كلكم بخير !! قصدي هارون كويس بكلمه مش بيرد ….. ممكن تطمنيني بليز !
~العزايزة .
صاحت هيام من الخارج وهي تضـ.ـر.ب على باب غُرفته بتوسل :
-هارون ، افتح لي وفهمني في أيه بس !!
صرخ بها وهو يدخن بشراسـة :
-هيام كبري مُخك مني .
يأست هيام من محاولة إقناعه بفتـح الباب فتقهقرت عنوة وهي تقول بضيق:
-طب يا أخوي على راحتك …
لم ينجٌ خليفة من سطـو استجواب أحلام له والتي ما دخلت الغُرفة عليهم وطردت هيثـم بعد اتفاقه السري مع أبيه لـ تنفرد بزوجها :
-ما أنتَ مش هتچنني يا حچ !! زينة مين قليلة الربايـة اللي يتچوزها هارون!! على چثتي ، ورب الكعبة ما أقعد لك فيها .. ما تريح قلب أحلام الله يريحك ..
انفجر بوجهه مندفعًا :
-كُنتِ عايزاني أعمل أيه يا أحلام ، كنت رايح معاه المچلس وناوي أفتح قضية بت ماهر ، لقيت الدِنيا عكت وولد سويلم چاب على محموله كِده فيلم ماسخ لهارون وليلة وهما عيرقصوا على البحر !! بقيت في نُص خلچاتي بين الخلق !! عشان ازيح التُهمة عن الواد قولتلهم هيتچوز زينة !!
خيـم الحـ.ـز.ن على ملامح أحلام بعدm تصديق:
-عيرقصوا على البحر !! هارون !! هو ولدك عِشقها للدرچة اللي ينسى فيهـا نفسيه ودينه يا حچ !! الواد عشق وأنت في يدك الحل وبدل ما تچمعوا بحبيبته چاي تچوزه العقـربة دي !! يا وچع قلبي عليك وعلى قلبك يا حبيبي يا حظك المنيل كانلكم فين الحِزن المخفي ديه يا ولاد صفية .. أنا راكبـة له يا خليفة .
أوقفها بحزم :
-چرالك أيه يا أحلام !! عقلك خف ليه أنتِ التانية .. اُقعدي هفهمـك اللول ….
فتح هارون غُرفته بعد ما ارتدى جلبابه الصعيدي باللون الأسود كلون أيام المُقبلة والخالية منها ، ووضع هاتفه على وضع الطيران كي لا يـ.ـؤ.لمه أكثر مكالمـ.ـا.تها المتكررة .. تدلى سريعًا على درجات السُلم فارتطم بهلال العائد متأخرًا من لجان امتحانات المعهد .. فأوقفه :
-مالك يا هارون !!واخد في وشك وزاعق!!
تجاهل سؤال أخيه وهو ينظر لهاشم الجالس يحرق في لفافات تبغه بعد ما مل من محاولات اتصاله بـرغد وكأنه يخرج بركان من صدره لعلها تخرج معه ، فرمقه بضيق :
-وأنت ما كفاياك عفيـر عمـ.ـيـ.ـتنا !! أرحم صدرك وصحتك لوچه الله ..
امتعض وجه هاشم بضيق قائلًا :
-هلال أنا مش ناقصـك .. حل عن نفوخي الساعة دي .
دنى منه متسائلًا :
-مال أخوك واخد في وشه وماشي ، وسامع كلام وحديت فالبـلد يمخول الرأس ، لعله خيـر !!
قدm له هاشـم سيجارة من عُلبتـه ليونسه جلسته ، فرفع كفه ممتنعًا :
-حد الله .. لست بحاجة إليها !! لا أحب شيئًا أن يُعكر قلبي الممتلئ بحُب الله ورسوله ، ثم رقيـة ..
مال هاشم فمه بسخرية على حال أخيه :
-ااه رُقية اللي ماشوفتهاش من يوم الدُخلة ياشيخنا !!
-الرؤية رؤية القلب وليس رُؤية العين يا أخ هاشم ، ثم خليك في حالك يا سيدي !!
ثم جلس بجواره قائلًا بنُصح :
-هاشـم ، أنا خايف على صحتك ، الأ تسمع عن خطورة التدخين على الصحـة،، ديه أنتَ حتى عريس وعنقولو يا رب سلم !!
حدجـه هاشـم بوجهٍ ساخر يحمل الهزء مرتديًا ثوب النُصح بمنظوره :
-يارب سلم دي تقولها وأنت رايح تمتحن فالمُعجم والوجيز ، أما أحنا قلبنا مـ.ـيـ.ـت ياشيخنا .. نتشاهدوا ونتشقلبو چواة المعارك .. ويا قـ.ـا.تل يااا قـ.ـا.تل .
تنهد هلال مستلهمًا الصبر :
-نفسي أقعد معاك قعدة واحدة وألاقيك متربي !! الله يهديك وينور بصيرتك .
ثم رفع حاجبه وهو يشعل سيجارة إضافيـة ليخمد حرائق جمة بصدره :
-طب وأنا قولت أيه !! قصدي أقولك ويچي الچواز أيه قصاد اللي عنشوفوه في سينا.
ضاق صدر هلال من دُخانه المُتعفر فشـ.ـد السيجارة من يده وثناها بقلب المطفأة :
-هاشم مالك !! أنت مش عتولع في صدرك غير لما يكون چواك حاچة وحاچة تقيلة طول عمرك ضارب الدِنيا باللي في رچلك ؛ حُصل أيه !! قول يمكن نحلوها !!
زفر هاشم بكلل من عبء أحزانه المُتكدسة :
-أقول لك أيه بس!!
خاطب هلال قلبـه كعادته :
-السجاير مش حل ولا عمرها بتحرق الهّم المتعبي چوة صدرك .. لو اللي چواك مايتحكيش قوم اتوضى وصلي لك ركعتين وربنا هينور بصيرتك .. هو حاسس بيك .. ولو على الشغل مشاكله معتخلصش .
نظر له هاشم مستفتيًا :
-قول لي يا هلال .. لو قلبك عاوز حاچة لكنها مستحيـلة ، وعقلك عاوز حاچة ومتيسرة قدامك .. هتختار أيه !!
حاول هلال أن يقرأ سبب حـ.ـز.ن أخيه بعينيه ولكنه فشـل ، هز رأسه مُخاطبًا بأسلوب المجهول :
-يبقى في هذه الحالة تستفتي ربك ، وهو اللي هيخلق لك من ضلع المستحيـل مُناك ، يا إما هيقنعك باختيـار عقلك ويدخل جواه الرضا .. وهترضى غـ.ـصـ.ـب عنك ..
ثم ربت على كتفه :
-قوم صلي ركعتين يعدلوا حالك وحياتك وهتلاقي الإشارة جات لك من عنده ..
~الاسكندريـة .
بعد ما محت أثر تفتيشها بخزانة أبيها واحتفاظها بالميداليـة القديمة التي كانت مُعلقة في ملابسـها عنـ.ـد.ما أعطاها ماهر لـ رفعت الجرهري كضمان وحيد على نسبها للعزايزة ، واحتفظ سامح بأمانته .. قفلت ” ليلة” خلفهـا باب الغرفة وهي تَرُد على اتصال رغد من رقمها الجديد ، فـ ردت بعفويتها:
-وحـ.ـشـ.ـتني يا رغود ، كده هتخليني أنـ.ـد.م إني قولتلك ارجعي شغلك ، مكنتش أعرف إنك هتنسيني كده ..
بلعت رغد أحد حبـوب الڤيتامين ثم قالت لها :
-أبدًا والله ، تعب الحمل مخليني أنام كتير واليوم بيعدي بسرعة أوي ، وأنا مش كده !!
تلهفت ليلة متسائلة :
-يا حبيبتي.. صحيح هو ولد ولا بـ.ـنت ؟!
وضعت رغد كفها على بطنهـا بحـ.ـز.ن شـ.ـديد :
-هاشم كان نفسه في بـ.ـنت شبهي ، بس أنا نفسي في ولد ، ولد يطلع زي باباه …
-هو محاولش يكلمك تاني ! أو يجي؟!
ردت بأسف :
-اخر مرة اتفقنا على الطـ.ـلا.ق وأجرت شقة تانية و .. خفت يا ليـلة أعرفه أني حامل يتهور وعيلته يعرفـوا وأبقى بأذيه ، وكمان ممدوح الشيمي ، بيطاردني في كُل مكان عايزني أرجع لهاشم عشان يضغط عليـه بيا ، فأفضل حل الانسحاب ..
سألتها بقلب يتتوق من لوعة ساعات الفراق:
-لسه بيوحشك !!
تنهدت بمرارة فأسهبت في سرد تفاصيل حُبها :
-فوق ما تتخلي ، أنتِ مت عـ.ـر.فيش أنا وهاشم علاقتنا كانت أزاي ، أنا بالنسبة له كنت الحـ.ـضـ.ـن الحنين اللي بيهرب بيه من الدنيا ، أنا عشت معاه أحلى سنتين عشقته يا ليلة ، سنتين عدو زي الحلم ، عارفة هاشم مـ.ـجـ.ـنو.ن ومتهور شوية ، بس دول أكتر حاجة عجبتني فيه ، كنت بقوله واحشني بس ، تاني يوم ألقاه واقف على الباب وواخدني في حـ.ـضـ.ـنه .. علاقتنا أن وهاشم مستحيل حد يفهمها ولا يعيش زيها ، أحنا الاتنين روح واحدة في إزازة ..
ثم انخرطت دmعة من عينيها :
-لولا بس النصيب .. بس أنا عمري ما هبطل استناه وآكيد في يوم هيرجع قلبي مصبرني بكده ، أنه راجع ، مفيش حاجة مصبراني غير أبنه اللي تاعبني ده زي باباه بالظبط..
ارتسمت ابتسامة الحـ.ـز.ن علو وجه لليلة وهي تتكئ على وسادة فراشها بنبرة متيمة لا تختلف عن نبرة صوت رغد :
-أنا معرفتش هاشم ، يعني كلامي معاه كان قُليل .. بس عرفت هارون حالة نادرة جدًا .. ت عـ.ـر.في هادي جدًا رزين ، ردود أفعاله مش متوقعة راجـ.ـل أوي ، شخص مت عـ.ـر.فيش تشبعي منه أبدًا .. هارون أكتر شخص مختلف ويجننك باختلافه ده .. بجد وو
قاطعتها رغد لتفوقها :
-ليلة حبيبتي ، فوقي .. أنا شامة ريحة حب وياسمين وفراشات !! انفدي بجلدك يامامي ، طيب أنا ادبست وكُنت مغلفة ، أنتِ عالبر أهو وبقول لك أهربي .. أنا مش هسيبك تغرقي زيي.. ولاد طنت صفية هيجننونا معاهم .
انفجرت ليلة ضاحكـة وهي تقول :
-معاكي حق ، بس أعمل أيه عجبني ومش قادرة أبعد عنه يا رغد .. خـ.ـطـ.ـفني ابن طنت صفية واللي كان كان .. أعمل ايه يا رغد ، شكلي ادبست وحبيته .. وهو كمان قلبي حاسس بكدة .. هارون بقا كل حاجة ليا الفترة الأخيرة .. أحساس أني قوية أوي عشان هو بس في ضهري ومعايا، أحساس كنت مفتقداه كتير..
أتاها صوت رغد ناصحة :
-يبقى تفرملي قلبك يا ليلة ، وأعملي زيي ، أنا أصلًا مكلماكي عشان أقول لك إني مسافر السويد عند خالو ، يمكن أقدر أنسى هاشم ..
انفرجت ملامح ليلة مذهولة :
-هتسافري !! هتهربي يا رغد وتحرمي أب من ابنه !!! لا مستحيل أقبل أنك تعملي كده آكيد في حل !!
~العزايـزة .
وصل هارون لأسطبل الخيول الخاص بيهم.. فلم يجد ملجأ لأحـ.ـز.نه إلا حـ.ـضـ.ـن “غيم ” الذي اعتاده .. اقترب منه ومسح على رأسه بيده المدججة بشقوق الأيام المحفورة على قلبه .. تلقى “غيم” لمساته بهدوء بدون عتب على أيام غيابه وتقصيره بحقه ..و على أهماله له .. يبدو أنها وافق بوجود” ليلة ” كشريكة معه بقلبه .. أن يتسابق مع مُهرة مقلها بفسحة قلب صاحبه من فيهما يصل أسرع يا ترى .. خطواته أسبق أم قلبها المُحلق في سُحب الحب أسرع !
وضع هارون رأسه برأس “غيم” و يناطحه اللوم والعتب والنـ.ـد.م وهو يوبخه :
-محذرتنيش ليه !! كان لازمًا توقفني .. روضتني كيف ما روضتك أهو وسابتنا مشت أنا وأنت والحـ.ـز.ن !! بس تصدق عذرتك لما مشيت معاها من أول مرة ، كانت إشارة لراسي ولقلبي وأنا اللي كملت .. قِدرت على أصعب فرس في العزايزة بعفويتها ما بالك بقلب هارون يا غيم !!
دوّى صهيـل صوت غيم بالمكان كأنه يقدm لصاحبه اعتذاره ..فوبخه :
-لساتك فاكر !! بعد أيه !!
ثم انحنى ليحرره من مربطه وسحبه خلفه بهدوء متجهاً نحو ساحة الخيول .. كانت خطواتهُ ثقيلة محملة بثقُلِ الأيام والحب الذي داهم قلبه بدون إرادته .. غـــضــــبه الدفين من “خضر” وما فعله به وكيف سيرد له الصاع صاعين !! كيف يتجرأ أن يكشف سترته وكيف صورهما وكيف عينيه لن تُلاحظا وجود أحد يتتبعه !! يبدو أن حضروها حجب العالم بعينيه مكتفياً برؤيتها وحدها ..
وصل لساحة الخيول الرميلة وشرع في تمشية غيم بهدوء وصوت غناء منير يدوي بقلبه بالسماعة المُعلقة بأذنهِ :
“سمع بكايا الحجر نهنه وقال مالك؟
فتفت قلبي وأنا ببكي على حالك
في حاجه غالية عليك يا شاب ضايعالك
أنا قلت ضاع الأمل مني ومش آمن
بحلم أعدي الزمن في نطة مش ضامن”
وصل مع غيم بمنتصف الساحة وهو يحركه حول فلك حـ.ـز.نه بدوران .. يصدح “غيم” بصوته الرخيم يُناجي أبواب الشوق أن ترأف بقلب صاحبه .. ويزأر الشوق بصوت هارون الذي يشجعه أن يزيد من سُرعته ، وصل صراخ هارون لمسامع الجميع حتى انخلع قلب أحلام من مكانه مفزوعة :
-ديه صوت هارون !! يا كبدي يا ولدي!!
فنادت على هيثم متوسلة :
-ياهيثم يا هيـثم روح طمني على أخوك والله ما قادرة أقف على رچلي ..
يدور غيم حوله مثلما يدور حبه المفقود حوله .. مثل ما استحضرت ذاكرته حديثه مع أبيه الذي أجبره أن يفارق المجلس بعد رمي قذيفته بقلبه أولًا وبوجه الجميع ثانيًا ..
#فلاش بالك ..
-ليه عملت إكده يابوي !! ليه !! عشان تملي مهاودك ونعم وحاضر وكلمتك معتتكـ.ـسرش ولو على رقبتي .. تعمل في كِده !! طب فين الرحمة !!
تحت أحد الأشجار البعيدة عن مقر المجلس .. انفجر هارون بوجه أبيه الذي حكم على قلبه بالاعدام خـ.ـنـ.ـقاً .. وفراقاً .. وحرقةً .. ضـ.ـر.ب خليفة عكازه بالأرض :
-عملت كده عشان خاطر مصلحتك ! أومال كُنت عاوزني أعمل أيه !!
-ولما حلفت على امي طـ.ـلا.ق عشان اسيب القضاء كان لمصلحتي بردك !! أنت لساتك شايفني عيل صغير مش عارف مصلحته !! أنا هارون .. هارون العزايزي .. انت أكتر واحد عارف مين هو هاورن .. مش مستني نصحية من حد !!
جهر أبيه بوجهه :
-افهمني يا هارون يا ولدي !!
قاطعه وهو يخرج الوحش الذي يسكنه :
-افهمني أنت يابا !! أنا المرة دي مش هكون تحت طوعك .. المرة دي هختار أني أعيش .. ليه عاوز تهدني .. ليه عاوزني اتجوز زينة بعد كُل اللي عملته .. مش عاوزها ولا تلزمني ..عارف ليه ؟!
واجهه أبيه بالحقيقة التي يعلمها جيدًا :
-عشان زمام قلبك فلت يا هاورن وهاويت !! وأعوذ بالله يا ولدي من هوى الرجـ.ـال .. العشق اللي قلعك توبك وضميرك .. وواقف هيمان في حـ.ـضـ.ـنها معذور مش هلومك سكك القلب مرفوع من عنيها القلم .. فكرك أبوك مش عارف ونايم على وداني ..لاا خليفة العزايزي لساته بجبروته .. خلاك تسوق بس مشلش عينه من عليكَ .. ومش هيسيبك تغرق يا هارون .
لم يخجل من أبيها ليعلنها أمامه :
-حبيتها يا أبوي .. حبيتها ومش هخليها تضيع من يدي حتى ولو التمن مـ.ـو.تي .. لقيت معاها هارون التايه من سنين .. المرة دي محدش هيوقفنـي حتى ولو كان أنتَ يا عمدة ..
ضـ.ـر.ب خليفه الأرض بمؤخرة عكازه بمرارة :
-جيه اليوم اللي ساقك فيه قلبك يا ولدي .. جيه اليوم اللي كنت خايف منه !! ياما حذرتك من الحُب ووقايعه .. وأهو چالك في الوقت الغلط ..
-مش أنت دايما اللي عتقولي اسمع صوتك قلبك .. وبعقلك ديه خليه ينفع !! هو ديه اللي أنا عملته ! هخلي بعقلي كل اللي عاوزه قلبي متاح ..
عارضه أبيه بصرامة :
-على حساب روحك وروحها وأعراف هوارتك اللي أقسمت إنك تحافظ عليها !! الراجـ.ـل من كلمته يا هارون !
ولى وجهه وهو يركل جذع الشجرة بقدmه لفرغ طاقات غـــضــــبه :
-وعلى حساب أي حد يقف في طريقي يا أبوي حتى .. وأولهم بت صالح مش هتكون على ذمتي ولو القيامة قامت ..
صرخ عليه أبيه بحسـم :
-لازمًا تكون يا ولدي .. لازمًا تكون عشان تغير اللي مش عاجبك .. هو ديه اللي عقولك عليه حكم عقلك عشان توصل للعاوزه قلبك يا هارون .. متمشيش تطبش من غير وعي هتغرق !!
أحمر جمر الغـــضــــب بوجهه :
-أنت عاوز توصل لأيه يا أبوي ؟!
رفع وجهه بعيني أبنه وهو يطوى حقيقة ليلة في صفحات قلبه ، لانه متأكدًا لو علمها هارون سينفلت زمام أمره ولم يضع أخد بحسبانه فيخسر كل شيء :
-هجوزهالك ، هچوزك اللي قلبك رايدها .. وديه وعد من خليفة العزايزي .. و رب العزة ما هتتجوز غيرها .. بس أسمع كلام أبوك المرة دي وبس يا هارون يا ولدي ما تو.جـ.ـعش قلبي ..أنا عارف اللي أنتَ متعرفهوش !
عارضه بعد اقتناع :
-شايفني عيل صغير هتضحك عليه بكلمتين عشان يقول نعم وحاضر .. أبا أنا هتجوزها ومش هتجوز غيرها واللي يحصل يحصل ..أنا مش هبقى تحت طوع حد ..
صرخ عليه ناصحاً بصوت بنافس الرعد بقوته :
-ولا ينفع تكون تحت طوع قلبك كّمان .. اسمعني ؛ قوانين العزايزة عشان تغيرها بعقلك لازم تاخد زينة ستارة ليك من شرهم .. وعشان توصل للي بتحبها لازماً تتجوز زينة .. هتقولي ليه زينة بالذات ونظلموها معانا .. هقولك عشان هي اللي اختارت مصيرها .. هي اللي هتقع في فخ شرها وهتخلص منها بالساهل .. زينة اللي جابته لروحها ولازماً تتربي وتتعلم أن في حاجة اسمها نصيب ..نهايتها من جنس عملها ..
ثم مسك ذراع أبنه راجياً :
-اسمع كلامي ومش هيخلص الشهر إلا وأنا مجوزك البت اللي عاوزها .. عشان خاطر أبوك يا هارون متخربش اللي في راسي .. لو عاوز البت متضعش من يدك اسمع كلام أبوك المرة دي وبس !!
صرخ رافضا قطعا :
-وايه اللي في رأسك يا أبوي عرفني يمكن اساعدك …
#باك ..
جلجل صوت صرخته وكأنه ينافس صوت و.جـ.ـع غيم الذي يعاني من ألــم صاحبه .. وصوت منير يصدح بصدره :
يا حمام بتنوح ليه؟
فكرت عليا الحبايب
يا حمام ضاع منك إيه؟
دوبتني كده فوق ما أنا دايب
والحلم أنادي عليه
لا بيسمع ولا بيهدي..
ونفس الحالة كنت تعيش تفاصيلها ليلة ..التي طال غياب حبيبها عنها وخلى الليل من صوته وكلمـ.ـا.ته وصوت ضحكته التي تبذل قصارى جهدها لتسمعها قبل أن تنام .. شـ.ـدت الستائر وتأملت الهلال فوقها الذي يعلن افتراق عشاقه وهي تتنهد بو.جـ.ـع يحرق بقلبها واستدل قلبها على نفس الأغنية التي يسمعها فاتخذت من منير ونسياً لها ليصبرها على ساعات غيابه .. ليغني واصفا حالة قلبها :
عيبًا إن أقول على نفسي إحترت
أو أقول وليف روحي هجرني
من بين عيون الناس إختارت
جوز العيون إللي قــ,تــلني
ثم تنهدت بتعب وشوق يتضاعف بدون وقوف :
-أنت فين بس يا هارون !! يارب طمن قلبـي عليـه !
ثم فتحت هاتفها لترسل له مجدداً رسائل صوتية
1-على فكرة أنت غايب ليك كتير .. قلقتني عليك!
2-تعرف اليوم وحش أوي من غير صوتك .. طلعت حد مهم أوي في يومي ..أنت فين بقا !
3-هزعل أوي لو نمت من غير ما تطمني .. أنا مستنياك من وقت ما قولت لك على فكرة ..
4-هارون طيب أنت كويس !! خايفة أكلم حد من البيت أكون مكبرة الموضوع لوسمحت أول ما تسمع رسايلي كلمني في أي وقت .. أنا صاحية مش هنام .. رغم أني همـ.ـو.ت وأنام بس لازم اطمن عليك الأول ..
ثم زفرت بتعب لا يوصف وهي تتنفس بعناء مرارة غيابه عنها ..
أشفقت “هيام” على أخيها الذي تراقبه من أعلى بأعين مدmعه وتتساءل :
-مالك بس يا هارون متو.جـ.ـعش قلب أختك عليك..
ثم تذكرت هاتفها الموجود على الشاحن لتحاول أن تكلم أخوتها ليدخلوا بالأمر ولكنها فوجئت برسائل “ليلة” الكثيرة ..قرأت هيام محتوى الرسائل ثم عادت لمكالمتها مكالمة صوتيه .. خفق قلبها للحظة وهي تتمنى أن يكون الاتصال منه .. فوجدتها “هيام” التي ردت عليها بلهفة :
-هيام أخيراً رديتي ؟؟!
-حقك علي يا ليلة …بس
قاطعتها :
-أنتو كلكم كويسين .. في حاجة حصلت .. أنا همـ.ـو.ت من القلق عليكم ..
تنهدت هيام بحـ.ـز.ن :
-أقول لك أيه بس يا ليله .. البيت حاله ميسرش واصل ..مش فاهمة أيه حاصل؟
جلى حلقها بقلق :
-طمنيني بس .. هارون بخير .. هو فين بكلمه مش بيرد !!
-ولا هيرد عليكِ ولا على حد .. قاعد مع غيم تحت ..
-الله !! ليه طيب في حاجة زعلته !!احكي لي يا هيام !!
ترددت هيام قبل أن تبلغها الخبر ، ثم قالت :
-مش عارفة أقول لك أيه ولا فاهمة ، بس أبوي جيه وقال جواز هارون وزينة أخر الأسبوع ومحدش يعارضه ومن ساعتها البيت والع .. وهارون مش عارفه ماله !!
حلت النازلة على قلبها لتدرك ما قالته هيام بنيران تأكل بروحها :
-أيه !! يعني أيه هارون يتجوز زينة يا هيام !!أكيد في حاجة غلط مش كده !
•••••
عنـ.ـد.ما سألوا قيس عن ليلتـه :
‏- هَل مـ.ـا.تتْ لَيلى ؟
” لَيلى لاتمُوت، لَيلى فِي قلبِي، أَنَا لَيلى “
هذا هو الحُب أن مـ.ـا.ت كل شيء لا يمـ.ـو.ت حبيبك بقلبك سيظل حيًا مهمـا توهمت النجاة منه فهو حي ، يتنفس معك ، يعيش معك الحلم والحب وأي شعور جميل يسكنك ..
هذا هو تعريفي للحُب … لا ينتهي حتى وأن انتهينا نحنُ فهو حي يرزق في دفاتر الحُب المُخلدة …
#نهال_مصطفى ..
عنوان الفصـل :
” من يعيـد لي قلبي ..
من يعيد لي ليلـي…. “🌼
•••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
” يعزّ علي قلب المُحب إغلاق الباب الذي تمنى أن يظل مفتوحًا لآخر عُمره ”
إن حَناني الذي ذقتَهُ على يدي ، كان كل ما أعتصرَه قلبي لأجلك ، كان كل ما لديّ . . لِمَ مشيت !! ألــم أغريك بالبقاء أم أغراك غيري بالذهاب !!
مرت أسوأ _ليلة وضُحاها_ على قلب ” ليلة ” التي اعتزلت الحياة والعالم كله هاربة تحت لحافها الذي يحميها من ظُلم العالم ، لا يوجد شيء أقسى من أن يخذلك من ظننت أنه نجاتك بهذه الحيـاة .. لتتأكد مقولة أبيها ذات مرة “فِي زمننا هذا، إياكِ أن تشعري أحد باحتياجك لهُ”
مرت الساعات على قلبها ببطء شـ.ـديد ، اختفى صوت هارون تمامًا خاصة بعد ما سمع رسائلها فضـ.ـر.ب عرض الحائط بهاتفه ، وسيلة الاتصال الوحيدة بينهم تحطمت على الأرض .. كما تحطم كل شيء بينهم .. كمحاولة لنسيانها ، محاولة لقطع السُبـل .. ولكن الحقيقة هي لا شيء يُرسخ الأشياء في القلب ، كالرغبة في نسيانها …
جاء اليوم الجديد الذي حسمت فيه ليـلة قرارها بذهابها للـ” عزايزة ” استعانت بمصاحبة ” عم حسن” سائق أبيها والشخص الذي كان ونيس رحلة عمرها .. تجاهلت أوامر أمها ، توسلات أصدقائها ومحاولة إقناعها بـالبث الهوائي الذي سيعرض بعد يومين ، ولابد أن تتحرك نحو القاهرة وليست قنـا !! ولكن كيف يمكن إقناع بُوصلة قلب حسم نقطة جهته ووجهته ومقصده وقِبلتـه ..
وقبل فجر هذا اليوم الجديد انطلقت ليـلة بدون علم أمها للعزايزة .. سكة سفر طويلة كانت برفقة ذكرياتهم معًا و بصوت منيـر .. مرت الساعات الطويلـة حتى وصلت لمقصدها مع غروب الشمس نفس اليوم .. فتح لها الحارس البوابة بترحاب ، فدلفت من السيارة طالبة من السائق أن ينتظرها متحررة من حقيبتها وقالت :
-هارون بيه فين يا عم جابر !!
-لساته داخل من دچايچ يا ستِ ليلة .. اتفضلي اتفضلي !!
لم يكد يمضي القليل من الوقت لانفراد أحلام بقلب ابنها البكري ، فزفت له فردوس خبـر لم يتوقع حدوثه قط ، خاصة بعلمه الحتمي بأنها من المفترض أن تكون بالقاهـرة !! نزع عباءته الصعيدية بقلب يزُف فرحًا لرؤيتها .. ووثب ملهوفًا :
-عن اذنك يا أحلام ..هي كيف چات هِنه!!
صاحت أحلام متأملة في تجمع الأحبة :
-أبقى هاتها يا هارون وتعالى .. مستنياكم ياولادي ..
حملقت عيني صفية برؤيتها وخاصة بعد ما انكشف سر هارون برغبته فيها أمام العالم ، تراقصت شفتيها المذمومة :
-ودي عاوزة أيه ما تسيب الواد في حاله .. حيـة وبچحة عاوزة أيه من واحد فرحه بعد يومين ….
ثم صرخت :
-شهلي يا فردوس ، العفش الچديد بتاع العرسان قـرب يوصل …
‏لا يمكن للإنسان أن ينسَى ما حّلَّ على قلبه بصُحبته.. رأته من بعيد فاندفعت نحوه بلهفة الشوق التي تغمرها وعينيها المتورمة وهي تلومه محاولة إخفاء الشوق الساطع بقلبها عنه :
-هونت عليك يا هارون متكلمنيش كُل ده .. شوفت أنا أجدع منك أزاي يا عُمدة .. أنت فين كُل ده ؟!
رغم شوقه لها الذي يفتت قلبه ، ارتدى قناع الجدية :
-چيتي ليه يا ليلة !!!
تلقت سؤاله بصدmة :
-يعني أيه جيتي ليه !! مسافة فوق الألف كيلو وبتسألني جيتي ليه !! هي دي حمدلله بسلامتك يا عمدة !! آكيد جاية عشانك !!
“كنَّا حَبِيبَيْنِ والأيّامُ مُؤْنِسَةٌ ‏صرْنَا نتفارقُ والأيّامُ وقلبي تَرْتَعِدُ”
أشاح بنظره لبعيد كي لا يضعف أمامها فقالت :
-هارون ، ممكن تبص فـ عينـي وتكلمني !! أنت بتبص بعيد كده ليـه !! وأيه الأسلوب ده !!
اقتربت منه متشبثة بكف يده المسنود على السيارة والدmـ.ـو.ع تنهمر من بحيرتي عينيها وأكملت بنبرة هستيرية :
-أنا غـ.ـصـ.ـب عني لقيت قلبـي بيتعلق بك .. بقيت حابـة وجـودك حابة اكلمك كل شوية .. بقيت كُل حاجة بالنسبـة لي .. وأكبر دافع خرجني من اللي كُنت فيـه .. عارفة أن الكلام مش وقته وأنت خلاص هتتجوز بس .. بس لأزم أقوله قُدام عيونك ..
تمزق قلـبه أربابًا .. فأردف بجفاء بريء منه :
-روحي يا ليلة ، أنتِ أيه اللي جابك ؟! روحي أرچعي بلدكم .. الحديت ممنوش فايدة دِلوق .. وبعدين هنتكلموا .
ردت باندفاع تحت سُحب عينيها المنخرطة بالدmع :
-قلبي .. قلبي اللي جابني من اسكندرية لحد عندك .. وبردو هو نفسه قلبـي اللي واقف قُدامك وهيبص في عينيك ..
ثم ارتعشت نبرة صوتها بماس الاعتراف بـ دينامو الحُب الملتهب بصدرها :
-هيبص في عينيـك ويقول لك أنه صدق ما لقاك . رغم المستحيل اللي ما بينا حبك ، واتمنى قُربك ، أنا أول مرة قلبي دق فيها كانت ليـك أنتَ وبس .. ومعرفش ده حصل ازاي وامتى ولا أيه نهايته متسألنيش ، بس أنا مش قادرة اخبي مشاعري أكتر من كده !! مشاعر جوه بتحرق قلبي يا هارون .. عايزاك تبقى لآخر العمر عايش معايا ..
ثم تمسكت بيديه راجيـة وتتوسل إليه :
-طمنـي وقول لي أن جوازك من زينة كذبة ، طمنـي وقول لي الحُب ده هيستمر وإنك هتعمل المستحيل عشانه ، الحُب ده مصيره أنا وأنت نكون مع بعض ومحدش يقدر يفرقنـا .. طيب بُص في عيني وقول إنك بتحبني زي ما بحبك .. أنا قلبي حاسسها وعايشها والله من غير ما تقولها .. بس نفسي أسمعها منك .. قولها وهستناك بعدها سنين والله.
أحس بذعر واتفاضة جسدها أمامه وهي تُكمل باكية :
-طمني بس وحياتي عندك ، وأنا والله مستعدة استناك عمري كله ، بس المهم أنك تيجي بس أوعدني تحاول عشاني أنت بقيت كُل حاجة بالنسبة لي .. هارون ..
ثم جلى حلقها تحت ضباب السماء الملبدة بالغيوم كمصير قلوبهما :
-هارون أنا حبيتك غـ.ـصـ.ـب عني ..
متو.جـ.ـعش قلبـي أنتَ كمان ..
كل ما آلفه ، يُغرّبني ويغرقني بضبابـه ، لِمَ ها هو حال قلوبنا أن أحبت !! لِمَ خُلق الفراق التؤام الملاصق للحُب !! لِمَ الهزيمة أمامها وأنا واقف مُكبل مغلول الأيدي والدmع !! يستعصى على قلبي المغرم أن يرى دmـ.ـو.عك ويعجز أن يكفكفها بحـ.ـضـ.ـنه !! تنهد بآهات ملتاعة :
-ليلة مچيتك أهنه مش صح ، أنتِ مت عـ.ـر.فيش حاجة روحيِ روحي وبعدين هفهمك….
-يعني أيه أروح !!! أنا لو مشيت من هنا مش هتشوف وشي تاني يا هارون .. هو ده اللي أنتَ عايزه !! حتى مش هتحاول عشاني!! أنا مستهلش طيب!!
بتر قلبه من مكانه وقال منفذًا لوعده مع أبيه وهو يعصر جفونه المتحجرة من كثرة الدmع :
-يعني روحي يا ليلة دِلوق مش عاوز حد يوعاكي .. خلاص .
-طيب وقلبـي !! هارون أنت كنت بتكذب عليا !قول لا عشان خاطري متسبنيش كده!
-أنا موعدتكيش بحاچة ومنفذتهاش كل اللي وعدت بيه نفذته .. و
جاء هاشم خلفه بعد طلب أحلام أن يبلغه رسالتها ، فلاحظ حِدة الحديث بينهما “وليلة” تخرج عن صمتها وحبها وتصرخ بوجهه :
-تصـدق أنا غلطانة أني جيت لك وغلطانة أني حبيتك ووثقت فيك !! غلطانة لما فكرت أنك مختلف عن كل اللي قابلتهم .. أنت طلعت ولا حاجة ولا حاجة يا هارون .. يا خسارة نزلت أوي من نظري..واعتبر دي آخر مرة هتشوفني فيها !! كان لازم من الأول أعرف أنه لا ومستحيل وو
ثم أشارت نحو هاشم الوقف خلفه و بصرخة متقنة الإخفاء في مكان خالٍ :
-هيبة وصيت وجـ.ـسم رياضي يصارع الأسد ، بس للاسف فاضي من جوه يا عمدة .. طلعت جبان ، جبان زي أخوك بالظبط …..
كان يود ولو يقطع حَديثها واتهامها القاسي له بِـ : “قُبلـــــــــــــة !”
قُبلة طويلة في الخلاء تمحـو كل ما قالته تنزع شوك روحه المتوقة إليها ، قبلة يفضي بها نيران شوقه ، قبلة أن طالها سيحترقا معًا بها ولا يهتم لوجود أحد ..
قيـل: ((لاَ البَوحُ يَطفِأُ مَا في القَلبِ مِنْ
‏وَجعٍ ولا الدُّموعُ تُسَلِينِي فَتنهَمِرُ
و‏عَلِقتُ مَا بينَ كِتمانٍ يُؤرِّقُنِي
‏وبينَ قلبٍ مِنَ الخذلانِ يَنصَهِرُ .))
رمت قذيفـة اتهامها وركضت نحو سيارتها حاملة هموم بثقل جبال ودmـ.ـو.ع بقدر بحـر .. رمقتها بأسهم الخسة وهي تستقل سيارتها وتودع حلمها وقلبها الذي نبت بهذا المكان .. تودع الحُلم الذي خُلق معـه وهو يودع معها الحياة التي أراد أن يُكملها بحـ.ـضـ.ـنها ويستقبل حياة الجحيم التي فُرضت عليه ، لقد. أسرف بالكتمانِ حتى تآكلت روحه فلم يبقى منه شيء ، اطمئن قلبه على وجود السائق معها ثابتًا راسخًا عن مبدئه الذي دعس به قلبه وما يحويه بقسوة … حك هاشم أنفه بـ.ـارتباك متمتمًا بشكٍ حول اتهامها :
-أحم وهاشم ماله بس !! هو في أيه يا هارون تقصد أيه بكلامها !!
هتف باختناق لرغبته في سماع صوتها :
-هاشم اديني محمولك !!
-ليه يا هارون!! أنت لسه مصلحتش محمولك لدِلوق ولا چبت واحد !!
زفر بضيق وهو يلوح بيده :
-خلاص مش عاوز منك حاچة ولا عاوز محاميل من أصلو !!
••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••••
طمرت القـلوب في أكفان أقدارهـا ومصائرها .. عادت ليلة لاسكندرية ترتمي في حـ.ـضـ.ـن الأفعى ، حـ.ـضـ.ـن أمها التي لم تكُف عن تقديم الاعتذار لهـا ، وتترجاها أن تُسامحها أن تغفر لها ذنب تكذيبها ، ألقت ليلـة نفسها في جوف النيران التي قُدmت لها الفُرصة على طبق من ذهب ، تخلصت “نادية” من كل أدويتها الطبية وجاءت بأدوية أخرى تنفيذًا لمخططها ولكن هذه المرة كان صوت الذنب يصدح بقلبها ، دورها كأم منحتها الأيام هدية مثلها اشتعل بقلبها صوت الضمير والنـ.ـد.م ..ولكن ودومًا ما جاءت تهديدات رشـ.ـدي لتحرق كل أحاسيسها هذه وبخ سُمه بمسامعها … بدأت نادية في رحلتها بقــ,تــل ليلة بجُرعات مكثفـة حتى تصل لمرحلة معينـة تتولى فيها السيطرة عليها وعلى كل ما تملك بالإضافة لإقناعها المستمر بالعودة لـشريف …
لا يوجد ألــم أكثر فظاعة من الألــم الذي يحمله الإنسان في روحه.. كان سيجن جنونه حول فكرة الوصول إليها ، حول الاطمئنان عليها ، حول كيف سينفذ أبيه وعده الذي يقضي على روحه قبل أن يناله ، كانت ثقته في أبيه عمياء حد الاستسلام لأوامره بشرط أن لم يمر الشهر ولم تُكتب على ذمته سيترك العزايزة ويذهب لعندها حتى ولو كان الثمن حياته ، هو ليس جبان ولم يوهمها الحب ، ولم يعش شعورًا زائفًا معها ، كله كان حقيقيًا للغاية وأكثر توهجًا مما تظن ولكن المسألة باتت مسألة وقت لا أكثر .. الفاصل أيام وتعود له حبيبته الجميلة ، كيف ومتى وأين !! لا يعلم ولكن قلبه يؤمن برب ضارة نافعة !!
ربما لو أستطـــعـــنا الطيران لأزدحمت السماء بالهاربين .. مثلما قررت رغد التي علمت بحقيـقة زواج هاشم من ابنة خاله في هذه الليلة التي تضُب فيها حقائب سفرها وتلحق بأمها بسبب تأخر بعض أوراقها .. كان الأبم أشبه بخناجـر تطـــعـــن بروحها، أن تجرد روحك من جسدك وتغادر ، تغادر صوب المجهول .. لم تخلٌ حقيبتها من ملابس هاشم التي لم يهن عليها أن تتركها بمفردها فريسـة للغبـ.ـار .. رغم أنها هانت عليه وتركها فريسة للغياب !! الغياب مصيرها النهائي !!!
“لَو أَني أعرِفُ خاتمتي ما كُنتُ بدأت ”
~ العزايــــــزة ..
لقد حل اليوم الموعود على العزايزة والمشئوم على قلب هارون وهاشم ..الجميع يركضون على قدm وساق لإعداد الحفل في ساحة قصر العزايزة الواسعة ..
الوجوه محقونة بالغـــضــــب لكل منها علتهـا .. تجلس أحلام على المقعد المُطل على الحديقة تلف أحجار سبحتها السوداء بسواد ليلتها التي ترى فيها تدهور حالة أولادها وكـ.ـسرة قلوبهم أمام عينها ظلت تستغفر ربها كثيراً حتى لمحت مرور هاشم الصامت عكس عادته فنادت عليه بصرامة :
-هاشم !!!
زفر بضيق وهو يرمى هاتفه بجوارها ويجثو على ركبتيه أمامها :
-خير يا أحلام ! أنا فيّ اللي مكفيني مش ناقص والله .
-خير أنت يا ولد يدي !! كلمت مرتك وصلت لها ؟!
أحمر وجهه بجمر الغـــضــــب والعجز :
-مالهاش أثر يا أحلام لا بترد ولا عارف لها طريق .. ومش عارف اللي أنا بعمله ديه صح ولا غلط رأسي هتشت .. شايفها في كل حتة حوليّ .. ملازماني زي ضلي .
-اللي بيعفر عفار يا ولدي بيجي على رأسه؟
كظمت غـــضــــبها بالاستعانة بذكر الله والاستغفار :
-وحكيت لنغم الحقيقة ..؟
رد بكلل :
-محكتش يا أحلام .. وعاوز أسيب البلد كلها وأهج .. نغم متعلقة فيَ كأني طوق النجاة ليها من العزايزة .. وأنا حاسس إني اتورطت ومش عارف أعمل أيه .. قلبي عند رغد وعقلي هنه وسط أهلي وناسي !! وحـ.ـشـ.ـتني يا أحلام مش عارف أنا عملت فيها إكده كيف !
فركت أحلام كفوفها بعجز وقلة حيلة :
-وناوي تقول لنغم مـ.ـيـ.ـتي !! هتكدب عليها هي كمان !! هاشم أنت لو مصارحتش البت أنا اللي هقولها ..
ثم زفرت بضيق :
-دانتو كتب كتابكم بعد ساعة !! غلط يا هاشم .. غلط يا ولدي ظلم الولاية ..
تنهد تنيين الهم من داخله :
-طيب يا أحلام هقولها ..بس أنا كيف يدي هتقدر تلمس واحدة بعد رغد !! عقلي مش مستوعب يا أحلام .
عاتبته بوشوشة :
-وأيه اللي رماك على المر غير العصبية والتهور اللي أنت فيهم !! بدل ما تهدى وتحل المشكلة مع مرتك وتعرف راسك من رجليك معاها .. رايح تتجوز واحدة غيرها !! وتدخلها بينكم .. تمن اللي أنت عملته يا هاشم هيدفع واعر قوي ..أنا حزينة حـ.ـز.ن سنين عليك وعمالة أقول ربنا يسترها عليك !!
رد بأسفٍ :
-ممسوك من قلبي المرة دي يا أحلام.. قلبي مش عاوز يخـ.ـو.ن رغد بس عقلي عاوز ينساها بواحدة تانية ، كنت فاكر الجواز هو الحل بس طلع نار فوق النار .. ومش عاوز أطلع عيل قصاد أبوي وناس نغم بعد ما اتفقنا ؟
مسحت على رأسه بحنية أم انفطر قلبها و.جـ.ـعا على ابنها :
-يبقى تسمع كلامي .. تعرف نغم الحقيقة وتتقي ربنا فيها يا ولدي .. وتسافر لمرتك تحكي لها كل حاجة طالما قلبك رايدها.. وعرفها هي قابلة جوازكم يبقى على السنة العمر كله !! هل قابلة متـ.ـخـ.ـلفش منك !! هل قابلة واحدة تانية بقت مرتك قصاد الخلق ؟!
ثم تنهدت بحرقة وهي تقاوم دmـ.ـو.ع عينيها :
-ديه الحل الوحيد لو عاوز تاخد كل حاجة لروحك .. حل أناني وظالم قوي يا هاشم ميرضيش ربنا وربنا يسامحني عليه .. بس مش هاين على يا ولدي أشوف قلبك محروق بنار قلة الحيلة والحب ..
ثم ربتت على كتفه وأتبعت :
-قوم عدي ليلتك وبعدين يحلها ربك من عنده ..
~بغُرفة هاجر ..
كانت تستعد لحفل زفاف أخوتها وهي ترتدي الملابس الأنيقة و الجلباب الصعيدي المتميز الذي يضيف على جمالها جمالاً .. كانت تتغنج وتتمايل أمام المراة فتذكرت حـ.ـضـ.ـن أخيها هلال وهو يستقبل زوجته أمام المحطة غير مكترثاً بالمارة حولهما .. فضحكت متوعدة وهي تثني حجابها :
-طب يا هلال والله ما مفوتاهالك !! دانا كنت أحـ.ـضـ.ـنك قصاد مخلوق يركبك مية عفريت !! الحب يعمل المستحيلات يا ولاد !!
جربت لون الوشاح على وجهها لترى مدى تناسبه مع العباءة .. فتراجعت وهي تهذي مع نفسها ساخرة على أخيها وهي تُقلد نبرة صوته :
-شُرب المية فتنة !! ديه فتح لنا مائدة رحمن في العربية !! أه ياناري منك يا هلال يا ولد صفية والله ما حد هيخلص حقي منك غير أبو الهياثم ..
ثم أخذت تدندن مع نفسها ببعض الكلمـ.ـا.ت “الحلوة الحلوة الحلوة .. برموشها السودة الحلوة شغلتني نادتني خدتني ”
ثم تنهدت مغرمة بصوتها :
-والله صوتك طرب يا بت يا هاجر .. ادينا ورثنا حاجة من مولانا !!
ما كادت أن تضع دبوس حجابها فتراجعت أثر رنين هاتفها .. شبح ابتسامة خفيفة بدّ على ملامحها عند رؤيتها لرقم المتصل .. فردت بعفوية :
-وبعدهالك عاد !! دي مكنتش حركة جدعنه عملتها معاي هتتصل كل هبابة !!
مدد شريف على فرشته مبتسما مواصلا سير خطته بعد ما اقتحم حياتها بمخطط دنيء مثله :
-أيه الوش ده كمان .. ما كنا حلوين !!
-أحنا مش اتفقنا متكلمنيش واصل طول منا في العزايزة ..وأنت وافقت وقولت أمين !!رچعت في اتفاقك ليه !!!
-مكنتش عامل حساب للشوق يا بـ.ـنتي .. ورجعت في كلامي عادي!!
-الصعايدة ماعيرجعوش في كلامهم واصل!
-بس عندنا في اسكندرية الحب له استثناءات عادي .. خليكي معايا تكسبي.
لمعت بوجهها كلمـ.ـا.ت الحب التي تحتاجها كل فتاة بيومها فقالت مترنحة :
-وبعدهالك !! أحنا صحاب وبس .. هغير رأيي ومش هتعرفلي طريق !!
-لا أنا عارف كل طرقك !! طريق بيتكم .. طريق جامعتك .. طريق سكنك .. والأهم طريق قلبك !!
تحررت من حجابها وهي تعبث بشعرها بشرود :
-لا والله !! وايه هو طريق قلبي يا شريف بيه ..عشان شكلك سبت الداخلية واشتغلت بوسطجي …
انفجر شريف ضاحكاً وهو ينسج سحره كأنثي العنكبوت حولها وقال :
-معنديش مانع اشتغل بوسطجي طول ما أنا هبقى مرسال في بحر هواكِ..
أحمر وجهها خجلاً :
-هقفل على فكرة ..
-خلاص خلاص وعلى أيه الطيب أحسن .. فرح أخوتك الليلة ؟..
-أيوة عقبال فرحك !!
-اسمها عقبال فرحنا عشان أنا خلاص نويت ..
ردت ساخرة :
-نويت في أحلامك السعيدة .. أنا عزايزية يا بني .. فوق وأعرف أنتَ عتكلم مين .
-مش مهم هخـ.ـطـ.ـفك ومحدش يعرفلنا طريق ..بس مش هسيبك .
خفق قلبها بحماس لسماع المزيد منه ولكن عقلها حضر وهي تقول :
-يا وقعة سودة.. أقفل أقفل .. أمي عاوزاني تحت !!
أنتهت المكالمة بوجهه وغاصت في الضحك الغير مبرر وغاص هو في بحر أوهامه ومخططاته الخبيثة متوعدا :
-مبقاش شريف أبر العلا يا عزايزة لو ما خليتكـم تحفوا ورايا .
ثم قطع تفكيره اتصال أبيه الذي يخبره :
-أنت فين يا شريف … ما بتردش ليه ؟
كذب قائلا :
-كنت نايم يا بابا خير ؟!
فتح رشـ.ـدي زر قميصه وهو يجلس على مقعد مكتبه :
-مبروك يا سيدي نادية لسه قافلة معايا وقالت لي ليلة موافقة تكتبوا الكتاب مع أول أجازة ليك ..مبروك يا عريس البت جات تحت أيدك وسلمت ..فوق بقا للعب التقيل.
تأفف بضيق لسماعه الخبر ولكن لا صوت يعلو على صوت المصلحة فقال :
-وادي ورطة كمان ..أوامرك يا رشـ.ـدي بيه ..وأدي ضـ.ـر.بة جديدة لهارون العزايزي .. ابن حلال ويستاهل .. يلا بالشفـا .
•••••••••••
~بغرفــة هلال ..
-“كلهم يطيروا العقل يا شيخ هلال .. تسلم مجايبك والله .. بس تعبت روحك”
كانت رقية واقفة أمام المرآة تستعد لحضور حفل زواج كل من هاشم وهارون وهي تقيس الملابس الجديدة التي أحضرها هلال طوال فترة غيابها بأسيوط .. تغنجت أمام المرأة بفستانها الأسود من الخامة القطيفة و أكمام فضفاضة ويغطي كعب قدmها من الوراء بحزام خصر يفصل بين مواطن جمالها الأنثوي التي أغرقت رجل دين يود أن يُقيم بمخيمها كافة حدود الله ، رجل هادئ تقي تاه وضل على شط هواه المحُلل ..
حك ذقنه وهو يراقبها بعيونه المائلة التي تتفحصها بحرية من رأسها للكاحل .. كل شيء متناسق كما قال الكتاب إلا شيء واحد فقط ، ألا وهو رباط رأسها الذي لم تتخلى عنه في حضرته أبداً ..
اقترب منها ليفصل بينها وبين صورتها المنعكسة بالمرآة كأنه أراد أن ينفرد بجماله لوحده لا يريد أن تشاركه فيه حتى المرآة .. وقف أمامها صامتاً ذائباً في حرم حسنها .. ورغم وزنها المفقود كثير إلا أن كل هذا لم يؤثر قط على سحر جمالها الغالب .. ويقول متغزلًا :
-“يكادُ حُسنكِ أن يُغوي ملائكةً،
فما تظُنين بابنِ الطينِ والماء !؟”
تأرجحت عينيها بخجل من جراءة نظراته وهي تسأله بخدود متوردة :
-شيخ هلال .. هو فيه أيه ..بتبصلي كِده ليـه !! أنا فيّ حاچة !! وأيه الكلام الكبير ديه !!
ارتسمت معالم الجدية على وجهه :
-هناك أمران لا ثالث لهما ..
ثم حملق بوجهها الأبيض :
-تحلو اسامي الأحبة أن سبقها ياء الملكية أو ثمة غزل يوحي بذلك .. فالألقاب ما هي إلا مسافات تبعدنا وتُشتتنا .
تراقصت جفونها بتوجس :
-يعني أيه .. قصدي يعني أيه يا شيخ هلال ..؟!
-يعني بدون شيخ يا رقية .. أي شيخ هذا الذي تذكرونه في غُرفتنا !!غُرفة نومنا .. فـ مثلمـا نتجرد من كُل شيء بيننا ، فما الحاجة بوجود ألقاب خانقة !!
تفرغ فاهها بصدmة :
-يعني أيه بردك .. هو أنت مش شيخ ! ولا أنا قولت حاجة غلط ؟ طب أقول لك أيه !
فرك حاجبيه بتحير في أمرها :
-كلا .. شيخ ولكن خارج هذه الغرفة .. أما بيني وبينك فأنا هلال أو على الأحرى زوجك .. وعلى الأحب رفيق روحك .. وعلى التودد فأنا حبيب عمرك وشريك أنفاسك هذه .. كلها ملكي .
غار الورد منها ففجر حمرته بوجهها الخجول من شـ.ـدة غزله فتراجعت خطوة للوراء وهي تتحاشى عينيه المركبتين :
-أومال أقول أيه ؟؟ قصدي مش هعرف أقول غيرها .. لا لا أنت شيخ هلال وبس ..
استغفر ربه سراً :
-لا .. هلال وبس إلي أن يحن هذا اللسان بألقاب أخرى .. بدون شيخ ..
ثم اقترب منها الخطوة الفاصلة بينهما وقال معترضاً على حجابها :
-ألا تسمعين بقول أمنا عائشة رضي الله عنها “سبحان من زين الرجـ.ـال باللحى والنساء بالذوائب ”
ردت بتـ.ـو.تر سيطر على عقلها اليقظ دوما :
-يعني ايه !!
تسللت أنامله تحت حجابها الأسود المربوط للوراء لينزعه عن رأسها بجرأة غير معهودة وهو يقول :
-ألا تدرسين عن أهمية الهواء للشعر و للقلب تحديدًا لقلبي !! .. لِمَ تكفني هذه النعمة في قطعة قماش بالية..
لم يتوقف عند حد نزع حجابها فقط بل امتد كفه ليحرر شعرها الأسود الطويل المرسل خلف ظهرها .. لقد كان بلمعة و نعومة ثوب أسود من الحرير ليتأوهه أمام حسنها معبرا :
-اوووه الله أكبر .. سبحان الخالق فيما أبدع وصور.
ثم أشاد بحسنها مُستعينًا بأحد الأبيات الشعرية :
-هل يا ترى من بعدِ شَعْركِ سوف ترتفعُ السّنابل؟
لم تشعر بنفسها إلا وهي تغطي شعرها بكفوف يدها كمحاولة لإخفاء خجلها منه .. أحس باضطرابها وتعريها أمامه وأمام عينيه التي لم ترحمها لم تتنازل عن إفشاء رغبته فيها كلياً بجراءة .. أمسك بكفوفها وبنظرة تحذيرية :
-رقية انتهى الأمر وهذا أمر مني .. لا تخفي عني ليلك مثلما لم تخفيه السماء عنا .
أودت الهرب منه وغيرت مجرى الحديث :
-طب أنا عاوزه أكمل لبسي .. الناس هتيجي وأنا متأخرة !!
دارت نصف دورة حول نفسها مزهرة عباد الشمس ثم عادت إليه لتسأله :
-أنت ليه مش هتكتب كتاب أخواتك ..أنت بردك مش مأذون ؟!
تبسم بهدوء :
-أنا لا أكتب عقدا إلا على قلوب الأحبة .. أما ما يفعلونه بالأسفل أنا بريئ منه ليوم الدين ..
-يعني ايه مفهمتش ؟!
لجأ للهجته الصعيدية :
-يعني هارون واضح أن زينة مش اختياره .. والرضا مش موجود بيناتهم ..
وهاشم مش فرحان ومش عارف أوصل للي في راسه حاسه تايه وفي حاجة مش مريحة قلبي وعقلي ..
أومأت متفهمة وهي تستأذنه بعيونها بحياء :
-طب عاوزة أكمل لبس ممكن توعى من قِدامي ؟!
ثم أعقبت :
-كل الحاجات اللي جبتها حلوة قوي قوي تسلم يدك ..
رفع حاجبه متعزلا :
-هتحلى بيكي .. انتظري ….
ثم تحرك نحو ضلفة دولابه وأخرج منها علبة قطيفة ثم عاد وفتحها أمامها :
-شبكتك يا رقية .. اعذرني جبتها على ذوقي ويارب تعجبك بس اللي مش عاجبك نغيروه عادي ..
شهقت بفرحة وهي تتطلع بكفوف يدها الخالية من محبس زواجها .. كأي عروس ترى شبكتها تبرق أمام عينيها ..فتحت العلبة أمامها لتجد به سلسال كالشمس يشبهها كثيراً .. وثلاثة غوايش وحلق ومحبس زواجهما واساورة بخاتم أنيقة .. وخاتم آخر بطول أصبعها .. انبهرت بجمال اختياراته فارحة :
-دي حلوة قوي .. الله كل ديه ليّ !!
-الدنيا كلها تحت رجليكي يا رقية ..
ثم غمز بطرف عينيه :
-ماينفعش مراة هلال العزايزي تنزل على الناس ويدها فاضية !! أنت عاوزاهم يأكلو وشي ويقولوا متچوزك بلوشي !
تأمل ابتسامتها الخفيفة التي فتحت طاقة من النور بقلبه .. دار ووضع العلبة على التسريحة ثم أمسك بخاتم زواجهم وطلب يدها :
-يدك عاد عشان ألبسهالك !!
مدت كفها المهزوز لراحة كفه التي تستقلبها بكل حب .. وضع ختم ملكيته بأصبعها ثم رفع كفها لمستوى ثغرها يلغفه بقُبلة أحدثت زلزالا بقلب المسكينة ..
كانت قبلة بمذاق الشوق والشوك .. رغم حنانها إلا أن ملمس لحيته أثار قشعريرة غريبة بجسدها ثم أرسل لها غمزة وهو يراقب تغير ملامحها التي يخترقها شيئا فشيئا .. ثم عاد ليلبسها باقية حٌلي يدها متعمدا لمسها بكافة الطرق التي تسرب حبه لقلبها المتجمد .. أن يصهر بلمساته قلبها الجليدي!
ما فرغ من يدها انتقل لجدار عنقها ليزينه بحبه .. لمس شعرها بحرية ولملمه كله أقصى اليمين فازداد الحلى والحٌلي بعينيه وهو يتنهد بشوق لاذع :
-يالله !!!!هذا الجمال كثيراً عليّ ..برب محمد قلبي أضعف من أن يتحمله !!
وقف أمامها مخترقاً قوانين المسافات بدون أدني شفقة على المسكينة التي تنهار خجلا بين يديه متعمدا قفل السلسال على رقبتها .. فدmدm بسُكره المُحلل مُنشـ.ـدًا :
-أُغالِبُ فيكَ الشَوقَ وَالشَوقُ أَغلَبُ وَأَعجَبُ مِن ذا الهَجرِ وَالوَصلُ أَعجَبُ
ذاب في قربها وذابت في عطره الذي جعلها تقفل جفونها ساكرة ثملة منها .. تاهت اعينه في خيوط الليل فأراد أن يستدل بخريطة عنقها الذي أغراه بنفسٍ ثم ملامسة لطيفة ثم قبلتين بمذاق الشوق والتردد والأذن ..
ابتعدت أنفاسه قليلاً وكأنه يمنحها فرصة للاعتراض كي لا يخترق حصونها عنوة .. فلم يجد أمامه إلا فراشة مضمومة جناحيها وهي تتنفس رحيق الزهرة وتنكمش بحـ.ـضـ.ـنه.. ابتدت قبلاته الخفيفة من تحت أذنها ليشبع كل إنشاً بها بماء حبه .. تجرأ في شوقه أكثر وهو يلف ذراعه حول خصرها ويقربها منه أكثر مكملا مهمته ويغرق في بحرها شيئا فشيئا وبين كُل قبلة والأخر يتنهد رحيق هواها …فيحرك ألف ساكن بكيانها النحيل !
كانت لمساته على قلبها كسقوط قطرات الغيث على أرض جافة أوشك أن تمـ.ـو.ت ثمارها ، بقبلته لذة غامضة .. كان شعور غريب لا تعرف معناه أ هل له صدي العجب أو النفور .. ولكنها كانت مستسلمة تريد المزيد من جملة المشاعر المبهمة التي احتلتها حتى تفهم معناها .. سرت الصدmـ.ـا.ت الكهربائية بجسدها الهزيل وهي تغرق في بحر حبه الهادئ المنهمر فوق قلبها .. وبين الموج الثائر الذي اخترق حصونها قهرا وظلما .. شتان الفارق بين هنا وهناك .. شتان الشعور بين كون قلبي بيد أمينة مثله وبين وضعه بين أنياب الذئب المكار !!
كان حبه المتدفق يزداد شيئا فشيئا مع كل قبلة تنهار قواها للدرجة التي لم تقاومه فيها بعد .. اختلطت لمساته الحرة والحنونة مع خربشات الذئب المتوحش للتذكر تفاصيل هذه الليلة المُرة التي عاشتها .. لتخمد كل مشاعر الانثى التي أحياها شوقه وتثور مشاعر النفور والرفض ..
وفي اللحظة التي ظن هلال أنه امتلكها حتى ولو سيفوته الفرح والزفاف والناس المهم يكـ.ـسر الحاجز بينهما مستعدا لخوض معركته الآدmية مع قلبها التي تنسيها كل مُر مر عليها .. باغتته بدفعة قوية وهي تعلن رفضها القاطع لقربه .. تعلن خــــوفها رغم انجذابها لقربه الساحر والمميز .. تعلن أنها لم تستطع التخلص من الماضي وأن هذه العلاقات السامية لا تليق بقلبها المخدوش والمُتهري .. تخشى أن تعيش نفس الألــم مرتين .. جملة من المشاعر منحتها القوة الكافية لتخلصها من أسره ليرتطم ظهره بالمرآة وهو يحاول استيعاب تصرفها الغامض لتقول ببكاء وهي تتأهب هاربة من سطو عتابه واعتذارها :
-أعذرني بس ماقادراش !!
••••••••
‏تتعدّد الآمال، وتمتد المخاوف و يهون السفر الطويل في مناكب الأيّام باليقين وحده، بالإيمان بأنّك في معيّة مدبّر الأمر كله
~بغُرفة هارون ….
• “العايز اهبل ، وانا مستغني عن الدنيا بحالها”
•”حب الحريم يذل ، وأنا ما عاش ولا كان الـ يذلني”
كان يذكر نفسه بوعوده التي كـ.ـسرتها و مبادئه ومعتقداته بالحيـاة وأدخلته في سـ.ـجـ.ـن حبها المستحيـل حتى وقف أمام صورته معترفًا :
-الصبي اللي بيرعى الغنم كُل صُبح ، حر اكتر مني .. ياريتني كنت بداله..
يقف أمام المرآة يستعد لاستكمال مسرحيـته مع أبيه التي عقـد على نفسه وعدًا بالوفاء !! ماذا لو كانت هي وحدها ليلتها ستُزف إليه هذه الليل !! ماذا لو كانت الليالي الخالية من صوتها تُكافئه الليلة وتأتي بها كلها بين ذراعيـه ؟! ماذا ولو تحول المستحيل لممكن !! والفراق لقُرب !! والغياب لعناق طويل تقرقع فيه عظامنا !! ماذا لو !!!!
~بمدينـة الانتاج الإعلامي ” القاهرة ”
كانت ” ليلة” جالسة أمام المرآة شاردة بعالم آخر ، الجميع يتهامس من ورائها يتراهنون على فشلها ، تقف الفتاة المختصة بالتجميل لوضع اللمسات الجمالية على ملامحـها الشاردة بعيدًا وبالأخص إلى ” العزايزة ” التي آسرت قلبهـا .. لا تسمع لأي صوت حولها إلا صوت قلبها الذي يصدح بصراخ الرفض والفراق والإعدام على جنين حُبها قبـل أن يولد ، لقد قُتلَ في زحمة الأعراف والقوانين وظلم البشر، وظلم شخصًا مزيفًا اتخذته حبيبـًا ..
أقبل أحد أشخاص الإعداد الذي يتهامس مع رفيقه بضيق والعين المرصودة من رشـ.ـدي:
-أنا مش عارف دي هيطلعوها هوا تفضحنا !!
فهمس له الآخر :
-وسايط يا عم ، أحنا مالنا !
-قصدك فضايح .. دا أحنا هنشوف العجب ..
ثم فتح غُرفة البروڤو وصاح:
-يلا يا أستاذة …
قفلت ” نادية ” هاتفها وتقدmت نحو ليلة التي حُشيت خلايا جسدها بالأدوية السامة ، ربتت على كتفهـا ممثلة دور الأم ببراعة :
-يلا يا ليلة ، بيستعجلوكي ..
فأتبعت جوري معترضة:
-طنت نادية !! ليلة هتطلع أزاي هوا بالشكل ده !! دي مش معانا أصلًا !!!
أبعدت الفتاة عنها بدون ما تفحص هيئتها ثم وثبت قائلة بهدوء ما يسبق العاصفة ، فلم تكترث أي أهمية لو.جـ.ـع رأسها مُقارنـةً بصراخ قلبها .
حتى لو اقتضى الأمر أن تخلع قلبك وتمضي من دونه، المهم أن لا تبقى مرهونا بالمشاعر التي تمرر لجوفك القلق والأذى وتبقيك راكدًا … وقالت:
-أنا جاهزة …..
ما كادت أن تخطو خطوة فأصيبت بالدوار فتلقتها أيدي صديقتها صارخة باسمها ثم أتبعت:
-طنت نادية دي تعبانة أوي ..
استجمعت نفسها مستندة على عكاز الو.جـ.ـع وقالت بمقاومة:
-أنا تمام .
ثم نظرت للمُعد الذي يُراهن علي فشلها :
-يلا …
~غُرفة هاشـم ….
وفي النهاية تمـ.ـو.ت الأشياء والشعور، وتبقى الذكريات مغبرة على رف النسيان، يصبح كل شيء بـ.ـاردًا وهادئًا، تكاد تكون كالجثة متبلد الأطراف والشعور وأنت مُشاهد فقط !!
فتح هاشم غرفته وخرج منها بخطوات عاصية غير راضية تمامًا على تصرفه الذي ورط نفسـه فيـه مع كل خطوة كان يسترجع خطوات يومه مع رغد وتفاصيلها ومشاعرها !! أين ذهبت جُملة هذه المشاعر خلفها!!
فرغن العرائس من ارتداء ملابس الزفاف بأحد غُرف البيت واحتشـ.ـد الجميع في انتظار العرسان ، شباب العزايـزي …
-“”شوفي ياخَيتي وكمان صيغها وجايبلها شيء وشويات””
-“”مرزقة بت صفاء من يومها “”
كانت رُقية تسير خائفة تتمسح بالجدران من هول النظرات الخبيثة عليها وهمسات النسوة التي تتجاهلها بصعوبة ، حتى داهمها فجأة وجود “هلال” الذي امتلك خصرها النحيل إثر سماعه لبعض الكلمـ.ـا.ت المزعجة وتعمد أن يقربها له أمام الجميع ويطبع -قبلة- إعلان ملكيته على رأسها وفخره بها رغم خلافهم ، رغم رفضها له وكـ.ـسر قلبه الذي تحمس لملكيتها دهرًا ، ولكن كل هذا لم يُقلل شعوره بدعمها ومساندتها .. نظرت له بامتنان ، فحذرها ناصحًا :
-أنتِ هِنه صاحبة البيت واللي مش عاجبه يمشي يا رقية .. أرفعي رأسك دي !! أنتِ مراة هلال العزايزي ..وأنا چارك لو عُوزتي حاچة .
-أهم حاجة يا عمتي قصقص ريش طيرك أحسن يلوف على غيرك !!
كانت السعادة تتقاذف بمعالم وجه زينة التي تتهامس مع عمتها وتجلس بجوار أبيها المُعارض للزواج ولكنه لم يعارض فرحة ابـ.ـنتـه .. لكزتها صفية بحرقة:
-جاكي قص لسانك يا فقرية ، بعد الشر على ولدي..
كانت أحلام سجينة غُرفتها ، فلم تطأ أقدامها أعتاب الحفل الذي يُخالف لرغبة القلوب وهي تدعي ربها جهرًا وعلانية أن يحل مأزق أولادها .. بالخارج هتف هيثم مُعلنًا بوصول المأذون …
تقدm هاشم مناديًا على نغم التي ترتدي فستان أبيض من الستان بسيط للغاية وقال بهدوء:
-نغم ؛تعالي عاوزك ….
•على الجهـة الآخرى من العزايزة ..
تسللت نجاة ليلًا مرتدية عباءتها السوداء برفقـة صغيرها وهي تختبئ تحت الجدران بعد ما هيأت لها أسماء الطريق ، لتستقل سيارة رؤوف الذي ينتظرها أمام الباب الخلفي ، صعدت هو وولدها بالكنبة الخليفة وانطلق رؤوف على الفور وهي تسأله:
-صح اللي عنعملوه ديه يا رؤوف !!
-صح وچيه متأخر كمان يا نچاة .. خلصت ..
~عودة للبث المباشر .
لحظات قليلة باقيـة على خروجها على الهواء مباشرة وعلى أكبر القنوات التلفزيونية التي دُفع لها بواسطة ” هاورن” كي تقبل برنامجـها .. كانت واقفة بكامل أناقتهـا وبيدها باقات عناوين الحلقـة ، بدأ العد التنازلي لفتح الكاميرات معلنًا استعدادها حتى هتف المخرج بكلمته الآخيرة صارخًا :
-يلا هووا …..
أخذت نفسًا عميقًا وهو تتطلع بالكاميـرا الموجهه إليهـا ومع ابتسامة مزيفة قالت :
-يا مساء الخـير على حضراتكم وعلى كُل اللي بيشوفني لأول مـرة ، أحب أعرفكم بنفسـي ، أنا الإعلاميـة ليـلة الجوهري .. وهكون معاكم في برنامج حكاوي الليلة مع ليـلة ..
أحدثت نفضـة مخفية بجسدها وهي تنظر للكاميرا الثانيـة وأتبعت :
-فكرة البرنامج قائمـة ما بين الحقيقة والخيـال .. هنتكلم كُل أسبوع عن مكان مميز في مصر وبالأخص عن خبايا وأسرار المصريين القُدmاء ، دايمًا مُؤمنة اللي ميعرفش الماضي مش هيعرف يعيش الحاضر ، هنعرف أيه قصتـه وأيه حكايتـه وأزاي أحنا نتعلم منـه .. هعرفكم من خلالـه عن أسطورة المكـان وأيه علاقتها المشهورة وازاي جـت وهل هي حقيقة أم كذبة !!
ثم أخذت نفسًا هادئًا وأتبعت :
-وده اللي هيأكدهولنا نُخبة مميزة من علمـاء ودكاترة الآثـار .. اللي هينورونا كُل حلقـة .. والنـهاردة وما بين الكـذب والحقيقـة ، الأسطورة والواقع ، القلب والعقـل .. ومن المفترض هتكون البدايـة من صعيد مصر ، وهي معابـد دندرة.. ااه أول مكان صورت فيه !
ثم ولت وجهها نحو كاميـر 3 مثل ما طلب منها المُخرج خلف نظرات السُخرية من أعين لصوص “رُشـ.ـدي” .. فاجأت ليلة الجميـع وبدون أي مقدmـ.ـا.ت قامت بتمزيـق الباقة الإعلامية بيدها ووقعت كُلها تحت قدmيها وتحت ذهول وأعين مندهشة من فعلها الجنوني والمهمـ.ـا.ت أتبعت بحرقة :
-بس مش صح ، البدايـة المفروض تكون من هنا ، من عند ليـلة سامح الجوهري .. مبدئيًا مش عايزة حد يقطع الإرسـال وبقدm كامل احترامي للدكتـور “___” مش هقدر استضيفه النهاردة ، عشان هيكون معانا ضيف تاني !!
ثار الجميع من خلف الكاميـرا كُل منهما يجع مقترحًا بوقف البث عنهـا ، ولكنها تجاهلت كل ذلك وأتبعت وهي تشيـر نحو قلبها :
-ضيف الحلقة دي هو قلبي .. وقلبك وقلب كُل بـ.ـنت وولد بيتابعونا دلـوقتي .. أنا عيشت عمري كُله نفسي شخص واحد بس يسمعني ويسمع صوت قلبي ..
لكن دلوقتي وأنا قُدامكم حابـة اتكلم والدنيا كُلها سمعاني …
الحكـاية ابتدت من عند بنـت عاشت واتربت في ظروف صعبـة رغم المستوى الأجتماعي المتميز اللي هي منـه ، بس هي مكنتش عايشـة .. كانت طول الوقت تايهـة بتدور على مكان تنام فيه وهي مطمنـة ..
البـ.ـنت دي اتربت بعيد عن أهلها ، ملهاش حد .. أهلها جابوها في الدُنيـا عشان تتعـ.ـذ.ب وبس .. من بعد جدها وباباها هي تاهت مكنتش لاقيـة أيد حنينة تطبطب عليها ..
ثم أغــــرورقت عينيها بالدmع وتقدmت خطوة للأمام :
-البـ.ـنت دي كان عندها حلـم ، نفسها تحققه ؛ ولأنها في الحياة لوحدها ملهاش سنـد وقعت كتير أوي ، بالمختصر اتفرمت في عجلة الحياة ، كُل ما تقدm في قناة تشغلها تترفض لسبب محدش يعرفه …
لحـد ما قررت أنها تاخد بنصيحة جدها وتكشف المجهول ، وتزور المكان اللي اتربت على حكاياته .. ” نجع العزايـزة ” .. الفضـول أخدها لاكتشاف العيلة دي ، والحكايات الكتيرة اللي جدها زرعها جوا طفلة متعرفش أي حاجة .. افتكرت أن هي دي نقطة البداية ..
قررت هتروح وتعرف العالم كله عن العيـلة دي .. من هما وأيه حكايتهم ؟! أعذروني مش هقدر اتكلم عنهم و أشهر بيهم .. أنا هتكلم عن المتاح وبس ..
تقدmت خطوتين بثقل جبل وهي تلتفت لكاميرا 2:
-القـدر عاندها تانـي ، ووقعها في حاجة عُمرها ما سعت ليها ، وقعت في الحُب ، حُب أكتر شخص ما ينفعش يكون نصيبها حتى في حِلم ..
صرخ واحد من أصحاب القناة الذي حركته نادية :
-أقفل البث !!!!
فأتاه الرجل الآخر المسئول عن ذلك بالرفض القاطع :
-فوزي بيه المشاهدات بتزيد بطريقة وهمية مش هقدر أوقف البث ..
صرخت نادية معارضة :
-يعني أيه مش هتوقفــه !! دي هتودينا في داهية ….بقول لك اقفل البث !
عودة لليلة التي سيطرت على الثلاثة كاميرات وبلمعت الحُب التي نافست الإضاءة فوقها :
-فجاة القدر رماها قُدام عينيه ، ساعدها كتير أوصل ، قدm لها الدعم المعنـوي اللي عاشت سنين عمرها تدور عليه .. ايده الوحيدة اللي اتمددت لها بعد ما كانت خلاص بتغرق بتستسلم ..
سالت دmـ.ـو.ع عينيهـا وأكملت :
-معاه حست بحُب أغاني شادية ، ودلع سعاد حسني .. ورقـة فاتن حمامة .. عيشها حلم جميـل اتمنت انه مينتهيش أبدًا .. عرفت يعني أيه حُب حقيقي على أيده ..
ثم خيم على ثغرها ضحكة الآسى :
-في مرة سألتـه تفتكر يوم هوصل لحلمي وأكون مبسوطة !! أكدلها وقال هتوصلي .. هي فعلاً وصلت ، بس وهي مش مبسوطة ولا عارفة تتبسط بأي حاجة عشان هو مش معاها ..
ظننتك لقلبي فجرًا ، لكنك غربت كما تغرب الشمسِ ، ثم جلى حلقها :
-الشخص ده وبعد التضحيات دى كلها باع بسهولة ، واستسلم لأعرافهـم الظالمة اللي بتحتم جواز الدm وغيرها من الظُلم ، والنهاردة كتب كتابه على بـ.ـنت مش …
قطعت الحديث عن زينة و بدأت حروفها من قلبها ترتعش وتذوب في قطرات الدmع:
-كلامي عنه بيخليني أشعر بالحياة ونبضها بقلبي .. جوه قلبي نار مفيش قوة في العالم ممكن تطفيها غير رجوعه ليـا وفي نفس الوقت قلبي زعلان منه أوي وعمره ما هيسامحه ولا عايزة اشوفه تاني !! طيب هو ليه دخل حياتي وهو عارف أنه هيمشي …..
خرت جميع قواها على الأرض وهي تواصل باكيـة :
-بين الحقيقة والكذب ليه أوحى لقلبي أنه عمره ما هيسيبني !! مين الصادق فينا طيب !! قلبي ولا عقلي !! بس الغريب الاتنين متفقين عليه وأنه مستحيل يعمل كده !!
ثم جففت عبراتها وأكملت بهزل :
-البـ.ـنت دي واضح أوي انها تبقى أنا ليلة الجوهري اللي دايما بتختار كل حاجة غلط ، عشان هي بتعامل الناس بقلبها في زمن كله خبث ومكر وكذب وأنانية !! زمن مفيهوش حب ولا قلب ولا بيرحم حد كله بتاع مصلحته وبس !! والسؤال هنا ؛ من سيعيد لي قلبي !!!!!.
ما أتبعت جملتها حتى سقطت مغشيًا عليها على الهواء أمام الجميـع بعد ما تفجرت الحلقة بالمشاهدات وتحولت حديث اللحظة ، فلم يتحمل قلبها جُملة هذه الأوجاع القاسية وفقدت كُل شيء تحت تأثير الجرعات المُكثفة من الأدوية السامـة …..
~العزايـزة …
رفع المأذون صوته مُعلنـا زينة وهارون زوجان على كتاب الله وسُنـة رسوله .. فضـ.ـر.ب هارون الأرض بقدmه متسائلًا بمرارة ” من سيعيد لي ليلي !!
تجاهل يد الحية المدسوسة بذراعه ليميل نحوها متوعدًا :
-يا ويلك من اللي هتشوفيه مني يا زينة !! متفرحيش قوي ….
جاء هيثم راكضًا من الخلف وينادي عليه بفزع :
-هارون عاوزك …..
قدmت فردوس الشربات للمأذون ليستعـد لكتب كتاب نغـم وهاشـم .. وبأحد الزوايا ، وقفت هيام تستمع للتسجيل الصوتي المُرسل من ” عمار ” لانها ترددت كثيرًا قبل ما ترسل لها صور التحاليل حتى حسمت أمرها وأرسلتها عصر اليوم .. رفعت السماعة على أذنها وهو يقول :
-ازيك يا انسة هيام عاملة أيه ، مبدئيًا كل التحاليل دي توحي أن الست اللي قدامنا عقيـم عندها مشاكل وصعوبات كتير في الإنجاب …
خفق قلب هيام من أثر ما سمعته فطافت عينيها باحثـة عن هارون لتُخبره ، كيف وليلة أكدت عليها بأن هذه التقارير خاصة بأمها !!
كان هارون يقف بالخارج يُشاهد حلقة ليلة التي زلزلت الميديا وحوارها عنه الذي عصر قلبه عصرًا حتى جاءت اللحظة الحاسمة بسقوطها أرضًا ، لم يتحمل البُعد عنها للحظة ، أخرج مفاتيح سيارته متأهبا للمغادرة فسأله هيثم :
-على فين يا هارون!!
-معدش ينفع أسيبها يا هيثم …
جاءت هيام تركض خلف أخيها وتترجاه:
-هارون اسمعني في حاجة حصلت بخصوص ليلة لازمًا تعرفها ..
أوقف خُطاه سماعه اسمها ، فأتبعت هيام لتروي له أمر التقارير الطبية وحقيقة إرسالها لعمار:
-بصراحة انا اترددت يا خوي وقولت لا ماينفعش يكون معاه نمرتي ، بس عشان ليلة ما تزعلش قومت بعتهم ، والله والله ما زودت ولا قولت كلمة ديه حتى سألني ازيك عاملة ايه ، مردتش عليه واصل!!
نهر أخته بنفاذ صبر:
-هيام اخلصي !قال لك أيه ؟
انتفض جسدها برعـ.ـب:
-حاضر حاضر هقول أهو، قال أن أمها عقيمة ومعتخلفش وو بس كيف تبقى أمها يا هارون ..!!!
أمرها بعجل :
-هيام اركبي العربية ….
أوقفه أبيه متسائلاً عنـ.ـد.ما وجده يستعد لصعود سيارته :
-على فين يا ولدي !!
رفع سبابته بوجه أبيه:
-أنا عملت اللي يريحك رغم أني مش فاهمه ، سيبني أعمل اللي يريحني واللي فاهمه ، عن أذنك يا أبوي ……
تنهد خليفة باقتناع أن لا شيء يعلو فوق صوت القلب وقال :
-روحلها يا هارون وهاتها معاك أنت ومعاودة ..
جمهرت الأصوات بداخل بيت خليفة و اتسعت الأعين حول طاولة كتب الكتابة واستعداد المأذون لعقد قرآن نغم وهاشم ، ففاجأته نغم وهي تنزع من يدها خاتم زواجهما وتضعه على الطاولة وتقف أمام الجميع مُعلنـة بحرقة :
-الچوازة مش هتتم وأنا مش موافقة ، والسبب …
ثم أشاحت بنظرة خسة نحو هاشم وأتبعت:
-عنديكم العريس أهو أبقوا اسألوه وهو هيعرفكم …..
قد يحدث أن تُجبر قلبك أن يسير دون إلتفات عنـ.ـد.ما تشعر أن المشاعر أخذت طريقًا مختلفًا عما بدأت به .. كانت تنويه هربًا وفرارًا ولكن قلبها أراده حبيبًا وأبًا لابنها .. غيرت وجهتها من طائرة السويد ، لتحجز أول طائرة على الصعيد وصلت رغد أمام بوابة العزايـزة في لحظة خروج هيام وهارون منها .. أعطت السائق أجرته الباهظة إثر رفض الجميع من السائقين باقتحامه لنجع العزايزة وولت ظهرها متجه نحو البوابة ، فسألها جابر :
-أنتِ مين وعايزة مين يا ست !!
وضعت يدها بجيب معطفها الشتوي وقالت :
-عايزة العُمدة خليفة العزايزي وابنه هاشم بيه …
•••••••••••
أنتهى الجزء الأول ” من يعيد لي قلبي ”
إلى اللقاء في الجزء الثاني من ” آصرة العزايزة ” باسم “____”

لو خلصتي الرواية دي وعايزة تقرأيي رواية تانية بنرشحلك الرواية دي جدا ومتأكدين انها هتعجبك 👇

تعليقات