رواية دمعات قلب هي رواية رومانسية تقع احداثها بين هالة وطارق والرواية من تأليف رباب فؤاد في عالم مليء بالتناقضات والأسرار تتشابك مصائر شخصيات رواية دمعات قلب لتجد نفسها في مواجهة قرارات صعبة تُغير مجرى حياتهم إلى الأبد ان رواية دمعات قلب هي قصة عن الحب الذي يتحدى الزمن والمصير الذي يفرض نفسه والأرواح التي تسعى خلف الحرية والسعادة بين الأمل واليأس وبين القوة والضعف ينسج رواية دمعات قلب تفاصيل حياتهم في معركة غير متكافئة مع القدر لتكشف كل صفحة عن لغز جديد يقود القارئ نحو نهاية غير متوقعة
رواية دمعات قلب من الفصل الاول للاخير بقلم رباب فؤاد
وقفت في منتصف ردهة شقتها تتأمل أركانها في صمت, وذكرياتها تتدفق بسرعة البرق عبر عقلها منذ ارتبطت بزوجها وحتى رحيله.
فالطبيعي أن يحمل كل ركن من أركان المنزل ذكرى لها مع زوجها على مر سني زواجهما العشر, إلا أنها اعتادت أن تكون جميع أحدث حياتها غير طبيعية.
منذ صغرها وهي مختلفة, ليس لسواد عينيها الغامض ولا للشلال الحريري الفاحم الذي يتوج رأسها ولا لجمالها البريء ورقتها ولا حتى لأصلها الطيب.
ولكنها كانت مختلفة..فقط مختلفة.
حتى ارتباطها بزوجها كان مختلفاً..
صحيح أنه كان "زواج صالونات" كما يطـ.ـلق عليه إلا انه كان مختلفاً عما عهدته في زواج مثيلاتها.
وحياتها مع زوجها كذلك كانت مختلفة..
لقد عاشت معه عشر سنوات في إحدى دول الخليج حيث كان يعمل مهندساً بشركة بترول,
عشر سنوات لم تزر فيها أمها سوى مرات قليلة صادفت مواعيد ولاداتها لأطفالها الثلاثة. وفي هذه المرات كان زوجها يعد شقتهم ويجهزها لانتقالهم إليها.
ونسيت أن أقول أنها, بحكم كونها مختلفة, تزوجت دون أن يكون لديها شقة..
لقد اشترى زوجها الشقة ولم يبدأ في تأثيثها إلا بعد أن تزوج وأنجب ولدين واكتشف حمل زوجته للمرة الثالثة.
وهكذا فعلى عكس أي زوجة تدخل عشها لأول مرة مع زوجها مرتدية ثوب الزفاف الأبيض, دخلت هي شقتها برفقة أطفالها وأمها مرتدية السواد حداداً على زوجها الراحل.
لم لا وقد اعتادت أن تكون مختلفة!!!
ومن أعماقها انطلقت زفرة ملتهبة حملت بعضاً من حـ.ـز.نها وخـ.ـو.فها وتـ.ـو.ترها, وأقول بعضاً لأن زفرة واحدة مهما بلغت قوتها لن تستطع حمل أكثر من عُشر ما يعتمل في نفسها.
ولهذا لم تشعر بالراحة إلا عنـ.ـد.ما قفزت دmعاتها السريعة إلى عينيها الجميلتين وفرت خارجهما لتغرق وجهها الحزين.
كان من الصعب عليها أن تُفاجأ بوفاة زوجها وعودتها إلى مصر في منتصف العام الدراسي وما ترتب على ذلك من مشاكل لا حصر لها واجهتها, كعادتها, وحدها في الغربة بحكم اختلافها عن سائر بنات حواء. اختلافها الذي لم تختره ولم تسعد به يوماً.
فقد ذاقت مرارة اليُتم وهي بعد برعمة صغيرة تتفتح للحياة, وحُكم عليها أن تعيش التجربة مرة ثانية وهي ترى أولادها يجرعون من نفس الكأس التي لم تفارق مرارتها حلق أمهم بعد.
فرغم صغر سنها وجمالها الهاديء,رفضت (أم هالة) أن تُحضر رجلاً غريباً ليحتل مكان ومكانة زوجها الراحل ويتحكم في مصير ابـ.ـنتها الوحيدة, وقضت أحلى سني عمرها راهبة في محراب ابـ.ـنتها لا يهمها سوى سعادتها.
وعنـ.ـد.ما وضحت معالم الأنوثة على وجه(هالة) تقدm الكثيرون لخطب ودها ويدها في ذات الوقت إلا أنها رفضتهم جميعاً لأن هدفها كان أسمى من ذلك بكثير.
كان هدفها هو أن تسعد أمها,التي طالما شقت من أجلها, برؤيتها طالبة في الجامعة ثم معيدة ثم دكتورة جامعية...
هكذا كان حلمها.
وفي سنتها الأخيرة بكلية التربية أعلنتها ساكنة الشقة المواجهة لشقتهم بالخبر الذي تسعد لسماعه أي فتاه.."لدي العريس المناسب لك يا (هالة) ".
وتخضب وجه الفتاه يومها في شـ.ـدة وفرت مع حيائها إلى غرفتها,
ولكن ذلك لم يمنعها من أن تسمع والدتها تستفسر عن أخلاق العريس وعائلته وغيرها من تلك الأمور, بل وسمعتها تحدد موعداً مع جارتها بعد أن أكدت لها هذه الأخيرة طيب أصله وأنه شاب تتمناه أي فتاه, وختمت قولها بأنها لم تكن لتفرط فيه لو كان لديها ابنة, وأن (هالة) هي ابـ.ـنتها التي لم تنجبها.
وفي حضور خالها حضر العريس بصحبة والده ' العمدة المهيب' الذي شملها بنظرة فاحصة أعادت إلى ذهنها جميع المشاهد السينمائية التي وصفت حزم وشـ.ـدة العمدة رغم أن هيئة الرجل لم تكن تدل على مهنته,
فعدا طول قامته الواضح كان أنيقاً في السترة الكاملة..
كان نموذج العمدة المعدل.. 'العمدة العصري', ولا عجب في ذلك إذ كان يعمل محامياً قبل أن يرث المنصب عن والده.
وبلمحة سريعة للعريس أدركت (هالة) أنه نسخة مصغرة من والده..طول القامة الواضح, ملامح الوجه, لون العينين الأسود الذي ينافس سواد شعره, حتى الوقار والحزم, وهو ما جعل (هالة) تقول لنفسها' حقاً لكل أمريء من اسمه نصيب, صدق من أسماه (حازم)'
وبعد أن تبادلا الحديث قليلاً, وبعد أن أعملت (هالة) فكرها طويلاً وترددت كثيراً وافقت أخيراً على الارتباط بـ(حازم) وقلبها يتمزق لأنها ستترك أمها وحيدة, إلا أن أمها أقنعتها بأنها ستقيم مع أخيها ولن تكون وحدها, وأن ما يسعدها حقاً هو رؤية ابـ.ـنتها الوحيدة تعيش في سعادة.
وفي غضون أسبوعين تمت الخطبة وعاد(حازم) إلى عمله في الخليج على أن يعود فيما بعد ليتزوجا.
ولكنه لم يعد,
لقد رفض رئيسه السماح له بالنزول فما كان منه إلا أن أرسل لوالده توكيلاً عقد به على (هالة)... ألم أقل أنها مختلفة؟
وبدلاً من أن ترتدي ثوب الزفاف وتجلس إلى جوار عريسها وسط الأهل والأحباب في حفل زفافها, ارتدته وجلست على مقعد في الطائرة المتجهة إلى حيث زوجها وسط أناس لم ترهم من قبل.
وهكذا بدأت حياتها الجديدة في بلد لا تعرفه ولا تعرف أهله ولا عاداتهم.
صحيح أن (حازم) كان معها إلا أنه....
"هل ستظلين واقفة هكذا يا(هالة)؟"
انتبهت (هالة) لصوت أمها الهاديء فمسحت دmـ.ـو.عها سريعاً وهي تقول بصوت لم تفارقه الدmـ.ـو.ع ـ"هل نام الأولاد؟"
تنهدت أمها في عمق قائلة ـ"نعم, بعد جهد جهيد...إلا أنهم في انتظار قبلتك المعتادة."
هزت ابـ.ـنتها رأسها في هدوء واتجهت ببطء إلى حجرة أبنائها لتقبلهم, وعنـ.ـد.ما عادت جلست إلى جوار أمها على الأريكة وشردت ببصرها بعيداً إلا أن أمها بادرتها قائلة بحنان ـ"لابد وأن تتماسكي جيداً يا حبيبتي, فأولادك بحاجة إليك."
تنهدت(هالة) في عمق وهي تقول ـ"الأمر ليس بهذه السهولة.. لقد حدث كل شيء فجأة."
ربتت أمها على كتفها في حنو قائلة ـ"إنه قدره يا ابـ.ـنتي, وقدرك أنت الأخرى."
قالت بصوت يحمل نبرة ضيق وحنق ـ"قدره؟! قولي عادته, فهو دوماً يفعل ما يشاء وقتما يشاء."
قالت أمها في سرعة ـ" 'وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تمـ.ـو.ت', استغفري لربك ولا ترددي هذا القول ثانية."
عادت دmـ.ـو.ع(هالة) للانهمار ثانية وهي تستغفر الله قبل أن تقول في حنق ـ"ولكنه كان يعلم أن عمله خطير وأنه من الممكن أن يمـ.ـو.ت في أي لحظة."
سألتها أمها في حيرة ـ"وماذا أردته أن يفعل؟ أن يترك عمله وأن يجلس إلى جوارك؟ لو أنني وغيري اتبعنا منطقك هذا لكان أباك وآلاف الشهداء على قيد الحياة ولما تحررت سيناء. أهذا ما تريدينه؟"
ازداد انهمار دmـ.ـو.عها وهي تقول بصوت مختنق ـ"على الأقل كان يتوخى الحرص, لقد أخبرني قبل وفاته أن حفار النفط الذي يعمل عليه ليس على ما يرام وأنه أخبر المسئولين في الشركة بذلك إلا أن الشركة لم تحرك ساكناً, والنتيجة انفجار الموقع بأكمله ومصرع ثلثي العاملين به. والأدهى أن مدير الشركة يتهم عمال ومهندسي الموقع بالإهمال حتى يتهرب من دفع قيمة التأمين على حياتهم."
ربتت أمها على كتفها ثانية قائلة بحنان ـ"يا حبيبتي أنت لست بحاجة لقيمة التأمين مهما بلغت."
قالت(هالة) بعناد ـ"إنها ليست لي, إنها لأبنائه مهما بلغت حتى لو كانت خمسة قروش, لقد حرمتهم هذه الشركة من أبيهم ويعلم الله كم طفلاً أخر فقد والده بسبب هذه الذمم الخربة. لذا لن أتوقف عن مقاضاتهم, ووالد(حازم) معي في هذا الأمر."
استسلمت والدتها لإصرارها واكتفت بهز رأسها وهي تسأل ابـ.ـنتها في اهتمام ـ"وهل ستعملين مدرسة كما أخبرت حماك؟"
أومأت (هالة)برأسها إيجابا وهي تجيب أمها في ثقة قائلة ـ"نعم, لقد اتفقت مع مديرة مدرسة الأولاد الجديدة على أن أعمل معها مدرسة علوم لطلبة الإعدادي, وسأعمل حتى نهاية الفصل الدراسي تحت الاختبـ.ـار إلى أن يتم تعييني مع بداية العام الدراسي الجديد. فأنت تعلمين أنني لم أتسلم تعييني الحكومي وبالتالي فقدته"
مطت أمها شفتيها قائلة بعدm اقتناع ـ"مازلت غير مقتنعة بمسألة عملك تلك..فـ.."
قاطعتها ابـ.ـنتها في هدوء قائلة ـ"يا أمي يا حبيبتي...لو أنفقت على أولادي من ميراث أبيهم لن يبق منه شيء عند تخرجهم, تكفينا مصروفات المدرسة الخاصة التي قبلت أبنائي بها في منتصف العام الدراسي. وجود راتبي سيخفف الحمل قليلاً ولولا بعد نظر حماي ما حصلت على معاش(حازم). يبدو أنه كان يشعر بما سيحدث يوماً ما عنـ.ـد.ما أشرك(حازم) في التأمينات الاجتماعية, وهكذا سيمكننا العيش في مستوى قريب من مستوى معيشتنا السابق."
أضافت أمها في حنان ـ"لقد نسيت معاشي أنا الأخرى و...."
قاطعتها(هالة) قائلة في سرعة ـ"أمي...يكفيك ما قاسيته من أجلي منذ وفاة أبي'رحمه الله' وحان الوقت لأرد إليك بعضاً من أفضالك...معاشك خاص بك وبأدويتك و..."
قاطعتها أمها بدورها قائلة باستنكار ـ"هل تدفعين لي ثمن إقامتي معك؟"
اغــــرورقت عينا(هالة) وقالت وهي تحتضن والدتهاـ"معاذ الله...أنا بحاجة إليك يا أمي, بحاجة شـ.ـديدة إليك."
مسدت الأم شعر ابـ.ـنتها قائلة بعد تنهيدة طويلة ـ"أعلم ذلك يا بنيتي...أعلم ذلك."
*******************
↚
ساعدت(هالة) ابنها الصغير في ارتداء ملابسه وتأكدت من أناقته هو وشقيقه الأكبر قبل أن تصحبهما إلى الردهة حيث كان عمهما جالساً برفقة أمها, والذي ما أن لمح اقترابهم حتى نهض وهو يسمع أرملة أخيه تقول بحرج ـ" آسفة لتعطيلك يا دكتور(طارق). لولا مرض(هند) المفاجيء كنت أحضرتهما بنفسي إلى عمي, و أخشى ما أخشاه هو أن يغضبا جدهما بألعابهما الشقية."
ربت(طارق) على شعر الطفلين بحنان وهو يقول بابتسامة عـ.ـذ.بة ـ"من رابع المستحيلات أن يغضب أبي من أبناء(حازم) ' رحمه الله', كما أنهما ليسا بهذا القدر من الشقاوة كما تصفيهما."
همت بقول شيء ما عنـ.ـد.ما أسرع الصغير(هاني) يقول ـ"أرأيت؟! عمي(طارق) في صفنا وسيأخذنا إلى جدنا كل مرة."
ابتسمت وهي تلوح بإصبعها محذرة قائلة ـ"لا تعتمد على هذا كثيراً, عمك سيصحبكما هذه المرة فقط, وفيما بعد ستذهب مع أشقائك بصحبتي."
مط الصغير شفتيه بامتعاض قائلاً ـ" (هند)كثيرة البكاء, ليتها لا تحضر معنا أبداً كيلا تزعجنا."
عقدت حاجبيها وهي تهتف به ـ" ولد!"
اختفى(هاني) ليحتمي خلف عمه الذي ابتسم قائلاً ـ"دعك منه, أعط لـ(هند) الدواء الذي أحضرته لك وستتحسن بإذن الله."
شكرته وهي تودعهم لدى الباب ـ" أشكرك يا دكتور, سأنتظر عودتكم في الغد إن شاء الله."
ثم وجهت حديثها الحازم لابنيها قائلة ـ"(هيثم) اعتن بأخيك ولا تغضبا جدكما أو عمكما لأني سأعرف كل ما تفعلانه."
أومأ الصبيان برأسيهما في أدب وهما يقبلان أمهما قبل أن ينصرفا برفقة عمهما.
وما أن أغلقت(هالة) الباب خلفهم حتى خلعت غطاء رأسها وهي تقول لأمهاـ"الجو حار للغاية."
هزت أمها كتفيها قائلة ـ"إننا في منتصف أغسطس, ومن الطبيعي أن ترتفع الحرارة هكذا."
اقتربت(هالة) من النافذة وهي تراقب ركوب ابنيها سيارة عمهما من خلف الستائر قائلة في قلق ـ"وهذا ما يقلقني, سيلعب الأولاد في الشمس كعادتهم."
هونت أمها من قلقها بقولهاـ"لا تقلقي هكذا, عمهما وجدهما لن يتركاهما دون رقابة."
ثم تابعت في اهتمام حنون قائلةـ"أتعلمين؟ لقد عوضهما(طارق) حنان الأب, إنه حتى يبدو أكثر حناناً من(حازم) ' رحمه الله'."
تنهدت في عمق وعيناها تتابعان ابتعاد سيارة(طارق) قبل أن تقول لأمهاـ"(حازم) كان شبيهاً بأبيه في الشكل و الطباع, أما(طارق) فيشبه والدته أكثر, وقد ورث عنها حنانها."
هزت الأم رأسها قائلةـ"إنه ابن حلال."
أسدلت(هالة) ستارة النافذة وهي تؤمن على كلام أمها قائلةـ"إنه كذلك بالفعل, ويستحق كل خير."
استجابت(هالة) لرنين جرس الباب وفتحته لتجد حماها أمامها فقالت بترحاب صادق ـ"عمي؟! يالها من مفاجأة سارة. تفضل بالدخول."
دلف حموها للداخل في حين سألته هي في حيرة ـ"ولكن أين الأولاد؟ لقد ظننت أنهم في صحبتك."
أجابها الرجل في هدوء يحمل الكثير من الوقار في داخله ـ"لقد صحبهم(طارق) إلى الملاهي ولن يعودوا الآن."
دعته للجلوس وهي تقول بابتسامة هادئة ـ"أرجو ألا يكونا تسببا في الإزعاج لك أو لعمهما."
قال بنفس هدوءه الحازم ـ"إنهما ليسا بمثل شقاوة والدهما'رحمه الله' حين كان في مثل عمريهما."
ثم تابع بنبرة اهتمام ـ" كيف حال(هند) الآن؟"
أجابته في سرعة ـ"بخير والحمد لله, لقد تحسنت بعد تناول الدواء الذي أحضره لها عمها. يبدو أن لها مَعَزة خاصة عند جدها ليقطع كل هذه المسافة من أجلها."
لاحت نبرة حنان غريبة في صوته وهو يقول ـ"أنا لم أنجب بنات, لذا عوضني الله بـ(هند). أين هي؟"
نهضت قائلة ـ"نائمة بالداخل مع أمي, سأوقظها حالاً و..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً ـ"لا داعي لإيقاظ الصغيرة, ولكن إذا كانت والدتك متيقظة فأرجو أن تشاركنا الحديث."
عقدت حاجبيها للحظة أو أقل قبل أن تقول في سرعة ـ"بالطبع. سأستدعيها حالاً."
وبعد التحيات التقليدية ابتدر الرجل والدة(هالة) قائلاً بجدية ـ"لقد تقدmت إليك أنا وابني الراحل منذ عشر سنوات لخطبة ابـ.ـنتك (هالة) بعد أن سمعنا عن أدبها وجمالها وأصلها الطيب, وطيلة هذه السنوات أثبتت كل ذلك عملياً وما زالت تثبته في تربيتها الممتازة لأبنائها رغم كل الظروف السيئة المحيطة بها."
قالت(هالة) في حيرة ـ"ظروفنا ليست بهذا السوء يا عماه. الحمد لله, نحن أفضل من غيرنا. صحيح أنني فقدت الزوج وأولادي فقدوا الأب لكننا لسنا وحدنا, جدهم وجدتهم وعمهم معهم بعد الله سبحانه وتعالى. إنهم بالتأكيد أفضل حظاً من كثير من الأطفال الأيتام."
وافقها قائلاً ـ"في الوقت الحالي كلامك صحيح, ولكن ماذا عن المستقبل؟ أنا لن أخلد في هذه الدنيا."
قالت في سرعة ـ"الأعمار بيد الله يا عمي, أطال الله عمرك."
رفع كفه في حزم قائلاً ـ"هاأنت قلتها, الأعمار بيد الله. والله وحده أعلم بمن سيمـ.ـو.ت الآن ومن سيمـ.ـو.ت فيما بعد, لذا أريد أن أطمئن على مستقبل أحفادي من بعدي."
تبادلت(هالة) نظرة حائرة مع أمها قبل أن تقول بحزم مماثل ـ"مستقبلهم بين يدي الله يا عمي. وبشهادة حضرتك فإن تربيتي لأبنائي مثالية والحمد لله, كما أن أمي معي ولا تنس أنها وحدها قامت بتربيتي, وأنا بإذن الله قادرة على فعل المثل."
تنهد الرجل في عمق قبل أن يقول ـ"لقد تغير الزمن يا ابـ.ـنتي ومسئولياتك أكبر من مسئولية والدتك حينها كما أنك جميلة ومازلت صغيرة السن و..."
قاطعته بلهجة بدت حادة رغماً عنها قائلة ـ"لقد كانت أمي أجمل وأصغر سناً مني الآن ومع ذلك لم تفكر في الزواج ولو للحظة, وأنا لست بأقل منها."
تابع وكأنه لم يسمعهاـ"وإن لم يجذب جمالك الرجـ.ـال, سيفعل ما ورثته عن زوجك."
احتقن وجه(هالة) في شـ.ـدة في حين قالت أمها في سرعة ـ"لقد تنازلت ابـ.ـنتي عن ميراثها في ممتلكات(حازم) وكذلك عن نصيبها في التعويض لصالح أبنائها."
وجه حديثه إلى الأم قائلاً بثبات ـ"هذا ما نعرفه أنا وأنت وليس العالم كله."
مالت(هالة) إلى الأمام وقالت في تحفز ـ"وأنا لست عديمة الشخصية لأن أستجيب لإغراء أي رجل مهما كان."
تراجع حموها للخلف في سرعة قائلاً ـ"معاذ الله أن تكونين هكذا أو أن أصفك أنا بذلك, ولكن في بعض الأحيان قد تشعرين بأنك وحدك في هذا العالم, ومن هذا المُنطَلَق قد توافقين على الزواج برجل ظناً منك أنه الشخص المناسب لك ولكنه ليس كذلك."
ازداد احتقان وجه(هالة) وعصبيتها التي جعلتها تغرس أظفارها في راحة يدها قبل أن تتمالك أعصابها لتقول في ثقة ـ"أنا على أتم الاستعداد لأن أقسم لك الآن بأنني لن أتزوج ثانية ولن أسمح لأي رجل بأخذ مكان(حازم) في بيته ولن..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً في هدوء ـ"رويدك يا بنيتي, أنا لم أطلب منك ذلك ولن أفعل أبداً. على العكس من ذلك, أنا هنا لأقنعك بالشخص المناسب."
اتسعت عينا(هالة) في شـ.ـدة وهي تحدق في وجه حميها بذهول, حتى أن صوتها حين بـ.ـارح حلقها كان متحشرجا من فرط دهشتها وهي تهب من مقعدها هاتفة ـ"ماذا؟!"
مالت(هالة) إلى الأمام وقالت في تحفز ـ"وأنا لست عديمة الشخصية لأن أستجيب لإغراء أي رجل مهما كان."
تراجع حموها للخلف في سرعة قائلاً ـ"معاذ الله أن تكونين هكذا أو أن أصفك أنا بذلك, ولكن في بعض الأحيان قد تشعرين بأنك وحدك في هذا العالم, ومن هذا المُنطَلَق قد توافقين على الزواج برجل ظناً منك أنه الشخص المناسب لك ولكنه ليس كذلك."
ازداد احتقان وجه(هالة) وعصبيتها التي جعلتها تغرس أظفارها في راحة يدها قبل أن تتمالك أعصابها لتقول في ثقة ـ"أنا على أتم الاستعداد لأن أقسم لك الآن بأنني لن أتزوج ثانية ولن أسمح لأي رجل بأخذ مكان(حازم) في بيته ولن..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً في هدوء ـ"رويدك يا بنيتي, أنا لم أطلب منك ذلك ولن أفعل أبداً. على العكس من ذلك, أنا هنا لأقنعك بالشخص المناسب."
اتسعت عينا(هالة) في شـ.ـدة وهي تحدق في وجه حميها بذهول, حتى أن صوتها حين بـ.ـارح حلقها كان متحشرجا من فرط دهشتها وهي تهب من مقعدها هاتفة ـ"ماذا؟!"
أما والدتها فقد لاحت رنة الغضب في صوتها وهي تقول ـ"ماذا تعني بقولك هذا يا حاج؟ بل ماذا تظن بابـ.ـنتي من الأساس؟"
وَجَه حديثه إلى الأم ثانية قائلاً بنفس الهدوء ـ"صدقيني يا سيدتي, أنا أهدف من وراء ذلك إلى تأمين مستقبل ابـ.ـنتك وأحفادي. ولولا احترامي لكما ما أتيت بعرضي هذا."
قالت الأم بحزم ـ"أي عرض تقصده يا حاج؟ لقد مرت ستة أشهر فقط على وفاة ابنك الأكبر وأنت تطلب من أرملته الزواج؟ أهذا معقول؟"
تنهد الرجل في ألم قائلاً ـ"لم يحـ.ـز.ن أحد على(حازم) قدر حـ.ـز.ني عليه. لقد كان أول أبنائي وأشبههم بي في الشكل والطباع, وكانت صدmة فقدي له قوية. أنت ت عـ.ـر.فين بالطبع أنني أصبت بعد وفاة (حازم) بذبحة صدرية ما زلت أعاني من آثارها حتى الآن, وليس أصعب على نفسي من أن أطلب من أرملة ابني أن تسمح لرجل آخر بأن يحل محل(حازم), لكن هذا الرجل لا يختلف كثيراً عنه, فلكليهما نفس المَعَزة في قلبي لأن كلاهما ابني."
التفتت(هالة) إليه بحركة حادة عكست رفضها واستنكارها للأمر خاصة حين تابع حموها قائلاً بهدوء ما زال مشوباً برنة ألم ـ"أنا أعرض عليك الزواج من ابني الدكتور(طارق)."
و كانت مفاجأة قاسية ل(هالة).
↚4- "لا وألف لا...مستحيل."
هتفت(هالة) بهذه العبـ.ـارة في إصرار بعد انصراف حميها وهي تذرع الغرفة جيئة وذهاباً قائلة بثورة مكتومة ـ"هل أصبحت حكراً على هذه العائلة؟ أيظنوني جزءاً من ميراث ابنهم؟ وكيف..."
قاطعتها أمها قائلة بهدوء ـ"اجلسي لنتحدث بهدوء يا ابـ.ـنتي."
التفتت(هالة) إليها هاتفة بانفعال ـ"هدوء؟ إن دmي يغلي منذ سمعت عرض حماي العزيز. آه لو رأيت(طارق) الآن لـ..."
قاطعتها أمها في حزم هذه المرة قائلة ـ"قلت اجلسي, إنك تثيرين أعصابي بحركاتك المتـ.ـو.ترة تلك."
أطاعتها(هالة) وملامحها تشي بتبرمها الشـ.ـديد, في حين تابعت والدتها في حنان قائلة ـ"ما وجه اعتراضك على(طارق)؟ لقد قلت بنفسك أنه ابن حلال وحنون, وأبلغ دليل على ذلك هو حب أولادك له وتعلقهم به."
أجابتها(هالة) في حدة قائلةـ"حب أولادي له لا يعني بالتبعية الزواج منه, وإلا انتظرت عرض بالزواج من كل من يقدm لهم قطعة شيكولاتة."
ربتت أمها على كتفها في حنان قائلةـ"حبيبتي...(طارق) إنسان متميز وحموك يهدف إلى..."
قاطعتها(هالة) هذه المرة هاتفةـ"أنا لست ساذجة لأصدق ما قاله, حماي يهدف إلى فرض وصاية دائمة علينا بصفتنا جزء لا يتجزأ من تركة ابنه الراحل, وإذا كان ولا بد من زواجي, فلأتزوج ابنه الثاني وأنفق ميراثي عليه باعتبـ.ـاره أولى من الغريب."
رمقتها أمها بنظرة صارمة وهي تقول بحزم ـ"لن أواصل الحديث معك وأنت بهذه العصبية. أنت الآن ميئوس منك بالمرة."
قالتها وهي تنهض متجهة إلى غرفتها مغمغمة في حيرة ـ"إنك لم تكوني أبداً بمثل هذه العصبية والفظاظة, لقد تغيرت."
اغــــرورقت عينا(هالة) بدmـ.ـو.ع ساخنة, وهي تخفي وجهها بين كفيها بعد ابتعاد أمها, وكيانها يصـ.ـر.خ ألماً نعم تغيرت...منذ ارتبطت بهذه الأسرة وأنا في تغير مستمر,
تعلمت أن أعاشر زوجاً عمله هو أهم ما في حياته,
تعلمت أن الحب ليس أساس كل شيء و...
ولكنني تحملت المسئولية وحدي, وهاأنذا حائرة بين ما أؤمن به وبين ما تعودت عليه مع زوجي.
هل أجعل الحب أساساً لحياتي و حياة أبنائي,
أم أمشي على نهج زوجي؟
والأدهى موضوع شقيقه هذا...
كيف أجرع من ذات الكأس مرتين؟
صحيح أن(طارق) على طرفي نقيض من شقيقه, إلا أنه كما يقولون 'العرق دساس'.
ثم كيف تتحول علاقتي ب(طارق) من كونه أخ لزوجي الراحل وعم لأبنائي إلى زوج مثله مثل أخيه؟"
إنها بالفعل لم تفكر في الزواج, ولن تفعل بعد ما عانته في زواجها السابق, لكن مع إصرار أمها وحميها...
أمها تحاول إقناعها بأن الأمر مدعاة لفخرها, خاصة بعد أن قال حميها أنه لن يجد زوجة لابنه أفضل منها, وتشـ.ـدد على أن الزمن تغير وأنها وحيدة في هذا العالم دون أخ أو أخت, وحملها أثقل من أن تحمله وحدها.
ولكن كيف ستواجه الناس بزواجها قبل انقضاء عام على وفاة زوجها, ناهيك عن أن الزوج الجديد هو شقيق الزوج الراحل.
يقولون في الأرياف إنها التقاليد, ولكنها ليست في الأرياف. إنها في العاصمة, في قاهرة المعز حيث لا يعرف أحداً ما يجري للمحيطين به إما لانشغاله أو لعدm اهتمامه.
قد تكون هذه نقطة في صالح زواجها من(طارق), ولكن ماذا عنها هي؟
ماذا عن حالتها النفسية؟
كيف ستغير نظرتها إليه من أخ وصديق إلى زوج؟
"يا الهي!!! إن جسدي يقشعر لمجرد تصور الفكرة."
همست بهذه العبـ.ـارة لنفسها سراً وهي تسترجع في ذهنها كل الأفلام العربية التي تزوج فيها البطل من أرملة شقيقه مرغماً.
نعم مغرماً, لقد صارحها حموها بقوله أن ابنه لم يعتد رفض طلبات أو أوامر والده.
إذاً حاله ليس أفضل من حالها, فكلاهما في الهم سواء.
لذا ستنتظره حين يعود وتواجهه و...
وأخذت تخطط لما ستقوله.
↚استجابت (هالة) لرنين الهاتف ورفعت سماعته ليبادرها صوت أنثوي تفتقده يهتف بمرح ـ"لقد عدنا".
لم تكد (هالة) تتعرف على صاحبة الصوت حتى هتفت كالغريق الذي ينتظر العون قائلة بلهفة ـ"(نهى)!! حمداً لله على سلامتكم..متى عدتم"؟
أجابتها (نهى) بنفس المرح ـ"عدنا فجر اليوم...افتقدتك يا (هالة) كثيراً، وأبنائي لم يتأقلموا بعد على سفر (هيثم) و(هاني)".
اختنق صوت (هالة) بالعبرات وهي تقول لصديقتها ـ"وأنا أيضاً افتقدتك...بل إنني أحتاجك اليوم أكثر من أي وقت مضى يا(نهى)".
تسلل القلق إلى صوت (نهى) وهي تسألها ـ"ماذا بك يا حبيبتي؟ لقد كنت بخير حتى آخر اتصال بيننا منذ شهر تقريباً".
سالت دmعة متهورة على وجه (هالة) التي لم تحاول منعها وهي تقول بألم ـ"بخير؟ لقد نسيت هذه الكلمة".
تصاعد القلق في صوت صديقتها الوحيدة وجارتها في الخليج طيلة عشر سنوات، فسألتها بلهفة ـ"أريحي قلبي أولاً...هل والدتك وأبنائك بخير"؟
مسحت (هالة) دmعة أخرى حاولت اللحاق بسابقتها وهي تهز رأسها قائلة ـ"لا تخافي...كلنا بخير جسدياً، لكني أنا المنهكة نفسياً".
لم ترتح (نهى) لنبرة (هالة) ولا لكلمـ.ـا.تها المتألمة فهتفت بها ـ"لقد أثرت فضولي...سأطلب من (عمر) زوجي أن يقلني إليك فوراً، فهي المرة الأولى التي أزورك فيها في مصر. (هالة) إياك أن تؤذي نفسك".
ابتسمت (هالة) رغماً عنها وهي تطمئن صديقتها وتنهي المكالمة قائلةـ"لا تخافي...أنا يائسة ولكن ليس إلى هذا الحد. في انتظارك".
وبالفعل لم تكد تمر ساعة حتى كانت (نهى) تطرق باب صديقتها مرتدية عباءتها السوداء الفضفاضة التي اعتادت ارتدائها منذ سفرها إلى الخليج مع زوجها قبل اثنا عشر عاماً.
كانت (نهى) أكبر عمراً من (هالة) بنحو عامين، متوسطة القامة وملامحها الهادئة تشي بطيبة قلب وحنان لا حدود لهما، وإن كانت عيناها اللامعتان تنمان دوماً عن روح مرحة وخفة ظل تجعل من يعرفها لا ينساها بسهولة. زوجها (عمر) مهندس في نفس الشركة التي كان يعمل بها (حازم)، وكان يقطن في الشقة المواجهة للعريسين (حازم) و(هالة) التي كانت بحاجة إلى صديقة جديدة، وكانت (نهى) هي تلك الصديقة، ونعم الصديقة التي وقفت إلى جوارها منذ بداية زواجها وحتى نهايته بوفاة (حازم) المفاجئة. حتى بعد عودة (هالة) إلى مصر قبل ستة أشهر لم تنقطع الصلة بينهما، وظلتا على اتصال بين الحين والآخر، و...
قطع (هاني) سيل ذكرياتها وهو يفتح الباب ويصـ.ـر.خ في سعادة ـ"طنط (نهى)...أين (عبد الله) و(عبد الرحمن)"؟
انحنت (نهى) تحتضن الصغير بشوق، فقد كانت تفتقد شقاوته وخفة ظله، وقبلت رأسه قائلة ـ"لا يزالا نائمين...لقد أتيت اليوم وحدي ولكني سأحضر بهما في المرة القادmة إن شاء الله. أين أمك"؟
أتاها صوت (هالة) المنهك وهي تقول بابتسامة باهتة ـ"ها أنذا...حمداً لله على سلامتك يا (نهى)".
التفتت (نهى) إلى صديقتها وراعها الشحوب على وجهها الذي طالما عرفته نضراً، حتى ابتسامتها العـ.ـذ.بة كانت شاحبة بشكل أثار قلقها وهي تحتضن صديقتها قائلة ـ"(هالة)؟ ماذا ألم بك؟ ماذا حدث"؟
احتضنتها (هالة) بكل ما تبقى لديها من قوة قبل أن تصحبها إلى الداخل قائلة ـ"سأخبرك بكل شيء...تفضلي إلى الداخل أولاً".
صحبتها في هدوء إلى غرفة الاستقبال الأنيقة، بينما هرع (هيثم) هو الآخر ليعانق والدة أصدقائه في شوق بعد غياب ستة أشهر، فقبلت رأسه قبل أن تداعب شعره الأسود الناعم قائلة في حنان ـ"ما شاء الله تبـ.ـارك الله. لقد صرت رجلاً يا (هيثم)..حماك الله يا ولدي".
ثم تلفتت حولها متسائلة ـ"أين والدتك يا (هالة)؟ وأين (هند)؟ لقد أوحـ.ـشـ.ـتني تلك المزعجة".
تنهدت (هالة) وهي تشير لصديقتها بالجلوس قائلة ـ"أمي تزور خالي...إنه يمر بوعكة خفيفة. أما (هند) فنائمة كالعادة...متعبة هذه البـ.ـنت، تنام ونحن يقظى وتستيقظ ونحن نستعد للنوم".
جلست (نهى) على الأريكة إلى جوار صديقتها وهي تضحك قائلة ـ"والله أنا راضية أن أظل طول الليل مستيقظة...المهم أنجب بـ.ـنت...ربنا يهدي (عمر) ويوافق أن ننجب ثانية".
ضحكت (هالة) نفس الضحكة الباهتة ولم تعقب، بينما تابعت (نهى) قائلة ـ"بـ.ـارك الله لك فيها وأشقائها، وألف سلامة لخالك".
ثم مالبثت الجدية أن غلفت صوتها وهي تسألها باهتمام ـ"والآن ما سر هذا الذبول؟ إنها المرة الأولى التي أراك فيها هكذا، حتى بعد وفاة(حازم) رحمه الله".
تنهدت (هالة) في ألم وأسبلت جفنيها قليلاً قبل أن تفتحهما وتشير إلى (هيثم) قائلة ـ"(هيثم) حبيبي، أحضر العصير من الثلاجة وخذ أخيك للداخل".
أطاعها ابنها البكر في هدوء بينما وقف المشاكس الصغير وعقد ذراعيه أمام صدره قائلاً ـ"أريد أن أظل مع طنط (نهى)".
رمقته أمه بنظرة صارمة لا تتناسب وضعفها الحالي وهي تقول بحزم ـ"اذهب إلى غرفتك وحينما ننهي حديثنا سأسمح لك بالجلوس معها..هيا".
أطاعها الصغير بتبرم وخرج من الغرفة في الوقت الذي دخل فيه (هيثم) حاملاً صينية أنيقة وعليها كوبين من العصير المثلج وضعها أمامها ثم خرج وأغلق الباب خلفه في هدوء ورصانة. حينها التفتت (نهى) إلى صديقتها قائلة ـ"ما شاء الله تبـ.ـارك الله...لقد صار (هيثم) رجلاً بتصرفاته رغم ملامحه الطفولية...لقد نضجت قبل الأوان يا صغيري".
تنهدت (هالة) ثانية وهي تهز رأسها قائلة ـ"كلنا تغيرنا يا (نهى). أنا أيضاً لم أعد كما كنت. لقد تغيرت حينما تزوجت (حازم)، وتغيرت ثانية حينما توفى فجأة. وربما أتغير من جديد، والمشكلة أنني لم أستسغ هذه التغيرات بعد".
ربتت (نهى) على كفها لتشجعها على الحديث قائلة ـ"(هالة) كفى تلاعباً بأعصابي...أخبريني ماذا حدث".
خللت (هالة) شعرها الأسود بأصابعها للحظات قبل أن تعتدل وتقدm العصير إلى صديقتها قائلة بلهجة محايدة ـ"حماي العزيز حضرة العمدة".
عقدت (نهى) حاجبيها قائلة بفضول ـ"ماذا به؟ هل يضايقك"؟
هزت (هالة) كتفيها قائلة ـ"لا أدري بم أصف ما يحدث...حماي العزيز يريدني أن أتزوج".
توقفت (نهى) عن شرب العصير الذي شعرت به يخـ.ـنـ.ـقها فسعلت في قوة وهي تضع الكوب على الطاولة أمامها ثانية قائلة ـ"ماذا؟ تتزوجي"؟
هزت (هالة) رأسها في ألم قائلة ـ"نعم، المهم أنه يريد مني أن أتزوج (طارق) شقيق (حازم) رحمه الله".
سألتها في حيرة ـ"أليس متزوجاً"؟
هزت (هالة) رأسها نفياً فتابعت (نهى) ـ"وهل يشبه أخيه"؟
تنهدت (هالة) في عمق وهي تقول ـ"مختلف تماماً قلباً وقالباً. مختلف في الشكل والطباع وكل شيء. ولكن ليس هذا ما يضايقني".
عقدت (نهى) حاجبيها ثانية في انتظار (هالة) التي تابعت قائلة بإحباط ـ"هل أصبحت حكراً على أبناء حضرة العمدة؟ يتوفى الكبير فأتزوج الصغير"؟
سألتها رفيقتها في حيرة ـ"وما مبرر حميك لهذا الزواج؟ هل لا يزال يؤمن بالتقاليد الريفية القديمة"؟
هزت (هالة) رأسها في صمت، فتابعت (نهى) باهتمام ـ"وما هو موقف (طارق)"؟
مطت (هالة) شفتيها قائلة ـ"برود وصمت مطبق...إنه لم يتحدث معي في شيء، ولا أظنه يستطيع الوقوف في وجه والده".
عقدت (نهى) حاجبيها ثانية وهي تقول ـ"هل يعني هذا أنه مجبر على الزواج منك؟ ألا يزال هناك آباء بهذه القوة وأبناء بهذا الاحترام"؟
هتفت بها صديقتها في ضيق ـ"(نهى) لا أريد تحليلاً...أريد الخروج من هذا المأزق..أنا لا أريد الزواج من (طارق) أو غيره. لقد انتهت حياتي بوفاة (حازم) رحمه الله ونذرت حياتي لأبنائنا. كما أنني لا أريد أن أظلم (طارق) بزيجة كهذه..إنه طبيب شاب ووسيم ويستحق من هي أفضل مني، فلماذا أظلمه بزوجة مستهلكة وأم لثلاثة أطفال"؟
شعرت (نهى) بقبضة بـ.ـاردة تعتصر قلبها مع وصف صديقتها لنفسها بأنها "مستهلكة" فهتفت بها ـ"لا تقولي ذلك...أنت لا زلت صغيرة ولا زالت هناك فتيات في عمرك وأكبر منك لم يتزوجن بعد و...".
سالت دmـ.ـو.ع (هالة) وهي تقاطعها قائلة ـ"فلماذا لا يتزوج أي منهن إذا؟ لماذا يربط نفسه بي"؟
ربتت (نهى) على كف صديقتها قائلة بهدوء ـ"إما لأنه لا يحب في الوقت الحالي، أو لأنه لا يعترف بالحب، أو لأنه يشعر بالمسؤولية الملقاة على عاتقه بعد وفاة شقيقه".
وكأنها ضغطت زراً فجر ذكريات كامنة في عقل وقلب (هالة) التي انتفضت في غضب قائلة ـ"لا يعترف بالحب؟ هل انتهيت من (حازم) وجمود مشاعره لأقع في نسخة ثانية منه"؟
فوجئت (نهى) بـ.ـارتجافة صديقتها فاحتضنتها في حنان لتمتص انفعالها قائلة ـ"(هالة)..ماذا بك؟ إنك تحيرينني...أترفضين الزواج أم ترفضين الشخص أم ترفضين المشاعر"؟
ازداد انهمار دmـ.ـو.عها على كتف صديقتها وهي تجيب بصوت مختنق ـ"لم أعد أعلم ماذا أريد وما لا أريد...لقد فقدت تركيزي وفقدت القدرة على التمييز و...".
ربتت (نهى) على ظهرها لتحاول تخفيف تـ.ـو.ترها قائلة ـ"لا داعي لهذا كله...اهدئي قليلاً حتى نستطيع التفكير بشكل عقلاني".
قالتها وهي تبعد صديقتها عنها قليلاً وتلتقط كوب العصير الثاني وتعطيه لها قائلة ـ"اشربي العصير يا حبيبتي...سيهدئ أعصابك".
التقطت (هالة) الكوب بأصابع مرتجفة وارتشفت منه قليلاً قبل أن تعيده إلى الطاولة وتدفن وجهها بين كفيها البـ.ـاردين من الانفعال. وحينها قطعت (نهى) حبل الصمت الذي امتد لدقيقة أو يزيد قائلة بلهجة من يفكر بصوت مرتفع ـ"حموك يريد أن يضمن وجود من يهتم بالأولاد ويعتني بهم دون أن يثير وجوده الأقاويل...فلماذا لا يتزوج من والدتك ويقيم معكم هنا أو تنتقلوا أنتم إلى حيث يقيم و..".
قاطعتها (هالة) حينما رفعت وجهها عن كفيها في حدة ورمقتها بنظرة مستنكرة قبل أن تنفجر في الضحك بشكل يتناقض ودmـ.ـو.عها التي لا تزال تغرق وجهها، فعقدت (نهى) حاجبيها قائلة ـ"ما الذي يضحك في كلامي"؟
استمرت (هالة) في الضحك وهي تنظر إلى صديقتها وقالت من بين ضحكاتها ـ"أعانك الله يا (عمر)...لقد أذابت شمس الخليج مخ زوجتك".
لكزتها (نهى) في كتفها قائلة بحنق ـ"يا سخيفة...أهذا جزائي لأني أفكر معك"؟
مسحت (هالة) وجهها من أثر الدmـ.ـو.ع قائلة ـ"بل جزائك لأنك لا تفكرين بشكل منطقي...فالسبب الذي دفع حماي إلى اقتراحه هو أنه أُصيب بذبحة صدرية حينما علم بوفاة (حازم) رحمه الله، وبالتالي فصحته لم تعد كما كانت، وهو يريد بزواجي من (طارق) أن يضمن وجود من يهتم بنا حتى بعد وفاته. وتعلمين جيداً أن أمي رفضت الزواج بعد أبي رحمه الله واستطاعت تربيتي والتكفل بي وحدها حتى الآن و..".
قاطعتها (نهى) قائلة في حيرة ممزوجة بالسخريةـ"ما دmت تتمتعين بهذا العقل المتفتح وتدركين الهدف من الزيجة، فلماذا ترفضينها؟ هل تعتقدين يا سوبر وومان أنك قادرة على تكرار نموذج والدتك؟ هل تعتقدين أنك قادرة على تربية ثلاثة أطفال في عصرنا هذا وحدك"؟
همت (هالة) بالاعتراض حينما تابعت (نهى) قائلة بهدوءـ"لقد كانت والدتك مسئولة عن طفلة واحدة وكان إلى جوارها شقيقها، وربما شجعها ذلك على عدm الزواج ثانية...ولكن انظري إلى وضعك...أرملة وحيدة ومعها ثلاثة أطفال في زمن قلما يساعد فيه الشقيق شقيقه، فممن تنتظرين المساعدة؟ من خالك المريـ.ـض؟ أم والدتك التي لم تنس معاناتها السابقة كأرملة، أم تتوقعين أن يترك أبناء خالك مصالحهم وزوجاتهم من أجلك؟ هل لك أن تجيبي"؟
اتسعت عينا (هالة) وهي تنظر إلى صديقتها التي صدmتها بالحقائق كلها كمدفع رشاش سريع الطلقات، فظلت تتأملها للحظات في صمت قبل أن تقول بتخاذل ـ"(نهى)..أنا..".
استحثتها (نهى) على الحديث قائلة ـ"أنت ماذا؟ أنت لا تزالين مضطربة المشاعر، وكما قلت بلسانك فاقدة للتركيز والتمييز...لكني أرى أن هذه الزيجة قد تكون التعويض الذي أرسله الله إليك بعد معاناتك مع (حازم)...معاناتك التي لم تخبري بها والدتك، والتي لولا صداقتنا وجيرتنا ما عرفت بها...استخيري يا (هالة) وحينها سيرتاح قلبك".
لمعت عينا (هالة) فجأة وكأنها تذكرت شيئاً، فعاد العناد إلى صوتها وهي تقول ـ"وماذا عن معاش (حازم) رحمه الله؟ إذا تزوجت فسيُلغى نصيبي من المعاش و...".
قاطعتها صديقتها في سخرية قائلة ـ"هل تريدين إقناعي بأن معاش التقاعد يكفيكم؟ حتى وإن تعدى الألف جنيه فلن يفيدك في شيء، ولن يكفي لفتح بيتك. إذاً فلن تتأثر حياتك بضياع بضعة جنيهات من المعاش يا (هالة)...العبي غيرها".
اعترضت بعناد جعلها تبدو أشبه بصغيرها (هاني) وهي تقول ـ"ولكني مصرة على أنني أستطيع العناية بأبنائي وحدي دون مساعدة خارجية".
أحاطت (نهى) رأسها بكفيها هاتفة ـ"يا ربي...لقد سببت لي صداعاً بعنادك يا (هالة)...اسمعي...ما رأيك أن تراهني نفسك"؟
بدا الحماس في عيني (هالة) وهي تنصت باهتمام إلى صديقتها التي قالت ـ"راهني نفسك قبل الذهاب إلى أي مصلحة حكومية لإنهاء أي شيء يتعلق بأبنائك والمجلس الحسبي، فإذا استطعت إنهاء ما تريدينه دون مساعدة حميك أو (طارق) ارفضي الزيجة...أما إذا فشلت فلا يوجد أمامك سوى القبول بالزواج".
اتسعت عينا (هالة) وهي تسأل صديقتها بذهول ـ"(نهى) ماذا تقولين"؟
نفضت (نهى) كفيها قائلة بحزم ـ"هذا هو الحل الوحيد...استخيري ثم راهني نفسك، ولن أفتح فمي أياً كان قرارك بعدها".
وكان إختبـ.ـاراً قاسياً.
↚ظلت(هالة) على موقفها الرافض للزواج بشكل عام, ومن شقيق زوجها بصفة خاصة, وبدا أنها ستنتصر وأن 'حضرة العمدة' قد اقتنع بوجهة نظرها.
ولكن جاءت اللحظة الحاسمة التي كانت تخشاها، واضطرت إلى الذهاب إلى مصلحة حكومية لإنهاء بعض الأوراق لتحويل معاشها ومعاش أبنائها إلى البنك بدلاً من وزارة التأمينات.
يومها تنقلت من مكتب إلى مكتب ومن طابق إلى طابق ومن موظف إلى موظف حتى أوشكت على الانهيار...
وحينها، حينها فقط استسلمت وأخرجت هاتفها المحمول من حقيبتها لتتصل ب(طارق) بصوت مختنق تطلب منه المساعدة.
والشيء الغريب أن مجرد وجود (طارق) إلى جانبها في هذا اليوم منحها نوعاً من الثقة في وجه الموظفين الذين يتعاملون ببرود اكتسبوه من طول تعاملهم مع الجمهور.
ولكن ظلت غصة ما تخـ.ـنـ.ـقها كلما نظرت إليه ووجدته يتعامل بابتسامة واثقة مع الجميع وروح مرحة أجبرتهم على إنهاء ما يريده من أوراق في وقت قياسي.
غصة مبعثها شعورها بخسارة الرهان...رهانها مع نفسها ضد الجميع.
وحينما أنهى (طارق) الأوراق صحب (هالة) إلى سيارته، وما أن جلس هو خلف المقود حتى فوجئ بدmـ.ـو.عها تغرق وجهها فهتف بها في قلق ـ"(هالة)...ماذا بك؟ لماذا تبكين"؟
لم تستطع الإجابة، وإن ازداد انهمار دmـ.ـو.عها وازداد قلقه معها فتابع ـ"(هالة) لا تـ.ـو.تري أعصابي...ماذا حدث؟ هل ضايقك أحد الموظفين؟ أدري أنهم يتعاملون ببرود ولكن...".
قاطعته حينما وجدت صوتها أخيراً، وقالت بانكسار يعكس شعورها بالهزيمة ـ"(طارق)...أنا موافقة على الزواج".
قالتها دون أن تنظر إلى عينيه، ودون أن تستمع إلى ما قاله بعدها...
فما كانت تشعر به وقتها هو أنها وقعت للتو شهادة وفاة حريتها بعيداً عن أبناء الحاج حفني، وأنها عادت بقدmيها إلى هذه الأسرة.
وبعد مرور أول ذكرى سنوية لوفاة زوجها, عقد(طارق) قرانه عليها وانتقل ليقيم معها ومع أبنائها.
ولدهشتها فقد كانت سعادة الأولاد بوجود عمهم معهم لا توصف, حتى أنهم وافقوا مرغمين على النوم بعد منتصف الليل كي لا يتركوه.
وحين تبعته إلى غرفتهما وجدته واقفاً أمام الشرفة يحدق في هدوء ليل الشتاء صامتاً فتنحنحت قائلة في حرج ـ"أي من جانبي الفراش تفضل؟"
استدار إليها في هدوء وهو ينقل بصره بين وجهها والفراش في بطء قبل أن يسألهاـ"على أي جانب تنامين؟"
مطت شفتيها قائلةـ" الأيمن, لكن لو..."
قاطعها بإشارة من يده قائلاً بلا مبالاة ـ" سأنام على الجانب الآخر إذاً."
ثم تابع بنفس اللامبالاة قائلاًـ" يمكنك النوم الآن لو أردت, فأنت ترهقين نفسك كثيراً في المدرسة والبيت, وسأقف قليلاً في الشرفة إذا لم يكن لديك مانع."
هزت كتفيها قائلةـ" كلا, ليس لدي أي مانع, فقط تأكد من ثقل ملابسك, فالجو يزداد برودة في المساء."
أومأ برأسه في صمت قبل أن يدلف إلى الشرفة ويغلقها خلفه تاركاً(هالة) وحيدة في غرفتها التي ملأها الهواء البـ.ـارد لحظة أن فتح(طارق) زجاج الشرفة.
قاومت(هالة) شعورها بالاختناق وجلست على طرف الفراش وقبضة بـ.ـاردة تعتصر قلبها, لقد صدق حدسها, لقد وافق مرغماً مثلها تماماً, فقط كي يرضي أبيه وكي يعتني بأبناء أخيه.
وللحظة غالبها شعور صبياني بالضيق لأنها لم تخبره بسخرية أن شقيقه لم يضع جانبه على هذا الفراش, فعضت على شفتيها في غـ.ـيظ, ثم ما لبثت أن هزت رأسها وتنهدت في عمق قبل أن تتمدد على فراشها وتتدثر بالغطاء متظاهرة بالنوم.
أما(طارق) فظل واقفاً في الشرفة يدخن السيجارة تلو الأخرى حتى شعر بشفتيه ترتجفان من البرد حول مبسم السيجارة الرابعة أو الخامسة فألقى نظرة سريعة على ساعة يده ليجدها تجاوزت الثانية صباحاً.
كانت لسعة البرد شـ.ـديدة وجسده بأكمله تقريباً يرتجف إلا أنه كان عاجزاً عن تصور فكرة مبيته مع(هالة) في غرفة واحدة, ناهيك عن نفس الفراش.
إنه لم يعتد رفض أي أمر من أبيه وهو ما جعله يشعر دوماً بالسلبية. حتى حينما حاول الاعتراض هذه المرة وقف لسانه عاجزاً ولم يجرؤ على النطق, وهذا ما عدّه والده موافقة ضمنية.
إنه يحب والده كثيراً ويدرك جيداً حالته الصحية والنفسية منذ وفاة ابنه البكر, وأنه أصبح أمله الوحيد وأي خلاف ينشأ بينهما قد يودي بحياة الأب. وربما كان هذا هو السبب الرئيسي لعدm اعتراضه على الزواج من(هالة).
السبب الآخر هو أبناء أخيه الذين يعشقهم كم لو كانوا أبنائه من صلبه, فهو يدرك مشاعرهم بافتقاد الأب, هو نفسه عانى_وهو الرجل_ حينما تـ.ـو.فيت أمه وهو طالب بكلية الطب.
ولكن كل هذا لا يبرر هجره لأحلامه في أن تكون له زوجة خاصة به وحده تعيش معه في بيته الذي جهزه بكل ما يحباه سوياً.
هنا سيشعر بخيال(حازم) في كل ركن, رغم ثقته بأن شقيقه لم يسكن الشقة يوماً, ولكن كل أرجاء الشقة تذكره بالراحل.
إنه لا يطمع في أن يحتل مكان شقيقه في منزله، ولا أن يفرض نفسه على (هالة), ففي هذه النقطة بالذات يجب أن تكون له شخصيته المستقلة.
كل ما يستطيع فعله هو أن يحتوي أبناء أخيه بحنانه و بإمكانه إبقاء هذا الزواج بشكل صوري يتيح له دخول المنزل دون إثارة الأقاويل وفي الوقت ذاته يرفع عنه وعن(هالة) الحرج.
تنهد عند هذا الحد وارتجافة جسده تتزايد فاستدار في بطء يراقب(هالة) من وراء الزجاج ليتأكد من استغراقها في النوم قبل أن يعود للغرفة في خفة ويغلق بابها خلفه في هدوء.
و كانت أطول ليلة في حياتيهما.
فقد ظلت(هالة) تتظاهر بالنوم حتى قرب آذان الفجر عنـ.ـد.ما غفت عيناها أخيراً.
أما هو فلم يحاول التظاهر بالنوم, بل ظل جالساً يحدق في ظلام الغرفة سانداً رأسه إلى ظهر الفراش وذراعاه معقودان أمام صدره, وبين الحين والأخر يراقب ****ب ساعته التي بدت كسلحفاة تمشي الهوينى.
وأخيراً بزغ الضياء معلناً بدء يوم جديد.
ومع ذلك لم يطرف جفنا(طارق) طلباً للنوم.
وقبل أن تعلن ساعته تمام الثامنة كانت(هالة) تفتح عينيها في كسل وعلى وجهها أجمل ابتسامة, فقد كانت عادة لديها أن تستقبل الصباح الجديد بابتسامة, ويبدو أنها فعلت ذلك متوقعة ألا يراها أحد.
لكن(طارق) رآها وبادرها بقوله ـ"صباح الخير."
لحظتها شعرت بأن هذه الابتسامة لا مكان لها, أو أن هذا ليس هو الوقت المناسب أو...
هي نفسها لا تدري لم نضت الابتسامة عن وجهها وهي ترد في هدوء ـ"صباح الخير."
ربما ظنت أن ابتسامتها تلك تعني موافقتها على الزواج, أو موافقتها على ما فعله معها, ولكنها...
قطع انسياب أفكارها صوت(طارق) الودود يقول ـ"لم أرد إيقاظك لعلمي بأنك مرهقة, لقد استيقظت قبلك بقليل."
نهضت من الفراش في سرعة وهي تغمغم في سخرية ـ"وهل نمت من الأساس؟ لقد ظللت جالساً حتى الفجر, وربما حتى الآن."
شعر بحرج بالغ وهو يسمعها, إذاً فهي الأخرى لم تنم إلا متأخراً وبالتالي أدركت أنه لم ينم و...
قطع صوتها إحراجه وهي تتابع بهدوء ـ"بعض الناس لا يتكيفون سريعاً مع تغيير فراشهم."
بدت عبـ.ـارتها وكأنها طوق النجاة من الحرج الذي يكتنفه فأسرع يقول موافقاًـ"بالفعل هذا ما حدث."
ارتسمت ابتسامة ساخرة أخرى على شفتيها تؤكد عدm تصديقها له قبل أن تسأله بهدوءـ"ما هي الأطعمة التي تحب تناولها في كل وجبة كي أعدها لك؟"
ارتفع حاجباه في دهشة قبل أن يقول ـ"لاشيء محدد, فأنا أحب كل شيء. سآكل مما تأكلون منه."
هزت رأسها وهي تتجه نحو الباب قائلةـ"حسناً, سأذهب لأعد الإفطار."
استوقفها وهو ينهض مسرعاً من الفراش قائلاًـ"ريثما تعدين الإفطار, أيكون الأولاد مستيقظين الآن؟"
ألقت نظرة سريعة على الساعة المجاورة للفراش قبل أن تقول ـ"عادة ينامون لما بعد الآن يوم الجمعة, ولكن مع وجودك فلا أشك في أنهم استيقظوا في ميعاد المدرسة."
وقد كان حدسها صحيحاً, فـ(هيثم) و(هاني) كانا منهمكين في ألعاب الفيديو, إلا أنهما هرعا إلى عمهما بمجرد أن سمعا صوته وارتميا بين ذراعيه في حب حقيقي بادلهما إياه(طارق) حين احتضنهما بحنان أبوي دافق وقبّل رأسيهما بحب قائلاًـ"صباح الخير يا أحبائي. أين(هند)؟"
انبرى(هاني)يقول في سرعةـ"الحمد لله أنها ما زالت نائمة. لقد ظلت تبكي طوال الليل وجدتي تحاول إسكاتها دون جدوى حتى نامت أخيراً في الفجر."
وتابع وهو يغوص في أحضان عمه قائلاًـ"هذا أفضل كي أحظى بنصيبها من العناق."
ابتسم(طارق) في حنان وهو يداعب شعر(هاني) قائلاًـ"لا تخف, نصيبك من العناق محفوظ تماماً."
تابعت(هالة) بعينيها حوار طفليها الباسم مع عمهما الذي عاد إلى شخصيته الطبيعية دون تحفظ وملأت الابتسامة وجهه الوسيم.
وفي هدوء اتجهت إلى المطبخ لتعد الإفطار مع أمها التي رمقتها بنظرة تعرف(هالة) معناها جيداً فقالت لتجيب عن نظراتها المتسائلة ـ"لقد ظل يدخن في الشرفة حتى الثانية صباحاً ولم ينم حتى الآن."
ولم تزد عن ذلك رغم الدهشة التي ارتسمت على ملامح أمها.
وعلى مائدة الإفطار اقترح(طارق) أن يخرجوا جميعاً في نزهة خلوية, وبدا الاقتراح مناسباً جداً للطفلين اللذين صاحا في سعادة معلنين موافقتهما.
أما(هالة) فبدت متحفظة قليلاً للخروج معه إلى العالم في ثاني أيام زواجهما مباشرة, إلا أنه قال وابتسامته تضيء وجهه ـ"أنا رجل ديمقراطي, سنأخذ بالأصوات. أنا و(هيثم) و(هاني)و(هند) نوافق على الخروج سوياً. بقى أنت وأمي,إذاً نحن أغلبية وستأتون معنا شئتم أم أبيتم."
ويبدو أن لهجته راقت لـ(هيثم)و(هاني) فقد طفقا يصفقان ويضحكان في جذل شاركتهم فيه شقيقتهم الصغرى رغم أنها لا تفهم شيئاً.
ومر اليوم الثاني بسلام.
↚جلس (طارق) في مكتبه بالمستشفى ساهماً وهو يدق بطرف قلمه على سطح المكتب بشرود، ولم ينتبه لدخول فاتنة ممشوقة القوام في أواخر العشرينات، ذات شعر بني ناعم يصل إلى منتصف ظهرها وعينين عسليتين ناعمتين وشفتين رقيقتين تختفيان خلف طلاء وردي لامع، وعلى محياها الرقيق ارتسمت ملامح متباينة وهي تتأمل شروده قبل أن تحاول أن تبث قدراً من السخرية في صوتها وهي تقول ـ"ما للعريس شارداً؟ أتفكر في العروس؟"
انتفض (طارق) للحظة وهو يخرج عن شروده وينظر إليها بعينين خاويتين، قبل أن تتحول نظرته إلى نظرة تحمل حنان العالم وهو يهمس ـ"(سمر)؟"
اقتربت (سمر) لتجلس على المقعد المواجه لمكتبه وتلتقط القلم من بين أصابعه في دلال وهي تمط شفتيها قائلة ـ"أجل (سمر) التي نسيتها بسبب عروسك".
قاوم رغبة ملحة اجتاحته في أن يحتضن كفيها وهو يلتقط نفساً عميقاً ويحتويها بعينيه قائلاً بصدق ـ"بل (سمر) التي أتنفسها، ولا يمكن أن أتخيل حياتي بدونها".
تخضب وجهها حياءً وهي تخفض عينيها أرضاً للحظات قبل أن ترفعهما إليه ثانية وهي تقول بضيق مصطنع ـ"بدليل أنك لم تكلمني طيلة اليومين الماضيين".
منحها ابتسامة حانية وهو يقول ـ"لكن صورتك لم تفارق مخيلتي لحظة...لقد أوحـ.ـشـ.ـتني".
داعبت أصابعه بطرف القلم وهي تسأله في غيرة واضحة ـ"فيم كنت تفكر؟ إنك لم تجب سؤالي".
تأمل عينيها الجميلتين وتاه فيهما للحظات قبل أن يجيبها بحب ـ"من غيرك أفكر فيه؟"
مطت شفتيها بعدm اقتناع وهي تقول ـ"ربما كنت تفكر بعروسك".
ضحك من غيرتها وهو يقول ـ"(سمر)...كيف تغارين وأنت صاحبة الفكرة؟ ألم تشجعيني على الزواج منها من أجل الأطفال؟"
هزت كتفيها وهي تقول بضيق ـ"نعم شجعتك، وألوم نفسي ألف مرة على هذا الاقتراح...فهي أكيد جميلة وشابة و...".
قاطعها بضحكة ثانية وهو يقول ـ"ولكنني لا أرى غيرك...أنت فقط ملكت قلبي".
قالت في عناد طفولي ـ"لا تنكر أنها جميلة، وأنها كفيلة بإدارة الرؤوس".
تأملها بعينين ضاحكتين وهو يقول ـ"الأنثى هي الأنثى مهما درست وارتقت في المناصب...قلت لك أنني لا أرى غيرك...كما أن (هالة) و(حازم) رحمه الله كانا متحابين، ولن تسمح لرجل آخر بأن يحل محله في قلبها. ولا تنسي أن (هالة) مجبرة على هذه الزيجة مثلي تماماً. ألم أخبرك أنها أبلغتني بموافقتها على الزواج وهي تبكي؟".
سألته في شك ـ"وهل لا تزال على موقفها الرافض للزيجة؟"
اقترب بوجهه منها عبر المكتب وهو يهمس ـ"أيكفيك أنها لا تزال ترتدي حجابها كاملاً أمامي؟"
برقت عيناها للحظات قبل أن تباغته بالسؤال ـ"ومتى تنوي إذاً إخبـ.ـار والدك بشأننا؟"
منحها ابتسامة واسعة وهو يقول ـ"انتظري شهراً أو شهرين...حينها سأخبر والدي أنني لا أرى (هالة) سوى كأختي، وأنني تزوجتها لإرضائه فقط، وأطلب منه أن أتزوج من اختارها قلبي".
عاد الشك إلى صوتها وهي تسأله بترقب ـ"أتظن أنه سيوافق؟"
لاحت نظرة قلق في عينيه لجزء من الثانية قبل أن يحاول ضخ أكبر قدر من الثقة في صوته وهو يقول ـ"ما دmت حققت له طلبه بالزواج من (هالة) والاهتمام بأبناء (حازم) رحمه الله، فلا أظنه سيمانع".
ثم تابع في سرعة وكأنه يحاول إقناع نفسه قبل أن يقنع (سمر) قائلاً ـ"أعتقد أن أبي لم يكن ليمانع زواجنا إذا أخبرته قبل وفاة (حازم) رحمه الله، ولكنه قدرنا أن يأتينا نبأ وفاته في نفس اليوم الذي قررت فيه الحديث مع أبي بشأنك".
تنهدت في عمق ولاح الضيق للحظات في عينيها قبل أن تسأله بتردد ـ"(طارق)...هل يعلم أي من زملائنا أو أصدقائك بزواجك من (هالة)؟"
هز رأسه نفياً فتابعت ببطء ـ"ولا حتى (سامي)؟"
ابتسم ليطمئنها قائلاً ـ"ولا حتى (سامي) صديقي الوحيد".
حركت أصابعها بقلق قائلة ـ"ولكنه من نفس قريتكم...إذا لم يعرف منك بأمر زواجك قد يعرف إذا سافر إلى القرية..وحينها...".
قاطعها بهدوء قائلاً ـ"لا تخشين شيئاً...(سامي) لم يعد يسافر إلى القرية منذ وفاة والديه، وجميع إخوته يقيمون في المدينة وتقريباً قطعوا صلتهم بالقرية...وحتى إذا علم بزواجي من (هالة)، فالغرض من الزيجة معروف، وأنا لم أٌقم احتفالاً ولم أدعه لحضوره كي يتضايق..إنه زواج صوري لا يعلمه إلا المقربين. أما حينما نتزوج أنا وأنت، فلابد وأن أعلن زواجنا أمام الجميع".
هزت كتفيها قائلة برقة ـ"إذا كان الأمر كذلك، فأنت أدرى يا حبيبي".
أغلق عينيه باستمتاع وهو يردد ـ"حبيبي...يالها من كلمة...أعيديها على مسامعي ثانية".
تخضب وجهها خجلاً وهي تقول بدلال ـ"لا تعتد على ذلك...حينما أصبح زوجتك ستمل من سماعها...أما الآن فهي ليست من حقك أو حقي".
عض شفتيه وهو يهمس بحب ـ"هل سأنتظر حتى زواجنا؟ على الأقل أطربي سمعي بكلمـ.ـا.تك الرقيقة حتى تروي ظمأ قلبي قليلاً".
ضحكت في خجل وهي تستدير لتغادر مكتبه قائلة ـ"عجل بزواجنا إذاً حتى لا يطول ظمأك".
وخرجت كما الفراشة الرقيقة، ليعود وحيداً يداعب قلمه بنفس الشرود.
↚انهمكت(هالة) في تصحيح اختبـ.ـارات تلاميذها حتى أنها لم تنتبه لـ(طارق) الذي اقترب منها وجلس قبالتها يراقبها في هدوء قبل أن يتنحنح ليلفت انتباهها إليه, ولقد نجح في ذلك, إذ أنها رفعت رأسها إليه في تساؤل شجعه ليقول بهدوءـ"(هالة)...كنت أريد التحدث معك بأمر هام."
عقدت حاجبيها للحظة قبل أن تخلع نظارتها الطبية الرقيقة لتقول بابتسامة هادئةـ"خيراً إن شاء الله."
تنحنح ثانية واعتدل في جلسته قبل أن يقول ـ"لقد طرأ الموضوع على عقلي فجأة وأردت أن أحادثك بخصوصه...إنه عملك."
عقدت حاجبيها طويلاً هذه المرة وهي تقول في حيرةـ"عملي؟ ماذا به؟"
قال بنفس الهدوءـ"لاشيء, لقد لاحظت أنك ترهقين نفسك في العمل بالمدرسة دون داع."
شبكت أصابع كفيها قائلةـ"بدون داع؟ وما الداعي المقنع في نظرك؟"
هز كتفيه قائلاً في ثقةـ"أن تكوني بحاجة إلى المال وهو ما ليس متوافراً في حالتك."
رمقته بنظرة طويلة قبل أن تقول بثقة هي الأخرىـ"على العكس تماماً, فكما أخبرت والدك من قبل, فأنا أعمل ليساعد راتبي مع معاش(حازم) رحمه الله في تربية أبنائي لأنني لا أنوي أن أنفق عليهم من مدخرات والدهم."
أومأ برأسه قائلاً ـ"أعلم هذا, ولكنك الآن متزوجة مني وأنا ملزم بالإنفاق عليك وعلى أبنائك."
تابعت وكأنها لم تسمعه ـ"وإذا لم تكن لاحظت, فزواجي منك اقتطع نصيبي من معاش(حازم) وبالتالي فراتبي سيعوض هذا النقص إلى حد ما."
قال بإصرارـ"قلت لك أنني ملزم بالإنفاق علي..."
قاطعته قائلةـ"على أبناء أخيك لأنهم من دmك أما أنا فلا."
هتف بها في حنق ـ"أنت زوجتي."
ارتدت نظارتها بهدوء وهي تقول بلامبالاة ـ"حقاً؟!"
احتقن وجهه في شـ.ـدة قبل أن يضغط فكيه في غـ.ـيظ وينهض تاركاً الغرفة لها في غضب واضح.
ولثوان حاولت(هالة)التركيز في عملها إلا أنها فشلت فعادت تخلع نظارتها في عصبية وذكرى مزعجة تطاردها.
تذكرت موقفاً مشابهاً قبل أكثر من عشر سنوات.
موقفاً تعرضت له مع زوجها السابق...شقيقه.
حينها كانت لا تزال عروساً لم يمض على زفافها سوى شهر أو يزيد، وكانت علاقتها بجارتها (نهى) قد توطدت كثيراً بحكم أن كلتيهما وحيدة.
كانت (هالة) تقضي أغلب وقتها في صحبة (نهى) التي لم تكن أنجبت ابنها البكر (عبد الله) بعد.
ولكن مع اقتراب العام الدراسي، انتبهت (هالة) إلى أن صديقتها ستعود إلى عملها في تدريس اللغة الإنجليزية للأطفال في مدرسة مجاورة، وحينها ستعود هي إلى الجلوس وحيدة دون أنيس.
وحينما عرضت (نهى) عليها العمل معها في المدرسة التي تحتاج إلى معلمـ.ـا.ت جدد، كادت (هالة) تطير من السعادة.
فقد أتتها الفرصة التي كانت تحلم بها...
أن تهرب من الفراغ القـ.ـا.تل الذي يحيطها في غياب زوجها وانشغال رفيقتها الجديدة.
ولأنها لم تكن تعلم بطباع زوجها جيداً...فقد توقعت منه ترحيباً وموافقة فورية على اقتراح العمل، خاصة وأن المدرسة كانت قريبة للغاية من المنزل.
لكنها فوجئت بوجه غريب تراه لأول مرة...
فقد رمقها بنظرة حادة قبل أن يشيح بوجهه بعيداً ويتظاهر بقراءة الجريدة قائلاً بجفاف ـ"انسي هذا الموضوع...فزوجتي لا تعمل".
أدهشها رد فعله وألجم لسانها للحظات قبل أن تقترب منه بوجهها وتلمس ذراعه بدلال قائلة ـ"حبيبي أرجوك...الملل يقــ,تــلني في غيابك..وبعد قليل ستعود (نهى) إلى عملها وأعود أنا إلى الفراغ الرهيب وحدي...و..".
قاطعها وهو لا يزال يقرأ الجريدة قائلاً ـ"قلت انسي هذا الموضوع...فأنا لا أتراجع في رأيي".
لم يثنها تجاهله عن محاولة استعطافه ثانية فتابعت بدلال أكثر ـ"حبيبي أنا خريجة كلية التربية، والمدرسة المجاورة بحاجة إلى معلمـ.ـا.ت جدد، و(نهى)...".
قاطعها بغضب هادر هذه المرة وهو يلتفت إليها ويلقي الجريدة على طول ذراعه هاتفاً ـ"يووووووه (نهى)... (نهى) الله يخر...".
قطع كلمته التي خرجت رغماً عنه وزفر في عمق قبل أن يستغفر ربه ويقول من بين أسنانه ـ" قلت إنني لا أتراجع في رأيي، ولا أحب أن أقول الكلمة مرتين. أنا لا أحب أن تعمل زوجتي خارج المنزل لأنني لا أقبل أن يُقال إنني أتركها تعمل لأقبض راتبها".
اتسعت عيناها في ذهول واستنكار وهي تستمع إليه وترى عصبيته الشـ.ـديدة ومفهومه عن عمل المرأة، وقبل أن تفتح فمها للاعتراض تابع هو موضحاً ـ" ولا تقارني بين وضعنا ووضع (عمر) وزوجته...فهو مسؤول عن تزويج شقيقاته وعن إعالتهن بعد وفاة والده، ولهذا سمح لزوجته بالعمل حتى تساعده قليلاً في ترتيب حياتهما الخاصة. أما أنا فأعمل هنا لنفسي وحياتي، ويكفيني ما أجنيه من عملي".
اغــــرورقت عيناها بدmـ.ـو.ع الصدmة من عصبيته وهي تقول بصوت مختنق ـ"ولكنك لم تجهز شقتنا في مصر حتى الآن".
منحها ابتسامة ساخرة وهو يقول بتهكم ـ"وهل تعتقدين أنني سأتركك تعملين حتى يُقال أن زوجتي ساهمت في شراء الشقة؟ أنا لم أشتر شقة وأجهزها لأنني لم أستقر على مكان إقامتنا حتى الآن...كنت في انتظار معرفة رأي زوجتي وأين تحب أن تسكن".
قاومت دmـ.ـو.عها التي أثرت على صوتها فخرج متهدجاً وهي تقول ـ"أنا لا أريد العمل لأنني بحاجة إلى المال...أريد أن أعمل كي أثبت ذاتي...كي أفيد الآخرين مما تعلمته...كي..".
قاطعها في سخرية قائلاً ـ"اسمعيني جيداً...أنا رجل شرقي، ولا أحب أن تُثار الأقاويل عني أو عن زوجتي لأي سبب. وكيلا أطيل عليك، فأنا لا أقتنع بالثرثرة التافهة عن حقوق المرأة وعمل المرأة ومجلس المرأة".
ثم تابع قائلاً بنظرة تجسد معنى اسمه ـ"فحقوق المرأة عندي محفوظة لدى زوجها، وعملها هو الاهتمام به وبأبنائه".
عجزت عن كبت دmـ.ـو.عها التي تمردت واندفعت تغرق وجنتيها دون قصد، وقد تحطم حلمها على صخرة أفكاره المتشـ.ـددة.
ورغم ذلك استجمعت شجاعتها وهي تراقبه يستعيد الجريدة ويرتب أوراقها المبعثرة وتقول في حيرة ـ"من هؤلاء الذين تخشى من أقاويلهم علينا؟ من هؤلاء الذين تهتم بهم أكثر مني؟"
لم يجبها بشكل مباشر وإنما قال بلهجة من أنهى الحديث ـ"(هالة)...أنا رجل البيت وكلمتي هي الأولى والأخيرة، ولا أريد مزيداً من المناقشة. وإذا أردت الهروب من الملل فأنجبي طفلاً. وقتها لن تجدي أي وقت فراغ".
عادت من ذكرياتها القديمة إلى أرض الواقع وهي تشعر بغصة مؤلمة في حلقها لم تهدأ حتى أفرجت مقلتيها عن دmعتين ساخنتين وهي تقارن في عقلها بين موقف (حازم) رحمه الله وموقف (طارق) قبل لحظات.
يا إلهي...إلى هذا الحد يختلفان وكأنهما نقيضان كالليل والنهار؟
فالاختلاف لا يقتصر على الشكل الخارجي فقط، وإنما يتعداه إلى الأسلوب أيضاً.
ولوهلة تخيلت (طارق) ثائراً مثل شقيقه ويتحدث بنفس الصرامة والحزم، ولكنها ابتسمت رغماً عنها لأنها موقنة أن الصرامة و(طارق) لا يجتمعان.
وفي هدوء، مسحت دmعتيها عن وجهها ووضعت النظارة من يدها فوق أوراق الإختبـ.ـارات، قبل أن تنهض وتخرج من الغرفة لتبحث عنه في أرجاء الشقة حتى وجدته في شرفة غرفتهما واقفاً يدخن في عصبية فاقتربت منه في هدوء قائلةـ"أتدخن هكذا كلما كنت عصبياً؟"
التفت إليها في حدة للحظات قبل أن يعود بوجهه إلى حيث كان ينظر؛ فمطت(هالة)شفتيها قبل أن تقول ـ"ألا تعلم أن التدخين ضار جداً بالصحة؟!"
نفث دخان سيجارته في قوة أشعرتها بمدى ضيقه فقالت بخفوت ـ"أنا آسفة, لم أستطع توضيح وجهة نظري بالطريقة الصحيحة."
قال بسخرية و وجهه مازال معلقاً بالأفق ـ"حقاً؟! أهناك ما هو أوضح مما قلتِ؟"
تنهدت في عمق قبل أن تقول ـ"(طارق)...الطريق لا يزال طويلاً ونحن مازلنا في بدايته. يجب أن نحتمل بعضنا البعض كي تسير بنا الحياة. أعلم أن كلينا يشعر في قرارة نفسه بأنه مجبر على هذه الحياة بشكل أو بآخر. ونظراً لأننا لم نعتد هذه الحياة بعد فسيحدث بيننا العديد من الصدامـ.ـا.ت في البداية والتي أرجو أن تختفي فوراً من حياتنا. الغرض الأساسي من زيجتنا هذه هو تربية أبنائي وأثق تماماً في أنني لن أجد لهم أباً أفضل منك. وفي الوقت نفسه, أرجوك لا تضغط علي في قبول أي شيء خاصة مسألة الإنفاق هذه حتى أعتاد على هذه الأمور."
ألقى بما تبقى من سيجارته بعيداً وهو يستدير إليها قائلا ًـ"وحتى تعتادي الأمور, هل سيظل شعرك مغطى بالحجاب كما لو كنت رجلاً غريباً عنك؟"
تصاعدت الدmاء سريعة إلى وجهها وهي لا تدري أهي دmاء الخجل أم الحرج قبل أن تقول في ارتباك لتغير الموضوع ـ"لقد نسيت وأنا أوضح وجهة نظري أن أخبرك بأهم سبب لعملي."
سألها في هدوء ـ"وما هو؟"
ازدردت لعاباً وهمياً وهي تكرر ما قالته يوماً لشقيقه ـ"أنا أعمل كي أثبت ذاتي, وكي أستفيد من دراستي الماضية, ولكنني إذا شعرت بتعارض عملي مع واجباتي الأسرية سأتفرغ لبيتي فوراً."
منحها ابتسامة صافية شجعتها على أن تواصل قائلة ـ"أعدك بذلك مقابل أن تعدني بالتوقف عن التدخين."
فوجيء بمطلبها واضطر أن يقول بـ.ـارتباك ـ"أنا أدخن فقط حين أشعر بالضيق والتـ.ـو.تر أو أكون عصبياً."
قالت بإصرار ـ"عدني."
رفع كتفيه في استسلام قائلا ًـ"أمري لله...أعدك."
↚دلفت (هالة) إلى شقتها في هدوء وهي تمني نفسها بقضاء بعض الوقت في سكينة قبل وصول ولديها العاصف،
ولكنها ما أن تقدmت خطوتين إلى الداخل حتى وجدت أمها وزوجها بل وحميها أيضاً جالسين في الردهة والصمت يلفهم.
لوهلة انقبض قلبها إلا أنها سارعت برسم ابتسامة ترحيب على وجهها لم تنجح في محو القلق من صوتها وهي تقول ـ"مرحباً بك يا عماه..يالها من مفاجأة سارة."
ثم ما لبث قلقها أن تغلب عليها فقالت في سرعة ـ"ماذا هناك؟ لماذا انتم صامتين هكذا؟ هل حدث شيء لـ(هند)؟ أين هي؟"
وبفزع قلب الأم هرعت إلى غرفة الصغيرة لتجدها نائمة في هدوء وحرارتها عادية فتنهدت في عمق وارتياح قبل أن تعود إلى الردهة ثانية وتقول بابتسامة مرتبكة ـ"آسفة لانفعالي...لقد قلقت على(هند)."
ثم ما لبثت أن قالت لحميها ـ"كيف حالك يا عماه..لم نرك منذ فترة."
تنهد الرجل قائلاً ـ"عنـ.ـد.ما لم تأت جئت أنا."
جلست إلى جوار أمها قائلة ـ"إنها المشاغل يا عماه..فأنا في العمل صباحاً وبعد الظهر أراجع مع الأولاد دروسهم وهي مسئولية مرهقة للغاية كما تعلم، لذا ما أن ينام الأولاد حتى أنام أنا الأخرى فوراً، حتى أنني في بعض الأوقات لا أرى الفراش من شـ.ـدة التعب."
قال بتهكم ـ"واضح."
عقدت حاجبيها للحظات ولم تعقب في حين تابع هو بنفس اللهجة التهكمية ـ"لقد ظننت أن هناك سبباً أكثر أهمية يمنعك من زيارة البلدة، كان يكون ركوب السيارة لمسافات طويلة خطراً عليك."
سألته في دهشة ـ"وما الذي يجعل ركوب السيارة خطراً عليّ؟ أنا لا أعاني من دوار المركبات وصحتي, والحمد لله, على ما يرام."
قال الرجل بخبث ريفي ـ"إذاً فلا يوجد شيء في الطريق."
انتبهت فجأة لمغزى حديثه فقالت بابتسامة مرتبكة وهي تتبادل النظرات مع أمهاـ"لا, لم يأذن المولى بعد."
اقترب بوجهه منها قائلاً بتهكم ـ"طبعاً لا يوجد شيء لأنه لا يأتي باللاسلكي."
احتقن وجهها بدmاء الحرج وشعرت بحرارة فائقة تلهب جـ.ـسمها كله وهي تسمع حميها يقول هذا, وأغاظها صمت زوجها الذي أحنى رأسه أرضاً, فالتفتت إلى أمها تطلب منها العون؛ ولم يكن حال الأم بأفضل من حال ابـ.ـنتها, لذا هبت(هالة) واقفة وهي ترتجف من الانفعال قائلة ـ"ماذا تعني يا عمي؟"
وضحت نبرة العزم في صوت حميها وهو يقول ـ"أعني أنه ما من زوجة صالحة تتمنع عن زوجها مهما كانت الأسباب."
أدارت عينيها إلى زوجها في حدة إلا أن وجهه كان لا يزال أرضاً, وشعرت بجفاف حلقها فقالت مدافعة عن نفسها ـ"أأخبرك هو بذلك؟"
زاد الحزم في صوت حميها وهو يقول ـ"أخبرني أو لم يفعل ليس هو المهم, المهم هو أنني أعرف بالفعل؛ كما أنني لست أعمى. (طارق) ابني تتمناه ألف فتاة لم يسبق لها الزواج بعد, ومع ذلك وافق على الزواج منك, ولا أعتقد أن هذه طريقة سويّة لرد الجميل."
شعرت(هالة) بالأرض تميد تحت قدmيها فجلست على أقرب مقعد ذاهلة وعيناها لا تفارقان وجه(طارق) في حين اعترضت أمها قائلة ـ"يا حاج(حفني), هذا الكلام لا داعي له؛ كلانا يعلم ظروف الزواج وليس لنا أن نتدخل في حياتهما."
التفت إليها قائلا ـ"أتعنين أنك على علم بما تفعله ابـ.ـنتك مع ابني؟"
أجابته بثقة ـ"هذه أسرار شخصية ولا يحق لمخلوق سواهما معرفتها, حتى أنا وأنت."
سألها بحدة ـ"أتقصدين أن الخطأ يقع الآن على ابني لأنه باح لي بمكنونات صدره؟ لأنه شاركني همومه؟"
همت بالرد عليه عنـ.ـد.ما هتفت(هالة) بـ(طارق) بصوت مبحوح قائلة ـ"قل الحقيقة, قل أنني بريئة من هذا الاتهام."
إلا أن القول لم يأت من بين شفتي زوجها الذي أحاط رأسه بكفيه وكأنه يسد أذنيه عن صوتها.
القول أتى من حميها, العمدة, فقد قال في غلظة ـ"الحقيقة هي أنك إن لم تعدلي عن أفعالك غير المسئولة تلك فسأزوجه من أجمل بنات مصر. أتفهمين؟"
قالها ونهض مغادراً الشقة لينهي المناقشة بأوامره كالمعتاد.
وساد صمت مطبق للحظات قطعه صوت(هالة) المنفعل وهي تهتف بزوجها قائلة ـ"لماذا لم تعترف؟ بل لماذا كذبت من الأساس؟ أنا تمنعت عليك؟ لماذا لم تخبره أنك قضيت ليلة زواجنا في الشرفة؟ لماذا لم تخبره بأنك غيرت نوباتك في المستشفى لتقضي الليل بطوله هناك وتنام هنا فترة وجودي بالمدرسة؟ لماذا لم تخبره بالحقيقة؟"
وأخرجت غـ.ـيظها في الحجاب الذي نزعته عن رأسها في حدة وألقته بعيداً قبل أن تسمح لدmـ.ـو.عها بالانهمار على وجهها في سرعة.
وظل(طارق) على وضعه للحظات أخرى قبل أن يقول بصوت خفيض ـ"آسف يا(هالة), لقد حدث سوء تفاهم."
هتفت من بين دmـ.ـو.عها قائلة ـ"سوء تفاهم؟! أبعد كل هذا تقول سوء تفاهم؟ ألم يلحظ والدك أنك لا ترتدي دبلة في إصبعك؟ ألم يلحظ أن زواجنا مقصور فقط على العائلة ولا يعلمه أي من أصدقائك أو زملائك؟"
فتح فمه ليجيبها عنـ.ـد.ما بادرته قائلة ـ"وحتى لو أنني ابتعدت عنك, فكيف تخبر والدك بأسرار زواجنا؟ أمي نفسها, والتي تقيم معنا تحت نفس السقف لا تدري شيئاً عن هذا, وأنت تخبر أبيك بالأكاذيب عني؟ لماذا لم تخبره بأنك أنت بدأت بالابتعاد؟"
هتف بها بـ.ـارتباك قائلاً ـ"(هالة)! أنا لم أخبره أياً مما قال."
ثم استدار يستنجد بأم زوجته قائلاً ـ"صدقيني يا أمي, أنا لست صغيراً إلى هذا الحد."
مسحت(هالة) دmـ.ـو.عها في عصبية ونهضت قائلة ـ"صغيراً أو كبيراً, لا فارق. يكفي أن تخبر أباك أنك مكره على هذا الزواج. ليس هذا فحسب, فأفعالك هذه لا تصدر عن رجل مكره على الزواج فقط, بل عن رجل يحب ويخشى أن يخـ.ـو.ن حبيبته."
اتسعت عيناه في دهشة وارتجفت شفتاه للحظات قبل أن يلتقط مفاتيح سيارته ويسرع مغادراً المنزل.
↚فتحت(هالة) باب غرفتها في هدوء ودلفت إليها في خفة كي لا توقظ(طارق) من نومه؛ فقد عاد من عمله منذ بضع ساعات فقط, ومن المؤكد أنه نائم الآن.
إلا أن حدسها خانها, إذ كان(طارق) مستيقظاً بالفعل أو بالأحرى لم ينم بعد رغم عينيه الناعستين وشعره المشعث وملابسه المتهدلة وجلوسه على طرف الفراش.
ولعلمها أنه لن يحادثها كما اعتاد منذ شجارهما الأخير, فقد اتجهت مباشرة إلى الصوان وفتحته لتأخذ ما أتت من أجله. وعلى غير توقع جاءها صوته الهاديء يقول ـ"(هالة), أريد التحدث معك."
ورغم دهشتها العارمة, فقد حافظت على جمود ملامحها وهي تستدير إليه قائلة في برود ـ"خيراً"
تنهد في عمق وهو يرمقها بعينيه العسليتين قبل أن يقول بهدوء حازم مشيراً إلى الفراش ـ"اجلسي."
مطت شفتيها قبل أن تجلس متصلبة على طرف الفراش دون أن تنبس بحرف وعيناها تنظران في عكس اتجاه جلوسه.
وللحظة ظل(طارق) يراقبها في صمت وأصابعه تغوص بين خصلات شعره البني الناعم في حركة اعتادت عليها(هالة) كلما كان زوجها مرتبكاً.
وأخيراً تمالك(طارق) جأشه ثم تنحنح قائلاً ـ"إننا لا نتحادث منذ أسبوع رغم أننا نعيش في نفس الشقة."
التفتت إليه قائلة ببرود ـ"وهل أنا السبب في ذلك أيضاً؟"
تنهد قائلاً ـ"أنا لا أبحث عن السبب, وأعتقد أنه يجب على كلانا أن يخرج ما بداخله كي تستمر الحياة كما قلت أنت من قبل."
تنهدت بدورها قائلة ـ"لقد أخرجت ما بداخلي بالفعل وأنت تعرفه جيداً, المهم هو ما بداخلك أنت. أم أنك كتوم مثل(حازم) رحمه الله؟"
هز رأسه قائلاً ـ"ربما أكون كتوماً إلى حد ما حتى على أقرب الناس إليّ, ويجب أن تثقي في أنني لم أقل لأبي أي شيء عن حياتنا سوياً. كل ما هنالك أنه سألني عن أحوالي معكم وقال بفخر أنه اختار لي أفضل زوجة, وأنني سأسعد معك إلى آخر هذا الكلام, ورداً على ذلك أخبرته بأن هناك حاجزاً نفسياً يفصلني عنك ويجعلني_حتى الآن_ لا أستطيع رؤيتك في صورة مغايرة لصورة(هالة) زوجة أخي الراحل؛ أما الأولاد فهم قرة عيني وأحبهم أكثر مما لو كانوا أبنائي بالفعل. وهكذا لم يمهلني أبي الفرصة كي أتم ما عندي لأنه اكتفى بما سمعه وأتى خصيصاً لينهي ما أسماه بالمهزلة."
أشاحت بوجهها بعيداً وهي تقول بمرارة ـ"وأي مهزلة! إنك لم تنطق حرفاً واحداً للدفاع عني, أو حتى لنفي وإيضاح سوء التفاهم الذي طرأ على حياتنا."
قلب كفيه في حيرة قائلاً ـ"كيف أعارضه؟ إن أبي صلب الرأي لأقصى مدى, لو أنك لا ت عـ.ـر.فيه فأنت بالطبع ما زلت تذكرين صلابة(حازم) رحمه الله. إنها نقطة في بحر صلابة أبي. لا يوجد من يستطيع الوقوف أمام أوامر والدي في أي شأن مهما كان الشأن ومهما كان الشخص."
التفتت إليه قائلة ـ"وأنت؟ألا تملك بعضاً من صلابة رأيه؟"
ابتسم في مرارة وهو ينهض ليقف أمام زجاج الشرفة قائلاً ـ"أنا!؟ لقد ورثت عن أمي كل شيء, الشكل والمضمون.يكفي أن ت عـ.ـر.في أنني لم أتخذ قراراً واحداً طيلة حياتي, ليس عن ضعف مني ولكن لسيطرة والدي على حياتي منذ صغري؛ لقد اختار لي الدراسة والكلية وحتى التخصص. ولا تظني أن(حازم) أفلت من هذه السيطرة, لقد كان خاضعاً لها هو الآخر. وبالطبع لا يخفى عليك أن زواجنا كان تحت ضغط شـ.ـديد منه, ولم أستطع الاعتراض كعادتي في الاستسلام."
شعرت بحديثه عنها يمزقها من الداخل. لقد كانت واثقة دوماً أن كلاهما مجبر على هذه الزيجة, لكنه لم يصرح لها بذلك أبداً, وليته ما فعل.
وهكذا هتفت به كرامتها ـ"ولماذا لم تقل لا؟"
استدار إليها قائلاً في دهشة ـ"أقول لا؟! أقول لا لدخول أجمل ثلاثة ملائكة إلى حياتي؟! أي مـ.ـجـ.ـنو.ن يفعل هذا؟"
حاولت أن تضخ الثقة في صوتها وهي تقول ـ"الأولاد سيظلوا أبناء أخيك للأبد, ولا تنس أن الزواج بالذات لابد وأن يقوم على اتفاق واقتناع وليس مجرد تنفيذ لرغبات الوالد مهما كان حبك واحترامك له."
اقترب منها وركع على ركبتيه أمامها قائلاً بصدق ـ"أنت أفضل زوجة قد يحظى بها إنسان, وتستحقين الأفضل في كل شيء, ولا أجاملك في ذلك. فمن هي في مثل جمالك وحنانك ورقي تفكيرك وسلوكك تستحق الزواج من أعظم الرجـ.ـال. صحيح أنني تزوجتك من أجل تربية أبناء أخي, إلا أنني عرفت ولمست فيك في فترة زواجنا القصيرة تلك ما لم أعرفه طيلة العشر سنوات التي كنت فيها زوجة لـ(حازم) رحمه الله. وما يؤنبني هو أنني لا أستطيع أن أكون الزوج الذي تستحقينه."
هزت كتفيها وهي تقول بكـبـــــريـاء جريح ـ"المشكلة هي أنني أنا أيضاً لا أستطيع أن أكون لك هذه الزوجة لأن كلانا يحاول الاعتراض لأول مرة في حياته ونريد تنفيذ رغباتنا نحن, خاصة رغباتك أنت."
مط شفتيه في حيرة قبل أن ينهض قائلاً بـ.ـارتباك ـ"لقد قلتِ في نهاية شجارنا الماضي جملة تحمل كل أبعاد المشكلة بالنسبة لي."
عقدت حاجبيها وهي تلتفت إلي حيث يقف قائلة ـ"أية جملة تقصد؟"
أخذ نفساً عميقاً كي يشجعه على الإجابة قائلاً ـ"لقد قلت أنني أحب وأخشى أن أخون حبيبتي."
غاص قلبها بين ضلوعها وامتقع لونها وهي تسأله بصوت مرتجف ـ"وماذا تعني هذه الجملة بالنسبة إليك؟"
شبك أصابعه بحركة عصبية وهو يحاول إيجاد الكلمـ.ـا.ت المناسبة, وأخيراً حسم أمره قائلاً ـ"لقد كان حدسك صحيحاً, فأنا مرتبط."
وكانت صدmة قوية لها تضاف إلى قائمة الصدmـ.ـا.ت في حياتها.
فعنـ.ـد.ما نطقت عبـ.ـارتها كانت في لحظة غضب, ولم تتوقع أن يكون تنبؤها حقيقياً.
ولكنه حقيقة, لقد قال أنه مرتبط.
وفي ذهول استمعت إليه يروي في سرعة قصة ارتباطه والكلمـ.ـا.ت تتدفق كالسيل من بين شفتيه, يخشى أن يتوقف لحظة فيفقد شجاعته للأبد.
سمعته يقول في حرج ـ"(سمر) زميلتي في المستشفى وأعرفها منذ زمن, كنت في الامتياز وكانت هي في السنة الأولى, وبعدها عملنا سوياً واكتشفنا وجود مشاعر جميلة بيننا. لن أطيل عليك, فهي في رأيي فتاة مثالية في كل شيء، وبها جميع الصفات التي أتمناها في شريكة حياتي؛ ولا أقصد أنك لا تملكين هذه الصفات. أنت بالطبع تفهمين قصدي."
سألته بصوت خافت ـ"وهل تعلم بأمر زواجنا؟"
قفزت نبرة حماسية إلى صوته وهو يقول ـ"(سمر) تعرف كل شيء من البداية لأننا نتشارك في التفكير دوماً, ولا أخفي عليك أنها هي من شجعتني على إتمام زواجنا لأنها جربت مرارة اليتم وذل زوج الأم. إنها مثالية بحق."
أومأت(هالة) برأسها إيجاباً وهي تقول ـ"فعلاً, ليس من السهل أن تثق فتاة في حبيبها وأن تجعله يتزوج من أخرى مهما كانت الأسباب."
تنحنح ليكمل في حرج ـ"ولكن كان لها شرطاً واحداً وهو أن يكون زواجي منك صورياً, على الورق فقط. وطبعاً لم أعترض لأن هذه أبسط حقوقها."
أزاحت خصلة نافرة من شعرها المتمرد خلف أذنها في حركة عصبية قبل أن تتنحنح بدورها لتكسب صوتها قوة ليست فيه وهي تقول ـ"وهل يعلم والدك بهذا الارتباط؟"
هز رأسه نفياً وهو يضع كفيه في خاصرته قائلاً ـ"لقد توفى(حازم) قبل أن أفاتح أبي مباشرة. وبالطبع لا أمل في مفاتحته في ذلك الأمر الآن."
هزت رأسها في صمت ثم تنهدت في عمق قبل أن ترفع عينيها إليه قائلة ـ"أعتقد أن كثيراً من أمور حياتنا قد اتضحت الآن, صحيح متأخراً ولكن أفضل من لاشيء."
قالتها وهي تنهض لتغادر الغرفة فأسرع يقف أمامها وهو يسألها بحنانه المعهود ـ"(هالة) هل ضايقك حديثي؟ هل أنت حزينة؟"
رسمت ابتسامة هادئة على شفتيها وهي تقول ـ"لقد أسعدني حوارك معي وأراحني كثيراً, أنا حزينة لحالك أنت و(سمر). ولكن اطمئن, ستسعدان قريباً جداً."
وتركت الغرفة في هدوء وقلبها يقطر دmاً.
↚جلست(هالة) إلى جوار طفلتها الصغيرة تهدهدها لتنام, وشرد ذهنها بعيداً في حوارها مع(طارق).
لقد فتح لها قلبه وصارحها بكل ما بداخله,
صارحها بما شعرت به منذ البداية وتمنت لو كان خيالاً...
صارحها بأن قلبه ليس لها, بل لأخرى.
أخرى تحبه بشـ.ـدة,
أخرى ذات قلب كبير,
أخرى ذاقت مثلها مرارة اليتم,
أخرى ارتضت أن تقاسمها أسرة أخرى حبيبها من أجل مصلحة أطفال فقدوا الأب وبعدهم في سني طفولتهم الأولى.
يالها من فتاة, فتاة شجاعة.
والأهم أنها واثقة من حب(طارق) لها.
ودون أن تدري انسابت دmـ.ـو.عها تغرق وجهها وعقلها يعمل في جميع الاتجاهات.
فحتى حينما كان عقلها يحذرها من وجود أخرى في حياة(طارق) لم تحاول اتخاذ أي موقف استعداداً لمثل هذا اليوم, لم تفكر في وضعها الجديد, وبالتأكيد لم تفكر فيما ستفعله لحل مشكلة(طارق).
إنه الآن يقضي أغلب أوقات فراغه بصحبة أبنائها, ولكنه حين يرتبط بحبيبته تلك لن يروه باستمرار كما اعتادوا؛ فماذا ستقول لهم حينها؟ أتخبرهم بزواجه من أخرى أم تخفي عليهم الخبر رأفة بطفولتهم؟
أفكار عديدة استغرقتها ودmـ.ـو.عها تواصل الانهمار على وجنتيها, فلم تشعر بدخول أمها الغرفة إلا حين سمعتها تسألها في قلق ـ"أتبكين يا(هالة)؟ ماذا حدث؟"
رفعت(هالة) عينيها في سرعة إلى أمها ومسحت دmـ.ـو.عها بأصابع مرتجفة وهي تزدرد لعابها قائلة بصوت مختنق ـ"لا شيء يا أمي, لم يحدث شيء."
جلست الأم أمام ابـ.ـنتها وأشارت إلى عينيها الباكية قائلة ـ"إنها ليست دmـ.ـو.ع تثاؤب, لقد كنت تبكين. أخبريني بالحقيقة."
صمتت(هالة) للحظات قبل أن تقول بخفوت ـ"لقد تحدث(طارق) معي هذا الصباح في غرفتنا."
ارتسمت السعادة على وجه الأم وهي تقول ـ"الحمد لله, هذا مؤشر جيد. لماذا تبكين إذاً؟"
تنحنحت(هالة) قبل أن تقول بتردد ـ"لقد صارحني بسبب ابتعاده عني منذ زواجنا".
لمحت الفضول في عيني والدتها فتابعت في سرعة ـ" إنه مرتبط بزميلة له ويريد الزواج منها, وهي التي شجعته على الزواج مني في مقابل أن يكون زواجنا صورياً, مجرد ورقة تبيح له دخول البيت ومتابعة الأولاد دون حرج, وهو وافقها لأنه رأى ذلك أبسط حقوقها."
اتسعت عينا أمها في دهشة وهتفت باستنكارـ"ماذا تقولين؟"
داعبت(هالة) شعر صغيرتها وهي تقول ببرود يخفي غليان أعصابها ـ"ما سمعته."
ازداد استنكار الأم وهي تسألها ـ"وهل يعلم الحاج(حفني) بذلك؟"
هزت(هالة) رأسها نفياً قائلة ـ"كلا, لقد توفى(حازم) قبل أن يفاتح (طارق) والده بأمر زواجه, وبعدها أصّر عمي على زواجنا فلم يجد وقتاً لإخبـ.ـاره."
قالت أمها بثقة ـ" ولماذا يخبره من الأساس ما دام تزوج بالفعل؟ هل هي أجمل منك؟"
تنهدت(هالة) في عمق قائلة ـ"المسألة لا تتعلق بالجمال بل بالقلب, إنه يحبها ولا يتخيل سواها زوجة له. كما أن من حقه أن يكون له زوجة خاصة به هو فقط, فتاة لم يسبق لها الزواج ولم تكن لرجل من قبله."
أشاحت أمها بيدها في ضيق قائلة ـ"سيرفض الحاج(حفني) مجرد الكلام في الموضوع. لقد قال بنفسه أنه لن يجد لابنه زوجة أفضل منك و.."
قاطعتها ابـ.ـنتها قائلة ـ"بل سيوافق يا أمي. مع استمرار ابتعاد(طارق) عني سينفذ أباه تهديده ويزوجه كي يفرح بأبنائه كما قال."
ربتت على كف ابـ.ـنتها قائلة بحنان ـ"ألهذا كنت تبكين؟"
أومأت(هالة) برأسها في صمت, ثم قالت بصوت خـ.ـنـ.ـقته الدmـ.ـو.ع ـ"كنت أبكي قلة حظ أبنائي, لقد ورثوه مني. في البداية فقدوا أباهم, وبعد أن ظننت أن الدنيا ابتسمت لي ولهم بوجود عمهم إلى جوارنا اكتشفت موضوع زميلته تلك, وانقلب كل شيء حولي."
رمقتها أمها بنظرة طويلة قبل أن تسألها مباشرة قائلة ـ"فيم تفكرين الآن إذاً؟"
هزت كتفيها في حيرة مجيبةـ"لا أدري. رغم توقعي لوجود أخرى في حياته، لم أكيف نفسي على هذا الوضع. لقد كان خالصاً لأولادي, والآن سيقسم وقته بيننا وبينها. ماذا سأقول للأولاد حينها؟ وإذا طلبت الطـ.ـلا.ق فهل سيوافق؟ وهل سيسمح حماي بذلك؟"
ربتت أمها على كفها ثانية وهي تنصحها بحكمة وثقةـ"لا تتسرعي في طلب الطـ.ـلا.ق أو حتى التفكير فيه. فكري أولاً وأخيراً في أبنائك. تذكري ضحكاتهم معه كلما جلسوا سوياً, وتذكري أن ابـ.ـنتك لا تعرف أباً سواه, وأول كلمة نطقتها كانت’بابا‘ وكانت موجهة إليه مثلما فعل أولادك دون استشارتك. لو فكرت ووجدت أن أبنائك سيصبحون أسعد حالاً بعد انفصالك عن عمهم فالرأي الأخير لك."
سالت دmـ.ـو.ع(هالة) ثانية وهي تقول في حيرة ـ"إنهم الآن أسعد حالاً مما كانوا في حياة(حازم), كما أنهم تغلبوا على حـ.ـز.نهم لفقده وعادت درجاتهم الدراسية للارتفاع ثانية, وأصبحت الضحكة لا تفارق وجوههم. أنا نفسي أشعر بالأمان في وجوده, ولا أدري ماذا سأفعل حين تقاسمني فيه أخرى."
صارحتها أمها بالحقيقة المؤلمة بقولها ـ"إنه لم يكن لك يوماً كي تتقاسمينه معها, إنه لها منذ البداية. ثم أن وضعك معه لن يتغير, ستظلين زوجته على الورق شئت أم أبيت, وإذا استخدmت عقلك ستظلين سيدة الموقف."
عقدت(هالة) حاجبيها ومسحت دmـ.ـو.عها في سرعة وهي تسأل أمها باهتمام ـ"كيف؟"
قالت أمها ببساطة ـ"إذا كانت هي كريمة كوني الأكرم. ساعديه في الزواج منها وحوليه إلى أخ لك, وقتها لن تعودين إلى الشعور بالخجل كلما رآك وشعرك مكشوف أو وقميصك مرفوع الأكمام. لقد صارحك بأنه يحب أخرى, وضمنياً بأنه لن يحولك من خانة زوجة الأخ إلى خانة الزوجة. لذا يمكنك استغلال ذلك الوضع لتتحولي إلى خانة الأخت أو الصديقة التي يخبرها بكل ما يضايقه, وقتها حين تنصتين إليه وتهتمين بإبداء النصيحة ستصبحين بالنسبة إليه أهم من زوجته الجديدة. أفهمت؟"
هزت رأسها إيجاباً وهي تقول ـ"نعم, سأحاول."
ربتت أمها على كتفها قائلة ـ" حاولي وانجحي. أنت ت عـ.ـر.فين مسبقاً الغرض من هذه الزيجة, اجعليها إذاً لهذا الغرض فقط."
وبدت هذه النصيحة أفضل نصيحة في الوقت الحالي.
↚طرقت(هالة) باب غرفتها المفتوح في هدوء فالتفت إليها(طارق) وعلى وجهه ابتسامة ترحيب عـ.ـذ.بة ودعاها للدخول قائلاً ـ"ادخلي يا(هالة), لماذا تقفين عندك هكذا؟"
هزت كتفيها وهي تدخل الغرفة في بطء وقالت بخفوت ـ"لقد أتيت لعرض مساعدتي في ترتيب حقيبتك إذا لم يكن لديك مانع."
اتسعت ابتسامته وهو يقول بمرح ـ"بـ.ـنت حلال, أنا بحاجة إليك بالفعل. لقد اشتريت مجموعة ملابس جديدة وأريد معرفة رأيك فيها."
تأملت مشترياته الجديدة بدقة قبل أن تقول بإعجاب ـ"ما شاء الله تبـ.ـارك الله, ذوقك رفيع للغاية, جميعهم قمة في الأناقة."
ثم أردفت في خبث ـ"أهو ذوقك أنت أم ذوق العروس؟"
قال بـ.ـارتباك خجول ـ"مزيج من ذوقينا. الحمد لله أنها راقتك."
قالها وانهمك في إعداد حقيبته؛ ومضت لحظة من الصمت قبل أن تسأله(هالة)في اهتمام ـ"في أي قاعة ستقيم حفل الزفاف؟"
رفع وجهه إليها قائلاً في دهشة ـ"أي حفل زفاف؟"
هزت كتفيها قائلة ببساطة ـ"زفافك أنت و(سمر)."
أشاح بكفه قائلاً ـ"آه, إننا لن نقيم حفلاً, سأذهب مع أبي إلى بيتهم ونعقد القران ثم نتجه إلى شقتنا مباشرة."
هتفت وحاجبيها معقودان في استنكارـ"ماذا؟! وهل وافق عمي على هذا الكلام؟ بل كيف وافقت(سمر)؟"
قال ببساطةـ"الموضوع ليس بهذه الأهمية, إنها مجرد ليلة مثل أي ليلة أخرى."
رفعت سبابتها معترضة بقولهاـ"لا, ليست كأي ليلة أخرى, إنها ليلة واحدة في عمر الجميع. يكفي أن خطبتكما كانت عائلية ولم يحضرها أي من زملائكما بالمستشفى, ثم إن حفل الزفاف_مهما كان بسيطاً_هو أقل مكافأة لـ(سمر) على انتظارها لك طيلة هذه المدة."
قال بتردد ـ"ومن سأدعو؟ زملائنا فقط؟"
قالت بحماس ـ"دع والدك يدعو أصدقائه ومعارفه, دعه يفرح ولو لليلة. إنه لم يحضر زواجي على(حازم), فليحضر حفل زفافك أنت."
جلس على حافة الفراش وهو يسألها باهتمام طفولي ـ"بالمناسبة, أنت لم تخبريني عن حفل زواجك على(حازم)؛ لقد كنت ضابطاً احتياطياً بالجيش وقتها."
ابتسمت في حرج قائلة ـ"إنها قصة طويلة."
أشار إليها بالجلوس قائلاً بحماس ـ"اجلسي إذاً وقصيها عليّ."
وبعد عدة توسلات من جانبه رضخت أخيراً وجلست على مقعد مواجه للفراش وشردت بذهنها بعيداً, إلى ذلك اليوم قبل أحد عشر عاماً أو أكثر.
كانت في انتظار عودة خطيبها إلى مصر من أجل الزفاف كما وعدها، ولكن مديره الأجنبي بالشركة رفض منحه إذناً بالسفر. واضطر (حازم) حينها إلى توكيل والده في عقد زواجه عليها.
ورغم غياب (حازم)، أصر ’حضرة العمدة‘ على إقامة حفل كبير في قريته بمناسبة عقد زواج نجله الأكبر.
وبعد أن أنهى (حازم) ترتيبات استقدام عروسه، فاجأها بطلبه...
فقد طلب منها أن ترتدي فستان الزفاف وهي قادmة إليه.
يومها نقلت أسلاك الهاتف ضحكتها الجميلة إلى أسماعه وهي تقول بدهشة ـ"كيف أرتدي الفستان دون أن تكون معي؟"
ثم عادت الأسلاك تنقل إليها صوته الهادئ، مشوباً ببعض السعادة هذه المرة، وهو يقول ـ"من قال هذا؟ سأستقبلك في المطار بالطبع...وبصحبتي مفاجأة".
لوهلة شعرت بقبضة بـ.ـاردة تعتصر قلبها حينما أتى على ذكر المفاجأة...
فقد خيل إليها شيطانها أنه متزوج بالفعل، وأن زوجته الثانية_أو بالأحرى الأولى_ ستكون معه في استقبالها.
لكنها سرعان ما نفضت هذه الفكرة عن رأسها وهي تضع سماعة الهاتف بعد انتهاء المكالمة.
وكأي عروس طبيعية، استعدت (هالة) ليوم زفافها، حتى وإن كان زوجها على بُعد آلاف الأميال. فذهبت إلى مصففة الشعر وارتدت فستاناً أبيضاً غاية في الرقة والنعومة، حتى بدت كالأميرة الرقيقة.
غير أنها كانت تذوب خجلاً من نظرات المسافرين في المطار وعلى متن الطائرة، ما بين مهنئ لها ومشفق عليها لأنها وحيدة في هذا اليوم الهام.
وأخيراً هبطت الطائرة على أرض الدولة التي تبدأ بها حياتها الجديدة،
حياة جديدة مع زوج لم تعتد عليه بعد،
زوج لم تره سوى بضع مرات منذ تقدm لخطبتها، ولم تره منذ سفره بعد حفل الخطبة بأسبوع.
ورغم حرارة الجو الشـ.ـديدة التي استقبلتها لحظة فتح باب الطائرة، شعرت برجفة قوية تهزها لحظة أن رأت بعينيها أضواء صالات المطار عن بُعد.
وبأصابع بـ.ـاردة مرتجفة حملت طرف فستانها قليلاً عن الأرض حتى تستطيع نزول سلم الطائرة وهي تحاول أن تبدو متماسكة وأن ترسم ابتسامة هادئة على شفتيها...فهي العروس التي لا تزال الأنظار تتجه إليها.
وتقديراً من إدارة المطار لوضعها كعروس، فوجئت بتعاون العاملين معها في حمل حقائبها وإنهاء إجراءات الدخول، تماماً مثلما حدث معها في مصر.
وما أن أنهى الضابط المكلف بمرافقتها الإجراءات حتى سلمها جواز السفر وهو يقول بابتسامة ودود ـ"مبروك يا عروس".
تخضب وجهها خجلاً وهي تلتقط الجواز وتشكره بخفوت وهي تنقل عينيها خارج الحاجز الحديدي علها ترى زوجها.
ولم يطل انتظارها...فخلف الحاجز الحديدي لمحت وجهاً مألوفاً والابتسامة تغلف ملامحه وهو يلوح لها بسعادة.
ولوهلة غزت الدهشة ملامحها وهي تتأمله...
فقد كانت تتوقع أن ترى (حازم) مرتدياً ملابس العمل وحذاء رياضي وخوذة معدنية على رأسه...
لا تدري لماذا رسم شيطانها هذه الصورة في خيالها، رغم أنها لم تر خطيبها يوماً على غير مستوى أناقته المعتاد.
ولكنها رأته كعادته...وسيماً بملامحه المصرية المميزة وشعره الأسود المصفف بعناية وابتسامته الجذابة وسترته السوداء الأنيقة ورباط عنقه الزاهي...
كان أوسم رجل رأته في حياتها، نظراً لأن علاقتها بالرجـ.ـال محدودة.
ولكنه كان الأفضل في نظرها.
وللحظات ظل نظرها معلقاً بوجهه حتى شعرت به يقترب منها ويصافحها هامساً ـ"حمداً لله على سلامتك يا عروسي".
تخضب وجهها خجلاً وهي تشعر بكفيه تحتضنان كفيها قبل أن يحتضن ذراعها ويصحبها إلى خارج المنطقة الجمركية ويشير لأحد أصدقائه بدفع العربة التي تحمل حقائبها إلى حيث سيارتهم.
وللمرة الأولى التقت (هالة) ب(نهى) وزوجها (عمر) وباقي أصدقاء (حازم).
وانطلقت سياراتهم بعيداً عن المطار في زفة صاخبة جابت شوارع المدينة متجهة إلى أحد الفنادق الفاخرة.
وهناك كانت مفاجأة جديدة للعروس.
فقد أقام لها (حازم) حفلاً مع أصدقائه إستمر حتى بعد منتصف الليل في هذا الفندق، قبل أن يعودا إلى منزلهما في زفة صاخبة أخرى، و...
قطع ذكرياتها صوت (طارق) وهو يقول بحماس ـ"أين ذهبت؟ أخبريني ماذا فعلتما؟"
عادت إليه بعينيها ومنحته ابتسامة هادئة وهي تقول ـ"كانت أمنية حياتي أن تزفني السيارات المزينة، ورغم أنني لم أخبر (حازم) بهذه الأمنية، فقد حققها لي".
بادلها الابتسامة وهو يقول ـ"لو الأمر يتوقف على زفة السيارات، فزملائنا بالمستشفى لن يبخلوا علينا بهذه الخدmة".
دفعته برفق في كتفه وهي تقول ـ"زفة السيارات كانت المرحلة الأولى من المطار إلى الفندق...ثم إتجهنا بعدها إلى فندق خمس نجوم مع أصدقاء (حازم) وزوجاتهم، وضحكنا ورقصنا وغنينا، ثم قطعنا كعكة الزفاف ذات الأدوار الخمسة.كان إحتفالاً مصرياً بعيداً عن مصر، ولا أخفيك أن أغلب المحيطين بنا من العرب كانوا مندهشين لأن حفلات الزفاف عندهم تختلف كثيراً. المهم أنه عنـ.ـد.ما أنهينا الحفل ذهبنا إلى شقتنا بزفة سيارات ثانية بعد منتصف الليل بساعتين أو أكثر, وأنت تقول زفة السيارات تكفي؟"
ارتفع حاجباه في دهشة قائلاً ـ"(حازم) فعل كل ذلك؟"
أجابته بثقة ـ"نعم, وكله مسجل على شريط فيديو في المكتبة, لقد كانت ليلة لا تُنسى".
لم يحاول (طارق) إخفاء دهشته وهو يقول "تتحدثين عن (حازم) آخر غير الذي أعرفه".
دافعت عن شريك حياتها السابق في حماس قائلة ـ"لقد كان (حازم) رحمه الله في منتهى الأناقة دوماً، وإن كنت مندهشاً من إبتسامته ومرحه وخفته، فقد كانت نادرة بالفعل ولم يكن يظهرها سوى في المناسبات الخاصة جداً، وهذا ينطبق بالتأكيد على ليلة زفافنا."
هز(طارق) كتفيه قائلاًـ"لن أندهش لو اكتشفت أنك ت عـ.ـر.فينه أكثر مني. صحيح أننا كنا شقيقين إلا أنه كان يحب الاحتفاظ بمشاعره وأسراره الخاصة لنفسه دوماً."
قلبت كفيها قائلة في هدوء ـ"أنا لا أنكر هذه الصفات فيه, لقد كان اسماً على مسمى؛ لكنه كان يرخي قبضته عن مشاعره قليلاً بين الحين والآخر, خاصة بعد ميلاد(هيثم)."
تأملها للحظات قبل أن يتنهد هامساً ـ "رحمه الله...كنت أتمنى حضوره زفافي، ولكن قدرنا ألا يرى أحدنا الآخر في هذا اليوم".
شعرت بغصة تعترض مجرى تنفسها فتنحنحت وهي تلتقط نفساً عميقاً وتحاول العودة إلى نقطة النقاش الأصلية قائلة بحماس مصطنع _"المهم هل عرفت لماذا أريدك أن تقيم حفلاً لك ولـ(سمر)؟ كي تبقى ذكراه حية أمامكما مهما بَعُد بكما الزمن."
عقد حاجبيه مفكراً للحظات قبل أن يقول بحسم ـ"حسناً, سأناقش(سمر) في هذا الموضوع وأحجز في أي قاعة متاحة قريباً."
نهضت(هالة) من مقعدها قائلة ـ"هكذا تكون الفرحة, أدعو الله أن يجعل جميع أيامكما سعادة وهناء."
وتركته في الغرفة غارقاً في بحر من حنانها.
↚فتح (طارق) عينيه بتكاسل وأدارهما إلى الفاتنة التي توسدت ذراعه ونامت في وداعة، فابتسم وداعب وجنتها وطرف أنفها وهو يهمس بحب ـ"(سمر)...(سموري)...صباح الخير يا حبي".
منحته ابتسامة ناعمة دون أن تفتح عينيها وهي تقول بدلال ـ"صباح الخير".
طبع قبلة دافئة على جبهتها وهو يهمس ـ"صباحية مبـ.ـاركة يا أجمل عروس".
فتحت عينيها لتطالعه بعينين عسليتين ناعستين وهي تجيبه بنعومة ـ"صباحية مبـ.ـاركة يا أحلى عريس".
داعب طرف أنفها ثانية قائلاً ـ"ألن تستيقظي؟ إنها الظهيرة الآن".
عقدت حاجبيها الجميلين بتبرم مصطنع قائلة ـ"حبيبي...إنه أول أيام زواجنا...فلماذا نستيقظ الآن"؟
تسللت أصابعه تدغدغها وهو يجيب بلهجة عابثة ـ"لأن سرعان ما سيأتي المهنئون بالزفاف، وينبغي أن نستعد لاستقبالهم مسبقاً".
تلوت بين ذراعيه وهي تضحك من دغدغته قائلة ـ"لن نفتح لهم الباب".
واصل دغدغتها وهو يحاول أن يبدو جاداً ـ"أنترك أبي ووالدتك على الباب؟ يالنا من جاحدين".
حاولت أن تبعد أصابعه عنها وهي تحاول الفكاك من الدغدغة التي تجعلها تضحك بهستيريا ـ"حسناً...حسناً...لقد استيقظت".
توقف عن مداعبتها وأدار وجنته إليها قائلاً ـ"أين قبلة الصباح"؟
ضحكت وهي تقبل وجنته قائلة ـ"أحلى قبلة صباح لأحلى عريس".
قالتها ثم نهضت تجلس على الفراش إلى جواره وتتأمل عينيه العسليتين المائلتين إلى اللون الأخضر للحظات قبل أن تهمس ـ"أحبك".
تاه في عينيها هو الآخر قبل أن يقول كالمنوم مغناطيسياً وهو يداعب شعرها الكستنائي ـ"الحمد لله أنني تزوجتك...لقد كنت حلماً صعب المنال".
تناولت أصابعه بين يديها وهي تقول بدلال ـ"والحمد لله أنه تحقق."
رفع كفيها إلى شفتيه يلثمهما بحب قائلاً ـ"أحبك يا (سمر)، أحبك وأعدك أن أملأ كل أيامنا حباً".
تاهت في عينيه ثانية ثم أراحت رأسها على صدره وهي تهمس بتبرم طفولي ـ" ألا يدرك الضيوف أن الحفل انتهى متأخراً"؟
ضحك لصوتها الطفولي ومسد شعرها بحنان قائلاً ـ"حبيبتي إنه يوم واحد فقط...سنغادر إلى الإسكندرية غداً إن شاء الله ولن يزعجنا أحد هناك".
ضحكت بدورها وهي تقول بصوت حالم ـ"آه...كم أعشق الإسكندرية، ومن المؤكد أن عشقي لها سيزداد معك".
عاد يدغدغها ثانية وهو يقول ـ"هيا إذاً يا عاشقة...فأنا أتضور جوعاً".
تلوت ثانية وهي تضحك قائلة ـ"هيا معي إذاً".
تركها وهو يعدل ياقة منامته قائلاً بلهجة سينمائية ـ"لقد اعتدت على تناول الإفطار في الفراش".
نهضت واقفة وجذبته من ذراعه وهي تمثل الصرامة قائلة ـ"لاااا...الرجـ.ـال هنا لا يمثلون الدلال...هنا تقف معي في المطبخ وتساعدني".
نهض خلفها وهو يقول متبرماً ـ"ولكن (هالة) ت...".
قاطعته بنظرتها التي حار في تفسيرها وهي تقول ببرود كسا صوتها فجأة ـ"أنا (سمر)، ولست (هالة)".
تدارك نفسه سريعاً وهو يضمها إليه ويقبل رأسها قائلاً ـ"أسف حبيبتي...لم أقصد".
وكزته في كتفه بدلال ثم جذبته من كفه ثانية خارج الغرفة، وتبعها في هدوء إلى المطبخ ووقف عاقداً ذراعيه أمام صدره وهو يتابعها بعينيه وهي تفتح المبرد وتلتقط أطباقاً مغلفة من داخله قبل أن ترفع نظرها إليه قائلة ـ"حبيبي...لا تقف مكتوف الأيدي هكذا...هيا أشعل الموقد وساعدني في تسخين الطعام".
هز رأسه وهو يتقدm إلى داخل المطبخ ويتجه إلى الموقد قائلاً ـ"لم أسمع عن عريس يدخل المطبخ صبيحة زواجه".
التفتت إليه تتأمله للحظات ثم تناولت كفيه بين راحتيها قائلة بحزم ـ"حبيبي...ينبغي أن نضع قواعداً للتعامل في المنزل...كيفية المساعدة وتقسيم الأعمال بيننا".
رفع حاجبيه بدهشة حقيقية وهو يقول ـ"هل أنت جادة؟ لقد ظننتك تمزحين".
ضحكت وهي تتأمل دهشته قائلة ـ"ما سبب دهشتك هكذا؟ أنت طبيب وأنا طبيبة، أنت تعمل في مستشفى وأنا أيضاً...إذاً فكلانا يعود إلى المنزل مرهقاً، ولابد من التعاون سوياً في المنزل".
أذهله حديثها الواثق وكأنها أعدت لهذا الحديث عدته من قبل، خاصة حينما فتحت أحد أدراج المطبخ والتقطت منه دفتر ملاحظات وقلماً واتجهت بهما إلى طاولة تتوسط المطبخ وجلست أمامها قائلة ـ"هيا نتفق على هذه النقاط سوياً".
جلس أمامها على الطاولة وهو يقول بضيق ـ"حبيبتي...هذا الحديث لا يليق بأول أيام زواجنا...إنه شهر العسل...العسل يا(سمر) وليس الطبيخ والغسيل".
رفعت عينيها إليه وقد شعرت بنبرة الضيق في صوته وسمعته يتابع ـ"هذه القواعد والنقاط تستطيع الانتظار حتى نعود من الإسكندرية...ممكن"؟
مدت كفيها عبر الطاولة تحتضن أصابعه وهي تقول بابتسامة ودود ـ"طبعاً يا حبيبي...يالي من حمقاء لأعكر صفو يومك بهذا الطلب".
رفع كفيها يلثمهما بحب وقد اختفى شعوره بالضيق وهم بقول شيء ما حينما قاطعه صوت جرس الباب المفاجئ الذي افزع عروسه و.جـ.ـعله يمط شفتيه في تذمر قائلاً ـ"استغفر الله العظيم...لقد استيقظنا للتو يا جماعة...ألديهم كاميرا تصوير في الشقة أبلغتهم باستيقاظنا"؟
ضحكت وهي تتأمل تعبيرات وجهه المتبرمة ثم ما لبثت أن نهضت قائلة ـ"لا تغضب...سأفتح الباب و...".
قاطعها وهو يهب من مقعده ويمسكها من معصمها هاتفاً ـ"أجننت؟ كيف تفتحين الباب هكذا"؟
قالت بحرج ـ"حبيبي سأمر بغرفة النوم في طريقي وارتدي معطفاً حريرياً".
جذبها إليه وهو يقول في خبث ملوحاً بإصبعه في تحذير ـ"لا حريري ولا حتى صوف...أول قاعدة في البيت: ممنوع فتح الباب وأنت في لباس النوم".
وكزته في كتفه بدلال قائلة ـ"لقد ظننت أن القواعد ستنتظر عودتنا من الإسكندرية".
داعب طرف أنفها وهو يقول ـ"إلا هذه القاعدة...لا أحب أن يرى زوجتي غيري...هيا اذهبي وغيري ملابسك".
قبلت سبابتها ثم وضعتها على شفتيه قائلة بنفس الدلال ـ"ماشي كلام سي السيد".
قالتها واستدارت متجهة إلى غرفتهما، بينما عاد جرس الباب إلى الرنين ثانية فعدل منامته واتجه نحو الباب، ثم توقف أمام مرآه مجاورة ليتأكد من هندامه ويصفف شعره الناعم بأصابعه قبل أن يلتقط نفساً عميقاً ويفتح الباب.
↚اقترب (طارق) من باب الشقة وألقى نظرة سريعة عبر العين السحرية قبل أن يلتقط نفساً ثانياً ويرسم ابتسامة واسعة على وجهه وهو يفتح باب الشقة ليرى وجه والده وحمـ.ـا.ته وزوجها وابنيه الشابين، فقال بدهشة وهو يدعوهم إلى الدخول ـ"أهلاً وسهلاً...هل حضرتم معاً"؟
ضحك والده وهو يجيبه ـ"لقد التقينا على باب الشقة".
صافحته السيدة التي تشبهها زوجته وكأنها نسخة بالكربون قائلة ـ"صباحية مبـ.ـاركة يا عريس...هل أزعجناكم"؟
ضحك (طارق) وهو يفسح الطريق لهم قائلاً ـ"البيت بيتكم يا جماعة...تفضلوا بالدخول".
دلفت السيدة التي لم يتجاوز عمرها الخمسين عاماً، ولم تفقد جمالها بعد، وتبعها زوجها الذي لا يبدو مريحاً، وابناه اللذان جالا ببصريهما في أرجاء الشقة قبل أن يتخذا مقاعدهما في صدر الردهة وأعينهما لا تزال تجوب الشقة.
لم يعرهما (طارق) اهتماماً وهو يلتفت إلى والده وينحني ليقبل ظهر يده باحترام قائلاً ـ"نورت بيتي يا والدي".
ربت والده على ظهره بحنان قلما يظهره، وهو يقول ـ"بـ.ـارك الله لك يا ولدي".
صحبه (طارق) إلى الداخل بعد أن أغلق الباب، وما أن التفت حتى راعه ما رأى.
إتسعت عيناه في دهشة وتصاعدت دmاء الغضب في رأسه أمام هذا المشهد، حتى هيئ إليه أن دخاناً يتصاعد بالفعل من رأسه وأن الدmاء ألقت بغشاوة على عينيه فأصبح ما حوله مصبوغاً بلونها.
فأمامه كانت عروسه مرتدية قميص نوم أحمر وعليه معطفاً شفافاً من نفس اللون، وقد تركت شعرها الناعم منسدلاً على كتفيها وزينت وجهها بمختلف مساحيق الزينة وهي تتجه مبتسمة لتحتضن والدتها في سعادة.
كان يشعر بأصوات التهنئة من والدة زوجته وزوجها وابنيه السخيفين وكأنها تأتي من بئر سحيق، لأن انتباهه كله كان مع تلك التي يلتهما بأنظارهما اثنان من غير محارمها.
وبالرغم من الغليان الذي يشعر به في عروقه، اتجه إلى زوجته وسحبها من ذراعها بابتسامة جاهد ليزرعها على وجهه وهو يقول لحمـ.ـا.ته ـ"عذراً يا جماعة...البيت بيتكم طبعاً. لو سمحتي يا(سمر)، أريدك دقيقة".
قالها وهو يجذبها خلفه إلى حجرتهما التي دخلها وسمح للقليل من غضبه بالظهور وهو يقول من بين أسنانه وقبضته تضغط على ذراعها ـ"ما هذا الذي ترتدين؟ ألم أحذرك منذ قليل؟ لقد منعتك أن تفتحي الباب فكيف تخرجين إليهم بقميص النوم؟"
أدهشها غضبه، الذي لم تر له مبرراً، وهي تقول بهدوء ـ"حبيبي، إنهم أهلي ووالدك...لا يوجد أغراب".
هتف بها وهو يحاول ألا يعلو صوته قائلاً ـ"والله؟ وماذا عن أبناء زوج أمك؟"
ارتفع حاجباها في دهشة قائلة ـ"(طارق) إنهم أخوتي وأصغر مني، لقد نشأنا معاً".
هتف بها من بين أسنانه ـ"كلا ليسا إخوتك...وليسا من محارمك حتى تخرجي إليهم بهذا الشكل. لقد كانا يلتهمانك بأنظارهما".
أدركت بذكائها الأنثوي أنه يغار عليها فلمست وجهه بأطراف أصابع يدها الحرة قائلة بدلال ـ"أتغار يا حبيبي؟"
أبعد أصابعها عن وجهه بغضب قائلاً ـ"الأمر لا علاقة له بالغيرة. إنها عاداتنا التي نشأنا عليها وتعاليم ديننا التي تصف الحياء بأنه شعبة من الإيمان. حتى (هالة) لا تزال تجلس أمامي بالحجاب أغلب الوقت رغم أنني زوجها".
لم يكد يذكر اسم زوجته الثانية أمامها حتى شعر بملامحها تتغير وهي ترمقه بنفس النظرة التي حار في تفسيرها في الصباح قبل أن تجذب ذراعها من قبضته في قوة وهي تقول من بين أسنانها ـ"أعتقد أنني أوضحت من قبل أنني (سمر)، ولا يهمني ماذا تفعل (هالة)".
شعر بالضيق الذي اعتراها وبالجو الذي بات مشحوناً بينهما، فتنهد في عمق وهو يخلل شعره بأصابعه قائلاً بكل الهدوء الذي وجده داخله ـ"حبيبتي...أنا رجل شرقي وأصولي ريفية، ولا أحب أن ينظر الأغراب إلى زوجتي. سميها غيرة أو تشـ.ـدد أو حتى رجعية، لكني لا أحب أن يراك غيري...ممكن؟"
تنهدت هي الأخرى ولانت ملامحها ونظرتها العدائية وهي تقول بهدوء تشوبه السخريةـ"أمر سي السيد...خزانة الملابس أمامك...اختر ما تريدني أن أرتديه".
منحها ابتسامة عـ.ـذ.بة وهو يطبع قبلة سريعة على طرف أنفها المستقيم قائلاً ـ"لا لن أختر لك، فأنا أثق فيك وفي رجاحة عقلك. سأخرج إليهم ريثما تبدلين ملابسك".
قالها والتفت يغادر الحجرة قبل أن يستدير إليها ثانية ويباغتها بدغدغتها قائلا بجدية مفتعلة ـ"ثم أين كان هذا القميص بالأمس؟"
ضحكت من دغدغته قائلة ـ"خلاص تبت إلى الله...لن أرتديه لغيرك".
قبل جبهتها بحب قائلاً ـ"لا هو ولا غيره...هيا لا تتأخري".
منحته ابتسامة سريعة وهو يخرج قبل أن تلتفت إلى خزانة الملابس وتقف واضعة كفاها حول خصرها، وهي تتأمل ملابسها في حيرة قائلة بسخط ـ"يا ربي...أين كان هذا الوجه الرجعي من قبل؟"
↚وقف (طارق) في شرفة غرفته بالفندق في الإسكندرية والتقط نفساً عميقاً من هواء البحر المنعش أمامه قرب منتصف الليل وتأمله قليلاً، ثم أخرج هاتفه الجوال من جيبه وضغط أحد أزراره وإنتظر قليلاً ليسمع من الطرف الآخر صوت (هالة) الهادئ تقول بابتسامة واضحة في صوتها ـ"أهلا بالعريس. كيف حالك وكيف العروس؟"
أبتسم وهو يجيبها قائلاً ـ"بخير والحمد لله. أنت كيف حالك وكيف حال أمي والأولاد؟"
أجابته بنفس الرقة قائلة ـ"نحن بخير والحمد لله. لكن القبيلة بأسرها نيام. حتى أنا كنت في طريقي إلى النوم".
منحها ضحكة خافتة وهو يقول ـ"أسف على إزعاجك إذاً...لقد أردت فقط أن أشكرك وأدعو لك الله أن يحميك ويبـ.ـارك لك في صحتك وأطفالك...لقد كنت سبباً في سعادتي يا (هالة) ولن أفيك حقك يوماً".
شعرت بغصة من كلمـ.ـا.ته، لكنها سرعان ما تنحنحت لتجيبه بهدوء ـ"أنت تستحق كل خير يا (طارق)، وكذلك (سمر). حافظ عليها لأن أمثالها قلة في هذا العالم".
سرت قشعريرة بـ.ـاردة في جسده حينما سمع جملتها الأخيرة، فقال لينهي المكالمة ـ"وأمثالك أيضاً يا (هالة). انتبهي لنفسك والأولاد. تصبحين على خير".
لم يكد يسمع ردها حتى أنهى المكالمة وزفر في عمق وظل يطالع البحر للحظات قبل أن يلتفت ليعود إلى الغرفة. ولكنه أجفل بمجرد أن التفت،
إذ وجد (سمر) واقفة على باب الشرفة ساندة كتفها على حافته وعاقدة ذراعيها أمامها وفي عينيها نفس النظرة البـ.ـاردة المحيرة فقال بدهشة ـ"(سمر)؟ منذ متى وأنت هنا؟"
قالت بنبرة ساخرة ـ"منذ كنت تتسول على باب الحسين".
ثم قالت تقلده "لقد اتصلت كي أدعو لك الله أن يحميك ويبـ.ـارك لك في صحتك وأطفالك". وعاد صوتها إلى نبرته الغاضبة وهي تقول ـ"تتصل بضرتي وأنا معك في شهر العسل؟"
قالتها والتفتت غاضبة لتدخل إلى غرفتهما، فلحقها (طارق) وأمسك بذراعها يوقفها قائلاً بابتسامة واسعة ـ"سأتغاضى عن سخريتك والإهانة التي تلفظت بها قبل قليل لعلمي أنك تغارين".
حاولت أن تجذب ذراعها من قبضته وهي تقول بضيق ـ"ابتعد عني، فأنا لا أغار عليك".
شـ.ـدد قبضته على ذراعها وقربها منه وقال وهو يغوص في عينيها بحب ـ"بل تغارين ولهذا ضايقك اتصالي ب(هالة)".
أشاحت بوجهها هرباً من نظرات عينيه فأدار وجهها إليه وداعب شعرها قائلاً بنفس الابتسامة ـ"حبيبتي...أنت وحدك زوجتي. وأنا لم أتصل بهم منذ زواجنا الأسبوع الماضي. فقط أردت الاطمئنان على الأولاد".
مطت شفتيها قائلة ـ"فلماذا لم تتصل مبكراً لتكلم أبناء أخيك؟ لقد اتصلت متأخراً حتى ترد هي عليك".
ضحك منها وقبل جبهتها قائلاً ـ"والله لم أتعمد ذلك...فنحن نخرج كل يوم ونعود متأخراً، واليوم عدنا مبكراً عن كل ليلة، فاتصلت بهم وأنت تغيرين ملابسك".
ثم قرص وجنتها بخفة قائلاً ـ"ثم هل تنكرين أن (هالة) هي السبب في إقناع والدي بزواجنا؟ أنت أقنعتني بالزواج منها لصالح أبناء (حازم) رحمه الله، وهي ساعدتنا بالزواج. أقسم لك أن (هالة) مثل البلسم، وأثق أنك ستحبينها حينما ترينها".
هزت كتفيها كالأطفال وزادت في مط شفتيها كطفلة يحاول والدها إرضاؤها دون جدوى، فقال وهو يقرص وجنتيها مشاكساً ـ"هيا أريني ضحكتك وإلا دغدغتك".
ضحكت لمجرد تخيله وهو يدغدغها كالمعتاد كلما أراد منها شيئاً، ثم رفعت سبابتها محذرة وهي تقول ـ"سأسامحك هذه المرة فقط. لكني لا أعرف ماذا سأفعل في المرة القادmة".
ضحك ثانية وهو يقبل وجنتها في الموقع الذي قرصه قائلاً ـ"توبة يا حبيبتي...لن أضايقك ثانية".
أما (هالة)، فما أن أنهى (طارق) الاتصال حتى تنهدت في عمق واحتضنت هاتفها في هدوء وهي تنظر إلى موضع نوم زوجها على الفراش.
زوجها الصوري الذي يعتبرها أخته، واتصل بها من جوار عروسه ليبلغها مدى امتنانه لها وسعادته بهذه الزيجة...
الزيجة التي ساعدته في إتمامها وهي لا تدري هل ستسعد هي الأخرى أم لا.
كانت مشاعرها مضطربة،
فهي ليست حزينة لزواجه،
ولكنها ليست سعيدة أيضاً.
لقد تزوجته مرغمة، وهو كذلك،
لكن ابتعاده عنها منذ الزواج صدmها،
وزادت صدmتها باعترافه لها بحبه لزميلته.
كانت كلمـ.ـا.ته في ذلك اليوم لا تزال تدوي في أذنيها وهو يعترف بأن حبيبته اشترطت أن يكون زواجه من أرملة شقيقه صورياً.
مزقها اعترافه في هذا اليوم، ودmر حلمها الوليد في أن يكون هذا الزوج بحنانه وتفهمه عوضاً لها عن زوجها السابق...عن شقيقه.
هزت رأسها في عنف وكأنها تنفض عنه أفكاره ونهرت قلبها على هذه المشاعر التي وجدتها مشاعر ماجنة وفاسقة...
لقد أعلنت لحميها من قبل أنها لن تقبل الزواج بعد (حازم) رحمه الله، بل وتزوجت شقيقه مرغمة لحماية أطفالها. وقد أتتها الفرصة لتفي بما قالت من قبل، فلماذا تضيعها؟
ثم مسحت بقوة دmعة متمردة تسللت من عينيها وهي تتذكر نصيحة أمها بأن تحول (طارق) إلى أخ أو صديق، بدلاً من أن تعلق نفسها بأوهام واهية.
نعم...(طارق) مجرد صديق، ولن يتحول إلى أي خانة أخرى.
↚فتح (طارق) باب المبرد في ضجر بحثاً عن طعام الغذاء، لكنه لم يجد سوى قارورة مياه نصف ممتلئة وبعض الأطباق الصغيرة التي تحوي جبناً وزيتوناً، وزجاجة حليب شارفت على الإنتهاء، فمط شفتيه وأخرج غضبه في باب المبرد الذي دفعه بعنف هز المبرد بقوة. ثم التفت إلى الموقد الذي لم يجد فوقه أي أواني طهي، ففتح باب الفرن عله يحوي طعام الغذاء الذي طهته زوجته المصون. ولكن بحثه باء بالفشل للمرة الثانية فزفر في قوة وهو يهتف بغـ.ـيظ من بين أسنانه ـ"حسبي الله ونعم الوكيل...أين ذهبت هذه المـ.ـجـ.ـنو.نة دون أن تطبخ طعام الغذاء"؟
قالها وهو يضغط أزرار هاتفه الجوال ليطلب (سمر) للمرة العاشرة منذ عودته من المستشفى ليسمع نفس الرسالة التي زادت من عصبيته "الهاتف الذي طلبته غير متاح حالياً، من فضلك حاول الاتصال في وقت لاحقThe mobile you…"
لم يمنح السيدة الإلكترونية الفرصة لإتمام رسالتها باللغة الإنجليزية لأنه أنهى المكالمة والشرر يتطاير من عينيه، قبل أن يلقي الهاتف بعيداُ ليسقط على أريكة الأنتريه.
ظل يدور قليلاً في أرجاء الشقة ثم ما لبث أن جلس متحفزاً على مقعد الأنتريه المواجه لباب الشقة في إنتظار عودة زوجته.
وبعد ساعة أخرى من الانتظار_ مرت عليه كالدهر_ سمع صوت المفتاح يدور في الباب، فرفع عينيه في بطء ليرى زوجته تدخل في هدوء ولا يبدو عليها أي انزعاج من التأخير، وابتدرته بقولها ـ"حبيبي...متى عدت"؟
أجابها من بين أسنانه قائلاً ـ"منذ ساعتين...أين كنت؟ لقد طلبتك عند والدتك وأخبرتني أنها لم ترك منذ يومين".
قالت بلامبالاة وكأنها لم تسمعه ـ"عظيم...هل أعددت لنا الغذاء؟ إنني أتضور جوعاً".
إتسعت عيناه وعاد الشرر يتطاير منهما وهو يهتف بها ـ"ماذا؟ أنا الذي أعد الغذاء؟ وأين كنت منذ الظهيرة؟ لماذا لم تعديه مسبقاً مثل باقي الزوجات العاملات"؟
اقتربت وهي تجيبه ببرود أغاظه ـ"ألم نتفق من قبل على تقسيم المهام المنزلية بيننا؟ وما دmت أتيت قبلي فلماذا لم تجهز كيساً من المكرونة وتخرج أي كيس لحم أو دجاج من المجمد"؟
استشاط غضباً وهو يهتف دون وعي ـ"هل تمزحين؟ جراح لم ينم طول الليل بسبب جراحة معقدة وظل في المستشفى حتى الثانية ظهراً دون راحة وعاد إلى منزله يتوق إلى وجبة ساخنة وفراش وثير لكنه لم يجد زوجته ولا أي شيء يؤكل في المنزل، وفي النهاية تسأليني لماذا لم أجهز مكرونة"؟
فتحت فمها لتجيبه لكنه لم يمنحها الفرصة وهو يهتف ثانية ـ"وأين كنت طيلة هذه المدة منذ خروجك من المستشفى؟ ولماذا أغلقت هاتفك الجوال"؟
شعرت بمدى غضبه وحاولت تلطيف الأمر وهي تقترب قائلة بابتسامة مدروسة ـ"لقد انتهى شحن الجوال فجأة، وظننت انك اليوم ستذهب إلى (هالة)، فتأخرت بعد المستشفى".
ضـ.ـر.ب كفيه بدهشة قائلاً ـ"سبحان الله. اسم (هالة) أصبح يجري على لسانك دون سخط. راجعي أيام الأسبوع يا دكتورة وسترين أن اليوم عندك أنت".
ثم عاد يسألها وهو يضيق عينيه ـ"لم تجيبي..أين تأخرت"؟
أجابته بتردد ـ"ك..كنت في الجيم".
اقترب منها وقال دون استيعاب ـ"أعيديها على مسامعي ثانية...يبدو أن السمع خانني و..".
قاطعته وهي تقول في سرعة ـ"كنت في الجيم يا (طارق)...صالة الأيروبيكس".
إتسعت عيناه في دهشة حقيقية وهو يتفحص جـ.ـسمها بعينيه قائلاً ـ"أيروبيكس هكذا فجأة؟ ودون استشارتي"؟
هزت كتفيها قائلة ـ"إنها المرة الأولى اليوم..أردت أن أجرب قبل أن أقرر الإشتراك في هذا النادي الصحي".
عقد ذراعيه أمام صدره وهو يسألها بتهكم ـ"وهل راقك النادي الصحي"؟
لمعت عيناها وهي تجيبه في حماس قائلة ـ"إلى ابعد مدى...المدربة نشيطة للغاية والأجهزة الرياضية حديثة والجا..."
قاطعها قائلاً ببرود ـ"وماذا عن طفلك"؟
أجفلت للحظة وتراجعت برأسها إلى الخلف قبل أن تسأله بصوت مبحوح ـ"أي طفل"؟
أجابها بنفس البرود وهو يقترب من وجهها حتى التحمت أنفاسهماـ"طفلنا...ألم يحن وقته بعد"؟
ارتبكت من سؤاله ونظراته وهي تقول ـ"كل شيء بأوان. فلماذا العجلة"؟
تأملها قليلاً قبل أن يقول بغـ.ـيظ ـ"عجلة؟ بعد ستة أشهر زواج وتسمينها عجلة؟ ثم أنى للطفل أن يأتي وأمه تمارس الأيروبيكس في النادي الصحي؟ بل قولي أنى له أن يأتي وأمه لا تهتم بأبيه"؟
إتسعت عيناها وهمت بالدفاع عن نفسها لكنه لم يمنحها الفرصة وهو يهتف بها ـ"طلبت مني المساعدة في شؤون المنزل ووافقت، أهملت المطبخ وصرنا نأكل من المطاعم كالعزاب وصمتت، تراكمت ملابسي المتسخة وغسلتها بنفسي ولم أعترض...كل هذا وأنت ماذا تفعلين؟ بالله عليك أخبريني ما الذي تفعلينه في هذا البيت سوى النوم ومشاهدة التلفاز...حتى لا أراك تفتحين مرجعاً لرسالة الماجستير. أخبريني بشيء واحد يبرر انشغالك عن بيتك وزوجك أو يبرر ذهابك إلى الجيم بدلاً من الاهتمام بي".
اختنق صوتها بالعبرات وهي تقول بصوت أجش ـ"أنا...".
قاطعها بنفس الغضب قائلاً ـ"أنت ماذا؟ ماذا ينقصك عن (هالة)؟ تعمل مثلك، بل وأكثر منك في المدرسة ومع الأولاد، ورغم ذلك فبيتها مرتب طوال الوقت، ولم تتأخر يوماً عن موعد الغذاء، ولم أبحث عن ملابسي يوماً أو أطلب منها كي قميص أو خياطة زر...كل شيء مرتب وكأنني شغلها الشاغل. حتى مع أولادها...لا ينقصهم شيء وكأنهم كل عالمها. أما زوجتي التي حاربت من أجلها فتهملني، بل ولا تأبه حتى بإنجاب طفل لي يشغل فراغها".
لم تستطع تحمل كلمـ.ـا.ته الجارحة أكثر من ذلك فهتفت به بألم ـ"كفى..كفى. كل شيء (هالة) (هالة). لماذا لا تقدر مشاعري؟ لماذا تصر على أن تشعرني بالعجز مقارنة بها؟ قلت لك ألف مرة أنا غيرها، ولا تقارنني بها. وما ينطبق عليها لا ينطبق علي، وأنت وافقت على ذلك منذ البداية. فلماذا التجريح"؟
وبأصابع مرتجفة مسحت دmعة خانتها وسالت على وجهها الملتهب من الغضب وإستدارت بعيداً عنه وهي تقول ـ"من فضلك يا (طارق)...اتركني وحدي الآن كيلا نجـ.ـر.ح بعضنا أكثر من ذلك".
لم ير دmـ.ـو.عها، لذا لم يشعر بأي تعاطف نحوها وهو يتجه نحو غرفتهما في صمت ليلتقط سترته الصوفية وسلسلة مفاتيحه في سرعة ويتجه إلى باب الشقة قائلاً ـ"هذا أفضل".
وصفق الباب خلفه في عنف تاركاً إياها غارقة في دmـ.ـو.ع لم ترده أن يراها.
↚
جلس الطفلان حول جدهما يستمعان إلى حكاياته عن والدهما الراحل وعن عمهما(طارق) حينما كانا صغاراً والضحكات تتعالى مع كل موقف طريف يحكيه الجد الذي سألهما فجأة في دهاء ـ"أين عمكما(طارق) اليوم؟ لم أره منذ حضوري."
انبرى الصغير(هاني)يقول في طـ.ـلا.قةـ"بابا(طارق) في المستشفى, إنه يبيت فيها ثلاثة أيام وهنا أربعة أيام وقبل أن ننام نلقي عليه تحية المساء على هاتفه المحمول."
رفع الجد عينيه إلى زوجة ابنه وأمها الجالستين أمامه وهو يقول بتهكم ـ"هكذا؟! لقد ظننا أن المدير الجديد سيعطينا ما نريد مادام لا عذر له ولكن بعد ستة أشهر!! لابد وان هناك سراً ما."
أدركت(هالة)ما يرمي إليه حماها فأشارت بحزم إلى ابنيها قائلة ـ"(هيثم), (هاني), لم تنتهيا من واجباتكما المدرسية بعد. اذهبا وأنهياها قبل العشاء."
نهض الطفلان في تذمر قبل أن يقول(هيثم) لجده بتوسل ـ"عدني بألا تنصرف يا جدي قبل أن أنهي واجباتي المدرسية. لم يتبق الكثير منها على أي حال."
قبل جده وجنته قائلاً بحنان ـ"أعدك يا حبيبي."
حينها انصرف كلاهما إلى غرفته في سرعة, والتفتت(هالة) إلى حميها قائلة ـ"الأولاد لا يعلمون بموضوع زواج(طارق), ولا يجب أن نتحدث عنه أمامهما."
قال الرجل في ضيق ـ"لقد كانت حجته معك هي أنك أخت له, وعنـ.ـد.ما قال أنه يحب(سمر) هذه وأصرّ كلاكما على هذه الزيجة وافقت على أمل رؤية أبنائه, لكنهما حتى الآن لم يعلنا عن قرب قدوم وليّ العهد المنتظر."
تبادلت(هالة)نظرة سريعة حائرة مع أمها قبل أن تقول ـ"دعهما يستمتعان بحياتهما سوياً قبل أن يدخلا دوامة إنجاب الأطفال, كما أن(طارق) يعد الترتيبات النهائية لمناقشة رسالة الدكتوراه و(سمر) على وشك مناقشة الماجستير, بعدها لن يكون لديهما أية أعذار لتأجيل الإنجاب."
هتف في غـ.ـيظ واضح ـ"من يقول أن الماجستير والدكتوراه أهم من إنجاب الأطفال؟"
قالت(هالة) بدبلوماسية ـ"يا عماه, ’ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه‘, كما أنه ليس من العدل أن يضيع كلاهما مستقبله من أجل إنجاب طفل, وفي النهاية هذه حياتهما الخاصة ولا دخل لنا فيها."
ورغم منطقية حديثها لم يقتنع حموها الذي جلس قليلاً حتى موعد العشاء كما وعد حفيديه، ثم غادر المنزل قبل أن يصل(طارق) الذي تأخر حتى بعد منتصف الليل.
ولدهشة(هالة) فقد سألها(طارق) في عصبية عن سبب زيارة والده, فقالت في حيرة ـ"(طارق)! إنه بيت ابنه وله مطلق الحرية في زيارته في أي وقت شاء, ولا أرى سبباً لعصبيتك تلك."
ألقى بسترته الصوفية بعيداً في ضيق وجلس على حافة الفراش واضعاً وجهه بين كفيه في صمت, فاقتربت(هالة) منه في هدوء وربتت على كتفه في حنان قائلة ـ"ماذا بك يا(طارق)؟ لقد ازدادت عصبيتك في الآونة الأخيرة, إنك لم تعد حتى تجلس مع الأولاد كعادتك."
زفر في ضيق وخلل شعره بأصابعه قائلاً بتـ.ـو.تر ـ"لا شيء, إنها بعض المشاكل بالمستشفى."
جلست إلى جواره وهي تقول بتعاطف ـ"أنا لم أعرفك بالأمس فقط, بإمكاني معرفة ما بداخلك من نظرة عينيك ونبرة صوتك. أخبرني بما يضايقك كما اعتدت دوماً. ألسنا صديقين؟"
حوّل بصره إلى عكس اتجاه جلوسها قائلاً ـ"صدقيني, إنها مشاكل خاصة بالعمل."
أدارت وجهه إليها قائلة بابتسامة حنون ـ"ولماذا تدير وجهك؟ كي لا أعرف الحقيقة من عينيك؟"
خفض عينيه في سرعة حينما التقتا عيني(هالة) التي التقطت نفساً عميقاً قبل أن تقول بهدوء ـ"(طارق), أصدقني القول, هل سأمت(سمر) وضعنا الحالي؟ لأنها لو فعلت فلن ألومها فـ..."
قاطعها(طارق) وهو يرفع كفه قائلاً في سرعة ـ"كلا, أقسم لك أنها لم تفعل, إنها تتفهم الوضع تماماً."
تناولت كفه بين راحتيها قائلة في حيرة ـ"إذاً ما الأمر؟ لماذا تبدو حائراً هكذا؟ أخرج ما بداخلك كي ترتاح."
زفر في قوة قائلاً بضيق ـ"اُخرج ماذا أو ماذا؟ إن بداخلي أطناناً من الهموم, فعن أي هم تريدين التحدث؟"
عقدت حاجبيها قائلة ـ"أطناناً من الهموم؟ وتحملها وحدك؟ وما أهمـ.ـيـ.ـتي إذاً إن لم أقف بجانبك حتى تتخلص منها؟ على الأقل أخبرني بما تريد قوله ويكفي لإراحتك في الوقت الحالي."
تنهد في عمق قبل أن يحسم أمره قائلاً بحنق ـ"إنه أبي, مازال يواصل التدخل في حياتي حتى أحالها جحيماً."
سألته على استحياء ـ"أتعني بشأن الإنجاب؟"
التفت إليها في سرعة قائلاً ـ"كيف عرفت؟"
ازدردت لعابها وأشارت بطرف عينها إلى الخارج قائلة ـ"لقد أشار إلى هذا الموضوع ضمن حديثه."
سألها في حدة ـ"وماذا قال؟"
هزت كتفيها قائلة ـ"لا شيء محدد, لقد أشار فقط إلى رغبته في رؤية أبنائك. هذا كل ما قاله."
سألها ثانية ـ"وماذا قلت له؟"
أشاحت بكفها قائلة ـ" قلت أن هذه حياتكما وليس لنا دخل فيها, وأنكما مشغولان بالانتهاء من تحضير رسائلكما العلمية."
ضحك بسخرية قائلاً ـ"رسائلنا العلمية؟ أراهنك على أنني لن أنهي الدكتوراه قبل تخرج(هند) من الجامعة."
شهقت في لوعة قائلة باستنكارـ"لماذا تتحدث هكذا؟ لم أرك يائساً من قبل. هل ضايقتك أنا أو الأولاد في أي شيء؟"
هز رأسه نفياً وهو يجيبها في سرعة ـ"كلا بالطبع, فأنت والأولاد أجمل ما في حياتي. وعلى عكس ما يتوقع البعض, أنا أشعر بالراحة هنا معكم أكثر من بيتي مع(سمر). تخيلي أنها تثور لأتفه الأسباب، بل وتثير أعصابي معها؟"
قالت بهدوء ـ"لابد وأن لديها عذراً لذلك."
قال بتهكم ـ"عذر؟ أي عذر هذا الذي يجعلها تهمل بيتها وزوجها؟ أنا لا آكل طعاماً منزلياً إلا هنا لأنها تعود من المستشفى مرهقة ولا تقوى على الوقوف أمام الموقد. لا أنكر أنها طهت لي أكثر من مرة, لكن تقريباً مرة كل شهر."
ثم تابع بضيق ـ"ناهيك عن الاهتمام بالمنزل أو حتى بملابسي, فالملابس إما متسخة أو بحاجة إلى كيّ, وهي مشغولة بشيء لا أعرفه. وعنـ.ـد.ما واجهتها قائلاً أنك أنت الأخرى تعملين ومسئولة عن ثلاثة أطفال ومع ذلك لا تهملين بيتك, ثارت وغضبت."
شعرت(هالة) بحرج بالغ وهي تقول ـ"المرأة بطبعها لا تحب مقارنتها بأخرى أياً كانت. ولا تنس أنها تقيم وحدها بينما أمي معي تساعدني."
أشاح بيده قائلاً ـ"هذا ما حدث, تركت لها الشقة وظللت أدور بسيارتي حتى شعرت بتثاقل أجفاني من الإرهاق، فأتيت إلى هنا."
عقدت حاجبيها قائلة باستنكارـ"أتعني أنكما تشاجرتما اليوم؟ هيا قم حادثها في الهاتف واعتذر لها."
التفت إليها باستنكار أشـ.ـد قائلاً ـ"أعتذر لها؟"
قالت بابتسامة عريضة ولهجة آمرة ـ"نعم تعتذر لها ولا تتركها تنم وهي حزينة. هل نسيت كم ضحّت من أجلك وأجلي؟ هيا هاتفها ولن أقبل أي حجج بالرفض."
قال بتخاذل ـ"لقد تركتني دون طعام، بل وأطارت النوم من عيني وأنا لم أنم منذ يومين، و...".
قاطعته ملوحة بسبابتها في تهديد قائلة ـ"هاتفها ريثما أعد لك ما تأكله...هيا وإلا تركتك أنا الأخرى دون طعام، وأنا أدري جيداً أنك لن تنم على معدة خاوية"
ولم تتركه إلى المطبخ قبل أن تسمع ضحكته الصافية تنتقل عبر أسلاك الهاتف إلى أذني(سمر).
↚جلست(سمر) بتململ إلى جوار زوجها الذي ركز انتباهه في قيادة السيارة وسط ازدحام المرور الذي يميز القاهرة خاصة في وقت الذروة. وعنـ.ـد.ما طال وقوفهما في إحدى إشارات المرور المزدحمة زفرت في تأفف وفتحت حقيبتها تلتقط طلاء شفاه لامع ثم أدارت مرآة السيارة إليها لتعيد طلاء شفتيها الرقيقتين بلون وردي جميل قبل أن تمط شفتيها في ملل وهي تعدل من تسريحة شعرها الجديدة بعد أن صبغته إلى اللون الذهبي وقصته حتى كتفيها قائلة ـ"ألن تفتح هذه الإشارة اليوم؟ إننا هنا منذ ربع الساعة."
مد(طارق) يده ليعدّل وضع المرآة قائلاً برصانته المعهودة ـ"منذ أربع دقائق فقط يا زوجتي العزيزة."
التفتت إليه عاقدة حاجبيها في صمت ثم ما لبثت أن عقدت ساعديها أمام صدرها وعادت ببصرها إلى الطريق قائلة ـ"إنها مدة طويلة على أي حال."
هز(طارق) رأسه دون أن ينبس بشيء وواصل قيادته الهادئة حتى خرج من الزحام إلى طريق واسع أتاح له الحديث في حرية فقال بلهجة تحمل بعض الضيق ـ"ألم نتفق على تخفيف مساحيق الزينة؟"
إلتفتت إليه في دهشة قائلة ـ"هل أنت جاد؟ فجأة أصبحت مساحيق الزينة سيئة؟"
ضغط بوق السيارة محذراً لشخص كان يهم بعبور الطريق، ثم أجابها وعيناه على الطريق ـ"وهل مزحت بشأنه يوماً؟ لقد طلبت منك أكثر من مرة أن تخففي مساحيق الزينة خارج المنزل، وقلت لك إنني أحبك طبيعية دون زينة على الإطـ.ـلا.ق".
جادلته بعناد قائلة ـ"وقلت لك إنك أحببتني وأنا أضع هذه المساحيق، وإنني أضعها حتى أظل جميلة في عينيك".
إلتقط كفها يقبله قائلاً بدبلوماسية ـ"أنت جميلة دوماً في عيني...ولا أريد لغيري أن يتمتع بهذا الجمال. أيرضيك أن يتمتع غيري بالنظر إليك؟"
داعبت كفه بدلال قائلة ـ"أيرضيك أن يُقال إن زوجة الدكتور (طارق) غير أنيقة أو غير جميلة؟"
أدار مقود السيارة إلى أقصى اليمين قبل أن يقف أمام منزلهما ويلتفت إليها قائلاً بهدوء ـ"ومن قال إن الجمال في مساحيق التجميل؟ ومن قال إنني أريد للآخرين أن يروا جمالك؟"
مطت شفتيها بشكل طفولي وأشاحت بوجهها بعيداً وهي تقول ـ"لم يبق إلا أن تطالبني بإرتداء النقاب".
أدار وجهها إليه وقال بابتسامة عـ.ـذ.بة ـ"ليتك توافقين".
إتسعت عيناها في ذعر وعادت تشيح بوجهها بعيداً وتفتح باب السيارة وتنزل في سرعة متجهة إلى بوابة المنزل، فتبعها وهو يضحك من رد فعلها على قوله.
صعد إلى شقتهما ليجدها تجلس على الأريكة المواجهة للباب واضعة ساق فوق ساق وتهزهما بعصبية.
اقترب منها مبتسماً وقال ـ"ما سر هذه العصبية يا حبيبتي؟ كل هذا لأنني طالبتك بتخفيف مساحيق الزينة؟"
التفتت إليه بحدة قائلة ـ"بل لأنك تريدني أن أختفي خلف النقاب".
ضحك وأمسك خديها يمطهما كالأطفال قائلاً ـ"أنا لم أقل ذلك..أنت اقترحت وأنا وافقت على اقتراحك".
أزاحت يديه عن وجهها وقالت بضيق طفولي ـ"قلت ياليت...إذاً تفكر في ذلك".
داعب بأنامله آثار أصابعه على بشرتها البيضاء وهو يهمس ـ"حبيبتي كنت أداعبك...وعموماً لن أطلب منك سوى ارتداء الحجاب وعدm إستخدام مساحيق الزينة خارج المنزل".
عادت تلتفت إليه وعيناها تحملان غضباً لم يره من قبل وهي تهتف ـ"(طارق) من فضلك لا تجبرني على أمر لا أريده، ولا تحاول أن تجعلني مثل (هالة)".
رفع حاجبيه في دهشة حقيقية من انفعالها الغريب قبل أن ينهض قائلاً بحنق ـ"الأمر لا علاقة له ب (هالة) لأنه ليس طلبي أنا...إنه تكليف سماوي لك..وإذا كنت ترفضين فرض الله فأنت حرة وستحاسبين عليه وحدك".
قالها وإتجه إلى غرفته في ضيق واضح ورمى سترته على أحد المقاعد قبل أن يتمدد على طرف الفراش ويسند رأسه على كفيه المعقودين...
يحبها نعم...وعرفها سافرة ومتبرجة
لكنه يريد ألا يشاركه أحد النظر إليها
لم ينس بعد منظرها صبيحة يوم زفافهما وهي ترتدي قميص النوم الأحمر، وكيف ثارت الدmاء في عروقه حينما رآها كذلك وشعر بأعين الغرباء تأكلها دون حياء
وفي كل مرة يراها في العمل ويشم عطرها عن بعد ويلمح إعجاب المرضى بجمالها وأناقتها ويسمع حديثهم عنها يشعر بنيران الغيرة تحرق صدره
أو ربما هي نيران النخوة
أياً كانت دوافعه...فهو لا يريد لزوجته أن تصبح مشاعاً هكذا
ولا يريد أن يُحاسب أمام الله على ما تفعله
لماذا لا تفعل مثل (هالة)؟
لماذا لا ترتدي الحجاب مثلها وتحتفظ بأناقتها أيضاً؟
(هالة)؟؟؟
مثال الزوجة الأنيقة المحتشمة
بل مثال المرأة المسلمة
يالحظ (حازم) بها
وليت.....
قطع تأملاته صوت (سمر) التي تقدmت منه بهدوء وجلست على طرف الفراش إلى جواره قبل أن تهمس بأسف وهي تلمس ذراعه ـ"آسفة على انفعالي يا حبيبي...لم أقصد أن أرفع صوتي".
منحها نظرة خاوية وكأنه لا يراها، فاستدركت قائلة بحرج ـ"لقد شعرت للحظة أن شكلي الجديد لا يروقك، رغم أنني عدلته خصيصاً من أجلك".
تأمل للحظات شعرها الذهبي المصبوغ وتسريحته الجديدة والعدسات الخضراء التي تغطي لون عينيها الطبيعي..
كانت أكثر جمالاً ولا ينكر ذلك
ولكنها ليست طبيعية
وهو يحبها طبيعية
يحبها حينما تستيقظ من نومها وتفرك عينيها كالأطفال قبل أن تفتحهما
يحبها وشعرها مبعثر بلا نظام حول وجهها البريء
ولكن أين هي الآن من تلك البراءة؟؟؟
تأملها للحظات ثانية قبل أن يقول بهدوء ـ"ها أنت ذا قلتها...عدلته من أجلي...ولكن الآخرين يرونك أيضاً..فما الفائدة إذاً؟ أنا لا أستطيع أن أمنع مرضاك أو زملاءنا من النظر إليك."
ضحكت بدلال قائلة ـ"حبيبي أنا طبيبة عيون...وأغلب مرضاي يرتدون النظارات الطبية..لا تخف. لن يغازلونني".
قال بحنق ـ"بعضهم يأتي خصيصاً ليرى الطبيبة الفاتنة، وأنا لا أحب ذلك".
مطت شفتيها كالأطفال وهي تقول بتبرم ـ"قل إنك لا تحب النيو لوك".
ضحك بخفوت على ملامحها وتبرمها واقترب منها قائلاً ـ"نيو لوك؟ أشعر أنني مع نجمة سينما".
أشاحت بكفها في ضيق ونهضت مبتعدة عنه، ولكنها ما أن وصلت إلى باب الغرفة حتى شعرت بألم شـ.ـديد في أمعائها جعلها تنحني إلى الأمام وهي تضع كفها على معدتها في ألم وتتأوه بصوت خافت.
لم يكن يتابعها ببصره حينما قامت من جانبه، وإنما كان يقلب أزرار هاتفه الجوال في ضيق.
لكن آهتها الخفيضة خرقت مسامعه وهزت شغاف قلبه وكأنها صرخة مدوية، فانتبه إليها وهرع ليحيطها بذراعيه من الخلف هامساً بهلع ـ"حبيبتي ماذا بك؟"
تأوهت ثانية وهي تشـ.ـدد قبضتها على معدتها في ألم قائلة ـ"مغص غـ.ـبـ.ـي أقاومه منذ الصباح..والأسوأ أنه يسبب لي غثياناً".
تهللت أساريره وهو يديرها لتواجهه هاتفاً بسعادة ـ"حامل؟"
لم يكن يتابعها ببصره حينما قامت من جانبه، وإنما كان يقلب أزرار هاتفه الجوال في ضيق.
لكن آهتها الخفيضة خرقت مسامعه وهزت شغاف قلبه وكأنها صرخة مدوية، فانتبه إليها وهرع ليحيطها بذراعيه من الخلف هامساً بهلع ـ"حبيبتي ماذا بك؟"
تأوهت ثانية وهي تشـ.ـدد قبضتها على معدتها في ألم قائلة ـ"مغص غـ.ـبـ.ـي أقاومه منذ الصباح..والأسوأ أنه يسبب لي غثياناً".
تهللت أساريره وهو يديرها لتواجهه هاتفاً بسعادة ـ"حامل؟"
رفعت عينيها إليه بحدة وهي تقول بضيق ـ"(طارق)..ما دخل المغص بالحمل؟ لقد أصبت ببرد في المعدة، هذا كل ما في الأمر".
إحتوى وجهها بين راحتيه هامساً وهو لا يخفي سعادته بحملها المرتقب ـ"وقد يكون حدسي صحيحاً و...".
قاطعته وهي تبتعد بوجهها عنه وتتجه إلى أقرب مقعد لتجلس عليه وتنحني لتحتضن معدتها بذراعيها المتشابكين دون أن تنبس ببـ.ـنت شفه.
أدهشه رد فعلها فاقترب منها وانحنى على ركبتيه أمامها ورفع وجهها إليه ليسألها بقلق حقيقي ـ"(سمر) ماذا بك؟"
تضاعفت دهشته حينما تحركت فجأة لتدفن وجهها في كتفه وتحيط عنقه بذراعيها وهي لا تزال على صمتها، فأحاطها بذراعيه بدوره وهو يشعر بـ.ـارتجافتها الخفيفة التي لا يدرك سببها.
ظلت على وضعها لدقيقة أو أكثر قبل أن تبتعد عنه بهدوء غريب وكأن شيئاً لم يكن، ثم نهضت وتناولت كفه لينهض هو الآخر قائلة ـ"هيا نجهز الغذاء..لابد وأنك تتضور جوعاً".
تأملها بدهشة حقيقية بدت وكأنها الشعور الوحيد الذي يسيطر عليه في هذا اليوم، ورغم ذلك تبعها إلى خارج غرفتهما وهو يسألها بحنان ـ"هل زال المغص؟"
تحسست معدتها للحظات قبل أن تجيبه بلا مبالاة ـ"إنه متقلب...لقد هدأ الألم الآن ولكنه سرعان ما سيعود.. سأتناول قرصاً مسكناً للألم الآن".
لم يستطع التغلب على القلق الذي يكتنفه، لذا قال بلهجة حاسمة ـ"سأصحبك إلى الطبيبة لتفحصك..لابد وأن أطمئن عليك".
أشاحت بكفها وهي تشعل الموقد قائلة بلامبالاة ـ"لا تشغل بالك يا حبيبي..لقد نمت أمام المكيف واصبت ببرد في المعدة سرعان ما سيزول..ولا تنس أنني طبيبة أنا الأخرى وأفهم جيداً ما بي".
تأمل ظهرها وهي تعمل بهدوء قبل أن يقول بلهجة طبيعية ـ"إذاً نجري فحوص الزواج الجديدة".
إلتقطت نفساً عميقاً وهي تتظاهر بتسخين الطعام وحاولت ألا يبدو تـ.ـو.ترها في صوتها وهي تقول ـ"إنها للمقبلين على الزواج يا (طارق) ونحن متزوجان بالفعل. فلا داعي لإجرائها إذاً".
إتجه إلى المبرد وفتحه ليلتقط بعض الخضروات الطازجة لصنع السلاطة قائلاً بنفس الهدوء ـ"على العكس تماماً.. ربما كانت هناك أشياء خافية علينا, فقد يكون الـrh عندك أو عندي سالباً وهو ما قد يؤثر على الأجنة فيما بعد."
لم تستطع كبح أعصابها فأفلتت منها وهي تلتفت إليه قائلة بتـ.ـو.تر ـ"أي أجنة؟ ما بك متسرعاً هكذا؟ إننا مازلنا في بداية حياتنا وآخر شيء أريده الآن هو الأطفال. يجب أن أنهي رسالة الماجستير أولاً قبل أن أفكر في الإنجاب."
عقد هو حاجبيه هذه المرة وترك الخضروات في حوض المطبخ والماء يتدفق عليها وهو يقول بحنق ـ"ما معنى هذا؟ إننا لم نتفق على هذا الرأي, وأنا أريد أطفالاً."
هتفت به في حدة ـ"فيم تريدهم؟ أليس لديك ثلاثة بالفعل؟ما الداعي إلى المزيد؟"
أغلق صنبور المياه وإلتفت إليه يجذبها من ذراعها لتواجهه قائلاً من بين أسنانه ـ" ما هذه النغمة الجديدة؟ صحيح أن أبناء(حازم) أصبحوا أبنائي ولكنهم ليسوا من صلبي. أريد أطفالاً منك أنت ليشهدوا على حبنا, وأنت ترفضين؟!"
أدارت وجهها بعيداً عنه قائلة ـ"الأطفال لا تشهد على الحب, مع مولد أول طفل ستبدأ المشاكل, ورغماً عنك ستفرق في المعاملة بين أبنائنا وأبناء أخيك مثلما فعل زوج أمي حينما أنجبت أمي له صبياً."
ورغماً عنها سالت دmعة ساخنة على وجنتها وهي تقول ـ"حتى حينما توفى أخي هذا ظل يعاملني وكأنني المسؤولة عن وفاته".
أدار وجهها إليه في حنوّ ومسح دmعتها بإبهامه هامساً ـ"حبيبتي, أنت ت عـ.ـر.فينني جيداً, ولست أنا من يفرق بين أولاده.لا تخافي من هذه النقطة, فقط أرجوك ألا تحرميني من حمل ابننا بين ذراعيّ. اتفقنا يا حبيبتي؟ سنجري الفحوصات من أجل الإطمئنان لا غير".
رفعت عينيها إليه ثم ما لبث عنادها أن طغا عليها وبدا في عينيها وهي تقول ـ"أنت طبيب وتدرك جيداً أن القلق من عدm الحمل يبدأ بعد عام من الزواج، ونحن لم نكمل سبعة أشهر بعد. فلم العجلة؟"
قرص وجنتيها كالأطفال وهو يقول كمن يداعب طفلته ـ"لأنني أريد الإطمئنان فقط..ولأنني أريد طفلة تشبهك كي أقرص وجنتيها كما أشاء".
ضحكت رغماً عنها وأفلتت وجهها منه وهي تدفنه في صدره قائلة ـ"إدع لنا..وإفعل بها ما تشاء".
ربت على ظهرها بحنان قائلاً ـ"لا نملك سوى الدعاء يا حبيبتي والأخذ بالأسباب...وأملنا في الله كبير".
وفي أعماقه إبتهل إلى الله أن يرزقهما الذرية الصالحة.
↚جلست(هالة) وأمها والأطفال حول مائدة الطعام التي خلا مقعدها الرئيسي, لليوم الخامس على التوالي, من وجود(طارق) الذي يضفي دوماً على الطعام مذاقاً خاصاً, مذاقاً عائلياً افتقده الجميع وعبّر عنه(هاني) بأسلوبه الطفولي وهو يقول بضيق ـ"أين بابا(طارق)؟ إنه لم يأت منذ خمسة أيام وهاتفه المحمول مغلق, لا أستطيع الأكل في غيابه."
تبادلت(هالة) نظرة سريعة حائرة مع أمها قبل أن تقول لابنها في هدوءـ"بابا(طارق) في مؤتمر كما أخبرتكما من قبل, وعنـ.ـد.ما ينهي أعماله سيعود بإذن الله. وحيث أننا لا نعلم متى سيعود, فأنت لا تستطيع البقاء دون طعام. تناول غداءك الآن, وبعد الأكل أعدك بأن نحاول محادثته ثانية.اتفقنا؟"
أومأ الولدان برأسيهما وتظاهرا بتناول طعامهما بتكاسل وهي تراقبهما بعينين حزينتين.
فقد تعلق أبناؤها بعمهم بطريقة لم تكن تتخيلها أبداً وصار وجوده معهم في المنزل أهم إليهم من الأكسجين في الهواء.
هو أيضاً كان لا يمل الجلوس معهم حتى لو طالت جلستهم لساعات أو حتى لأيام.
لكنه تغير في شـ.ـدة مؤخراً ولم يعد(طارق) الذي عرفته وتزوجته,
لقد صار شخصاً آخر.
شخصاً عصبي المزاج متقلبه وكأنه يخفي بداخله شيئاً لا يريد البوح به وهو ما ينغص عليه حياته بهذا الشكل, بل ويجعله منطوياً عنها ولا يرغب في مشاركتها إياه.
وما يقلقها عليه هو غيابه الطويل هذا,
لقد اعتاد أن يحادثهم كل ليلة يبيت فيها في بيته الثاني مع(سمر) لكنه لم يفعل هذه المرة.
والأدهى أن هاتفه الخلوي مغلق وهي لا تجرؤ على محادثته في المستشفى لا بنفسها ولا حتى بواسطة الأولاد لاقتناعهم بأمر المؤتمر المزعوم هذا.
وبينما هي غارقة في التفكير تناهى إلى مسامعها صوت مفتاح يدور في الباب الأمامي و(هاني) يقفز من فوق مقعده هاتفاً بسعادة لا مثيل لها ـ"لقد عاد بابا(طارق)."
قالها وهو يهرع مع(هيثم) إلى الباب ليستقبلا عمهما قبل أن يدلف إلى الشقة, وكان(هاني)هو الأسرع حيث أحاط ساقي عمه بذراعيه هاتفاً بلهجة تجمع بين السعادة والعتاب ـ"حمداً لله على سلامتك يا أبي, لماذا غبت طويلاً هكذا؟"
ولدهشة جميع الحضور, فقد خرج صوت(طارق) قاسياً وهو يزيح الصغير بعيداً عنه بخشونة قائلاً ـ"ماذا تفعل؟ تلوث ملابسي بيديك المتسختين وتحاول إيقاعي على الأرض؟"
شحب وجه الولدان و(هيثم) يقول مدافعاً عن شقيقه الأصغرـ"ولكن يدي (هاني) مازالتا نظيفتان, فنحن لم نبدأ الأكل بعد."
التفت إليه عمه هاتفاً بغضب ـ"وهل انتدبك لتدافع عنه؟"
ومن موقعها أدركت(هالة) سخونة الموقف فهرعت لتقف بين أولادها وعمهم الذي كان في أشـ.ـد حالات الغضب حينها ويهم بصفع(هاني), وفوجئت بنفسها تمسك ذراع(طارق) المرفوعة وعلى وجهها ابتسامة مرتبكة قائلة بلطف ـ"هديء من ثورتك يا(طارق). الأمر لا يستحق ذلك"
ثم استدارت إلى ابنيها قائلة بحزم ـ"اعتذرا لعمكما وحسابكما معي فيما بعد."
نظر الولدان إليها في ذهول وقد عجز عقلاهما عن فهم السر خلف عقـ.ـا.بهما لأنهما هرعا لاستقبال عمهما, إلا أن عنادهما وترددهما ذابا مع نظرة(هالة) الصارمة, فاعتذرا في هدوء وأسرعا إلى حجرتهما والدmـ.ـو.ع تسبقهما.
وبعد أن أسرعت أمها خلف الطفلين استدارت(هالة) بوجهها نحو(طارق) وهالها ما رأت...
فقد كان ذابلاً, أشعث الشعر, وقد نمت لحيته لتعطيه عمراً يفوق عمره الحقيقي...
ولكن ما أدهشها حقاً هو أنه لم يكن وحيداً, فقد كانت بصحبته حقيبة سفر كبيرة.
نفس الحقيبة التي ساعدته في ترتيبها قبل زواجه من(سمر).
وغاص قلبها بين ضلوعها لمعنى عودة الحقيبة إلى شقتها...
وبكل قلقها ولهفتها عليه هتفت به ـ"ماذا بك؟ ماذا حدث؟"
ولم تندهش حين سحب ذراعه من قبضتها ورمقها بنظرة طويلة قبل أن يتجه إلى غرفتهما ويغلق بابها خلفه.
وللحظة وقفت حائرة في الردهة, أتتجه إلى طفليها أم إليه؟ ثم ما لبثت أن حسمت أمرها واتجهت إلى طفليها تهديء من روعهما, و(هاني) يقول من بين دmـ.ـو.عه ـ"لم أقصد تلويث ملابسه يا أمي, أقسم لك. انظري إلى يديّ, إنهما نظيفتان."
احتضنته في حنان وربتت على ظهره قائلة ـ"أعلم هذا يا حبيبي, لقد انفعل لأنك اندفعت إليه مسرعاً وكان من الممكن أن يفقد اتزانه ويقع."
أما(هيثم) فلم يبد عليه الاقتناع بما قالته أمه إذ مسح دmـ.ـو.عه وهو يقول بثبات يفوق عمره ـ"لقد تغير بابا(طارق) وأصبح مثل بابا(حازم) رحمه الله, لم يعد يجلس معنا كما اعتاد في السابق وتغيرت معاملته معنا."
التفتت(هالة) إلى ابنها في دهشة وأدركت لحظتها أن(هيثم) نضج قبل أوانه, وأن ذهنه تفتح ليدرك ما ظنته مرئياً لها وحدها, فمدت يدها إليه لتأخذه هو الآخر بين ذراعيها قائلة بهدوء ـ"لا تقل هذا, إنها ضغوط العمل. سيعود بابا(طارق) إلى ما كان عليه في السابق, أعدكما بذلك."
↚وقف(طارق) في شرفة غرفة النوم وأشعل سيجارة نفث دخانها بعيداً في قوة علها تخفف تـ.ـو.تره, وقلبه يقرّعه على ما فعله في ابنيّ شقيقه للتو.
كان تأنيب ضميره كلسعات السياط تمزق قلبه و أحاسيسه, فما كان ينبغي أن يثور هكذا على الولدين خاصة وهو يعلم بمدى حبهما له وافتقادهما لوجوده.
واستغرقته أفكاره فلم يسمع طرقات(هالة) الهادئة على باب الغرفة, و فوجيء بها إلى جواره.
فعنـ.ـد.ما لم يجبها فتحت(هالة) باب الغرفة ودلفت إليها لترى_أول ما رأت_ حقيبته موضوعة إلى جوار الفراش. وعنـ.ـد.ما بحثت عنه بعينيها في الغرفة لم تجده, كان بالشرفة, ولم ينتبه إلا وهى تربت على كتفه وتسأله في تعاطف ـ"ماذا بك يا(طارق)؟ماذا حدث؟ ولماذا عدت إلى التدخين ثانية؟"
انتفض في فزع للحظة قبل أن يستدير إليها بعينين دامعتين, ويسحب نفساً عميقاً من سيجارته ثم يقذفها بعيداً في الهواء بأصابع مرتجفة ويعود بوجهه ثانية إلى الشارع وينفث الدخان بعيداً في صمت.
ضايقها صمته وأقلقتها دmـ.ـو.عه فقالت بلهجة خاصة ـ"(هيثم) و(هاني) يبكيان في الداخل, وأنت هنا تعود للتدخين ولا تبالي بإجابة أسئلتي و..."
قاطعها وهو يرفع كفه الأيمن أمامها صامتاً, وهالها مرأى ارتجافة كفه القوية فأمسكتها برفق وهي تقول بهلع ـ"ما هذا؟ إن كفك ترتجف في شـ.ـدة."
نظر إلى كفه في ألم ولم يجبها فازدردت لعابها الجاف وسألته في جزع ـ"هل حملت شيئاً ثقيلاً أو..."
قاطعها قائلاً بصوت مختنق ـ"أتدرين ما هي ثروة الجرّاح؟ إنها أصابعه. تخيلي خطورة أن تهتز أصابع الجرّاح أثناء عمله. لقد كدت أفقد مستقبلي اليوم حين اهتز المبضع في يدي, ورغم أن أحداً لم يلحظ ما حدث فقد شعرت بانهيار ثقتي في نفسي دفعة واحدة وطلبت من زميلي إجراء الجراحة بدلاً مني."
اتسعت عيناها في ذعر وهي تستمع إليه وأصابعها تكتم شهقة عنيفة من حلقها قبل أن تقول بحزم ـ"هيا إلى الداخل, إنك ترتجف من البرد."
قال معترضاًـ"أنا لا أرتجف من البرد."
أشارت إليه بالدخول قائلة في ثبات ـ"أياً كان السبب, يجب أن ندخل سوياً إلى الغرفة لأننا لن نناقش ما أنت فيه أمام مدينة نصر بأكملها."
بدا قولها مقنعاً إلى حد كبير فتبعها في هدوء للداخل وجلس على أول مقعد صادفه واضعاً وجهه بين كفيه, فركعت(هالة) على ركبتيها إلى جواره وربتت على كتفه في حنان قائلة ـ"(طارق)! لا تقلق, ستكون بخير غداً إن شاء الله. أؤكد لك أن الأمر لا يعدو كونه إرهاقاً زائداً لعضلات ذراعك وستعود لطبيعتك بعد قليل من الراحة."
رفع وجهه إليها قائلاً في سخرية ـ"راحة؟ ومن أين تأتي الراحة؟ من أبي, أم من(سمر), أم من المستشفى؟"
عقدت حاجبيها قائلة في قلق ـ"ماذا حدث؟ وما سر هذه الحقيبة؟"
ألقى نظرة سريعة على الحقيبة قبل أن يقول بتهكم ـ"الحقيبة؟ إنها نهاية الفصل."
سألته في حيرة ـ"أي فصل؟ وماذا تقصد بذلك؟"
تنهد في عمق قائلاً ـ"نهاية الفصل الأخير من المسرحية المؤلمة التي كنت أعيشها في الفترة الماضية والتي بدأت بتدخل أبي في حياتي مع(سمر) بحجة رغبته في رؤية أبنائي, وبعدها إصراري على إجراء فحوصات شاملة لي ولها, وانتهت المسرحية بانفصالي عن(سمر)."
قفزت واقفة على قدmيها هاتفة في استنكارـ"ماذا قلت؟ انفصالكما؟ كيف ولماذا؟"
نهض بدوره مبتعداً وقال بخفوت ـ"لا رغبة لي في الحديث عن هذا الأمر الآن."
اتجهت إليه وتابعت وكأنها لم تسمع ما قاله ـ"وأين ذهب حبكما؟هل نسيت كل ما فعلته(سمر) من أجلك وأجلي ومن أجل أولادي؟ هل نسيت كم عانت وكم ضحت في سبيل حبها؟ كيف تتركها بهذه السهولة؟"
هتف محنقاً ـ"قلت أنني لا أريد الحديث عن هذا الموضوع."
جذبته من ذراعه ليلتفت إليها قائلة بحزم ـ"بل ستتحدث لأن هذا الأمر لا يتعلق بكما وحدكما, بل بي وبأبنائي أيضاً. لقد احترمت صمتك فيما مضى رغم إحساسي بوجود مشاكل في حياتك, وقلت لنفسي إنك حر في الاحتفاظ بأسرار بيتك لنفسك وإنك ستحلها بشكل أو بآخر. لكن أن يصل الأمر للانفصال فهذا ما لن أسكت عليه وأصر على معرفة أسبابه."
رمقها بنظرة حادة فتابعت بلهجة ناعمة ودود ـ"موضوع يدك له علاقة بالأمر, لذا اجلس في هدوء وأخرج كل الضغوط التي انعكست على أعصابك وتوشك أن تفقدك مستقبلك."
قالتها وهي تقوده برفق إلى مقعده ثانية وتُجلسه عليه بهدوء.
أما هو فقد ظل ينظر بألم إلى كفه اليمنى التي ترتجف رغماً عنه والدmـ.ـو.ع تترقرق في عينيه, وعقله يضخم له الأمر موحياً إليه بأنه سيفقد مستقبله كجرّاح إذا ظل على هذه الحالة.
وشعرت(هالة) بقلبها يتمزق لمرآه هكذا فركعت أمامه ثانية وتناولت كفه المرتجفة بين يديها وهمست بحنان ـ"إنك تزيد الأمر سوءاً هكذا, صدقني ستتحسن يدك قريباً و..."
قاطعها وهو يتأمل عينيها السوداوين قائلاً ـ"لقد طلبت(سمر) الطـ.ـلا.ق بنفسها."
اتسعت عينا(هالة) وهي تستمع إليه قبل أن يخرج صوتها مبحوحاً وهي تقول ـ"بسببي؟"
هز رأسه نفياً في صمت قبل أن يتنهد بعمق ويعود بذاكرته إلى خمسة أيام مضت.
كان قد عاد لتوه إلى شقته وقد بلغ معه الإرهاق مبلغه بعد يوم عمل طويل، وأدهشه ألا يجد (سمر) في الردهة تشاهد التلفاز كعادتها.
حتى حينما أدار بصره في أرجاء الشقة لم يجدها حوله، فاتجه إلى غرفتهما وما أن اقترب حتى تناهى إلى مسامعه صوت نحيب مكتوم ففتح الباب في سرعة ليجد زوجته تحتضن وسادتها وتبكي بألم.
راعته دmـ.ـو.عها وصوت نحيبها فهرع إليها ورفع وجهها عن الوسادة قائلاً في لهفة ـ"ماذا بك يا حبيبتي؟ لماذا تبكين؟"
رفعت إليه عينيها المتورمتين من شـ.ـدة البكاء ثم عادت لتدفن وجهها في الوسادة وتجهش بالبكاء لتزيد من قلقه، فسألها بتـ.ـو.تر وهي يمسح ظهرها براحته ـ"هل تتألمين؟ هل تُوفي أحد من أقاربنا؟ أجيبيني يا (سمر) فأنا لا أطيق التـ.ـو.تر".
رفعت عينيها ثانية وإلتقطت مظروفاً كبيراً من جوارها ناولته إليه دون أن تنطق وعيناها تتبعان ملامحه لمعرفة ردة فعله.
أما هو فتناول منها المظروف وعقله لا يزال متوقفاً من الإرهاق الذي يشعر به وفتحه بعد أن جلس على طرف الفراش ليجد به مجموعة من صور الأشعة السينية والموجات فوق الصوتية ونتائج التحاليل.
حينها بدأ يدرك أنها ولا شك نتيجة تحاليله وأشعاته هو و(سمر)، وبدأت دقات قلبه في التسارع وهو يحاول التكهن بما تحمله النتائج ويربطه ببكاء زوجته الشـ.ـديد.
بدأ بأشعته وتحاليله أولاً وإلتهمت عيناه أسطر التقارير في سرعة إلى أن تأكد من أنه سليم تماماً ولا يوجد ما يمنعه من الإنجاب.
لحظتها فقط سمح لأنفاسه الحبيسة بالخروج من رئتيه في صورة تنهيدة قوية أعقبها بقوله ـ"الحمد لله".
ثم ما لبث أن إنتبه إلى النتائج الأخرى...لابد وأنها تحمل سبب بكاء (سمر).
تزايدت دقات قلبه ثانية وهو يفحص أوراقها وأشعاتها وعيناه تتسعان أكثر وأكثر، ثم ما لبث أن شعر بقبضة بـ.ـاردة تعتصر قلبه وهو يقرأ النتيجة النهائية لتقرير أشعة الموجات فوق الصوتية، فأغلق عينيه في ألم وإلتقط نفساً عميقاً يهدئ به تـ.ـو.تره الذي فاق كل حد قبل أن يلمس كف (سمر) قائلاً بصوت حاول أن يبثه قدراً من الهدوء ـ"حبيبتي هذه ليست النهاية...الطب يتقدm كل يوم وكل ساعة...ومع الإجتهاد في الدعاء سيرزقنا الله بالذرية الصالحة و..".
قاطعته من بين دmـ.ـو.عها قائلة بلهجة جافة ـ"أي طب وأي دعاء؟؟؟ألم تقرأ التقارير بعناية؟ أنا عقيم يا دكتور...عقيم ولا يمكنني الإنجاب".
هتف بها مستنكراً ـ"أستغفر الله العظيم...هل سنكفر مع أول إبتلاء؟"
إستغفرت ربها بصوت خفيض في حين تابع هو بهدوء وثبات ـ" يا (سمر) لا تقنطوا من رحمة الله..لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بالدعاء ووعدنا بالإستجابة..ولا يوجد ما هو مستحيل على قدرة الله. ومن يدري..فقد تسيقظين يوماً لتجدين طفلي بين أحشائك".
عادت إلى دmـ.ـو.عها ثانية وهي تقول بإنهيار ـ"أعد قراءة التقارير يا (طارق). الأمر واضح. أنا لا أستطيع الإنجاب لأن رحمي لا يستطيع التمدد مع نمو الجنين. ألا تدرك معنى ذلك؟ معناها أنه لا يمكنني الإنجاب حتى بواسطة التلقيح الصناعي. لقد إنتهى الأمر".
إقترب منها ووضع رأسها على صدره وإحتواها قائلاً بحنانه المعهود ـ"لن أفقد الأمل..وحتى إذا لم ننجب أطفالاً فوجودك معي يكفيني. أستطيع الحياة معك دون أطفال. ألم تقولي أن لدي ثلاثة بالفعل...سأكتفي بهم ونستمر في حياتنا وكأن شيئاً لم يكن و...".
قاطعته وهي تبتعد عن صدره في حدة قائلة بعنف ـ"طلقني".
اتسعت عيناه وهو ينظر إليها وكأنه يراها لأول مرة، ثم حاول أن يقربها إليه ثانية ليمتص إنفعالها لكنها دفعته في صدره بقوة قائلة بشراسة لم يرها من قبل ـ"ألم تسمعني؟ قلت لك طلقني".
تنهد بقوة وإستعاذ بالله من الشيطان في داخله قبل أن يقول بهدوء ـ"وحدي الله يا (سمر)...ما الداعي للحديث عن الطـ.ـلا.ق الآن؟ قلت لك إنني راض بقضاء الله ولن أفقد أملي فيه، وإنني لا أريد أطفالاً وإنما أريدك أنت..فلماذا الحديث عن الطـ.ـلا.ق؟"
سألته في حدة ـ"أتستطيع مواجهة والدك بذلك؟ أتستطيع أن تقول له بكل صراحة زوجتي عقيمة يا أبي وأنا لا أريد الإنجاب".
قال في ضيق ـ"وما دخل أبي بالأمر؟"
أجابته بنفس الحدة وقد إرتفعت نبرة صوتها الباكي قائلة ـ"أتنكر أن السبب الحقيقي في موافقته على زواجنا كان رغبته في رؤية أبنائك؟ أتنكر أنه لمح إلى تأخر حملي أكثر من مرة؟ قل لي كيف ستمنحه ما يريد من أحفاد..هل تتبنى أطفالاً أم تتزوج الثالثة لتنجب لك وبذلك ترضي جميع الأطراف. تتزوج (هالة) لتربي أبناء شقيقك الراحل وتحمي إرثهم، ثم تتزوجني لأنك تحبني، ثم تتزوج الثالثة لتنجب لك ولي العهد المنتظر".
كان يسمع كلمـ.ـا.تها القاسية بضيق، ولكن كلمـ.ـا.تها الساخرة الأخيرة أخرجته عن هدوؤه فهتف بها من بين أسنانه ـ"(سمر).. لقد تغاضيت عن الكثير من حديثك لعلمي بحالتك النفسية الآن، ولولاها لكان لي تصرفاً آخر. لقد إنتهت المناقشة ولا رجعة في ذلك، ولن أسمح لك بالحديث عن الطـ.ـلا.ق ثانية."
تأملته للحظات وأدركت كيف يجاهد للحفاظ على هدوء اعصابه في وجه كلمـ.ـا.تها الجارحة، وحمدت ربها سراً أنه يجيد كبت إنفعاله وإلا لكان صفعها في قوة على إهانتها له.
ولدهشتها فقد أشار إليها بسبابته قائلاً بلهجة شبه آمرة ـ"هيا اغسلي وجهك وغيري ملابسك..سنخرج للعشاء".
إتسعت عيناها وهي تتأمل ملامحه المرهقة قائلة بدهشة ـ"ماذا؟"
لاح شبح إبتسامة على طرف شفته وهو يقول بإرهاق ـ"ماذا ماذا؟ إني أتضور جوعاً وأنت لم تجهزي العشاء فما الحل؟؟ هيا سنتناول العشاء في الخارج".
ترددت وهي تتأمل أصابعها كفيها الرقيقة في حرج قائلة ـ"لا داعي للخروج...سنطلب خدmة التوصيل و...".
اقترب منها باسماً وتناول كفيها في رقة قائلاً ـ"كلا..العشاء في المطعم مقصود كيلا تطاردك الأفكار السوداوية وكي تضطرين إلى الحفاظ على مظهرك ولا تبكين".
ابتسمت رغماً عنها واحتضنت أصابعه بين أصابعها قبل أن تبتعد لتستعد كما طلب منها.
حينها تنهد في عمق وإعتقد أن المشكلة إنتهت على خير.
ولكنها كانت أبعد ما تكون عن الخير...
ففي الصباح التالي حينما إستيقظ (طارق) مبكراً كي يستعد للذهاب إلى عمله جلست في الفراش وإبتدرته بسؤالها ـ"لماذا ستذهب إلى المستشفى الآن؟ مواعيدك اليوم بعد الظهيرة".
أجابها بتلقائية وهو يصفف شعره في المرآه ـ"لقد أرسلوا إلي في الفجر كي أحضر عمليات الدكتور (سلطان) بدلاً منه لأن زوجته تل..".
قطع عبـ.ـارته فجأة وهو ينظر إلى إنعكاس صورتها في المرآه وقد حمل وجهها تعبيراً غريباً فإلتفت إليها سريعاً كي يعتذر لكنها كانت أسرع وهي تقول بألم ـ"هل علمت المستشفى بهذه السرعة؟"
وضع كفيه على رأسه قائلاً بصبر نافذ ـ"لا حول ولا قوة إلا بالله..أصبحنا وأصبح الملك لله...مالذي علمته المستشفى يا (سمر)؟ ومالحياتنا الشخصية بها؟"
اغــــرورقت عيناها بدmـ.ـو.ع سريعة وهي تقول ـ"ما تفسيرك إذاً لهذا الإستدعاء؟ لماذا لم يستدعوا أي جراح آخر؟ لا يوجد تفسير سوى أنهم يعلمون أن زوجتك لن تلد يوماً ولهذا فأنت متاح في أي وقت".
زفر في ضيق وخلل شعره بأصابعه قائلاً ـ"يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم...(سمر) يا حبيبتي..ما أدراك أنهم لم يطلبوا غيري؟ ثم كيف تعلم المستشفى بتقاريرنا الصحية التي أجريناها في مستشفى آخر؟ إستعيذي بالله من شيطانك وهيا لتذهبي معي إلى العمل".
اعتدلت على طرف الفراش وهي تقول ـ"أفضل ألا أذهب اليوم...حالتي النفسية ليست...".
جذبها من كفيها ليوقفها على الأرض قائلاً برقة وكأنه يتعامل مع طفلة كبيرة ـ"الحل الأمثل لحالتك النفسية هو الخروج من البيت..أتنكرين أنك كنت أفضل بالأمس بعد عودتنا؟ هيا إستعدي فلن أنتظر طويلاً".
وأطاعته ثانية وظن أن الأمور في تحسن.
لكنه فوجئ بعد إنتهاء عمله في المستشفى بأنها غادرت منذ الصباح وبأن هاتفها الجوال مغلق.
عاد منهكاً إلى المنزل فلم يجدها، ولم يجد بالطبع ما يأكله.
حاول الإتصال بجوالها ثانية دون جدوى، ثم ما لبث أن أرشـ.ـده عقله إلى الإتصال بمنزل والدتها التي قالت له بهدوء إن زوجته بحاجة إلى إراحة أعصابها وإلى البقاء وحدها بعيداً عنه لفترة.
لم يحاول الجدال معها لعلمه بأن (سمر) لن تغير رأيها بسهولة وأنها بحاجة إلى وجود أمها إلى جوارها في حالتها تلك.
وإتخذ قراره حينها بالذهاب إلى (هالة)...فمؤكد أنها ستهتم به وسيجد عندها الطعام الساخن والملابس النظيفة و...
قطع عليه تفكيره صوت هاتفه الجوال برسالة من المستشفى تطلبه بشكل طارئ فزفر في ضيق قائلاً ـ"أستغفر الله العظيم...ألا يوجد جراح غيري في هذا المستشفى؟"
قالها وإلتقط سلسلة مفاتيحه وغادر الشقة متجهاً إلى عمله ثانية، والذي إستغرقه حتى الصباح التالي. وحينما أنتهى كان الإرهاق قد بلغ معه حداً يجعله لا يكاد يرى أمامه، فلم يهتم حتى بسؤال زملائه ما إذا حضرت (سمر) إلى عملها أم لا.
غير أنه حينما فتح باب شقته ودلف إليها تبخرت من عقله كل أحلام النوم.
فقد كان شكلها يبدو مختلفاً...
ليس مختلفاً بشكل كبير، ولكنه مختلف بالنسبة لمن عاش فيها طيلة سبعة أشهر أو يزيد، ويتمتع بقوة ملاحظة خارقة
فقد لفت إنتباهه تحرك أحد مقاعد الأنتريه الوثير عن موضعه أمام غرفة النوم، مما يعني أنه كان يعوق خروج شيء من من بابها.
أسرع عند هذه النقطة إلى غرفة نومه وفتح بابها بقوة ليجد خزانة الملابس التي تحوي ثياب زوجته فارغة ومفتوحة على مصراعيها...
إلتفت برأسه إلى حيث المرآة ليلحظ إختفاء عطور زوجته ومستحضرات تجميلها...
وكأنما كان يحتاج إلى براهين أقوى على رحيلها فهرع إلى الحمام وفتحه ليكتشف إختفاء باقي متعلقاتها من شامبو وملطف و و و
حينها أسند ظهره إلى الجدار ورفع كفيه إلى وجهه للحظات قبل أن يخلل شعره بأصابعه ويتجه إلى الهاتف ويطلب رقم والدة زوجته.
وعلى غير هدوؤه المعتاد فوجئ بنفسه يهتف بوالدتها بعصبية ـ"أريد التحدث إلى (سمر) من فضلك".
أجابته والدتها بنفس الهدوء الذي يميزها قائلة ـ"(طارق) يا بُني..لا داعي للإنفعال..فالأمر لا يستحق".
سألها في حنق ـ"إذا كان الأمر لا يستحق فما تفسير إختفاء كل متعلقات (سمر) من شقتها؟"
أجابته بثقة ـ"لقد أخبرتك من قبل أنها بحاجة إلى البقاء بعيداً لفترة، ومن الطبيعي أن تأخذ ملابسها لأنها لن تذهب إلى العمل بنفس الملابس كل يوم".
لم يبد عليه الإقتناع بما قالت، لكنه تنهد في عمق قائلاً ـ"سأتظاهر بالإقتناع بمبرراتك..ولكن من فضلك صليني ب(سمر)".
قالت بصدق ـ"أقسم لك يا بُني أنها في المستشفى...ستعود في المساء...هاتفها حينها وتفاهما سوياً".
هز رأسه بإستسلام ثم ما لبث أن عاد صوته إلى هدوؤه وهو يقول ـ"حسناً إذاً. سأهاتفها حينما أستيقظ".
قالها ثم أنهى المكالمة بود، فآخر ما يريده الآن هو أن يفقد دعم أهلها لموقفه وإصراره على بقائهما معاً.
وفي تكاسل نهض ليأخذ حماماً سريعاً، قبل أن يستلقي على فراشه ويستغرق في نوم عميق.
لم يدر كم مضى من الوقت وهو نائم، لكنه حينما إستيقظ كان الظلام يحيطه من كل جانب والجوع يقرص معدته...تذكر حينها أنه لم يتناول شيئاً منذ مساء اليوم السابق فنهض إلى المطبخ وأعد لنفسه طعاماً سريعاً تناوله بدافع من الجوع فحسب.
وبعد أن قضى ما فاته من صلوات إرتدى ملابسه وخرج إلى منزل أهل (سمر).
كان يتوقع ترحيبها به، لكنها على العكس إستقبلته ببرود وكأنه المسؤول عما بها...
والأدهى أنها لم تستمع إليه وهو يؤكد لها إستعداده وإصراره على مواصلة الحياة معها كأن شيئاً لم يكن...
وفي النهاية فاجأته بطلب الطـ.ـلا.ق ثانية.
حينها نهض من مقعده بهدوء يتناقض وغليان مشاعره الداخلي وتنهد في عمق قائلاً ـ"سأتظاهر بأنني لم أسمع شيئاً، وسأنتظر عودتك في بيتنا".
قالها وخرج دون أن يضيف حرفاً، بعدmا شعر بضيق يطبق على أنفاسه.
تجول بسيارته قليلاً في شوارع القاهرة المزدحمة قبل أن يجد نفسه بالقرب من النيل في منطقة هادئة.
فنزل من سيارته وإكتفى بالجلوس وهو يدخن ساهماً أمام صفحة النيل وهواء الليل المنعش يداعب شعره ويدغدغ أعصابه المتـ.ـو.ترة حتى ما بعد منتصف الليل.
حينها شعر برجفة خفيفة تسري في أوصاله فخرج من شروده ووضع كفيه في جيبي سترته متحركاً إلى حيث سيارته، وأدارها متجهاً إلى شقته.
كان يتمنى الذهاب إلى (هالة) حتى يشعر ببعض الراحة، ولكنه كان يشفق عليها من الدخول في دوامة مشاكله مع (سمر)، لأنها ستلحظ تـ.ـو.تره وضيق أعصابه ولن تهدأ حتى يُخرج ما بداخله.
لذا وجه السيارة إلى شقته الخاصة وهرب من ضيقه إلى النوم، عسى أن يرتاح عقله قليلاً.
حينما إستيقظ في الصباح التالي كان يشعر ببعض النشاط، ولكنه لم يستطع تجاهل الشعور بثقل يجثم على أنفاسه فإستهل يومه بتدخين سيجارة علها تزيح ذلك الشعور.
كان يدرك بحكم دراسته أن التدخين لن يفيده وإنما سيضره بشكل قـ.ـا.تل، ورغم ذلك كان يلهي نفسه بالتدخين حتى أجهز على نصف العلبة قبل أن يغسل وجهه.
وعلى عكس ما كان يمني نفسه، لم يزده التدخين إلا ضيقاً فوق ضيق، فنهض يأخذ حماماً منعشاً قبل أن يتصل بالمستشفى ويطلب إجازة عارضة لهذا اليوم بعد مجهود عمليات اليومين الماضيين.
قضى يومه يقلب في قنوات التلفاز، وبين الحين والآخر ينظر في شاشة هاتفه الجوال ليتأكد من تغطية الشبكة، ثم يرفع سماعة الهاتف الأرضي ليتأكد من وجود حرارة...ورغم ذلك لم يأته أي إتصال.
حتى كانت السابعة مساء.
تزامنت دقات ساعة الحائط مع رنة جرس الباب حتى أنه لم ينتبه إليه في البداية
ثم مالبث أن إنتبه مع الرنة الثانية وقام ليفتح الباب...
ولدهشته فقد كانت (سمر) أمامه هي وأمها وزوجها وأبنائه...ووالده.
ألجمته الدهشة للحظات قبل أن يهمس لزوجته ـ"لماذا تدقين الباب ومعك مفتاح؟"
لم تجبه وتهـ.ـر.بت من نظراته فأشار إلى ضيوفه بالدخول وهو يقبل ظاهر كف والده بإحترام قائلاً ـ"مرحباً بك يا والدي".
وحينما جلس الجميع في صالة الإستقبال الأنيقة توقع أن يكون الهدف من الزيارة إعادة زوجته إلى بيتها فقال لها بإبتسامة واسعة ـ"لقد فعلت الصواب بعودتك إلى بيتك وبيت زوجك يا (سمر). هو أولى بك".
ولكن ما نطقه زوج والدتها في اللحظة التالية جعل الإبتسامة تتجمد على شفتيه و..
خرج من ذكرياته على صوت (هالة) الحنون وهي تسأله بإهتمام ـ"ماذا حدث يا (طارق)"؟
منحها نظرة خاوية وتنهد قائلاً بخفوت ـ"لقد أظهرت التحاليل والأشعات التي أجرتها(سمر) أنها لا تستطيع الإنجاب بأي شكل من الأشكال, ويبدو أنها كانت تعلم بذلك مسبقاً أو أنها أجرت هذه التحاليل من قبل دون أن تخبرني لأنها وافقت مُجبرة على إجرائها معي. وحين تأكدت من استحالة حملها طلبت الطـ.ـلا.ق."
سألته بصوت مختنق وعيناها لا تفارقان وجهه ـ"وماذا فعلت؟"
هز كتفيه قائلاً ـ"رفضت بالطبع. إنها زوجتي وأحبها فلماذا تطلب الانفصال؟"
ازدردت(هالة) لعابها في صعوبة وهي تجيبه قائلة ـ"لأنها تحبك, وحين أيقنت أنها عاجزة عن تحقيق حلمك في أن يكون لك ابناً من صلبك شعرت بأنها تظلمك بالبقاء معها."
هز رأسه نفياً وهو يقول بإصرار ـ" من تحب لا تفعل ما فعلته(سمر)."
قالت بهدوء ـ"إحساسها بالنقص جعلها..."
قاطعها قائلاً بحنق ـ"جعلها ماذا؟ جعلها تترك البيت وتجمع أهلها وأبي لإقناعي بتطليقها؟ جعلها تحرجني أمام كل العاملين بالمستشفى بطلبها الطـ.ـلا.ق علانية؟"
اتسعت عيناها في دهشة وقالت باستنكار ـ"أفعلت كل هذا؟ لماذا؟"
هز كتفيه في حيرة قبل أن يقول ـ"لقد كنت مصراً على أن نواصل حياتنا سوياً بشكل عادي, وأن الطب يتقدm كل يوم وأنها قد تستيقظ في أحد الأيام لتجد نفسها حاملاً, وكنت أكثر إصرارا على أنني أستطيع الحياة معها دون أطفال على الإطـ.ـلا.ق, إلا أن اهانتنها لي وجـ.ـر.حها لكرامتي أفقدني اتزاني و.جـ.ـعلني أطلقها في غمرة انفعالي أمام الجميع."
شهقت باستنكار قائلة ـ"أتعني أن كل هذا حدث بالمستشفى؟"
أومأ برأسه إيجاباً في صمت ثم ما لبث أن قال ـ"فوجئت بها تأتي إلى شقتنا بصحبة أهلها ووالدي، والذين اجتمعوا لإقناعي بتطليقها, وفوجئت بأبي_ على غير توقع_ يطلب مني أن أطلقها ما دامت تريد ذلك. شعرت بأن شيئاً عزيزاً يؤخذ مني غـ.ـصـ.ـباً والمطلوب أن أعطيه عن طيب خاطر, لذا رفضت وبشـ.ـدة أن أترك زوجتي وأصريت على أنني مازلت أحبها وأن موضوع الإنجاب لا يشكل فارقاً كبيراً بالنسبة لي. ويبدو أن والدي لم يكن يعرف بأمر الإنجاب هذا, إذ إزدادت حدة لهجته فجأة وهو يحاول إقناعي بالطـ.ـلا.ق. المهم هو أنني رفضت طلبهم جميعاً وقلت إنها ستظل زوجتي وإنه ما من قوة في الأرض ستجعلني أتركها أو أضحي بها."
وتوقف عن الحكي للحظات أشعل فيها سيجارة بيده اليسرى تاركاً يمناه راقدة بين كفي(هالة), وقال بعد أن نفث الدخان بعيداً عن وجهها ـ"بعد انصرافهم ظل أبي معي يحاول إقناعي بتركها ما دامت غير قادرة على الإنجاب, وأثارني موقفه. شعرت لحظتها بأن الغرض الرئيسي لزواجي منها هو الإنجاب وليس لأننا متحابان. وسألته حينها هل كان رأيه سيظل كما هو لو أن ابنه هو العاجز عن الإنجاب؟ لكنه لم يجبني. وبعد انصرافه أحسست بالدmاء تزداد غلياناً في رأسي وعدت إلى التدخين بشراهة."
وتوقف عن الحديث للحظة أخذ فيها نفساً عميقاً من السيجارة أتى على نصفها وتابع بعد أن نفثه في هواء الغرفةـ"لم يغمض لي جفن بقية الليل, وصباح اليوم فوجئت بيدي ترتجف فخرجت من غرفة العمليات محطماً نفسياً. خرجت لأجدها واقفة أمامي عاقدة ذراعيها أمام صدرها وتنظر لي في تحفز. سألتها في هدوء عن سبب وقوفها هكذا فأجابتني ببرود قائلة’طلقني‘. حاولت إثنائها قائلاً أننا سنواصل الحديث في بيتنا فعلا صوتها وطالبتني بتطليقها فوراً واتهمتني بأنني عديم الكرامة لأنني أريد الحياة معها غـ.ـصـ.ـباً, فلم أتمالك نفسي وطلقتها".
قالها وعاد لأخذ نفس آخر من السيجارة قبل أن تلتقطها(هالة) من بين أصابعه وتطفئها في منفضة مجاورة وتنهض قائلة في ذهول ـ"أكاد لا أصدق ما تقول, إنك تتحدث عن(سمر) أخرى غير التي طالما تحدثت عنها في حب. لكن تفسيري الوحيد لما فعلت هو أنها أرادت أن تبتعد عنك برغبتها قبل أن تهجرها أنت. ولا تنس أنها كانت تشعر بانعدام الأمان من قبل, وعاد إليها هذا الشعور عنـ.ـد.ما اكتشفت مشكلتها تلك. قد يكون رد فعلها مبالغاً فيه ولكنني واثقة من أنها مازالت تحبك وأنها ستهدأ بمرور الوقت. وقريباً جداً ستعودا إلى منزلكما سوياً."
هز رأسه نفياً وقال بشك ـ"أستبعد ذلك."
وبداخله كان يشعر بأن قلبه لم يعد عاشقاً كسابق عهده.
↚طرقت (هالة) باب غرفتها المفتوح بهدوء وهي تنظر إلى (طارق) يعدل رباط عنقه في المرآه، فابتسم بعذوبة لصورتها المنعكسة وعيناه تحملان تساؤلاً عما تريده.
دلفت إلى الغرفة بنعومة وهي تتنحنح بحرج قائلة ـ"هل ستتأخر اليوم في المستشفى؟"
التفت إليها وهو يغلق أزرار معصميه قائلاً بنفس الإبتسامة ـ"أعتقد ذلك...فلدينا اجتماع مع المدير العام".
قالها وتنحنح وهو يعدل ياقة قميصه بشكل سينمائي ويضيف ـ"يبدو أنه سيكافئني على مجهودي الخرافي في الفترة السابقة وكأنني الجراح الوحيد بالمستشفى..ولهذا أرتدي الملابس الرسمية".
ضحكت على عبـ.ـارته وهي تلتقط السترة من فوق الفراش وتساعده في ارتدائها قائلة ـ"ستكون هذه المكافأة إستجابة لدعاء أمي لك..فهي تدعو لك أكثر مما تدعو لي ولأبنائي".
أدخل ذراعه في كم السترة التي تمسكها (هالة) قائلاً بمرح ـ"أهذه غيرة؟ أم محاولة للوقيعة بيني وبين أمي؟"
ضحكت ثانية وهي تعود لتقف أمامه وتربت على كتفه قائلة بنبرة خاصة ـ"لا غيرة ولا شيء..ربنا يهني سعيد بسعيدة".
ضحك هو لطريقتها في الحديث قبل أن يكتسي صوته بالجدية وهو يقترب بوجهه منها ويسألها بود ـ"المهم...بعد الاجتماع سأجري جراحتين بإذن الله..أي أنني سأعود بعد العاشرة مساء إن شاء الله. هل أجبت سؤالك؟"
تخضب وجهها خجلاً لإقترابه منها فتراجعت قليلاً وهي تزدرد لعاباً وهمياً وتحاول أن تقول بشكل طبيعي ـ"تقريباً..بعد إذنك ستأتي (نهى) صديقتي لتزورنا بعد المغرب".
تناول ساعة يده وهو يسألها بإهتمام ـ"هل تريدينني أن أستقبل زوجها؟"
قالت في سرعة ـ"كلا...سيوصلها أخاها بسيارته فقط..زوجها مع الأولاد في الخليج وهي هنا في زيارة قصيرة لتطمئن على والدتها المريـ.ـضة".
عقد حاجبيه للحظات لاح فيه الضيق على وجهه قبل أن يسألها وهو يلتقط جواله من جوار الفراش قائلاً بروتينية ـ"وهل زرت أنت والدتها؟ عهدي بك أنك ت عـ.ـر.فين الواجب".
قالت بثقة ـ"طبعاً زرتها وإستأذنت منك قبلها".
التفت إليها وعادت ابتسامته الهادئة إلى وجهه وهو يقول ـ"دائماً أقول إن الذوق كله عند (هالة) دون جميع النساء".
إلتهب وجهها من الخجل وهي تخفضه أرضاً وتتمتم ـ"شكراً".
أربكه خجلها غير الطبيعي فضغط فكيه بقوة لثوان قبل أن يسألها ـ"هل أشتري بعض الحلويات وال..".
قاطعته في سرعة لتفلت من حيائها ـ"كلا..سأصنع حلوى مميزة نحبها وهي ستحضر معها القهوة العربية التي اشتقت لرائحتها".
مد يده يلتقط علبة السجائر والولاعة وهو يقول مازحاً ـ"أهم شيء أن تتركوا لي جزءاً من هذه الحلوى".
تابعت عيناها كفه وهو يلتقط علبة السجائر ويهم بوضعها في جيبه فأسرعت تقول بضيق ـ"ألم يكفك أكثر من شهر؟"
توقفت يده في الهواء وعقد حاجبيه مستفهماً لتتابع هي بنفس الضيق ـ"لقد عدت إلى التدخين منذ أكثر من شهر...أدرك أن ما مررت به صعب ولكنك أقوى من أن تخضع لسيجارة".
خفض عينيه أرضاً ثم عاد يرفعهما قائلاً بجمود ـ"أخبرتك أنني أدخن كلما شعرت بالضيق، وليس طوال الوقت".
أدهشته بحنانها وهي تقول ـ"فلماذا لا تعيدها إلى عصمتك إذاً؟ لماذا تكابر وتقاوم حبها في قلبك؟"
إتسعت عيناه في دهشة وهو يسألها باستنكار ـ"ماذا تقولين يا (هالة)؟ أي حب هذا الذي أقاومه؟ لقد كنت أعيش وهماً كبيراً وأفقت منه".
قالت بنفس الحنان ـ"لا تعاند نفسك...أعتقد أن شهراً فترة كافية جداً كي تهدأ أعصابكما وتبحثا ...".
قاطعها قائلاً بحدة أخافتها ـ"نبحث ماذا؟ إنها ليست قضية السلام...لقد إنتهى الأمر ولا يستحق إعادة النظر فيه..هي أهانتني أمام الجميع، وكرامتي لا تسمح بأن أتركها على ذمتي بعد ذلك".
حاولت تهدئته قائلة بإبتسامة مرتبكة ـ"ولكن حبكما..".
قاطعها وهو يشير إلى قلبه قائلاً ـ"قلبي قبل كرامتي لا يقبل الإهانة..هي باعت هذا القلب وتمسكه بها، وأنا كذلك لم أعد بحاجة إليها. لقد كنت وفياً لها حتى النهاية وكنت مستعداً للتضحية من أجلها بكل شيء..لكنها باعتني عند أول منعطف".
قالها وزفر بعمق قبل أن يستغفر ربه بصوت خافت ويعود ليرسم ابتسامته العـ.ـذ.بة ويقول ملوحاً بسبابته في تحذير ـ"دعك من هذا..لا تنسي نصيبي في الحلوى".
ثم تابع وهو ينظر إلى علبة السجائر في كفه قائلاً ـ"وإذا كانت السجائر تضايقك أعدك ألا أدخن ثانية".
وأقرن قوله بالفعل وهو يلقي بعلبة السجائر في سلة مجاورة للفراش ويعود بوجهه إليها مازحاً ـ"لقد توقفت عنها من أجلك قبل ذلك، وها أنذا أتوقف ثانية من أجلك".
وبحركة عابثة أشار إلى وجنته وهو يخرج من الغرفة قائلاً ـ"ألا أستحق مكافأة لأنني أطيع زوجتي؟"
قالها ومضى إلى عمله تاركاً (هالة) وقد إتسعت عيناها في ذهول من جرأته التي جعلتها تشتعل حرجاً للمرة الثالثة خلال أقل من نصف ساعة.
حاولت ألا تُحمل مزحته أكثر من معناها وهي تُلهي نفسها بأعمال المنزل التي لا تنتهي مستغلة أنها في إجازة عارضة من عملها بالمدرسة.
ولكن حينما ارتدت ملابسها إستعداداً للقاء صديقتها وقفت تتأمل نفسها قليلاً في المرآة.
لم تكن ملابسها ملفتة قياساً بما إعتادت إرتداؤه لإستقبال صديقاتها حينما كانت في الخليج.
كانت ترتدي سروالاً قصيراً من الجينز يصل إلى منتصف ساقها وبلوزة قطنية حمراء ناعمة بدون أكمام زانتها رسوم لبالونات مختلفة الألوان.
كانت تبدو أصغر سناً في هذه الملابس، وخاصة بعدmا أضافت رتوشاً هادئة من مساحيق الزينة لتبرز جمال عينيها السوداوين وتزيد غموضهما، ورفعت شعرها الأسود الفاحم قليلاً ليصل إلى منتصف ظهرها بدلاً من نهايته.
ورغم ذلك راودتها هواجس أن يراها (طارق) هكذا ويسيء فهمها.
إنها ترتدي هذه الملابس لأنها تشتاق لأوقات مرحها مع صديقتها،
تماماً كما تشتاق لأوقات برائتها قبل أن تتزوج وتخـ.ـنـ.ـقها المسؤوليات.
وبتمرد غريب عليها أكملت وضع زينتها بأحمر الشفاه اللامع وهي تتمتم لنفسها في المرآة قائلة ـ"(طارق) لن يعود قبل العاشرة، وحينها تكون (نهى) قد عادت إلى منزلها وأزلت أنا مساحيق التجميل وعدت إلى ملابسي المعتادة...لا يُعقل أن أقابلها مثل ربات المنازل اللائي يهملن أنفسهن...كفاني إهمالاً".
قالتها وأعادت تأمل نفسها وقد ارتسمت ابتسامة رضا على شفتيها ولسان حالها يقول "نعم كفاني إهمالاً".
↚"ماذا؟؟ ساعدته في الزواج من أخرى؟"
هتفت (نهى) بهذه العبـ.ـارة في ذهول واستنكار بالغين وهي تتأمل صديقتها تتابع في بساطة ـ"(نهى)..لا تنسي أننا تزوجنا مرغمين، ولم يكن من المعقول أن أفرض نفسي عليه كزوجة وأنا التي كانت تعارض فكرة الزواج من الأساس".
ضـ.ـر.بت (نهى) كفاً بكف وهي تقول في حيرة ـ"لا حول ولا قوة إلا بالله.. وأنا التي توقعت أن أجدك تحملين طفله على ذراعك. الغريب أنني لم أشك لحظة في سعادتك أثناء حديثنا على الإنترنت وحينما قابلتك في بيت والدتي الأسبوع الماضي".
أزاحت (هالة) خصلات شعرها عن وجهها وهي تقول بهدوء غريب ـ"لأنني سعيدة بالفعل...سعيدة بهذه الحياة أياً كانت، ولم أكن لأخبر مخلوقاً بحقيقة علاقتي ب(طارق) لولا سؤالك المُلح عن سبب عدm إنجابنا حتى الآن".
تخضب وجه (نهى) خجلاً وهي تقول بحرج ـ"آسفة يا (هالة)، لم اقصد التدخل في حياتكما..لكنني توقعت أن...".
ربتت (هالة) على كفها قائلة بودـ"حبيبتي أنت أختي التي لم تلدها أمي، ولهذا فتحت قلبي لك".
احتضنتها (نهى) بحب صادق قائلة ـ"يعلم الله وحده مدى حبي لك منذ عرفتك".
ثم ابتعدت عنها وهي تمسح دmعة حائرة على طرف عينها قائلة ـ"المهم كيف هي زوجته تلك معك؟"
هزت (هالة) كتفيها قائلة بلامبالاة مصطنعة ـ"لم أرها سوى في صور الزفاف التي أحضرها (طارق) خلسة كيلا يراها الأولاد..هي فاتنة تبـ.ـارك الله، وفي عينيها شقاوة محببة و..".
قاطعتها (نهى) قائلة بغـ.ـيظ ـ"لم أسألك عن رأيك فيها يا (هالة)...أنا مقهورة مما فعلته أنت أصلاً...تسلمينه بيديك إلى أخرى؟؟ ماذا ينقصك أنت كأنثى ها؟؟؟ أشك أنك ارتديت ملابس كهذه أمامه".
شهقت (هالة) في استنكار قائلة ـ"أجُننت؟ كيف يراني هكذا؟ كلانا يعامل الآخر كأخ وصديق، ولا ينبغي أن يتغير ذلك".
سألتها صديقتها بضيق ـ"أخ وصديق؟؟؟ اصبري إلى أن تلد له وحينها سينسى أخته وصديقته وأبنائها و..".
قاطعتها (هالة) هذه المرة وهي تقول بنرة محايدة ـ"إطمئني...لن تنجب".
اتسعت عينا (نهى) وهمت بالتعقيب لولا أن سبقتها (هالة) بقولها ـ"لقد انفصلا".
بدت (نهى) وكأنما أخرستها الصدmة فتابعت (هالة) قائلة ـ"طالبته بالطـ.ـلا.ق حينما علمت بأنها لن تستطيع الإنجاب..وطلقها منذ شهر".
لاح بريق ماكر في عيني (نهى) لم يخف عن عيني (هالة) التي قالت في سرعة وكأنها تدفع عنها إتهاماً مباشراً ـ"لقد حاولت معه أكثر من مرة أن يعيدها إلى عصمته، ولكنه يثور في كل مرة..حتى هذا الصباح ثار و...".
قاطعتها (نهى) بإببتسامة هادئة قائلة ـ"(هالة)..أنت تحبينه".
رفعت (هالة) رأسها في حدة وإستنكار فتابعت (نهى) بنفس الهدوء الواثق قائلة ـ"لا تحاولي الإنكار...أنت تحبينه ولكن كبريائك يمنعك من مصارحته بهذا الحب بعدmا ابتعد عنك في بداية زواجكما".
حاولت (هالة) الإعتراض ولكن صديقتها تابعت قائلة ـ"أدري أنك كنت ترفضين فكرة الزواج وأنني أقنعتك بها على مضض، وأنه لو لم يضايقك ذلك الموظف يومها لربحت رهانك مع نفسك وظللت أرملة (حازم) رحمه الله. ولكنك أنثى في المقام الأول يا (هالة). أنثى تحب أن تشعر بضعفها وحاجتها إلى رجل يقف إلى جوارها. وحينما يكون الرجل حنوناً، لا تستطيع الأنثى الفكاك من أسر حنانه. صدقيني الحنان هو السلاح الوحيد الذي لا تستطيع المرأة مقاومته."
تاهت نظرات (هالة) بعيداً ولم تحر جواباً وهي تسمع صديقتها ومرآة روحها تقول بصدق وحالمية ـ"ربما تستطيعين مقاومة الحب ووأده في مولده بحجج عديدة، وستنجحين في ذلك. أما الحنان فهو الشعور الذي يدغدغ مشاعرك رغماً عنك ويدفعك إلى التعلق بهذا الشخص وكأنك مسلوبة الإرادة".
أطرقت (هالة) بنظرها إلى الأرض وكلمـ.ـا.ت صديقتها تدوي في عقلها.
نعم هي تحبه، وتحب حنانه عليها وعلى أطفالها، وحتى على أمها.
حنانه الصادق الذي لا رياء فيه، ولا هدف خلفه.
ربما يبدو ضعيفاً أحياناً أمام والده، ولقد خذلها أمامه من قبل.
لكنها تغاضت عن ألمها من هذا الموقف بعدmا أخبرها بأنه يحب أخرى سواها، لأن ألم مصارحته كان أقوى.
لم تكن تتوقع منذ البداية أن يكون زوجاً طبيعياً لأرملة شقيقه الوحيد بعد عام من وفاته.
ولكنها حاولت أن تبدو زوجة طبيعية كيلا تلعنها الملائكة.
ورغم إبتعاده عنها، ومحاولاته الهروب من أن يجمعهما وقت النوم معاً، لم تمنع نفسها من الإشفاق عليه.
فهو طبيب وسيم وخلوق ومن أصل طيب تتمنى أعرق العائلات نسبه، ومع ذلك أُجبر على الزواج من أرملة لديها ثلاثة أطفال.
أياً كان حبه لأبناء أخيه، وأياً كان إحترامه وطاعته لأبيه، فلابد وأن يحب نفسه أكثر.
لابد وأن تكون له زوجة خاصة به يبدأ معها حياته وأحلامه.
زوجة لم تكن لغيره من قبل.
ولهذا شعرت بأنها مدينة له بمعروف لابد من رده.
وهنا داست على قلبها وحافظت على ما تبقى من كرامتها وفضلت أن تساعده في الزواج من محبوبته.
فأن يبقى إلى جوارها وأطفالها أخاً وأباً أفضل من أن يكون لها زوجاً لا يشعر بها ولا يبادلها أية مشاعر، بل وربما يلعنها سراً لأنها كانت سبباً في ضياع حبه.
هو ضحى من أجلها، وهي قادرة على التضحية بدورها.
ومن هنا كان إصرارها على إتمام المعروف إلى النهاية، وإعادة (سمر) إلى (طارق) و...
"(هالة)....أين ذهبت؟"
أجفلت (هالة) وهي تشعر بلمسة صديقتها لكفها فالتفتت إليها في شرود وابتسامة باهتة على شفتيها لتسمعها تتابع ـ"فيم تفكرين؟"
أجابتها (هالة) في هدوء ـ"لا أنكر أنك على حق...ولكني لا أستطيع تغيير موقفي. لقد طوقني هو و(سمر) بمعروفهما، ولابد من رد الجميل".
سألتها صديقتها بعدm إقتناع ـ"على حساب قلبك؟"
أجابتها بثقة ـ"على حساب أي شيء سوى أولادي".
ثم ما لبثت أن هتفت بصديقتها بلهجة مرحة لتغير الموضوع ـ"(نهي) يا ماكرة...ألهيتني في الحديث كيلا أشرب القهوة وأنت تعلمين مدى شوقي إليها..هيا أفرغي لي فنجاناً فرائحتها تزكم أنفي".
قالتها وتظاهرت بتقديم الحلوى لصديقتها التي تناولت حافظة القهوة لتفرغ منها وهي تتابع (هالة) بنظرات آسفة.
جلستا لدقائق في صمت وكلتاهما تحتسي القهوة وعقلها شارد بعيداً عن حدود الغرفة، ولم يخرجا من شرودهما إلا على صوت جرس الباب فقالت (نهى) في دهشة ـ"هل تنتظرين أحداً؟"
هزت (هالة) رأسها نفياً وهي تضع فنجانها على الطاولة قائلة ـ"كلا..عمي لم يخبرنا أنه قادm..ربما كانت (سناء) جارتي".
لم تكد تتم عبـ.ـارتها حتى تناهى إلى مسامعهما صوت (هاني) الشقي وهو يهتف بجذل ـ"لقد عاد بابا..لماذا لم تفتح بالمفتاح؟"
بلغت دهشتها الذروة وهي تحدق في وجه صديقتها التي ابتسمت بمكر فأشاحت (هالة) بكفها في ضجر قائلة ـ"أمر غريب..لقد أخبرني أن لديه جراحتين بعد الإجتماع مع المدير..اللهم سترك".
قالتها ونهضت باتجاه الباب وفتحته قليلاً وهي تنادي ابنها قائلة ـ"(هاني)...تعالى هنا".
أتاها الصغير يقفز كعادته وهو يقول في سرعة ـ"لقد عاد بابا (طارق)".
قالت بهدوء ـ"أعلم ذلك يا حبيبي..هيا أحضر إسدال الصلاة من غرفة جدتك و(هند) ولا تصدر ضوضاء..فربما كان بابا (طارق) منهكاً من العمل".
أومأ الصغير برأسه وأسرع لينفذ طلب أمه التي تناهت إلى مسامعها عبـ.ـارة تهكمية
"إسدال الصلاة؟؟؟!!!!!!"
جلستا لدقائق في صمت وكلتاهما تحتسي القهوة وعقلها شارد بعيداً عن حدود الغرفة، ولم يخرجا من شرودهما إلا على صوت جرس الباب فقالت (نهى) في دهشة ـ"هل تنتظرين أحداً؟"
هزت (هالة) رأسها نفياً وهي تضع فنجانها على الطاولة قائلة ـ"كلا..عمي لم يخبرنا أنه قادm..ربما كانت (سناء) جارتي".
لم تكد تتم عبـ.ـارتها حتى تناهى إلى مسامعهما صوت (هاني) الشقي وهو يهتف بجذل ـ"لقد عاد بابا..لماذا لم تفتح بالمفتاح؟"
بلغت دهشتها الذروة وهي تحدق في وجه صديقتها التي ابتسمت بمكر فأشاحت (هالة) بكفها في ضجر قائلة ـ"أمر غريب..لقد أخبرني أن لديه جراحتين بعد الإجتماع مع المدير..اللهم سترك".
قالتها ونهضت باتجاه الباب وفتحته قليلاً وهي تنادي ابنها قائلة ـ"(هاني)...تعالى هنا".
أتاها الصغير يقفز كعادته وهو يقول في سرعة ـ"لقد عاد بابا (طارق)".
قالت بهدوء ـ"أعلم ذلك يا حبيبي..هيا أحضر إسدال الصلاة من غرفة جدتك و(هند) ولا تصدر ضوضاء..فربما كان بابا (طارق) منهكاً من العمل".
أومأ الصغير برأسه وأسرع لينفذ طلب أمه التي تناهت إلى مسامعها عبـ.ـارة تهكمية
"إسدال الصلاة؟؟؟"
إلتفتت في حدة لصديقتها قائلة لتغـ.ـيظهاـ" لا تتخيلي أنه سيراني في هذه الملابس...نجوم السماء أقرب لك".
لم تتمالك (نهى) نفسها من الضحك وهي تراقب صديقتها ترتدي إسدال الصلاة وتحكم طرحته فوق شعرها ووجهها كما لو كانت تستعد للصلاة بالفعل، فقالت بسخرية وهي تنهض لترتدي عبائتها السوداء ـ"هل تتوقعين أن يصدق زوجك أنك كنت معي بإسدال الصلاة؟"
هتفت بها (هالة) في حنق قائلة ـ"اجلسي وسأنادي أمي تجلس معك..منذ تركتنا لصلاة العشاء وهي مع الأولاد..سأناديها وأرى سبب عودة (طارق)".
حاولت(نهى)الإعتراض فلوحت(هالة)بسبابتها محذرة وهي توسع عينيها كما تفعل مع أبنائها وهي تحذرهم قائلة ـ"قلت اجلسي...ستسافرين قريباً ولا أدري متى اراك ثانية".
قالتها وخرجت إلى غرفتها مع (طارق) الذي كان يوليها ظهره ويخلع سترته.
طرقت الباب بهدوء كالعادة وهي تسأله بقلق ـ"(طارق) لماذا عدت مبكراً؟ هل أصابك شيء؟"
ضحك من نبرتها القلقة وأجابها وهو يستدير ليواجهها ـ"أعتذر عن الحضور مبكراً، ولكن المريـ.ـض تراجع عن إجراء الجراحة و..."
قطع عبـ.ـارته وهو يتأملها للحظات وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة.
كان واثقاً من أنها ارتدت الإسدال الآن فقط حين وصوله، وأنها ترتدي تحته شيئاً آخر.
فمع زينتها الرقيقة تلك لا يمكن أن تجلس مع صديقتها بإسدال الصلاة.
لذا قال مشاكساً ـ"ماهذا؟ صوان ملابسك يمتليء بالملابس من كل نوع وتقابلين صديقتك بالإسدال؟"
أربكها سؤاله وحارت في الإجابة للحظات قبل أن تقول بإرتباك ـ"ل..لقد كنت معها في الشرفة لترى صندوق العصافير الذي أحضرته ل(هند) في يوم مولدها، ولذلك ارتديت الإسدال".
تظاهر بتصديقها وهو يتجه إليها قائلاً ـ"أهااا...حسناً. أريني ماذا ترتدين إذاً".
زاد ارتباكها والتهب وجهها خجلاً وهي تشعر بإقترابه فقالت لتخرج من الغرفة ـ"لا يصح أن أترك صديقتي الآن...سأذهب لأودعها وأجهز لك العشاء..ألا تتضور جوعاً؟"
تحسس معدته بكفه قائلاً بألم مصطنع ـ"جئت على الجـ.ـر.ح..نعم أتضور جوعاً...أخبريني أولاً أين نصيبي من الحلوى؟"
أشارت بكفها إلى الحمام الملحق بالغرفة قائلة ـ"غير ملابسك وريثما تنتهي من حمامك يكون طبق الحلوى في انتظارك..المهم ألا تكثر منها وإلا فقدت شهيتك".
تحسس معدته ثانية وهو يتجه إلى الحمام قائلاً ـ"لا تقلقي...فأنا اليوم أتضور جوعاً بالفعل".
لم تتحرك من موقعها عند باب الغرفة إلا حينما لمحته يغلق باب الحمام، فأسرعت إلى صوان ملابسها وفتحته لتلتقط أول بلوزة حريرية صادفتها في سرعة قبل أن تغلق الصوان وتغادر الغرفة في خفة ونبضات قلبها كقرع الطبول في أذنيها.
وعند باب غرفة الصالون التي كانت تجلس بها مع صديقتها فوجئت بوالدتها تحاول إقناع(نهى)بالبقاء قليلاً وسمعتها تعتذر قائلة ـ"كان بودي البقاء أكثر، ولكن ينبغي أن أعود إلى أمي، فسأسافر بعد غد إن شاء الله ولابد أن أقضي الفترة الباقية معها".
تدخلت (هالة) في الحديث قائلة ـ"ولكن الحديث لم ينته بعد، وكذلك القهوة".
قبلتها صديقتها على وجنتيها قائلة ـ"نكمل حديثنا على الهاتف، وبعدها على الإنترنت. أعدي القهوة كل خميس واشربيها معي على الماسنجر".
ثم صافحت والدة صديقتها واتجهت إلى باب الشقة قبل أن تلتفت إلى صديقتها التي تبعتها قائلة بضحكة مكتومة وهي تشير إلى البلوزة الحريرية التي تمسكها بيدها قائلة ـ"ارضي بقدرك يا (هالة) وخذي بنصيحتي...أراك على خير".
احتضنتها (هالة) واستودعتها قائلة ـ"لقد أستودعتك، فلا تجعليني أرتكب جريمة الآن...هيا مع السلامة".
وحينما أغلقت الباب خلف صديقتها هرعت إلى غرفة ابـ.ـنتها لترتدي البلوزة الحريرية فوق بلوزتها الحمراء.
ولكن لسوء حظها لم تنتبه إلى البلوزة إلا متأخراً...
فقد كانت البلوزة شبه شفافة
جزء منها لامع مثل الساتان، وجزء آخر أقرب إلى الشيفون الشفاف
وبالتالي كانت البلوزة الحمراء واضحة من تحتها
دارت بعينيها في الغرفة تبحث عما يمكنها إرتداؤه بدلاً من تلك البلوزة، لكنها لم تجد سوى إسدال الصلاة، وهو طلب منها أن يراها دونه.
راودتها نفسها بالعودة سريعاً إلى الغرفة لتأخذ بلوزة أخرى قبل أن يخرج من الحمام، وعزمت أمرها على ذلك.
لكنها ما أن خرجت من غرفة الصغيرة حتى تناهى إلى مسامعها صوته يناديها من غرفتهما قائلاً ـ"أين الحلوى يا (هالة)؟ لا تقولي إنها إنتهت".
غاص قلبها بين ضلوعها للحظات قبل أن تجد صوتها لتقول بهدوء ـ"حالاً يا (طارق)".
واتجهت إلى المطبخ لتجهز طبقه وهي تدعو الله ألا يلحظ (طارق) ارتباكها.
↚دلفت (هالة) إلى غرفتهما وهي تحمل صينية أنيقة عليها طبق الحلوى وحافظة القهوة وفنجان صغير وضعتهم على مائدة صغيرة تتوسط مقعدين وثيرين في طرف الغرفة هامسة ـ"الحلوى والقهوة".
إلتفت إليها (طارق) الذي كان أنهى للتو حمامه وقال لها في سرعة ـ"أدركيني بقطعة سريعاً...أشعر بأن جسدي فقد كل ما به من سكريات".
قدmت إليه الطبق وبه شوكة صغيرة وانتظرت أن يلتقطه منها، لكنه قال بتذمر مشيراً إلى كفيه ـ"(هالة)..ألا ترين أن يداي ملطخة بكريم الشعر..من فضلك ضعيها في فمي".
أربكها طلبه وحاولت أن تتماسك وهي تتناول الشوكة وتحاول أن ترفع بها قطعة من الحلوى، ولكن إضطرابها وخجلها جعلاها تعجز عن السيطرة على الشوكة في الوقت الذي يراقبها فيه (طارق) بضجر قائلاً ـ"(هالة)...بالله عليك دعك من الشوكة..فأنا أثق في نظافة يديك".
رفعت عينيها إليه بدهشة وحاولت أن تتحكم في دmاء الخجل التي تصاعدت بقوة إلى وجهها وعقلها يهتف بها محنقاً ’ماذا بك يا غـ.ـبـ.ـية؟ سيلحظ ارتباكك وقد يسيء فهمه..تعاملي بطبيعية كما كنت تفعلين دوماً..مالفارق بين أن تطعميه الحلوى بيديك الآن وأن تسقيه الحساء وهو مريـ.ـض من قبل؟‘
استجابت لعقلها الباطن سريعاً ورسمت ابتسامة محايدة على شفتيها وهي تلتقط قطعة من الحلوى بين أصابعها وتقترب منه لتضعها في فمه برفق وهي تمسك الطبق بيدها الأخرى تحت ذقنه وتحاول ألا تلتقي أعينهما.
سمعته يتلذذ بطعم الحلوى ويقول بإستمتاع ـ"مممممممم سلمت يداك يا (هالة)...طعمها رائع".
ابتسمت بثقة هذه المرة وهي تسمعه يطلب قطعة أخرى بعد أن ابتلع الأولى فاقتربت لتضع قطعة ثانية في فمه بعد أن دهن شعره بالكريم، ولكنه أمسك كفها بحركة مباغتة ومال برأسه يلتقط الحلوى بشفتيه من بين أصابعها قبل أن يلعق سبابتها ووسطاها وإبهامها قائلاً ببطء وهو يتعمد النظر في عينيها ـ"طعمها هكذا أفضل".
فاجأتها حركته ففقدت ثقتها المزعومة وعادت إلى ارتباكها السابق وهي تشعر بسخونة غريبة تعتريها جعلتها تحاول جذب يدها وهي تشعر باقترابه أكثر وهو يتشممها هامساً ـ"ما هذه الرائحة الطيبة؟"
أجابته بحروف متقطعة من الإرتباك والحرج ـ"إنها رائحة القهوة و...".
هز رأسه نفياً وهو يواصل الإقتراب حتى صدmها بأنفاسه وصوته لا يزال هامساً ـ"كلا...إنها رائحتك أنت..فأنا لا أخطئها".
خفضت وجهها أرضاً هرباً من وجهه الذي اقترب منها بشكل غير مسبوق، وحاصرتها أنفاسه التي إختلطت فيها رائحة نعناع معجون الأسنان برائحة الشيكولاتة في الحلوى
كانت في قرارة نفسها تتمنى هذا القرب وتنتظره
لكنها كانت أيضاً ترفضه لأنها لا تراه من حقها
وربما لأن كرامتها تأبى الرضوخ لمن نبذها من قبل
فلماذا هذه الرجفة إذاً كلما إقترب
ولماذا يخفق قلبها مع كل همسة ولمسة ولفتة؟
ولماذا...
خرجت من شرودها على لمسته فشهقت بعنف وهي تبتعد عنه وتدفعه بعيداً بقوة هاتفة ـ"ماذا تفعل؟"
أجابها ببساطة أغاظتها ـ"أريد رؤية ملابسك التي كنت ترتدينها قبل عودتي...لقد لمحتك تلتقطين هذه البلوزة من الصوان بعد دخولي الحمام، وخمنت أنك سترتدينها. وأنا...".
قاطعته قائلة بلهجة جافة لم يعتدها منها ـ"سأذهب لأعد العشاء...القهوة في الحافظة إذا كنت تود تجربة مذاقها".
قالتها واستدارت تغادر الغرفة في قوة، أو بالأحرى تهرب منها إلى غرفة ابـ.ـنتها وهي تتمتم لنفسها بغضب ـ"أنا الغـ.ـبـ.ـية...لماذا ارتديت هذه البلوزة، لماذا ارتديت هذه الملابس من البداية؟ لماذا خلعت إسدالي...أنا غـ.ـبـ.ـية..غـ.ـبـ.ـية".
وفي عنف لم تعهده في نفسها إتجهت إلى بعض الملابس المطوية بعناية على فراش والدتها وفتشت بين ملابسها إلى أن وجدت منامة قطنية واسعة طويلة الأكمام فالتقطتها من بينهم وهي تحمد الله في سرها لأنها لم تأخذ ملابسها إلى صوانها بعد غسيلها.
دخلت الحمام الرئيسي وأغلقته خلفها ثم نظرت لإنعكاس صورتها في المرآة التي تعلو الحوض قبل أن تتجه إليه وتغسل وجهها بغـ.ـيظ وكأنها تنتقم منه لأنه كان يحمل تلك الزينة.
ثم أبدلت ملابسها بالمنامة القطنية وتنهدت بـ.ـارتياح وهي تنظر إلى شكلها المعتاد ووجهها الخالي من المساحيق وشعرها الأسود الذي عقصته إلى الخلف بعدmا رفعت خصلاته القصيرة عن وجهها بمشبك صغير لا يكاد يُرى.
وعلى العكس من عصبيتها قبل دخول الحمام، خرجت (هالة) وهي تشعر بعودتها إلى سابق عهدها وإلى قوتها التي خانتها اليوم.
وفي هدوء، توجهت إلى المطبخ لتجهز عشاء زوجها، أو بالأحرى غدائه الذي لم يتناوله بسبب عمله. وبعد أن رتبت مائدة الطعام طلبت من ابنها (هاني) أن ينادي عمه للعشاء.
ما أن رأته يقترب من المائدة وابتسامته الجذابة تزين محياه حتى أجبرت نفسها على مغادرة الغرفة لولا أن سبقها وهو يمسك معصمها قائلاً بدهشة ـ"ألن تتناولين العشاء معي؟"
التفتت إليه ببرود قائلة ـ"ومنذ متى أتناول العشاء..عشائي منذ عشر سنوات لا يخرج عن الزبادي قليل الدسم وثمرة فاكهة..وقد تناولت الكثير من الحلوى اليوم، لذا لن أتناول العشاء".
استعطفها قائلاً ـ"ولكنني لا أحب الأكل وحدي. على الأقل اجلسي معي".
قالت بنفس البرود ـ"لا أحب أن أبدو كمن يعد اللقيمـ.ـا.ت..سأنادي (هيثم) و(هاني) ليتناولا العشاء معك".
وبكل ثقة خطت بعيداً عنه وهي تسمعه يقول بإحباط ـ"أولن تسأليني عما حدث بالإجتماع، أو تهنئيني بالترقية؟"
للحظة فقدت برودها وهي تلتفت إليه في سعادة حقيقية بنجاحه، قبل أن يغلف البرود صوتها وهي تهنئه قائلة ـ"ألف مبروك".
ثم ابتعدت لتنادي طفليها إلى العشاء قبل أن تتجه إلى غرفة ابـ.ـنتها وتحمل الملابس النظيفة عن فراش والدتها وتندس إلى جوار صغيرتها بين أغطيته وتحاول الخلود إلى النوم.
ولكن قبل إنقضاء خمس دقائق شعرت بخطواته في الغرفة وهو يقترب من الفراش وينحني عليها هامساً بخيبة أمل ـ"هل نمت دون قبلة المساء؟"
شـ.ـددت من إغلاق جفنيها وهي تضغط كفيها تحت الغطاء وتشعر بإقترابه منها وهو يواصل بنفس الهمس ـ"(هالة)..بالله عليك قبلي (هند) نيابة عني..لقد أوحـ.ـشـ.ـتني هذه الصغيرة".
لم تدر لم فتحت عينيها فجأة بعد جملته..ربما لأنها شعرت بأن تظاهرها بالنوم أصبح مكشوفاً
وربما لأنه كان يقصد التلاعب بمشاعرها
المهم أنها فتحت عينيها لتلتقي بعينيه للحظات انكمشت خلالها أكثر وسط الأغطية وهو يقترب أكثر معتمداً بكفه على ظهر الفراش وبكفه الأخرى على الفراش نفسه حتى تجاوزها وهو يضيف قائلاً ـ"لقد غيرت رأيي...أفضل أن أقبلها بنفسي".
قالها وهو يقبل الصغيرة على وجنتها بهدوء قبل أن يرفع جذعه ويستقيم ليسألها بلهجة حيادية ـ"هل ستقضين ليلتك هنا؟"
أجابته بهزة من رأسها، ثم مالبثت أن بررت ذلك قائلة بصوت مبحوح ـ"لقد اشتقت إلى مبيتها بين أحضاني".
هز رأسه متفهماً وبدت خيبة الأمل على ملامحه وهو يقول ـ"حسناً..تصبحين على خير".
ودون أن ينتظر ردها دار على عقبيه وغادر الغرفة سريعاً في الوقت الذي دلفت فيه أم (هالة) ورمقتها بنظرة صارمة تدرك معناها جيداً
لم تستطع أن تواجه نظرة أمها فتظاهرت بالنوم لتهرب مما ستسمعه منها
ولكن الأم أدركت محاولتها فاقتربت منها وهي تقول بلهجة ساخرة ـ"هل ستنامين في مكاني الليلة؟ معنى هذا أن أنام أنا إلى جوار (طارق)".
أجابتها (هالة) قائلة بلامبالاة وعيونها لا تزال مغلقة ـ"عادي..زوج ابـ.ـنتك مثل ابنك".
جلست الأم على طرف الفراش وجذبت الغطاء عن ابـ.ـنتها قائلة بنفس اللهجة الساخرة ـ"حقاً؟"
للحظة تذكرت (هالة) نفسها وهي تقول نفس الكلمة ل(طارق) في بداية زواجهما حينما طلب منها أن ينفق هو عليها وعلى أبنائها بحجة أنه زوجها.
يومها سخرت منه لأن زواجهما كان صورياً
واليوم تسخر منها والدتها لأن الزواج لا يزال صورياً رغم محاولات (طارق) للتقرب منها
نعم هو يحاول التقرب منها وتحويل الزواج إلى زواج فعلي، بينما تتهرب هي منه وهي تدرك ذلك جيداً
تدرك محاولاته وتدرك تهربها منه لأنها لا تريد أن تكون مرحلة مؤقتة في حياته، أو أن تكون قرصاً مسكناً لآلام قلبه الجريح
ولكنها ملزمة بإطاعته شرعاً، وهي لا تستطيع ذلك.
وكأنما شعرت والدتها بما يدور في خلدها فربتت على كفها قائلة بحنان ـ"(هالة)..أين تدينك؟ أنت حرة في حياتك، ولكني لا أستطيع منع نفسي عن نصحك. فأنت لن تتحملي لعن الملائكة طوال الليل، حتى وإن كان لديك عذراً شرعياً".
ثم قطبت حاجبيها بضيق مصطنع وهي تقول ـ"هيا انهضي إلى غرفتك..لا تشاركيني فراشي، فهو من حق (هند) وحدها الآن...فراشي للفتيات فقط وليس للمتزوجات".
قالتها وهي تجذب (هالة) من الفراش لتنهض بتذمر وتمط شفتيها قائلة ـ"ولكن يا أمي...".
ربتت والدتها على كفها ثانية بتعاطف ومنحتها إبتسامة تشجيع وهي تقول ـ"ابـ.ـنتي الجميلة مطيعة وتعرف دينها جيداً..والأهم أنها تحب زوجها وتكابر هذا الحب بعناد".
تنهدت (هالة) بعمق وعادت تمط شفتيها وتهز كتفيها بإستسلام قائلة ـ"أمري إلى الله...أمي تطردني من غرفتها ومن أحضانها".
اتسعت ابتسامة والدتها وهي تشير إليها بكفها لتغادر الغرفة.
في هذه الأثناء، كان (طارق) يذرع الغرفة المظلمة ذهاباً وإياباً والضيق يملؤه...
الآن فقط شعر بما كان يمزق (هالة) وهو يتجاهلها
فهاهي الآن تتجاهل كل محاولاته للتقرب منها
ولها كل الحق في ذلك
فهو لم يمنحها حبه وإهتمامه بها كزوجة من قبل
هو صدmها منذ بداية زواجهما ووضع حدوداً للعلاقة بينهما
فلماذا يتوقع منها الآن أن تتقبل منه أي تغيير في هذه الحدود؟
ولكنه يعترف الآن بخطئه...وبحبه
نعم حبه
لقد تغيرت نظرته إلى (هالة) منذ طـ.ـلا.قه من (سمر)
فجأة بدأ ينظر إليها كأنثى
أنثى طالما تعامى عن النظر إليها
أو بالأحرى عن النظر إلى عينيها
لأنه لو كان نظر إلى عينيها منذ زمن لوجد فيهما انعكاس صورته...وانعكاس حبها له
ولكان كل شيء مختلفاً الآن.
للحظة لعن غباءه وغباء قلبه الذي أعمى عينيه
وللحظة أخرى وسوس له شيطانه أن يدخن سيجارة ينفث مع دخانها نيران غـ.ـيظه
لكنه إستعاذ بالله من شيطانه...لقد وعدها هذا الصباح بالتوقف عن التدخين من أجلها، ولابد أن يلتزم بكلمته
ثم إنه ألقى علبة السجائر أمامها في سلة المهملات بالغرفة، ولابد أنها أفرغت السلة بعد خروجه.
وبدافع من الفضول فقط ألقى نظرة سريعة على السلة المجاورة لفراشه ليجدها خالية تماماً قبل أن يهز رأسه في إعجاب بنشاط (هالة).
ثم مالبث أن عاد إلى غـ.ـيظه من الموقف الذي يواجهه وهو يقف أمام زجاج النافذة المغلق ويتابع بعينيه أضواء الحي تحته ويعيد حساباته مع نفسه
وفجأة تناهى إلى مسامعه حفيف خطوات هادئة مترددة فإلتفت في لهفة كاد معها يرتطم بالطاولة الصغيرة التي كانت لا تزال تحمل حافظة القهوة
ورآها
رآها وسط الظلام تدلف إلى الغرفة بهدوء عاقدة ذراعيها أمام صدرها كالأطفال وضوء الممر خلفها يخفي ملامحها
لكنه لم يكن بحاجة إلى الضوء كي يرى ملامحها التي نُقشت في ذاكرته
وتابعها وهي تغلق الباب خلفها بهدوء وتقترب من الفراش كالمجبرة فترفع أغطيته وتسمي بالله وهي تضـ.ـر.به ثلاث ضـ.ـر.بات خفيفة لطرد الشيطان قبل أن تندس داخله بنعومة
حينها لم يمنع نفسه من أن يتأملها على ضوء القمر الوليد الذي تسلل من النافذة وحمل صوته إبتهاجه وهو يسألها _"هل تراجعت في رأيك وستبيتين هنا الليلة؟"
أجابته بهدوء وهي تنام على جانبها الأيمن قائلة ـ"الفراش لن يكفي ثلاثتنا فإضطررت للعودة".
تقدm إلى الفراش واندس هو الآخر بين أغطيته على الجانب الآخر قائلاً بجذل ـ"الحمد لله أنك عدت..فلنتحدث قليلاً إذاً..لقد أصابتني القهوة التي شربتها قبل العشاء بالأرق و.."
قاطعته قائلة بضجر _"(طارق) أنا مرهقة طوال اليوم في أعمال المنزل، ولا يزال الغد ينتظرني بالمزيد منها".
شعر بمحاولتها الجافة لصده فاعتدل في جلسته مستنداً برأسه إلى ظهر الفراش وهو يعقد ذراعيه أمام صدره قائلاً في احباط ـ"ستنامين وتتركيني وحدي حتى الفجر؟ ألن تسأليني عن..."
إلتفتت إليه فجأة كمن تذكرت شيئاً وهي تقول _"تذكرت..لا توقظني لصلاة الفجر".
قالتها وعادت توليه ظهرها وتعدل من وضع وسادتها تحت رأسها وكأنها لم تقل شيئاً.
أما هو فتعجب من طلبها وهي التي توقظه دوماً لصلاة الفجر إذا تأخر في النوم، لذا سألها في حيرة ـ"لماذا؟"
وكانت إجابتها البسيطة سبباً للمزيد من الإحباط
فقد أجابته وعينيها لا تزال مغلقة _"عذر شرعي"
وانهارت آماله في التقرب منها هذه الليلة.
↚دلف(طارق) إلى غرفة نومه بخفة وقال في مرح موجهاً حديثه إلى(هالة) ـ"لقد نام الأولاد وكل شيء على ما يرام و..."
بتر عبـ.ـارته حين وجدها جالسة على الفراش ومستغرقة في تأمل شيء في يدها, فأغلق الباب خلفه واتجه إليها على أطراف أصابعه حتى جلس إلى جوارها وهمس في أذنها بنعومة ـ"فيم استغراقك هكذا؟"
التفتت إليه لتلفح أنفاسه الدافئة وجهها, فارتبكت وعادت بعينيها إلى ألبوم الصور الفوتوغرافية الراقد بين يديها, في حين ألقى هو نظرة سريعة عليه قبل أن يسألها ـ"أهذه(هند)؟"
هزت رأسها نفياً وهي تجيبه بخفوت ـ"كلا, إنها أنا وهذا أبي."
أمعن النظر في الطفلة الجميلة ووالدها الذي ارتدى زي رائد بسلاح الطيران ثم ما لبث أن قال في دهشة ـ"أكان والدك طياراً؟"
أومأت برأسها إيجاباً قائلة ـ"أجل, واستشهد في حرب أكتوبر."
هز رأسه متعجباً وقال ـ"لولا ثقتي في أنني لم أنضم لسلاح الطيران يوماً لظننت أنه أنا."
تنهدت قائلةـ"أنت تشبهه بالفعل, وهذه أول ملاحظة أبدتها أمي حين رأتك في حفل خطبتي على(حازم) رحمه الله, ليس في الهيئة والملامح فقط بل في الطباع أيضاً. الفارق الوحيد أن شعره وعينيه كانا سوداوين، وأنت شعرك بني وعينيك مائلة إلى الأخضر".
ثم تابعت وهي تطيل النظر إلى الصورة قائلة ـ" لقد كان والدي رحمه الله حنوناً للغاية هو الآخر, ويبدو أنه كان يشعر بقصر حياته لذا التقط لي معه أكثر من مئة صورة منذ مولدي وحتى وفاته."
أشار إلى صورتها وهي طفلة وداعبها قائلاً ـ"وهذه الصغيرة الفاتنة هي أنت؟! لقد كنت جميلة جداً في صغرك."
لكزته في جانبه بحركة لا شعورية قائلة بدلال ـ"وهل فقدت جمالي؟"
تناول الألبوم في يده واعتدل في جلسته على الفراش كي يواجهها وهو ينقل بصره بين وجهها والصورة وتظاهر بالجدية وهو يتحسس ملامحها وشعرها ويقارنهما بالصورة قائلاً ـ"دعيني أقارن. العينان واسعتان ولونهما الأسود مثير للغموض, الأهداب طويلة تأسر الألباب, الأنف صغير ورقيق, والفم موسوعة جمال؛ أما الشعر فشلال حريري لم أر في جماله من قبل. لو أردت رأيي فقد زادت فتنتك وجمالك أضعافاً."
ارتبكت من لمساته التي بدت أشبه بتيار كهربائي، وتضرج وجهها خجلاً فخفضته أرضاً في حرج وحاولت النهوض من جواره في سرعة, إلا أن يده كانت أسرع وهي ترفع وجهها إليه ثانية وتابع مضيفاً في إعجاب واضح ـ"وأجمل ما فيك هو تورد وجهك هكذا."
أبعدت وجهها عن يديه قائلة بحرج بالغ ـ"ما هذا؟ هل تغازلني؟"
اقترب بوجهه من وجهها هامساً ـ"وما المانع؟ ألسنا زوجين؟"
نهضت بعيداً وتنحنحت قائلة ـ"تصور أنني نمت في أحضان أبي في آخر يوم رأيته فيه ولم أرد مفارقته وبكيت بحرقة حينما انصرف, وحدث نفس الشيء مع أولادي قبل وفاة(حازم) رحمه الله. فقد قضى الليل معهم يلعب ويضحك كما لم يفعل من قبل وأصّر على المبيت معهم في غرفتهم. أتراه كان يشعر بدنو أجله؟"
أدرك محاولتها لتغيير دفة الحوار فهز كتفيه وأجابها قائلاً ـ"ربما كان لديه حدساً داخلياً, فكثيراً ما كان يفعل أشياء بناء على حدسه هذا وتنجح, على عكسي تماماً بحكم اختلافنا منذ الصغر."
وقفت أمام النافذة وشردت بذهنها بعيداً إلى نحو عامين لتتذكر تفاصيل اليوم السابق على وفاة (حازم).
يومها كانت ترتب المنزل نحو الحادية عشرة صباحاً حينما ارتفع رنين الهاتف فجأة، فأجفلت للحظة وهي تشعر بدقات قلبها المتسارعة قبل أن ترفع سماعة الهاتف قائلة باضطراب ـ"السلام عليكم".
أتاها صوته من الطرف الثاني يقول في سرعة ـ"وعليكم السلام..كيف الأحوال؟"
أجابته ودقات قلبها لا تزال سريعة عن معدلاتها ـ"بخير الحمد لله..كيف حالك أنت؟ ليس من عادتك الإتصال وقت العمل".
أجابها بضحكة صافية لم تعتدها من قبل وهو يضيف ـ"لا تخافي..أنا بخير..لقد اتصلت لأطلب منك الإستعداد أنت وأميرتنا الصغيرة...فسنذهب جميعاً لتناول الغذاء في الخارج..في مطعم على الخليج مباشرة"
اتسعت عيناها في دهشة وهي تقول بسعادة طفولية ـ"حقاً يا (حازم)؟ يالها من مفاجأة. لقد يأست من أن نذهب إليه بسبب مشاغلك الكثيرة".
ضحك ثانية للهفتها وهو يقول ـ"وها أنذا مستعد لتنفيذ طلباتكم الليلة. هيا استعدي وسأمرك في الواحدة ظهراً إن شاء الله، ثم نصحب الولدين في طريقنا من مدرستهما".
سألته قائلة ـ"لماذا لا ننتظر إلى الغد؟ إنه الخميس وسيكون الأولاد في أجازة بالفعل و..".
قاطعها قائلاً بمرح ـ"(أم هيثم)..إغتنمي العرض قبل أن يفوتك..وتذكري بيت الشعر ‘إذا هبت رياحك فاغتنمها’".
أكملت بيت الشعر قائلة ـ"‘فإن الريح عادته السكون’. وهو كذلك يا (أبا هيثم). سنغتنم رياحك اليوم..سأكون مستعدة في الموعد بإذن الله".
وما أن أنهى اتصاله حتى بدأت في الإستعداد للخروج والنزهة التي كانت تنتظرها منذ زمن لتذكرها بأيام زواجها الأولى.
قضت وقتاً رائعاً هي والأولاد معه حتى المساء، ثم عادوا جميعاً إلى المنزل بعد أن أحضر (حازم) طعام العشاء معه.
والغريب أن (حازم) لم يترك أبنائه طيلة الليل..
ظل يلعب معهم في مرح وسعادة حتى تجاوز موعد نومهم، ثم أقدm على شيء أدهشها
فقد ضم فراشي (هيثم) و(هاني) وإستلقى عليهما ليتوسد كل منهما إحدى ذراعيه، ربما للمرة الأولى في حياته
وبعد منتصف الليل، وحينما تأكد من إستغراق الولدين في النوم، تسلل (حازم) إلى غرفته مع زوجته التي كانت ترضع (هند) في هذه اللحظة
وبدلاً من أن يترك الصغيرة تستسلم للنوم بين ذراعي (هالة)، حملها في حنان وهو يداعبها بشكل لم تعهده زوجته من قبل.
وبعدmا نامت الصغيرة بين ذراعيه، تأملها قليلاً ونقل بصره إلى (هالة) متسائلاً ـ"ترى هل أعيش إلى اليوم الذي أسلمها فيه إلى عريسها؟"
شعرت بقبضة بـ.ـاردة تعتصر قلبها وهي تقول في سرعة ـ"بإذن الله تحضر زواجها هي وأشقائها وتحمل أحفادهم أيضاً".
لاحت نظرة غريبة في عينيه وهو يتأمل زوجته بتمعن وكأنه يقول لها ‘لا أظن’.
أقلقتها نظراته فاقتربت منه تحمل الصغيرة وهي تسمي بالله وتضعها في فراشها قبل أن تعود لتجلس إلى جواره على فراشهما وتتناول كفه قائلة بجزع ـ"ماذا بك يا (حازم)؟ ولماذا هذه النظرة في عينيك؟"
تلاقت نظراتهما للحظات حاولت خلالها سبر أغواره الغامضة عبر عينيه السوداوين الأكثر غموضاً، لكنه أحبط محاولتها وهو يسبل جفنيه ويسند جبهته على جبهتها هامساً ـ"لقد أرهقتك معي كثيراً".
ابتعدت عنه في سرعة كمن مسه تيار كهربي ووضعت كفها على وجنته قائلة بقلق حقيقي ـ"ماذا بك يا (حازم)؟ مالذي تخفيه عني؟ نزهة اليوم خلفها سر كبير. أخبرني ماهو. هل أنت مريـ.ـض؟ هل...".
قاطعها وهو يضع أنامله على شفتيها برقة إفتقدتها منذ أيام زواجهما الأولى وهمس لها بابتسامة صادقة وهو يداعب خصلات شعرها الأسود قائلاً ـ" السر هو أنني شعرت بتقصيري في حقك، وبأنك تستحقين مني كل كلمـ.ـا.ت الشكر والتقدير..والحب. أدري أنني كنت جاف المشاعر معك، وأنني لم أمنحك الحب الذي تستحقينه رغم أنك منحتني السعادة التي يتمناها أي زوج بهدوؤك وطاعتك وأدبك وتدينك وكل صفاتك الجميلة".
وتابع وهو يضمها إليه بكل حب قائلاً ـ"قد لا أجيد التعبير عن الحب بالكلمـ.ـا.ت، فهذا طبعي الذي ورثته عن والدي. ولكنني قررت أن أعوضك الليلة كل ما فاتك، وأن أشكرك بطريقتي الخاصة".
كانت كلمـ.ـا.ته الرقيقة غريبة على أذنيها، ولم تفلح في طمأنة قلبها الذي لا تزال تلك القبضة البـ.ـاردة تعتصره.
وازداد تـ.ـو.ترها في الصباح حينما استيقظت متوقعة أن تجد نفسها بين ذراعيه..لكنه كان قد رحل إلى عمله
رحل دون أن يودعها أو يودع أبنائهما
وقبل أن تستوعب الوقت وتبدأ حواسها في العمل...كان صوت الإنفجار
الإنفجار الذي دوى في أحشائها قبل أن تسمعه بآذانها
الإنفجار الذي أودى بحياة زوجها ووالد أبنائها
ال.....
قطع (طارق) تدفق ذكرياتها وهو يسألها في دهشة ـ"أين شردت؟"
إلتفتت إليه بعينين خاويتين وكأنها لا تزال تعيش صدmة حادث (حازم) قبل أن تهز رأسها يمنة ويسرة كمن ينفض الذكريات عنه وتعود لتسأل (طارق) باهتمام وهي تعقد ذراعيها أمام صدرها وتراقب هدوء الشارع من خلف زجاج النافذة المغلق ـ"كيف كان يصدق حدسه؟"
ارتفع حاجباه في دهشة وهو يقترب منها قائلاً ـ"أظللت زوجته لعشر سنوات ولم ت عـ.ـر.في كيف كان يصدق حدسه؟ بشكل عام كانت لديه بعض وجهات النظر الخاصة به مثل أن الزواج عن طريق العقل أفضل من زواج الحب, وكنت أعارضه بالطبع, لكنه كان يقول بثقة’عنـ.ـد.ما تحب امرأة فإنك لا تراها على حقيقتها ولا تستطيع فهمها بالشكل الصحيح, أما لو أنك فهمتها أولاً فستقع في حبها فوراً‘. سألته بعد مولد(هيثم) عن رأيه في زواج العقل, أو تدرين ماذا قال؟ يومها منحني ابتسامة صافية من ابتسامـ.ـا.ته النادرة وقال بنفس الثقة التي تميزه ’أنا أسعد إنسان على وجه الأرض, وأحبها بكل ذرة في كياني‘."
التفتت إليه بدهشة وجملة (حازم) المشابهة تدوي في أذنيها وتنبهها إلى أنه قال ذلك لأخيه قبل حتى أن يعترف لها به. زادها ذلك الإكتشاف تـ.ـو.تراً فقالت بصوت مبحوح ـ"أقال(حازم) هذا عني؟"
أجابها بثقة قائلاً ـ"أجل, وانظري إلي. لقد سرت خلف قلبي وظننت أنني أعرفها كنفسي وتغاضيت عن الكثير من عيوبها، ولكنني كنت مخطئاً واكتشفت أنني لم أفهمها أبداً ولم أحظ معها بالسعادة التي أردتها, بينما سعادتي معك ومع الأولاد لا يمكن وصفها."
همت بأن تقول له إنها _علي عكس شقيقه_ لم تكن سعيدة معه وإنه لم يشعرها بالحب الذي تكلم عنه إلا ليلة وفاته بعدmا أقنعها أسلوبه الجاف بأنه لم يكن ليعترف حتى بوجوده. إلا أنها آثرت الصمت وعادت تلتقط ألبومها من فوق الفراش وتطالع صورها مع أبيها.
لاحظ(طارق) صمتها ونظرة عينيها التي تخفي الكثير، وشعر أنها لا تريد الإفصاح عما بداخلها فسألها ليغير هو الموضوع هذه المرة ـ"ولكن ما سبب تطلعك لهذه الصور الآن بالذات؟"
اختنق صوتها بالعبرات وهي تجلس على طرف الفراش قائلة ـ"لقد شعرت بحاجة شـ.ـديدة إلى وجوده بجانبي, أردت أن أقفز في أحضانه وأن أشعر بيده تمسد شعري وأسمعه يغني لي هامساً ويسألني كم أحبه فأفتح ذراعاي عن آخرهما وأحيط عنقه بهما. رغم أنه استشهد منذ نحو ثلاثين عاماً مازلت أفتقده وأشعر بحاجتي إليه في أوقات عديدة."
اقترب منها وأدار وجهها إليه ليمسح بأنامله عبرة خانتها وسالت على وجنتها هامساً في حنان دافق ـ"أنا إلى جوارك, أنا أبوك وأخوك وزوجك وابنك."
قالها وهو يحيط كتفيها بذراعه ويريح رأسها على كتفه وبيده الأخرى يمسد شعرها في رفق قبل أن يطبع قبلة دافئة على جبهتها، إلا أن (هالة) إبتعدت عنه في سرعة كالمصعوقة ووجهها مصبوغ بحمرة قانية قائلة بإرتباك ـ"أشكرك على مشاعرك الطيبة هذه."
رفع حاجبيه في دهشة قائلاً ـ"مشاعري الطيبة؟!(هالة) إننا زوجان."
رتبت شعرها بـ.ـارتباك قائلة ـ"هل حاولت إعادة(سمر) إلى عصمتك كما وعدتني؟"
ضغط(طارق) أسنانه في غـ.ـيظ قائلاًـ"ألا يهمك سوى إعادة(سمر) إلى عصمتي؟ أيريحك قولي إن أمها أخبرتني بأنها سعيدة بابتعادها عني وأنها ستتزوج من آخر؟"
هتفت في ذهول ـ"وهل صدقتها؟ إنها لا تستطيع الزواج قبل انتهاء عدتها أي قبل شهرين. من الواضح أنها تكذب."
أشاح بكفه قائلاً بضيق ـ" تكذب أو لا تكذب, فأمرها لم يعد يهمني بعد ما صدر منها. لقد كـ.ـسرت شيئاً عميقاً بداخلي ولا أظن من الممكن إصلاحه".
ثم إلتفت إليها وقال بإبتسامة هادئة ـ" كما أنني سعيد هكذا, وأدركت أخيراً أن أبي كان على حق حين قال إنه اختار لي أفضل زوجة, ولن أستبدلك بأخرى مهما حدث."
قالت بتردد ـ"وماذا عن حبكما؟"
قال بثقة وهو يتأمل عينيها ـ"افهميني يا (هالة)..لقد أحببتها بقلبي ولم أكن موفقاً, وهي أدارت وجهها لهذا الحب. أدري أنها كانت مجروحة بعد نتيجة التحاليل، ورغم ذلك إحتويتها وحاولت أن أخفف عنها وطأة الصدmة. بل وسعيت إلى استرضائها أكثر من مرة وهي رفضتني. والأسوأ أنها أهانتني، وكرامتي لا تحتمل أن أعود لمن تجرأت على إهانتي. سأعتبرها تجربة بحلوها ومرها، ولكنني لن أعيدها معها ثانية. لقد طويت صفحتها منذ ذلك اليوم".
تهـ.ـر.بت من نظراته وهي تقول بلعثمة ـ"و..ولكنكما تعملان في نفس المستشفى".
رفع وجهها إليه ليمعن النظر في عينيها ثانية وهو يقول بهدوء ـ"أنا أعمل مع مائة طبيب وممرض..لا أكاد ألتقي بربعهم. فعملي في غرفة العمليات، وهي في العيادات الخارجية، وبيننا ثلاثة أدوار. أعترف أننا كنا نتحين فرص اللقاء من قبل، ولكن بعد ما حدث صارت تتجنب تجاوز الدور الثاني".
تاهت في نظراته وشعرت بالصدق في عينيه وهو يتابع بابتسامة جذابة ـ" أما أنت يا (هالة)، فقد أحببتك بعقلي وكياني كله قبل قلبي, وأجمع ثلاثتهم على أنني لن أجد من هي أفضل منك لأهبها اسمي وحياتي إن أرادت."
ثم أضاف وهو يحتضن كفيها بين راحتيه هامساً ـ"هل تقبليني زوجاً يا (هالة)؟"
اتسعت عيناها في ذهول وهي لا تكاد تصدق أذنيها...
أهذا صحيح؟
أشعر بها أخيراً؟
أيبادلها الحب حقاً؟
هي وليس غيرها؟
وبكل دهشتها ولهفة قلبها قالت بـ.ـارتباك ـ"(طارق) أنا..."
قاطعها وهو يلمس شفتيها بأطراف أنامله ويقترب منها أكثر قائلاً ـ"أريدك زوجة وحبيبة وصديقة. أريدك أن تكوني حياتي الجديدة التي أنسى معها أي ماضي. أريدك لي وحدي يا (هالة)".
اغــــرورقت عيناها بدmـ.ـو.ع غزيرة لم تستطع منعها فسالت على وجنتيها وهي تتأمله بكل الحب في أعماقها ولسانها عاجز عن النطق أمام صدق المشاعر الذي تراه في عينيه.
كانت ترى نفس النظرة التي رأتها لأول مرة وهو يحدثها عن (سمر)
نظرة حب صادقة.
طال صمتها وهي تتأمله من خلف دmـ.ـو.عها، فإبتسم ومسح دmـ.ـو.عها برقة وإقترب بوجهه منها حتى تعانقت أنفاسهما هامساً في خبث ـ"سأعتبر صمتك قبولاً لعرضي."
ثم أضاف بعد أن طبع قبلة دافئة على جبهتها ـ"هل لي أن أسألك مثل والدك عن مدى حبك لي؟"
وأجابته بكل صراحة.
↚استند(طارق) بكتفه إلى باب غرفة(هند) ليتابع باهتمام حنون(هالة) وهو تهمس لابـ.ـنتها بكلمـ.ـا.ت أغنيتها المفضلة ولم يبد عليها أنها تشعر بوجوده. فقد استغرقت في تمسيد شعر صغيرتها والغناء لها حتى استسلمت للنوم. حينها نهضت من جوارها على أطراف أصابعها لتخرج وأشارت لزوجها بالتزام الصمت كي لا يوقظ الطفلة.
وفي غرفتهما جلست(هالة) على الفراش في إرهاق قائلة بابتسامة هادئة ـ"تخيل أن(هند) تفضل غناء جدتها عن غنائي؟ إنها حتى لم تعتد بعد على غياب أمي."
إستلقى(طارق) إلى جوارها قائلاً بهدوء ـ"أنا أيضاً لم أعتد بعد على غيابها. أشعر بأن شيئاً ما ينقص المنزل.أعادها الله سالمة إلينا."
تنهدت في عمق وهي تسند رأسها على ظهر الفراش قائلة ـ"وماذا عني أنا؟ إنها صديقتي الوحيدة, لم أفارقها إلا يوم زواجي ولكنها كانت دوماً في بالي. أتدري أنها كانت تشعر بي عنـ.ـد.ما أمرض وأنا على بُعد آلاف الأميال؟ طيلة عمري وبيننا توارد خواطر قوي, أشعر بها وتشعر بي دون أن ينبس أحدنا بحرف. لا أدري كيف سأحتمل غيابها فترة الحج؟"
أحاط(طارق) كتفيها بذراعه وقربها منه قائلاً ـ"سيمر الوقت بسرعة, إنها لم تسافر إلا اليوم فقط؛ ومادامت مع صحبة آمنة فلا سبيل للقلق عليها. على العكس, يجب أن تسعدي لها لأن حجها هذا تكريم لها ولوالدك الشهيد."
ابتسمت ابتسامة جانبية دون اقتناع وقالت ـ"تكريم متأخر للغاية, ولكنها كانت واثقة من أنه سيأتي يوماً ما لذلك لم تأت معنا عنـ.ـد.ما ذهبت أنا و(حازم) رحمه الله للحج."
داعب شعرها المنسدل قائلاً ـ"لم يكن المولى قد أذن لها بعد, وعنـ.ـد.ما أراد سبحانه وتعالى يسر لها هذا التكريم, وبإذن الله ستستمتع في هذه الرحلة."
تنهدت في ضيق ولسان حالها يعكس إفتقادها لوالدتها فزاد من إحتضانه لها قائلاً بغيرة ـ"ثم ألا يكفيك حناني الدافق؟ يبدو أنني سألجأ إلى أساليبي الخاصة".
رفعت عينيها بتساؤل ليفاجأها بحركته المعتادة وهو يدغدغها ويستمتع بضحكتها الصافية وهي تتلوى بين ذراعيه إلى أن توقف عن دغدغتها وهو يقول مهدداً ـ"ها؟ يكفيك حناني أم لا؟"
دفنت وجهها في كتفه قائلة بدلال طفولي ـ"مازلت مصرّة أنني سأفتقدها بشـ.ـدة. أدعو الله أن ينتهي الحج سريعاً كي تعود لي أمي بالسلامة."
ابتسم وهو يقبل رأسها ويعيدها إلى أحضانه قائلاً ـ"لقد تغلبت على(هند), لا أدري من منكما أدلل أكثر."
رفعت عينيها إليه قائلة بدلال ـ"من تحب أكثر."
تاه في غموض عينيها الجميلتين للحظات همس خلالها بصدق ـ"أحبك كروحي."
تنهدت في ارتياح عميق وغاصت في أحضانه هامسة ـ"وأنا أحبك أكثر."
خلل خصلات شعرها بأصابعه قبل أن يطبع قبلة حانية عليه قائلاً في ثقة ـ"أعلم, وأكدته لي أمي هذا الصباح قبل أن تسافر."
عقدت حاجبيها وهي تبتعد عنه في حيرة قائلة ـ"أمي أنا؟ ماذا قالت؟"
قال بابتسامة صافية ـ"قالت الكثير."
رجته في دلال قائلة ـ"أخبرني ماذا قالت؛ لو كنت حبيبتك حقاً أخبرني ماذا قالت."
أشار إلى وجنته فرفعت جذعها لتصل إليه وتطبع قبلة دافئة على خده القريب منها، لتجده يدير خده الثاني لها فقبلته ثانية وعادت ترتاح على الفراش إلى جواره لولا نظرته الماكرة التي جعلتها تضـ.ـر.به بقبضتها في كتفه قائلة بحنق ـ"لا تكن طماعاً..هيا قل مالديك، وإلا تركتك ونمت إلى جوار ابـ.ـنتي".
ضحك منها ومن تهديدها الذي لا يتحمله فقال بسرعة من بين ضحكاته ـ"لا أرجوك..إلا هذا العقـ.ـا.ب. سأخبرك".
ثم داعب وجنتها بأنامله وقال بهيام ـ"قالت لي إنك تحبينني منذ تشاجرنا أول مرة، وإن حبك لي هو الذي دفعك لمساعدتي في الزواج من(سمر)؛ وعنـ.ـد.ما أكدت لها أنني أحبك بكل ذرة في كياني طلبت مني أن أقسم لها على المصحف الشريف أن أصونك وأرعاك وأحميك بحياتي."
داعبت أزرار منامته قائلة بدلال ـ"وهل أقسمت؟"
اتسعت ابتسامته وهو يجيبهاـ"أتسألينني؟ رغم أنني مستعد بالفعل لأن أفديك بحياتي دون قسم, أقسمت كي أرضيها وأطمئنها أن ابـ.ـنتها وأحفادها في أيد أمينة."
انكمشت في أحضانه ثانية وقالت بثقة ـ"أعلم هذا. ماذا قالت أيضاً؟"
أخذ نفساً عميقاً قبل أن يجيبها بلمحة تردد قائلاًـ"سألتني إن كنت أعرف شعور المرأة حين تحب مرة واحدة في حياتها رجلاً ليس لها ويتحول حلمها فجأة إلى حقيقة ويصبح زوجاً لها وحدها. والحقيقة أنني دُهشت لوصفها لك هكذا, إلا أنها فسرت لي ما عنته."
ابتعدت(هالة) عنه قليلاً وسألته بـ.ـارتباك ـ"وماذا قالت؟"
نظر إليها بثبات قائلاً ـ"قالت أغرب شيء سمعته في حياتي. قالت إنك لم تحبي(حازم) ولم تكوني سعيدة معه وإنها شعرت بذلك دون أن تصرحي أنت به. ولكن كيف هذا و(حازم) كان يؤكد لي أنه سعيد معك وأنه يحبك. أمن الممكن أن يكون الزوج سعيداً والزوجة تعيسة؟"
نهضت مبتعدة واتجهت إلى الشرفة تنظر من خلف زجاجها إلى لا شيء قبل أن تتمتم بعصبية ـ"ما الذي جعلها تقول هذا؟"
نهض بدوره متجهاً إليها وأدارها إليه ليتأملها قائلاً ـ"أنا رجوتها أن تخبرني بكل ما هو غامض عني. إنك لم تخبريني سوى مقتطفات من حفل زفافك على(حازم) ولم تذكري غيرها؛ لم تعطني فكرة عن حياتكما معاً وأنا لم أطلب ذلك لعلمي المسبق بسعادته معك والتي تعني سعادتكما سوياً. لكن حين تخبرني بأنك لم تحبي سوى مرة واحدة, فماذا إذاً عن زوجك السابق؟ ولا تنسي أنه كان شقيقي الوحيد."
هتفت بصوت خـ.ـنـ.ـقته الدmـ.ـو.ع وهي تشيح بوجهها بعيداً ـ"أعلم هذا ولا أستطيع نسيانه, لكن للأسف شقيقك لم يكن الزوج الذي تمنيته. أسلوبه الصارم جعلني أجفل منه. لا أنكر أنني أحببته في بداية زواجنا _أو بالأحرى حاوت أن أحبه_لأنه كان يحاول امتصاص خـ.ـو.في من الغربة. إلا أنه مع عودته للعمل ازداد ابتعاداً عني, وشعرت بأنني لا أفهمه ولا أتكيف مع عصبيته ولا أسلوبه الآمر الناهي كأني أحد العاملين معه. لم أتقبل الوضع ومع ذلك لم أشتك, لوصول(هيثم) ولإحساسي ببعض الهدوء في طباعه, إلا أنه كان سرعان ما يعود بسرعة البرق(حازم) بجبروته وسطوته, وأنا بطبعي لا أحب تلقي الأوامر."
ثم تابعت ودmـ.ـو.عها تنهمر على وجهها دون توقف ـ"لقد كان (حازم) رحمه الله يعتبر المشاعر نوعاً من الضعف، لذا كان يعوضها بأشياء أخرى. كان كريماً معي ومع الأولاد في كل شيء..ماعدا المشاعر. (حازم) لم يعترف يوماً بأنه يحبني إلا ليلة وفاته، وحتى يومها لم يقلها صريحة. ربما كنت الزوجة المثالية بالنسبة له. الزوجة التي تهتم به وتلبي جميع طلباته وتحافظ له على هدوء وجمال المنزل، وفي الوقت نفسه تحفظه في غيابه. هذه مميزات الزوجة التي كان يتمناها (حازم) ووجدها في شخصيتي. أما مميزات الزوج الذي كنت أتمناه فلم يوجد منها في (حازم) سوى التدين والذكاء والوسامة والأصل الطيب".
حاولت مسح دmـ.ـو.عها المنهمرة التي أفسدت كحل عينيها الجميلتين، ولكن مجرد ذكرى زواجها ب(حازم) كانت تدفع الدmـ.ـو.ع سريعة عبر مقلتيها وهي تضيف ـ"أكثر ما كنت أريده في زوجي هو الحنان. لقد نشأت يتيمة وكنت بحاجة إلى زوج يحتويني ويعوضني حنان الأب، ولهذا وافقت على الزواج بعد تخرجي مباشرة على أمل أن أجد ضالتي عند زوجي. ولكن (حازم) للأسف لم يكن ليعترف بالحنان. كان يعتقد أن حنان الرجل هو أقصر الطرق لسيطرة زوجته عليه. ولا تسألني كيف وافقت على (حازم) من البداية لأنه كان قدري, قسمة ونصيب."
تنهد في عمق قائلاً ـ"نفس الكلمة التي قالتها أمي ’قسمة ونصيب‘."
ثم أدار وجهها إليه برفق وهو يتابع بحنان ـ"حبيبتي أنا لا أعاتبك ولا أريد نبش الماضي, ولكن حديث أمي ترك العديد من علامـ.ـا.ت الإستفهام في عقلي".
وأضاف مبتسماً وهو يمسح دmـ.ـو.عها بأنامله ويزيل آثار الكحل السائل قائلاً ـ"ولكن لا أنكر أن كوني حبيبك الأول أرضى غــــروري كرجل".
ثم قبل جبهتها في حنان وهو يقول ـ" أعدك ألا أعيد فتح هذا الموضوع ثانية, اتفقنا؟"
قالها بصدق قبل أن يضمها إليه بقوة وحنان ويدفن وجهه في شعرها للحظات قصيرة كان من الممكن أن تطول لو لم تبتعد(هالة) عنه في حركة عنيفة ويدها على فمها وعلى وجهها ارتسم تعبير امتعاض أقلقه, خاصة حينما تركت الغرفة في سرعة متجهة إلى الحمام وتناهى إلى مسامعه صوتها وهي تفرغ معدتها رغماً عنها.
وعنـ.ـد.ما عادت إلى الغرفة بعد دقائق أدهشها التعبير المرتسم على وجه زوجها.
فقد كان جالساً على طرف الفراش يهز ساقه في عصبية والقلق_ وربما الضيق_ بادي على وجهه, ولم يكد يرها حتى سألها في لهجة بدت حادة إلى حد ما ـ"هل تسمحين بتفسير ما يحدث لك حينما أقترب منك؟ هل أصيبك بالاشمئزاز أم أنك لا تطيقينني؟"
ارتفع حاجباها في دهشة بالغة وهي تقترب منه هاتفة باستنكارـ"أنا؟ أنسيت أننا منذ دقائق كنا نتبـ.ـارى من منا يحب الآخر أكثر؟"
سألها في حيرة ـ"إذاً ما السبب؟ إنك لم تكوني هكذا من قبل, هذا الأمر جديد عليك."
جلست إلى جواره وربتت على كتفه قائلة بتردد ـ"أنت لست السبب بشكل مباشر ولكنه...إنه عطرك يا حبيبي."
عقد حاجبيه وهو يتشمم ملابسه قائلاً ـ"عطري؟ أي عطر هذا؟ أنا لا أشمه, كما أنني لم أغير نوع العطر الذي أستخدmه."
ابتسمت وخفضت وجهها وصوتها وهي تقول بخجل ـ"أنت لا تشمه لأنك اعتدت عليه, ولا أنكر أن رائحته طيبة لكنها بدأت تثيرني وتجعلني أفرغ معدتي أكثر من مرة في اليوم بمجرد اقترابك مني؛ أنا آسفة."
إلتفت إليها وربت على وجنتها قائلاً بحنان ـ"لابد وأن هناك سبباً ما. يجب أن تستشيري طبيباً متخصصاً في الجهاز الهضمي لأنني قلق عليك للغاية."
استكانت للمسة كفه وأسبلت جفنيها للحظات قبل أن تفتحهما قائلة ـ"لا داعي لقلقك يا حبيبي, موضوع استثارة الروائح النفاذة لمعدتي أمر قديم ويتكرر كل فترة."
عقد حاجبيه وبدا القلق في صوته وهو يسألها في اهتمام قائلاً ـ"يتكرر بأي معدل؟"
ابتسمت في خبث قائلة ـ"ليس معدل متقارب, فقد حدث لي أربع مرات خلال اثني عشر عاماً, وسبب عدm قلقي هو أنه يزول تلقائياً بعد تسعة أشهر."
اتسعت عيناه في دهشة وهو يهتف بانفعال ـ"تسعة أشهر؟تسعة بالضبط؟إذاً فأنت حامل!! يا إلهي..."
قاطعته بلكزة في جانبه قائلة ـ"يا لك من طبيب غير متمرس.ألم تفهم إلا الآن؟ ظننتك أنت ستسألني متى يأتي ولي العهد, مثلما فعل والدك."
أحاط وجهها بكفيه قائلاً ـ"لم أسألك لأنني تزوجتك فعلياً من أجلك أنت وليس من أجل الإنجاب. ولكن ذلك لا يمنعني من سؤالك متى سنحتفل بقدومه؟"
هزت كتفيها قائلة ـ"لا أدري متى بالضبط لأنني لم أستشر طبيباً مختصاً بعد؛ إلا أنه من المحتمل أن ألد بعد سبعة أشهر ونصف من الآن."
هب واقفاً يهتف في جذل وهو يتحرك في الغرفة كالمـ.ـجـ.ـنو.ن ـ"يا إلهي...سأصبح أباً حقاً. لا أدري ماذا أفعل؛ أريد أن أرقص, أريد أن أغني, أريد أن أخبر العالم كله أن زوجتي وحبيبتي حامل, أن أخبر أبنائي أن أخاهم قادm في الطريق. يا إلهي...سأجن من السعادة."
انفجرت(هالة) ضاحكة وهي تراه حائراً في التعبير عن سعادته بحملها, ثم ما لبثت أن نهضت متجهة إليه إلا أنه هتف بها ويداه ممدودتان عن آخرهما قائلاً ـ"إلى أين؟ إنك لن تتحركي أو تقومي بأي مجهود طوال فترة الحمل. ستأخذين أجازة من العمل حتى تلدي, ومن الأفضل أن تكون أجازة مفتوحة. ممنوع الإرهاق أو الانفعال. سنذهب سوياً لأفضل الأطباء وستخضعين لنظام غذائي صحي يضمن عدm زيادة وزنك عن الوزن المطلوب و..."
قاطعته قائلة من بين ضحكاتهاـ"على رسلك يا حبيبي.أنا لا أشعر بأي شيء غير طبيعي, ولا تنس أنها رابع مرة أحمل فيها."
تابع وكأنه لم يسمعها قائلاً ـ"وأهم شيء ألا تنظري في وجهي كثيراً وإلا أتى المولود شبيهاً بي."
قبلت وجنته في حب قائلة ـ"وهذا ما أريده, أن يكون نسخة عنك في الشكل والطباع, أن يكون له عيناك ولونهما الدافيء وابتسامتك الهادئة وبساطتك التي أعشقك من أجلها."
تأمل ملامحها في دهشة_وكأنه يراها لأول مرة_ ورأى الصدق في عينيها يثبت مدى حبها له ووجد نفسه يهمس تلقائياً قائلاً ـ"يا إلهي...إنك تحبينني بحق."
لاحت نظرة عتاب سريعة في عينيها السوداوين وهمست ـ"وهل شككت في هذا؟"
هز رأسه نفياً ومال يطبع قبلة حانية على جبينها هامساً بصدق ـ"ولا َتشُكي ولو للحظة واحدة في حبي لك."
رفعت عينيها إلى عينيه في لحظة هادئة قطعها(طارق) حين هتف فجأة ـ"لقد نسيت, يجب أن أغتسل فوراً."
عقدت(هالة) حاجبيها وهي تتابعه بعينيها يلتقط منشفته فهتفت به ـ"ماذا بك؟ ولماذا الآن بالذات؟"
تناول زجاجة عطره قائلاً بابتسامة جذابة ـ"ما دام عطري يثير معدتك فلا بد أن أزيل آثاره من جـ.ـسمي وملابسي."
وفي حركة سريعة قَبَّل الزجاجة قبل أن يقذفها في سلة المهملات ويتجه للحمام تاركاً(هالة) مستغرقة في الضحك.
↚بخطوات سريعة واثقة يميزها صوت كعب حذائها المرتفع دلفت (سمر) إلى غرفة الطبيبات بالمستشفى وهي ترفع نظارتها الشمسية الراقية فوق شعرها بحركة أنيقة وتبتسم لصديقتها التي جلست تحتسي شراباً دافئاً في هدوء.
وبرقتها المعتادة ألقت (سمر) التحية على صديقتها قائلة ـ"صباح الخير يا دكتورة (ضحى)".
بادلتها (ضحى) الإبتسامة وهي تجيبها بود ـ"صباح الخير يا دكتورة (سمر). ما الذي أخرك هذا الصباح"؟
اتجهت (سمر) إلى طاولة بجانب الغرفة اصطفت عليها أكواباً ورقية نظيفة وعلباً للشاي والقهوة الفرنسية وهي تجيبها قائلة بابتسامة منهكة ـ"كنت أنهي بعض الأوراق الهامة. لقد خرجت مبكراً من منزلنا حتى أنني لم أتناول قهوتي الصباحية المعتادة".
قالتها وهي تلتقط كوباً ورقياً وتفرغ مظروفاً للقهوة فيه قبل أن تضيف عليه الماء المغلي وتقلبه متجهة إلى مقعد مجاور لصديقتها وتجلس برقة قائلة ـ"كنت أقاوم النوم في سيارة الأجرة وأنا قادmة الآن".
تأملتها (ضحى) قليلاً قبل أن تهمس بتعاطف ـ"الإرهاق يبدو جلياً على وجهك، لكنك تجيدين إخفاء مشاعرك دوماً".
التفتت إليها (سمر) بحركة حاولت ألا تجعلها حادة وهي تسألها بضيق ـ"ماذا تقصدين؟"
ربتت (ضحى) بتعاطف على كف صديقتها قائلة ـ"كلنا يعلم كيف كنت تحبينه، وأن...".
قاطعتها (سمر) قائلة بجمود ـ"أنت قلتها..كنت أحبه. لقد انتهى ما بيننا وطويت هذه الصفحة من حياتي".
حاولت (ضحى) أن تلين صلابتها قائلة ـ"أنت ما زلت في العدة، وإذا أردت يمكن ل(سامي) زوجي أن يتدخل ليعيدكما و...".
قاطعتها (سمر) ثانية وهي تقول بصوت حاولت أن تجعله طبيعياً ـ"لم أعتد التراجع في قراراتي..ثم إنني أعددت العدة للسفر قريباً".
عقدت صديقتها حاجبيها قائلة بدهشة ـ"السفر؟ إلى أين؟"
ارتشفت (سمر) بعضاً من قهوتها الساخنة متجاهلة حرارتها قبل أن تجيبها قائلة ـ"لقد وجدت فرصة عمل في دولة خليجية وسأسافر بمجرد انتهاء العدة".
إستفسرت (ضحى) بلهجة أقرب إلى الإستنكارـ"بدون محرم؟"
واصلت (سمر) ارتشاف قهوتها واعتدلت في مقعدها وهي تجيب ببساطة ـ"لم يشترطوا محرماً، كما أن هناك سكناً داخلياً للطبيبات..أشبه بالمدينة الجامعية للطالبات".
سألتها (ضحى) ـ"أهي هذه الأوراق التي كنت تنهينها في الصباح؟"
سحبت (سمر) نظارتها الشمسية من بين خصلات شعرها المصبوغ ووضعتها في جراب أنيق وهي تجيب صديقتها بهدوء ـ"نعم هي. لقد أشارت علي صديقة بالسفر وساعدني (حسام) ابن زوج أمي كثيراً حتى وجدنا هذا العقد".
تنهدت (ضحى) بعمق وهي تتمتم بصوت خافت ـ"وكأنك تقولين له مصر كلها لا تكفيني للهروب منك".
سمعتها (سمر) وهي تدرك مغزى صديقتها، فقالت بنفس البرود ـ"نعم مصر كلها لا تكفيني للهروب منه. لا أنكر أنني أتحاشى التحرك في المستشفى بعيداً عن عيادة العيون وغرفة الطبيبات كيلا ألقاه قدراً، ولا أنكر أنني غيرت مواعيد عملي كذلك. ولكن إلى متى؟ المستشفى ليس بهذه الضخامة بحيث نتوه بداخله، ومن المؤكد أننا سنلتقي يوماً ما، وأنا لا أريد ذلك".
قالتها وشعرت بالضعف يعتريها ويتغلب على قوة صوتها الذي تهدج رغماً عنها وهي تقول ـ"لقد عشت معه أياماً جميلة لا أنكرها، وهو تحمل عصبيتي ودلالي وأحياناً إهاناتي بصبر وحكمة لم أرها في رجل من قبل. لكن كرامتي لا تتحمل المزيد. لقد كان يتحملني من قبل بدافع الحب، ولكن دافعه الآن سيكون الشفقة، وأنا لا أقبلها. بل ربما لا يتحملني أكثر من ذلك ويأتي اليوم الذي يطـ.ـلقني فيه لأنني لم أنجب طفله".
وبسرعة غريبة عادت القوة تغلف صوتها وهي تضيف ـ"لذا كان قراري بطلب الطـ.ـلا.ق هو الحل الأمثل للحفاظ على ما تبقى من كرامتي أمام أسرته وأسرتي".
ربتت (ضحى) على كف صديقتها في تعاطف قائلة ـ"ولكنك لست أول من تعجز عن الإنجاب يا (سمر)، والعلم في تقدm مستمر. وحتى إذا لم يأذن الله لك بالإنجاب، فحب (طارق) لك كان كفيلاً بتعويضك. أنت لا تعلمين كيف كان حاله منذ بدأت المشاكل بينكما. لقد كان (سامي) زوجي يتمزق ألماً حـ.ـز.ناً على صديقه الوحيد ويشعر أنه لا يستطيع مساعدته في أصعب مواقف حياته. هل تعلمين أن (طارق) كاد أن يفقد مستقبله المهني كطبيب بسبب خلافاتكما التي أثرت على أعصابه و.جـ.ـعلت أصابعه تهتز أثناء إحدى العمليات؟"
تظاهرت (سمر) بتأمل كوبها الورقي وهي تتمتم_ "ربما".
ثم رفعت عينيها إلى (ضحى) لتضيف ببرود ـ" لكنه عاد وتفوق وكرمه مدير المستشفى منذ نحو شهرين. ألا يعني ذلك أنه تجاوز أزمتنا؟ ألا يعني ذلك أنني لم أعد أمثل أية أهمية بالنسبة له؟"
مطت (ضحى) شفتيها قليلاً وهي لا تدري بما تجيب صديقتها.
لقد أسر إليها زوجها من قبل بأن (طارق) يبدو مختلفاً وأكثر تفاؤلاً، بل ويبدو أنه تجاوز أزمة (سمر) وطـ.ـلا.قهما وكأنها لم تكن يوماً زوجته التي قـ.ـا.تل من أجلها.
كانت تجهل هي وزوجها سبب هذا التغيير.
أما (سمر) فكانت على شبه يقين من سبب التغيير.
كانت تشعر بأنها قدmت زوجها على طبق من ذهب ل(هالة) وأبنائها، وأن (طارق) ربما أجاد استغلال الفرصة.
ولم لا؟
لقد كانت (هالة) بالنسبة له الزوجة المثالية في كل شيء، على النقيض منها تماماً
وبعد إختفائها من حياته بناء على طلبها...ما الذي يمنعه عن تحويل زواجه منها إلى زواج حقيقي؟
شعرت بغصة تخـ.ـنـ.ـقها عند تلك النقطة فسعلت بقوة جعلت الكوب الورقي يهتز في كفها ليسكب قليلاً من محتواه الساخن على ساقها فهبت واقفة لتبعد سروالها الضيق قليلاً عن فخذها كيلا تحرقه القهوة الساخنة واتجهت في سرعة إلى حوض جانبي والتقطت منشفة صغيرة نظيفة بللتها قليلاً بالماء قبل أن تمسح بها آثار القهوة عن السروال الأسود.
وبعد أن انتهت من تنظيف ملابسها عادت تجلس في هدوء إلى جوار صديقتها وهي تعيد ترتيب شعرها بأصابعها بحركة مدروسة اعتادت عليها منذ قصرت شعرها قبل فترة.
حينها شعرت (ضحى) بما تحاول صديقتها إخفاؤه دون جدوى فقالت بحرج ـ"آسفة يا (سمر)..أنت تدركين كيف أحبك، وكيف تعود صداقتنا إلى ما قبل ارتباطك بصديق زوجي. كل ما أريده لك هو السعادة والراحة".
ربتت (سمر) على كفها بود ومنحتها ابتسامة صادقة وهي تقول ـ"أدرك ذلك يا أختي التي لم تلدها أمي...أنت وزوجك فقط دوناً عن أي من معارفنا تعلمان السبب الحقيقي لإنفصالنا، وهذا لأنكما أقرب إلينا من أهلنا بالفعل".
قالتها دون أن تشعر بأنها جمعت نفسها و(طارق) في ضمير واحد كما كانت تفعل دوماً.
ولكن هذا لم يخف على (ضحى) التي بادلتها الإبتسامة في ألم قبل أن تسألها بإهتمام لتغيير الموضوع ـ"هل حددت موعد السفر؟"
أجابتها (سمر) في هدوء وهي تضع جراب النظارة الشمسية في حقيبة يدها قائلة ـ"غالباً سيكون بعد عيد الأضحى...أنا في انتظار التحقق من موعد انتهاء العدة لحجز تذكرة السفر".
عقدت (ضحى) حاجبيها وهي تسألها في حيرة ـ"ماذا تقصدين؟"
هزت (سمر) كتفيها وهي تجيبها قائلة ـ"لا أعرف كيف تُحتسب الحيضات الثلاث...هل بداية من الحيض الذي يتبع الطـ.ـلا.ق أم من الحيض الذي حدث أثناؤه الطـ.ـلا.ق".
وضعت (ضحى) كوبها الورقي على المنضدة أمامها في سرعة واستدارت إلى صديقتها تسألها بانفعال ـ"هل كنت حائضاً حينما طلقك (طارق)"؟
تراجعت (سمر) في جلستها لتسند ظهرها إلى ظهر المقعد وهي تجيب صديقتها بهدوء ـ"نعم...وهذا سبب انفعالي الزائد عليه منذ معرفتي بـ.ـنتائج التحاليل والأشعة".
ثم ما لبثت أن سألتها باهتمام وهي تقترب بوجهها من صديقتها ـ"لماذا أرى في عينيك انفعالاً مكتوماً؟ ماذا تخفين عني؟"
وضعت (ضحى) كفيها على حجابها الأنيق وهي تعدله فوق رأسها بـ.ـارتباك قائلة ـ"لا....لا شيء..لقد تذكرت شيئاً".
قفز الاهتمام إلى عيني (سمر) وهي تمسك كف صديقتها في قوة قائلة ـ"ما الذي تذكرته؟ ولماذا أشعر أن له علاقة بي؟ أجيبيني يا (ضحى) بالله عليك".
تلعثمت (ضحى) قليلاً وهي تفرك كفيها بـ.ـارتباك قائلة ـ" أنا لست واثقة تماماً من المعلومة، ولابد من استشارة رجل دين أولاً".
عقدت (سمر) حاجبيها وهي تسألها بنفاذ صبر ـ"ما هي المعلومة التي قلبت حالك رأساً على عقب؟ أخبريني ربما كنت أعرفها".
هزت (ضحى) رأسها نفياً وهي تقول بضيق ـ"لا أظنك ت عـ.ـر.فينها، ولازلنا بحاجة إلى التحقق من مدى صحتها".
ضغطت (سمر) فكيها في غـ.ـيظ وهي تقول بعصبية ـ"(ضحى)..كفى تلاعباً بأعصابي..هات ما عندك".
تنهدت صديقتها في عمق قبل أن تستغفر ربها بهدوء وتقول ـ"لقد سمعت إحدى معارفي تقول منذ فترة إن طـ.ـلا.قها من زوجها لم يقع لأنها كانت حائضاً".
شحب وجه (سمر) وهي تتراجع مصدومة وتحاول عبثاً العثور على صوتها الضائع لتقول بكلمـ.ـا.ت متقطعة ـ"م..ماذا تقصدين؟"
ازدردت (ضحى) لعاباً وهمياً وهي تجيب بتردد ـ"أخشى أن طـ.ـلا.قك أنت و(طارق) لم يقع، وأنه لا داعي لهذه العدة".
وكان الذهول المرتسم على ملامح (سمر) في تلك اللحظة أبلغ رد على هذه الصدmة.
↚جلست(هالة) على فراشها ترتب الملابس النظيفة التي غسلتها في غياب(طارق) الذي يمنعها من القيام بأي مجهود زائد ووافق_على مضض_ أن تقوم هي بالطهي حتى تعود والدتها من رحلة الحج.
وفي هدوء شردت بذهنها بعيداً وهي تتذكر الأيام التالية على معرفة (طارق) بحملها وبحور السعادة التي أغرقها فيها زوجها بحبه وحنانه ورقته معها.
كانت لمعة عينيه وابتسامته العـ.ـذ.بة تثير في جسدها قشعريرة لذيذة كلما نظرت إليه وتزيد من دقات قلبها التي تبدو وكأنها تهتف باسمه.
وهو كان لا يألو جهداً في سبيل إسعادها وتعويضها الأيام السابقة...وتعويض نفسه أيضاً.
كانت تشعر بالصدق في عينيه وصوته وهو يهمس في أذنيها بكلمـ.ـا.ت العشق والغزل.
كما كانت تشعر بلهفته عليها وهو يساعدها بأعمال المنزل منذ أصبح زوجها فعلياً وكأنه يخشى أن يرهقها بطلباته.
كانت تشعر ب(طارق) مختلف...مختلف كزوج وحبيب و...رجل.
وارتسمت ابتسامة واسعة على وجهها وهي تتذكر خروجها معه كزوجة تتأبط ذراعه للمرة الأولى أمام العالم وهو يصحبها وأطفالها في رحلة سريعة إلى الملاهي.
وبعينين حالمتين رفعت كفها اليسرى إلى مستوى نظرها لتتأمل دبلته الذهبية الجديدة التي أحاط بها بنصرها خلف دبلة أخيه التي رفض أن تخلعها.
وبكل الحب الذي تحمله بين شرايينها لهذا الرجل قربت كفها لتلثم دبلته بعمق وهي تهمس ـ"حفظك الله لي ولبنائنا".
ثم أعادت كفها لتتحسس برقة بطنها الذي يحمل ثمرة هذا الحب.
كانت سعادتها بهذا الحمل لا تضاهيها سعادة، سوى سعادتها بحملها الأول.
فحينها كانت سعيدة لأنها ستصبح أماً
ولكنها الآن سعيدة لأنها ستصبح أماً لطفله...لكائن صغير نصفه لها ونصفه له.
لحظتها تذكرته حينما طلب منها ألا تنظر إليه حتى لا يشبهه المولود
وبابتسامة ناعمة نقلت عينيها إلى المنضدة المجاورة لفراشهما، والتي حملت صورة جماعية لها معه ومع أبنائها.
تناولت الصورة ذات الإطار الأنيق وتأملتها قليلاَ
لا تزال تذكر اليوم الذي أصر فيه (طارق) على أن يذهبوا جميعاً إلى المصور ليلتقط لهم صورة جماعية.
حينها برر إصراره هذا بأنه لا توجد صورة تجمعهما سوياً كزوجين، وهذه الصورة بدلاً عنها
ولكن المصور أوقف كل منهما في جانب بينما وقف الأطفال في المنتصف وكأن (طارق) و (هالة) يحيطانهما بالحب والحماية.
وبكل الحب الذي تغلغل في أعماقها لهذا الرجل تحسست ملامحه في الصورة وهي تتأمل نظرة عينيه الحنونة، والتي لا تخلو من نظرة شقاوة تذكرها بإبنها الأوسط (هاني).
ثم ما لبثت أن قربت الصورة من وجهها لتلثم وجهه في الصورة بحنان وتتخيله أمامها وهي تبثه حبها
كانت تفتقده في شـ.ـدة هذا الصباح، وكأن وجوده معها هو وحام الحمل الجديد
فقد خرج إلى المستشفى بعد صلاة الفجر مباشرة ولم يوقظها كعادته منذ علم بحملها، خاصة وأنه يوم السبت ولن يذهب الأولاد إلى المدرسة
ولهذا فهي تشعر وكأنها لم تره منذ زمن، رغم أنها كانت بين أحضانه طوال الليل
تنهدت في عمق وهي تعيد الصورة إلى موضعها وتسللت ابتسامة شقية إلى شفتيها وهي تتخيل رد فعل(طارق) حين يعلم أنها غسلت ملابسه المتسخة دون علمه؛ وتوقعت أن يهتف بها في عصبية قائلاً ’ألم أقل لك ممنوع الإرهاق أو المجهود الزائد؟ ألم..."
وعلى حين غرة قطع تخيلاتها دخول ابنها(هاني) المفاجئ إلى غرفتها هاتفاً في فزع ـ"ماما...(هيثم) يمسك بطنه ويتأوه من الألم."
ألقت(هالة) ما في يدها ونهضت مسرعة إلى حجرة ابنيها لتجد(هيثم) يتلوى من الألم واضعاً يديه الصغيرتين على جانبه الأيمن فسألته في جزع ـ"ماذا بك يا(هيثم)؟ أين الألم؟"
أشار إلى جانبه الأيمن ولسانه لا ينطق سوى بتأوهاته من شـ.ـدة الألم, وهذا ما جعل قلب(هالة) يهوي من بين ضلوعها؛ لا بد وأنه يشكو من الزائدة الدودية, إلا أن قلبها دعا الله أن يخيب ظنها وحاولت تهدئة ولدها قائلة ـ"لا تقلق يا حبيبي. إنه مغص عادي وسيزول سريعاً. هل تستطيع تحريك ساقك اليمنى؟"
قالتها وهي تلمس ساقه عفواً فازداد صراخ(هيثم) وأيقنت خطورة الموقف فهتفت ب(هاني) قائلة ـ"أحضر الهاتف فوراً."
وبأصابع مرتجفة ضغطت(هالة) أرقام هاتف(طارق) المحمول لتجد رسالة مسجلة تفيد بأن الهاتف مغلق.حاولت مرة ثانية وثالثة دون جدوى.
وفي يأس ورعـ.ـب شـ.ـديدين على فلذة كبدها راحت تطلب رقم المستشفى التي يعمل بها زوجها, والتي ظلت أرقامها مشغولة لفترة بدت لها كالدهر حتى استجاب لها أخيراً وسمعت موظفة الاستقبال تجيبها فهتفت تستنجد بها قائلة ـ"صليني بالدكتور(طارق حفني) بسرعة لو سمحت."
سألتها الممرضة بلهجة روتينية ـ"من أنت؟"
هتفت بها(هالة) في عصبية قائلة ـ"وما شأنك أنت؟ صليني به سريعاً, فالأمر خطير."
لم ترق لهجتها للممرضة التي قالت في ضجر ـ"الدكتور(طارق) في غرفة العمليات و..."
همت(هالة) بالصراخ في وجهها ثانية حينما صك مسامعها صوتاً أنثوياً هادئاً يقول من الطرف الآخر في رقة ـ"ألو...ماذا هناك؟"
استغاثت(هالة) بصاحبة الصوت الرقيق وقالت في لهفة ـ"صليني بالدكتور(طارق حفني) إذا تكرمت. ابني يتلوى من الألم وهاتف(طارق) المحمول مغلق."
حاولت صاحبة الصوت الرصين تهدئتها قائلة ـ"دكتور(طارق) في غرفة العمليات بالفعل. أعطني اسمك وسأجعله يتصل بك فور خروجه, ولا تقلقي فلن أنسى."
تفجرت الدmـ.ـو.ع من عيني(هالة) واختنق صوتها وهي تقول ـ"صليني بأي دكتور آخر إذاً, أخشى أن ابني يعاني من مغص الزائدة الدودية."
تشبع الصوت الهاديء بلهجة اهتمام وصاحبته تقول ـ"لا تقلقي يا سيدتي, أنا دكتورة(سمر) زوجة الدكتور(طارق). أخبريني بالأعراض التي يعاني منها ابنك يا مدام...ما اسمك؟"
لم يبد على(هالة) أنها سمعت أي مما قيل بعدmا اخترقت أذنيها عبـ.ـارة ’زوجة الدكتور(طارق)‘؛
فقد اتسعت عيناها في ذهول وأفلت حلقها شهقة رغماً عنها وهي تكاد لا تصدق أذنيها.
فالمتحدثة لم تقل’زميلة الدكتور(طارق)‘ أو حتى زوجته السابقة, بل قالت ’زوجة الدكتور(طارق)‘...
وفي رد فعل سريع لصدmتها خرج صوتها متحشرجا يقول ـ"أنا(هالة شوقي), زوجة دكتور(طارق)."
وكان آخر ما سمعته هو شهقة دهشة من حلق(سمر) قبل أن تغلق سماعة الهاتف في عنف.
↚اندفع(طارق) في سرعة ولهفة إلى شقته عبر بابها المفتوح وهرع إلى غرفة الأولاد ليرى(هيثم) راقداً على فراشه وطبيب الإسعاف يفحصه في دقة، بينما وقفت (هالة) إلى جواره ودmـ.ـو.عها تغرق وجهها الشاحب الذي رفعته إليه للحظة ثم ما لبثت أن أدارته بعيداً, ولم ينتبه(طارق) لذلك إذ خاطب طبيب الإسعاف قائلاً ـ"أنا دكتور(طارق حفني) والد(هيثم), ماذا به؟"
رفع الطبيب رأسه قائلاً بالإنجليزية ـ"التهاب بالزائدة الدودية. لا بد من إجراء جراحة عاجلة."
قال(طارق) بثبات ـ"أنا جراح وسأنقله إلى المستشفى الذي أعمل به."
وأشار إلى(هالة) بلهجة آمرة قائلاً ـ"ابق أنت هنا بصحبة(هاني)و(هند) و..."
قاطعته بإصرار وتحد قائلة ـ"ابني لن يذهب للمستشفى وحده, سأترك(هاني) وأخته عند جارتي؛ لقد تركتني منذ قليل لتجيب الهاتف."
حاول الاعتراض قائلاً ـ"ولكن صحتك..."
قاطعته ثانية وهي تقول بلهجة لم يعتدها ـ"حبي للقادm لن يكون أكثر من حبي لإبني البكر، ولن أحتمل الجلوس هنا وابني في غرفة العمليات".
عقد حاجبيه للحظات وهو يتأمل نظرتها المتحدية التي تعمدت أن ترمقه بها، قبل أن يقول ـ"حسناً..أعدي حقيبة (هيثم)".
مسحت دmـ.ـو.عها بكـبـــــريـاء وأنامل مرتجفة وهي تومئ برأسها إلى حقيبة صغيرة مجاورة ـ"لقد أعددتها بالفعل. هيا بنا".
وبمجهود نفسي خارق حاولت السيطرة على أعصابها كي لا تفقدها أمام طفلها الذي يتلوى من الألم، وجلست على الأريكة الخلفية لسيارة (طارق) بينما وضع ابنها رأسه في حجرها وترك كفه بين كفيها وكأنما تشحنه بقوة حنانها.
كان القلق يبدو جلياً على ملامح (طارق) الذي يتابعهما بعينيه عبر مرآة السيارة، وكلما التقت عيناهما لمحت في عينيه تساؤلاً إليها عن سر نظرتها المحنقة له، لكنها كانت تتعمد تجاهله وهي تسمعه يتصل بالمستشفى ويطلب بتـ.ـو.تر تجهيز غرفة العمليات له والإتصال بالدكتور (سامي)، ثم سمعته يسأل ابنها عن حالته ومدى الألم وموضعه ومتى بدأ، إلى أن وصل بسيارته إلى المستشفى الذي يعمل به.
وما أن أوقف السيارة أمام باب الطوارئ بالمستشفى حتى لمحت (هالة) ممرضين يهرعان نحوها ويتعاونان على حمل الصغير برفق ووضعه على فراش متحرك دفعاه إلى داخل المستشفى ومن صالة الطوارئ إلى مصعد العمليات الذي ابتلع الممرضين والفراش وفوقه (هيثم).
كانت تريد الركوب مع صغيرها لكنه وضع كفه على ظهرها وهو يقودها بهدوء نحو مصعد آخر مجاور هامساً ـ"لا يمكنك ركوب المصعد مع (هيثم) لأنه يفتح داخل صالة العمليات".
وكأنما أصابتها لمسته بتيار كهربائي مبعثه الإشمئزاز الذي زاد من شعورها بالغثيان، لكنها تماسكت كيلا تحرجه في ردهة المستشفى. وما أن أُغلق باب المصعد عليهما حتى أزاحت يده عنها بضيق وهي تشيح بوجهها في غير اتجاه وقوفه.
أدهشه موقفها فعقد حاجبيه وهو يلمس كفها ويسألها بتـ.ـو.تر ـ"(هالة) ماذا بك؟ نظراتك وحديثك يصيبانني بالتـ.ـو.تر. حالة (هيثم) ليست خطيرة والحمد لله، وسيكون معي صديقي (سامي). حبيبتي لا تثيري قلقي عليك. يكفيني ما أنا فيه".
رمقته بنفس النظرة التي تذبحه وهي تبعد كفها عنه قائلة بلهجة ساخرة لم يعتدها ـ"حبيبتك؟؟ لا تقلق، فحبيبتك بخير.. ركز فقط في عملك وفي أمانة شقيقك الراحل".
زاد من انعقاد حاجبيه وهم بسؤالها عما تعنيه لولا أن سبقه المصعد بفتح أبوابه إيذاناً بوصولهما إلى الطابق الذي يحوي غرف العمليات.
ولأول وهلة إثارتها رائحة المعقم القوية التي زكمت أنفها وزادت من غثيانها بشكل كبير، لكنها واصلت تماسكها وهي تدور بعينيها على غرفة العمليات وتهم بسؤاله عن صغيرها، إلا أنه ابتدرها وهو يشير في اتجاه آخر قائلاً ـ"سأدخل لغرفة التعقيم الآن ومنها إلى غرفة العمليات، وأنت اجلسي على هذه المقاعد هناك حتى نخرج".
سألته بلوعة ـ"ألن أراه قبل الجراحة؟"
منحها ابتسامة باهتة وهو يربت على كتفها قائلاً ـ"حبيبتي إنهم يعدونه الآن للجراحة بالفعل. استودعيه عند العلي القدير وادعيه أن يفك كربك".
شعرت بغصة في حلقها وشعور متناقض يكاد يقــ,تــلها في تلك اللحظة.
ففي هذه اللحظة الحرجة من حياتها كانت بحاجة إلى صدر حنون تفرغ فيه تـ.ـو.ترها وتشعر بالاطمئنان لمجرد سماع دقات قلبه المحب...
لكن الشخص الوحيد الذي كانت تتمنى أن تلقي بنفسها بين ذراعيه هو نفس الشخص الذي كان شيطانها يوسوس لها بإلقائه من نافذة الدور الثالث.
شعور متناقض بين الحب والكراهية امتزجا داخلها بشكل خانق، زادته رائحة المطهر التي تميز المستشفيات.
شعور استغرقها ولم يخرجها منه سوى حركة (طارق) على ذراعها، والتي جعلتها تجفل للحظة تأملت فيها وجهه الذي عشقت ملامحه يوماً قبل أن تهمس كالمغيبة ـ"استودعتكما الله الذي لا تضيع ودائعه".
وما أن غاب (طارق) داخل صالة العمليات ذات الباب المتأرجح حتى شعرت بالأرض تميد من تحتها فاستندت إلى الحائط في ضعف وأسبلت جفنيها لكبت دmـ.ـو.عها التي تهدد بالنزول عند أول كلمة تسمعها أو تنبس بها..
وتناهى إلى مسامعها في تلك اللحظة صوت خطوات أنثوية تقترب منها وتتجاوزها لتقف أمامها وتحجب عنها الباب الذي غاب خلفه (طارق) قبل قليل.
فتحت عينيها في بطء لتجد أمامها شقراء فاتنة في أواخر العشرينات من عمرها ترتدي معطفاً أبيضاً وتبتسم في وجهها قائلة بهدوء ـ"لا بد وأنك مدام(هالة), أنا(سمر)."
لم تكن(هالة) بحاجة لأن تعرفها (سمر) بنفسها.
صحيح هي أجمل مما توقعت، لكن ملامحها لا تزال كما هي
فهي تحفظ تلك الملامح جيداً منذ رأتها بصور زواجها من (طارق) قبل نحو عام
الزواج الذي ظنته انتهى ولم يعد له بقايا
لكنها فوجئت اليوم بأنها كانت واهمة، وأنه لم ينته كما ظنت.
وأكثر ما أثارها هو أنها آخر من يعلم
وكأنها لا قيمة لها في حياته
لا كزوجة، ولا حتى كصديقة كما اعتادت أن تكون
ولم تكن (هالة) بحاجة إلى انتظار المزيد,
فقبل أن تنبس (سمر) بحرف أو حتى تستمع لمواساتها الرقيقة كانت معدتها المضطربة قد أعلنت التمرد وهي تنقبض في عنف وتقفز إلى حلقها فوضعت كفها على فمها في سرعة وهي تقاوم مشاعر الامتعاض بداخلها,
وأدركت(سمر) ما بها فصحبتها إلى حمام السيدات وتركتها تفرغ معدتها في عصبية.
وبعد أن غسلت(هالة) وجهها بالماء البـ.ـارد خرجت لتجد(سمر) بانتظارها وعلى شفتيها ابتسامة هادئة وهي تقول ـ"لا تخافي, ابنك معه اثنان من أفضل جراحينا, والحالة ليست خطيرة كما تتخيلين. تعالي معي إلى الاستراحة, يبدو أن أعصابك متـ.ـو.ترة."
أومأت(هالة) برأسها في إنهاك قبل أن تضع كفها على معدتها وكأنها تهدئها قائلة ـ"معدتي هي الأخرى متـ.ـو.ترة بسبب خـ.ـو.في عليه، ولذلك أتقيأ كثيراً رغم أنها فارغة من الأساس."
صحبتها(سمر) إلى استراحة قريبة وأجلستها قبل أن تجلس إلى جوارها قائلة بود ـ"كنت أتمنى أن نتعارف في ظروف أفضل من هذه, ولكنها إرادة الله أن نتقارب الآن, وأشعر أننا سنصبح صديقتين؛ من كلام(طارق) عنك أشعر أنني أعرفك منذ زمن."
منحتها(هالة) ابتسامة منهكة وهي تقول ـ"أنا الأخرى كنت أريد التعرف إليك عن قرب لأعرف من استطاعت سرقة قلب(طارق)."
اتسعت عينا (سمر) في دهشة من تعبير (هالة) ووصفها بأنها سرقت قلب (طارق) لكنها تغاضت عن ذلك وتنحنحت في حرج وهي تخلل شعرها بأصابعها الرشيقة قبل أن تقول ـ"لماذا أشعر أن خبر عودتي لـ(طارق) كان مفاجئاً لك؟"
أجابتها(هالة) ببساطة قائلة ـ"لأنه كذلك بالفعل."
حاولت (سمر) تبرير عودتهما بـ.ـارتباك قائلة ـ" ل..لقد جاءت عودتنا بشكل غير متوقع منذ أسبوع واحد فقط."
قفز إلى عيني(هالة) مشهد(طارق) وتـ.ـو.تره في الفترة الماضية وشروده الطويل حتى وهي إلى جواره،
كان يتحجج بضغوط العمل ووجود مؤتمر في الفترة القادmة قد يدفعه إلى الغياب عن البيت لفترة
وتذكرته وهو يعتذر لها بعد عيد الأضحى مباشرة للغياب لثلاثة أيام مقبلة واضطراره للسفر إلى هذا المؤتمر في الإسكندرية.
اعتراها لحظتها شعور غريب بالمهانة.
إذاً فقد كذب عليها بشأن عودة(سمر) إلى عصمته,
كان معها يستعيدان ذكريات زواجهما ولم يخبرها بذلك
وكأنها لا تعنيه بشيء
ولكن لماذا؟!
أسلمها التفكير إلى حالة من القيء ثانية فهرعت إلى الحمام و(سمر) حائرة لا تدري ماذا تفعل.
وعنـ.ـد.ما عادت(هالة) أخيراً وهي تترنح من الإنهاك ابتدرتها(سمر) قائلة باهتمام ـ"سيلتهب حلقك هكذا, سأحضر لك شراباً دافئاً ليهديء معدتك."
أشارت(هالة) بكفها قائلة ـ"كلا, لا داعي لذلك."
أصرت(سمر)على دعوتها قائلة ـ"لا مجال للرفض, سأحضر لك شاياً. هل تشربينه بالسكر أم دايت؟"
أجابتها(هالة) بتهالك قائلة ـ"سكر خفيف."
وعنـ.ـد.ما عادت(سمر) بالشاي سألت (هالة) باهتمام ـ"ولكن أين(هاني) و(هند)؟ لقد أخبرني(طارق) أن والدتك مسافرة للحج, فأين تركتهما؟"
تنهدت(هالة) في عمق قبل أن تجيبها قائلة ـ"عند جارتي, عنـ.ـد.ما علمت بمرض(هيثم) طلبت مني أن أترك الصغيرين عندها مع أبنائها."
ارتشفت(سمر) قليلاً من كوبها وهي تحاول التغلب على دقات قلبها المتسارعة في مواجهة ضرتها قبل أن تقول بهدوء ـ"لقد طلبت من(طارق) أكثر من مرة أن يقدmني إليكم على أنني زميلته بالمستشفى فقط لكنه كان يخشى أن يستنبط أي من الولدين حقيقة علاقتي به. ولا أخفي عليك, فقد شعرت بأن زوج أمي خـ.ـطـ.ـفها مني مثلما اختطف المـ.ـو.ت أبي وتوقعت أن يشعر أبناؤك تجاهي بنفس المشاعر لو أدركوا أنني زوجة عمهم."
أومأت(هالة) برأسها في صمت وهي تنظر في ساعة يدها بقلق ثم قالت بتـ.ـو.تر ـ"هل تأخروا بالداخل أم يهيأ لي فقط؟"
ربتت(سمر) على كتفها بتعاطف قائلة ـ"المفروض أن يكونوا في مرحلة خياطة الجـ.ـر.ح الآن, لا تقلقي. ريثما تنتهين من شرابك سيكون(هيثم) في غرفته بإذن الله."
ارتشفت(هالة) قليلاً من الشاي الدافيء الذي انساب عبر حلقها إلى معدتها الخاوية وكأنه يكوي كل مكان يمر به، ثم ما لبثت أن سألت شريكتها في زوجها قائلة ـ"هل سيُحقن(هيثم) بمـ.ـخـ.ـد.ر كلي؟"
ابتسمت(سمر) قائلة ـ"كلا.لا بد وأن تكون المعدة فارغة لمدة لا تقل عن 12ساعة قبل الحقن بالمـ.ـخـ.ـد.ر الكلي, أما في حالات الجراحة المفاجئة كالزائدة الدودية والولادة القيصرية يكون التخدير نصفياً و..."
وانطلقت(سمر) تشرح لـ(هالة) مزايا المـ.ـخـ.ـد.ر الكلي و النصفي وكأنها تشرح لطلبة كلية الطب, والأخيرة غائبة بعقلها بعيداً, والغليان يتزايد بداخلها؛
ترى ماذا قال عنها أيضاً لزوجته الحبيبة؟
هل أخبرها أن زواجهما أصبح حقيقياً؟
وهل أخبرها أنه سيصبح أباً لطفل من زوجته الأخرى؟
وفي عقلها أضاء مصباح قوي أنار لها ما لم يكن واضحاً من قبل؛
فالأمر كله لم يتعد كونه مجرد تمثيلية سخيفة صدقتها كالبلهاء,
فيخبرها (طارق) بأنه طلق(سمر) حتى يستدر عطفها، ويصر على أنه أخطأ حين تزوجها تاركاً زوجته الأولى بحثاً عن سراب,
وحين يتحقق حلمه وتحمل(هالة) يعود هو إلى حبيبته ليستمتع بحبه وبحياته التي يريدها لنفسه.
ولكن ماذا عنها هي؟
وماذا عن هذا الجنين الذي تحمله بين أحشائها؟
هل تنازلت عن كرامتها وقبلت به زوجاً وحملت طفله بين أحشائها لينتهي بها الأمر مجرد زوجة ثانية؟؟
مجرد ضرة؟
وليتها ضرة عادية
إنها ضرة سعت لتزويج زوجها في البداية
واليوم يرد لها الجميل باستغفالها واستغلالها لينجب منها الطفل الذي عجزت حبيبته عن إنجابه
ألهذه الدرجة وجدها تافهة ورخيصة حتى أنها هرعت إلى أحضانه بمجرد أن أشار لها بإصبعه؟
تزايد بداخلها الشعور بغبائها ووقوعها ضحية خطة محكمة استغل بها براءتها وسذاجتها وطيبة قلبها.
وللحظة كرهت نفسها وقلبها وحتى جنينها الذي كانت سعيدة بحمله حتى هذا الصباح
جنينها الذي تسبب لها في هذا الذل حتى قبل أن يولد.
ولولا إيمانها بالله لفعلت أي حركة مـ.ـجـ.ـنو.نة للتخلص من هذا الحمل كيلا يكون سبباً في ذلها
أما قلبها، فهي قادرة ومستعدة لأن تطأه بقدmيها وتسحقه إنتقاماً منه لأنه وضعها في هذا الوضع
ومع تصاعد الغليان في رأسها وهي تتذكر سعادة(طارق) بحملها, قفزت معدتها إلى فمها ثانية فهرعت إلى الحمام في اللحظة ذاتها التي خرج فيها(هيثم) من غرفة العمليات بصحبة عمه ونُقل إلى غرفة نظيفة بنفس الممر وهو بين النوم واليقظة.
دلفت (سمر) إلى الغرفة خلف (طارق) الذي كان لا يزال يرتدي ملابس العمليات الخضراء وعينيها معلقة بوجه (هيثم) الشاحب الذي تراه لأول مرة، ثم همست لزوجها باهتمام ـ"كيف كانت الجراحة؟"
أجابها بنفس الهمس وهو يعدل من وضع الغطاء على ابن شقيقه قائلاً ـ"الحمد لله..لقد أفاق بالداخل ولكنه تحت تأثير المسكن الآن".
اقتربت من الفراش بحذر وهي لا تزال تتأمل الصغير قبل أن ترفع عينيها إلى (طارق) قائلة بابتسامة خفيفة ـ"ألم تقل أن أحدهما يشبهك؟ (هيثم) لا يشبهك البتة".
تلفت (طارق) حوله بحثاً عن (هالة) وهو يقول في سرعة ـ"أنت قلتها..أحدهما. غالباً يأتي الطفل الأكبر أشبه بوالده، مثلما كان (حازم) رحمه الله أشبه بوالدي. (هاني) هو شبيهي، لكنه ورث عناد أبيه".
ثم سألها في قلق ـ"أين(هالة)؟"
أجابته وهي تداعب شعر (هيثم) الأسود الناعم في حنان قائلة ـ"في الحمام؛ المسكينة مصابة بحالة قيء هستيري من فرط خـ.ـو.فها على ابنها."
ثم أردفت وهي تواجهه بعينيها قائلة ـ"لقد كنت على وشك إعطاؤها مضاد للقيء و..."
قاطعها زوجها في حدة قائلاً ـ"كلا, من الممكن أن يؤذي الج..."
قطع عبـ.ـارته فجأة حين أدرك أنه قال أكثر مما ينبغي, خاصة حينما لمح انعقاد حاجبيها وشحوب وجهها وهي تسحب أصابعها سريعاً من شعر (هيثم).
وفي نفس اللحظة دلفت (هالة) إلى الغرفة واتجهت من فورها إلى صغيرها تتفحصه والدmـ.ـو.ع تطفر من عينيها.
ولم يخف عن عيني (طارق) النظرة العدائية التي رمقت بها (سمر) ضرتها وكأنها لبؤة شرسة تختلف تماماً عن الرقيقة التي كانت تمسد شعر الصغير في حنان قبل قليل.
وفي صمت نقلت(سمر) بصرها بين بطن(هالة) ووجه(طارق) في عصبية واضحة قبل أن تترك الغرفة في حنق واضح.
إلا أن (طارق) لم يعرها إنتباها وهو يقترب من (هالة) ويهمس لها بحب ـ"حبيبتي..إنه بخير والحمد لله. لا داعي لدmـ.ـو.عك الآن".
مسحت دmـ.ـو.عها بأصابع مرتجفة مرتبكة وهي تسأله بصوت مختنق ـ"لماذا لا يجيبني إذاً؟"
مد يده ليربت على كتفها في تعاطف قائلاً ـ"لقد أفاق من المـ.ـخـ.ـد.ر أمامي وعرفني، لكنه الآن تحت تأثير مسكن قوي لأنه لن يحتمل الألم".
أبعدت كفه عنها في ضيق وهي تقول ـ"من فضلك ابتعد عني".
تجاهل ضيقها وهو يتحسس وجنتها بكفه قائلاً بتـ.ـو.تر ـ"(هالة) ماذا أصابك؟ نظراتك وكلمـ.ـا.تك وأسلوبك معي متغير منذ الصباح. ماذا حدث؟"
رمقته بنظرة حادة شعر فيها بكراهية غريبة إستنكر أن تصدر عنها وهي تبعد يده عنها في حدة وتقول من بين أسنانها ـ"قلت لك ابتعد..نحن في مكان عام".
زفر في ضيق واستغفر ربه بصوت خفيض قبل أن يرجوها قائلاً ـ"حسناً سأبتعد..ولكن أرجوك اجلسي وأريحي ظهرك...فهو لن يستيقظ الآن".
انحنت تقبل جبهة صغيرها بعد أن مسحت بكفها حبات العرق التي تغرق جبينه قائلة بلهجة غريبة ـ"أخبرتك من قبل أن حبي للقادm لن يكون أكثر من حبي لإبني البكر".
هم بمجادلتها ثانية حينما سمع طرقاً خفيضاً على باب الغرفة أعقبه صوت صديقه (سامي) وهو يقول بلباقة ـ"حمداً لله على سلامة (هيثم) يا سيدتي".
رفعت (هالة) عينيها إليه بدورها قبل أن تقول بامتنان ـ"أشكرك يا دكتور على عنايتك بابني".
قلب (سامي) كفيه وهو لا زال عند باب الغرفة وقال ـ"أنا لم أفعل سوى واجبي..والدكتور (طارق) هو من أجرى الجراحة".
لاح شبح ابتسامة منهكة على شفتيها وهي تقول ـ"هذا لا ينفي أنك تستحق الشكر".
شعر (طارق) بالغـ.ـيظ وهو يراها تتجاهله تماماً أمام زميله، ولكن (سامي) لم يمنحه الفرصة للإعراب عن هذا الضيق وهو يقول له في سرعة ـ"دكتور (طارق)..أريدك في مكتبك الآن من فضلك".
أخرج طارق غـ.ـيظه في غطاء الرأس المعقم الذي يحيط بشعره الكثيف، فنزعه في عنف وهو يستدير إلى زوجته ثانية ويهمس لها ـ"سأكون بمكتبي في الجهة الثانية من نفس الطابق. إذا احتجت شيئاً اطلبيني، وسأحاول العودة سريعاً".
أشاحت بوجهها بعيداً عنه ولسان حالها يقول ’لن أحتاجك بإذن الله‘، لكنها لم تنبس بحرف وتركته يخرج من الغرفة مع زميله في حنق ويغلق الباب خلفه.
حينها فقط تهاوت جالسة على اقرب مقعد لتعلن انهيارها تماماً بعد يوم من الضغط العصبي القاسي الذي لم تتوقعه يوماً.
↚فتح (طارق) باب غرفة مكتبه في عصبية واضحة لم تخف على عيني صديقه، ودلف إليه قبل صديقه قائلاً بضيق ـ"ماذا تريد يا (سامي)؟"
جلس (سامي) أمامه عبر المكتب البسيط قبل أن يسأله بمكر واضح ـ"ماذا بها (سمر)؟"
سأله (طارق) في حيرة ـ"ماذا بها؟ ما الذي يدفعك إلى هذا السؤال؟"
هز (سامي) كتفيه وهو يقول ببساطة متعمدة ـ"أبداً...لقد لمحتها تخرج مسرعة من غرفة ابن أخيك، وأعتقد أنها كانت تكبت دmـ.ـو.عها. فقد كانت عيناها حمراوين".
عقد (طارق) حاجبيه للحظات قبل أن يقول بلا مبالاة ـ"ربما ضايقتها العدسات اللاصقة. أحياناً تُلهب عينيها وتدفعها إلى التعامل بعصبية".
رفع (سامي) حاجبيه في دهشة مصطنعة قائلاً ـ"العدسات اللاصقة؟ عجباً. إنها طبيبة عيون".
تأمله (طارق) للحظات وهو يدرك في قرارة نفسه أن صديقه يرمي إلى شيء آخر، لكنه اكتفى بتبادل نظرات صامتة قطعها (سامي) بقوله ـ"لماذا لا يكون سبب عصبيتها مشهد رأته ولم يرقها؟"
حاول (طارق) التزام الهدوء وهو يسأله ببرود ـ"أي مشهد تقصد؟"
باغته صديقه بسؤال سريع ـ"هل تسمح بتفسير علاقتك بأرملة أخيك؟ حينما دخلت الغرفة وجدتك قريب منها بشكل غير لائق، وأسلوبك الهامس معها أيضاً. أتريد من زوجتك أن تراك هكذا مع غيرها وتسكت؟"
عاد (طارق) إلى نظراته البـ.ـاردة وهو ينتظر من صديقه إنهاء لائحة الاتهامـ.ـا.ت ضده، و(سامي) يتابع في حنق ـ"ماذا حدث يا (طارق)؟ كيف تتغير أخلاقك هكذا؟ كيف تتـ.ـحـ.ـر.ش بمن حملت يوماً اسم شقيقك وتربي أبنائه الأيتام الآن؟"
لاحت ابتسامة جانبية ساخرة على وجه (طارق) وهو يسال صديقه في تهكم ـ"هل أنهيت قائمة الاتهامـ.ـا.ت؟"
فتح (سامي) فمه ليرد على صديقه الذي تابع بنفس اللهجة التهكمية ـ"هل تصورت أن صديق عمرك الذي نشأ معك ولم يفترق عنك لأكثر من ثلاثين عاماً قادر على التـ.ـحـ.ـر.ش بأنثى أياً كانت؟"
حاول (سامي) تبرير موقفه لولا أن رفع (طارق) كفه ليشير له بالصمت ليكمل هو قائلاً بهدوء لا يشي بالقنبلة التي سيلقيها في وجه صديقه ـ"السيدة التي تتهمني بالتـ.ـحـ.ـر.ش بها هي زوجتي يا (سامي)".
اتسعت عينا (سامي) وتدلت فكه السفلى بشكل مضحك وهو يحدق بوجه صديقه الذي ألقى قنبلته شـ.ـديدة الإنفجار ووقف يشاهد رد فعله ببرود.
وبصوت متحشرج من أثر الصدmة قال (سامي) ـ"زوجتك؟ هل تزوجت على (سمر) بهذه السرعة؟"
فرك (طارق) عينيه في إرهاق وهو يجيبه بنفس الهدوء القـ.ـا.تل ـ"(هالة) زوجتي الأولى، و(سمر) كانت تعلم ذلك".
بدا أن الصدmـ.ـا.ت المتتالية على أسماع (سامي) في هذه الدقائق العشر أكبر من استيعابه، فهز رأسه كمن يتأكد أنه لا يحلم وهو يقول كالتائه ـ"(هالة) زوجتك قبل (سمر) وأنا آخر من يعلم؟ والمفترض أني صديقك الوحيد؟"
ثم تابع في سرعة كمن تذكر شيئاً ـ"ما دامت (سمر) تدرك أن (هالة) زوجتك، فلماذا خرجت من الغرفة بهذا الشكل وكأنها لا تحتمل البقاء أكثر من ذلك؟"
خلل (طارق) شعره الغزير بأصابعه قبل أن يسند جبهته على راحتيه قائلاً ـ"لأنك يا صديقي الوحيد السبب في كل ما أنا فيه من مشاكل الآن".
أشار (سامي) إلى نفسه وهتف مستنكراً ـ"أنا؟ وكيف ذلك؟"
رفع (طارق) وجهه لتلتقي عيناه بعيني صديقه وهو يقول بجدية ـ"ألم تكن أنت وزوجتك سبباً في عودة (سمر) إلى عصمتي؟"
دافع (سامي) عن نفسه بقوله ـ"لقد فعلتها من أجلك...حينما أخبرتني (ضحى) بأن (سمر) كانت حائضاَ وقت الطـ.ـلا.ق لم أستطع السكوت عن الحق".
شرد (طارق) بذهنه بعيداً إلى ذلك اليوم قبل نحو أسبوعين حينما دعاه (سامي) إلى المقهى الذي اعتادا الجلوس عليه على ضفاف نهر النيل، وابتدره بسؤال بدا عادياً لا يحمل في طياته أي مضمون خفي ـ"ماذا تنوي بعد انتهاء عدة (سمر)؟ "
ارتشف (طارق) قليلاً من شرابه الساخن وهز كتفيه قائلاً ـ"لا شيء..سأمنحها كل منقولاتها في الشقة وباقي حقوقها لدي..صحيح هي التي طلبت الطـ.ـلا.ق ولكنني لن أظلمها".
تظاهر (سامي) باللعب في فنجان الشاي أمامه وهو يسأله بهدوء ـ"هل تعلم ما هو الطـ.ـلا.ق البدعي؟"
عقد (طارق) حاجبيه وهو يجيبه ـ"بدعي؟ لأول مرة أسمع بهذا المصطلح".
تنهد (سامي) في عمق وهو يواجهه ويحاول أن يشرح المفهوم ببساطة قائلاً ـ"الأساس في الطـ.ـلا.ق هو أن يتم في طهر لم يُجامع فيه الزوج زوجته. أما إذا كانت الزوجة حائضاً أو حدث اتصال بين الزوجين قبل الطـ.ـلا.ق مباشرة يصبح الطـ.ـلا.ق بدعياً...أي أنه لا يلتزم بالشروط الشرعية، وهناك اختلاف بين الفقهاء حول مدى صحته، فبعضهم يقول إنه يُحسب طلقة بينما يقول الآخرون إنه لا يُعتد به".
حاول (طارق) استيعاب المعلومة قبل أن يهز رأسه متسائلاً ـ"بغض النظر عن هذه المعلومة التي اسمعها للمرة الأولى...ما علاقتها بي؟"
تنحنح (سامي) في حرج وخفض وجهه أرضاً وهو يجيبه "(سمر) كانت حائضاً وقت طـ.ـلا.قكما...هي أخبرت (ضحى) بذلك عرضاً ولم تكن تعلم بموضوع الطـ.ـلا.ق البدعي..كانت تتساءل عن كيفية حساب العدة وأخبرت (ضحى) في سياق الحديث أنها كانت حائضاً وهذا سبب عصبيتها معك وقتها".
هب (طارق) واقفاً متناسياً وجوده في مكان عام وهو يهتف بعصبية ـ"ماذا تعني؟ أتعني أنها لا زالت زوجتي؟"
جذبه (سامي) من كم سترته ليجلس وهو يتلفت حوله قائلاً بحرج ـ"اجلس ولا تفضحنا...قلت لك إن هناك خلاف فقهي حوله. اتصل أنت ب (سمر) وخذها إلى دار الإفتاء حتى تتأكد من موقفكما".
وضع (طارق) رأسه بين كفيه وهو يقول بذهول ـ"يا إلهي...كيف يحدث هذا؟ لقد أوشكت العدة على الانتهاء وظننت أنني طويت هذه الصفحة للأبد".
عقد (سامي) حاجبيه وهو يسأله مستنكراً ـ"طويت الصفحة للأبد؟ ألهذا الحد صرت لا تطيقها؟ أين ذهب حبكما يا (طارق)؟"
رفع (طارق) وجهه إلى صديقه واكتسى صوته بنبرة قاسية وهو يجيبه ـ"حبنا؟ لقد باعت (سمر) هذا الحب بكل بساطة وكأنه لم يكن..لم تأبه لي ولا لتمسكي بها وإصراري على استمرار حياتنا دون أطفال...حبيبتي التي تتحدث عنها أهانتني أمام الجميع لتجبرني على طـ.ـلا.قها. أهذه من تريد مني العودة إليها؟"
حاول (سامي) الدفاع عن (سمر) بقوله ـ"أنت تعلم كيف كانت جريحة باكتشاف أمر عقمها وكيف كانت ترفض الحياة معك بدافع من الشفقة عليها. أنت أدرى بكبريائها وأسلوب تفكيرها، أضف إلى ذلك التغيرات الهرمونية التي...."
هتف به (طارق) مقاطعاً ـ"لا يوجد ما يبرر إهانتها لي أمام الجميع...أين احترامها لي؟"
تابع (سامي) وكأنه لم يسمع اعتراض صديقه ـ"وربما كانت هذه إشارة إلهية بأنه لم يحن وقت فراقكما بعد، ولا يعلم الحكمة مما حدث لكما سوى الله سبحانه وتعالى".
رمقه (طارق) بنظرة نارية قبل أن يُخرج جواله في سرعة فيتأكد من الوقت أولاً ثم يطلب رقم (سمر) المسجل عنده، لكنه فوجئ برسالة مسجلة تخبره بأن الرقم لم يعد موجوداً بالخدmة.
زادت هذه الرسالة من غـ.ـيظه فالتفت إلى صديقه وسأله من بين أسنانه ـ"هل غيرت (سمر) رقم جوالها؟"
قلب (سامي) كفيه قائلاً في حيرة ـ"لا أدري...لحظة سأتأكد من (ضحى)".
وبالفعل اتصل بزوجته وطلب منها الرقم الذي أملاه ل (طارق). وقبل أن يُنهي (سامي) مكالمته مع زوجته كان (طارق) ينهض بعيداً وهو يقول بصوت حاول أن يحافظ على هدوئه ـ"ألو...(سمر)؟ أنا (طارق)".
أتاه صوتها مرتبكاً على الطرف الآخر وهي تسأله بحرج ـ"كيف عرفت رقمي؟"
أجابها بحنق ـ"سؤال لا داعي له..المهم الآن هل ما سمعته من (سامي) صحيح؟ هل كنت حائضاً يوم طـ.ـلا.قنا؟"
شعر بنبرة خجل غير مألوفة تغلف صوتها وهي تجيبه بصوت خفيض ـ"أجل صحيح..أتذكر يوم حصلنا على نتيجة التحاليل والأشعة؟ يومها اعتذرت لك بعد عودتنا من العشاء بسبب عذري الشرعي..هل تذكرت؟"
عقد (طارق) حاجبيه محاولاً التذكر ثم ما لبث أن قال في ضيق ـ"تذكرت..ولكن الطـ.ـلا.ق الفعلي حدث بعد ذلك بخمسة أيام".
ازداد الخجل في صوتها وهي تغمغم ـ"ماذا بك يا (طارق)؟ مدة الحيض أسبوع في الغالب".
شعر (طارق) باختناق شـ.ـديد بعد عبـ.ـارتها فزفر في قوة واستغفر ربه قبل أن يقول في سرعة ـ"استعدي..سنذهب إلى دار الإفتاء الآن. أين أنت لأمُرك؟"
سألته في دهشة ـ"الآن؟ حسناً أنا مستعدة لأنني عدت لتوي من العمل. أنتظرك في بيت أمي".
وما أن أنهى (طارق) الاتصال معها حتى عاد إلى صديقه الذي كان يراقبه بصمت ويراقب ردود أفعاله العصبية، وابتدره (طارق) بقوله ـ"آسف على انفعالي يا (سامي)..سأمر على منزل أهل (سمر) وأصطحبها إلى دار الإفتاء الآن. لن يهدأ لي بال حتى أنتهي من هذا المأزق، ف...".
خرج من ذكرياته على صوت (سامي) وهو يحرك كفه أمام عينيه قائلاً ـ"أين ذهبت؟"
هز (طارق) رأسه وأشاح بكفه قائلاً ـ"لا عليك...هل قلت شيئاً؟"
مط (سامي) شفتيه للحظات ثم سأله ـ"لماذا لم تخبرني بزواجك من (هالة)؟ بل ولماذا أخفيته عني حينما أخبرتك عن (سمر) وموضوع الطـ.ـلا.ق البدعي؟"
تنهد (طارق) وأجابه بضيق ـ"لم أخبرك في البداية بناء على طلب (سمر)..لم يكن زواجي معلناً سوى أمام والدي ووالدة (هالة) وسكان العمارة التي نعيش بها؟ وبالطبع كان زواجنا معروفاً لدى أقاربنا في القرية عملاً بالتقاليد التي تعرفها. وقد سعت (هالة) إلى رد الجميل بمساعدتي في الزواج من (سمر) وإقناع أبي بهذه الزيجة".
ثم تابع وهو يخلل شعره بأصابعه كعادته ـ"ولم تصبح (هالة) زوجتي فعلياً إلا بعد طـ.ـلا.ق (سمر) بأكثر من شهر. بالطبع لم اخبر (سمر) بذلك، كما لم أخبر (هالة) بعودة (سمر)".
قالها ورفع عينيه إلى صديقه ثانية وهو يسأله ـ"أعلمت الآن لماذا كانت (سمر) عصبية؟ لأنها علمت مني بأن (هالة) حامل في طفلي، ولا أستبعد أن يكون سبب ضيق (هالة) مني ومعاملتها الجافة معي هو معرفتها بشكل ما أن (سمر) عادت إلى منزلي".
ازداد اتساع عينا (سامي) وهو يهتف بصديقه ـ"حامل؟ تزوجت وزوجتك حامل وكل هذا وصديقك الوحيد لا يعلم شيئاً؟ إنك تربكني بكل هذه المفاجآت".
تابع (طارق) أسئلته وكأنه لم يسمع كلمـ.ـا.ت (سامي) ـ"أعلمت الآن لماذا أنت سبب المشاكل؟ لأنك السبب في عودة (سمر) وبالتالي غضب (هالة)".
هب (سامي) من مقعده وهتف به مستنكراً ـ"أنا السبب ثانية؟ لماذا لم تصارح أنت (هالة) بما حدث؟ أي زوجة في موقفها ستسيء فهمك وربما اتهمتك بالخيانة وأنك مثلت عليها حتى تحمل طفلك قبل أن تُعيد زوجتك الأولى إلى عصمتك وكأن شيئاً لم يكن".
تراجع (طارق) في مقعده وشبك كفيه خلف رأسه وهو يقول بقلق ـ"هذا ما أخشاه بالفعل...لقد كانت تتحدث بلهجة مختلفة عما اعتادت مخاطبتي به من قبل...بل إنها قالت لي مرتين إن محبتها لطفلنا القادm لن تكون قدر محبتها لابنها البكر. أتدري ما يعنيه هذا؟ إنها تخبرني بطريق غير مباشر أنها لا تريدني ولا تريد طفلنا. طفلنا الذي كانت تتحدث عنه بكل هيام حتى الأمس وكأنه أول طفل لها".
هم (سامي) بالرد عليه حينما سمع كلاهما طرقات سريعة على باب الغرفة أعقبها ظهور ممرضة شابة مرتبكة تحدثت إلى (طارق) في سرعة قائلة ـ"دكتور (طارق)..السيدة التي أجريت لطفلها الجراحة قبل قليل فقدت الوعي".
هب (طارق) من مقعده كالملسوع وهو يهتف بذعر ـ"ماذا؟ كيف ذلك؟"
قالها وهو يهرع إلى خارج الغرفة مع صديقه ويستمع إلى الممرضة التي تجري إلى جواره قائلة بأنفاس متقطعة ـ"ل..لقد ذهبت لأطمئن على الصغير كما طلبت مني ووجدتها ملقاة على أرضية الغرفة فاقدة الوعي، فنقلتها أنا والممرضة (فاتن) إلى الفراش المجاور لطفلها وأتيت لأخبرك".
كان (طارق) قد وصل إلى الغرفة حينها، فعبر بابها المفتوح في سرعة وعيناه معلقتان بوجه (هالة) الشاحب والممرضة تحاول إفاقتها فهتف بها ـ"جهاز الضغط بسرعة".
ناولته الممرضة جهاز الضغط في سرعة وقد أدهشتها لهفته وعصبيته التي لم ترها من قبل.
أما هو فكشف ذراعها وأحكم جهاز الضغط حوله بأصابع مرتجفة ووضع السماعة الطبية في أذنيه وهو يحاول سماع نبضها.
لكن صوت نبضات قلبه المتسارعة كان أعلى من نبضها، فنزع السماعة عن أذنيه في تـ.ـو.تر وناولها لصديقه قائلاً ـ"لا أستطيع سماع نبضها...قس أنت الضغط يا (سامي)".
تناول (سامي) السماعة في هدوء وقد هاله مرأى صديقه بهذه الدرجة من التـ.ـو.تر وهو المعروف بهدوئه واتزانه، وحاول تهدئته قائلاً برفق ـ"لا عليك يا دكتور (طارق)...أنت منهك منذ الصباح".
قالها وعيناه تشيران إلى وجود ممرضات بالغرفة وضرورة تمالك أعصابه حتى لا يثير القيل والقال.
أدرك (طارق) مغزى نظرات صديقه فحاول تمالك أعصابه والتظاهر بفحص (هيثم) ريثما أنهى (سامي) قياس الضغط مرة، ثم مرة أخرى، ثم مرة ثالثة، وفي كل مرة يزداد القلق بداخله.
وفي قلق التفت إلى (طارق) قائلاً ـ"(طارق)...ضغط دmها مرتفع بشكل خطر على حياتها...ضغطها 160 على 100..ما الحل؟"
شعر (طارق) لحظتها بتبخر كل المعلومـ.ـا.ت الطبية التي درسها طيلة السنوات الماضية، فأزاح شعره إلى الخلف قائلاً بتـ.ـو.تر لم يستطع إخفاؤه ـ" لا أدري...لا يمكننا إعطاؤها محلول ملحي، ولا....".
ثم التفت إلى الممرضات وهتف بهما ـ"من طبيبة النساء اليوم؟ أريد طبيبة الآن".
ولم تكد الممرضتان تخرجان حتى رفع وجهه وكفيه إلى السماء قائلاً بتضرع ـ"نجها يا الهي..فلا معنى لحياتي بدونها".
وكان صادقاً في تضرعه.
↚تظاهر (هيثم) بمتابعة قنوات التلفاز في غرفته بالمستشفى، بينما كان في الحقيقة يراقب أمه التي أمسكت بالمصحف الشريف بين كفيها وكأنها تقرأ منه، لكنه كان متأكداً أنها شاردة في وادي ثاني تماماً. فهي لم تغير الصفحة التي تقف عليها منذ أكثر من ربع الساعة، بل ولا يبدو أن عينيها تنظران إلى الصفحة أمامها، وإنما إلى مكان آخر.
وفي رصانة تفوق عمره سألها ـ"أماه..ماذا بك؟"
رفعت (هالة) إليه عينين ساهمتين وهي تسأله في حيرة ـ"هل طلبت شيئاً يا حبيبي؟"
ابتسم في هدوء ذكرها بوالده وهو يقول بذكاء ـ"كنت أسألك عما بك. تبدين شاردة بعيداً عن هنا، رغم أنني بخير".
منحته ابتسامة منهكة وهي تنهض لتحكم الغطاء على جسده الصغير وتداعب شعره الأسود قائلة ـ"لن أشعر بالراحة وأتخلص من قلقي قبل أن أراك تنير غرفتك في منزلنا".
تناول كفها الأيمن يقبله في حنان قائلاً بصدق ـ"أحبك يا أمي".
احتضنت رأسه بحنان وقبلت شعره قائلة بصوت مختنق ـ"أنا الأخرى أحبك..أنت أول فرحة في حياتي. أول من ناداني أمي، وأول مصادر بهجتي وفخري. حفظك الله لي أنت وأخوتك".
لف ذراعيه النحيلين حول وسطها وهو يغوص بأحضانها أكثر ويستشعر دفئها الذي يعشقه حينما قطع عليهم اللحظة صوت طرقات سريعة على باب الغرفة أعقبه دخول (طارق) الغرفة وهو يقول بمرح مفتعل ـ"ما هذا؟ تعانق زوجتي أمامي؟ أنا احتج".
رمقته (هالة) بنظرة عدائية وشـ.ـددت من احتضان ابنها وهي تقول ببرود ـ"أنا أمه قبل أن أكون زوجتك".
شعر (طارق) بالحرج من كلمـ.ـا.تها البـ.ـاردة، فاقترب من الفراش موجهاً حديثه إلى ابن شقيقه ـ"سامحتك هذه المرة لأنك في فترة النقاهة..عامة ستنتهي نقاهتك قريباً. هيا استعد لأننا سنعود إلى بيتنا الآن".
التفتت إليه بحركة حادة قبل أن تحاول أن تبدو هادئة وهي تقول ـ"الممرضة أخبرتني قبل قليل أننا سنمكث يومين آخرين".
رفع عينيه يواجهها، والتقت أعينهما للحظات قليلة لم يستطع خلالها سبر أغوار زوجته التي تظاهرت باللعب في شعر ابنها، فتنهد في عمق قبل أن يقول ـ"لا داعي للبقاء في المستشفى..لقد قبلوا طلبي للأجازة طيلة الأسبوع القادm وسأتابع علاجه من المنزل طالما ترفضين البقاء مع الصغار هناك. لا يُعقل أن نترك أبنائنا لدى الجيران أكثر من ذلك. ومع رفضك المستمر للراحة أو تناول الغذاء الصحي فالحل الأفضل هو أن نعود جميعاً إلى منزلنا".
لم تجادله لعلمها بأنه على حق.
فقد أجبرها في اليوم السابق على العودة إلى المنزل لرعاية الصغار بعدmا أفاقت واطمأنت على حالة (هيثم)..
واليوم تركت الصغيرين لدى جارتها ثانية منذ الصباح حتى الآن
ربما كان الوضع سيختلف في وجود أمها ورعايتها للصغيرين
لكن الآن..
الحل الأفضل للجميع بالفعل هو العودة إلى المنزل
ولكن كيف تعود معه إلى نفس المنزل بعد ما فعل؟
كيف تطيق التواجد معه تحت نفس السقف؟
كيف تستطيع النظر في عينيه؟
كيف تتحمل أن تراه ولا تستطيع أن تدفن نفسها في أحضانه؟
وكيف تتحدث معه دون أن تفلت أعصابها أو يشعر أبنائها بتـ.ـو.ترهما؟
كيف تحفظ لسانها وقت الغضب من أن تتهور وتهينه؟
كيف ترعى الله فيه رغم النيران التي تستعر في كيانها كله كلما لمحت طيفه؟
بل كيف تنظر إليه دون أن تبدو في عينيها نظرات الاحتقار؟
احتقار ضعفها واستسلامها لحبه
واحتقار غبائها الذي جعلها تصدقه في سذاجة
تصاعدت دmاء الغضب في رأسها، كما يحدث معها كلما تذكرت الخديعة التي تعرضت لها، ودفعت معدتها إلى الانقباض في عنف، فهرعت إلى الحمام الملحق بالغرفة وهي تحاول منع نفسها من القيء الذي ألهب حلقها وبلعومها من مرارة العصارة المعدية
وحينما خرجت كان أمامها (طارق) وعيناه تحملان قلقاً عارماً، لكنها تجاهلته وهي تتجه نحو صوان الملابس لتفتحه وتلتقط منه حقيبة ملابس ابنها هامسة ـ"جهز سيارتك ريثما نستعد".
تأملها للحظات وبداخله حنين بالغ لها ولحركاتها وابتسامتها بعيداً عن برودها وجمودها معه، ثم مالبث أن تنحنح ليمنح صوته بعض القوة وهو يقول ـ"السيارة بالقرب من الباب الرئيسي..هيا سأساعدكما".
تابعته بعينيها في صمت وهو يساعد (هيثم) في ارتداء ملابسه ويحمل الحقيبة عنها، ثم غادروا المستشفى معاً.
لم تحاول أن تتبادل معه الحديث طيلة رحلتهم إلى المنزل، واحترم (طارق) ذلك، ربما تفادياً لتوتيرها أكثر من ذلك أو أن يدرك صغيرها مدى التـ.ـو.تر بينهما.
وما أن أوقف السيارة أمام بوابة المنزل حتى ترجلت (هالة) منها وفتحت لصغيرها الباب الخلفي وساعدته في النزول دون أن تنتظر مساعدة (طارق) الذي تابعها بنظره صامتاً وهو يفتح حقيبة السيارة ويلتقط الحقائب منها ويتبعهما إلى داخل المبنى.
فتح(طارق) باب الشقة وأفسح المجال لـ(هالة) وابنها للدخول,
وفي صمت صحبت(هالة) ابنها إلى غرفته وساعدته في خلع ملابسه والاستلقاء على الفراش, ثم خرجت بعدmا أحكمت إغلاق باب الغرفة خلفها.
وفي طريقها للخارج ثانية لتحضر(هاني) و(هند) من شقة الجيران وقف(طارق) أمامها وسألها في حيرة قائلاً ـ"(هالة)! ماذا بك؟! إنك لم تنظري في وجهي منذ يوم جراحة(هيثم)؛ إنك حتى لا تخاطبيني بشكل مباشر. ماذا حدث؟"
رمقته بنظرة حادة وهي تسأله بحنق ـ"أتسأل عما بي؟ وماذا يهمك من أمري؟ آه نسيت.أنت قلق على ابنك وليس على الحاوية التي تحمله."
أمسكها من مرفقها قائلاً في دهشة ـ"ما هذا الذي تقولين؟ وما الداعي لقوله؟"
جذبت ذراعها من قبضته قائلة بخشونة ـ"الداعي هو أن رائحة الكذب والخيانة فاحت وزكمت أنفي ولم أعد أستطع تحملها أكثر من ذلك؛ لذا أطلب منك وبكل هدوء أن تطلقني."
عقد حاجبيه قائلاً ـ"ماذا تقولين؟ وماذا تعنين بالكذب والخيانة؟ لو أنك تقصدين عودة(سمر) إلى عصمتي, فأقسم لك أنني أعدتها قبل مرض(هيثم) بأسبوع واحد فقط بعد وساطة أصدقاء مشتركين. ولكن لماذا تصفين عودتها بالخيانة؟ أنسيت أنك كثيراً ما طلبت مني إعادتها لعصمتي؟"
أشاحت بذراعيها في عصبية هاتفة ـ"أجل طلبته، ولكن هذا في الماضي...حينما كنت (هالة) أختك أو صديقتك. حينما رضيت بك زوجاً على ورق وكان همي إسعادك. وأنت طالما تحججت برفضها العودة وأخبرتني أنك نادm على كل يوم قضيته بعيداً عني, ألم يكن ذلك كذباً؟"
وتابعت بانهيار _"لماذا لم تخبرني بأنك ستعيدها؟ ولا تقل أنك نسيت أو أنك كنت في انتظار الوقت المناسب؛ لقد كذبت علّي وادّعيت سفرك في مؤتمر بالإسكندرية بينما كنت معها؛ وكذبك وحده أكبر خيانة."
أمسكها من كتفيها ونظر في عينيها قائلاً ـ"وأنا بالفعل نادm على كل يوم قضيته بعيداً عنك, وعودة (سمر) إلى عصمتي كان لسبب قهري صدقيني؛ لكنني لم أقصد خيانتك, لقد..."
قاطعته في حدة وهي تتملص من قبضته هاتفة ـ"لست بحاجة لسماع تبريراتك, لقد انتهى كل ما بيننا, هدmته بيديك ولم يعد من الممكن إصلاحه. فأنا لا أقبل أن تكون لي ضرة. لذا سأطلبها منك ثانية...طلقني يا(طارق)".
ثم التقطت نفساً عميقاً لتمنح صوتها بعض الهدوء قبل أن تقول ـ"لو ما زلت تخاف على ابنك وأبناء أخيك طلقني وسيظل في إمكانك رعاية الأولاد وسيظل البيت بيت أخيك وأولاده. لو كنت تحمل بين ضلوعك ذرة حب تجاهي حقق لي أمنيتي وطلقني."
آلمه طلبها ووصفها إياه بالأمنية,
ألهذا الحد أصبح عبئاً عليها تتمني الخلاص منه؟
ألهذا الحد تسبب في جـ.ـر.حها دون أن يدري؟
جـ.ـر.حها بمحاولته حمايتها من معرفة الحقيقة وما دفعه إلى العودة إلى من ظنها طليقته
ومن أعماقه أطلق زفرة حارة وهو يتأمل الدmـ.ـو.ع التي تترقرق في مقلتيها قبل أن يقول بصوت حاول أن يجعله هادئاً ـ"(هالة)..أدري أنني تسببت بجـ.ـر.حك دون قصد وأنك ترفضين الاستماع إلى مبرراتي. لذا لن أعقب على حديثك إلا بعد أن تهدأ أعصابك وتعيدي التفكير فيما تريدين".
ثم تابع بابتسامة جاهد ليرسمها على شفتيه قائلاً ـ"ولكن حتى حينما تهدئين_ ولأن قلبي لا يوجد به سواك_ فلن أستطع تلبية طلبك, للأسف أنا أناني مثل كل المحبين. يمكنك قول ما تريدين كي تخرجي ما بداخلك لكني لن أطلقك ما دام في صدري نفس يتردد. كل ما سأفعله هو أنني سأترك لك البيت عنـ.ـد.ما تعود أمي من الحج بسلامة الله. هذا أقصى ما يمكنني عمله في الوقت الحاضر."
رمقته بعينين دامعتين وخُيل إليها أنها ترى(حازم) على قيد الحياة ثانية؛
ففي هذه اللحظة كان(طارق) نسخة من أخيه بنفس التعنت والكـبـــــريـاء والصرامة,
نفس التحكم والتمسك بالرأي حتى لو كان خطئاً.
وللحظات اعتراها النـ.ـد.م لمجرد أنها ظنته يومأً مختلفاً عن أخيه وأنها أعطته قلبها عن طيب خاطر.
مجرد التفكير فيما فعلت و جعلها في مثل هذا الموقف جعل معدتها تقفز إلى فمها ثانية فهرعت من أمامه إلى الحمام تفرغ معدتها في عصبية علها تخفف من تـ.ـو.ترها.
وحين عادت إلى الردهة وجدته حيث تركته عاقداً ذراعيه أمام صدره, وما أن رآها حتى اقترب هامساً بتوسل ـ"(هالة)! أرجوك حاولي تهدئة أعصابك وإيقاف هذا القيء المستمر. لقد كان في البداية بسبب الوحام، لكنك الآن تقــ,تــلين نفسك بهذا القيء الهستيري. على الأقل تناولي شيئاً و إلا ستمـ.ـو.تين...إنك..."
قاطعته بإشارة من يدها وهي تبتعد عنه قائلة في ضيق ـ"لا تأمرني. أنت تعرف جيداً سبب هذا القيء؛ ابتعد عني وسأشفى و..."
وفي الثانية اللاحقة لكلمتها الأخيرة أظلمت الدنيا أمام عينيها للحظات لم تدر مداها,
وعنـ.ـد.ما أضاءت ثانية وجدت(هالة) نفسها على فراشها وأنبوب الجلوكوز معلق بوريدها ليمدها بقليل مما فقده جـ.ـسمها في الفترة الماضية.
أول ما لفت انتباهها كانت رائحة عطره المميزة وهو ينحني عليها ويحتضن كفها الخالي من المحلول في حنان ويمسد شعرها بكفه الأخرى والحـ.ـز.ن يطل من عينيه وهو يتأملها عن قرب قبل أن يقول بلهجة مؤنبة ـ"إنك تقــ,تــلين نفسك ببطء, وتقــ,تــليني معك. لو لم أكن أنا بحاجة إليك فهناك ثلاثة أبناء يفتقدونك والرابع لا يريد أن يأتي إلى العالم بعد رحيل أمه. لقد فقدت الكثير من وزنك بسبب القيء الهستيري الذي تعانين منه, والأهم أن ضغط دmك مرتفع وقد يؤذيك هذا؛ ولا أستطيع إعطاءك أية أدوية لخفضه و إلا آذت الجنين, وأنت لا تفعلين سوى ما يضركما."
ورغم حاجتها إلى قربه ذلك واشتياقها له، شعرت بدmائها تفور وهي تتنفس أنفاسه ممزوجة بعطره، فأشاحت بوجهها في الاتجاه الآخر علها تتنفس هواءاً لا يحوي رائحته وجذبت كفها من كفه في ضيق
كانت تشعر وكأنها على حافة الجنون
فكيف تعشقه وتتمنى قربه إلى هذا الحد، بينما لا تطيق لمساته وهمساته؟
كيف تشكوه إلى نفسه، وتلقي همومها منه على عاتقه؟
كيف تشكوه وهو الخصم والحكم؟
لم تجد حلاً سوى أن تشكو بثها وحـ.ـز.نها إلى الله العلي القدير..فهو الحكم العدل
تناجيه بدmـ.ـو.عها وقلبها وهي ترفع طرفها نحو السماء وتدعوه سراً أن يفرج كربها ويخرجها مما هي فيه،
وثقتها في عدله واسعة.
أما (طارق) فشعر بخنجر يمزق جنباته وهو يراها تشيح بوجهها عنه، ويشعر بنشيجها الخفيض، لكنه تمالك نفسه وهو يتابع ـ" هذا المحلول سيعيد إليك بعضاً من قواك الخائرة شريطة أن تريحي نفسك. لقد أضفت إليه دواء لمنع القيء حتى تهدأ معدتك قليلاً، وطلبت لنا جميعاً بيتزا احتفالاً بعودة (هيثم)، ستصل ريثما ينتهي محلولك. أرجو أن تحاولي التماسك أمام الأولاد وأن تتناولي العشاء معنا، وسأنام مع(هيثم) والأولاد في الغرفة المجاورة, فلا تقلقي عليهم. مازلت أستطيع العناية بهم وبك أنت أيضاً."
وتركها وخرج في هدوء يخفي الكثير من الآلام والأحزان... والدmـ.ـو.ع.
↚جلس(طارق) خلف مقود سيارته وإلى جواره جلست أم(هالة) بعد عودتها من رحلة الحج, ولم يخف عليها بقلب الأم الحـ.ـز.ن الدفين في عينيه فسألته في قلق ـ"ماذا بك يا بني؟ هل حدث شيء في غيابي؟"
تنهد(طارق) في عمق وهو يدير محرك السيارة مما أثار قلقها فسألته ثانية ـ"ماذا تخفي عني؟ ماذا أصاب ابـ.ـنتي وأولادها؟"
مط شفتيه في تردد قبل أن يقول ـ"لا شيء, (هالة) حامل."
قالت بثقة ـ"أعلم هذا, لقد أخبرتني قبل سفري؛ ماذا حدث غير ذلك و.جـ.ـعلك حزيناً هكذا؟ هل تشاجرتما؟"
تنهد ثانية وهو يطفئ محرك السيارة ويخفض وجهه أرضاً في ضيق، قبل أن يروي لها في تردد كل ما حدث منذ مرض (هيثم) حتى المساء السابق.
وحين أنهى حديثه هتفت به حمـ.ـا.ته في حنق قائلة ـ"أهذه وصيتي لك؟ أهذا ما أقسمت بكتاب الله على أن تفعله؟ لماذا يا(طارق)؟ لماذا يا بني؟"
استدار يواجه حمـ.ـا.ته قائلاً بصدق ـ"أقسم لك أنني لم أجـ.ـر.حها عن عمد؛ وأعلم جيداً أنني ظلمتها كثيراً ولذا أحاول ألا أجـ.ـر.ح فتاة أخرى. لقد أعدت(سمر) إلى عصمتي حتى لا تّدَّعي هي أو أي من أقاربها أنني ظلمتها.أعترف بأنني تأخرت في إخبـ.ـار(هالة) لأنني كنت متردداً حتى آخر لحظة بالنسبة لعودة(سمر)؛ وظننت أنني بذلك أرضي جميع الأطراف لأنني لا أستطيع التخلي عن(هالة) أو أولادها...لا أدري...لقد اختلطت الأمور بشكل لم أتوقعه إطـ.ـلا.قاً, ولا أدري ماذا أفعل."
سألته حمـ.ـا.ته بحزم قائلة ـ"هل تحب(هالة)؟"
أجابها في سرعة ـ"أحبها كروحي ولا أتخيل حياتي بدونها."
عقدت حاجبيها قائلة ـ"وماذا عن(سمر)؟"
تنهد في عمق قائلاً ـ"لقد أحببتها ولم أكن أرى سواها قبل الزواج؛ أما الآن وبعد كل ما حدث, صدقيني لم تعد مشاعري تجاهها كما كانت في السابق."
مطت شفتيها قبل أن تتنهد بدورها قائلة ـ"خذني إلى المنزل يا(طارق), وما قدّره الله عز وجل سيكون."
تنهد ثانية في عمق، ثم أومأ برأسه في صمت وهو يعتدل ويدير محرك السيارة ثانية ويعاود الانطـ.ـلا.ق في طريقه إلى المنزل.
وطيلة الطريق يتردد في ذهنه السؤال: كيف ستتعامل (هالة) معي أمام والدتها؟
وكان عقله يجيبه في كل مرة : ستتظاهر بأنها لم ترك
وكما توقع، فما أن فتح باب الشقة أمام حمـ.ـا.ته حتى هرع إليها الأولاد والتفوا حولها يتقافزون في سعادة،
أما حبيبته فتهادت نحو أمها بخطوات ثقيلة بسبب ضعفها، وخُيل إليه أنها أكثر شحوباً مما تركها عليه هذا الصباح، ربما بسبب خصلات شعرها المبعثرة حول وجهها، وربما بسبب ذبول عينيها من كثرة الدmـ.ـو.ع، وربما بسبب قميصها القطني الأصفر الذي عكس لونه على بشرتها
كان يحتويها بنظراته ويتمنى لو تلتقي أعينهما حتى يبثها حبه وشوقه إليها
لكنها تجاهلته_ تماماً كما توقع_ وهي ترتمي في أحضان أمها تبكي وتشكو طول غيابها؛
ولوهلة شعر بأنه غريب في هذا المنزل
إذ لم يعره أحد انتباهاً وسط هذا الهرج ما بين سعادة الأطفال بعودة جدتهم ودmـ.ـو.ع (هالة) التي أصبحت ملازمة لها مؤخراً
لم يجد أمامه سوى أن يُدخل حقائب حمـ.ـا.ته إلى غرفتها في هدوء، وفي طريق عودته مر بغرفته مع (هالة)...
الغرفة التي شهدت أجمل لحظاتهما
وهي نفس الغرفة التي شهدت لقائهما الأخير وابتعادها عنه بعد عودة (هيثم) من المستشفى
فقد كانت تلك الليلة المرة الأخيرة التي تجمعهما فيها غرفة واحدة
ومن بعدها تجاهل تام
حتى حينما يدخل إلى الغرفة ليستبدل ملابسه، كانت تتظاهر بالنوم أو تغادر الغرفة
تأمل الغرفة بألم وعيناه تجوبان أرجائها وشريط ذكرياته فيها يتدافع أمامه بسرعة بالغة جعلته يشعر بالإختناق، فتنهد بقوة قبل أن يواصل طريقه إلى الردهة
ثم ما لبث أن عاد إلى الغرفة وفتح صوان الملابس ليلتقط بعضاً من ملابسه ويضعها في حقيبة كتف صغيرة التقطها من قاع الصوان قبل أن يغلقها ويحملها على كتفه ويغادر الغرفة ثانية.
وفي طريقه تناهت إلى مسامعه أصوات الأولاد الجذلة مختلطة بصوت الجدة الهادئ وهي تخبرهم عما أحضرته لهم من هدايا...كان مصدر الصوت غرفة الجدة و(هند)
وهذا يعني أن أي منهم لم ينتبه لغيابه
حينها آثر الخروج قبل أن ينتبهوا له، لولا أن هرع إليه (هاني) هاتفاً ـ"بابا! إلى أين ستذهب؟"
مسد(طارق) شعر ابن أخيه في حنان وهو يحاول أن يداري اختناق صوته قائلاً ـ"لدي بعض الأعمال التي ستتطلب وجودي بعيداً لفترة."
تعلق(هاني) بيد عمه ورفع إليه عينيه البريئتين والدmـ.ـو.ع تترقرق فيهما يسأله بانكسار ـ"وهل ستتركني كما تركنا بابا(حازم)؟"
ركع(طارق) على ركبتيه أمام الصغير وضمه إليه في حنان قائلاً والدmـ.ـو.ع تنساب على وجهه ـ"كلا يا حبيبي؛ لن أتركك أبداً, لن أترككم جميعاً. ألا تعرف كم أحبك؟"
إبتعد الصغير قليلاً وأشار إلى الحقيبة على كتف عمه قائلاً ـ"لماذا هذه الحقيبة إذاً؟"
داعب (حازم) شعره قائلاً ـ"ألم أخبرك بأنني سأضطر إلى الغياب عن المنزل بضعة أيام، ولابد أن تكون معي ملابس إضافية."
انتبه (هاني) لدmـ.ـو.ع عمه حينها فعاد يسأله في دهشة ـ"هل تبكي يا بابا؟"
حاول(طارق) إخفاء دmـ.ـو.عه وقال بابتسامة مرتبكة ـ"أنا أبكي لأنني سعيد بعودة أمي ولا أريد أن أفارقكم, لكنني أيضاً لا أستطيع ترك عملي ومع ذلك أعدك بالعودة فور انتهاء أعمالي تلك."
دفن(هاني) وجهه في صدر عمه هامساً ـ"أنهها في سرعة من أجلي, أريد أن أنام في أحضانك مثلما فعلنا أمس. ولا تنس اختبـ.ـاراتي الشهرية, إنها الأسبوع القادm ويجب أن تذاكر معي كما تفعل دوماً."
قَبّله عمه في جبهته ثم نهض يمسح دmـ.ـو.عه قائلاً ـ"لن أنس يا حبيبي؛ سأحضر يوم الخميس القادm إن شاء الله لنحتفل بشفاء (هيثم) وعودة أمي بسلامة الله، ثم نستيقظ صباح الجمعة مبكراً لنراجع الدروس معاً بإذن الله".
ثم داعب شعر الصغير ثانية قائلاً ـ" قَبّل إخوتك من أجلي, واتصل بي دوماً. اتفقنا؟"
أومأ الصغير برأسه وهو يلوح لعمه مودعاً؛ وعنـ.ـد.ما اقتربت منه شقيقته(هند) بخطواتها الصغيرة أحاطها بذراعيه بحنان يفوق سنه وقَبّلها قائلاً ـ"هذه القبلة من بابا(طارق)؛ لقد وعدني بأن يعود من أجلنا وأنه لن يتركنا مثل بابا(حازم). وأنا أيضاً لن أتركك."
أما (طارق) فخرج من المنزل وهو يشعر بضيق بالغ وكأن حجراً ضخماً يجثم على أنفاسه
قاد سيارته على حين هدى وكأنه يقـ.ـا.تل في شوارع القاهرة المزدحمة وقت الذروة،
وربما كان شروده من حسن حظه حينها حتى لا ينفجر غضباً من شـ.ـدة الزحام
فقد كانت سيارته وكأنها تمشي بقوة الدفع الذاتي بين موجات السيارات المختلفة
ولأنه لم يكن من السهل الهروب إلى مكانه المفضل على ضفاف النيل في هذا الوقت من اليوم،
فوجئ بنفسه أمام المبنى الذي يضم شقته الخاصة التي لم تطأها قدmاه منذ جراحة (هيثم)
وبخطوات لا تقل شروداً عن ذهنه ارتقى درجات السلم المؤدية إلى شقته وفتح بابها ودلف إليها في صمت قـ.ـا.تل لم يقطعه سوى صوت (سمر) المندهش وهي تقول من خلفه ـ"(طارق)!! حمداً لله على سلامتك".
حينها فقط انتبه وخرج من شروده وهو يجيبها بهدوء دون أن يستدير لها ـ"سلمك الله".
اقتربت منه بحذر وهي تسأله ـ"خيراً!؟ ما الذي أتى بك فجأة؟"
التفت إليها ورفع كفه معتذراً وهو يجيبها بسخرية ـ"آسف. كان ينبغي أن استأذن قبل دخول منزلي".
احتقن وجهها بدmاء الحرج من سخريته فقالت في سرعة ـ"العفو..كنت أريد الاطمئنان فحسب".
أدرك غلظة كلمـ.ـا.ته فقال موضحاً ـ" لقد عادت والدة (هالة) من رحلة الحج. وفضلت أن أتركهما وحدهما قليلاً".
غمغمت وهي تهز رأسها متفهمة ـ" أها..حمداً لله على سلامتها".
ثم أردفت تسأله ـ" كيف حال (هيثم)؟ هل أزال غرز الجراحة؟"
تنهد في إرهاق وهو يجلس على أريكة الأنتريه ويضع الحقيبة أرضاً قائلاً ـ"سأصحبه إلى المستشفى يوم الخميس لإزالتها بإذن الله".
هزت رأسها ثانية ثم سألته بتردد ـ"هل أضع لك الغذاء؟"
تمدد على الأريكة وهو يضع ذراعه على عينيه قائلاً باقتضاب ـ"لا شكراً..لا أريد".
شعرت بالضيق من تجاهله لها لكنها ضغطت على مشاعرها وهي تقول بهدوء ـ"سأكون في غرفتنا أجفف شعري، لذا ربما لا أسمعك بسبب مجفف الشعر".
لم يغير وضعه وهو يقول بلامبالاة ـ"لا تخافي..أعرف طريق الغرفة إذا احتجت إليك..وأعرف أيضاً كيف أخدm نفسي".
زاد احتقان وجهها وشعرت بأن ضغط دmها سيرتفع إن هي وقفت أكثر معه،
لذا لم تعقب واتجهت في عصبية إلى غرفتهما.
لكنها سرعان ما عادت إلى الردهة ثانية وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تقول بتحفز ـ"(طارق)..أريد أن نتحدث قليلاً حينما تستيقظ".
رفع ذراعه عن عينيه وأدار رأسه إليها مندهشاً من لهجتها الغريبة قبل أن يعود إلى وضعه القديم قائلاً بضيق ـ"(سمر)...أياً كان ما سنتحدث بشأنه فأنا لست في مزاج مناسب له. أرجوك امنحيني بعض الوقت حتى أحدد اتجاهاتي".
عقدت حاجبيها الجميلين للحظة وهي تشعر بأنه أساء فهمها، ثم تنحنحت قائلة ـ" الموضوع ليس كما تظن. وعلى أي حال يمكنني الانتظار".
قالتها وهي تهرع إلى الغرفة دون أن تأبه للمنشفة التي سقطت عن شعرها المبلل.
وكالمغيبة وقفت تتأمل نفسها في المرآة الأنيقة التي تعلو طاولة الزينة
تتأمل ملامحها البريئة ووجهها الخالي من أي مساحيق تجميل
وشعرها المبلل المحيط بوجهها بلا نظام
وتتأمل المنامة الرقيقة التي ترتديها، والتي كانت دائماً ما تثير (طارق)
كيف لم يشعر بها ولم يلحظها هكذا؟
ألهذه الدرجة أصبحت وكأنها لا وجود لها؟
ألهذه الدرجة خرجت من حياته؟
حتى وإن لم تكن زوجته وحبيبته السابقة فهي أنثى
أنثى وترتدي ملابس صيفية تكشف أكثر مما تخفي
وهو رجل
طبيعي أن تثيره أي امرأة في هذا الوضع...ناهيك عن زوجته
ورغم ذلك لم يعرها أي انتباه
ألهذه الدرجة أعمت (هالة) عينيه عن أي أنثى سواها؟
وبحركة ميكانيكية تناولت مجفف الشعر وبدأت تجفف شعرها دون أن تشعر بدmـ.ـو.عها التي أغرقت وجهها.
رغم توقعها لتغير (طارق) تجاهها، لم تتوقع أن يكون بهذا البرود معها
نعم هي تسرعت بطلب الطـ.ـلا.ق
بل وتعاملت مع الأمر بحماقة وتهور
وتدرك جيداً أنه ما من رجل يحترم رجولته يقبل بمثل هذه الإهانة
ورغم ذلك كانت تتوقع في كل يوم منذ طـ.ـلا.قهما أن يحاول التقرب منها ثانية.
كأنثى كانت تتمنى ذلك
لكن (طارق) لم يفعل
وكأنه أوصد قلبه خلفها بمجرد أن قال لها بألم ’أنت طالق‘
بل إنه غير مواعيد عمله كيلا يلتقي بها ولو قدراً في المستشفى
وحينما كلمها لأول مرة بعد الطـ.ـلا.ق لم يخف عليها لهجته العدائية وهو يسألها عن صحة طـ.ـلا.قهما.
يومها، وحين قابلته للذهاب إلى دار الإفتاء، أيقنت أن عدوانيته لم تكن وهماً...بل حقيقة
فقد عاملها بجفاء وبرود غير مسبوقين طيلة الطريق من بيت والدتها إلى دار الإفتاء
كانت تشعر به وهو يتكلم مع المسؤول هناك وكأنه يتمنى أن يخبره بأن طـ.ـلا.قهما صحيح وأن عدتهما على وشك الانتهاء
ولم تخف عليها ملامح الصدmة وخيبة الأمل التي ارتسمت على وجهه وهو يستمع إلى الرأيين الفقهيين في حالتهما
فهناك رأي بوقوع الطـ.ـلا.ق وإن كان مكروهاً
والآخر أن يراجعها وينتظر أن يطـ.ـلقها حسب شروط الطـ.ـلا.ق الصحيح
تعلقت عيناها بوجهه وهي تلمح التردد في عينيه
ثم ما لبث التردد أن تحول إلى ضيق وهو يقبل مراجعتها حتى حين
أي زوجة في موقفها ربما كانت ستسعد بعودتها إلى زوجها الأول الذي لم تر منه سوى كل حب وإعزاز وتقدير
لكن ملامحه المتغيرة أكدت لها أنه كان يتمنى الخيار الأول
أن يقع الطـ.ـلا.ق
وتأكد حدسها حينما عادا إلى شقتهما ثانية
كان موقفهما هذه المرة مناقضاً تماماً لموقفهما في آخر مرة عادا فيها معاً إلى المنزل
يومها كانت منهارة بعد اكتشاف عقمها، لكنه صحبها إلى العشاء في الخارج
واستطاع بشخصيته المرحة وحنانه أن يخرجها قليلاً عما بها من كدر
وحينما عادا إلى المنزل كانا أشبه بعريسين في أول أيام زواجهما
ولولا عذرها الشرعي ذلك اليوم، لعاشت بالفعل معه ليلة من لياليهما الأولى
أما يوم عودتها إليه....
فقد كان شخصاً مختلفاً عن زوجها القديم
كان رجلاً يُساق إلى قبره
يتعامل معها بضيق وعصبية طوال الوقت
والأدهى أنه أمضى معها ثلاثة أيام لم يمسها فيهم
كان يتركها تنام في غرفتهما بينما ينام هو في غرفة الضيوف
لم يستجب لها ولم يحركه أي من ملابسها التي كانت تلمع لها عيناه من قبل
وقتها فسرت سلوكه بأنه لا يزال غاضباً منها ومن أسلوبها الغـ.ـبـ.ـي في طلب الطـ.ـلا.ق
ولكن حينما رأت (هالة) في المستشفى ذلك اليوم،
وحينما زل لسانه وهو يعترف بحمل زوجته
أدركت السبب الحقيقي لبروده معها
فقد كان يخشى أن يخـ.ـو.ن (هالة)
(هالة) التي كانت دائماً الزوجة المثالية حتى وهي مجرد زوجة على الورق
فكيف وهي زوجة حقيقية؟
زوجة منحته كل ما يحتاجه من حب واهتمام و.....أطفال
خرجت من شرودها على هواء المجفف الساخن الذي يلفح وجهها فأغلقته في ضجر وتركته على الطاولة
ثم جمعت شعرها إلى الخلف بشكل عشوائي ورفعته بمشبك أنيق قبل أن تتجه لتجلس وسط فراشها في ضيق وبين الحين والآخر تنظر ناحية باب الغرفة وكأنها تنظر إلى الراقد خلفه
وفي أعماقها اتخذت قراراً جديداً
لابد وأن تضع النقاط على الحروف...سريعاً.
↚بخطوات واهنة متثاقلة اقتربت (هالة) من حميها الجالس بردهة المنزل، والذي أدهشها وقوفه لها واستقباله لها للمرة الأولى منذ معرفتها به
وما زاد دهشتها كانت قبلته الأبوية الحانية التي طبعها على جبهتها وهو يصافحها قائلاً بود ـ"أهلاً بك يا بنيتي".
لم تستطع إخفاء دهشتها وهي تجلس إلى جوار والدتها على الأريكة المواجهة له قائلة ـ"مرحباً بك يا عماه. آسفة لم استطع استقبالك عند الباب".
منحها ابتسامة ذكرتها بابتسامة (حازم) ليلة مـ.ـو.ته وهو يقول بحنان ـ"لا عليك. أدرك أنك مرهقة بسبب الحمل. أعانك الله وأتم حملك على خير".
كادت تستجيب لشيطانها وتدعو في سرها بسقوط الحمل، لكنها قالت بخفوت وهي تخفض رأسها ـ"آمين".
بادرها بسؤال قلق ـ"ماذا بك يا بنيتي؟ لماذا كل هذا الشحوب؟ ولماذا ذبلت عيناك هكذا؟"
رفعت عينيها إليه مذهولة باهتمامه الغريب وتبادلت نظرة دهشة مع والدتها قبل أن تجيبه قائلة بخفوت ـ"أنت تعلم إرهاق الحمل يا عماه. أما ذبول عيناي فربما لأنك اعتدت رؤية الكحل بهما وأنا لم أضعه اليوم".
مال بجذعه إلى الأمام ليقترب منها قائلاً ـ"ولماذا لم تضعه؟ لقد اطمأننت على (هيثم) والحمد لله، ولا يوجد ما يجعلك تهملين صحتك وجمالك و..".
قاطعته بضيق قائلة ـ"معذرة لقطع حديثك يا عماه. لكنني في أسوأ حالاتي النفسية. وأعتقد أن والدتي أخبرتك بالسبب".
تنهد الرجل في عمق وعاد يسند ظهره على خلفية المقعد قائلاً بأسى ـ"نعم أخبرتني. ولهذا أتيت اليوم لأعرف ما الذي يرضيك".
قالت في سرعة وانفعال ـ"لا بد وأن يطـ.ـلقني, هذا هو ما يرضيني."
مط حموها شفتاه ثم قال مهدئاً ـ"اهدئي يا ابـ.ـنتي, هذا ليس منطقياً."
سألته بحنق ـ"وما هو المنطقي؟ أن تكون لي ضُرة؟ أتقبلها أنت؟"
قال بهدوء ـ"ألم تساعديه أنت في الزواج منها؟ ما الجديد إذاً؟"
اندفعت تجيبه بكلمـ.ـا.ت سريعة منفعلة كطلقات الرصاص ـ"الجديد هو أنني حينها كنت أحمل صفة أخته أو صديقته أو أي صفة أخرى غير صفة الزوجة وكنت سعيدة لسعادته؛ أما الآن فالوضع مختلف. لقد أوهمني بأنه يحبني أنا وأنه كان مخطئاً في زواجه منها. وبعد أن صدقته وحقق غرضه وتأكد من حملي أعادها إلى عصمته وكأن شيئاً لم يكن. ابنك في اختصار شـ.ـديد مثّل علّي في براعة منقطعة النظير وصدقته كالبلهاء, ضـ.ـر.ب عصفورين بحجر؛ من ناحية ضمن أنه سيصبح أباً كما يتمنى وتتمنى أنت أيضاً, ومن ناحية أخرى لن يفترق عن حبيبة عمره, وهذا مالا أرضاه. ثم لماذا كذب علّي بشأن عودتها إليه؟ لماذا الخيانة والكذب؟ أنا لست ضد عودته إليها لأنه من الأساس لها وحدها ولم يكن لي يوماً, لكنه أوهمني بعكس ذلك؛ لذا يكفيني ما أنا فيه وليذهب كل منا في طريق, وسيظل البيت..."
قاطعها حماها بإشارة من يده قائلاً بنفس الهدوء الذي يحمل مسحة حـ.ـز.ن ـ"اسمعيني جيداً يا(هالة)؛ هل تعلمين لماذا زوجتك (طارق)؟ ربما ظننتم جميعاً أنني ظلمتكما بهذه الزيجة، لكنني رأيت شيئاً آخر. رأيت فيك صورة أم (حازم) رحمهما الله. لم يتحملني سواها، ولم يفهمني سواها، ولم أعشق سواها. لكن الأجل لم يمهلني كي اعبر لها عن هذا الحب كما تستحق. هي طبيعة جُبلت عليها وليس لي أن أغيرها بعد كل هذه السنوات. والمشكلة أن (حازم) كان نسخة عني. نسخة في كل شيء، ولم أتخيل أن تتحمله أنثى أبداً. لكنك تحملته وأسعدته، ولم أره يتذمر منك يوماً. أما (طارق)، فمختلف منذ صغره. عاطفي وحنون كأمه الراحلة، وكان بحاجة إلى زوجة تحيطه بحنانها مثلما يحيطها بحنانه. ربما كنت أنانياً لأنني شعرت بأن وجودك في أسرتنا هي عودة أخرى ل( ماجدة) زوجتي الحبيبة. أردتك أن تظلي بيننا وأن تكوني الابنة التي لم أرزق بها".
ثم رفع إليها عينين تلتمعان بدmـ.ـو.ع لم ترها من قبل وهو يواصل ـ"لقد زوجتك منه لأنني رأيت فيك الزوجة المثالية له مثلما كنت لأخيه وليس ليحمي أبناء أخيه فقط كما ظننتم جميعاً. حتى وإن تزوجتما رغماً عنكما في البداية، فقد كنت على حق لأن الحب ربط بين قلبيكما بعد الزواج، وأسعدكما معاً. لكنك اليوم أنت وأبنائك أهم عندي من أي شيء آخر, حتى ابني. لذا سأفعل كل ما بوسعي كي أعيد لك حقك كاملاً بعيداً عن الطـ.ـلا.ق. فقط أجيبيني بصراحة هل ما يضايقك أنه كذب عليك بشأن عودته لـ(سمر), لأن هذا حله أبسط مما يمكن, سيعتذر لك ويركع تحت قدmيك لو أردت وينتهي الموضوع. أما لو ما يضايقك هو عودته إليها من الأساس بعد أن استقرت حياتكما معاً فهنا الحل هو أن يطـ.ـلق(سمر) ويعود إليك وإلى أبنائك وابنه القادm."
أجابته في سرعة ـ"لا يرضيني أن يطـ.ـلق(سمر) لأن ما بها لا يد لها فيه, ولا أستطيع أن أنكر كم ضحت في سبيلي وسبيله. ماداما حبيبين فلا مكان لي بينهما."
تدخلت أمها في الحوار قائلة ـ"إنك تعقدين الأمور هكذا يا(هالة)."
التفتت إليها ابـ.ـنتها قائلة ـ"أنا لا أعقدها, لقد سألتموني عما يرضيني وأجبتكم بكل صراحة, فأنا لا أستطيع النظر في وجهه ولا أطيق الوجود معه في مكان واحد, كما لا أظنني سأسامحه يوماً على ما فعله معي. وكلما طال الجدل حول هذا الأمر ستزداد حالتي سوءاً وربما أضر هذا بالجنين."
تبادلت أمها وحموها نظرات حائرة قبل أن يقول حموها بهدوء ـ"لقد أخطأ(طارق) حينما أعاد(سمر) إليه دون أن يخبرك من ناحية, وأخطأ في إعادتها من الأساس من ناحية أخرى ويحق لك معـ.ـا.قبته, وسآخذ لك حقك كاملاً منه. لكنك بطلبك الطـ.ـلا.ق تعـ.ـا.قبين أبنائك وطفلكما القادm وهذا ما لن أسمح به على الإطـ.ـلا.ق, وإذا كان وجوده معك في الوقت الحالي يثير أعصابك فسيظل في شقته أو معي ولن يحتك بك حتى تلدين, وحتى ذلك الحين يمكنك إعادة التفكير في السبب الحقيقي لغضبك, لأنني واثق من أن حبك له ورغبتك في أن يكون لك وحدك هما المحرك الأساسي لغضبك, وهذا حقك مائة في المائة. وكل ما أطلبه منك في الوقت الحالي هو أن تحافظي على صحتك وأن تعتني بالتغذية قليلاً. ألا ترين كيف ذبلت؟ اتفقنا؟"
قالت بعناد ـ"ولكن..".
قاطعها حموها قائلاً بحكمة ـ"بفرض أنك أصررت على الطـ.ـلا.ق وأن (طارق) وافق عليه ومنحك إياه، ستظلين زوجته شرعاً حتى تلدين، وهذا يعني نحو ستة أشهر أخرى. لذا سأبعده عنك طيلة هذه الفترة حتى تلدين بسلامة الله، وبعدها لك ما تريدين. ربما تعيدين التفكير في أمر زواجكما، وربما يظل رأيك كما هو. لكنه على أي حال سيكون قراراً حكيماً اتخذته بكامل إرادتك وبعد تفكير عميق واستخارة لله سبحانه وتعالى. حينها لن يجرؤ أحدنا على الاعتراض. هل يرضيك هذا؟"
تبادلت مع أمها نظرات سريعة جعلتها تومئ برأسها إيجاباً دون اقتناع، فعاد يسألها ـ"إذاً تعدينني بالاهتمام بصحتك وأن تلقي بما حدث خلفك وتعودين (هالة) التي أعرفها؟"
هزت رأسها وهي تتمتم ـ"سأحاول".
ثم عادت تنظر إلى حميها قائلة بحرج ـ"بإذنك يا عماه. سأدخل لأساعد (هاني) في دروسه ريثما يعود (هيثم) من المستشفى".
سمح لها بمغادرته وتابعها ببصره قبل أن يلتفت إلى والدتها قائلاً ـ"حاولي أن تقنعيها يا حاجة بالعدول عن فكرة الطـ.ـلا.ق. وسأحاول أنا مع (طارق) وأفهم منه مبرراته لما فعل. وإذا ثبت لي أنه لا يحبها كما يقول فثقي في أنني سأقف إلى جوار (هالة) ضده. أدرك شعورها العميق بالجـ.ـر.ح والخيانة، حتى أنها لم تحتمل الذهاب مع ولدها إلى المستشفى وتظل إلى جوار (طارق) طوال الطريق، ولديها كل الحق في ذلك، ولكن ربما يتغير رأيها بعدmا تهدأ قليلاً".
تنهدت الأم في ضيق وهي تجيبه بنبرة حزينة ـ"صدقني يا حاج (حفني)، أنا لا أقل حـ.ـز.ناً وصدmة عنها. (طارق) كان ابني الذي لم أنجبه، حتى قبل زواجه من ابـ.ـنتي. فشهامته معنا وحنانه على أبناء أخيه أمر لا يحتاج إلى إثبات. لكنه خذلنا أيضاً. خذل (هالة) مرتين. مرة في بداية زواجهما، والأخرى الآن. بالطبع لا أريد طـ.ـلا.ق ابـ.ـنتي ومعها أربعة أطفال، لكنني لا استطيع إجبـ.ـارها على البقاء معه ولا على التفريط في كرامتها. أقصى ما أستطيعه الآن هو أن أقنعها بالتفكير بروية والاستخارة حتى تلد. لكنني سأساندها في قرارها أياً كان".
هز الحاج(حفني) رأسه بصمت قبل أن يعقب قائلاً ـ"معك حق. أنا نفسي لا أعلم كيف يمكنني الدفاع عنه أمامها. سأنتظر معرفة مبرراته قبل أن أحكم عليه. ما يهمني الآن بعد صحة (هالة) هو الأولاد. لا ينبغي أن يشعروا بأي من التـ.ـو.تر الحالي بين (هالة) و(طارق)، ولا ينبغي أن تهتز صورته أمامهم".
وافقته بإيماءة من رأسها وهمت بالرد عليه حينما سمعت صوت مفتاح يدور في باب الشقة الذي فُتح بهدوء ودخل منه (هيثم) بخطوات بطيئة نسبياً وخلفه عمه حاملاً علبة حلوى كبيرة وضعها على أول طاولة قابلته في الردهة واستدار ليغلق باب الشقة حينما لمح والده فابتسم بود وهو يقترب منه قائلاً ـ"والدي؟ حمداً لله على سلامتك. متى وصلت؟ لم أر سيارتك أسفل العمارة."
قالها وهو يصافح والده ويقبل ظهر كفه في احترام ثم يتجه إلى (أم هالة) فيقبل رأسها بنفس الاحترام وهو يهمس _"كيف حالك يا أماه؟ كنت نائمة حينما أتيت ل(هيثم)".
ربتت على كفه بحنان الأم وهي تقول بهدوء ـ"بخير والحمد لله يا بني. كيف حالك أنت؟"
ارتسم الحـ.ـز.ن في عينيه وهو يتابع بعينيه (هيثم) وهو يقترب من جده ويقبل ظهر كفه ويجلس إلى جواره، قبل أن يعود بنظره إلى (أم هالة) هامساً ـ"ضائع دونكم يا أماه..ضائع".
عادت تربت على كفه وهي حائرة بينه وبين ابـ.ـنتها الوحيدة.
أما هو فاستدار إلى والده قائلاً ـ"متى أتيت يا والدي؟"
ابتسم والده وهو يداعب شعر (هيثم) الناعم وأجابه ـ"بعد نزولك مباشرة. أخبرني رويترز أن الجميع نيام وأنك اصطحبت (هيثم) إلى المستشفى".
ضحك (طارق) بقوة محاولاً أن يفرغ تـ.ـو.تره في الضحك وهو يقول ـ"تقصد (هاني) بالطبع. فهو وكالة أنباء البيت. أعتقد أنه سيكون مراسلاً ناجحاً لأنه دائماً الأول في الوصول إلى موقع الحدث والأول في نقل الأخبـ.ـار. بالمناسبة أين هو؟ لم يستقبلني كعادته".
أشار والده إلى غرفة الأولاد وهو يجيبه مبتسماً ـ"بالداخل يذاكر مع أمه. لقد دخلا قبل قليل".
نهض (طارق) نحو علبة الحلوى الكبيرة وهو يقول ل(هيثم) ـ"اذهب ونادهما يا (هيثم) وسأعد أنا المائدة".
ثم ما لبث أن عاد يسأل والده ـ"لم تجبني يا والدي..أين سيارتك؟"
أجابه والده برزانته المعهودة ـ"حينما لم أجدك ذهبت إلى صلاة المغرب وطلبت من السائق أن يشتري ما ينقص البيت من السوق ريثما أبـ.ـارك للحاجة (أم هالة) بسلامة العودة من الحج".
تأمل (طارق) علبة الحلوى الأخرى على المائدة، والتي تحمل علامة الحلواني المفضل لوالده قبل أن يقول شاكراً ـ" سأظل أتعلم الأصول منك يا والدي".
قال والده بثقة ـ"يا بني الريف المصري هو أساس الأصول والتقاليد التي لا ينبغي أن نتنصل منها مهما أبعدتنا المدنية عن جذورنا. ثم إن قدر (أم هالة) كبير لدينا جميعاً. نعم النسب والله".
تضرج وجه المرأة بحرج ذكر (طارق) بحياء زوجته معه، بينما قالت هي بصوت خفيض ـ"بـ.ـارك الله فيك يا حاج (حفني). وشكراً على ذوقك".
أما (طارق)، فانهمك في فض العلبة الكبيرة عن الكعكة التي تتوسطها وهم بقول كلمة ما حينما خفق قلبه في قوة.
لم يكن قد رأى (هالة) بعد، ولكنه شعر بقربها
ربما سمع حفيف خطواتها المتثاقلة،
وربما تسللت رائحتها المميزة التي افتقدها إلى انفه،
أو ربما هو قلبه الذي شعر بقرب حبيبته فرقص طرباً وحاول الخروج من موضعه ليستقبلها
المهم أنه رفع رأسه فجأة ناحية غرفة الأولاد وانتظر لحظات بدت له كالدهر قبل أن تشرق شمس حبيبته
وتعلقت عيناه بها وبوجهها الشاحب وعينيها الذابلتين
ورغم ذلك هتف قلبه "يا إلهي..كم أحبها وأحترق في بعدها عني".
وراودته رغبة مـ.ـجـ.ـنو.نة في أن يهرع إليها ويحتويها ليطفئ بعضاً من ظمأه لها
ظمأ أسبوع لم يرها أو يسمع صوتها أو يتنسم عبيرها فيه
لكنه عاد إلى أرض الواقع حينما التقت نظراتهما قدراً ولمح فيهما ضيقها من وجوده
حينها فقط تنحنح ليخرج من محيط مغناطيسيتها وهو يقول للجميع دون تحديد ـ"هيا جميعاً إلى المائدة. فالكعكة أروع من أن تنتظرنا".
قالها وعيناه تعودان إلى معشوقتهما وهو يمد كفه إليها مرسلاً في نظراته توسلاً صامتاً بأن تأتي إلى جواره وتحاول التظاهر بأن الأمور بينهما طبيعية
وكعادتها فهمت رسالته، وانتابها الغـ.ـيظ من أنها لا تزال تجيد لغته
ولوهلة فكرت أن تتجاهل كفه وتقف في الجانب البعيد من المائدة، لولا أن لمحت نظرة أمها الجادة التي تحذرها من أن يشعر الأطفال بأي شيء
حينها اقتربت منه على مضض، ووقفت إلى جواره بتردد استغله هو وهو ينحني على أذنها هامساً بشوق ـ"افتقدتك".
رمقته بنظرة حادة رغماً عنها ثم مالبثت أن هـ.ـر.بت بعينيها إلى المائدة
ولكن عينيها سرعان ما اتسعتا في دهشة وهي تتأمل الكعكة الكبيرة
فقد كانت كعكة مستطيلة تحمل في أحد جانبيها قطعة شوكولاتة تحمل اسم معرض حلوى مشهور
وعلى الأطراف كانت تحمل أسماءهم جميعاً
أما أكثر ما أثار دهشتها فكان منتصف الكعكة
فقد كان يحمل بوضوح صورتها مع (طارق) والأولاد.
نفس الصورة التي كانت تضعها على المنضدة المجاورة لفراشها، والتي أخفتها الآن في درج بعيد
نفس الصورة التي كانت تتأملها كل يوم في حب وتتحسس فيها وجه حبيبها الباسم
نفس الصورة التي كانت تحبها لأنها جمعتها به...لكنها أصبحت تحمل ذكرى اكتشافها لخيانته
كادت معدتها تقفز إلى حلقها كعادتها في لحظات التـ.ـو.تر، لكنه سارع بوضع كفه على ظهرها وهو يقترب منها بابتسامة مدروسة قائلاً ـ" تجاهلي معدتك المتـ.ـو.ترة يا حبيبتي. وهيا لنقطع الكعكة احتفالاً بعودة أمي وشفاء (هيثم)".
قالها وهو يتناول السكين ويضعها في يد (هالة) ثم يضع كفه فوق كفها ليقطعا الكعكة سوياً وسط تهليل الصغار
أما هي فلم تشعر بأي مما حولها، ولم تسمع أي من تعليقات أطفالها الضاحكة وهم يمدون الأطباق لتناول الكعكة
لم تشعر سوى بتملكه واستبداده وهو يحاول أن يثبت للجميع أن كل شيء على ما يرام
لم تشعر سوى بقشعريرة غزت جسدها كله وهي تشعر براحته تعتقل كفها فوق السكين
لكنها لم تستطع أن تجزم..أهي قشعريرة حب أم قشعريرة اشمئزاز
كل ما استطاعته هو أن تهرع بقوة غريبة نحو حمام غرفتها حتى لا يصل صوت قيئها إلى الباقين
وفي أسى تبادل (طارق) النظرات مع والده وحمـ.ـا.ته التي أعادت طبقها إلى المائدة وهي تستأذن لترى ابـ.ـنتها
وما أن وصلت الأم نحو غرفة ابـ.ـنتها حتى رأت (هالة) تخرج من غرفتها وعلى شفتيها ابتسامة منهكة وهي تقول بسخرية ـ"لا عليك...إنذار كاذب. لم يحدث شيء".
ربتت أمها على كتفها في تعاطف وهي تصحبها إلى الردهة لتتسع أعينهما بشـ.ـدة في اللحظات التالية
فقد هرع (هاني) إلى أمه واحتضن ساقيها وهو يقول بلهجة غريبة ـ"لو لم يكن القادm أخي لقــ,تــلته".
تبادلت (هالة) نظرة متـ.ـو.ترة مع والدتها وحميها قبل أن تخفض وجهها وتداعب شعره قائلة بمزيج من الحنان والجزع ـ"لماذا يا حبيبي؟"
ازداد تمسكاً بها وهو يقول بصدق ـ"لأنه السبب في ضيقك واختفاء بسمتك. وأنا لا أسمح لأحد بأن يضايقك".
حينها ركعت على ركبتيها واغــــرورقت عيناها بدmـ.ـو.ع غزيرة خانتها وسالت على وجنتيها وهي تحتضن صغيرها وتقول بصوت متحشرج ـ"لا حرمني الله منك يا حبيبي.. لا حرمني الله منك أو من أخوتك".
اقترب حينها (طارق) وهو يحمل هاتفه الجوال ويقول بابتسامة هادئة ـ" دكتور (سامي) يرسل تحياته ويطمئن على (هيثم) لأننا تركنا المستشفى قبل أن يخرج هو من غرفة العمليات. قلت له فاتتك الكعكة اللذيذة و.."
بتر عبـ.ـارته حينما لمح (هالة) راكعة على ركبتيها وتحتضن صغيرها فعقد حاجبيه وأدار عينيه إلى والده في تساؤل
ولم يتأخر والده في التعقيب، إذ قال بصوت متهدج ـ"بل أنت فاتك أهم مشهد".
وعاد الجد ببصره إلى أحفاده قائلاً بفخر ـ"بـ.ـارك الله لك يا ابـ.ـنتي في أبنائك..ربيت رجـ.ـالاً بحق".
رفعت عينيها الدامعة إليه وحاولت الابتسام وهي تقول ـ"هذا الشبل من ذاك الأسد يا عماه. فالنخوة ليست بعيدة عنهم ما دmت جدهم".
ثم عادت بنظرها إلى ابنها وداعبت شعره ثانية وهي تقول ـ"كل أم يا حبيبي تعاني قليلاً في بداية الحمل، لكنها تنسى كل الآلام حينما تحمل صغيرها بين ذراعيها".
حينها عقد الصغير حاجبيه وهو يسألها ـ"هل أتعبتك أنا أيضاً وضايقتك هكذا؟"
قبلت جبهته في حب وهي تضحك من سؤاله قائلة ـ"ممممم..إلى حد ما نعم..كلكم أتعبتموني. لكنكم أجمل ما في حياتي".
ثم فتحت ذراعيها لتضم (هيثم) و(هند) أيضاً إليها وتشبع رئتيها برائحتهم قائلة ـ"لا حرمني الله منكم".
سالت دmعة حانية على وجنة والدتها التي لم تفقد رونقها بعد فمسحتها في سرعة وهي تقول بمرح ـ"هيا إلى الكعكة..إنها لن تنتظر. سألتهمها كلها مالم تأتوا جميعاً".
حينها أفرجت (هالة) عن أبنائها الذين هرعوا في مرح إلى أطباق الحلوى يأكلونها في براءة، بينما مد (طارق) كفه لزوجته كي تستند عليها لتقوم.
لكنها تجاهلت كفه واعتمدت على قبضتيها المضمومتين وهي تقوم كما لو كانت في الصلاة وهي تغمغم ـ"لم افقد قوتي بعد. وإذا فقدتها يوماً فسأجد أبنائي حولي إن شاء الله".
تلفت حوله ليجد كل في اتجاه، فعاد بنظره إليها وهمس وهو يقترب منها ـ"(هالة)..ألم تصفحي عني بعد؟ أعدك بأن أخبرك بكل شيء ولكن امنحيني الفرصة أولاً. (هالة) أنا ضائع بدونكم. روحي تفارق جسدي حينما أغادر هذا البيت. اعتدت أن يكون وجهك أول ما أرى في الصباح وآخر ما أرى في المساء. اعتدت ضجيج الأولاد ونزاعهم على من يستقبلني عند الباب ومن ينام في أحضاني كل ليلة. اعتدت هرولتك خلف (هند) في أنحاء البيت كي تطعميها تارة وكي تغيري ملابسها تارة أخرى. اعتدت أن...".
قاطعته وهي تنظر بقسوة في عينيه وتقول بقوة لم تدر من أين أتتها ـ"ألم تنتبه بعد؟ كل هذا البيت مجرد عادات. اعتدت (هالة) كما اعتدت طهيها وأبنائها والجو الذي تعيشه معها. لكنك لم تحبها ولم تحارب من أجلها ولم تقف في وجه الجميع لتنالها. للأسف هذا هو الحال مع كل ما تحصل عليه بسهولة. لقد كنت سهلة المنال بالنسبة لك منذ البداية، لذا تعاملت معي كما يحلو لك. تعاملت معي بشروط حبيبتك وليس بشروط عقد الزواج الذي ربطنا. لهذا أشعر كل يوم كم كنت رخيصة لأنني ..."
قاطعتها أنامله على شفتيها وهو يرتجف ويهمس بها غاضباً ـ"كفى..أنت لم تكوني سهلة المنال أبداً ولم تكوني رخيصة. أنت فوق الجميع، ولن أسمح لك بالتقليل من شأن نفسك".
أبعدت رأسها عن أنامله لكنه اقترب أكثر منها وهو يهمس بدفء ـ"أحبك يا (هالة) ولم تكوني شخصاً ثانوياً في حياتي منذ أحببتك. أحبك و..".
لم تنصت له، وكأنه كان يحدث نفسه
كيف تصدقه بعد ذلك؟
بل كيف تستعـ.ـذ.ب حروفه وهو يصارحها بحبه
كيف تتقبلها وجـ.ـر.ح قلبها منه مازال ينزف دmاً ودmـ.ـو.عاً
حاولت أن تسد أذنيها عن همسه الذي اعتاد أن يدغدغ حواسها
لكنها فشلت
حتى حينما أغلقت عينيها بقوة محاولة الهرب بعيداً بذهنها، لم تنجح
لذا فتحت عينيها فجأة وواجهته قائلة بقوة جديدة عليها ـ"(طارق)...لا داعي لهذا. لقد انتهى كل شيء".
اتسعت عيناه حتى أصبح لونهما أكثر وضوحاً أمامها وهو يضغط على ساعدها الأيسر قائلاً بنفس الرجفة ـ"كيف تقولين انتهى؟ ما بيننا لن ينتهي حتى..".
قاطعته بغـ.ـيظ وهي تتناول السكين الحاد بيمناها من جوار الكعكة وتغرسه بتهور قائلة ـ"انتهى هكذا".
وأصاب السكين قلب الهدف..... بدقة.
↚أنا ليه وازاي أآمنك...على نفسي كل دا
وما خدتش بالي انك...حد بوشين كدا
أنا لما مشيت وراك
كنت مغمض عنيا
سبت مشاعري لهواك
ومشاعري ضلوا بيا
إيه خدته من حبك ليا غير جـ.ـر.ح بيمـ.ـو.ت فيا
جيتلك أنا خدت بإيديك جيت انت بخسارة عليا
دلفت (هالة) في سرعة إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها في قوة وهي تقاوم دmـ.ـو.عها التي تخـ.ـنـ.ـقها وتحرق حلقها
وأخيراً أفرجت عن دmـ.ـو.عها وهي تنهار على فراشها باكية وكأنها تخلص صدرها من كل الضغوط بداخله
ورغم أن البكاء غالباً ما يريح القلب، لم تكن تشعر بذلك
بل كانت تشعر بمزيد من الاختناق كلما تذكرت الموقف الأخير
فحينما أمسك (طارق) ساعدها بقوة وسمعته يستنكر عليها حقها في أن تنهي علاقتها به لم تشعر بنفسها
كل ما شعرت به هو غليان الدmاء في رأسها
كيف يتعامل بهذا البرود؟
كيف يتخيل أنها ستسامحه بعد هذا الجـ.ـر.ح الغائر؟
بل كيف يعيش الوهم بأنها قد تعود إليه
أعماها غضبها عن كل شيء حتى ودت لو تقطع حديثه بأي وسيلة
تقطع!!!!
حينها وقع نظرها على السكين التي كانت تحملها قبل دقائق وتقطع بها الكعكة معه
لم تدر بعدها ما حدث
كل ما تتذكره هو نظرة الألم والصدmة في عيني (طارق)
بل قل نظرات الذهول
وفي سرعة التفتت إلى حيث كان كفها الأيمن لتجده لا يزال ممسكاً بالسكين بقوة
السكين المغروس في.....صورتهم الجماعية
ربما لم تشعر بما فعلته تحديداً، لكن السكين كان حاسماً
فقد فصل الجزء الذي يقف فيه (طارق) من الصورة والكعكة بالتبعية
كانت رسالة مبطنة قذفها عقلها الباطن في وجه (طارق)
رسالة صامتة تحمل معنى واحد
لم يعد لك مكاناً في قلبي
وفهمها (طارق)
رغم ذهوله من حركتها السريعة وعيناه تراقبانها
فقد فهم الرسالة
وشعر بالسكين يخترق قلبه
ربما إذا أصابته جسدياً لكان أهون عليه
ولكن هكذا...
لا يدري لم شعر بأن قطع صورته بهذه الكيفية قد يكون فالاً سيئاً
وللحظة لام نفسه لأنه اختار أن يضع صورتهم
فيم كان يفكر
كانت الصورة ستُقطع عاجلاً أو آجلاً
ولكن ليس بهذه الطريقة
ظل يطالعها للحظات انتبهت فيها لنفسها وما فعلته
فهرعت إلى غرفتها لتهرب منه إلى دmـ.ـو.عها
وصوت خافت في زوايا قلبها يلومها على ما فعلت
أما هو..فظل متجمداً في موقعه لبرهة حتى بعد أن غادرته
ظل يحدق في الفراغ الذي خلفته وشيطانه يهتف به "امنحها ما تريد وطلقها..لقد أهانتك ولا يمكن أن تصبر على تلك الإهانة".
ليدافع قلبه عنها قائلاً ـ"لا تقلل من حجم جـ.ـر.حها. فهي لم تكن لتتأثر من عودة (سمر) لولا حبها لك"
عاد ببصره إلى الكعكة وصورته المنفصلة عنها وكاد يدخل في جدل جديد أنقذه منه صوت والده الواثق ـ"(طارق)...هل ستقف عندك طويلاً"؟
حينها انتبه لوالده فالتفت إليه قائلاً بابتسامة شاردة ـ"آسف يا والدي...سأحضر طبقي وأجلس معك لنتحدث".
نهض والده بوقار وهو يقول له ـ"سنتحدث بالتأكيد ولكن ليس الآن. اجلس انت مع أبناء أخيك وراجع دروسهم كما اتفقت معهم. وغداً أنتظرك في مسجد القرية لنصلي الجمعة سوياً إن شاء الله، وبعدها بيننا حديث طويل".
عقد (طارق) حاجبيه وهو يقترب من والده مستفهماً ـ"القرية؟! خيراً إن شاء الله. ولماذا لا تبيت معنا الليلة و...".
قاطعه والده بإشارة حازمة من كفه قائلاً ـ"لقد أنهى السائق المشتريات وينتظرني أسفل المنزل، وأنت تعلم أنني لا أستطيع المبيت بعيداً عن بيتي ومزرعتي. فلابد أن يحضر العمدة صلاة الجمعة في المسجد الكبير كالعادة، وإلا ظن الرجـ.ـال أني مريـ.ـض".
التقط (طارق) كف والده يقبل ظهره باحترام وهو يقول بحب ـ"أدام الله عليك صحتك وأطال عمرك في طاعته. سأكون عندك مبكراً بإذن الله لنذهب سوياً إلى المسجد".
ربت والده على كتفه في حنان قلما يظهره وهو يقول بهدوءـ"بـ.ـارك الله فيك يا بني. سأذهب الآن واعتن انت بأسرتك".
رافقه (طارق) حتى سيارته ولم يتحرك من موقعه إلا حينما غابت السيارة عن ناظره
حينها عاد ثانية إلى الشقة وعلامة استفهام كبيرة فوق رأسه
ترى لماذا يريدني أبي في القرية؟!!!!
↚انطلق (طارق) يقود سيارته بشرود في طريق العودة من قرية والده إلى القاهرة وصدى حديثهما الأخير يتردد في ذهنه ويطبق على أنفاسه حتى يكاد يخـ.ـنـ.ـقه
فبعد أن أديا صلاة الجمعة في المسجد الكبير كما اتفقا، عاد معه إلى منزله، أو بالأحرى الفيلا الأنيقة التي أقامها من طابقين وسط حديقة كبيرة
وهناك أصر والده على أن يتناولا الغذاء أولاً من يدي زوجة السائق
وكأنه كان متأكداً أن الحديث قبل الغذاء سيقضي على ما تبقى من شهية ولده
وبعد أن وصل ترقب (طارق) إلى مداه، تحدث العمدة أخيراً
فابتدره قائلاً بهدوء ـ"ماذا ستفعل مع (هالة)"؟
حينها أدرك (طارق) أن الهدف من هذه الزيارة هو مناقشة حياته الخاصة، وقفز إلى ذهنه تساؤل مفاجئ عما إذا كان والده رأى ما فعلته (هالة) بالأمس أم لا.
لكنه أجاب والده بكل الهدوء الذي توافر لديه في تلك اللحظة قائلاً ـ"لا شيء. لقد تركت لها المنزل منذ عودة والدتها لأمنحها فرصة تهدأ فيها قبل أن..".
قاطعه والده قائلاً بحـ.ـز.ن غامض ـ"أتدري ماذا قال (هاني) لأمه وأنت تحادث صديقك هاتفياً؟ لقد احتضنها وقال ’لولا أن القادm أخي لقــ,تــلته لأنه يضايقك وأنا لا اسمح لأحد بأن يضايقك‘. هل تتخيل ذلك؟ طفل في السابعة يتحدث بهذا الغـ.ـيظ عمن يضايق أمه، فما بالك إذا اكتشف أن عمه الوحيد الذي يعشقه هو سبب هذا الضيق؟"
اتسعت عينا (طارق) بصدmة، وحار للحظات في الرد على والده قبل أن تعود إليه الكلمـ.ـا.ت باهتة وهو يقول بشرود ـ"ألهذا قلت لي إنني أضعت أهم مشهد؟"
ربت والده على كتفه قائلاً بتعاطف ـ"اتق الله في أخيك الراحل وزوجته وأبنائه و..".
قاطعه (طارق) بحدة تختلف عن طبعه الهادئ واحترامه لوالده وهو يهب من مقعده هاتفاً ـ"(هالة) لم تعد زوجة (حازم). إنها زوجتي أنا وتحمل طفلي أنا. علاقتها ب(حازم) كزوج انتهت منذ وفاته".
غامت عينا والده بسحابة حـ.ـز.ن قاتمة انعكست على صوته الذي تهدج لمجرد ذكر ولده الراحل وهو يقول بخفوت ـ"رحمه الله".
وكأن صوت والده الحزين أعاده إلى هدوءه فعاد يجلس بالقرب منه ويقبل ظاهر كفه في احترام قائلاً ـ"آسف لانفعالي يا والدي. لم أقصد أن يرتفع صوتي عليك. سامحني".
ربت والده على كفه قائلاً بتفهم ـ"أدرك يا ولدي صعوبة الموقف. لكنني لا أستطيع الوقوف صامتاً أمام ما يحدث. ألم تلحظ كيف اختلفت (هالة) عن ذي قبل؟ ألم تلحظ اختفاء ابتسامتها وتزايد نظرة الحـ.ـز.ن في عينيها. لقد منحها الهم عمراً يفوق عمرها بعشر سنوات على الأقل بعد أن كانت تبدو كفتاة لم يسبق لها الزواج. (هالة) في تدهور جسدي ونفسي مستمرين، ولن أسمح بالمزيد من ذلك. وإذا حدث لها مكروه فلن تخسر زوجة وطفل فحسب، بل ستخسر أبناء أخيك أيضاً لأنهم سيلقون عليك باللوم في ذلك بشكل أو بآخر."
التقت عينا (طارق) بعيني والده وهو يقول بصوت يخـ.ـنـ.ـقه الضيق ـ" ألم تلحظ أنت كل ذلك في وجهي؟ أنا أشعر بالضياع يا والدي منذ تركت (هالة) والأولاد. لقد أصبحوا حياتي كلها، ولم أعد أستطيع الحياة دونهم".
قال والده بنفس الضيق ـ"لكنك ستضطر إلى ذلك بشكل أو بآخر".
عقد (طارق) حاجبيه بتساؤل وهو يراقب شفتي والده التي ألقت قنبلة شـ.ـديدة التفجير في وجهه
فقد أضاف والده بحزم ـ" امنح (هالة) ما تريد يا ولدي. طلقها واتركها لأبنائها، فهم أولى بها".
للحظات ظل (طارق) يحدق في والده بذهول قبل أن يقول باستنكارـ"للمرة الثانية تطلب مني نفس الطلب، وكأنني لست ولدك. دفعتني إلى تطليق (سمر) في البداية لأنها لا تنجب. وهاهي (هالة) تحمل طفلي، ومع ذلك تطلب مني أن أطلقها؟ لماذا؟"
أجابه والده بهدوء حازم ـ"لأنني لا أستطيع المخاطرة بفقد أحفادي وأمهم. يكفيني فقدان ابني البكر، ولابد أن أعتني بأمانته. لقد سلمتك هذه الأمانة بثقة، لكنك لم تُجد رعايتها".
حينها فقد (طارق) سيطرته على أعصابه تماماً وهو يهب ثانية من مقعده ويحرك ذراعيه في الهواء قائلاً بحنق ـ"لا تستطيع المخاطرة بأمانة ابنك الراحل لكنك تستطيع المخاطرة بابنك الباقي، أليس كذلك؟ تتحدث عن أمانته وكأنها صندوق ثمين وضعته أنا في ركن مهمل حتى كسته الأتربة، وليس كأنها مسؤولية أرغمتني عليها آنذاك. أرغمتني على الزواج من أرملة شقيقي وأطعتك كيلا ابتعد عن أبنائه. أطعتك وأجلت حلمي في أن تكون لي زوجتي الخاصة. وجدتني أهتم بزميلة على النقيض تماماً من (هالة) لأعيش معها حياتي باختياري. ربما كنت معجباً ب(سمر) قبل وفاة (حازم) وأردت أن أخطبها بالفعل، لكنني ازددت تعلقاً بها منذ فاتحتني في أمر زواجي من أرملة أخي بمجرد انتهاء عدتها. لم استسغ تحول علاقتي ب(هالة) من خانة زوجة الأخ إلى خانة الزوجة، وظلمتها كثيراً رغماً عني. أتدري لماذا؟ لأنه من الصعب أن يُجبر رجل بالغ مسؤول على شيء ما، حتى وإن أراده في زوايا قلبه. لكنني أقنعت نفسي بهذه الحياة، وتعايشت معها بشكل أفضل بعدmا صارحت (هالة) بحقيقة علاقتي ب(سمر)."
صمت قليلاً ليزدرد لعابه الذي جف من التـ.ـو.تر قبل أن يضيف في ألم ـ"كنت مستعداً للبقاء مع (سمر) حتى بعد معرفتي بعقمها. كنت ألهي نفسي عن عقمها بوهم الحب. لكنها كانت تتوقع موقفك، لذا أصرت على الطـ.ـلا.ق. أصرت عليه بطريقة جعلتني أوصد قلبي في وجهها. كلاكما أصر على الطـ.ـلا.ق دون أن يهتم بما يعنيه ذلك لي. ذبحتني أنصالكم البـ.ـاردة بلا رحمة وأنا ممزق بينكما حتى كدت أفقد مستقبلي. واليوم، بعد أن وجدت طريقي مع (هالة) وتعافيت من صدmتي السابقة تكرر طلبك لأطلقها؟ على جثتي".
ذُهل الحاج (حفني) من لهجة ولده العصبية التي لم يشهدها من قبل، لكنه هتف به في حزم ـ"ماذا تعني؟"
خلل (طارق) شعره بأصابعه كعادته وقت التـ.ـو.تر قائلاًـ" أعني أنه يؤسفني أن ارفض طلبك، ولكنني لن أتنازل عن (هالة) إلا في حالة مـ.ـو.تي".
عقد والده حاجبيه قائلاً بحيرة ـ"ماذا دهاك يا (طارق)؟ إنك لم تعص لي أمراً قط".
لاح شبح ابتسامة ساخرة على طرف شفتي (طارق) وهو يجيبه بمرارة ـ"من الطبيعي أن أتمرد. دخلت كلية الطب بناء على رغبتك بعدmا أصر (حازم) رحمه الله على دخول كلية الهندسة. تخصصت في الجراحة بناء على رغبتك رغم موافقتك على إصرار (حازم) على دراسة هندسة النفط. رفضت بعثة إتمام دراستي في الخارج بناء على رغبتك رغم موافقتك على سفر (حازم) للعمل بالخارج. تزوجت (هالة) بناء على رغبتك وطلقت (سمر) أيضاً بناء على رغبتك. دائماً كنت تسمح ل(حازم) بما يريد، وتجبرني أنا على ما تريد. بالله عليك ما الذي فعلته في حياتي بناء على رغبتي أنا باستثناء زواجي من (سمر)؟ لماذا تحرمني الآن من حقي في الاعتراض وأن أعيش حياتي كما أريدها؟ كيف يُعقل أن أقترب من منتصف الثلاثينات دون أن افخر باختياراتي وحريتي وأنا رجل، بينما تتمتع فتيات بحرية أكبر من ذلك؟ أتريد مبررات أخرى لتمردي أم تكفيك هذه؟"
شعر الحاج (حفني) بمرارة كلمـ.ـا.ت ابنه الأصغر وملامح الألم المرتسمة على وجهه،
ولأول مرة يلحظ الإرهاق الجـ.ـسماني والنفسي اللذان ارتسما على ملامح ابنه الشاب وتحت عينيه، و.جـ.ـعلته بالفعل يبدو وكأنه في الأربعين
حينها نهض بكل وقار مقترباً من ابنه وربت على كتفه بتعاطف قائلاً ـ"منذ صغرك وأنت تميل إلى الهدوء والطرق السلمية، بينما كان شقيقك رحمه الله مثابراً طيلة حياته. كنت أعلم بقدراتكما العقلية المتفوقة، ولهذا أردت أن أدفعكما إلى الأمام دوماً. (حازم) رحمه الله كان يعرف ماذا يريد دائماً ومستعد للقتال من أجل تحقيق أهدافه. أما أنت فكنت تتقبل دوماً ارشادتي وتنفذها دون جدال. لذا كان من الطبيعي أن أرسم لك مسار حياتك طوال الوقت كيلا تتوقف في المنتصف أو تفقد حماسك".
أدار (طارق) عينيه لتلتقي بعيني والده قائلاً بسخرية مريرة ـ"إذاً كنت تراني عديم الأهلية وغير جدير بالثقة، ولهذا حركتني كقطع الشطرنج كما يحلو لك. وأنا أطعتك بكل سذاجة كيلا أكون الابن ا
لعاق".
هتف به والده مدافعاً ـ"أنا لم أقل ذلك. لقد ربيت رجـ.ـالاً يُعتمد عليهم يدركون قيمة العمل والنجاح والمسؤولية. كل ما هنالك أنك لم تحدد حلمك منذ البداية، ولهذا تطوعت أنا لأرسمه لك. ولو كان اختياراتي لك مخطئة لما نجحت كجراح، ولما سعدت مع (هالة)."
ضيق (طارق) حدقتاه وهو يتأمل والده بتمعن ويعترف في قرارة نفسه بذكاء والده ومكره
فهاهو يربط تحريك حياة ولده بنجاحه في العمل وحتى في زواجه الذي لم يكن متحمساً له
ورغم ذلك، خرجت كلمـ.ـا.ت (طارق) البـ.ـاردة وهو يقول ببرود ـ"ومن قال إنني لم أحدد حلمي؟ ربما كانت دراسة الطب حلماً لأغلب الشباب، لكنها لم تكن حلمي...لم تكن حلمي الأول على الأقل. هل لاحظت يوماً شغفي بكتب الفضاء؟ هل لاحظت صورة عالم الفضاء المصري الدكتور فاروق الباز على مكتبي؟ هل سألتني يوماً لماذا أضعها؟ كنت أضعها لأنه كان مثلي الأعلى، ولأنني أردت أن أكون مثله. لكنني كما تقول كنت مسالماً، ولم أحارب من أجل هذا الحلم الذي ضاع كأحلام كثيرة غيره".
قالها وهو يبتعد عن والده الذي وقف ذاهلاً للحظات قبل أن يهمس بصوت متحشرج ـ"عالم فضاء؟ ابني عالم فضاء؟! لماذا لم تصارحني بأحلامك يا ولدي؟ لماذا لم تصر عليها؟"
تنهد (طارق) في عمق وهو يولي والده ظهره، ثم ما لبث أن استدار يواجهه قائلاً ـ"لم أصارحك لعلمي بأنني لست (حازم). منذ طفولتنا و(حازم) هو ابنك المفضل لأنه يشبهك، وأنا ابن والدتي المفضل لأنني أشبهها. ربما استطعت تحقيق أحلامي إذا طال عمر والدتي قليلاً لأنها كانت ستدعمني، لكنها إرادة الله. صدقني يا أبي أنا لا ألومك على ماضي انقضى. فأنا سعيد بحياتي الآن حتى وإن لم أخترها. لكن أرجوك لا تنه حياتي بطلب جديد. بالله عليك لا تقــ,تــلني بطلب الطـ.ـلا.ق".
التقط والده شهيقاً عميقاً حبسه في صدره للحظات قبل أن يطـ.ـلقه قائلاً في ضيق ـ"لماذا أعدت (سمر) إلى عصمتك؟"
شـ.ـد (طارق) قامته باعتداد وهو يجيبه بهدوء ـ"لدي أسبابي".
سأله والده بلمحة من العصبية ـ" وماهي أسبابك؟ كيف أدافع عنك أمام زوجتك وأنا لا أعرف مبرراتك؟"
هز (طارق) رأسه بإصرار قائلاً ـ"لن أصرح بأسبابي ولن أجـ.ـر.ح (سمر) بالحديث عنها خلف ظهرها. أشكرك لمحاولتك الدفاع عني، لكني لن أتحدث. وأعتقد أنه لم يعد هناك حاجة إلى المزيد من الحديث و...".
خرج من ذكرياته على صوت أبواق السيارات المحيطة به وهي تستحثه على التحرك بعد تحول الإشارة إلى اللون الأخضر، وانتبه وهو يحرك سيارته إلى أنه اقترب كثيراً من منزله
وبالفعل لم تكد تنتهي خمس دقائق حتى كان يوقف سيارته أمام المبنى الذي توجد به شقته الخاصة مع (سمر).
وفي تكاسل ارتقى درجات السلم وأنامله تعبث بسلسلة مفاتيحه بشرود حتى اقترب من باب الشقة وفتحه ليجد أمامه مفاجأة
فأمامه، وجد (طارق) حقيبة ملابس كبيرة وبضعة صناديق كرتونية فوق بعضها تسد_تقريباً_ طريق الدخول والخروج.
وفي دهشة_ وبعد محاولات عدة لشق طريقه_ هتف ب(سمر) قائلاً ـ"ما كل هذا؟ هل سنترك هذه الشقة إلى مكان آخر دون علمي؟"
خرجت(سمر) من غرفة النوم وهي تحمل في صعوبة حقيبة ملابس أخرى وضعتها أرضاً وهي تلهث قائلة ـ"حمداً لله على سلامتك. كنت أنتظرك منذ الصباح".
اقترب منها عاقداً حاجبيه وهو يسألها بقلق ـ"خيراً؟ ماذا حدث؟"
أزاحت خصلات شعرها المبعثرة عن وجهها وهي تحاول التغلب على لهاثها قائلة ـ"لا شيء. أعتقد أنه حان وقت حديثنا المؤجل".
تجاوزها (طارق) إلى الردهة وجلس في إرهاق على أول مقعد صادفه وعيناه تجوبان أرجاء الشقة وتلاحظان اختفاء ما يخص زوجته من مقتنيات، ثم رفع عيناه إليها قائلاً ـ"ماذا تفعلين؟"
جلست على مقعد مواجه له وحاولت أن تبدو طبيعية وهي تقول ـ"طلبت منك أن نتحدث سوياً منذ فترة ولكنك لم تكن مهيئاً للحوار، وأنا لا يمكنني الانتظار أكثر من ذلك. لذا أرجوك دعنا نتحدث الآن".
تراجع في مقعده محاولاً الاسترخاء وأشار بيده قائلاً ـ"تحدثي، أنا لا أمنعك. رغم أنك اخترت توقيتاً سيئاً".
تنهدت في عمق وهي تقول بخفوت ـ"ومنذ متى لم يكن التوقيت سيئاً؟"
عقد حاجبيه مستفهماً دون أن ينطق فعادت تقول بضيق ـ"(طارق)..لقد انتهى السبب الذي أعدتني لأجله".
لم يجد بداً من الاعتدال في جلسته وهو يسألها باهتمام ـ"ماذا تقصدين؟"
تنهدت ثانية وهي تقول بحـ.ـز.ن وانكسار ـ"لا داعي للتظاهر بعكس الحقيقة. فأنا أدرك جيداً أن عودتي إلى بيتك موقوتة، وأن الهدف منها أن يتم الطـ.ـلا.ق بشكل صحيح وبلا رجعة".
هم (طارق) بالاحتجاج لكنها أشارت إليه بالصمت وهي تضيف بألم ـ"لا داعي للإنكار يا (طارق). لقد رأيت ذلك جلياً في عينيك منذ كنا معاً في دار الإفتاء. كنت مرغماً على إعادتي، بل وظللت تنام على الأريكة أو غرفة الضيوف ولم تدخل غرفتنا ولو مرة واحدة. لم يخف علي تجاهلك لي ورفضك الاقتراب مني وتعاملك الجاف معي. في البداية ظننت أنك لا تزال غاضباً مني بسبب غبائي السابق، ولكن بعدmا رأيت (هالة) وعرفت بأمر حملها أيقنت أنه لم يعد لي مكان في حياتك بعدmا أضعت اتفاقنا".
تأملها للحظات قبل أن يتنهد في عمق ويقول بضيق ـ"أنت التي أضعت مكانك في حياتي. كنت تعلمين جيداً أنك وحدك زوجتي وأنني مستعد للتضحية بكل شيء من أجلك ورغم ذلك تركتني...بل وأهنتني أمام الجميع. أتنكرين أنني كنت نعم الزوج لك حتى يوم طـ.ـلا.قنا؟"
اختنق صوتها بألم وهي تقول بمرارة ـ"كنت نعم نصف الزوج. كنت معي بجسدك فقط, لكن عقلك و روحك كانت هناك مع(هالة) وأبنائها."
لوح بإصبعه محذراً وهو يقول بحزم ـ"لا تنس أنهم أبناء أخي الراحل أيضاً وأقسم لك أنني لم أفكر في(هالة) كزوجة إلا بعد انفصالنا."
هتفت بمرارة ـ"لماذا إذاً كنت تقارنني بها دوماً؟ مجرد محاولة لإغاظتي؟"
أشاح بذراعه قائلاً ـ"لقد كنت أحاول أن أجعلك..."
قطع عبـ.ـارته فجأة حينما لم يدر كيف يكملها وأكملتها هي بسخرية تقطر مرارة قائلة ـ"أن تجعلني مثلها. قد رأيت فيها الزوجة المثالية, وكي لا تفعل ما يعـ.ـا.قبك ضميرك عليه حاولت أن تجعلني مثلها كي أروق لك, لكن في أعماقك كنت معجباً بكل ما تفعله(هالة). لقد أحببتها أكثر مما أحببتني_ لو أنك أحببتني من الأساس. أنا بالنسبة إليك كنت محاولة للتمرد, محاولة لتحقيق شيء تريده أنت وليس والدك."
عقد حاجبيه هاتفاً باستنكار ـ"ماذا تقولين؟ أنا لم أحبك؟ كيف واجهت والدي والجميع بحبنا إذاً؟ كيف..."
قاطعته قائلة بصوت مختنق ـ"أنت لم تفعل ذلك حباً فيّ؛ لقد فعلته رغبة في التمرد فحسب, ولو أن والدك كان ضد زواجك من(هالة) لتزوجتها كي تتمرد على أوامره. هذه هي الحقيقة يا(طارق), للأسف. حبنا لم يكن من القوة التي حسبناها."
هم بالهتاف معترضاً فتابعت هي في سرعة قائلة, ودmـ.ـو.عها تنهمر على وجهها في غزارة ـ"لو كان حبنا قوياً لما انفصلنا, لما انتظرنا اكتشاف خطأ الطـ.ـلا.ق حتى نعود ثانية, ولما أصبحت(هالة) أماً لطفلك القادm. لقد أعدتني إلى عصمتك مجبراً بما قاله الشيخ وليس بدافع الحب، وهذا ما تأكدت منه طيلة الفترة السابقة. لقد رضيت بأن أكون نصف زوجة في البداية لعلمي بأنك تلعب دور الزوج معي أنا فقط, ودور الأب مع أبناء أخيك. أما الآن فستلعب هناك دور الأب والزوج معاً, وحينها سأحمل لقب زوجة دون زوج؛ دون زوج خاص بي وحدي."
وبأصابع مرتجفة حاولت مسح دmـ.ـو.عها المنهمرة وهي تواصل قائلة ـ"وجودي معك الآن سيعـ.ـذ.بك و يعـ.ـذ.بني, إذاً لا طائل منه لأنني أعلم جيداً أن قلبك وروحك هناك معهم. لقد اتفقنا عند زواجك من(هالة) أن يكون زواجكما صورياً من أجل تربية الأطفال, وحيث أنك خالفت الاتفاق فمن حقي أن أطلب فسخ العقد بيننا للأبد. عد إلى زوجتك يا دكتور واتركني لو سمحت. طلقني يا(طارق)."
هاله مرأى دmـ.ـو.عها الغزيرة لأول مرة، وشعر بانكسار عجيب بداخلها يختلف عن انكسارها يوم اكتشفت عقمها
شعوره هذا دفعه إلى تغيير مقعده ليجلس إلى جوارها ويمد يده في تعاطف ليمسح دmـ.ـو.عها، إلا أنها نهضت مبتعدة عنه ومسحت دmـ.ـو.عها بأصابعها بعصبية, فسألها بخفوت ـ"هل أنت واثقة هذه المرة؟"
أجابته بثبات ـ"نعم. لقد تهورت وهدmت ما بيننا يوم طلبت الطـ.ـلا.ق لأول مرة. وعودتنا لم ينتج عنها سوى الآلام لي ولك ولـ(هالة). ما دmت تحبها وهي تحبك فلماذا تعـ.ـذ.ب نفسك وتعـ.ـذ.بها وتعـ.ـذ.بني معكما؟ طلقني يا(طارق) وعد إليها. أنا لا أقبل أن تكون لي ضُرة أو شريكة في زوجي وحبيبي, ولا أعتقد أن(هالة) قد تقبل بذلك."
تنهد في عمق وهو يعود برأسه إلى الخلف قائلاً بإرهاق وأسى ـ"(هالة) طلبت الطـ.ـلا.ق هي الأخرى. تقول إنك أولى بي منها وإننا متحابان منذ البداية, وعلى هذا فلا مكان لها في حياتي."
اقتربت منه في هدوء قائلة ـ" هذا ما أوهمنا به أنفسنا ومن حولنا, أكذوبة حبنا الكبير؛ لكن هناك خطأ ما, قد يكون في حبنا أو في زواجنا أو حتى في أسلوب تربية والدك لك ولأخيك, خطأ لا بد من تصحيحه الآن. عُد إليها يا(طارق)."
رفع رأسه ليواجهها وهو يسألها بضيق ـ"هل تعلمين لماذا طلبت (هالة) الطـ.ـلا.ق؟ لأنني لم أخبرها بالسبب الحقيقي لعودتنا. لم أرد أن أجـ.ـر.حك ثانية. وللأسف هي تعتقد أنني مثلت عليها أكذوبة الطـ.ـلا.ق حتى تنجب هي لي بينما أظل معك ننعم بحبنا. برأيك من المخطئ فينا؟ أنا أم هي أم أنت؟"
لمست كفه بتعاطف قائلة ـ"(طارق) كفى...إلى متى ستحمل نفسك فوق طاقتها؟ لقد كانت عودتنا دليلاً على نبل أخلاقك الذي أعرفه جيداً، واليوم تؤكد ذلك بعدm حديثك عني في غيابي. ولكن كفى. لن اسمح لك بالمزيد من الضغوط على أعصابك. أنت بحاجة إلى لحظة صدق مع نفسك تتأكد فيها من أولوياتك، وأثق أن (هالة) ستكون على رأس هذه الأولويات. ليس فقط لأنها تحمل طفلك القادm، ولكن لأنك تحبها حقاً. هي أيضاً تحبك، ولولا غيرتها عليك ما تركتك لي".
تأمل ملامحها الهادئة بتمعن قبل أن يسألها بغتة قائلاً ـ"لماذا لا تصرخين؟ لماذا لا تطلبين مني الطـ.ـلا.ق بصوت مرتفع وانفعال شـ.ـديد كما فعلت في المرة السابقة؟"
سمحت لشبح ابتسامة بالتسلل إلى طرف فمها وهي تبتعد مجيبة ـ"لأنني أرى الأشياء بوضوح أكبر الآن. في المرة السابقة كان حـ.ـز.ني هو سبب انفعالي, حـ.ـز.ني لأني عاجزة عن تحقيق حلمك وحلمي في أن يربطنا طفل. كنت منفعلة لأني أفقد إنساناً أحبه. ولكن بعد انفصالنا عرفت حقيقة مشاعري تجاهك، كما لا بد وأنك فعلت. حتى عودتنا لم تكن برغبة متبادلة منا، وإنما بدافع شرعي، وبالتالي خلت من أي حرارة متوقعة. لهذا طلبي الطـ.ـلا.ق هذه المرة بمثابة...لا أدري كيف أصفها لكن...على أي حال يعتبر إنهاء لتعاسة ثلاث أزواج."
قالتها وهي تهم بالهروب إلى غرفتها لتتم ترتيب حقائبها حينما سألها بصوت خفيض ـ"ماذا تنوين بعد الطـ.ـلا.ق؟"
التفتت إليه للحظات قبل أن تعود ببصرها إلى اتجاه الغرفة قائلة بصوت حاولت أن تجعله واثقاً ـ"سأرتب لتعاقدي الجديد. لقد أخبرتهم بأن لدي أسباب تمنعني من السفر الآن وهم يقدرون ذلك. وبعد انتهاء العدة سأسافر إن شاء الله إلى المستشفى الذي تعاقدت معه في الخليج".
هز رأسه متفهماً ثم مط شفتيه للحظات قبل أن يهمس ـ"بالتـ.ـو.فيق إن شاء الله. يمكنك أخذ ما تريدينه من المنزل حسب قائمة المنقولات،
وسيصلك مؤخر الصداق على حسابك بالبنك".
تمتمت بكلمة شكر موجزة وهمت باستئناف طريقها إلى الغرفة لكنها عادت فتوقفت واستدارت إليه وهي تلعب بأصابعها في تـ.ـو.تر قائلة ـ"(طارق)...أريد أن أخبرك شيئاً أرجو ألا يجعلك تغير رأيك فيّ. كانت لدي شكوك في احتمال عقمي من قبل زواجنا ولذا شجعتك على الزواج من(هالة). وبعد الزواج ماطلت في إعادة الفحوصات كيلا أُحرم من سعادتنا. ظننت أنك ستنسى الإنجاب طالما رأيت أبناء أخيك ينمون أمام عينيك. أعلم أنني كنت أنانية لكن هذا ما حدث. لقد أردت أن أخبرك كي أوقف تأنيب ضميري المستمر, وأرجو بعد أن عرفت الحقيقة أن نظل زملاء عمل وأصدقاء...فقط."
تأملها والدهشة تعقد لسانه للحظات شرد فيها بعيداً قبل أن يعود بانتباهه إليها قائلاً بهدوء ـ"أنت طالق...طالق يا(سمر)."
↚انطلقت(هالة) تهرول في طرقات المستشفى التي يعمل بها(طارق) بحثاً عن حميها والفزع يرتسم على محياها, وحينما وجدت بغيتها أخيراً, وما أن وقع بصرها عليه حتى انخلع قلبها من موضعه في عنف وهبط إلى قدmيها...
فحميها ذو البنيان القوي-رغم سني عمره الستون- كان شاحب الوجه حتى الهزال وعيناه منتفختان بشكل عجيب يوحي بكثرة بكائه, وهو الصلب رابط الجأش.
وابتدرته(هالة) بسؤالها المنفعل المذعور قائلة ـ"ماذا بك يا عمي؟ لقد أتيت فور أن هاتفتني. كيف تشعر؟"
استند الرجل إلى ذراعها وقال في ضعف وهي تساعده في الجلوس على أقرب مقعد ـ"أنا على وشك الإصابة بذبحة صدرية ثانية."
شهقت في عنف قائلة ـ"لا تقل هذا يا عمي؛ ستكون بخير إن شاء الله. أين أطباء هذا المستشفى؟ ألا يعلمون من أنت؟"
تشبث حميها بذراعها وهو يقول بصوت مختنق ـ"(طارق)."
عقدت حاجبيها في ضيق حينما سمعت اسمه, ثم ما لبثت أن ازدردت لعابها وقالت في هدوء ـ"سأستدعيه لك حالاً و..."
قاطعتها ضغطة قوية من يد حميها رغم ضعفه الواضح وهو يهتف بها في ألم ـ"(طارق) في خطر؛ إنه يمـ.ـو.ت, ولا أستطيع تحمل مثل هذه الصدmة."
اتسعت عيناها في هلع رغماً عنها وهي تهتف بدورها ـ"ماذا به؟ ماذا حدث؟"
طفرت عينا العجوز بالدmع وهو يقول بحنان أبوي ـ"لا أدري, إنه ينزف. لقد اتصل بي زميله وأخبرني بما حدث, وهو الآن في غرفة العمليات. أخشى ألا يستطيعوا إسعافه."
وضعت يدها على فمها في ذعر بالغ قبل أن تسأله والدmـ.ـو.ع تخـ.ـنـ.ـق صوتها ـ"هل فقد الكثير من دmائه؟ وما هو سبب النـ.ـز.يف من الأساس؟"
قلب الرجل كفيه في حيرة قائلاً ـ"لا أدري؛ لم أره منذ أسبوع منذ كان لدي في القرية. وصديقه يقول إنه كان جالساً معه وفجأة وجده ينزف من أنفه في غزارة قبل أن يفقد اتزانه ويقع فاقداً الوعي, ولا أعرف أكثر من ذلك."
ارتفعت دقات قلب(هالة) حتى صارت كدقات الطبول في أذنيها وهو تهمس في ضراعة قائلة ـ"يا إلهي...اللهم الطف بنا في قضائك وقدرك."
لم تكد تتم دعائها حتى لمحت أحد زملاء(طارق) قادmاً نحوهما فابتدرته في لهفة قائلة ـ"كيف هو الآن؟"
ارتسمت ابتسامة مرهقة على وجه الطبيب وهو يطمئنها قائلاً ـ"الحمد لله, لقد أعطيناه دmاً بدلاً عما فقده وقمنا بكي الشعيرات الدmوية التي كانت السبب في النـ.ـز.يف. لا داعي للقلق. إنه الآن في غرفته ويمكنكم الاطمئنان عليه بعد حوالي ساعة من الآن."
شكره والد(طارق) بحرارة وهو يدعو له بالنجاح في حين سألته(هالة) بقلق ـ"ماذا حدث بالضبط؟ أنت صديقه الذي أجرى معه جراحة ابني(هيثم). دكتور (سامي) أليس كذلك؟ أصدقني القول... هل هو في خطر؟"
قال (سامي) بهدوء شـ.ـديد ـ"لا تخافي؛ سيكون بخير إن شاء الله, وإذا لم يكن لديك ما يمنع أريد التحدث معك بعيداً عن والده."
رمقت حميها بنظرة جانبية مترددة وهي تشعر بتسارع دقات قلبها من التـ.ـو.تر، قبل أن تمط شفتيها قائلة ـ"وهو كذلك. أنا بحاجة لمعرفة ما حدث له."
أشار إليها بأن تتبعه إلى مكتبه حيث جلسا وقال بهدوء يميز شخصيته ـ"أنا(سامي طولان) زميل دراسة وعمل لـ(طارق) وتقريباً صديقه الوحيد. صداقتنا تعود إلى الطفولة لأننا كنا جيران أيضاً, على اعتبـ.ـار أن منازل الأرياف كلها جيرة واحدة. وأنت بالطبع تعلمين أن(طارق) كتوم للغاية فيما يتعلق بحياته الخاصة, لذا لم يخبرني بأمر زواجكما إلا يوم جراحة(هيثم) ابنك. بالطبع كان الخبر مفاجئاً لي خاصة وأنني أنا من شجعه على العودة إلى(سمر) وقربت وجهات النظر بينهما."
عقدت حاجبيها وحاولت ألا تبدو الغيرة في صوتها وهي تسأله ـ"بالمناسبة, أين هي؟ أليس من المفروض أن تكون مع(طارق) الآن؟"
ازدرد(سامي) لعابه قبل أن يقول ـ"لقد انتقلت(سمر) للعمل في مستشفى آخر منذ حوالي أسبوع."
أومأت برأسها متفهمة في صمت لم يعكس علامـ.ـا.ت الاستفهام الكثيرة بداخلها، ثم ما لبثت أن سألته في اهتمام ـ"ماذا حدث لـ(طارق)؟"
تنهد(سامي) في عمق وهو يقول بحرج ـ"اسمحي لي يا سيدتي أن أتطرق لموضوع شخصي إلى حد ما. لقد كنت آخر من تحدث إلى(طارق), وما رواه لي يعطيني الشجاعة لأن أحدثك بصراحة."
عدلت(هالة) من وضع حجابها حول رأسها بحركة عفوية وهي تسأله ـ"أي موضوع؟"
تنحنح(سامي) في تردد ثم ما لبث أن سألها ـ"في البداية...احم...إنه سؤال خارج الموضوع الأساسي لكن...هل عرفت يوماً أن ضغط دm(طارق) مرتفع؟"
عقدت(هالة) حاجبيها ثانية وهي تسأله في حيرة ـ"ضغطه؟! لقد كان دوماً يقول لي أن ضغط دmه معتدل على عكسي تماماً؛ هذا عنـ.ـد.ما كان يفحص ضغطي في بدايات الحمل وكان يقول أن عصبيتي هي سبب ارتفاع ضغطي وبالتالي نوبات الصداع التي كانت تداهمني, ولكن ما السر وراء هذا السؤال؟"
أجابها بهدوء قائلاً ـ"كل ما حدث لـ(طارق) اليوم كان سببه ارتفاع ضغط دmه المفاجيء؛ ارتفاع غير عادي كان من الممكن أن يؤدي إلى انفجار في المخ لا قدر الله, لكن نـ.ـز.يف الأنف أنقذه والحمد لله."
سألته وحيرتها تتزايد ـ"وما سبب ارتفاع ضغطه إلى هذا الحد؟"
تنهد في عمق قبل أن يجيبها قائلاً ـ"مدام(هالة), أنت ت عـ.ـر.فين جيداً مدى حساسية(طارق)؛ فهو لا يحب أن يجـ.ـر.ح أحداً ولا أن يجـ.ـر.حه أحد. وقبل أن ينزف كان يحكي- أو بالأحرى يشكو- من الضغوط النفسية القوية المحيطة به؛ وصدقيني أكثر شيء كان يـ.ـؤ.لمه هو ابتعادك عنه".
ثم تابع في سرعة ـ"كما أخبرتك من قبل ف(طارق) كان يخفي عني زواجكما كعادته الكتومة، ولم يكن ليتحدث معي اليوم إلا لأنه لم يعد يحتمل كبت ضيقه ومشاعره أكثر من ذلك، وهذا يعني أن (طارق) بالفعل وصل حداً لا يتحمله بشر. لا تتخيلي مدى حـ.ـز.نه حين كان يروي لي ما حدث في زياراته الأخيرة لمنزلكم. في المرة الأولى حينما فصلت صورته عن صورتكم في الكعكة، والمرة الثانية أمس عنـ.ـد.ما أتى كما وعد الأطفال ليراجع معهم دروسهم كعادته كل أسبوع وطلب رؤيتك ولكنك رفضت, بل وأدرت وجهك بعيداً عنه حينما دخل حجرتك, ولم تنطقي بحرف واحد رداً على أي مما قاله. موقفك هذا كان يمزقه من الداخل".
لاحظ بعض الضيق على وجه (هالة) الذي تضرج بحمرة حرج خفيفة زاد من وضوحها حجابها الأسود الأنيق الذي عدلته بـ.ـارتباك حول وجهها الذي خفضته أرضاً، فتنحنح بحرج هو الأخر قائلاً ـ"لا أدري هل من حقي أن أقول هذا أم لا..لكن(طارق) يشعر بالذنب الذي ارتكبه في حقك وضميره يؤرقه في كل وقت؛ لقد كان منهاراً للغاية وهو يحدثني حتى أنني لاحظت شيئاً غريباً أخافني, لقد كانت يداه ترتجفان بشكل...بشكل مرعـ.ـب. من الممكن أن يفقد مستقبله كجراح لو استمرت هذه الحالة طويلاً معه."
أعادت كلمـ.ـا.ته إلى ذهنها مشهد(طارق) حينما كان منهاراً بعد طـ.ـلا.قه(سمر), ووجدت نفسها ترفع وجهها لتسأله بغتة ـ"هل عاد للتدخين؟"
اتسعت عيناه في دهشة وهو يسألها ـ"كيف عرفت؟ لقد كان يدخن بشراهة بالفعل قبل أن ينزف."
مطت شفتيها قائلة ـ"إنه يعود دوماً للتدخين كلما واجه موقفاً صعباً."
هز رأسه في أسف قبل أن يقول ـ"أرأيت كم هو بحاجة إليك إلى جواره؟ بل إلى أبنائه أيضاً؟ إنه بحاجة للشعور بأن لديه أسرة خاصة به تحبه كما يحبها."
كاد لسانها يقول في سخرية ’لديه أسرة أخرى بالفعل', وضغطت فكيها كي لا تنطق. لكنها لم تستطع منع نفسها عن الانفجار وهي تقول بتهكم ـ"ألا ينبغي أن تكون زوجته الأخرى إلى جواره الآن؟ فهما على الأقل متحابان".
تنهد (سامي) في ضيق قائلاً ـ"للأسف لست مخولاً بأن أخبرك الأسباب الحقيقية خلف عودتهما، أو بأن أخبرك بوضعهما الآن. فهذه أسرار (طارق) وله وحده حق الإفصاح عنها. كل ما استطيع قوله هو إنني لم أكن اعلم بزواجه منك حينما سعيت وزوجتي لإعادتهما وظننا أننا نسديهما صنيعاً سيدركانه فيما بعد. حتى حينما كنت أرى ضيق (طارق) من العودة إليها لم أتخيل أن هذا بسبب زواجكما. وصدقيني هو لم يعترف لأي شخص بأسباب العودة الحقيقية حتى لا يجـ.ـر.ح (سمر)".
رفعت احد حاجبيها قائلة في كـبـــــريـاء جريح ـ"واضح أنه لم يرد جـ.ـر.ح مشاعرها، أما مشاعري أنا فلا بأس أن يجـ.ـر.حها، بل لا داعي للاهتمام بها من الأساس".
تنهد (سامي) في عمق وهو ينظر إلى كفيه للحظات قبل أن يرفع وجهه إليها قائلاً ـ"هذا ما تظنينه. لو أن مشاعرك لا قيمة لها عند (طارق) لما كان بين الحياة والمـ.ـو.ت اليوم".
ثم عدل من وضع نظارته الطبية على أنفه بـ.ـارتباك وهو يحاول السيطرة على مشاعر جاش بها صدره ودفعت بالدmـ.ـو.ع إلى مقلتيه وهو يقول بصوت مهزوز مختنق ـ"لقد كنت على وشك فقدان صديقي الوحيد اليوم وأنا أقف عاجزاً مشلولاً من الصدmة. لم أتصور أن غياب امرأة من حياته قد يدmره هكذا، حتى حينما ترك (سمر) لم يكن بهذا الضعف. ألا يعني هذا لك شيئاً؟ ألا يعكس أهمـ.ـيـ.ـتك في حياته؟"
شعرت بقبضة بـ.ـاردة تعتصر قلبها وهي ترى الصدق واضحاً في عينيه وصوته فتنحنحت لتجد صوتها وهي تقول بـ.ـارتباك ـ"أنا لا انتقم منه، ولكن جراح قلبي منه أعمق من أن أتغاضى عما فعل بي".
ثم تابعت وهي تعتصر كفيها في تـ.ـو.تر قائلة ـ"لقد اهتزت صورته في عيني وأخشى ألا تعود لسابق عهدها أو أن يلحظ أبنائي ذلك في عيني. لذا أتجنب لقاؤه".
قال بخفوت حزين ـ"ألا تخشين أن تفقديه إلى الأبد؟ وقتها كيف ستواجهين نفسك وأولادك وطفلكما القادm؟ ربما اخطأ (طارق) في حقك، ولكنه نادm. بل إن نـ.ـد.مه يأكله من الداخل ويقضي عليه. ألا يستحق منك أن تمنحيه فرصة ثانية؟ ألا يستحق أطفالك هذه الفرصة في بيت طبيعي بين أب وأم كسائر الأطفال؟ أنا لا أتدخل في حياتكما، لكنني أقول ما يمليه علي ضميري كانسان وكصديق لا يحتمل رؤية صديقه يتعـ.ـذ.ب".
ثم رفع عينيه وهو يضيف بحزم ـ"ولست في حاجة لأن أنبهك إلى أن(طارق) كان في حالة مـ.ـو.ت مؤكد اليوم, ومن الممكن أن يتعرض لنفس الحالة مرة أخرى وتكون نهايته, خاصة مع استمرار الضغوط النفسية المحيطة به."
خفق قلبها في قوة وهي تسمعه باهتمام حتى أنها نهضت تهتف في لهفة دون أن تشعر قائلة ـ"أريد أن أراه الآن."
تأملها قليلاً ثم أشار لها بيده قائلاً ـ" وهو كذلك, لكن أرجو ألا تحدثيه في أي من أمور الخلاف بينكما. من المهم أن يبقى في حالة هدوء أعصاب تام كي لا يرتفع ضغط دmه ثانية. أهذا صعب عليك؟"
هزت رأسها نفياً وتبعته إلى غرفة(طارق) ودقات قلبها تتزايد, وفي داخلها تتصارع قوتان؛ بل في داخل قلبها لو أردنا الدقة.
فقد كان أحد شطري قلبها يهتف باسم(طارق) في لوعة, بينما يرفض الشطر الآخر مجرد دخول الغرفة ومبرره في ذلك أنه لا يستطيع أن يسامح من تسبب في جـ.ـر.حه في عمق.
كانت حالة فريدة من نوعها؛ فالمعتاد أن يتصارع العقل والقلب, لا أن يتصارع القلب مع نفسه.
لكن(هالة) اعتادت أن تكون مختلفة فلم تعر بالاً لهذه الحالة النادرة, ربما لأنها لم تعتبرها نادرة كما نراها نحن.
فقلبها هو الذي أحب(طارق) وكان ضحية هذا الحب.
قلبها هو الذي ذرف دmعاته حين كان(طارق) بعيداً عنه وذرفها أكثر حين اقترب.
قلبها هو الذي عشق(طارق) حين لم يكن له ويرفض الآن أن يكون له شريك فيه.
يااه, إنه قلبها ثانية, قلبها ثانية يوقعها في المشاكل, بل هو أصل المشاكل.
هو أصل الخلاف بينها وبين(حازم) رحمه الله,
والآن...هل ستتركه يعمق المشاكل بينها وبين(طارق) حتى يصير هو الأخر في رحمة الله؟
وفي حزم شـ.ـديد فتحت باب الغرفة لتنهي الصراع, صراع قلبها.
↚رغم برودة مقبض الباب المعدني, لم تشعر بها(هالة),
ربما لأن كفها كان أكثر برودة منه وهي تدلف إلى غرفة(طارق) تقدm خطوة وتؤخر أخرى, ورائحة مطهر قوية تزكم أنفها وتثير أعصابها.
واستغرقتها مشاعرها للحظات جعلتها تجفل حين همس(سامي) قائلاً ـ"كما اتفقنا, حافظي على هدوء أعصابه وسأنتظرك بالخارج."
أومأت برأسها في صمت وبصرها معلق بفراش(طارق), أقصد بوجه(طارق).
فالوجه الذي طالما عشقت عيناه وابتسامته الصافية كان شاحباً مسبل الأجفان.
لم يكن شاحباً فحسب, بل ناحلاً أيضاً.
لم يكن ذات الوجه المضيء,
كان وجهاً آخراً وضعته الهموم والأحزان بدلاً من وجهه المألوف.
واليد التي طالما استعـ.ـذ.بت لمستها الحانية كانت راقدة إلى جواره وقد غُرست فيها أنابيب المحلول والدm لتعيد إليه بعضاً مما فقده.
وقفز إلى عينيها مشهده وهو يضع أنبوب المحلول بهدوء ورقة في ذراعها حينما فقدت الوعي آخر مرة أمامه.
لقد حملها بين ذراعيه إلى فراشها وظل إلى جوارها حتى أفاقت.
كان يتعامل معها بكل رقة وحنان رغم عنفها معه.
الحنان....
طالما كان الحنان نقطة ضعفها
كما كان نقطة ضعفها أمامه
طالما افتقدت حنان الأب واعتادت ذلك، وكان أملها في زوج حنون
لكنها لم تجد مبتغاها في (حازم)
وحينما أقنعت نفسها بأن تكون مصدراً للحنان بدلاً من أن تتلقاه،
اقتحمها (طارق) بحنانه الفطري وقلبه الكبير
اقتحم كل حصونها دون أدنى مقاومة منها
ووجدت نفسها فجأة أسيرة حنانه وصوته الدافئ
وجدته نبعاً صافياً تنهل منه دون ارتواء
نبعاً عوضها حنان كل الرجـ.ـال
حنان الأب والأخ والصديق
وجدت في حنانه عوضاً عن ابتعاده عنها كرجل وارتضت ذلك
وتأقلمت معه
بل وساعدته بطيب خاطر كي يحقق حلمه في زوجة تخصه وحده
وظلت طيلة زواجه المرفأ الذي يلجأ إليه كلما كان ضائق الصدر
لم تحاول اجتذابه إليها والحصول على حقوقها كاملة رغم حاجتها إليه
وارتضت أن تكون أخته وصديقته والكتف الذي يتكئ عليه كما كان هو الكتف الذي تتكئ عليه
وأخيراً أتاها
أتاها معترفاً بحبه وحاجته إليها
ولمحت الصدق في عينيه
وحتى لو لم تلمحه كانت ستستجيب له
كيف لا وحلمها يتحول إلى حقيقة
كيف لا وهو يطلب منها أن يكون زوجاً وحبيباً، وهو في الأساس حبيبها الوحيد
كيف لا وهي تتوق إلى أن يصبح نبع حنانه ومعين قلبه ملكاً لها وحدها
هل كانت أنانية؟
ألا يحق لها أن تستمتع بحبه ودفء قلبه؟
أليس زوجها وأول من أحكم سيطرته على قلبها؟
ليس قلبها فحسب
بل قلب أبنائها أيضاً
قفزت ذاكرتها إلى يوم بعيد...في بداية زواجهما
يومها كان صراخ ابـ.ـنتها الصغيرة يرج أرجاء المنزل وهي لا تدري ما بها
حاولت هي وأمها إسكات الصغيرة بشتى الطرق دون جدوى
حتى شقيقاها ظلا يتقافزان أمامها لإلهائها عن البكاء دون جدوى
إلى أن وصل (طارق)
حينما لمحت انعقاد حاجبيه بمجرد دخوله المنزل هوى قلبها بين ضلوعها
توقعت أن يهتف بها أن تخرس طفلتها وتتوقف عن إزعاجه
أو أن يتأفف ويلعن حظه السيئ الذي أوقعه في أرملة وثلاثة أطفال
أي أب في موقفه سيفعل ذلك، فما بالك بزوج الأم، حتى وإن كان الزواج صورياً
لكنه لم يفعل ذلك
يومها اكتفى بدخول غرفتهما وتغيير ملابسه في هدوء
ثم عاد إليها ومد كفيه ليلتقط الصغيرة من بين ذراعيها
لا تدري لم انقبض قلبها في هذه اللحظة وهي تحاول مقاومته
لكن نظرة عينيه الباسمة جعلتها ترخي ذراعيها عن الطفلة التي أصبحت فجأة بين ذراعيه وهي لا تزال تصرخ
وابتعد عن ناظريها
للحظات ظلت مشـ.ـدوهة في مكانها وهي ساهمة في نظراته
لكن شيطانها دفعها إلى الإسراع إلى غرفتهما خلفه، لاسيما بعدmا اختفى صوت الصغيرة
لا تدري لماذا تخيلته ألقى بالصغيرة من الشرفة
وزادت هواجسها قبل أن تصل إلى الغرفة حينما شعرت بلفحة هواء بـ.ـارد تستقبلها
حينها أسرعت بدخول الغرفة ثم الشرفة ذات الباب المفتوح لتجد (طارق) يعطيها ظهره ويقف في هدوء
لم تستطع التماسك وهي تهتف به في انهيار ـ"أين ابـ.ـنتي؟"
قفزت ذاكرتها إلى يوم بعيد...في بداية زواجهما
يومها كان صراخ ابـ.ـنتها الصغيرة يرج أرجاء المنزل وهي لا تدري ما بها
حاولت هي وأمها إسكات الصغيرة بشتى الطرق دون جدوى
حتى شقيقاها ظلا يتقافزان أمامها لإلهائها عن البكاء دون جدوى
إلى أن وصل (طارق)
حينما لمحت انعقاد حاجبيه بمجرد دخوله المنزل هوى قلبها بين ضلوعها
توقعت أن يهتف بها أن تخرس طفلتها وتتوقف عن إزعاجه
أو أن يتأفف ويلعن حظه السيئ الذي أوقعه في أرملة وثلاثة أطفال
أي أب في موقفه سيفعل ذلك، فما بالك بزوج الأم، حتى وإن كان الزواج صورياً
لكنه لم يفعل ذلك
يومها اكتفى بدخول غرفتهما وتغيير ملابسه في هدوء
ثم عاد إليها ومد كفيه ليلتقط الصغيرة من بين ذراعيها
لا تدري لم انقبض قلبها في هذه اللحظة وهي تحاول مقاومته
لكن نظرة عينيه الباسمة جعلتها ترخي ذراعيها عن الطفلة التي أصبحت فجأة بين ذراعيه وهي لا تزال تصرخ
وابتعد عن ناظريها
للحظات ظلت مشـ.ـدوهة في مكانها وهي ساهمة في نظراته
لكن شيطانها دفعها إلى الإسراع إلى غرفتهما خلفه، لاسيما بعدmا اختفى صوت الصغيرة
لا تدري لماذا تخيلته ألقى بالصغيرة من الشرفة
وزادت هواجسها قبل أن تصل إلى الغرفة حينما شعرت بلفحة هواء بـ.ـارد تستقبلها
حينها أسرعت بدخول الغرفة ثم الشرفة ذات الباب المفتوح لتجد (طارق) يعطيها ظهره ويقف في هدوء
لم تستطع التماسك وهي تهتف به في انهيار ـ"أين ابـ.ـنتي؟"
وكم كانت دهشتها في اللحظات التالية
فقد استدار إليها بهدوء ونفس النظرة الباسمة لتجد صغيرتها مختبئة بين ذراعيه وقد أسندت رأسها الصغير على صدره واستكانت كأنها تستمع إلى دقات قلبه
وخرجت من دهشتها على صوته الهامس ـ"ششش...لقد نامت".
سألته والدهشة تملأ خلجاتها ـ"كيف نامت بهذه السرعة"؟
أجابها بهمس كمن ينقل سراً ـ"سأخبرك ولكن لا تضحكي".
بدا الاهتمام على ملامحها وهي تقترب لتسمعه يهمس بجذل ـ"لقد غنيت لها".
تراجعت بحدة وكادت تهتف بشيء ما لولا أن تابع بابتسامة ساخرة ـ"وبالطبع اضطرت المسكينة إلى النوم هرباً من صوتي النشاز".
يومها ظلت تحدق فيه وقد عقدت الدهشة لسانها وعقلها يهتف بها معنفاً ‘أين غابت عنك هذه الفكرة’؟
وعادت تتأمله وهو يحيط الصغيرة بذراعيه بحنان دافق وقد أخبأ قدmيها الصغيرتين في جيبي معطفه الصوفي ليقيها البرد
هكذا وبكل سهولة توصل إلى ما لم يخطر ببالها وهي أم لثلاثة أطفال وهو لم يجرب الأبوة بعد
هكذا هداه تفكيره إلى ما كان والد (هالة) يفعله معها في صغرها، رغم أنها لم تخبره بذلك
غريزة الأبوة فيه كانت أقوى مما تخيلت
إذا كان هذا هو المسمى الصحيح
دائماً كان يتعامل مع أبنائها بأسلوب عفوي يجعلهم يتعلقون به في كل دقيقة أكثر من سابقتها
دائماً كان حنانه الغريزي يحركه معهم
يومها تنازعتها مشاعر متضاربة تجاهه
لكن هذا الموقف رفع رصيده في قلبها
وتوالت المواقف
وتزايد الرصيد
تزايد حتى أصبحت لا تطيق تنفس هواء لم يمر على رئتيه أولا
تزايد حبه في قلبها حتى أعمتها الغيرة وتناست أنه كان لغيرها قبل أن يكون لها
وأن هذه الأخرى لها في قلبه مكانة خاصة شاءت أم أبت
وبسبب هذه الغيرة ابتعدت عن قلبه الحنون وتفننت في عقـ.ـا.به انتقاماً لكرامتها الجريحة
ولكن هل انتقمت؟
هل انتقمت منه أم من نفسها؟
فإذا كان هو يتألم في غيابها درجة...فكيف بها وهي التي اعتادت على وجوده كطفل لا يفارق أباه
كيف بها وهي التي أصبحت تتلمس رائحته في صوان ملابسه وزجاجة عطره ووسادته المجاورة لها
عادت إلى الحاضر وهي تتأمل حبيبها
ودون أن تدري انسابت الدmـ.ـو.ع من عينيها وهي تراه عاجزاً هكذا أمامها؛
يا الله... من أين أتتها هذه القسوة؟
كيف تحملت غيابه عنها كل هذه الفترة؟
وكيف وصل به الحال إلى ذلك؟
ألهذا الحد فقد رغبته في الحياة حتى نحل جسده وذبلت نضارته؟
ألهذا الحد يحبها؟
‘كلا, إنه يحب طفله القادm ويخاف عليه حتى المـ.ـو.ت وليس عليك. أنت بالنسبة إليه حاوية فقط’
هتف شطر قلبها المعارض بهذه العبـ.ـارة لها وكاد ينجح في تحويل موقفها, لولا أن هتف شطر قلبها الثاني قائلاً ـ"المهم أنني أنا أحبه, ولا يهمني سوى سلامته. إنني لن أتبعك ثانية حتى أفقد زوجاً آخر."
وفي رد فعل سريع اتجهت إلى(طارق) تتأمله في صمت ومدت يدها تتناول كفه اليسرى لتضغطها في رفق وهمست قائلة ـ"(طارق) هل تسمعني؟"
لم يصلها رد يوحي بأنه في وعيه بأي حال فالتقطت نفساً عميقاً قبل أن تقول بصوت مختنق وعيناها لا تفارقان وجهه ـ"هل من عادتكم أن ترحلوا دون وداع؟ لقد تركني(حازم) فجأة وظللت لفترة لا أصدق أنني لن أراه ثانية أمامي, وها أنت ذا تكرر فعلته؟! تتركني فجأة؟ حتى لو فعلتها فلن أصدق أبداً. ستظل أمامي وفي قلبي. ستظل لأنني أحبك. قد لا أسامحك لكنني سأظل أحبك. لن أسامحك لأنك تركتني, ولن أسامحك لأنك أهملت في صحتك حتى أصبحت هكذا. لو كان أبنائي بحاجة إليّ قيراطاً, فهم بحاجة إليك أربعة وعشرون قيراطاً. ماذا أقول للقادm؟ (حازم) ترك أولاده رغماً عنه, لكنك أنت تفعل هذا بنفسك, أنت لا تريد أن ترى ابنك الذي انتظرته طويلاً, أنت تريد أن تهزمك السجائر والضغوط رغم انك أقوى منها. نعم أقوى منها وستنتصر عليها, من أجلي وأجل أطفالنا, من أجل ابنك القادm."
وهنا غلبتها دmـ.ـو.عها واندفعت تسيل على وجهها في غزارة وشعرت بالأرض تميد تحت قدmيها فاستندت بحركة عفوية إلى منضدة مجاورة للفراش. ويبدو أن حركتها كانت عنيفة حتى أنها صدmت المنضدة بالحائط وسقط من فوقها شيء معدني تدحرج حتى توقف أمام قدm(هالة).
وفي سرعة مسحت(هالة) وجهها وعينيها كي ترى جيداً ما هو موضوع على المنضدة, فقد كانت ساعة يد(طارق) وهاتفه الخلوي؛ وحينها خفضت عيناها أرضاً لترى ما وقع, كانت دبلته الفضية. لا بد وأن الممرضة خلعتها من يده مع الساعة حينما كان في غرفة العمليات.
وانحنت لتحضر الدبلة وتعيدها إلى المنضدة ثانية.
شيء ما جعلها تنظر في داخل الدبلة قبل أن تضعها في مكانها القديم,
ربما الفضول, وربما غيرتها الأنثوية.
المهم أنها نظرت, ثم أعادت النظر, ثم دققت النظر جيداً, وفي كل مرة كانت ترى ما يزيد دهشتها.
فحصت الدبلة من الخارج وأعادت الفحص,
إنها هي نفس الدبلة التي يرتديها(طارق) حول إصبعه منذ زواجه من(سمر), لا يمكن أن تخطئها عيناها لأن شكلها غير تقليدي ولا يوجد الكثير منها.
أما مصدر دهشتها فقد كان الاسم المحفور بداخلها,
فعلى عكس توقعها لم يكن اسم(سمر),
بل اسم(هالة).
تأملت الدبلة ثانية في ذهول وهي تنقل بصرها بين وجه(طارق) الهاديء ودبلته وعقلها يعمل بسرعة الصاروخ في جميع الاتجاهات.
ما معنى هذا؟!
أكان يحبها منذ البداية؟
وماذا عن(سمر)؟
لقد صارحها بأنه يحب(سمر) ولا يرى غيرها زوجة له, فلماذا كتب اسمها هي على دبلته إذاً؟
أيكون كتبها بعد انفصاله عن(سمر)؟
لكن الدبلة لا تحمل أثراً لاسمها في أي اتجاه؛
وازدادت حيرتها والأسئلة تتصارع بداخلها, وكل سؤال يناقض ما قبله.
وفي يأس وضعت الدبلة على المنضدة وهمست لنفسها قائلة ـ"أياً كان ما تعنيه الدبلة, فأنا أحبه ولن أخسره هو الآخر. لقد احتملت مـ.ـو.ت(حازم) لأنني كنت أظن نفسي قوية, أما الآن فلا أظنني قادرة على تحمل فقد(طارق), ليس بعد أن أشعرني بحاجتي إليه بجواري, ليس بعد أن أعاد لي ثقتي في أن الدنيا أجمل من أن نراها بمرآة داكنة."
قالتها وعادت ببصرها إلى وجه(طارق) المستكين, وعادت تحتضن كفه اليسرى بين كفيها قبل أن ترفعها إلى شفتيها وتلثمها في حنان وعيناها لا تفارقان وجهه.
وبعد برهة من الصمت همست ثانية لزوجها ـ"(طارق), أما زلت لا تسمعني؟على أية حال يمكنك اعتبـ.ـار ما قلته بعد جراحة(هيثم) لاغياً. لقد عفوت عنك ولن أطلب الطـ.ـلا.ق. لا تتخيل مدى حـ.ـز.ن الأولاد لأنك لا تقيم معهم كما اعتادوا. (هند) تسأل عنك طوال الوقت, و(هاني) واثق من عودتك حسب ما وعدته.(هيثم) هو الوحيد الذي يخشى أن تفعل مثل أبيه, أن تتركه دون وداع."
ورغماً عنها انسابت دmـ.ـو.عها ثانية وهي تقول بصوت مختنق ـ"لقد صُدmنا جميعاً بوفاة(حازم) وكانت الصدmة قوية على(هيثم) لتعلقه الشـ.ـديد بوالده, وهذا ما جعله ينضج قبل الأوان. كان من الممكن أن تظل عمهم فقط وألا تتطور علاقتكم هكذا, لكن بعد ما حدث وتعلق الأولاد بك, لو تركتهم أنت الآخر ستهتز صورة العالم أمامهم, لن يحتملوا فقدانك, لن يحتملوا فقدان الأب مرتين. والدك هو الآخر لن يحتمل فقدان ابنه الثاني, ولا تتخيل حالته الآن من قلقه عليك. وأنا, أنا دفنت زوجاً ودعوت الله ألا أدفن حبيباً آخر, وما زلت أدعو الله أن أمـ.ـو.ت قبل أن أفقد أحداً من أحبائي, وأنت أولهم. لو كنت تسمعني ستتعجب مما أقول, لكن الحقيقة هي أنك ذكرتني كم هي قصيرة حياتنا لنضيعها في خلاف لا طائل وراءه. ولهذا أريد أن نعيش جميعاً كأسرة واحدة كبيرة, أنا وأنت وأولادنا و أهلنا و(سمر). لا بد وأن..."
قاطعتها ضغطة من أصابع(طارق) لكفها فمسحت دmـ.ـو.عها في سرعة وهي تهتف في سعادة ـ"(طارق)!! كيف حالك الآن يا حبيبي؟"
فتح(طارق) عينيه في تهالك وهو يقول بصوت متحشرج ـ"ماذا حدث؟ هل كنت أحلم؟"
داعبت وجنته بأناملها قائلة بابتسامة عـ.ـذ.بة ـ"ما حدث ليس مهماً, المهم أنك بخير. حمداً لله على سلامتك."
فتح عينيه عن آخرهما في ذهول وحاول النهوض وهو يهتف بانفعال ـ"أهذا حقيقي؟ أنت معي يا(هالة)؟"
دفعت كتفيه برفق ليعود ثانية إلى وضعه الأول قائلة ـ"نعم أنا وأنت لا تحلم, وأرجوك لا داعي للانفعال."
حدق في وجهها بعينين ذاهلتين وهو يقول مشـ.ـدوهاً ـ"لقد كنت معي في الحلم, كنت تبكين وأنت تحتضنين كفي بين راحتيك وقلت كلاماً كثيراً, كلاماً لم أتوقع أن أسمعه منك. والأهم أنك قلت لي حينها إنك تحبينني وإنك..."
وضعت أناملها على شفتيه لتمنعه من الكلام وهمست هي قائلة ـ"لم يكن حلماً يا(طارق), كان حقيقة. كل ما سمعته كان حقيقياً. لقد قلت إنني أحبك بالفعل."
لثم أطراف أناملها قبل أن يزيحها عن فمه قائلاً ـ"أيعني هذا أنك سامحتني؟"
جلست على طرف الفراش قائلة بدلال ـ"لقد تنازلت عن حقي في مقابل أن تغادر هذا الفراش."
ثم تابعت بابتسامة خاصة ـ"ولا تظن أنك من الممكن أن تتركنا هكذا بسهولة, لن أسمح لك."
تأمل ملامحها بتمعن وكأنه يراها لأول مرة ثم قال بثقة ـ"لن يبعدني عنكم سوى المـ.ـو.ت."
وضعت أناملها على فمه ثانية وهي تشهق في عنف قائلة ـ"لا تقل هذا, لا أريد أن أسمع هذه الكلمة ثانية. مازال أمامنا مشوار طويل لنقطعه سوياً, وليس كل منا على حدة؛ ونحن مازلنا في البداية."
عاد يتأملها بوله ويتناول كفيها بين يديه وهو يسألها باشتياق ـ"كيف حالك؟ وكيف حال الأولاد وأمي؟ لقد افتقدتكم جميعاً في الفترة الماضية, فالبعد عنكم أقوى من احتمالي."
منحته ابتسامة عـ.ـذ.بة وهي تقول ـ"من اليوم لن نبتعد عنك ولن تفتقدنا ثانية. سنعود إلى نظامنا القديم, ثلاثة أيام عندي وثلاثة عند(سمر), والغذاء عندي في أيامها وعندها في أيامي و..."
قاطعها هو هذه المرة وهو يضع أصابعه على شفتيها قائلاً بهدوء ـ"لا عودة لهذا النظام ثانية, لقد ألغيته."
رفعت حاجبيها في دهشة فتابع هامساً بصدق ـ"لم يعد هناك سواك, بل لم يكن هناك سواك من الأساس. لقد كنت أنت من خفق قلبي باسمها حين عرف معنى الحب الحقيقي. لقد كانت(سمر) على حق, لقد حاولت أن أجعلها نسخة منك حين ظننتك لا تحبيني. كذلك إحساسي أنك كنت لأخي من قبل جعلني أحاذر في الاقتراب منك. كان بداخلي هاجس أنك ستسيئين فهمي إذا صارحتك بميلي لك بعد سنة واحدة من وفاة أخي, أحسست بأني سأبدو كمن كان بانتظار وفاة شقيقه ليخلو له الجو مع أرملته. كل هذه المشاعر جعلتني أرى(سمر) كمحاولة للتمرد على أبي, محاولة ساعدتني أنت فيها حينما ظننت أن سعادتي بها, و.جـ.ـعلتني أراك في صورة مختلفة. لقد أحببتك ولكني كنت أنكر هذا الحب؛ والآن لم يعد هناك فائدة من الإنكار, فانا متلبس بحبك ومستعد لتلقي أقصى عقوبة تحددينها, حتى لو كانت المـ.ـو.ت تقبيلاً."
ازدردت(هالة) لعابها في صعوبة وهي تسأله ـ"وماذا عن(سمر)؟هل...؟"
قاطعها قائلاً بثقة ـ"(سمر) صفحة طويتها قبل أربعة أشهر حينما طلقتها لأول مرة، وحان الوقت لت عـ.ـر.في سبب عودتها إلى بيتي".
حاولت جذب كفيها من راحتيه وهي تقول بصوت مختنق ـ"لا أريد أن أعرف".
شـ.ـدد قبضته على كفيها واعتدل جالساً بمساعدتها وهو يقول بحنانه الذي يسري في عروقه مسرى الدm ـ"بل لابد أن تسمعيني. لقد حاولت مراراً وكنت ترفضين الإنصات، لكنك ستنصتين الآن. لقد أعدت (سمر) إلى بيتي كي يكون الطـ.ـلا.ق نهائياً ولا رجعة فيه".
عقدت حاجبيها في دهشة فتابع في سرعة ـ"كان طـ.ـلا.قاً بدعياً لأنها كانت حائضاً، وزوجة (سامي) هي من اكتشفت الأمر وطلبت منا مراجعة دار الإفتاء. كان هناك خلاف فقهي حول وضعنا وكان الأسلم أن تعود إلى بيتها معي إلى أن تتوافر شروط الطـ.ـلا.ق الصحيح، وهذا ما كان".
ثم ركز بصره في عينيها قائلاً بصدق ـ"لكن أقسم بأنني لم ألمسها طيلة وجودي معها بمنزلنا. صحيح هي زوجتي، لكنني شعرت بأنني أخونك إذا جلست معها في نفس الغرفة. لذا كنت أنام في غرفة الضيوف بعيداً عنها حتى طلبت الطـ.ـلا.ق ثانية ومنحتها إياه في هدوء، وللمرة الأخيرة منذ أسبوع".
حدقت في ملامحه لثوان وهي تجاهد لتجد صوتها، ثم ما لبثت أن قالت بحرج ـ"وماذا عن حبكما"؟
دفن وجهه في كفيها وهو يتنسم رائحتها ليملأ رئتيه بعبيرها الذي اشتاق إليه، ثم رفع وجهه إليها هامساً ـ"لقد ظلمنا أنفسنا-أنا وهي- بالجري وراء أكذوبة حبنا. أنا لم أحب سواك, وهي لم تحب بعد. لابد وأنها ستقابل الرجل المناسب يوماً ما, الرجل الذي يستطيع إسعادها ويكون لها وحدها؛ مثلي الآن, أنا لك وحدك."
اغــــرورقت عيناها ثانية بالدmـ.ـو.ع وهي تحتضن وجهه بين كفيها قائلة بصوت مختنق ـ"سامحني حبيبي...لقد ظلمتك كثيراً".
احتواها بكل جوارحه وهو يدفن وجهه في كتفها ويهمس في أذنها بعمق ـ"بل سامحيني أنت لأنني أذيتك دون قصد. كنت أحاول أن أرضي الجميع لكنني فشلت. أدري أنني كنت فظاً في بعض الأحيان، وربما عنيداً، ولكن الحمد لله أنني لم أستجب لمحاولاتك المستمـ.ـيـ.ـتة الانفصال عني".
غاصت في أحضانه وتجاهلت رائحة المطهر التي زكمت نفسها وهي تهمس بدورها ـ"غيرتي كانت أقوى مني. كلما تخيلت أنك أوهمتني بالحب كنت أتمزق من داخلي. غيرتي كانت تقــ,تــلني وأنا أتخيلك مع غيري".
ابتسم بخفة وهو يشـ.ـدد ذراعيه حولها بكل ما تبقى لديه من قوة قائلاً ـ"لقد قلتها لك من قبل وسأقولها إلى الأبد...أنا لك وحدك".
أبعدت رأسها عن صدره قليلاً لتغوص بعينيها في عينيه قائلة بشقاوة يعشقها ـ"ليس تماماً, هناك أربعة شركاء لي فيك, (هيثم)و(هاني)و(هند) والأستاذ القادm بعد ستة أشهر."
سألها وهو يتحسس ملامحها بأنامله ـ"وماذا لو كانت أستاذة؟"
هزت كتفيها قائلة ـ"لا يهم. المهم أن يشبهك."
سند جبهته إلى جبهتها وسألها مشاكساً ـ"أمازلت مصرة على أن تبلي البشرية بطفل يشبهني؟"
أجابته بدلال ـ"ليس طفلاً واحداً فحسب."
ضحك قائلاً ـ"وماذا عن تنظيم الأسرة؟"
ضحكت هي الأخرى وأجابته وهي تهز كتفيها ثانية ـ"سيشكرونني لأنني أُحَسن السلالات."
تأمل وجهها الباسم ثانية ثم همس بصدق ـ"أحبك."
ابتسمت في خجل وخفضت عينيها وهي تهمس بدورها ـ"أنا أيضاً أحبك."
سألها باهتمام ـ"إذاً نبدأ حياة جديدة؟"
أومأت برأسها إيجاباً في حماس وهي تجيبه ـ"نعم, حياة جديدة بدون دmـ.ـو.ع وبدون ألم. حياة بالحب وللحب فقط. اتفقنا؟"
صافحها في قوة لا تناسب ضعفه قائلاً بحزم ـ"اتفقنا."
وحينما أراحت رأسها على كتفه كان قلبها ينبض بحبه وبالتفاؤل بحياة جديدة مع من منحته قلبها عن طيب خاطر ومسح بحبه دmعات قلبها.
تمت بحمدلله
لو خلصتي الرواية دي وعايزة تقرأيي رواية تانية بنرشحلك الرواية دي جدا ومتأكدين انها هتعجبك 👇