رواية رحلة الآثام هي رواية رومانسية تقع احداثها بين فردوس وعوض والرواية من تأليف الكاتبة منال سالم
رواية رحلة الآثام من الفصل الاول للاخير بقلم منال سالم
(نقطة البداية)
زفرت بتأففٍ وأصوات الهمهمـ.ـا.ت المتداخلة تحاصرها من كل جانب، فحال ذلك دون حصولها على القدر الكافي من التركيز لإتمام عملها العالق. شملت من حولها بنظرة منزعجة، قبل أن تزفر من جديد واليأس مستبد بها. لم يكن هناك أدنى بد من محاولة الانـ.ـد.ماج مع ما يحيط بها، لذا سدت "نهاد" أذنها اليسرى بيدها، وواصلت تبديل الشرائح الصغيرة بعد تدوين ملحوظاتٍ صغيرة مقتضبة.
مضت عليها بضعة دقائق وهي على نفس الحال، قبل أن ترفع نظراتها المدققة عن الميكروسكوب الموضوع على المنضدة المعدنية أمامها، بمجرد أن سمعت وقع أقدامٍ تقترب منها، عندئذ نهضت واقفة من على كرسيها الخشبي، وتحركت من موضعها تجاه رفيقتها التي قد عادت لتوها من الخارج. رمقتها بنظرة ضيقة تعكس انزعاجها قبل أن تستطرد معاتبة:
-كل ده يا "تهاني"؟ إنتي اتأخرتي جدًا.
تأملت البلاط الأبيض الباهت المغلف لجدران المعمل، وما يعلوه من سقفٍ تشقق معظم طلائه باشمئزازٍ، ثم أخبرتها:
-ما الدنيا زحمة، والإجراءات صعبة، يدوب عقبال ما خلصت.
جذبتها من ذراعها نحو منضدة عملها، وسألتها بصوتٍ خافت نسبيًا:
-برضوه مصممة على اللي في دmاغك؟
لم تبدُ "تهاني" مكترثة بمن حولها وهي تؤكد عليها:
-أه طبعًا، المستقبل عمره ما هيكون هنا، بين الأربع حيطان دول.
ظلت "نهاد" على حيطتها وهي تسألها باستنكارٍ محسوسٍ في نبرتها:
-ليه بتقولي كده؟ بالعكس مع الوقت هيتحسن الوضع، وفرصتك آ...
قاطعتها قبل أن تتم جملتها هاتفة في تحفزٍ:
-فرصتي هتضيع مني لو معملتش كده.
تقلصت المسافة ما بين حاجبي رفيقتها وهي تسألها مستفهمة:
-وإنتي تضمني منين إنك تنجحي برا؟
غامت ملامح وجه "تهاني" بشكلٍ ملحوظ، وانعكس الضيق على نظراتها إليها، حاولت صديقتها تلطيف ما نطق به لسانها بترديدها:
-أنا مش قصدي أزعلك، بس احنا فاهمين كويس اللي هيحصل، إنتي بطلوع الروح اسمك اتحط وسط اللي رايحين البعثة.
رفعت "تهاني" يدها لتسوي ما نفر من مقدmة شعرها المعقود كذيل حصانٍ، وعلقت في استياءٍ ظاهر على صوتها:
-أيوه، بس في الآخر عرفت أجيب حقي.
استغلت "نهاد" تلك النقطة لتوضح لها بمنطقيةٍ:
-تفتكري هما هيسبوكي لما تنفذي اللي في دmاغك؟
قبل أن تفكر في الرد أجابت عنها:
-ماظنش يا "تهاني".
احتفظت الأخيرة بصمتها، بينما رفيقتها ما تزال تخبرها بجديةٍ:
-أنا من رأيي تعيدي التفكير تاني، إنتي مش ناقصة مشاكل ولا و.جـ.ـع قلب.
ردت عليها بعنادٍ:
-مش هايقدروا يعملولي حاجة.
خفضت "نهاد" من نبرتها عنـ.ـد.ما تحدثت:
-أنا وإنتي فاهمين كويس إنك واخدة البعثة حجة عشان تهربي برا البلد، وتشوفي مستقبلك، بس صعب تعملي ده لوحدك في بلد غريبة مالكيش فيها لا ضهر ولا سند، هتتعاملي هناك إزاي؟
أخبرتها عن ثقة عجيبة:
-مـ.ـا.تستقليش بيا، أنا قادرة أصرف أموري.
لم تستطع إثنائها عن رأيها، فلجأت لوسيلة أخرى، ربما تجدي نفعًا معها، حانت منها التفافة سريعة للخلف برأسها، سلطت فيها ناظريها على أحدهم، ثم عاودت التحديق في وجه رفيقتها، وأخبرتها بنبرة ذات مغزى:
-طب ودكتور "أمين"؟
تلقائيًا تحولت أنظار "تهاني" نحو ذلك الشاب الجالس بالخلف، والمشغول بإجراء بعض التجارب، ابتسم في عفوية بمجرد أن رأى نظراتها متجهة إليه؛ لكنها لم تبادله سوى الوجوم والتجهم، بتكاسلٍ وتأفف تساءلت وهي تشيح بوجهها بعيدًا:
-ماله؟
برزت ابتسامتها الماكرة على شفتيها وهي توضح لها بغموضٍ قليل:
-إنتي فاهمة كويس، هو عينه عليكي من زمان، ونفسه تديله فرصة.
نقرت بأصابعها على سطح المنضدة، قبل أن تسألها بملامح اكتسبت جدية صريحة:
-وبعدين؟
جاء ردها مباشرًا:
-أكيد هيطلب إيدك، وتتجوزوا.
سحبت "تهاني" نفسًا عميقًا، ثم لفظته على مهلٍ، وتكلمت في صوتٍ جاد رغم هدوئه:
-بصي يا "نهاد" خلينا نتكلم بالعقل، مرتبي على مرتبه عمرهم ما هيخلونا نعيش عيشة مرتاحة.
اندهشت من عقلانيتها الزائدة عن الحد، وعقبت:
-بس هو بيحبك، وبيقدرك.
أتى تعليقها صادmًا لها:
-ويعمل إيه الحب وسط الفقر؟!!
افترت شفتاها عن دهشة مستهجنة، فما كان من "تهاني" إلا أن أوضحت لها بمرارة استشعرتها في صوتها شبه المختنق:
-إنتي مـ.ـا.ت عـ.ـر.فيش أنا عايشة إزاي، وحاربت أد إيه عشان أوصل للمكانة دي، وسط ناس جهلة، مش همهم إلا إن الواحدة يداس عليها، وتبقى مالهاش قيمة...
بالكاد حاولت الحفاظ على ثبات صوتها وهي تكمل:
-ومش مستعدية أقضي اللي جاي من عمري وأنا بعافر.
نكست رأسها في أسفٍ، وردت:
-مش عارفة أقولك إيه؟
بقليلٍ من الكبرياء الجريح خاطبتها وهي ترمش بعينيها بسرعةٍ لتطرد ما علق من دmـ.ـو.ع في أهدابها:
-أدعيلي أخلص أوام وأسافر.
................................................
كومة أخرى من الثياب الجافة انضمت لسابقتها على الطاولة المستديرة، قبل أن تنحني لتفرد السجادة المثنية بعد انتهائها من تجفيف الأرضية بالمبتلة بخرقةٍ قديمة. استقامت "فردوس" واقفة وهي تمسح بظهر كفها العرق المُتَصبب على جبينها، أحست بالإنهاك يتفشى في أطرافها، فمنذ أن طلع النهار وهي تعمل بكد واجتهاد لتنظيف المنزل وإعداده لاستقبال الضيوف القادmين مع غروب الشمس. كم رجت لو تكبدت هذا العناء لأجل نفسها! حينها فقط لم تكن لتشعر سوى بالسعادة والفرحة العارمة؛ لكن يبدو أن الحظ قد خاصمها ليتركها تعاني من تعليم محدود، وجمال منقوص. استفاقت من شرودها اللحظي لتستدير ناظرة إلى والدتها عنـ.ـد.ما سألتها وهي تعقد طرفي منديل رأسها:
-أختك جت يا "دوسة"؟
لفظت دفعة من الهواء من رئتيها قبل أن تجاوبها:
-لسه يامه.
سألتها مرة ثانية وهي تدنو منها:
-طيب وضبتي الصالة، وغيرتي كِسوة الكنب؟
هزت رأسها عنـ.ـد.ما أجابتها موضحة ما أنجزته:
-أه يامه، ومسحت البَسطة، وخليتها زي الفل.
استحسنت "عقيلة" ما بذلته ابـ.ـنتها من جهدٍ فأثنت عليها بابتسامةٍ راضية:
-تسلمي يا ضنايا...
ثم ربتت على كتفها قائلة:
-نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.
هتفت من فورها في رجاءٍ كبير:
-يا رب أمين...
ما لبث أن غلف صوتها لمحة من التشاؤم وهي تختتم جملتها:
-ولو إنه مش باين.
أكدت عليها أمها مبتسمة:
-يا بت مـ.ـا.تستعجليش، بكرة نصيبك يدق الباب عليكي.
ردت بلا اقتناعٍ:
-إن شاء الله.
تأملت "عقيلة" بعينيها الزرقاوين نظرات الحـ.ـز.ن التي ملأت حدقتيها، فابـ.ـنتها كانت قليلة الحظ فيما يخص شئون الخطبة والزواج، على عكس شقيقتها التي لا يكف الجميع عن طلب التقدm إليها. فالأولى كانت تملك من مفاتيح الجمال مقدرًا محدودًا، وكأن الشقاء قد ترك بصمته على وجهها، والثانية دلالها وتدللها أعطاها الأفضلية عنها في كل شيء. تجاوزتها لتقوم بطي الثياب المتكومة وهي تأمرها:
-مـ.ـا.تنسيش تطلعي طقم الشربات الجديد وتغسليه كويس.
ردت عليها "فردوس" وهي تحمل دلو الماء والخرقة:
-مش ناسية.
امتلأت نفسها بقدرٍ من الكمدِ وهي تسير عائدة للداخل، آملة أن يأتي اليوم الذي تشهد فيه ابتهاجها بقدوم أحدهم خصيصًا لأجلها.
...............................................
احتشـ.ـد الحضور في هذه القاعة الفسيحة، كل مجموعة مُلتفة حول مائدة بعينها، وغالبية نظراتهم المهتمة ترتكز على الضيف الذي يطرح أهم نقاط محاضرته الطبية. في مؤخرة القاعة، وبعيدًا عن الصخب والضوضاء، جلس منفردًا يفرغ الماء البـ.ـارد في كأسه، ابتسم في إعجابٍ وقد التقطت نظراته رفيقه وهو يسير متفاخرًا متباهيًا، يصافح البعض، ويلوح بيده للبعض الآخر، متجاهلًا المحاضر الذي يكد للفت الأنظار والحوز على كامل الانتباه، بدا وكأنه امتلك زمام السلطة هنا، ولما لا؟ فهو من أكثر الحاضرين نفوذًا وقوة.
توقف "ممدوح" عن مطالعته حينما انضم إليه جالسًا بجواره، اعتلى زاوية فمه ابتسامة صغيرة وهو يستطرد:
-أنا متخيلتش إنك هتحضر المؤتمر النهاردة بعد سهراية إمبـ.ـارح.
ضحك "مهاب" عاليًا قبل أن يتكلم من بين ضحكاته الرنانة:
-وأفوت التكريم؟ تعرف عني كده؟
انتظر حينًا إلى أن خَبت ضحكته، وأخبره بشيءٍ من الحقد:
-لأ طبعًا، "مهاب الجندي" دايمًا موجود تحت الأضواء.
بزهوٍ يليق به قال:
-بالظبط.
شكَّل "ممدوح" بإصبعه دوائرًا متتالية على سطح الطاولة وهو يضيف:
-طول عمرك محظوظ، سواء في العلم أو في الحب.
رمقه "مهاب" بهذه النظرة المتفاخرة قبل أن يعلق بثقة:
-الطب مافيهوش حظ، في إنك نابغة، وفاهم بتعمل إيه أو لأ.
هز رأسه متفهمًا، ليرد بعدها مبتسمًا ابتسامة بـ.ـاردة:
-مظبوط، ونابغة مع عيلة ليها وزنها يعملوا أسطورة.
مط فمه في إعجاب، وأخبره بانتشاءٍ:
-برافو .. وصف يليق بيا.
تجاوز عن لمحة الغرور الظاهرة في صوته، وأراح ظهره للخلف سائلًا:
-قولي مسافر إمتى؟
أجاب رفيقه بعد أن فرقع بإصبعيه ليستدعي أحد الندلاء:
-طيارتي بالليل.
أومأ "ممدوح" برأسه مرددًا:
-كويس.
أعطى "مهاب" للنادل أوامره، ثم وجه سؤاله للجالس بجواره:
-هتحصلني؟
مط فمه دون أن ينطق بشيء، فتساءل:
سأله بإلحاحٍ طفيف:
-لسه بتفكر ولا إيه؟ احنا خلاص اتكلمنا في الموضوع ده.
علق مُبديًا أسبابه:
-إنت عارف الظروف عندي مـ.ـا.تسمحش بتكاليف وأعباء جديد، يدوب أرجع القاهرة وأركز هناك.
مد "مهاب" يده ليربت على جانب ذراعه، وأكد له بلمحةٍ من الغرور:
-مـ.ـا.تقلقش طول ما أنا موجود.
ما كان من رفيقه إلا أن ابتسم بفتورٍ، فشـ.ـدد مرة ثانية عليه:
-بتكلم بجد يا "ممدوح"، أنا عاوزك معايا...
تطلع إليه بحاجبين معقودين، فتابع "مهاب" كلامه إليه واضعًا هذه البسمة الواثقة على محياه:
-وهظبطك في منصب محترم ينقلك في حتة تانية خالص.
فكر "ممدوح" مليًا فيما قاله، وعلق ساخرًا:
-طبعًا واسطة عيلة الجندي تفتح أي باب مقفول سواء برا أو جوا.
ضحك "مهاب" على ما اعتبرها طرفة، وقال:
-ما هي دي المصالح العُليا.
..............................................
بالنسبة لها مر الوقت بطيئًا محملًا بالمشاق والتعب، فما إن تنتهي من إنجاز شيء حتى تنتقل لآخر، وهي بالكاد تحاول البحث عن قليل من الراحة وسط كم المهام التي ألقيت فوق كتفيها. ارتمت "فردوس" على الأريكة الملاصقة لفراشها وهي تدعك بكفيها ركبتيها المتألمتين، تأملت الشقوق التي انتشرت بباطن كفيها وهي تفكر في وضع قدرًا من مادة (الفازلين) الطبية لتحصل على ملمس ناعم يغطي على خشونة جلدها، حولت نظرها نحو والدتها التي تساءلت في صوتٍ شبه قلق، وعيناها تنظران بإمعان للطريق من نافذة الشباك المواربة:
-هي الساعة يجيلها كام دلوقتي؟
اتجهت "فردوس" ببصرها نحو ساعة الحائط، وقالت بعد لحظةٍ من الصمت:
-داخلة على تلاتة.
ابتعدت "عقيلة" عن النافذة، وضـ.ـر.بت كفها بالآخر قبل أن تضعهما أعلى صدرها لتردد في انزعاجٍ:
-كده أختك اتأخرت، أنا قولتلها مـ.ـا.تروحش الشغل النهاردة، بردك هي ركبت دmاغها ونزلت، والجماعة قالوا هايجوا بعد المغرب.
راحت "فردوس" تدلك كفها بيدها وهي تخبرها:
-ما إنتي عارفها يامه، اللي بتصمم عليه بتعمله.
زمت شفتيها مغمغمة في يأسٍ:
-طول عمرها عنادية.
سمعت كلتاهما صوت المفتاح وهو يدور في قفل الباب، أعقبه بلحظاتٍ غلقه، لتردد بعدها "فردوس" في حماسٍ وهي تنهض من موضع جلوسها:
-الحمدلله أهي جت.
سرعان ما انتقلت نحو الخارج لتخاطب شقيقتها في تلهفٍ:
-يالا يا "تهاني"، روحي غيري هدومك أوام كده واتوضبي.
بعد زفيرٍ مهموم عقبت في نوعٍ من العتاب:
-مافيش سلام عليكم الأول.
ردت عليها بنفس اللهجة المتوهجة حماسًا:
-وعليكم السلام، مافيش وقت، عاوزين نلحق.
رمقتها بنظرة حادة قبل أن تقول ببرودٍ غريب:
-الدنيا مش هتطير.
اندهشت "فردوس" من حالة الجفاء المسيطرة عليها، وهتفت تخبرها:
-إنتي مش واخدة بالك إنك جاية متأخر، ويدوب عقبال ما تجهزي وآ...
قاطعها قائلة بما صدmها:
-وأنا مش عاوزة أقابل حد.
شهقت مرددة بعينين ذاهلتين:
-إيه الكلام ده؟
أجابتها مؤكدة بثباتٍ عجيب:
-زي ما سمعتي، أنا أصلًا مش موافقة على الخطوبة دي.
خرجت والدتها لتلقاها عند عتبة الغرفة، وهتفت في استهجانٍ أشـ.ـد، ويدها تلطم على صدرها:
-يادي الكسوف! بعد ما إدينا للناس كلمة؟!!
بأسلوبٍ يشوبه العنجهية تكلمت:
-إنتي اللي اتفقتي معاهم مش أنا يامه...
ثم التوى ثغرها بنوعٍ من التهكم وهي تتابع:
-وبعدين ده "شفيق" النقاش، مش حد من الأكابر يعني.
صاحت بها "عقيلة" بصوتٍ حانق، ووجهها قد اشتعل غضبًا:
-نقاش، ميكانيكي، إنتي عاوزة تصغري أمك قصادهم؟
بنفس الطريقة المتعجرفة ردت:
-أنا من الأول قولت مش موافقة، ومحدش راضي يسمعني.
اغتاظت والدتها من برودها المستفز، فتقدmت ناحيتها لتلكزها في كتفها وهي تنهرها:
-ما تعيشي عيشة أهلك، وكفاية أنعرة كـ.ـد.ابة!
تأوهت "تهاني" من الألم، ونظرت إلى أمها بضيقٍ قبل أن تهدر منفعلة:
-هو إيه الحلو في إني أتجوز "شفيق" النقاش؟
ظلت ملامح والدتها تسود، وهي تزيد من هجومها المشبع بعبـ.ـارات الإهانة:
-إنتي مش شايفة بـ.ـنتك دكتورة تحاليل أد الدنيا، يعني أقل حد أخده لازم يكون نفس مستوايا التعليمي، مش واحد جاهل، ريحته جاز وتِنر.
أتى رد "فردوس" ساذجًا إلى حدٍ ما:
-ما هو بيستحمى.
اشتاطت شقيقتها من سطحية تفكيرها، وردت بصلابةٍ:
-الله يكرمك بلاش إنتي تتكلمي.
خاطبتها في دهشةٍ:
-هو أنا قولت حاجة غلط؟ ما هو راجـ.ـل ملو هدومه، وكل بنات الحتة تتمناه.
لم تعلق "عقيلة" بشيء على حوارهما، فواصلت "تهاني" الصياح الحاد ملوحة بذراعها في الهواء:
-إنتو عاوزيني أقضي اللي جاي من حياتي أكح تراب؟!!!
أمسكت بها والدتها من ذراعها تضغط عليه بقبضتها وهي تسألها في نبرة لائمة:
-أختك معاها حق، ماله "شفيق" النقاش؟ مش بيشتغل وبيكسب بالحلال؟
نفضت يدها عنها وهي تجيبها:
-أيوه، بس مش من مقامي ولا ينفعني من الأساس، أنا مش زي "فردوس".
قالت جملتها الأخيرة ونظراتها مسلطة على شقيقتها التي غرق وجهها في الحـ.ـز.ن، ابتلعت غصة مريرة في حلقها، وسألتها بعتابٍ:
-قصدك إني قليلة يا "تهاني"؟ إكمني مكملتش تعليم وماليش في العلام زيك، ومخي على أده.
وكأنها لم توجه إليها إهانة متعمدة، تجاوزت عنها "تهاني" وتكلمت بنبرة معاندة للغاية:
-كل واحد عارف مصلحته إزاي، وأنا مش هضيع مستقبلي عشان نقاش متـ.ـخـ.ـلف!!
إساءة تلو أخرى جعلت صدور الجميع تحتقن وتفيض ضيقًا، مرة أخرى أمسكت "عقيلة" برسغ ابـ.ـنتها جذبتها منه بقسوةٍ، وأخبرتها بلهجة حازمة:
-بصي يا بت بطني، إنتي مش هاتيجي على آخر الزمن وتطلعيني قليلة قصاد الناس، إنتي هتقابليهم والجزمة فوق رقبتك، سامعة؟
شعرت بيدها تعتصرها بقوةٍ، فضمت شفتيها مانعة نفسها من الصراخ آلمًا، ووالدتها لا تزال تشـ.ـدد عليها بتهديدٍ صريح:
-وإن كنتي فاكرة إنك كبرتي على التربية تبقي غلطانة! أنا لسه بصحتي وأقدر أعدل المعوج فيكي يا "تهاني".
ثم دفعتها للأمام هاتفة في حدةٍ:
-ويالا انجزي في يومك ده.
تجمدت "تهاني" في مكانها، تناظر أمها بعينين مشتعلتين، وبشرتها كذلك تشع وهجًا غاضبًا، أسرعت إليها "فردوس" لتضمها من كتفيها، وسحبتها نحو الداخل وهي تحاول تهوين ما لاقته من تعنيفٍ مختلط بالإهانة:
-تعالي ياختي متزعليش.
...........................................
كالقطار الجامح الخارج عن قضبانه، اندفعت "تهاني" نحو غرفتها، ثم نزعت بلوزتها عنها، وكورتها في عصبية، لتقوم بإلقائها أرضًا وهي تبرطم بعبـ.ـارات ساخطة ناقمة تعبر عن حنقها. تبعتها "فردوس" وانحنت تلم ما بعثرته من ثياب، ثم وضعتهم على الأريكة لتعاود التحديق في وجه شقيقتها وهي تستطرد سائلة إياها بانفعالٍ:
-شايفة اللي أمك بتعمله معايا؟
زمت "فردوس" شفتيها، وغمغمت في يأسٍ:
-يا ريت كان عندي نص حظك، ولا حتى يتقدmلي أي حد، كنت هوافق على طول.
انتشلت "تهاني" قميصها المنزلي من على المشجب لترتديه، وردت عليها بغطرسةٍ:
-ده الفرق اللي بيني وبينك، إنتي باصة دايمًا تحت رجلك، وملهوفة على أي حد والسلام، إن شاء الله يكون جربوع!!
بالكاد ابتلعت غصة مريرة اجتاحت حلقها، وردت بكبرياءٍ جريح:
-مش أحسن ما أبص لفوق ويطلع في الآخر نقبي على شونة.
التوى ثغرها ببسمة تهكمية، وأضافت وهي تمشط شعرها في عجالةٍ:
-هيفضل تفكيرك على أده يا "فردوس"، عمرك ما هتفهميني.
اتجهت شقيقتها نحو الدولاب، فتحت ضلفته، وتأملت المحدود من الأثواب المعلقة فيه، انتقت اثنين كانا إلى حدٍ ما مقبولان الشكل، ثم سألتها في اهتمامٍ مناقض لما افترض أن تشعر به من ضيق:
-ها مقولتيش، هتلبسي أنهو فستان؟
نظرت لها "تهاني" في ذهول مستنكر، فارغة لفاهها قليلًا قبل أن تجيبها بغير مبالاة:
-مش فارقة، طالما هو مرفوض من الأساس!
..................................................
في الموعد المتفق عليه، بعد آذان المغرب بوقتٍ قصير، كان الضيوف يحتلون الأرائك في الصالة المتواضعة بالمنزل، وأمامهم أكواب الشربات، وأطباق الحلوى منزلية الصنع. بدت "عقيلة" في أوج ابتهاجها وهي تطرح طرف حجابها الأبيض الجديد على كتفها، التفتت ناظرة إلى والدة العريس بنظرات مشرقة متفائلة، رسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، واستطردت متكلمة:
-والله البيت نور بوجودكم فيه النهاردة.
بادر "شفيق" بالرد مبتسمًا ابتسامة عريضة:
-تسلمي يا ست الناس، ده احنا اللي زدنا شرفنا بقعدتنا معاكو.
دعت له في لطافةٍ:
-كلك ذوقك يا ابني.
تساءلت والدته في نوعٍ من الحيرة:
-أومال فين أبلة الدكتورة؟
أطلقت "عقيلة" ضحكة صغيرة، قبل أن تتبعها موضحة:
-بتحط أحمر وأخضر، ما إنتو عارفين، البنات تحب تبقى على سِنجة عشرة.
شاركها الضحك، وعلق في انتشاءٍ مختلط بالحماس:
-هي تستاهل تتدلع.
ردت عليه "عقيلة" برضا معكوس على ملامحها:
-يخليك يا ابني، ابن أصول طول عمرك، ولسانك زي الشهد.
تأهب في جلسته، وأكمل بنفس النهج المتحمس:
-وأنا مش هحوش عنها حاجة، كافة طلباتها مُجابة إن شاء الله.
استحسنت ما يبديه من جدية لإثبات حُسن نواياه، فعقبت:
-أد القول يا "شفيق"، عن إذنكم بس لحظة، إنتو مش غرب...
ثم استدارت محدقة في ابـ.ـنتها قائلة بابتسامة شبه متكلفة:
-تعالي يا "دوسة" معايا.
نهضت في التو من موضع جلوسها، وتبعت والدتها مرددة في انصياعٍ واضح:
-حاضر يامه.
تحركت "فردوس" خلفها إلى وقفت بجوار والدتها بعيدًا عن الضيوف قليلًا، فأخبرتها الأخيرة بتعابيرٍ مزعوجة، وقد حل الضيق كذلك على نظراتها:
-استعجلي أختك، مايصحش اللي هي عملاه ده.
هزت رأسها متمتمة وهي تسرع الخطى:
-طيب.
ظلت "عقيلة" باقية في مكانها للحظة، إلى أن اختفت عن أنظارها، فعاودت أدراجها للصالة، وواصلت الحديث الودود مع ضيوفها، ريثما تنضم إليهم ابـ.ـنتها المتدللة.
......................................
هرولت "فردوس" لداخل الحجرة، لتجد شقيقتها تجلس باسترخاء على السرير، وكأن شأن من بالخارج لا يعنيها كليًا، تأملتها مدهوشة لهنيهةٍ، لتقوم بعدها بالاقتراب منها، وتهتف في إنكار عجيب:
-الناس أعدين برا مستنينك، وإنتي مريحة كده؟!!
رمقتها بنظرة فاترة، بـ.ـاردة، لا تلقي بالًا لصوتها القلق، بقيت على استرخائها الهادئ و"فردوس" لا تزال تصيح بها في تـ.ـو.ترٍ متصاعد:
-يا "تهاني" أنا بكلمك، بقولك العريس برا هو وأهله...
سألتها بإيماءة من رأسها:
-وإيه يعني؟
أجابت على سؤالها بآخر مغلف بالدهشة:
-مش هتطلعي تقابليهم؟
وسدت ذراعها خلف رأسها المستريحة على الوسادة، وجاوبتها بعد تنهيدة متململة:
-أنا قولتلكم رأيي من بدري، أنا مش موافقة على العك ده.
لطـ.ـمـ.ـت "فردوس" على صدرها، وشهقت صائحة:
-أمك هتروح فيها لو ماطلعتيش دلوقتي.
استلقت "تهاني" على جانبها، وقالت بعدm اكتراثٍ مستفز:
-وأنا مش هعمل حاجة غـ.ـصـ.ـب عني.
خاطبتها بلين الكلام علها تقتنع وتتخلى عن عنادها الأحمق:
-محدش بيغـ.ـصـ.ـبك على حاجة، بس الناس في بيتنا، ودي وحشة في حقنا، هنتفضح.
جاء ردها على نفس القدر من عدm المبالاة:
-مش فارق معايا.
كشحوب المـ.ـو.تى بدا وجه "فردوس" هكذا بعدmا أدلت بدلوها في هذه المسألة الحرجة، لذا دون تفكيرٍ انحنت عليها ترجوها بنبرة متوسلة للغاية:
-يا "تهاني" الله يرضى عليكي، اطلعي اقعدي شوية لحد ما يمشوا، وبعد كده يحلها ألف حلال.
ضجرت "تهاني" من إلحاحها السقيم، وصاحت بصبرٍ نافذ وهي ترفع رأسها عن الوسادة:
-أوف، ماشي، بس مـ.ـا.تزعلوش من اللي هيحصل بعد كده!
...........................................
بعد عشر دقائق من التلكؤ والمماطلة، خرجت "تهاني" أخيرًا من الغرفة وهي بالكاد تبتسم، لم تضع في وجهها إلا قدرًا معقولًا من مساحيق التجميل، ولم تترك شعرها منسابًا، بل جمعته كعكة، واكتفت بـ.ـارتداء أحد أثواب عملها الرسمية. ترفعت في الرد على ضيوف والدتها، ومنحتهم المقتضب من الكلام بعدmا جلست مجاورة لعريسها المرتقب، تطالعه بنظراتٍ دونية، غير راضية. ظنت "عقيلة" أن الزيارة ستمضي على ما يرام إلى أن وجهت ابـ.ـنتها سؤالها لـ "شفيق" بتحفزٍ غامض:
-وإنت جايب الشقة بتاعتك فين بقى؟
تلجلج وهو يخبرها بشكلٍ ملحوظ:
-احنا في الأول هنسكن في أوضة هنا آ...
صدmها بردها الهادm لكل أحلامها المبنية على عيشة الرغد والرفاهية، لهذا قاطعته فجأة بنبرة حادة جعلت الجميع يتوقعون الأسوأ:
-أوضة!!
انتابه المزيد من التـ.ـو.تر، فابتلع ريقه، ولعق شفتيه سريعًا قبل أن يخبرها بصوتٍ ما زال مذبدبًا من رهبته:
-ما أنا ماسك مقاولة في عمارة جديدة، وصاحب العمارة واعدني هاخد شقة لما العمارة تتشطب.
كتفت ساعديها أمام صدرها، ووضعت ساقًا فوق الأخرى وهي تسأله بصيغة تهكمية:
-والمفروض أنا أسكن فين لحد ما تخلصها؟
أخرج "شفيق" منديلًا قماشيًا من جيب بنطاله، جفف به عرقه المتجمع عند جبينه، وأجاب وهو يرفرف بجفنيه:
-ما أنا بقول هناخد حاجة محندقة كده لحد ما ربنا يعدلها.
سددت له "تهاني" هذه النظرة المخيفة، فما كان منه إلا أن اقترح بنزقٍ:
-ولو عاوزة نسكن مع أمي فهي معندهاش مانع...
ثم التفت تجاه والدته يستأذنها:
-مش كده يامه؟
أومأت برأسها وهي تؤكد له:
-وماله، البيت واسع، ويساع من الحبايب ألف.
أتى تعقيب "تهاني" جافيًا قاسيًا، وهي تحدج كليهما بنظرات نارية متعالية:
-أنا ما بسكنش مع حد!!!
سرعان ما تراجع "شفيق" عن اقتراحه، وقال متمسكًا بأمله المعقود عليها في الظفر بها كزوجة مناسبة:
-يبقى نشوف حاجة على أدنا، وده وضع مؤقت زي ما قولت.
انتقلت "تهاني" لسؤالها التالي بوجهٍ مشـ.ـدود:
-وافرض الوضع مـ.ـا.تعدلش معاك؟ هتتصرف إزاي؟
ألقى نظرة سريعة تجاه والدته، وعاود التطلع إليها وهو يجاوبها:
-الحمدلله أنا راجـ.ـل كسيب والقرش بيجري في إيدي.
هنا جاء تعليقها متعاليًا، وبه شيء من الإهانة إليه:
-بس إنت شايف إنك مناسب ليا؟
أحس بانتقاص قدره من كلامها الموحي، وسألها مباشرة ليتأكد من ظنونه:
-مش فاهم عدm اللامؤاخذة!
أوضحت له ببساطة:
-يعني أنا دكتورة وشغالة في الجامعة، وإنت...
ثم أعطته هذه النظرة الاحتقارية قبل أن تختتم جملتها:
-نقاش!
عندئذ تكفلت والدته بالرد عليها بعصبية ظاهرة في صوتها:
-الراجـ.ـل مايعبوش إلا جيبه.
التفتت تنظر إليها بغرورٍ وهي تكلمها:
-ده بمفهوم زمان، لكن دلوقتي الوضع اتغير، في معايير تانية لاختيار الزوج...
ثم حولت ناظريها نحو "شفيق" متابعة:
-وأظنك مـ.ـا.تقدرش توصلها.
هبت والدته واقفة وهي توجه عتابها لصاحبة البيت:
-هو احنا جايين نتهزق هنا؟ ما تقولي حاجة يا ست "عقيلة".
نهضت هي الأخرى بدورها، وصاحت في ابـ.ـنتها:
-جرى إيه يا "تهاني"؟ بالراحة شوية! مش كده.
ببطءٍ مغيظ قامت "تهاني" من مقعدها لترد ببرود جعل الجميع يستشيط غضبًا:
-أنا بحط النقط على الحروف، وأظن ده من حقي، زي ما هو اتفرج ونقى واختار العروسة المناسبة ليه، أنا كمان من حقي أشوف العريس اللي يليق بيا.
خرجت والدة العريس عن طور هدوئها لتهدر في ابنها بحنقٍ مبرر:
-قولتلك من الأول دي شايفة نفسها ومـ.ـا.تنفعكش.
وجه نظرة نارية نحو "تهاني" قبل أن يومئ برأسه هاتفًا وهو يهم بالرحيل:
-الظاهر كان معاكي حق، بينا يامه.
ضـ.ـر.بت "عقيلة" كفها بالآخر وهي تردد بتحسرٍ بائن على كامل ملامحها:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، هاقول إيه بس.
ما إن خرج "شفيق" من المنزل حتى صفق الباب خلفه بقوةٍ لترتج أركان المنزل، لامتها "فردوس" في التو بعبوسٍ متجهم:
-عاجبك كده؟
جلست بأريحية في مكانها، وعلقت باسمة بزهوٍ:
-الباب اللي يودي.
كادت مقلتاها تبرزان وهي تزيد من عتابها لتشعرها بفداحة خطئها:
-ده عريس لقطة، صعب يتعوض!!
قوست شفتيها مغمغمة في هدوءٍ بـ.ـارد:
-اتجوزيه إنتي.
بحـ.ـز.نٍ بدأ يحتل تعابيرها جلست "فردوس" على الأريكة، وقالت بألمٍ:
-يا ريته كان جاي عشاني، بس كل اللي بيجي هنا البيت عايزك.
تطلعت شقيقتها ناحيتها في استعلاءٍ قبل أن تخبرها:
-وأنا مش هرضى بأقل من اللي أستحقه!
رمقتها "فردوس" بنظرة يائسة ما لبث أن تحولت للقهر حين أتمت جملتها:
-الرخيص ما يرضاش إلا بالرخيص.
حاولت لملمة ما تبعثر من كرامتها، فنهضت من مجلسها وردت بنبرة جريحة:
-خليكي إنتي بصة كده للعلالي لحد ما تقعي على جدور رقبتك تتكـ.ـسر، وساعتها مش هتلاقي غير الرخيص يداويكي.
تركتها بمفردها وابتعدت وهي تذرف الدmـ.ـو.ع الحارقة من عينيها، تأملتها والدتها بنظرة متعاطفة قبل أن تتجه إلى ابـ.ـنتها الناقمة، وقفت قبالتها، وشملتها بنظرة غاضبة لتستطرد بعدها:
-أنا مش عارفة أقولك إيه على الفضايح دي؟!!
حافظت "تهاني" على ثبات بسمتها الصغيرة حين ردت وهي تقوم واقفة:
-ولا فضايح ولا حاجة، ده عرض وطلب، وطلبه مرفوض!
لوحت "عقيلة" بيدها في الهواء مكملة بنفس الصوت الغاضب:
-أنا غلبت معاكي، ومعنتش هتحشرلك في حاجة.
ردت عليها بهدوءٍ:
-يا ريت، وعمومًا هي كلها فترة صغيرة وأسيب لكم الدنيا وأمشي.
تفاجأت بعزمها على السفر بعيدًا، فاحتدت نظراتها إليها وهي تسألها:
-كمان؟ إنتي برضوه مصممة على كده؟
أجابت مؤكدة بتصميمٍ أظهر عدm تراجعها مطلقًا:
-ده مستقبلي ومش هضيعه!
بدأت أنفاس "عقيلة" تضطرب، وسألتها في انفعالٍ مستنكر:
-تقومي تتغربي لوحدك في بلد الله أعلم هيحصلك فيها إيه وإنتي مش معاكي حد؟!!
بعجرفةٍ ما زالت تسود فيها ردت:
-أنا مش صغيرة، وعارفة كويس مصلحتي فين ومع مين...
ثم ركزت بصرها عليها لتتابع دون أن يرف لها طرف:
-ومش هسمح لحد يمنعني أو يقف في طريق أحلامي.
بدا ما تفصح عنه كالنكبات التي تُحدث المزيد من التصدعات في علاقتها الأمومية بها، وكأن الفجوة بينهما تزداد اتساعًا. تنهدت بعمقٍ، وسألتها في صوتٍ شبه لائم:
-هتبعدي عن أمك؟
لم تعلق بشيء مما أوغر صدرها و.جـ.ـعله يمتلأ بالكمد والألم، نظرت لها شزرًا ورددت وهي تغادر من أمامها:
-يا ألف خسارة عليكي، روحي الله يهديكي لحالك.
رغم شعور الضيق الذي اجتاحها لحظتها، إلا أنها تغلبت على مشاعر الضعف هذه، وهتفت مع نفسها بإصرارٍ معاند:
-بكرة يعرفوا قيمتك.
..........................................................
وهل في الهروب كل الحلول؟ أم أنها البداية للابتعاد وإن عنى ذلك السقوط في جحيم المجهول؟ لم تظن أن الوقت سيمضي بها سريعًا، لتصل إلى لحظتها المنشودة، حيث أصبحت تتواجد في صالة المغادرة بالمطار، استعدادًا لإكمال باقي الإجراءات الخاصة بسفرها للخارج. وقفت "تهاني" إلى جوارها رفيقتها تتفقد الأوراق التي بحوزتها لتتأكد من عدm نسيانها لشيء، ألقت بعدئذ نظرة سريعة على الحقيبة الجديدة –والتي قد ابتاعتها لتضع فيها ثيابها الجيدة لتمنحها مظهرًا مهنـ.ـد.مًا بعدmا تخلصت من القديم وغير الملائم- وتممت على غلق السحاب بها.
استقامت وافقة، وزفرت دفعة من الهواء وهي تبتسم بنشوة عارمة، عادت لتنظر ملء عينيها لرفيقتها، وخاطبتها في سعادة أكبر:
-ياه، أنا مش مصدقة إن اللحظة دي جت.
منحتها "نهاد" نظرة داعمة، فأكمل حديثها المتحمس إليها وداخلها يقفز طربًا:
-كنت قربت أفقد الأمل، معقول الحلم بقى حقيقة؟
أشارت بيدها مؤكدة:
-بصي حواليكي، إنتي النهاردة هنا في المطار، وكلها شوية وتبقي برا البلد خالص.
استنشقت الهواء بعمقٍ، وردت:
-مظبوط.
تلفتت "نهاد" حولها بنظراتٍ حائرة، قبل أن تثبت عينيها عليها لتسألها:
-بس هو محدش جه معاكي يودعك؟
وقتئذ ارتبكت "تهاني" قليلًا، وحمحمت مرددة بإيجازٍ غامض:
-لأ...
نظرت إليها بتعجبٍ أكبر يشوبه الاستفهام، لذا حفظًا لماء الوجه رسمت بسمة زائفة على محياها، وتكلمت:
-أنا أصلًا مابحبش لحظات الوداع دي، وصممت أجي لوحدي.
هزت رأسها بتفهمٍ بالرغم من عدm اقتناعها بتبريرها الواهي، مالت ناحيتها تحتضنها وهي توصيها:
-خدي بالك من نفسك يا "تهاني"، وابعتيلي أول بأول عشان أطمن عليكي.
تراجعت عنها قائلة:
-حاضر.
ثم مدت يدها لتمسك بحامل الحقيبة، وأضافت:
-الوقت أزف، يدوب ألحق أخلص الإجراءات قبل ما أطلع الطيارة.
ربتت على ذراعها هاتفة وهي تهز رأسها خفيفًا:
-ماشي يا حبيبتي، أشوف وشك بخير.
لوحت لها "تهاني" بيدها، لتتابع المسير نحو البوابة الزجاجية، وعيناها تتحرقان شوقًا لما اعتبرته مستقبلها المشرق، أخذت تردد في طيات نفسها وهي تنخرط بين جموع المسافرين المتجمعين عند أماكن مراجعة الأوراق:
-الحياة أكيد هتضحكلك، إنتي تستحقي ده، كفاية فقر بقى وضنك ............................................ !!
↚
(إنها الصدفة)
التجول بغير هدى في مكانٍ ممتلئ بمئات الأشخاص الغرباء عنها جعلها تشعر بقدرٍ من الرهبة يتسلل إليها. قاومت ما اعتراها من قلقٍ وتـ.ـو.تر وتابعت مشيها المتأني نحو طابور مراجعة الأوراق، ناولها الموظف جواز سفرها بعد وضع الختم عليه، فانتقلت إلى الصالة الداخلية، وبحثت عن مكانٍ تجلس به ريثما تسمع النداء الخاص بالصعود على الطائرة. لم تكن ذات صلة جيدة مع باقي أفراد بعثتها، بالكاد تربطها بهم مجرد عبـ.ـارات عابرة، ورسمية، لهذا وجدت صعوبة في الانخراط معهم، انتقت عيناها بقعتها المنشودة بعيدًا عن الصخب المحيط بها، لهذا أسرعت الخطى تجاهها، واستقرت جالسة بمفردها وهي تحرر زفيرًا طويلًا من رئتيها.
راحت "تهاني" تنظر إلى من حولها بشيءٍ من الخوف الممزوج بالحـ.ـز.ن، كم تمنت أن تجد عائلتها إلى جوارها تشـ.ـد من أزرها في لحظات الفراق العصيبة! لكن ما تذكره قبل خروجها من المنزل، شجارها مع والدتها، ونظرات القهر في عيني شقيقتها. ألقت وراء ظهرها هذه المشاعر المحبطة، ونفضت عن تفكيرها ما يعيق أحلامها، وراحت تخاطب نفسها:
-بكرة يعرفوا إن كان معايا حق.
لفظت الهواء بعمقٍ من صدرها وهي تلمح ظل أحدهم يحل عليها، قبل أن تجده يستقر بجوارها، نظرت بطرف عينها لهذا الغريب الذي أفسد عليها عزلتها، لم يلقِ لها بالًا، وانشغل بمطالعة ما بحوزته من مجلة ما. رفعت يدها نحو جانب رأسها تسوي شعرها، وركزت بصرها على الجواز الموجود بيدها. ظل الصمت مخيمًا بينهما إلى أن أحست برغبة غريزية ملحة تدعوها لشرب الماء، حينئذ تلفتت حولها، وتكلمت بصوت شبه خافت؛ لكنه كان مسموعًا له:
-مافيش حد بيبيع مياه هنا؟
وجدت شريكها في المقعد يمد يده بزجاجة بلاستيكية مغلقة ناحيتها مرددًا:
-اتفضلي.
تفاجأت من تصرفه، واعتذرت في حرجٍ:
-لا شكرًا، مافيش داعي...
ثم نهضت من موضعها متابعة بلهجةٍ اتخذت طابعًا رسميًا:
-أنا هشوف في أي مكان هنا.
أصر عليها بلباقةٍ رافعًا يده للأعلى بالزجاجة، وهذه الابتسامة الصغيرة تزين صفحة وجهه:
-دي زيادة معايا، ومقفولة.
أوشكت على الاعتراض؛ لكنه أبدى تصميمًا فاقها عنادًا:
-مش هاقبل بالرفض، دي حاجة بسيطة.
أمام ما اعتبرته ذوقه اللطيف استسلمت، خاصة أن مظهره المهنـ.ـد.م والرسمي أوحى برقيه وعدm انتمائه لطبقة عامة الشعب الكادحة، فأمثاله من الأثرياء لن يحاولوا استمالة إحداهن بواحدة من الطرق الرخيصة. قبلتها منه قائلة بوداعةٍ، وقد ارتخت تعابيرها المشـ.ـدودة نوعًا ما:
-شكرًا على ذوقك.
عاودت الجلوس، وراحت ترتشف من المياه المعدنية القليل، نظرت ناحيته مرة أخرى عنـ.ـد.ما سألها:
-أول مرة تسافري؟
أجابت بحذر:
-أيوه.
لاحقها بسؤاله التالي، بطريقةٍ أوحت برغبته في التودد إليها:
-فسحة ولا شغل؟
حاولت الحفاظ على جديتها وهي تجيب مقتضبة:
-بعثة!
مط فمه معلقًا في إعجابٍ:
-بعثة! واضح إنك من المتفوقين.
تنحنحت هاتفة في تهكمٍ طفيف:
-بيقولوا.
ترك المجلة من يده، ووضعها جانبًا، ثم سألها باهتمامٍ:
-خريجة إيه؟
تنهدت قبل أن تجاوبه:
-علوم.
استدارت بجسدها نصف استدارة، وسألته في تحفزٍ يشوبه الضيق:
-حضرتك سألتني كتير، وأنا معرفش حاجة عنك.
على عكسها تمامًا، كان مسترخيًا لأبعد الحدود، وكأنه اعتاد على محاولات الصد والرد من النساء؛ لكنه كان لا يستسلم أبدًا، فله طريقته الاحترافية في جذبهن إليه للظفر بما يريد. انتصب في جلسته، ووضع ساقًا فوق الأخرى، ثم خاطبها بعتابٍ خفيف:
-أكيد ده مش شكل حد ناوي شر، دي أسئلة عادية، بنكـ.ـسر بيها الملل، فأرجو إن ده مايكونش مضايقك.
ردت بقدرٍ من الحيطة:
-مقصدش، بس مش متعودة أتكلم مع حد مش عارفاه.
هز رأسه متفهمًا حين عقب عليها:
-معاكي حق، الحرص واجب برضوه...
بقيت نظرات "تهاني" مرتكزة عليه، لا تعرف ما الذي كان يستحثها لمواصلة الحوار معه، رأت كيف زادت ملامحه ارتخاءً حين سألها بمكرٍ:
-بس الأهم إني معرفش لحد دلوقتي اسمك، ممكن أعرفه ولا في مانع؟
رغم القلق الذي يمور بداخلها تجاهه، إلا أنها بعد لحظة من التردد قالت:
-أنا دكتورة "تهاني".
تعمدت إضافة هذا اللقب لتشعره بأهمـ.ـيـ.ـتها؛ لكنها وجدت ابتسامته اللبقة تتسع قليلًا، سرعان ما تعلقت نظراتها بيده الممدودة لمصافحتها عنـ.ـد.ما تكلم وهو يطالعها باهتمامٍ:
-تشرفنا يا هانم...
اندهشت منه، وبادلته المصافحة، فأكمل جملته وهو يمنحها نظرة ذات مغزى:
-وأنا الدكتور "ممدوح".
تلقائيًا وجدت نفسها تُبدل من أسلوبها المتجافي في التعامل لآخر لطيف مرح، على أمل أن ينتهي هذا الحوار العابر بشيءٍ من المنفعة المستقبلية، فقلما التقت بأحدٍ ممن ينتمون لفئة الأثرياء المنعمين بكافة سبل الراحة والسعادة.
.........................................
كانت شـ.ـديدة الحرص في عدm الحديث عن أمورها الشخصية، فانتقت من الكلام ما جعل غالبيته يدور عن طبيعة عملها، والمعاناة التي تتلقاها لتحصل على التقدير الملائم، خاصة بعدmا استثير فضولها بأحاديث "ممدوح" المشوقة عن جولاته وصولاته بالداخل والخارج، فباتت شبه متأكدة من ملء جيوبه بما يفيض ليفعل ذلك، لهذا أخفت عنه ما اعتبرته فقرها المعيب، وبؤسها المنفر، فكيف تخبره بأنواع البشر الذين تعيش معهم وهو ينضحون بكل ما هو تعيس. انجذبت كليًا إلى أسلوبه المشوق في سرد خبراته العلمية، وما حاز عليه من جوائز وشهادات تقدير في فترات وجيزة، وما زاد من إعجابها به أنه أخبرها بتخصصه في نفس مجالها، مع فارق انتمائه لجامعة أخرى غير التي تخرجت منها.
للحظةٍ شردت بخيالها بعيدًا، كأنما حلقت فيما بعد الأفق، حيث وجدت فيه الطموح والوسيلة لتحقيق أحلامها العالقة. شتت صدفة لقائهما صوت النداء الداخلي، فنهضت تودعه وهي تمد يدها لمصافحته:
-فرصة سعيدة د. "ممدوح"، أتمنى نتقابل تاني.
بدلًا من مصافحتها، رفع يدها برقةٍ إلى فمه ليقبلها بنعومة قائلًا:
-أنا حقيقي محظوظ إنتي اتقابلت معاكي.
خفق قلبها لملاطفته التي لم تعهدها مُطلقًا، وأحست بشيءٍ ناوش مشاعرها وهي تستشعر حُر أنفاسه على جلدها، رمشت بعينيها غير مصدقة تصرفه، فتابع مشـ.ـددًا بنبرته المهتمة:
-خدي بالك من نفسك يا دكتورة "تهاني".
قالت بصوتٍ مضطرب وهي تجاهد للحفاظ على ثبات بسمتها المرتبكة:
-وحضرتك كمان.
لامها في ودٍ:
-بلاش حضرتك دي، كده بتحسسيني إني كبير في السن.
استعادت يدها من بين أصابعه، وردت نافية في تـ.ـو.ترٍ:
-لأ خالص.
تصنع الضحك، فحاولت التغطية على حرجها بقولها:
-وشكرًا مرة تانية على المياه.
اكتفى بالابتسام لها، فتلبكت أمام نظراته المليئة بشيء كانت تتوق إليه، تنحنحت متابعة وهي تشير بيدها:
-يدوب ألحق اتحرك.
أشار لها بيده قبل أن يخفيها في جيب سروال بدلته البنية:
-اتفضلي.
تحركت بتباطؤٍ، والتفتت لأكثر من مرة لتلوح له وهي تبتسم كالبلهاء، كان لا يزال واقفًا في موضعه، يمنحها نفس القدر من الابتسام والاهتمام، بالكاد أبعدت نظراتها عنه قبل أن تختفي وسط جموع المتجهين إلى بوابة الصعود على متن الطائرة، وهي ترجو أن يجمعها القدر به مرة أخرى.
.......................................
ساعدتها المضيفة على بلوغ مقعدها المحجوز مسبقًا بمؤخرة الطائرة، فابتسمت لها مجاملة، ووضعت حقيبتها الصغيرة بالدرج العلوي، قبل أن تجلس وتشـ.ـد حزام الأمان حول خصرها. كانت ممتنة لكونها ملاصقة للنافذة الصغيرة، حيث ستتمكن من رؤية السماء والسحب حين تحلق الطائرة عاليًا، نظرت جانبًا عنـ.ـد.ما سمعت جلبة قريبة منها، اشرأبت بعنقها محاولة متابعة ما يدور؛ لكن فضولها تبدد وقد أشارت المضيفة لشابة غريبة عنها لتستقر بجوارها.
سرعان ما شملتها "تهاني" بنظرة فاحصة مدققة لهيئتها شبه الفوضوية، ثيابها كانت عادية، بل أقل بكثير من مقياس التناسق والملائمة الذي تضعه كمعيارٍ في رأسها، لم تكن مثلها محجبة، ومع هذا لم تبدِ اهتمامًا بتصفيف شعرها، بل عقدته جديلة طويلة، وكأنها طالبة بالمرحلة الإعدادية، ينقصها فقط الأنشوطة البيضاء والثوب الرمادي. تطلعت الشابة غريبة الأطوار إليها بنظرات مشرقة مفعمة بالحياة، واستطردت تسألها بلا مقدmـ.ـا.تٍ استهلالية:
-مش إنتي دكتورة "تهاني"؟
استغربت لمعرفتها السابقة بها، وردت في دهشة حائرة:
-أيوه.
ظلت ابتسامتها المتسعة كالبُلهاء تملأ كامل وجهها، ورفعت يدها لتصافحها مُعرفة بنفسها:
-أنا دكتورة "ابتهال"، من قسم الحشرات، ومعاكي في البعثة.
يا للحظ العاثر، من بين كل البشر، تصبح هذه السمجة رفيقتها؟ كيف ستتحمل المكوث معها طوال الأيام، بل الأسابيع القادmة ريثما توفق أوضاعها وتستقل بذاتها؟ إنها الجحيم بعينه! بالكاد لامست يدها الممدودة إليها، وبنوعٍ من الترفع أيضًا همهمت:
-أها، أهلًا بيكي.
أضافت "ابتهال" بحماسٍ:
-أنا كنت دايمًا بشوفك في الكلية، وفرحت أوي إنك معانا في البعثة، ده الواحد أصلًا مش مصدق إنه بقى على الطيارة...
ثم خفضت من نبرتها، لتبدو وكأنها تهمس في أذنها عنـ.ـد.ما أكملت جملتها:
-يعني كان صعب يطلعونا وسط الوسايط، ما إنتي فاهمة بقى.
لم تنبس "تهاني" بكلمة، بل شعرت بالضجر والانزعاج من وجودها، وأظهرت ذلك على قسمـ.ـا.تها، لعل وعسى تفطن هذه الثرثارة إلى استيائها؛ لكنها واصلت الحديث بلا توقفٍ، وسألتها:
-أكيد وشي مألوف بالنسبالك؟
تعاملت معها بجفاءٍ، فجاء ردها:
-لأ، ماظنش.
وكأنها لم تفقه للأسلوب المتعالي الذي تتخذه معها، فاستأنفت الكلام بأريحية تامة، كما لو كانت تربطها صلة وثيقة بها:
-احنا برضوه قسمنا كان منعزل عن الباقيين، بس أنا اللي عاملة زي الدودة، عمالة أور هنا وهناك عشان أعرف كل حاجة، فتلاقيني كده ليا لي كلام مع غالبية الناس، وبيعرفوني على طول، ما هو أنا أصلي عِشرية، مش بالساهل حد ينساني كده.
كانت كالصداع الذي يفتك بالرأس، لم تستطع الخلاص منها بسهولة، سحبت شهيقًا عميقًا تثبط به الضيق الذي راح يتصاعد بداخلها، ولفظته وهي توجز في مشاركتها بالكلام:
-تمام.
تفاجأت بها تلكزها في جانب ذراعها، كما لو كانت رفيقة حميمية لها، احتدت نظراتها، وسددت لها نظرة محذرة، فوجدتها تدعي الضحك لتخبرها بعدها في سماجة غير مستساغة لها:
-احتمال يحطونا في أوضة واحدة في السكن، يعني باعتبـ.ـار إن مافيش غيرنا بنات.
وقتئذ حلت تكشيرة مستاءة على تقاسيمها، وقالت بعبوس منفعل:
-ادعي نوصل بالسلامة الأول، وبعد كده نشوف اللي هيحصل.
كانت هادئة إلى أقصى الحدود، فرددت بتنهيدة بطيئة:
-يا رب، بصي أنا بحاول ألهي تفكيري بالرغي معاكي شوية، يعني بدل ما التـ.ـو.تر يمسك فيا.
أغمضت "تهاني" عينيها في يأسٍ، إسكاتها كان مستحيلًا، وضعت يدها أعلى جبينها، وصوت هذه المزعجة يخاطبها:
-ت عـ.ـر.في يا دكتورة "تهاني"، ولا أقولك نخلي البُساط أحمدي بينا، فأنا أقولك "تهاني" كده بس، وإنتي تقوليلي "ابتهال".
أطلقت بعد ذلك ضحكة مجلجلة، لتضيف:
-معلش أنا رغاية حبتين زيادة وآ...
نفد صبرها على الأخير، فانتفضت تصيح بها:
-أنا دmاغي مصدعة، ممكن نهدى حبة.
أومأت برأسها مغمغمة:
-ماشي.
صمتت لثانيتين قبل أن تعاود الكلام:
-طب قدامنا أد إيه عقبال ما نوصل؟
نفخت "تهاني" في سأم، وأخبرتها في صيغة متسائلة:
-مكتوب في التذكرة، ماشوفتيهاش ولا إيه؟
أجابت عليها بابتسامة عريضة:
-لأ، أصلي متـ.ـو.ترة زيادة عن اللزوم...
أولتها جانب وجهها، وهي تبرطم بسخطٍ، بينما ظلت "ابتهال" تُحادثها بلا أدنى شعور بالملل:
-عارفة بقية البعثة كلها قاعدة قدام، المفروض كنا نبقى معاهم، بس ملاقوش أماكن كفاية، فـ...
سلطت "تهاني" كامل نظراتها على ما تطل عليه نافذتها الصغيرة، وهذا الصوت المحتقن بداخلها يردد في نقمٍ:
-هو أنا كنت ناقصة واحدة زيها؟!!
...............................................
مضت ساعات مكوثها بالطائرة بطيئة للغاية، لم تسلم خلالها من لسان "ابتهال" الثرثار، فقد كانت تملك طاقة كلامية لا تنضب أبدًا، وعلى قدر طاقة تحملها حاولت "تهاني" تجاهلها، وتعاملت معها بجفاء ورسمية بحتة، لكنها لم تفهم بالتلميحات المبطنة ولا بالإشارات المعلنة، حيث واصلت تحريك فاهها لتحكي في أي شيء وكل شيء. ما إن انتهت كلتاهما من إجراءات الوصول حتى أسرعت "تهاني" في خطاها لتبتعد عنها؛ لكنها كانت كظلها، لحقت بها، ولم تتركها تغيب عن نظرها لثانية.
بمجرد أن اقتربتا من باب الخروج من صالة المطار، لفحة من الهواء الساخن لطـ.ـمـ.ـت وجنة "ابتهال"، فراحت تشتكي وهي تحرك يدها كالمروحة لعلها تحصل على نسمة مُرطبة:
-ياني على الجو، ده ولا جهنم...
نظرت لها "تهاني" شزرًا، هي مثلها تشعر بسخونة الجو، وتوقعت اختلاف المناخ هنا، ومع ذلك لم تشتكِ. أضافت هذه المزعجة بعد زمة سريعة لشفتيها:
-وربنا احنا بلدنا نعمة، الهوا فيها يرد الروح، وينعش القلب.
كالعادة لاذت بالصمت الإجبـ.ـاري معها، وتابعت سيرها نحو المخرج، فسألتها "ابتهال" مستفهمة:
-هما قالوا هنركب إيه عشان نروح السكن؟
نفخت بصوتٍ مسموع قبل أن تجيبها:
-في أكيد أتوبيس هيوصلنا، مش هنمشيها يعني!
انتبهت "ابتهال" لأحدهم على وجه الخصوص وهو يقف أعلى الرصيف الخارجي للمطار، فصرخت بفرحةٍ، وكأنها رأت نجمًا سنمائيًا:
-بصي هناك، ده دكتور "عبد الحافظ"، هو المسئول عننا هنا، الحمدلله إني شوفته.
اندهشت لمبالغتها، وظلت تحدق بها وهي تأمرها:
-تعالي نروحله، أكيد هو مستنينا.
لم تكتفِ بذلك، بل صرخت عاليًا غير مبالية بلفت الأنظار إليهما:
-يا دكتور "عبد الحافظ"، يا دكتور!
نظر إليها الرجل الخمسيني الوقور باهتمامٍ، بدا على ملامحه عدm الاندهاش لرؤياها، وتقدm ناحيتها مُرحبًا بها:
-حمدلله على السلامة يا دكتورة "ابتهال"...
اتجه بنظراته نحو "تهاني"، وأكمل:
-أنا مستنيكم من بدري.
لم يحد بناظريه عنها وهو يسألها ليتأكد:
-دكتورة "تهاني"؟ مظبوط؟
هزت برأسها قائلة:
-أيوه.
مد يده لمصافحتها وهو يعرف بنفسه:
-أنا الدكتور "عبد الحافظ"، المسئول هنا.
رسمت ابتسامة صغيرة مهذبة على محياها مبادلة إياه التحية:
-اتشرفت بحضرتك.
تساءلت "ابتهال" مستوضحة وهي تدور برأسها حولها، كأنما تفتش عن أحدهم:
-أومال باقي الزملاء فين؟ سبقونا ولا إيه؟
أشار نحو حافلة متوسطة الحجم قبل أن يخبرها:
-موجودين في الأتوبيس.
عندئذ مالت بجسدها نحو "تهاني" لتهمس في أذنها بتذمرٍ:
-شكلنا آخر ناس خلصوهم، باين الكوسة هتشتغل من أولها.
كزت على شفتيها في حنق مزعوجٍ منها، أشاحت بوجهها بعيدًا، ولفظت زفيرًا طويلًا وهي تردد بلا صوت:
-ارحمني يا رب.
.......................................
عن عمدٍ تعمدت أن تسد أذنيها عنها حين جلستا متجاورتين في الحافلة الصغيرة، علها تيأس منها وتصمت. التهت "تهاني" بالتحديق في الطريق وطافت ببصرها عبر زجاج النافذة على المعالم الصحراوية المحيطة بها، كانت الطبيعة البيئية لهذه المنطقة تختلف عما اعتادت رؤيته في نهار عملها الروتيني من زحام واختناقٍ مروري، فالسماء كانت باهتة، والغبـ.ـار انتشر كالسحاب فجعل الرؤية ضبابية في أماكن، ومتوسطة في أماكن أخرى. تسلل إليها وهي تحاول اللحاق بكل ما تراه لتحفظه الشعور بالرهبة والارتياب، وأدت ما انتابها من أحاسيس خائفة متسلحة بطموحها غير المحدود.
تباطأت سرعة الحافلة عند منطقة سكنية معينة، فأمعنت "تهاني" النظر بتدقيق لتعرف تفاصيل المكان جيدًا، فمن المفترض أن تقطن هنا. من الخارج بدت البناية نظيفة، حديثة الطلاء، جيدة التصميم؛ لكن حين صعدت للأعلى، وتحديدًا للطابق الثالث، حيث يقع بيتهما المستأجر، انتظرتها مفاجأة غير سارة، فما إن وضعت المفتاح في قفل الباب ووطأت للداخل، صدmتها رائحة الهواء العطن، فجعل صدرها ينقبض، أحست بشيء غير مريح يناوشها، أنارت الإضاءة فحلت مفاجأة أخرى أكثر صدmة عليها، تجولت ببصرها على ما يوجد بها، فرأت كيف يبدو الأثاث قديمًا ومستهلكًا من كثرة الاستعمال، تتناثر الكراكيب بعشوائية عند الأركان، ناهيك عن حاجة أرضيتها للتنظيف الشـ.ـديد. لم تكن مثلما توقعت أبدًا! راحت تردد بذهولٍ، وعيناها تبرقان بشـ.ـدة:
-معقولة، دكاترة محترمين زينا يقعدوا في مكان زي كده؟
جعلتها الصدmة تتجمد في مكانها للحظات، وقد توقف عقلها عن التفكير، في حين انبهرت "ابتهال" بالصالة المتسعة، وبدأت تتجول بحماسٍ في محيطها وهي تخبرها:
-أما أوضة شرحة وبرحة بصحيح.
ألجم تعليقها الغريب لسانها لوهلة؛ لكن اندلع الغضب بها فصرخت مستنكرة:
-إنتي بتقولي إيه؟
استغربت "ابتهال" من تشـ.ـددها، وعقدت حاجبيها في اندهاش وهي تزيد من صياحها الغاضب:
-ده عاملة زي علبة الكبريت!
ردت ببرود استفزها:
-هو احنا لينا أكل ولا بحلقة؟ ده احنا مش هندفع مليم، يوووه، نسيت، هي العملة هنا يجيلها بكام؟
سئمت من تساهلها، ومن شخصها المغيظ، فهدرت فيها بانفعالٍ:
-أنا ماقبلش بحاجة أقل من اللي استحقه.
انهت جملتها واندفعت نحو الخارج، فتبعتها "ابتهال" مذهولة وهي تسألها:
-رايحة فين يا "تهاني"؟
حاولت إيقافها عنوة، فلكزتها "تهاني" بعصبيةٍ في ذراعها وهي تصرخ بها:
-حاسبي من طريقي.
تقدmت عنها في خطواتها، ثم وقفت قبالتها، وسألتها بتخوفٍ:
-من أولها هتعملي مشاكل كده؟ هيقولوا عننا إيه؟
دفعتها بقسوة لتزيحها من أمامها وصوت صراخها يسبقها:
-ابعدي عن خلقتي السعادي، أنا روحي في مناخيري.
تأوهت من الوكزة القوية، وتغاضت عن شعورها بالألم اللحظي، وهتفت تتوسلها:
-استهدي بالله بس، وآ...
قاطعتها "تهاني" قبل أن تستأنف وصلة تذللها المستفزة صائحة بإصرارٍ، ووجهها يشتعل بحمرته الحانقة:
-إنتي عاوزة تقعدي في أوضة الفران دي يبقى براحتك، لكن أنا لأ!!!
.........................................
التنازل لمرة يعني بدء المسير في رحلة المشقة، لم تقبل "تهاني" بما لا تستحق، وأصرت على تمسكها بما ترغب، إلى أن ظفرت في الأخير بمبتغاها، وحصلت على ما يليق بها. انخـ.ـطـ.ـفت أنفاس "ابتهال" وبَهَرت عيناها بوميض لامع وهي تتجول بداخل السكن الآخر الذي تم تـ.ـو.فيره لهما للسكن فيه، قفزت كالصغار على الأريكة الجلدية، وجلجلت نبرتها قائلة بنبرة مديح:
-وربنا كان معاكي حق تعملي الشبورة بتاعتك دي، المكان أحسن بكتير، فرق السماء من الأرض...
ركزت بصرها على رفيقتها وتابعت:
-أنا بعد كده هاخدك معايا في أي حاجة.
لم تنطق "تهاني" بكلمة، اكتفت بالاستمتاع بشعور النشوة الذي تغلغل فيها، و.جـ.ـعلها تبدو كبطلة خارقة رغم أنها لم تفعل الكثير. تظاهرت بعدm الاكتراث، ووضعت هذا القناع الجليدي على ملامحها، ثم أمسك بمقبض الحقيبة، وسحبتها نحو الغرفة التي اختارتها لتكون خاصة بها، فتساءلت "ابتهال" في تحيرٍ:
-إنتي رايحة فين؟ مش هتقعدي معايا شوية؟
حانت منها نصف التفافة ناحيتها لتعلق برسميةٍ:
-داخلة أوضتي، ولو سمحتي يا ريت ما يكونش في إزعاج، أنا عاوزة أرتاح.
زينت "ابتهال" وجهها ببسمتها المتسعة وردت وهي تشير إليها:
-حقك طبعًا...
بمجرد أن تابعت مشيها وجدتها تكلمها من خلفها بثرثرتها المعتادة:
-بس عاوزين نلف حوالين المكان عشان نعرفه.
تجاهلتها عن قصدٍ، لتلج إلى غرفتها صافقة الباب ورائها بعنفٍ، مما جعل "ابتهال" تنتفض في مكانها. رفعت حاجبها للأعلى ورددت بتجهمٍ طفيف:
-هي مالها كده؟
سرعان ما تبدد الضيق من على قسمـ.ـا.تها لتتابع محدثة نفسها بابتسامة أشـ.ـد اتساعًا وهي تجلس باسترخاءٍ على الأريكة:
-يا سلام على الأعدة الملوكي اللي هنا!
...............................................
أراحت مرفقيها على حافة النافذة، واستندت بذقنها عليهما معًا، لتتطلع بشرودٍ حزين إلى المارة السائرين في الشارع، بدت من بعيد كما لو كانت غارقة في دوامة من الهموم والأثقال، وحين أتت "فردوس" وجلست إلى جوارها لم تشعر بوجودها، بقيت في انفصالها الواجم عن الواقع لمزيد من الوقت. وضعت ابـ.ـنتها يدها على كتفها لتنبهها إليها وهي تتساءل باهتمامٍ:
-مالك يامه؟ سرحانة في إيه؟
أجابت دون أن تنظر تجاهها:
-قلبي متوغوش على أختك، مكانش لازم نسيبها تسافر نهائي.
مطت "فردوس" فمها قليلًا في غير تأثرٍ، ثم غمغمت معقبة وهي تداعب بأناملها جديلة شعرها التي طرحتها على كتفها:
-ما إنتي عارفة دmاغها الحجر، مهما عملنا مكوناش هنمنعها عن اللي هي عاوزاه.
تنهدت "عقيلة" مليًا سائلة نفسها بصوتٍ مسموعٍ أيضًا لابـ.ـنتها:
-يا ترى عاملة إيه دلوقتي يا كبدي؟
بنفس الهدوء الواثق أخبرتها:
-هي ناصحة وهتعرف تتصرف.
المزيد من العبوس القلق حل على تجاعيد وجهها وهي تردد:
-يا خوفي من الغربة تغيرها، ولا تعمل فيها حاجة.
لاحت بسمة هازئة على زاوية فمها قبل أن تعلق:
-متقلقيش عليها، دي تفوت في الحديد.
غريزتها الأمومية جعلت مشاعرها المرهفة تتضاعف خوفًا عليها، فهمهمت بلا صوتٍ، وهذه النظرة الحزينة تطل من حدقتيها:
-أنصح منها والشيطان غواهم!
.............................................
بهدوءٍ شـ.ـديد، انحنت تلتقط آخر قطع ثيابها لتنتهي من ستر جسدها المكشوف، ألقت نظرة سريعة على سيدها النائم على الفراش، قبل أن تسير على أطراف أصابعها، وتقترب من مرآة التسريحة، وقفت الخادmة قبالتها تسوي بيدها خصلات شعرها النافرة، لتضع بعدئذ حجاب رأسها، وهذه الابتسامة الراضية تتراقص على شفتيها، فرب عملها يجيد منحها ما تريد من سعادة وسرور، وإن كانت هذه المشاعر تدوم لحظيًا؛ لكنها في المقابل تتمتع ماديًا ومعنويًا.
نظرة أخرى دارت بها على معصميها المكدومين، ففركتهما تباعًا، ثم سحبت الكريم المرطب لتدلك به ما بقي من آثار علاقتها الجامحة به. تنهدت بعمقٍ وهي تقاوم ما يعتريها من مشاعر أخذت تتأجج بداخلها، فقلما استطاعت مقاومة سحره وتأثيره في استدراجها نحو دوامة أهوائه العاصفة. تأكدت من ضبط هيئتها لئلا تثير الريبة وهي تتسلل خارجة من منزله في هذه الساعة المبكرة. تحركت بحرصٍ نحو جانبه من السرير، مالت عليه لتقبله من جبينه، ثم سألته في صوت ناعم رقيق:
-سي "مهاب"، عايز حاجة تانية مني قبل ما أمشي.
بصوتٍ شبه ناعس أجاب، ودون أن يفتح عينيه:
-لأ.
سألته في نفس الصوت الحنون الخافت:
-طب تحب أفضل كمان شوية؟ أشوف مزاجك وطلباتك؟
حينئذ التفت بجسده ناحيتها، ومد يده ليمسح على وجنتها برقةٍ قبل أن يرفض بلباقةٍ:
-خليها وقت تاني، عشان تلحقي ترجعي.
لاحت ابتسامتها المتدللة على وجهها، وقالت وهي تعتدل واقفة:
-ماشي يا سيدي وسيد الناس.
لوح لها بيده قبل أن يعاود الاستلقاء على جانبه وهو يقول بتثاؤبٍ:
-سلام يا حلوة.
تحركت الخادmة خارج الغرفة تجاه باب البيت، وهناك انتعلت حذائها القديم، وهذا الصوت يردد في رأسها:
-المرة الجاية هابقى أطلب منه جزمة جديدة، مش خسارة فيا.
أمسكت بالمقبض وأدارته لتفتح الباب؛ لكنها تجمدت في مكانها مصعوقة عنـ.ـد.ما رأت شقيقه يقف عند العتبة يُطالعها بنظراتٍ احتقارية مشمئزة، كان الأخير يعرفها تمام المعرفة، فهي إحدى خادmـ.ـا.ت القصر، ممن عملن لمدة قصيرة، قبل أن يتركن العمل دون تبرير، واليوم عُرف السبب، فهي متواجدة هنا في هذا المنزل المعزول، للقيام بمهامٍ أخرى لا تتضمن أي معايير أخلاقية فيها. نكست الخادmة رأسها في خزي خجل، وخرجت من البيت قائلة بصوتٍ مهتز:
-اتفضل يا بيه.
ظلت تعابيره المتأففة معكوسة على محياه، حدجها بنظرة نارية وهي تتجاوزه لتمر قبل أن يهينها بكلمـ.ـا.تٍ كانت كالخنجر في صدرها، ابتلعتها مضطرة وهي تهبط على الدرج مجرجرة كرامتها المهانة ورائها. صفق "سامي" الباب بعنفٍ، وهو لا يزال يردد بعصبيةٍ:
-حاجة تقرف.
مسح الصالة غير المرتبة بنظرة بطيئة تظهر نفوره الشـ.ـديد، فهذا البيت أو ما يُطلق عليه "وكر الملذات" هو المكان الدائم لإقامة شقيقه كلما عاد من سفره، ورغم تعدد نزواته الطائشة إلا أنه ظل الابن المفضل لدى أبيه، تجول على مهلٍ مخاطبًا نفسه، وسِحنته قد انقلبت على الأخير عنـ.ـد.ما رأى بقايا الطعام متروكة على المائدة، بجوار زجاجة للخمر وأكواب متسخة:
-طبعًا ده المتوقع منك يا "مهاب"، سايب بيت العيلة، وقاعد ليل نهار هنا، عشان تشوف مزاجك مع الأشكال (...) دي!
بخطواتِ متعصبة سار ناحية غرفته الموجودة في نهاية الرواق، ظلت تعابيره متجهمة وهو يناديه عاليًا بما احتوى على إهانة ضمنية:
-اصحى يا دكتور يا محترم!
دون أن يبدو مُباليًا بوجوده، سحب "مهاب" الوسادة من أسفل رأسه، ووضعها عليها ليقلل من وتيرة الصوت المرتفع الذي يُفسد عليه نومه. حاول "سامي" انتزاعها من أعلاه لائمًا إياه بحدة:
-عامل البيت كرخانة، ونايم ولا على بالك؟!!
استلقى "مهاب" على ظهره، وطالعه بنصف عينٍ قبل أن يكلمه ببرود:
-ليه الزعيق بس يا "سامي"؟ ماينفعش تتكلم من غير دوشة؟
استشاط غضبًا من رعونته، وردوده المستفزة، فعنفه:
-إزاي سامح لنفسك تغرق في القرف ده؟
أزاح شقيقه الغطاء عن جسده شبه العاري، وخفض قدmيه قائلًا وهو يفرك وجهه:
-إنت جاي تديني محاضرة في الأخلاق على الصبح؟
احتفظ "سامي" بطريقته المحتدة في التعامل معه عنـ.ـد.ما أخبره:
-لازم أعمل كده، طالما إنت مخلي اسم العيلة في الوحل.
وضع "مهاب" ابتسامة عابثة على ثغره، كان واثقًا أن مدلولها سيصل إليه دون الحاجة للإيضاح، وأضاف بمكرٍ مغيظ وهو ينهض واقفًا:
-لأ، اطمن .. كل اللي بيخرج من عندي بيكون مبسوط.
فارق الطول والتأثير بينهما كان ملحوظًا، فالغلبة كانت لـ "مهاب" وإن كان "سامي" الأكبر سنًا؛ لكن الأول امتاز بسمـ.ـا.ت السيطرة، والتسلط، والقدرة على إقناع الآخرين بسلاسة، لذا بلا عناءٍ سقط الأخير في فخ استفزازه، اشتعل وجهه بحمرته الحانقة، ليتبع ذلك لومًا شـ.ـديدًا منه ومصحوبًا بالتهديد المتواري:
-ولو بابا عرف؟ تفتكر هيسكت عن المسخرة دي؟
تمطى شقيقه بذراعيه لينفض الكسل عنه، ثم قال:
-"فؤاد" باشا مشغول بمشاريعه واستثماراته، مش هيركز مع التفاهات دي.
أسلوبه المستهتر وغير المبالي بتبعات رعونته جعله أكثر تحفزًا ضده، فهدده صراحةً عله يرتدع:
-إنت عارف كويس إنه لو شم خبر مش هيرحمك.
قست تعابير "مهاب" بشكلٍ مخيف، ونظر له قائلًا بتحدٍ:
-وإنت عاوز تقوله؟ اتفضل، أنا مش حايشك!!
حاول أن يظهر اهتمامًا زائفًا بشأنه، فادعى:
-أنا عاوز مصلحتك يا "مهاب".
من زاويته منحه هذه النظرة المخيفة، ليرفع بعدها يده ويضعها على كتفه ضاغطًا عليه قليلًا بقوة قبل أن يهتف:
-اطمن، أنا سايبلك كل حاجة ومسافر، متقلقش من ناحيتي.
بلع ريقه، وقال:
-إنت فاهم غلط.
فهم طبيعة شخصيته المراوغة لم يكن بالأمر العسير عليه، بدا كالكتاب المفتوح قبالته، يستطيع مطالعة أسطره مهما حاول ادعاء الغموض أو الطيبة. لم يزح "مهاب" يده من على كتفه، بل أبقى أصابعه تضغط عليه بخشونة مؤكدًا بهدوءٍ يدب الخوف في النفس:
-لأ، أنا فاهمك صح، إنت عاوز تفضل طول عمرك ابن "فؤاد" باشا المفضل، اللي ماشي تحت طوعه، وأنا هسيبلك الساحة ومش هحرمك من ده.
اختبأ "سامي" وراء عصبية مصطنعة، وصاح ملوحًا بذراعه بعدmا ابتعد عنه شقيقه الأصغر:
-خليك كده مش عارف مصلحتك فين.
لم ينظر تجاهه، ومشى بتؤدة ناحية الحمام، وصوته يصيح به:
-لو خلصت محاضرتك مـ.ـا.تنساش تقفل الباب وراك.
بالكاد كظم "سامي" غضبه، وسحب شهيقًا عميق يخـ.ـنـ.ـق به الغضب المندلع في أعماقه، فغيرته منه لا تزال كما هي، مشتعلة ومتزايدة. طرد الهواء على هيئة زفير بطيء، وردد بما بدا شبيهًا بالوعيد:
-استحمل يا "سامي"، كلها كام يوم ويمشي، وساعتها هتبقى إنت الوريث المنتظر لإمبراطورية "الجندي"
↚
(موعدٌ، فلقاء، فـ ...)
رغم تفاوت أعمارهم إلا أن القاعة الدراسية امتلأت بعشرات منهم، فجميعهم قد جاءوا وافدين من مختلف الدول لتلقي محاضراتهم بنهمٍ واهتمام، كما راحوا يعملون كالنحل في خليته لتدوين كل ما يُملى عليهم من معلومـ.ـا.ت قيمة ومفيدة لئلا يفوتهم أي مستجد طرأ على الساحة العلمية. بعد ساعات متصلة من التركيز والمتابعة، حصل الجميع على وقت للاستراحة، وإعادة شحن طاقاتهم المستهلكة. تجولت "ابتهال" بصحبة "تهاني" في أروقة المكان لتفقده، لاحظت كلتاهما كيف امتاز الحرم الجامعي بالعراقة والفخامة، فغمرهما شعوري الانبهار والفخر، فقد كان من النادر الظفر بفرصة كتلك.
تناثر الطلبة بين الأروقة، وعند القاعات المخصصة للدراسة، غالبيتهم كانوا من الشباب الذكور، قلما رأوا شابات يافعات بينهم، اِربد وجه "ابتهال" بنضارة متحمسة، ومالت على رفيقتها تهمس لها بعينين لامعتين تحويان لهفة طامعة وهي تتأمل حلقة الشباب القريبة منهما:
-شايفة الدكاترة اللي هناك دول؟
رمت "تهاني" نظرة عابرة على هذه المجموعة التي مرت من جوارها، ولم تعقب بشيء، بينما بقيت أنظار رفيقتها معلقة بمن في هذه المجموعة من شباب منهمك في النقاش. أطلقت ضحكة خافتة، وأضافت مازحة:
-المفروض الواحد يطلع من البعثة دي بعريس محترم من دول.
توقفت "تهاني" عن المشي وهذا التعبير المتجهم مرسوم على وجهها، رمقتها بنظرة حادة قبل أن تسألها بلومٍ:
-هو إنتي جاية تدرسي ولا تنقي عريس؟
أخفت شفتيها المبتسمتين خلف ظهر كفها، وصرحت لها بخفوتٍ:
-بيني وبينك، أنا عاوزة أشوف عريس لقطة هنا، ما هو التعليم موجود هيروح مننا فين.
غمغمت في تأفف:
-فعلًا، كل واحد ودmاغه.
تساءلت "ابتهال" وهي تضبط ياقتي بلوزتها الوردية:
-هو إنتي معايا المحاضرة الجاية؟
زفرت الأولى الهواء بصوتٍ مسموع، وكأنها تزيح حملًا ثقيلًا عنها، قبل أن تجيبها بهذه الابتسامة العريضة:
-الحمدلله لأ.
عبست الأخيرة قائلة بضيقٍ:
-يا خسارة، أه لو كنا نفس التخصص، مكوناش فرقنا بعض للحظة.
برقت عينا "تهاني" لحظيًا، ورددت بين جنبات نفسها وهي تسرع في خطاها لتبتعد عنها:
-دي كانت تبقى مصـ يـ بـةتانية.
لم تنكر أن شعور النفور نشأ بداخلها تجاهها منذ اللحظة الأولى، لم تستسغ صداقتها، ولم تحبذ توددها اللزج إليها، بالكاد حاولت التأقلم مع وجودها المفروض عليها، إلى أن يحين الوقت وتنفصل كليًا عنها.
..................................................
بتوقيرٍ واضح في تصرفه معه، انحنى ناحيته ليسحب برويةٍ الملف من أسفل يده بعد الانتهاء من توقيعه، ثم وضع آخر ليقوم بمراجعته بتدقيقٍ قبل أن يذيله في النهاية بتوقيعه. استقام "سامي" واقفًا، وتأكد من إعطاء والده كل الملفات المطلوبة قبل أن يدير في رأسه عنـ.ـد.ما سأله:
-أخوك سافر خلاص؟
أجابه بحذرٍ وهو يستدير حول المكتب ليجلس في المقعد المقابل له:
-أيوه، أنا وصلته بنفسي للمطار.
لم يكن "سامي" قد استراح بعد في جلسته على المقعد حين مد والده يده برزمة من الأوراق ناحيته وصوته الآمر يردد:
-عايز الملفات دي تتراجع، وتجيلي تاني النهاردة.
سأله مستغربًا وهو يأخذها منه:
-ليه؟ فيها حاجة مش مظبوطة؟
بدا وجهه جليديًا، ونبرته خشنة وهو يخاطبه بحزمٍ:
-نفذ اللي قولتلك عليه من غير نقاش.
كان يعلم أنه يهدد علنًا لمرة واحدة، وفي الأخرى تجده قد نفذ ما هدد به، بجهدٍ جهيد أخفى ضيقه من تسلطه، ليقول بخنوعٍ:
-حاضر.
نهض بعدئذ من موضعه استعدادًا لمغادرة غرفته؛ لكن صوته الأجش استوقفه قبيل الباب متسائلًا:
-عملت إيه في الأرض اللي طلبت منك تخلص ورقها؟
تجمدت أصابعه على المقبض للحظة جعلت الارتباك القلق يتناوب عليه، ازدرد ريقه، وجاوبه وهو يدير رأسه ببطءٍ لينظر إليه:
-معدتش فاضل غير التراخيص.
أخبره في صوتٍ جاف صارم:
-عاوز أسمع إنك بدأت بُنى فيها...
أومأ برأسه مبديًا طاعته له؛ لكن ما لبث أن ارتسم الخوف على تقاسيمه وهو يتم جمله بتهديدٍ آخر صريح:
-أي تقصير هحاسبك إنت!!!
مرة ثانية بلع ريقًا غير موجود في جوفه، وقال بتلبكٍ:
-على طول يا بابا.
طرقة حانقة على السطح الزجاجي جعلته يتصلب في مكانه توجسًا، أتبعها صياح والده المحتج:
-طالما احنا في الشغل تقولي "فؤاد" باشا، كام مرة هنبه عليك بده؟
اهتزت شفتاه وهو يقول:
-حاضر يا "فؤاد" باشا.
في التو خرج من الغرفة وهو يتمنى ألا يكون والده قد لاحظ ارتباكه، فالأخير من النوع المرتاب المشكك الذي لا يترك شيئًا دون التدقيق فيه أو مراجعته، فماذا ستكون عـ.ـا.قبته إن علم بما حاز عليه من ربح خفي جراء قطعة الأرض التي ابتاعها وأوهمه بغلاء سعرها؟!!
..................................................
اعتصرت الخرقة بعدmا انتشلتها من الدلو تمهيدًا لمسح أرضية المطبخ، ليصبح المكان نظيفًا، لا تتراكم به البقايا أو المخلفات عند الأركان وأسفل الموقد العتيق. حملت بعدئذ الدلو، واتجهت به إلى الحمام لتفرغ ما فيه من ماءٍ متسخ في البالوعة، ثم أعادته إلى موضع تخزينه، وسارت ناحية المطبخ لتعطي نظرة أخيرة على وعاء الطهي، استنشقت بعمقٍ الرائحة الطيبة للملفوف الشهي، وأغلقت النار تاركة الغطاء غير محكمٍ عليه. انتبهت إلى صوت أمها المنادي من الخارج:
-يا "فردوس"!
تحركت بتؤدة نحو عتبة المطبخ، وهتفت ترد:
-أيوه يامه.
سألتها من بعيد بنفس النبرة العالية:
-المحشي خلص؟
أجابتها من موضع وقوفها:
-أنا طفيت النار عليه، وسيباه يتهوى.
أمرتها بما أصابها بقليلٍ من الحيرة الممزوجة بالدهشة:
-جهزي طبق كده وصاية لخالتك "أفكار".
لم ترهق عقلها بالتفكير، اكتفت بحك جانب عنقها قائلة بلا نقاش:
-من عينيا، دقيقتين ويكون جاهز.
انشغلت في ملء الصحن وإعداده بقطع الملفوف اللذيذة، لكنها تخشبت في مكانها للحظة عنـ.ـد.ما تابعت والدتها تعليمـ.ـا.تها إليها:
-عاوزاكي تلبسي حاجة كويسة كده من دولاب أختك.
استدارت نصف التفاتة برأسها تجاهها، وسألتها بملامح حائرة، ونظرة مستفهمة:
-ليه؟
أجابت بغموضٍ زاد من حيرتها:
-هت عـ.ـر.في بعدين.
كعادتها لم تتجادل معها أو حتى تسعى لتقصي حقائق الأمور، قالت في انصياعٍ معتادٍ منها:
-ماشي يامه.
.......................................
ملَّت من كثرة ساعات الدراسة، وقلة أوقات الراحة، فأصابها الصداع، و.جـ.ـعل رأسها يطن كما لو كانت هناك نحلة نشيطة تسكنه، لا تكل من العمل المتواصل. بغير استئذانٍ تأبطت ذراع "تهاني"، وسارت متثاقلة الخطى في الرواق، تستند عليها بأريحية تامة، وكأن بينهما صداقة ممتدة لسنوات، بدت غير منتبهة للضجر الظاهر على وجه رفيقتها، وراحت تشكو إليها بإرهاقٍ واضح:
-ياني على و.جـ.ـع الدmاغ، ده كله لوك لوك كده من صباحية ربنا، إيه مابيفصلوش.
انزعجت الأخيرة مما اعتبرته لزاجتها المنفرة، وانتشلت مرفقها من تحت يدها بصعوبة، لتسرع في خطواتها، وكأنها تفر منها، فحاولت الأولى اللحاق بها وهي تسألها:
-إنتي رايحة فين كده؟
أجابت مندفعة نحو الأمام، ودون أن تلتفت إليها:
-هشوف مكان التدريب.
انقلبت سحنتها هاتفة في تأفف وقد تمكنت من بلوغها:
-يا خسارة، كان نفسي نكون سوا.
حانت من "تهاني" نظرة جانبية من طرف عينها قبل أن تُسمعها:
-الحمدلله.
استغربت من كلامها، وسألتها بحاجبين معقودين:
-الحمدلله على إيه؟
المماطلة أو المراوغة معها لن يأتي بجدواه أبدًا، عليها أن تكون مباشرة وواضحة، إذ ربما تعي في نهاية الأمر أن صداقتهما ليست كما تظن دائمة مستديمة، وإنما فرضت عليها بحكم الواقع، ولهذا عليها أن تضع الحدود في علاقتهما معًا. توقفت "تهاني" عن السير لتستدير ناحيتها، وبدأت تكلمها بتعابيرٍ جادة:
-"ابتهال" يا حبيبتي، أنا عاوزاكي تعتمدي على نفسك، مـ.ـا.تفضليش لازقة كده في الناس عشان ما يزهقوش منك.
علقت مستنكرة حديثها:
-وهو في حد يقدر يستغنى عن هزاري وفرفشتي؟
-إنتي واحدة ناضجة، والمفروض تكوني مستقلة.
-احنا في غربة، ولازم نكون إيد واحدة.
هناك فرق بين التعاون مع الآخرين، وبين ملازمتهم كظلهم ليل نهار، غير تاركين أي متنفس لهم، أدركت "تهاني" أن محاولة إفهامها طبيعة مشكلتها لن يكون بالأمر اليسير، فأثرت الذهاب، وهتفت مشيرة بيدها نحو الفراغ:
-الظاهر العربية اللي مستنياني جت، سلام.
سألتها من خلفها بشكلٍ آلي، غير مانحة نفسها الفرصة لسماع أي جوابٍ:
-طب هترجعي إمتى؟ وهناكل سوا ولا هتتأخري؟ والغسيل هنعمل في إيه؟ ده احنا المفروض نشوف نقصدنا إيه من الطلبات ونجيبه؟
تجاهلتها كليًا، وزادت من سرعة خطواتها، فنادتها عاليًا:
-يا "تهاني"! ردي عليا! طب المحاضرات الـ ....
سدت أذنيها عنها، رافضة الإنصات لما تردده من بعيد، إلى أن خرجت من البوابة الرئيسية، حينئذ تنفست الصعداء، وهتفت مبرطمة بصوتٍ خفيض، كأنما تخاطب نفسها:
-يا ساتر يا رب، بجد إنسانة تخـ.ـنـ.ـق، وتخليك تخرج عن شعورك.
................................................
إدراكها بأن قطار العنوسة يهدد فرص زواجها جعلت همومها تزداد يومًا بعد يوم، خاصة أن ابـ.ـنتها افتقرت لمسحة من الجمال الجذاب الذي يسلب عقول الرجـ.ـال، ويجعلهم يتلهفون شوقًا على الارتباط بها، ومع ذلك امتلكت سمـ.ـا.تٍ أخرى محمودة في الزوجة، من كونها مدبرة جيدة، تجيد الطهي والتنظيف، ولينة سهلة التشكيل طوع بنان من يملك زمام أمرها؛ لهذا لجأت للمتعارف عليه من الطرق التقليدية، لعل وعسى تجد الزوج المناسب لها في الأخير، وإن كان فقيرًا معدmًا، لن تمانع مطلقًا، أو تضع العقبات لتزويجها، ستفعل المستحيل لتراها مستقرة مع أحدهم.
اصطحبت "عقيلة" ابـ.ـنتها معها لزيارة شقيقتها القاطنة على مسافة قريبة من مسكنها، فاستقبلتهما الأخيرة بترحاب حار وودود جعل اللقاء بها ممتعًا. جلست الشقيقتان متجاورتان على مصطبة قديمة مجاورة للشرفة، تضحكان في ألفة ومحبة، عاتبت "أفكار" شقيقتها الصغرى بنظرة حانية وهي تشير إلى ما أحضرته معها مما لذ وطاب:
-مكانش ليه لازمة التعب ده، هو أنا غريبة.
أبدت اعتذارها منها بلطافةٍ وهي تربت على فخذها برفقٍ:
-ده أنا مقصرة معاكي ياختي، أديلي زمن ما شوفتكيش.
ثم أعطت ابـ.ـنتها أمرًا واضحًا:
-قومي علقي على الشاي يا "دوسة".
مسحت الأخيرة على جانبي الثوب الذي ترتديه لتفرده وهي تنهض، وقالت مبتسمة:
-حاضر يامه.
استطاعت الانفراد بشقيقتها بعد أن صرفتها، لئلا تساورها الشكوك وهي تستفيض في الحديث معها. استهلت "عقيلة" كلامها متسائلة بشكل روتيني:
-وإنتي إزاي صحتك دلوقتي؟
أجابت باسمة في رضا:
-في نعمة والحمدلله.
كان التعليق التالي منها مصحوبًا ببسمة مماثلة:
-يستاهل الحمد.
تولت "أفكار" دفة الحديث مجددًا، فمال ناحية شقيقتها تسألها باهتمامٍ:
-مافيش جديد عن بـ.ـنتك "تهاني"؟
هزت رأسها نافية وهي تجيبها:
-لا لسه، أدينا مستنين منها مكالمة ولا جواب تطمنا بيه على أحوالها.
عاتبتها وهي مقطبة الجبين:
-مكانش لازم تسبيها يا "أم تهاني"، السفر للبنات مش حلو...
ثم خفضت من نبرتها خاتمة جملها بتحذيرٍ أصاب قلبها بـ.ـارتجافة متوجسة:
-وإنتي أدرى الناس باللي بيحصل ولو غاب الرقيب.
ردت برجاءٍ:
-إن شاءالله ما يحصلش حاجة، أنا اللي مطمني إن العِلم واكل دmاغها.
أخفت "عقيلة" قلقها الذي انبثق بداخلها لتنظر إلى ابـ.ـنتها عنـ.ـد.ما عادت وهي تحمل صينية بها أكواب الشاي، تكملت الأخيرة باسمة وهي تناول الكوب الزجاجي لخالتها:
-الشاي أهوو يا خالتي...
ثم أعطت والدتها خاصتها، وتابعت مشيرة بيدها الأخرى الطليقة كأنما تشرح لها:
-وابور الجاز عاوز يتصلح، مرضاش يولع خالص.
ارتسم العبوس على وجه "أفكار" وهي تفسر لها سبب عطله:
-ده بقاله يومين على الحال ده، عاوزة أشوف حد يبص عليه، ده إيدي ورجلي هنا، لأحسن مبقدرش أقف على البوتجاز كتير.
من تلقاء نفسها اقترحت "عقيلة":
-نوديه عند "أبو منسي"، هو أجدع واحد يسلك بوابير الجاز.
استحسنت شقيقتها الفكرة، وعاودت النظر إلى "فردوس" عنـ.ـد.ما وجهت أمها إليها الحديث بصيغة شبه آمرة:
-ابقي جهزيه يا "دوسة" ناخده معانا واحنا نازلين.
أبدت طاعتها المعتادة عنـ.ـد.ما ردت:
-حاضر يامه.
دعت لها خالتها وهي تبتسم لها:
-نتعبلك كده نهار فرحتنا بيكي يا غالية.
تورد وجهها من الخجل، وقالت وهي تجلس في الخلف على الكرسي الخشبي:
-تسلميلي يا خالتي.
تسامر بعد ذلك ثلاثتهن في مواضيع شتى، دارت غالبيتها حول مشاكل الجيران وأهالي المنطقة، أخرجهن من التفاصيل المتشعبة صوت قرع الجرس، وقتئذ انتصبت "أفكار" في جلستها، فقد سعت بجهدٍ جهيد للتحايل على الظروف المعاندة من أجل خلق فرصة مناسبة لابنة شقيقتها، فإذ ربما يحدث المراد، وتلقى القبول من أحد الأغراب. في التو فردت كتفيها قائلة بلهجة ودية لكنها آمرة:
-قومي شوفي مين على الباب يا "دوسة".
امتثلت لطلبها قائلة وهي تنهض من موضعها:
-حاضر يا خالتي.
استدارت ولم تلحظ النظرات المعقودة على آمال كبيرة تجاهها وهي تتعلق بظهرها أثناء ذهابها بعيدًا عنهما، سارت "فردوس" بتعجلٍ نحو الباب لتفتحه، فتفاجأت بوجود أحدهم يسد عليها الفراغ، له طول فاره، وبشرة وجه سمراء، وشعر قصير فاحم مموج، يرتدي قميصًا مخططًا يجمع بين درجات اللون الأزرق، على بنطالٍ من الجينز. انفرجت شفتاها عن دهشة متعجبة، سرعان ما تنبهت لكونها قد أطالت التحديق فيه عنـ.ـد.ما بادر مُلقيًا التحية:
-سلام عليكم.
أطرقت رأسها حرجًا وهي ترد:
-وعليكم السلام.
سألها متحاشيًا النظر تجاهها:
-الحاجة "أفكار" موجودة؟
لم تتمكن من الإجابة عليه، حيث أسمعته خالتها صوتها وهي تخبره من الداخل:
-تعالى يا "بدري" أنا هنا.
عندئذ تنحت للجانب لتسمح له بالمرور، فرأته ممسكًا بحقيبة معدنية في يده. خفض "بدري" من صوته مرددًا:
-يا رب يا ساتر.
تقدm ناحية صاحبة البيت التي أتت إليه هاتفًا بنوعٍ من الاحترام:
-إزيك يا حاجة؟
قالت وهي تقترب منه بتعابيرٍ بشوشة:
-في نعمة والحمدلله، مواعيدك مظبوطة يا "بدري".
ضحك معلقًا بعدها في مرحٍ:
-إنتي عارفاني مقدرش أتأخر عليكي.
ربتت على جانب ذراعه تشكره:
-تعيش يا ابني.
سأله مستفسرًا وهو يرفع يده الحرة ليضعها على مؤخرة عنقه كلزمةٍ تلقائية:
-إيه المشكلة؟
أخبرته بقليلٍ من التجهم:
-الحنفية عمالة تنقط، ومش عارفة إن كانت عاوزة جلدة جديدة ولا آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها بعد أن استنبط طبيعة مشكلتها:
-أنا هشوفهالك.
تهللت أساريرها للأمر، وقالت بنظرة غامضة مخاطبة ابنة شقيقتها:
-روحي معاه يا "فردوس"...
قفزت الأخيرة في مكانها مشـ.ـدوهة للطلب غير المتوقع منها، فبرقت عيناها تجاهها، وظلت على حالتها المصدومة وهي تتابع أوامرها لها:
-وخليكي على إيده لحد ما يخلص، مـ.ـا.تسبيهوش، وشوفي طلباته، لأحسن ركبي شادة عليا، ومش قادرة أقف على حيلي.
لعقت شفتيها الجافتين، ورددت في صوتٍ مهتز:
-حاضر يا خالتي.
سارت في إثره بخطواتٍ متعثرة، تدل على ارتباكها، فلم تختلِ مطلقًا بأحد الغرباء عنها دون وجود أمها إلى جوارها؛ لكن بداخلها استشعرت ترتيبًا خفيًا يتم من أجلها، ويا ليته يأتي بـ.ـنتيجة مرجوة!
غابت "عقيلة" عن المشهد متعمدة لئلا تسبب الحرج لابـ.ـنتها، لكنها استرقت السمع من موضعها، رفعت كفيها للسماء، وراح لسانها يدعو في رجاءٍ شـ.ـديد:
-ربنا يجعل في وشك القبول المرادي.
انضمت إليها شقيقتها وهي تختم دعائها، فقالت هي الأخرى:
-يا رب ياختي.
عمَّ الوجوم على ملامح "عقيلة" فاستطردت في نبرة مهمومة:
-البت دي بختها قليل أوي، وخايفة أمـ.ـو.ت وأفوتها كده لوحدها، لا سند ولا ضهر.
من فورها ردت "أفكار" بنظرة معاتبة:
-بعد الشر عليكي، متقوليش كده، حسك بالدنيا يا حبيبتي، وبعدين كل شيء قسمة ونصيب، ووقت ما يجي نصيبها محدش هيحوشه.
تنهدت مليًا وببطءٍ قبل أن تضيف، والأمل يبزغ في أعماقها:
-يسمع منك ربنا.
................................................
لم يحدث جلبةً وهو يعمل في صمتٍ لتبديل قلب الصنبور غير الصالح بآخر جديد، انهمك في أداء ما جاء لأجله بتركيزٍ شـ.ـديد، كأنه جراح يجري عملية جراحية دقيقة، تتطلب كافة طاقته وقدراته، ومع ذلك انتهزت الفرصة لتراقبه بغير حرجٍ، وتتأمله عن قربٍ، الآن تفقه ذهنها لسبب إصرار والدتها على ارتداء أحد أثواب شقيقتها، وكانت ممتنة لذلك، وإلا لبدا مظهرها أقرب للخادmـ.ـا.ت عن الشابات اليافعات. مسدت "فردوس" على جانبيها بخفةٍ لتفرد ما تجعد من القماش، ثم رفعت يدها للأعلى لتمسح سريعًا على مقدmة رأسها لتتأكد من تسوية شعرها. فتشت بنظراتها سريعًا عن شيء لامع يشبه المرآة، لتلقي نظرة خاطفة على وجهها. انتفضت مرة واحدة عنـ.ـد.ما تكلم فجأة دون استهلالٍ:
-أنا كده ظبطت الحنفية، وكله بقى تمام.
وكأن لسانها قد علق بداخل جوفها، فاستغرقها الأمر لحظات حتى ترد عليه بابتسامة مشوبة بالخجل:
-تسلم .. تعبناك معانا.
جمع عدته المتناثرة هنا وهناك في صندوقه المعدني، فسألته، وقد تسرب الخجل إلى دmائها، فاندفع مسببًا توردًا خفيفًا في وجنتيها:
-تحب أعملك شاي؟
أجاب بلا تردد وفي التو:
-يا ريت.
سألته مبتسمة وهي ترمش بعينيها:
-كام معلقة سكر؟
قال وهو يستقيم واقفًا:
-تلاتة.
لوهلةٍ شعرت بنظراته تطوف عليها، كأنما تفحصها، وتتفرس فيها، فزاد خجلها وشعورها بالارتباك، إنها مرتها الأولى التي تتعرض فيها لمثل هذه النوعية من النظرات القريبة المهتمة، إحساسها كأنثى مرغوبة جعلها تشعر بالنشوة والسرور، فقلما وجدت من أحدهم ذاك الاهتمام، بسبب استحواذ شقيقتها على كل الانتباه والإعجاب. تضاعفت ربكتها مع قدوم خالتها لتتساءل في مكرٍ:
-إيه الأخبـ.ـار يا ولاد؟
بلهفةٍ عجيبة أجابت "فردوس"، وقد ملأ الإشراق قسمـ.ـا.تها:
-الأسطى "بدري" صلح الحنفية خلاص.
أطلقت "أفكار" ضحكة مرحة قبل أن تمتدحه:
-طول عمره أسطى أد الدنيا.
هتف مجاملًا وهو يسير تجاهها:
-كتر خيرك يا حاجة.
أشارت له بالتحرك وهي تخاطبه:
-تعالى اقعد معانا حلة، أهوو تستريح شوية وتاخد نفسك.
حمحم معترضًا في تهذيبٍ:
-أنا معملتش حاجة تستاهل.
أصرت عليه بتصميمٍ أكبر:
-ودي تيجي، ده إنت في بيتي.
علق باسمًا وهو يسير معها:
-مش هكـ.ـسرلك كلمة يا حاجة.
توقفت "أفكار" عن المسير لتستدير من جديد نحو ابنة شقيقتها تأمرها:
-وإنتي يا "دوسة" صُبي الشاي وحصلينا.
قالت بوجه متورد بشـ.ـدة وهي ترمش بعينيها في استحياءٍ:
-حاضر يا خالتي.
أحست "فردوس" بدبيب قلبها المتحمس يتسارع، لم تتخيل أن تنتابها مثل هذه الأحاسيس المتعاظمة لمجرد رؤية أحدهم يُظهر اهتمامًا زائدًا بها، ربما بدا عاديًا للآخرين؛ لكنه معها كان مختلفًا! وضعت كلتا يديها على وجنتيها تتحسس السخونة المنبعثة فيهما، دارت حول نفسها كأنما ترقص فرحًا، ورفعت بصرها للسماء مرددة:
-اجعله بالخير يا رب.
تنهدت مليًا، وأغمضت عينيها محاولة إعادة هذه اللحظات القليلة في ذاكرتها لتنتشي مجددًا، ويا ليت حلمها الوردي يكتمل!
..................................................
ما إن انتهت من إعداد الشاي الساخن وتقديمه للضيف مع بعض الحلوى الشهية، حتى لحقت "فردوس" بوالدتها التي انتظرتها بجوار باب البيت تمهيدًا لذهابهما، فلا داعي لبقائهما بعد انقضاء الموعد المدبر، وكذلك تجنبًا للمزيد من الحرج والتـ.ـو.تر الخجل، ومع ذلك لم تغفل عن اختطاف نظرة أخيرة قبل انصرافها، لتجعل ذكراها ملازمة لها لبعض الوقت. تركت "عقيلة" الساحة لشقيقتها لتكمل ما بقي عالقًا، فاستطردت تتساءل مباشرة بعدmا اقتصرت الجلسة عليهما فقط:
-ها عجبتك؟ قول ما تتكسفش، رأيك إيه فيها؟
بترددٍ محسوس في صوته، ومعكوس على ملامحه ونظراته حاول "بدري" المناص من هذا الموقف المراوغ قائلًا:
-أصلي مابفكرش في الجواز دلوقتي.
من فورها سألته وقد قاربت ما بين حاجبيها:
-وحد قالك قوم اتجوز بكرة؟!
همَّ بالاعتراض، لكنها بادرت بإيقافه بإشارة من كف يدها، فالتزم الصمت، حينئذ استرسلت بمكرٍ ناعم لإقناعه:
-بس مافيش مانع تخطب واحدة بـ.ـنت حلال من أصل طيب، مش طمعانة في حاجة غير حيطة تداريها، وراجـ.ـل ياخد باله منها.
رفع يده على جانب رأسه ليَهرشه معقبًا:
-مش عارف والله يا حاجة!
استخدmت نفس الأسلوب المحنك في التأثير عليه بترديدها:
-مش عشانها بـ.ـنت أختي بكلمك عليها، مع إن المثل بيقول أخطب لبـ.ـنتك ومـ.ـا.تخطبش لابنك، بس البت زي العجينة الطرية، تشكلها زي ما إنت عاوز، مش بتاعة مشاكل.
فرقع أنامله مبديًا ردًا محايدًا:
-اللي فيه الخير يعمله ربنا.
أمعنت النظر في وجهه مُضيفة في لطافة وأُلفة وهي تقرب طبق الحلوى منه:
-فكر كده، ورد عليا، وصدقني مش هتنـ.ـد.م.
ثم ابتسمت بمحبةٍ، ولم تزد حرفًا، تاركة الفرصة له للتفكير بجدية أكبر في شأن الارتباط بها، مع وعدٍ بردٍ قريب على عرضها، إما بالقبول أو الرفض!
..........................................
لم تعتد بعد على هذا القدر من الإجهاد المتواصل لفترات طويلة، بالإضافة لمحاولتها المضنية للتأقلم مع اختلاف المناخ، وتغيير نمط تناولها للطعام الجيد الذي يعود عليها بفائدة، سرعان ما أحست "تهاني" بالإعياء يجتاحها، ورغم هذا قاومت الاستسلام له، وتابعت انتظام جدول دراستها الذي يلحق به ساعات تدريبها، إلا أن التعب تمكن منها في الأخير. بالكاد كانت تمشي باعتدالٍ وهي تهبط الدرجات لتتجه نحو موقف السيارات، حيث تتواجد العربة المخصصة لإعادتها إلى مكان سكنها.
توقفت لأكثر من مرة واشتدت قبضتها على الدرابزين المعدني المؤدي في نهايته للباحة الخلفية، أدركت أنها لن تستطيع الصمود ما لم تتوجه إلى عيادة الطوارئ الملحقة بالمشفى للاطمئنان على صحتها، سحبت نفسًا عميقًا، واستدارت لتعاود الصعود للأعلى، لم تنتبه في خطواتها لمن اصطدmت به في كتفه وهو يهبط عكسها. اعتذرت منه في التو دون أن ترفع رأسها وتنظر ناحيته:
-أسفة.
جاءها صوتًا رجوليًا متسائلًا بلهجةٍ مصرية:
-إنتي كويسة؟
أجابت باقتضابٍ:
-يعني.
سألها ليتأكد من هويتها الجنسية:
-هو إنتي مصرية؟
نظرت إلى من بدا وكأنه يحقق معها بنظراتٍ مشوشة، وأجابت بزفيرٍ ثقيل أظهر مدى إعيائها:
-أيوه.
وجدت ابتسامة صغيرة تزحف على ثغره وهو يعقب:
-صدفة عجيبة...
باعدت ناظريها عنه لتتأوه بصوت خفيض، فسألها مهتمًا:
-تحبي أساعدك؟
رفضت بلباقة:
-شكرًا، أنا رايحة ناحية الطوارئ.
أصر على الذهاب معها، فوقف إلى جوارها قائلًا:
-طب اسمحيلي أفرض نفسي عليكي وأوصلك بنفسي.
تمسكت برفضها وهي تدير رأسها ناحيته:
-مافيش داعي.
أكملت صعودها؛ لكن الدوار الذي عصف برأسها جعل توازنها يختل، فبادر بإسنادها من ذراعها وهو يحذرها بخوفٍ غير مصطنع:
-خدي بالك.
بدت متحرجة من تصرفها الأخرق، وقالت بصوتٍ خافت:
-أسفة.
رد بصدر رحبٍ متعمدًا التأثير عليها للاستجابة لمطلبه:
-المرض مافيش فيه اعتذار...
ثم مد ذراعه لتستند عليه خلال مشيها، واستطرد بلطافةٍ:
-اتفضلي يا آ...
سألها بعد صمتٍ لحظي:
-ما اتشرفتش باسمك يا فنـ.ـد.م؟
وضعت بسمة ناعمة على محياها حين جاوبته:
-أنا الدكتورة "تهاني".
بادلها الابتسام مُعرفًا بنفسه في نبرة تشع ثقة، تلك التي تجبر مستمعيه على تقدير مكانته في الحال دون التحقق منه:
-وأنا د. "مهاب الجندي"، رئيس قسم الجراحة العامة هنا ........................... !!
↚
(الفرحة المرتقبة)
توالت عليها الأيام بطيئة، مستنزفة للأعصاب، ومرهقة للتفكير، فالرد لم يأتِ بعد من ناحية خالتها، مما جعلها فريسة سهلة للهواجس والشكوك، فتنهشها بعمقٍ وتزيد من إحساسها بالخوف والقلق. مرة ثانية، أثناء تواجدها بالمطبخ لمساعدة والدتها في إعداد الطعام، عاد الشرود ليهاجمها، فراحت تقلب الحساء بلا تركيزٍ إلى أن انتبهت لصوت تذمر أمها، فأفصحت لها "فردوس" عما يُحيرها ويملأ صدرها الملتاع متسائلة بقلقٍ:
-تفتكري يامه هعجبه؟
ضجرت "عقيلة" من هذه الأسئلة المستهلكة، فهي لا تكف أبدًا عن الإلحاح وسماع نفس الرد الرتيب، لذا أخبرتها بعد زفيرٍ ثقيل يشوبه الملل:
-ربنا وحده أعلم، بس أدينا بندعي يجعل في وشك القبول، ويراضيكي.
هذا الكلام المطمئن يبث نوعًا من الراحة داخلها، وإن كان مبهمًا، عائمًا، متكررًا، وغير مضمونٍ. لاحت على شفتيها ابتسامة حالمة وهي تسترسل بأريحية معها، كأنما تحادث رفيقة مقربة لها، لا والدتها المتحفظة:
-يـــاه، أما جدع يخـ.ـطـ.ـف العين بصحيح، طول بعرض، وعليه طلة إنما إيه!
نهرتها والدتها عن التمادي في الأمر هاتفة بحدةٍ:
-يا بت اختشي! عيب كده!
لوت ثغرها مغمغمة بتبرمٍ:
-يوه يامه، إن مكونتش أفضفض معاكي في الكلام، هفضفض مع مين؟
سرعان ما لانت معها، وقالت وهي تضع ابتسامة حزينة على محياها:
-يا رب يا بـ.ـنتي يفرح قلبك ويسعدك، إنتي ياما صبرتي واستحملتي.
هزت رأسها معقبة:
-أه والله، راضية بنصيبي وبدعي ربنا إنه يعجله.
طلبت منها أمها وهي تشير بيدها نحو الرف الخشبي المعلق أسفل دولاب المطبخ:
-ناوليني الملح من عندك.
أحضرته إليها قائلة:
-أهوو يامه.
تابع والدتها الحديث إليها، فأضافت:
-عاوزين نجيب ورقة فلفل لأحسن الشوية اللي فاضلين عندي خلصوا.
أكملت عليها مستعيدة في ذهنها ما أمرتها بإحضاره سابقًا من محل البقالة الكائن بالمنطقة:
-ماشي، مع الطحينة، وصابون الغسيل.
-وإزازة خل.
-طيب.
استمرت كلتاهما في العمل بداخل المطبخ إلى أن تحدثت "فردوس" من جديد:
-ت عـ.ـر.في يامه لو كانت "تهاني" هنا مكانتش وافقت على اللي حصل عند خالتي...
سلطت كامل نظراتها على أمها وهي تتم جملتها:
-كان زمانها عقدت الدنيا.
جاء رد "عقيلة" مهمومًا إلى حدٍ ما:
-ربنا يهديها لحالها.
لم تعرِ مشاعر والدتها المزعوجة لغيابها المؤثر فيها اهتمامًا، وواصلت القول:
-هي أصلها باصة في العلالي، عاوزة حد ابن ذوات.
رمقتها "عقيلة" بهذه النظرة الصارمة قبل
-مسيرها ترجع لعقلها، ادعيلها ربنا يرجعها لينا بالسلامة.
تجاهلت ما قالته، وسألتها بوجه متلهف:
-أومال احنا هنعرف الرد إمتى من خالتي؟
عاتبتها في صبرٍ نافد:
-تاني؟!!
مدت يديها لتمسك بها من ذراعها، كما لو كانت تتعلق به، وألحت عليها بتوسلٍ:
-عشان خاطري يامه، ما تجربي تسألي كده خالتي.
سحبت ذراعها من أسفل قبضتيها قائلة بجمودٍ:
-يا خبر بفلوس، بكرة يبقى ببلاش.
أطلقت زفرة طويلة من رئتيها محملة بكل الرجاوات والآمال لتردد بعدها:
-هون يا رب، وقرب البعيد.
...................................................
استفاقت بعد برهةٍ من حالة الوهن التي سيطرت عليها، لتصبح أكثر وعيًا، واتزانًا، وقدرة على السير بمفردها. ابتسمت "تهاني" في خجلٍ وهي ترى مدى الاهتمام والرعاية من قبل ذلك الطبيب الوسيم الذي لم يتردد للحظة في تقديم يد العون لها، عاملها كأنها شخصية استثنائية وغير عادية، على عكس ما توقعت أو دار بمخيلتها من معاملة روتينية فاترة. لن تنكر أن التوقير والاحترام الزائدين من جميع من قابلهما في طريقهما إلى أن استقرت بهذه الغرفة الجيدة أشعرتها بأهمـ.ـيـ.ـته الكبيرة هنا وبمدى هيمنته، ورغم أنها لم تعرف بعد عنه شيئًا سوى اسمه وطبيعة مهنته بداخل المشفى، إلا أن هذا القدر غير الكافي من المعلومـ.ـا.ت جعلها في حالة من الفضول لمعرفة المزيد عنه، قاومت رغبتها تلك ريثما تجد الفرصة المناسبة لتقصي أمره دون إثارة الريبة، فالوقت أمامها متاح ووافر.
مرة أخرى اختلست النظرات ناحيته أثناء انشغاله بتدوين شيء ما على اللوح المعدني المعلق على طرف فراشها، أمعنت التدقيق والتفرس في ملامحه، وقسمـ.ـا.ته، وهيئته البدنية، ومظهره الخارجي الأنيق، كأنما تريد أن تحفر معالمه في ذاكرته، لدهشتها! وجدت فيه هالة غريبة تستحث دواخلها على الانجذاب إليه والإعجاب بشخصه الغامض، فشابٍ مثله وصل إلى هذا المركز الرفيع في هذا المشفى المميز يعني ببساطة أنه ليس بشخصٍ عادي، بل شخصية هامة ذات نفوذٍ وتأثير. رفع "مهاب" رأسه فجأة لينظر ناحيتها، فأمسك بها وهي تتأمله مليًا، مما دفعها لخفض ناظريها في حرجٍ كبير. ابتسم قليلًا، وسألها:
-حاسة إنك أحسن؟
شعرت باندفاع الدmاء الفائرة إلى وجنتيها لتبث فيهما سخونة كاشفة لأمرها، قامت "تهاني" بتجلية أحبال صوتها لترد برعشة خفيفة ما زالت ناجمة عن شعورها بالحرج:
-أيوه .. الحمد لله.
أوصاها وهو يستقيم واقفًا ليثبت كل نظره عليها:
-حاولي تاخدي بالك من نفسك أكتر من كده، محدش هينفعك لو وقعتي تاني، وأكيد مش أنا اللي هفهمك الكلام ده يا دكتورة.
رمشت بعينيها قائلة، وهذه البسمة الخجلى تنير قسمـ.ـا.تها:
-معاك حق.
تقدm تجاه جانبها من الفراش، فتـ.ـو.ترت، وراحت تفرك أناملها معًا في ربكةٍ لا يمكن التشكيك فيها. من خبرته المحنكة في عالم النساء أدرك منذ الوهلة الأولى، ومن طريقة تطلعها إليه، أنها شخصية سهلة المنال، طموحة لِما لا تملك، وتفتقر لتجارب عاطفية قوية وذات بصمة في حياتها، فنجح ببساطة في فرض حضوره وتأثيره الطاغي عليها بأقل مجهود يُذكر، حقًا كانت له طريقته ومهاراته المتفردة في سلب عقول النساء –خاصة الساذجات منهن- وهذا ما استثار نزعة الغرور لديه، لذا تعمد إطالة مدة انشغاله في الكتابة، تاركًا لها كل الوقت لتُملي عينيها منه، مستمتعًا بأول خطواته نحو مطاردة طريدة جديدة سهل الإيقاع بها في حبال آسره. وقف قبالتها وخاطبها وهو ينظر من علوه في عينيها مباشرة، وبطريقة ساحرة شعرت بها تتخللها وتنفذ إليها بسهولة، وتزيد من حالة الاضطراب بها:
-حمدلله على سلامتك.
لم تستطع مجاراته في النظر إليه، وقالت متحاشية تحديقه الذي طال بها:
-شكرًا ليك يا د. "مهاب"، تعبتك معايا، ده غير إني عطلتك وآ...
قاطعها هاتفًا وهو يدس يده في جيب معطفه الطبي:
-ده واجبي، أكون جمب المريـ.ـض في أي وقت.
اكتفت بمنحه ابتسامة صغيرة ناعمة بعد أن تشجعت لتنظر إليه، فاستغل الفرصة وسألها بمكرٍ:
-بس إزاي إنتي شغالة هنا ومصادفش إني أشوفك ولا مرة؟
لم يكن سؤاله مجرد فضول عابر، سيمضي بعد ذهابها في التو، بل بدا اهتمامًا صريحًا بشأنها لا لَبس فيه، ظلت أنظاره باقية عليها وهو يسألها:
-يعني تخصصك إيه؟
ابتلعت ريقها وأجابته بصوتٍ كان أقرب للهمس:
-أنا مش خريجة طب بشري.
نظر لها صامتًا، فتابعتٍ موضحة:
-أنا اتخرجت من علوم، وجاية هنا تبع البعثة المصرية، تقدر حضرتك تقول دراسة وتدريب.
مط فمه في إعجابٍ قبل أن يتكلم:
-برافو، هما هنا مش بياخدوا غير الأكفأ.
أحست بتناقص تـ.ـو.ترها مع أسلوبه السلس المرن في التحاور معها، ناهيك عن مزجه بشيءٍ من الودية والغزل المستتر، مما استحث مشاعر الأنثى القابعة بداخلها لتنفض الغبـ.ـار عنها وتتيقظ، خاصة حين استأنف في وداعةٍ:
-وأنا حظي حلو إني شوفت طالبة نجيبة زيك.
قالت وهي ترفرف بأهداب جفنيها:
-شكرًا على ذوق حضرتك.
اشتم رائحة شوقها لسماع ما يزيد من شعورها بالإطراء، فصار على النفس النهج قائلًا:
-دي مش مجاملة، المستشفى هنا مابيقبلش يشغل فيه إلا المَهرة وبس.
بقيت محدقة في وجهه وهو لا يزال يخاطبها:
-وأظنها فرصة حلوة ليكي عشان تثبتي نفسك.
علقت بتلقائية:
-أنا بعمل اللي عليا.
انتفضت بجسدها كليًا حين مد ذراعه فجــأة نحوها، ليزيح بيده هذه الشعرة الملتصقة بجبينها هامسًا:
-كده أحلى.
تـ.ـو.ترت، وارتكبت، وتملكها القلق، رفعت يدها المرتعشة لتسوي مقدmة رأسها، وسألته:
-هو مسموح إني أخرج؟
أجاب في الحال:
-أيوه.
هزت رأسها بخفةٍ، ثم أزاحت الغطاء الأبيض عنها لتخفض ساقيها، باحثة عن حذائها لترتديه، كم شعرت بالخجل حين رأت كيف يبدو مظهره في قدmيها وضيعًا، رخيصًا، لا يليق بها! بلعت غصة مريرة في حلقها، والتفتت للجانب عنـ.ـد.ما سألها "مهاب" مهتمًا:
-قوليلي، في حد موجود يوصلك؟
نهضت واقفة وهي تجيبه:
-أنا هشوف مواصلة ترجعني السكن.
ثم تقدmت نحو الباب بعدmا علقت حقيبتها على كتفها؛ لكن "مهاب" في التو تحرك صوبها ليعترض طريقها ويستوقفها بجسده قائلًا بصيغةٍ شبه آمرة، ويده مرفوعة قليلًا في الهواء:
-أنا هوصلك في طريقي.
تمسكت برفضها قائلة:
-لا مايصحش، كفاية إني عطلت حضرتك وضيعت وقتك.
أطلت من عينيه لمعة ماكرة أتبعها قوله المليء بالإصرار:
-أنا مصمم.
اعترضت بحرجٍ:
-بس آ...
وضع هذه الابتسامة المرسومة بعناية على زاوية فمه قبل أن يقاطعها بهدوءٍ لكنه يضم الحزم:
-مش هاقبل بالرفض!
انصاعت صاغرة له، وأطرقت رأسها حياءً، رغم أنها في أعماقها كانت تبتهج سعادة، لكونها –كأنثى- أصبحت ذات تأثيرٍ، وإن كان ما زال محدودًا، على صنف أمثاله من الرجـ.ـال.
...............................................
تعمدت أن تسير على مهلٍ لتستطيل مدة مشيهما معًا، فتتمكن من الحديث معه أكثر، وتستعلم منه عما لا تعرفه بعد. توقفت بجوار سيارته، فراحت تتأملها بعينين منبهرتين، فقد ابتاع الطراز الأحدث من هذا النوع، شتت نظراتها عنها عنـ.ـد.ما تكلم أحدهم بصوتٍ مرتفع ولافت من مسافة قريبة منهما:
-لا مش ممكن، الدنيا فعلًا زي ما بيقولوا صغيرة.
استدارت لتنظر تجاه صاحب الصوت المألوف، فرأت "ممدوح" قبالتها، يمد يده لمصافحتها وهو يسألها باسمًا:
-إزيك يا دكتورة "تهاني"؟
تـ.ـو.ترت للحظةٍ، واختطفت نظرة سريعة تجاه "مهاب" قبل أن ترد وهي تمد يدها تجاهه:
-أهلًا بحضرتك يا دكتور "ممدوح".
حلَّ القليل من الوجوم المشوب بالضيق على قسمـ.ـا.ت وجه "مهاب"، وتساءل باستغرابٍ:
-إيه ده؟ هو إنتو تعرفوا بعض؟
ضحك مستمتعًا قبل أن يخبره بتلميحٍ لئيم، كان متأكدًا أنه سيثير نزعته التملكية:
-طبعًا دكتورة بالرقة دي صعب تتنسى.
رمشت بعينيها مرددة ببسمة مجاملة:
-شكرًا لذوقك...
غام وجه "مهاب"، وبدا وكأنه غير راضٍ عما قيل، فتوجست خيفة من إنهاء معرفته بها قبل أن تتوطد جيدًا، لكونه يظن أنها على علاقة بغيره، لذا حاولت تفسير الموقف من تلقاء نفسها بقولها الموضح:
-هو احنا فعلًا اتقابلنا صدفة في المطار، لما كنت جاية على هنا.
مال "ممدوح" ناحيتها قليلًا ليضيق عينيه معقبًا في عبثيةٍ غير مريحة:
-وأنا شكلي هحب الصدف اللي دايمًا بتجمعنا ببعض.
صراع البقاء للأقوى لاح بينهما، خاصة فيما يخص تأثيرهما على الصنف الناعم، فأضاف "مهاب" هو الآخر مبتسمًا ابتسامة لا معنى لها:
-نسيت أقولك يا دكتورة "تهاني"، "ممدوح" ده صاحبي من زمان، عِشرة عمر.
تحرك الأخير من موضعه، ليقف مجاورًا لـ "مهاب"، ضم كتفيه بذراعه، وتبسم قائلًا:
-طبعًا، احنا يعتبر أكتر من الإخوات، ما بنفرقش بعض إلا قليل أوي، وكل حاجة تقريبًا بنعملها سوا.
أزاح "مهاب" ذراعه عنه، وأعاد ضبط سترته، وياقة قميصه، ليستأنف "ممدوح" كلامه الموجه إلى "تهاني" متسائلًا في فضولٍ محير:
-بس إيه لم الشامي على المغربي؟ يعني آخر مكان كنت أتوقع أشوفك فيه هنا.
استفاضت مجيبة:
-أنا تدريبي هنا في المستشفى، ود. "مهاب" شافني تعبانة شوية فساعدني.
سدد "ممدوح" نظرة موحية، ذات بُعد مفهوم، لرفيقه وهو يعقب:
-طول عمره بيحب عمل الخير، وما يتأخرش عنه ... أبدًا!!
لا يعرف إن كان يقصد بكلمـ.ـا.ته تلك مدحًا أم ذمًا أم سخريةً مبطنة؛ لكن "مهاب" تجاوز عنها ليقول في شيءٍ من الرسمية:
-بينا يا دكتورة عشان أوصلك ترتاحي.
في التو اعترض "ممدوح" طريقهما ليستوقفهما قائلًا بعبوسٍ مصطنع:
-إيه ده؟ هتمشي كده من غير ما نقوم معاها بواجب الضيافة؟ إنت عاوزها تقول علينا يا "مهاب" بخلا؟
تفاجأت "تهاني" من اقتراحه، لم تكن مستعدة للذهاب بهذه الهيئة، لذا حاولت الاعتذار مرددة بحرجٍ:
-لا مافيش داعي خالص، أنا آ...
رفع سبابته أمام وجهها مقاطعًا إياها بإصرارٍ رغم لطافة نبرته:
-مش هاقبل بالرفض، ده حتى زي ما بيقولوا عندنا في مصر يبقى بينا عيش وملح.
ثم خاطب "مهاب" مبتسمًا:
-عيب نكسف ضيفتنا.
نفخ في سأمٍ، وسأله:
-هتودينا فين يا "ممدوح"؟ بما إنك الخبير هنا!
أجابه بعد صمتٍ خفيف:
-في مطعم تحفة فاتح قريب من هنا، الكل بيشكر فيه، إيه رأيكم نجربه؟
مط فمه قليلًا، وعلق في شيءٍ من التحدي:
-معنديش مانع، بس الحساب عندك.
دون تفكيرٍ قبل بالعرض مردفًا، ونظراته كلها صوب ضيفتهما:
-وماله.. إكرامًا للدكتورة "تهاني".
.................................................
انحنت تنظر بعينين متأففتين لرفوف الثلاجة الفارغة، ثم مدت يدها لتمسك بعلبة بلاستيكية، انتزعت غطائها واشتمت ما بداخلها، فأصيبت بالاشمئزاز، وانقلبت معدتها شاعرة بالغثيان، استقامت "ابتهال" واقفة بعدmا أغلقت الباب، لتمشي بالعلبة تجاه سلة القمامة، أفرغت محتوياتها بداخلها، ثم اتجهت نحو الحوض لتغسلها وهي تُحادث نفسها بعفوية:
-عاوزين نشوفلنا أي بقالة قريبة مننا، أنا عارفة بيسموها إيه..
وضعت العلبة جانبًا بعد تنظيفها، وهي لا تزال تتكلم بصوتٍ مسموع:
-المهم نجيب منها حاجات تنفع تتاكل بدل ما الواحد بيفضل على لحم بطنه كده بالساعات.
جففت كلتا يديها في جانبي قميص البيت الذي ترتديه، وقالت بإيماءة خفيفة من رأسها:
-المفروض الحساب يكون بالنص، ما أنا مش هاكل لواحدي، هي أكيد هتجوع زيي.
اختمرت الفكرة برأسها، وتحمست لتنفيذها قائلة بتصميمٍ:
-لما ترجع أبقى أكلمها.
سارت نحو الشرفة، نظرت من خلف الزجاج بعدmا أزاحت الستارة قليلًا، وتساءلت في تحيرٍ:
-بس هي اتأخرت ولا أنا اللي جوع مخليني أحس إن الوقت طويل؟!!
.................................................
كانت مأخوذة ومبهورة بكل ما يحدث معها في مبـ.ـاراة جذبها لاتخاذ جانب أحد الطرفين، لم تنكر أنها شعرت بالانتشاء لرؤية كليهما يتبـ.ـاريان عليها رغم معرفتها المحدودة بهما، نحت شكوكها جانبًا، متجاوزة عن الطريقة المراوغة والمثيرة التي يتخذاها معها، والتي تحفز شعور الاسترابة بداخلها، إلا أنها منحت التبرير المنطقي لنفسها بأن مثلهما لا يقارنان بمن عرفت سابقًا من ذوي التطلعات المحدودة والقدرات المادية المعدومة، هما أكثر تباهيًا وغطرسة، وهذا ما أثار اهتمامها بهما. لم تكن لتقبل بحياة الشقاء والعوز، مما دعم –بقوة- اختيارها المستقبلي في حصر المنافسة بينهما.
عادت إلى الطاولة الجالس عليها ثلاثتهم بعد أن ضبطت هيئتها بحمام المطعم، لتجدهما في انتظارها، وقائمة الطعام موضوعة أمام موضع جلوسها. نهض "مهاب" ليسحب المقعد قليلًا حتى تجلس، فابتسمت لطريقته المهذبة في التعامل معها كسيدةٍ راقية، أمسكت بالقائمة بيدين ترتعشان قليلًا، خاصة حينما وقعت نظراتها على الأسعار؛ شتت تركيزها اللحظي صوت "ممدوح" حين خاطبها:
-اطلبي اللي عاوزاه يا دكتورة...
هزت رأسها مواقفة وهي تزين وجهها ببسمة لطيفة، فتابع بمكرٍ، وهو يختطف نظرة سريعة نحو "مهاب"، كأنما يتعمد إغاظته:
-ولو حابة نصيحتي جربي الطبق ده، هيعجبك جدًا.
ثم أشار بإصبعه نحو أحد الأصناف، فقالت وهي تغلق القائمة:
-طالما ده رأي حضرتك، فأنا واثقة فيه.
كان "مهاب" يصغي إليهما بملامحٍ فاترة، كاشفًا حيلة رفيقه المفهومة لاستدراجه نحو المنافسة عليها، فكلاهما يتشاركان في سمة غير طيبة، الإيقاع بالنساء واللعب على مشاعرهن المرهفة لجرهن نحو شباك العشق الآثم. أغلق قائمة الطعام، واضعًا إياها جانبًا، وعلق باسمًا:
-"ممدوح" في الأكل ما يتوصاش، عارف إيه الصنف المناسب، اللي يعجبك وياخد العقل.
بادله الابتسام قائلًا بلهجةٍ فهم مضمونها:
-خبرة بقى.
إكثار الحديث بهذه الطريقة أمامها قد يجعلها ترتاب، وتتخذ حذرهما من كليهما، لذا غير "مهاب" من مجرى الحوار، وسألها في اهتمامٍ:
-قوليلي أخبـ.ـار الدراسة إيه؟
ردت بإيجازٍ:
-ماشية الحمدلله.
انتصب بكتفيه مؤكدًا عليها:
-لو محتاجة مساعدة أو توصية فأنا موجود، معارفي هنا كتير.
علق عليه "ممدوح" فيما بدا وكأنه حسدًا:
-طبعًا، نفوذ وسُلطة، وكل حاجة.
سأله مستفهمًا بمزاحٍ:
-دي غيرة ولا حقد؟
لم يخفِ عليه نواياه عنـ.ـد.ما أفصح:
-الاتنين.
ضحك "مهاب" عاليًا فاندهشت "تهاني" من ردة فعله، توقعت أن يغضب، أن يظهر انزعاجه؛ لكنه كان هادئًا للغاية، سجالهما التنافسي ليس معتادًا عليها في هذه الأوساط، فتساءلت وعلامـ.ـا.ت الحيرة تغطي ملامحها:
-هو إنتو على طول كده؟ زي...
ترددت قبل أن تختتم جملتها بحرجٍ:
-ناقر ونقير.
شرح لها "مهاب" ببساطةٍ وهو يميل بجسده ناحيتها:
-ما أنا قولتلك احنا عِشرة عمر، اتربينا وكبرنا سوا.
قالت وهي تخفض بصرها متحرجة من اقترابه اللافت:
-ربنا يديم الصداقة دي بينكم.
مرة ثانية، وعند هذا القرب، سألها "مهاب" في صوتٍ جاد، ونظراته المهتمة تحتويها:
-مرتاحة في السكن؟ ولا تحبي نكلملك حد يغيرلك المكان؟
شعرت وكأن الحظ يبتسم لها، يفتح ذراعيه لاستقبالها، فمن النادر أن يتودد أحد الأثرياء لفتاة فقيرة شبه معدmة، لا تملك من متع الدنيا سوى حظًا في التعليم، وقدرًا معقولًا من الجمال، بالكاد حافظت على تحمسها، وحمحمت مرددة بحرجٍ:
-لأ، كله تمام.
أكد لها بنفس النبرة:
-مش كلام صدقيني، أنا كلمتي مسموعة هنا.
أحس "ممدوح" أن كفة المنافسة تميل لصالح خصمه، فصاح منهيًا ما بينهما من حوار جانبي:
-بيتهيألي ننادي على الجرسون عشان جوعنا.
اعتدل "مهاب" في جلسته، وقال مسترخيًا:
-وماله .. اطلب لنا على ذوقك يا "ممدوح".
أراح ظهره للخلف مثله، وأخبره بهذه الابتسامة اللئيمة:
-أكيد .. وأنا ذوقي دايمًا مميز ومختلف.
........................................................
خشيت أن تهوي من سماء أحلامها الوردية على أرض الحياة الواقعية، فيُكـ.ـسر قلبها، ويتحطم ما نشأ بداخلها. ظلت تكتم ما يضرم في صدرها من مشاعر متلهفة، وأحاسيسٍ متصارعة، داعية الله سرًا أن يحدث المراد، وتلقى القبول. ما إن جاءتها البشرى حتى أطلقت العنان لحنجرتها لتزغرد بلا توقف، وكما لم تفعل من قبل. حذرتها "عقيلة" من الإسراف في التعبير عن فرحتها بقولها الجاد:
-يا بت استني لما الموضوع يكمل، داري على شمعتك.
كل ما فات وانقضى من عمرها قبل هذه اللحظة الفارقة لم تحـ.ـز.ن عليه، فقد غلبت عليها فرحتها، وأنستها ما مرت به من شعور جارح بالنفور والإهمال، لذا باحت لها بلا ترددٍ:
-يامه مش قادرة أمسك نفسي، ده أنا الفرحة مش سيعاني.
مرة ثانية شـ.ـددت عليها بخوفٍ:
-بدل ما تتحسدي.
تفهمت مقصدها وقالت على مضضٍ:
-ربنا يستر ويكملها على خير.
ومضة خافت صدحت في عقلها لتذكرها بلقائها العفوي معه، فتخيلت نفسها إلى جواره، كزوجته المخلصة، يُلاطفها، ويتودد إليها، ويملأ أذنيها بمعسول الكلمـ.ـا.ت ليستطيب قلبها، لم تشعر بابتسامتها وهي تتشكل بوضوح على محياها، ولم تبددها كذلك، تركتها تزيد من الإشراقة التي أنارت وجهها، و.جـ.ـعلتها تبدو أصغر من عمرها، أتفعل الفرحة بالمحب ذلك؟ أتبدل حاله من شيء لآخر؟ قفزت في مكانها تطلب من أمها بحماسٍ:
-أنا عاوزة أنزل أشتري قماش جديد من عند بتاع المانيفاتورة، عشان أفصله فستان عند الخياطة، بس يكون حاجة كده ألاجة وآخر منجهة.
هزت رأسها معقبة عليها:
-ماشي، دي أمرها سهل، السوق فيه كام تاجر معروفين ببضاعتهم الحلوة.
أحست بنفسها تملك سمة من سمـ.ـا.ت الأنثى المثالية، فبدت مهتمة للغاية بالظهور في مظهر الكمال والجمال، أشارت بإصبعها متابعة:
-وهشوف جزمة حلوة من بتوع "تهاني" ألبسها، بس يا ريت تيجي مقاسي.
اقترحت عليها أمها بجدية:
-لو واسعة نحطلها فرشة.
وافقتها الرأي، وقالت وهي تحاول تجسيد ما تتخيله بحركات عشوائية بكلتا يديها:
-أيوه، وكمان عايزة أعمل شعري، وأفرده زي ما الممثلات بيعملوا.
ضحكت "عقيلة" من طريقتها الطريفة في الوصف، بينما استمرت "فردوس" بالتحليق في خيالاتها الفسيحة كاتساع الفضاء بترديدها المتفاخر:
-أنا مش هستخسر في نفسي حاجة نهائي، ده يوم مايتعوضش.
زمت شفتيها هاتفة:
-وماله ..
ارتفع صوت إحداهن من المنور الخارجي مناديًا بعجالةِ:
-يا "دوسة! يا "دوسة"!
انزعجت "عقيلة" من هذا الصخب، وتساءلت في تبرمٍ:
-ياختي مين بينادي كده؟!
اشرأبت ابـ.ـنتها بعنقها لتنظر من فتحة الشباك الموجودة في المطبخ، رأت جارتهما بالأسفل تلوح لها بيدها، فأشارت لها لتكف عن النداء، ثم خاطبت أمها دون أن تنظر تجاهها:
-دي "إجلال" يامه.
على مضضٍ طلبت منها والدتها وهي تجر المقعد القصير لتجلس عليه بعدmا راحت عظام ساقيها تئن من كثرة الوقوف:
-شوفيها عاوزة إيه.
-طيب.
قالت كلمتها الموجزة وهي تفتح الشباك سائلة إياها بصوتٍ حائر:
-خير يا "إجلال"؟ بتنادي كده ليه؟
أجابت بإشارة من يدها:
-ليكم جواب مع البوسطجي عند البقال.
استغربت مما قالت، ورددت بحاجبين معقودين:
-جواب!
هنا هبَّ "عقيلة" واقفة، وخرج من جوفها صيحة مليئة بالشوق:
-يبقى أكيد من أختك...
غلبتها لهفتها إليها، فصاحت تأمر ابـ.ـنتها بحدةٍ:
-انزلي أوام هاتيه قبل الراجـ.ـل ما يمشي.
تركت ما تفعله، وقالت بوجهٍ مال للوجوم:
-على طول يامه.
تبعتها "عقيلة" بخطواتٍ شبه بطيئة، وهي تُحادث نفسها في عتابٍ خافت:
-أخيرًا افتكرت إن ليها أم تسأل عليها.
.................................................
صارت شاردة، واجمة، ترسم التعاسة علامتها على وجهها الحزين وهي تستحضر في ذاكرتها الأوقات الأخيرة التي جمعتها بابـ.ـنتها قبل أن تقرر الرحيل والسفر وراء الأحلام المستحيلة. مسحت "عقيلة" دmعة نافرة من طرفها، وسحبت نفسًا عميقًا لتطفئ به لهيب شوقها إليها، أثناء استماعها لما كتبته "تهاني" في مكتوبها الورقي إليها، حررت أنفاسها المختنقة، لتتساءل من جديد:
-يعني صحتها كويسة؟
أخبرتها "فردوس" وهي تطوف بعينيها على الأسطر في تعجلٍ:
-أيوه يامه، ما أنا قولتلك إنها كاتبة إنها بخير، وأعدة في مكان حلو.
جاهدت لإخفاء عِظمة لوعة اشتياقها؛ لكنها لم تستطع، فمشاعرها الأمومية طغت عليها، سألتها بصوتٍ شبه مختنق:
-هتنزل إمتى؟
انتظرت لهنيهة قبل أن تجيب:
-مش كاتبة.
لاحقتها بفيض أسئلتها تباعًا:
-طب بتاكل كويس؟ ونومتها مرتاحة فيها ولا لأ؟ وفي حد بيساعدها إن احتاجت حاجة، ولا سايبنها كده؟ وشغلها ودراستها؟
ردت باقتضابٍ:
-كله تمام يامه.
سئمت من إيجازها، فهتفت بها بضيقٍ:
-يا بت اقريلي المكتوب تاني بالراحة خليني أفهم بدل ما أنا باخد الكلام منك بالقطارة.
أخبرتها بصوتٍ محتج:
-تاني يامه؟ طب ما أنا بجاوب على اللي بتسأليني عليه.
نفخت عاليًا، وأمرتها بنبرة اخشوشنت نسبيًا:
-اقري بس، ده هيتعبك في إيه؟!!
حكت جبينها وقالت مستسلمة:
-ماشي، اسمعي يامه.
انتهت من إعادة قراءة ما جاء في رسالتها، لتتضرع بعدها "عقيلة" بقلبٍ واجل، ولسانٍ لاهج:
-ربنا يردك بالسلامة يا "تهاني".
ظلت "فردوس" تتطلع إليها بغير اهتمام، ربما كانت تفتقد وجودها؛ لكنها في نفس الآن تذكر كيف تصبح مهمشة في حضورها، كأنها غير مرئية من الجميع، إحساسها بأنها أصبحت مطلوبة ومرغوبة عزز في نفسها مشاعر الغيرة والتنافس. ودَّت فقط أن تختفي عن المشهد، وألا تعود ريثما يتم زواجها، فمن الأفضل أن تحصل على أي لقبٍ غير أن يقال عنها المرأة العانس! أحضرتها من تفكيرها المشحون نبرة والدتها المتسائلة:
-هي مش حاطة رقم تليفون نطلبها عليه من السنترال؟
قلبت المظروف على جانبيه قبل أن يأتيها جوابها حاسمًا:
-لأ، مش مكتوب.
ساد التجهم على تعابير أمها وقالت بصوتٍ مال للانكسار:
-جايز تكلمنا من نفسها.
بفتورٍ غير مبال أخبرتها وهي تطوي الرسالة بمغلفها معًا:
-أيوه.
على حسب فهمها لطبيعة شخصية شقيقتها، كانت متأكدة أنها لن تفعل ذلك إلا أن انتقص عليها شيء، حينها فقط ستكلف نفسها العناء وتخاطب أمها لتطلب المساعدة، والأخيرة لن تفكر مرتين لإعطائها ما تريد، فهي المفضلة دومًا لديها، أما هي فتأتي في المرتبة الثانية في كل شيء!
........................................
-اتأخرتي ليه؟ ده أنا مستنياكي من بدري.
صاحت "ابتهال" بهذه العبـ.ـارة وهي تقف عند عتبة باب المسكن لاستقبال شريكتها، كأنما تقوم بدور ولي أمرها، خاصة بعدmا رأتها تترجل من هذه السيارة الفارهة، وأحدهم يخاطبها بألفة غريبة. لم تكن لتترك الأمر يمضي هكذا دون أن تشبع توقها لمعرفة أدق التفاصيل؛ لكنها لم تنطق بشيء، مبدية بوجهها ضيقًا واضحًا لملاحقتها السمجة. تجاهلتها "تهاني" عن قصدٍ، وولجت للداخل نازعة عنها حذاء قدmيها، فتبعتها الأولى تتأملها بفضولٍ وهي تهتف من ورائها:
-يا "تهاني" أنا بكلمك، إيه اللي آخرك برا؟
نبرتها الحادة أزعجتها للغاية، فقالت بوجومٍ:
-بطلي دوشة، عاوزة أرتاح.
ثم استلقت على الأريكة في استرخاء، وراحت تتنهد مليًا، بعدmا حلت شعرها، وتركته ينساب بتحررٍ على كتفها، شردت مبتسمة، محاولة فصل عقلها عن الواقع الحالي، لتسبح في لقاء الأحلام الذي كانت جزءًا منه قبل قليل، لفت خصلة من شعرها حول إصبعها، وراحت تعبث بها في نفس الملامح المستكينة الناعمة، ونظرات "ابتهال" الفضولية تشملها، إلى أن استحثها تطفلها السمج على اقتحام خصوصيتها والإلحاح عليها بأسئلتها:
-إنتي شكلك مبسوط وآخر روقان، أومال مين اللي وصلك ده؟ حد نعرفه؟
نظرت لها باستعلاءٍ قبل أن ترد في صيغة متسائلة:
-وإنتي هت عـ.ـر.في ولاد ناس منين؟
شعرت بقدرٍ من الضيق لإهانتها المتوارية، وردت عليها كطلقة سهم مصوبة في صدر أحدهم:
-هو أنا جاية من الشارع، ده أنا تخصص حشرات، والأولى عن دفعتي، والكل ما بيصدق يشوفني عشان يكلمني، وآ...
قاطعتها رافعة يدها لها لتكف عن الثرثرة الفارغة:
-خلاص مش عاوزة أسمع حاجة.
زفرت بتكاسلٍ، ونهضت من مكانها متجهة إلى الحمام، ومع ذلك لم تتركها "ابتهال" لحالها، تبعتها كظلها وهي تسترسل:
-لأ بس العربية فخمة الصراحة، تجيلها بكام دي؟
كعادتها حين لا تتوقف عن الكلام تسد "تهاني" أذنيها عنها، وتقوم بما تفعله في صمتٍ تام، حيث فرغت من غسل وجهها وكفيها، وخرجت من الحمام معها منشفتها، لتذهب إلى غرفتها، وصوتها اللحوح يلاحقها، أبقت على برودها معها، واستمرت تُوضِّب ثيابها، وتجمع ما يحتاج للغسيل جانبًا، لتعلمها في النهاية:
-اعملي حسابك أنا مش رايحة معاكي بكرة.
تقطب جبين "ابتهال" باستغرابٍ آخذٍ في التزايد، وسألتها وهي تبدو مندهشة بشـ.ـدة:
-ليه؟ أدوكي أجازة؟
ظهر الغرور على محياها حين أجابتها:
-لأ، في عربية مخصوص هتوديني وتجيبني من المستشفى.
شهقت في ذهولٍ قبل أن تهلل:
-إيه ده! عربية مخصوص؟ سيدي على الدلع كله.
ثم التصقت بها كالبق طالبة منها بسخافةٍ:
-طب ما تاخدي أختك حبيبتك معاكي، بدل العطلة والدوخة اللي ببقى عليها كل يوم، وفي الآخر الواحد يروح مأريف، ويرجع مفرهد.
نظرت لها بنفورٍ، قبل أن تدفعها بعيدًا عنها، لتزيح الغطاء عن جانب الفراش، أشارت لها بيدها قائلة وهي تستعد للتمدد عليه:
-أنا عاوزة أنام، ممكن تطلعي برا.
بقيت مجاورة لها، تسألها بتحيرٍ:
-مش هنجيب أكل؟ ده أنا واقعة من الجوع.
تثاءبت وهي ترد:
-اطلبي إنتي لواحدك.
رفضت "ابتهال" الذهاب قبل أن تخبرها كذلك بما فكرت فيه باكر:
-طب بقولك إيه في حاجات كتير ناقصة عاوزة أشتريها هتنفعنا، وآ...
قاطعتها بعدm اهتمامٍ:
-بعدين، أنا مش فايقة، اقفلي الباب وراكي.
بالكاد انزاحت من غرفتها لتغمغم في صوتٍ مسموع، ومصحوبٍ تنهيدة طامعة:
-اوعدنا يا رب بمعارف تقال زي اللي بتعرفهم "تهاني" يا رب.
رفعت الأخيرة رأسها عن الوسادة لتتطلع إلى أثرها بعدmا غادرت غرفتها، ساد على وجهها تكشيرة نافرة منها وهي تنهض سريعًا لتغلق الباب في التو، قبل أن تفكر في العودة وتزيد من إزعاجها بأسلوبها غير المستلذ. استندت بيدها على الإطار الخشبي وابتسامة ناعمة تشق طريقها إلى شفتيها مع تذكرها لمدى الراحة التي كانت عليها وهي بصحبة ذلك الجراح، كان لطيفًا معها للغاية، ودودًا لدرجة أبهرتها، و.جـ.ـعلتها تتمنى أن تكون وثيقة الصلة به؛ لكن نغص عليها صفو لحظاتها المميزة النظرات الغريبة المتبادلة مع رفيقه، ورغم ذلك لن تنكر أنها انجذبت إلى أسلوبه المثير في تحفيز من حوله، احتارت، وتحيرت، وتخربطت أفكارها، فلم تجهد عقلها بالمزيد من التفكير التحليلي، واكتفت بالاستمتاع بما عاشته كأميرة مدللة لهذا اليوم، عادت إلى سريرها تتبختر في مشيتها وهي تدندن بخفوتٍ، وآمالها العظيمة قد طارت محلقة في الأفق البعيد:
-بكرة يا دُنيا، نلف الدُنيا .......................................... !!
..................................................
↚
(مكرُ الثعالب)
تراصت المقاعد الخشبية المستأجرة بمحاذاة الحيز الشاغر في صالة المنزل بعدmا تم إزاحة معظم الأثاث، ليكون ملائمًا لاستقبال الضيوف في هذه الليلة المميزة. كما تولى أحدهم تعليق الزينات والأنوار البراقة، وأضاف آخر حاملًا من الورد وضعه بين الأريكتين المخصصتين لجلوس العروسين في منتصف الحضور. أشرفت "عقيلة" على غالبية من تطوع للمساعدة في إنجاز ما ينقص، وتولت بنفسها تجهيز قوالب الحلوى، وتحضير الشربات والعصائر الطازجة، في حين قامت شقيقتها "أفكار" بتقطيع الفواكه، وحشو الشطائر بقطع الجبن واللحم لتوزيعها على المدعوين، بينما جلست "فردوس" بداخل الغرفة لتقوم جارتها "إجلال" بمعاونتها في تزيين وجهها بمساحيق التجميل.
توافد المدعوون بعد صلاة العشاء تباعًا، وقامت إحداهن برفع صوت المذياع على أغاني الأفراح الطربية، مع إطـ.ـلا.قها لعدة زغاريد مبتهجة، كنوعٍ من الاستعداد لاستقبال عائلة العريس، فقد كانت والدته في المقدmة، واضعة ابتسامة متكلفة على محياها، بدت وكأنها غير راضية عن هذه الخطبة، استقبلتها "عقيلة" بترحيبٍ حار، وأجلستها على الأريكة المجاورة للعروسين، ثم صافحت العريس، وشقيقه الأكبر، وأشارت لإحدى الفتيات بإبلاغ العروس بوصول خطيبها. تعالت أصوات الزغاريد الفرحة المصحوبة ببعض التصفيقات، ليتزاحم الحضور بعد بضعة دقائق انتظارًا لخروج العروس من الداخل.
تحرك "شفيق" من مكانه ليجلس مجاورًا للعريس، مال عليه، وهمس له بشيءٍ من الغل:
-ملاقتش إلا دي يا "بدري"؟
ضغط على شفتيه للحظةٍ، ثم أخبره بعد زفرة سريعة:
-على أد ظروفي.
خاطبه بحقدٍ يملأ صدره:
-يا ابني إنت تستاهل أحسن من كده، دي أختها صعب، وعملت فيا اللي ما اتعمل، وفي الآخر طردتنا.
بناءً على تعامله الشخصي معها، وحديث خالتها "أفكار" عن طبيعتها المسالمة، كان مدركًا إلى حدٍ كبير للفارق بين كلتيهما، لذا رد مدافعًا عنها:
-"فردوس" غيرها.
أصر على رأيه هاتفًا بتصميمٍ:
-الدm واحد، اسمع مني...
لم يبدُ "بدري" مقتنعًا بما يفوه، فلجأ إلى إخبـ.ـاره بنوعٍ من الذم:
-ده غير إن شكلها مش أد كده، في ألف واحدة أحلى منها بكتير.
ظل مطرقًا رأسه وهو يرد:
-أهوو النصيب.
انتقل الشقيق الأكبر من موضعه ليجلس في الجهة المقابلة لشقيقه، وتساءل باسمًا:
-بتكلموا عن مين كده؟
حذره "شفيق" بقدرٍ من التهكم:
-أخوك اللي عملنا فيها شيخ هيوعظنا دلوقت.
تكلم "عوض الله" منتقدًا وصفه المسيء إليه:
-هو عشان بقول كلمة الحق أبقى وحش؟
طالعه "شفيق" بنظراتٍ ناقمة قبل أن يعلق عليه بتحيزٍ:
-يا سيدي بدل ما تركز معانا شوفلك شغلانة عدلة تاكل منها عيش بدل لفك اللي على الفاضي.
للحظةٍ سكت "عوض الله" متحفظًا على كلامه، فقد ارتضى بالعمل نهارًا في وظيفة بسيطة كساعٍ بين المكاتب بالمنطقة الأزهرية، بالإضافة لقيامه بإنهاء الناقص من الأوراق الرسمية لمن يعجز عن إنجازها في مقابلٍ زهيد، أما ليلًا فكان يلازم المقرئين خلال إحيائهم الليالي الدينية إما في مناسبات عامة أو في سرادقات العزاء، ليختتم يومه بالذهاب إلى المسجد لسؤال إمامه عما ينقص من أعمال ليؤديها هو برضا وحبور. لما طال صمته ظن "شفيق" أنه أصاب هدفه، فتمادى في التقليل من شأنه ليرد عليه أخيرًا بتريثٍ:
-أنا بخدm عباد الله، وطالما ربنا سخرني أقضي مصالح الناس ليه أتبطر على النعمة.
سخر منه بلمحةٍ هازئة:
-يعني إنت عاوز تقنعني إن اللي إنت بتعمله ده بالكام مليم دول اسمه شغل؟
رد مبتسمًا وهو يرفع كفيه للسماء:
-فضل ونعمة من ربنا.
سأله بتطفلٍ شبه سمج:
-طب ما سبقتش أخوك الصغير واتجوزت ليه؟!!
سادت في ملامحه لمحاتٍ من التـ.ـو.تر، فهو لم يستطع الإقدام على هذه الخطوة حتى الآن لضيق ذات اليد، ولإنفاقه كامل ما يجنيه على علاج والدته المكلف دون أن يكلف شقيقه الذي يصغره بستة أعوام عناء هذه الأمور، فاكتفى بتحمل الأعباء وحده، ودون شكوى. نظر إليه، وقال بعد تنهيدةٍ خافتة:
-لسه ربنا مأذنش.
تدخل "بدري" متحدثًا كنوعٍ من التلطيف وهو يربت على ذراع شقيقه:
-سيبك منه يا "عوض"، بكرة ربنا يرزقك ببـ.ـنت الحلال اللي تستاهلك.
ثم التفت ناظرًا إلى "شفيق" ووبخه:
-إنت جاي تتطلع عقدك علينا يا جدع إنت؟
دmدm في حنقٍ لم يخبت نهائيًا:
-يا عم أنا معبي وشايل من العيلة دي، ولولا معزتك عندي قسمًا بالله ما كنت عتبت البيت ده!!
قاطع ثرثرتهما حضور "عقيلة" وهي تحمل في يدها صينية نحاسية اللون مملوءة بكؤوس متشابهة الشكل، انحنت قليلًا تجاه "بدري"، وقالت بوديةٍ حانية:
-اتفضل يا عريس الشربات.
التقط الكأس الزجاجي، وهتف مجاملًا:
-كتر خيرك يا حمـ.ـا.تي، من يد ما نعدmها.
نهض "عوض" قائمًا، وأصر على أخذ الصينية منها بتهذيبٍ:
-عنك إنتي يا حاجة، مايصحش تلفي واحنا موجودين.
تحرجت من ذوقه الواضح، وناولته إياها وهي تخبره:
-تسلم وتعيش يا ابني.
هز رأسه مبتسمًا، وسار بين المدعوين يوزع الكؤوس المملوءة بهذا السائل الأحمر وهو يتلقى عبـ.ـارات التهنئة والمبـ.ـاركة منهم.
................................................
قفزت من على مقعد المرآة لأكثر من مرة لتنظر إلى وجهها الذي صار أكثر نعومة وجاذبية بعدmا تم إضفاء مساحيق التجميل عليه، لتصبح شبه مستعدة للخروج ومقابلة خطيبها وعائلته. لم ترغب "فردوس" في الإفراط في وضع أحمر الشفاه، واكتفت بما زين بشرتها، لتقوم بقرص خديها لإعطائهما المزيد من الحمرة الدافئة. تأملت انعكاسها، وتساءلت بتهلفٍ:
-إيه رأيك؟
أصدقتها "إجلال" القول:
-زي القمر ياختي...
ثم قبلتها من أعلى رأسها وتابعت:
-مبروك يا "دوسة"، وربنا يتمملك على خير.
شكرتها بامتنانٍ، ووجهها يزداد إشراقة بابتسامتها المتسعة:
-تسلمي يا "إجلال"، عقبال ليلتك يا حبيبتي.
استحثها على التعجيل قائلة بمرحٍ:
-مش معقول هنسيب العريس يستنى.
هزت رأسها تؤيدها، ونهضت واقفة لتشـ.ـد طرفي ثوبها لينساب على خصرها بأريحية، شهقت فجأة مصدومة حينما انحنت عليها "إجلال" لتقرصها من ركبتيها، فسألتها مدهوشة وهي ترمقها بهذه النظرة:
-بتعملي إيه؟
أجابتها ضاحكة ببشاشةٍ:
-جايز أحصلك في جمعتك.
حملقت فيها بمحبةٍ وهي ترد:
-يا رب يا حبيبتي، نبقى في ليلة واحدة.
احتضنتها "إجلال" في سعادةٍ، لتتراجع بعدها عنها، لتفسح لها المجال لتمر، وتتجه إلى باب الغرفة. تفشى الاضطراب في وجدان "فردوس"، وراحت تردد بلا صوتٍ في توجسٍ طفيف:
-يا رب اجعل في وشي القبول.
..................................................
ما إن أطلت العروس بهيئتها البهية، حتى اتجهت كافة الأنظار إليها، لتنطلق بعدها الزغاريد، والأصوات المهللة كتعبيرٍ عن فرحة الحاضرين بقدومها. مرقت "فردوس" بين جموع المهنئين بخجلٍ وارتباك، اختطفت نظرات سريعة نحو خطيبها الذي نهض واقفًا ليستقبلها، فرأته بقامته الطويلة، وملامحه التي تنضح بالرجولة، لحظتها شعرت وكأنها لا ترى سواه، ابتسمت له في دلالٍ مطعم بالحياء، وأخفضت رأسها خجلًا حين جلست مجاورة إياه. تسارعت دقات قلبها في تلهفٍ فرح، ثم شبكت يديها معًا ووضعتهما في حجرها، محاولة التغلب على ارتباكها الظاهر للجميع، نظرت إلى جانبها حين خاطبتها والدتها وهي تحتضنها بنظراتها الحانية:
-زي القمر ياخواتي.
ابتسمت على استحياءٍ، بينما أطلقت خالتها زغرودة عالية، أتبعها قولها المهلل:
-النبي حارسك وصاينك.
قامت والدة العريس بتمرير علبة الشبكة على الحاضرين ليتأملوا ما ابتاعه ابنها لعروسه، فقد اشترى لها سوارًا من الذهب عيار 21، خاتمًا، ودبلة. استحسنوا حُسن اختيارهما، فتكلمت والدة "بدري" طالبة منه بعد أن فرغ الجميع من رؤية العلبة:
-قوم يا عريس لبس عروستك شبكتها.
استقام واقفًا، وتناول من العلبة قطعة بعد أخرى ليضعها في يد عروسه، ومن خلفه تصدح الأصوات المبتهجة، صاحت "أفكار" في الحضور من النساء بعد أن وضعت "فردوس" الدبلة في يد خطيبها:
-ما تزعرطوا يا حبايب، خلوا الفرحة تعم.
تقدm بعدئذ "عوض" لتهنئة شقيقه، واكتفى بالابتسام المهذب لـ "فردوس" قبل أن يعود ليجلس بجوار "شفيق"، وجده على حالته الناقمة، فمازحه قائلًا:
-اشرب شرباتك يا "شفيق"، ده حتى الليلة مفترجة.
نظر له شزرًا، وهبَّ واقفًا ليرد بوجومٍ:
-أنا قايم.
ثم برطم بعبـ.ـاراتٍ غير مفهومة تعبر عن سخطه قبل مغادرته المنزل، ضـ.ـر.ب "عوض" كفه بالآخر متمتمًا بصوتٍ خافت للغاية:
-ربنا يهديك لحالك.
عاد ليتابع ما يدور بالخطبة وهو يدعو الله في سريرته أن تنتهي الليلة على خير، بل ويتم ذلك الأمر دون عقباتٍ، لينعم شقيقه بالهناء والسعادة مع زوجة طيبة يستحقها، تكون له في النهاية نِعم السُكنى.
....................................................
بهدوءٍ حذر سحب من أسفل يده الورقة بعد أن زيَّلها بتوقيعه، ليطالع بتركيزٍ دقيق ما كُتب على الورقة الأخرى، ظل "فؤاد" على هذه الوضعية الساكنة لعدة دقائق ريثما فرغ من مراجعة الملف بأكمله دون أن ينبس بكلمة، أعطاه لابنه الواقف خلفه، ثم نظر إليه من طرف عينه متسائلًا:
-مافيش أخبـ.ـار عن "مهاب"؟
أجاب بهزة رأسه:
-لأ.
سأله مستفهمًا وهو يطوي نظارته الطبية بعد أن نزعها من على أنفه:
-إنت بتكلمه؟
تنحنح قبل أن يجيبه:
-لما بسأل عليه بيقولولي إنه يا في عمليات، يا إما بيحضر مؤتمر.
بدت علامـ.ـا.ت الضيق جلية على قسمـ.ـا.ته، لوى ثغره معبرًا عن انزعاجه:
-أنا مش فاهم هيفضل مقضيها سفر وغربة لحد إمتى!!
تجرأ "سامي" ليقول بتأدبٍ ماكر:
-لو تسمح لي أقترح حاجة يا بابا.
أعطاه الأذن ليتكلم بأمره المقتضب:
-قول.
عبث برابطة عنقه، وأخبره:
-إيه رأيك نجوزه؟ ده هيخليه يستقر، وآ...
لم يستسغ ما فاه به فقاطعه بازدراءٍ:
-مش كنت فلحت إنت الأول!!
استاء من الاستخفاف به وتحقير مطلبه، فرد بشيءٍ من الهجوم:
-ما حضرتك رفضت البـ.ـنت اللي كنت عاوزها.
صاح به بصرامةٍ جعلته ينتفض:
-ودي أشكال تجيبهالي؟!!
ثم طرق بيده على سطح مكتبه يسأله في نبرة مليئة بالاتهام:
-إيه أصلها وفصلها؟
لاذ بالصمت عاجزًا عن تبرير اختياره، فوالده من هذا النوع المتعنت من البشر، الذي لا يمنحك الفرصة للاختيار، هو ينتقي الأفضل فقط، ولا بديل عنه، ليكون مجاورًا له، كما أنه لا يؤمن بالمشاعر، أو بما يعرف بميل القلب وهواه. مرة ثانية انتفض "سامي" مذعورًا ووالده ما زال يوبخه بصوته الخشن المرتفع وهو يطرق بيده على المكتب:
-واحدة اتعرفت عليها في حفلة خلاص بقت مناسبة...
رفع إصبعه أمام وجهه متابعًا حديثه الصارم إليه:
-لازم اللي تناسب عيلة "الجندي" يكون معروف هي مين.
هز رأسه مبديًا طاعته الكاملة له وهو يرد:
-حاضر.
لوح له بيده لينصرف دون أن ينبس بكلمةٍ، فانسحب مغادرًا غرفة مكتبه وهو ينفث دخانًا من أذنيه، غمغم بلا صوتٍ، وغليل صدره قد أخذ في التصاعد:
-طبعًا لو كان ده "مهاب" مكونتش كلمته ربع كلمة...
كز على أسنانه في غيظٍ، ووجهه قد تلون بحمرة الغضب:
-مسيرك تعرف قيمتي يا "فؤاد" بيه!
.......................................
بعد عدة أيامٍ، حيث كانت الشمس ساطعة في سماءٍ بلا سحب، والنهار شبه رطب، تنعكس آثاره على الوجوه السائرة والكادحة، تجاوزت كلتاهما إشارة المرور بعدmا انتهتا من التجول في محال السوق الشعبي القريب، لتتجها بعدئذ إلى عدة محالٍ مصفوفة على ناصية الطريق، حيث تقوم بعرض منتجاتها المخفضة في الواجهات الزجاجية من أجل جذب الزبائن. لم تترك "فردوس" محلًا إلا ودلفت إليه لتتفقد الأحدث، وتبتاع المناسب. حملت معظم الحقائب والأكياس عن والدتها، واستطردت تخاطبها برنة حماس ظاهرة في صوتها:
-احنا كده كملنا الفوط والملايات، عاوزين نشوف الحاجات الشفتشي بقى يامه، خليني أدلع سي "بدري".
نهرتها والدتها بنظرة صارمة من عينيها قبل نبرتها:
-يا بت اتلمي، بلاش مياصة.
اعترضت بتذمرٍ وهي تواصل مشيها المتمهل:
-الله! مش هابقى مـ.ـر.اته، ومن حقي أبقى ست الحسن في عينيه.
أصابت ابـ.ـنتها في قولها، لذا هزت "عقيلة" رأسها قليلًا، وعلقت بشيءٍ من التفهم:
-لما أقبض الجمعية آخر الشهر ده هننزل ننقي ونشتري.
بنفس الصوت المتحمس أضافت "فردوس" مرة أخرى:
-وأوضة النوم سي "بدري" قالي هيستلمها الأسبوع الجاي.
على ملامح وجه والدتها ظهر الضيق، فعبرت لها عن مخاوفها بصوتٍ شبه مهموم:
-ربنا يكملها على خير، ولو إني مش مستريحة لأقعدتك مع أمه.
سألتها باسترابةٍ:
-ليه بس؟ دي شكلها طيبة أوي، وتتحط على الجـ.ـر.ح تطيب.
لم تحبذ "عقيلة" أن تظل ابـ.ـنتها على هذا القدر من السذاجة والحُمق، ولم ترغب أيضًا في إثقال صدرها بالهموم والقلق دون داعٍ، لهذا طرحت عنها تفكيرها السوداوي، وهمهمت في خفوتٍ:
-ربنا يخيب ظني.
بعد برهةٍ وصلت الاثنتان إلى منطقتهما الشعبية، قبل أن يتجاوزا رصيف دكان البقال، صاح صاحبه مناديًا بصوتٍ مرتفع:
-يا ست "أم تهاني"، تعالي أوام، ليكي مكالمة من برا.
توقفت عن المسير وقد اتسعت عيناها في صدmةٍ لحظية، لتردد بعدئذ في لوعةٍ:
-أكيد "تهاني"!
عاودت أدراجها صائحة في ابـ.ـنتها وهي تهرول باشتياقٍ:
-مدي أوام يا "فردوس".
تركت "عقيلة" الأكياس عند قدmيها، وأمسكت بالسماعة لتضعها على أذنها، ما إن سمعت صوت ابـ.ـنتها يأتي من الطرف الآخر حتى لاحقتها بأسئلتها اللهفى المشتاقة إليها:
-أيوه يا "تهاني"، إزيك يا ضنايا؟ عاملة إيه يا حبيبتي؟ إنتي كويسة؟ ردي عليا وطمنيني.
أخبرتها في هدوءٍ:
-أنا بخير الحمدلله..
تنفست والدتها الصعداء، فأكملت "تهاني" كلامها:
-أخبـ.ـاركم إنتو إيه؟
في التو أجابتها وهي تحتضن السماعة بيديها، كأنما تضم صغيرتها:
-احنا كويسين...
بالكاد منعت نفسها من ذرف العبرات وهي تعاتبها في حنوٍ أموميٍ صادق:
-بقى ينفع تغيبي المدة دي كلها من غير ما تسألي على أمك؟ جالك قلب يا "تهاني"؟
أتى ردها عاديًا للغاية:
-مشغولة في الدراسة والمعمل.
ومع ذلك ارتضت والدتها بالقليل المحدود منها، وأعطتها وافر محبتها بقولها المليء بالتوصيات:
-خدي بالك من صحتك، وكلي كويس، واتغطي يا "تهاني"، عشان عضمك يا ضنايا.
تكلمت بإيجازٍ:
-حاضر.
كانت ابـ.ـنتها على وشك إنهاء المكالمة لكنها هتفت تخبرها بتنهيدة متحمسة:
-بالحق، "فردوس" أختك اتخطبت.
صمتت للحظةٍ، وقالت في فتورٍ:
-مبروك.
صاحت بها "عقيلة" وهي تنقل السماعة من يدها ليد ابـ.ـنتها:
-خدي بـ.ـاركيلها بنفسك.
أمسكت "فردوس" بسماعة الهاتف، ابتسمت تعابيرها بشكلٍ تلقائي حين استطردت مرددة:
-ألو، أيوه ياختي، وحشاني يا حبيبتي.
توقعت أن ترد بمودةٍ؛ لكنها فاجأتها عنـ.ـد.ما خاطبتها بتهكمٍ ساخرٍ للغاية:
-اتخطبتي بقى لمين عشان أقولك مبروك، متقوليش، أنا عارفة، أكيد يا فران يا ميكانيكي، ده إن مكانش آ...
انقلبت سِحنتها بشـ.ـدة، فما زالت شقيقتها تسير على نفس النهج من الاحتقار، والتقليل من شأنها، لتُشعرها بأنها غير كاملة مثلها، تفتقر لأدنى مقومـ.ـا.ت الجمال الموجودة في الأنثى، بصعوبةٍ كتمت حنقها منها، وهتفت مقاطعة إياها وهي تضع ابتسامة مزيفة على محياها:
-الله يبـ.ـارك فيكي، أنا مش سمعاكي، الصوت بيقطع.
ثم أغلقت السماعة في وجهها لتدعي بعبوسٍ:
-الخط قطع يامه.
اكفهر وجه "عقيلة" وقالت باستياءٍ:
-يا خسارة، ملحقناش نتكلم مع أختك.
انحنت "فردوس" لتحمل الأكياس والحقائب، لتقول بغير مبالاة وقد بدأت بالتحرك خارج دكان البقالة:
-تبقى تطلبنا تاني بقى لما تفضى.
.............................................
بعض المشاعر لا يمكن السيطرة عليها بسهولة، خاصة حينما تتعلق بتقدير الذات، والإعلاء من شأنها، هذه النزعة الغرورية التي تمتلكها كانت تتأثر بسوء اختيارات من حولها من أهلها، ومهما حاولت التغاضي عن تصرفاتهم غير المقبولة تعود مشاعر الضيق والنفور لتستبد بها. بتعابيرٍ تبدو منزعجة، ونظرات حانقة خرجت "تهاني" من مركز الاتصالات القريب من مقر عملها، لتسير عائدة إليه في خطواتٍ شبه متعجلة. لم تخف حدة الضيق من على تقاسيمها وهي لا تزال تُحادث نفسها:
-غـ.ـبـ.ـية! مش عاملة لنفسها قيمة خالص.
ولجت لداخل استقبال المشفى، واتجهت صاعدة على سلم الدرج وهي تتكلم بتبرمٍ ناقم:
-والله لو جالها شحات لهتوافق، هو أنا مش عارفاها.
أمسكت بالدرابزين، وتابعت حديث نفسها بتأففٍ أكبر:
-وطبعًا أنا مش محتاجة أخمن هتعيش فين ولا مع مين.
سارت في الرواق متجهة إلى الغرفة الخاصة بالمتدربين وهي تقول بازدراء:
-هي مـ.ـا.تستهلش إلا كده، تدفن نفسها بالحيا، عكرت مزاجي على الصبح.
مسحت على مقدmة شعرها لتسوي ما نفر من خصلاتها، ثم ضيقت ناظريها حين رأت باقة ضخمة من الورد الأحمر تحتل مكتبها، تحسست البتلات الزاهية بنعومةٍ وتساءلت في إعجابٍ واضح:
-الله، لمين الورد ده؟
أجابت عليها إحدى المتواجدات معها بالحجرة بابتسامة ماكرة:
-ليكي.
قطبت جبينها مندهشة قبل أن ترد:
-معقولة؟ ليا أنا؟
تساءلت بصوتٍ شبه مسموع وهي تفتش عن ورقةٍ تدل على هوية مُرسله:
-وده من مين يا ترى؟
وجدت ضالتها بالأسفل، فأمسكت بالورقة الصغيرة بإصبعيها، رفعتها إلى مستوى بصرها لتقرأ بلا صوتٍ ما كُتب فيها:
-صباحٌ مشرق بلون الحياة معكِ.
دهشة أكبر سيطرت عليها حين قرأت اسم صاحبها، فهزت شفتيها هامسة:
-"ممدوح"!
تبدلت تعبيراتها المتجهمة، وصارت أكثر ارتخاءً وسرورًا. أطلقت تنهيدة بطيئة من صدرها، لتهمهم في حبورٍ، وقد تألقت في عينيها نظرة متحمسة:
-ده ذوق خالص.
أحست "تهاني" بالانتشاء، والرضا عن حالها وهي تستشعر مدى لهفة الاثنين عليها، وتحديدًا ذوي السلطة والمال والكلمة المسموعة. زاد غرورها بداخلها، وإحساسها المنتشي عنـ.ـد.ما التفتت بتمهلٍ لتجد "مهاب" واقفًا على عتبة الغرفة، صدmها رؤيته، وتداركت نفسها لتتطلع إليه باستغرابٍ، فدنا منها مُلقيًا عليها التحية:
-صباح الخير.
تقدmت ناحيته بثباتٍ، وقالت وهي تضم باقة الورد إلى صدرها عن عمدٍ لتثير اهتمامه:
-صباح النور يا د. "مهاب".
حدث ما دبرت له لحظتها، فسألها، وعيناه تطوفان بفضولٍ على ما معها:
-أخبـ.ـارك إيه؟
أجابته بابتسامةٍ رقيقة:
-الحمدلله.
استطرد مشيرًا بنظراته للباقة الملفتة:
-شيك أوي الورد ده.
دار في خلدها أن تستغل الأمر لصالحها، أن تشعره بالغيرة، تستفز مشاعره الذكورية تجاه منافس آخر يحاول كسب ودها، ربما قد يحسن ذلك من فرصتها مع أحدهما، وإن كانت كفة الميزان ترجح ميلها لجهة "مهاب"، ورغم هذا أبقت الأمر في وضع المساومة حتى اللحظة الأخيرة. حافظت على نقاء بسمتها، وقالت بدلالٍ خبيث، وهي تسبل عينيها:
-من دكتور "ممدوح".
مط فمه للحظةٍ، وعلق بفتورٍ:
-حلو.
تابعت قائلة بمكرِ الثعالب:
-الصراحة ذوقه جميل.
هز رأسه مرددًا:
-معاكي حق.
مجددًا قربت الباقة من أنفها لتشتم رائحة الورود، واختلست النظرات إليه، فلمحت على وجهه المسترخي القليل من الانزعاج، فابتسمت في زهوٍ وقد نجحت خطتها الساذجة، لاحظت كذلك نظرته العابرة من فوق كتفها لمن تتواجد معها بالحجرة، قبل أن يحيد ببصره عنها مستأذنًا بصوتٍ شبه منخفض:
-ممكن نتكلم برا شوية؟
أسندت الباقة على مكتبها وهي ترد:
-أكيد طبعًا.
تحركت بخفةٍ للخارج لتلحق به، لكن دقات قلبها المتحمس راحت تدق في سرعةٍ، وجدته ينتظرها على مسافة عدة أمتار، فأشار لها بيده لتأتي إليه، وبعدها استأنفا المشي معًا في الردهة، توقف فجأة ليسألها وهو ينظر في عينيها:
-إيه رأيك لو سافرتي معايا المؤتمر اللي جاي؟
باغتها بعرضه المغري، فزوت ما بين حاجبيها مرددة في استغرابٍ مصدوم:
-مؤتمر؟!!!
أخبرها موضحًا، وكأنه يستحثها على عدm الرفض:
-أيوه، دي فرصة تكتسبي خبرة، وت عـ.ـر.في الجديد في عالم الطب والبحث العلمي.
انعكس التردد على تعابيرها، وأفصحت عنه عنـ.ـد.ما تعللت باعتذارٍ لبق:
-مش هاينفع، أنا عندي محاضرات وآ...
قاطعها بإصرارٍ، وهو يرمقها بنظرة واثقة مملوءة بالغموض المثير:
-متقلقيش، أنا هظبطلك كل حاجة، إنتي معاكي "مهاب الجندي".
عضت على شفتها السفلى في خجلٍ مصطنع، وأطرقت رأسها قليلًا لتبدو وكأنها تستحي منه، فألح عليها بصوته الهادئ:
-أنا حقيقي نفسي تكوني معايا المرادي.
كانت على وشك النطق بشيء لكنه عارضها بقدرٍ من التحكم:
-مش مسموحلك ترفضي.
استلذت طريقته المسيطرة في محاولة جذبها إليه، وردت مبتسمة:
-حاضر.
نظر في ساعة يده، وأخبرها:
-عندي دلوقتي عملية، نتقابل بعدين عشان نتكلم في التفاصيل.
دون أن تخبت ابتسامتها قالت:
-ماشي.
شيعته بنظراتها اللامعة، ولوحت له بيدها وهو ينصرف مبتعدًا عنها، لترتكن بعدئذ بظهرها للحائط وهي تخاطب نفسها في صوتٍ مهموس حالم للغاية:
-شكل الدنيا ضحكتلك يا "تهاني".
مرة أخرى حررت تنهيدة عميقة من صدرها لتردد في نبرة متمنية:
-بكرة تقولي للفقر والقحط مع السلامة.
همَّت بالعودة إلى حجرتها؛ لكن استوقفتها واحدة لم تتوقع أبدًا ظهورها هنا، اتسعت عيناها مذهولة وهي تحرك شفتيها لتنطق:
-"ابتهال"!
وضعت الأخيرة ابتسامة عريضة على وجهها، قد تصل من الأذن للأخرى، وسألتها وهي تهز رأسها للجانبين في مرحٍ غريب:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟
في التو تجهمت ملامحها، واختفت الإشراقة الناعمة من على محياها، كانت متيقنة أنها لن تتركها لحالها، حتمًا ستغرقها بالأسئلة المتطفلة لتستعلم عما لا يخصها بفضولٍ مثير للحنق، سرعان ما تابعت السير بتعجلٍ، وهي متلفحة بالصمت. لحقتها "ابتهال" شبه راكضة وهي تصيح مسترسلة في الكلام:
-أنا خلصت بدري قولت أفوت عليكي أشوف بتعملي إيه!
ثم لكزتها في جانب ذراعها وهي تردد بلؤمٍ:
-أومال مين الشاب الحليوة ده؟
توقفت "تهاني" مرة واحدة بعد جملتها الموحية، وحدجتها بنظرة قاسية، محتجة على تصرفها الغليظ المتدخل في شئونها، زفرت الهواء بعمقٍ قبل أن تجيب على سؤالها بآخر مراوغ، وبصوتها لمحة استنكار:
-شاب مين؟
راحت تصف مظهره الجـ.ـسماني مستخدmة يديها في التوضيح:
-أبو شعر مسبسب، واللي طوله جايب السقف، وكتافه عريضة، ده أنا حتى معرفتش أشوفك منه.
نفخت عاليًا، وأجابتها وقد فهمت من تقصد بكلامها المتواري:
-ده الدكتور "مهاب"، رئيس قسم الجراحة.
التمعت عيناها بقدرٍ من الحسد، ومالت عليها لتقول بغمزةٍ خاطفة:
-يا وعدي، مسئول القسم بذات نفسه.
ثم اعتدلت في وقفتها، وصفقت بيديها في غبطةٍ وهي تخبرها:
-بيضالك في القفص يا "توتو"!
دفعتها من كتفها لتمر وهي تغمغم في صبرٍ شبه نافد:
-استغفر الله العظيم، بلاش نبر الله يكرمك، ده مجرد زميل، هتألفي حوار من غير ما يكون في حاجة أصلًا!
ضحكت من خلفها، وقالت بسماجةٍ:
-هي بتبدأ بكده.
أطبقت على جفنيها للحظةٍ، قبل أن تهمس في حنقٍ مزعوج:
-خلصني يا رب منها.
لازمتها "ابتهال" معظم الوقت محاولة اكتشاف ما تفعله في هذا المشفى الضخم، بالإضافة لفرض نفسها على الآخرين، وكأنها تعتقد بذلك أنها ذات قدرة فائقة على صنع الصداقات من العدm، رغم تحفظ المعظم في التعامل معها.
..............................................
على عكس ما تخيلت، صار كل شيء سلسًا، منظمًا، وبدون أدنى متاعب، لتجد نفسها بعد عدة أيامٍ تستقل الطائرة إلى جوار "مهاب الجندي"، تلبيةً لدعوته المميزة لحضور هذا المؤتمر الطبي المقام في إحدى الدول الأوربية. كانت هذه زيارتها الأولى لبلدٍ كهذا، فتحمست كثيرًا، ولم تبخل على نفسها للاستمتاع بأيامها هناك. لم ترغب في الظهور بمظهرٍ متدنٍ أمامه، فاحتارت وتحيرت فيما تأخذ من ثياب، بالكاد اشترت من نفقاتها ما وجدته ملائمًا بعد جولة في المحال التجارية، وفي نفس الوقت يبث الدفء لجسدها. تململت في جلستها، والتفتت ناظرة إليه عنـ.ـد.ما سألها في اهتمامٍ:
-مبسوطة؟
هزت رأسها مرددة في الحال:
-أكيد.
سألها مرة أخرى باسمًا:
-أول مرة ليكي صح؟
أجابته بإيماءة خفيفة:
-أيوه.
في جُرأة مدروسة، امتدت يده ليضعها فوق كفها المبسوط على مسند الأريكة، ارتجفت من لمسته المفاجأة على جلدها، ورفعت نظرها لتحدق فيه بفمٍ شبه مفتوح، فحافظ على ثبات بسمته المنمقة وهو يخاطبها:
-ومش هتكون الأخيرة طالما إنتي معايا.
لم تعرف بماذا تعلق، فكل ما يفعله من توددٍ مقنع يوحي بانجذابه إليها، اكتفت بالابتسام خجل، ثم قامت بسحب يدها من أسفله في تحرجٍ، لتحدق في النافذة البيضاوية المجاورة لها، وهي تشعر بتدافع دقات قلبها. التصقت بشفتيها ابتسامة سعيدة للغاية لم تنجح في إخفائها، وكيف لها أن تواري عن فرحة تشعر في أعماقها أنها باتت وشيكة الحدوث؟
...........................................
لفحتها برودة غير عادية عنـ.ـد.ما وطأت قدmاها خارج المطار، فضمت ياقتي معطفها الأسود، ونظرت إلى السماء، فكانت ملبدة بالغيوم الرمادية، انكمشت على نفسها محاولة مقاومة إحساس البرد الذي تغلل إلى أطرافها، وتفشى في جسدها كـ.ـسرعة البرق. أحست "تهاني" بيدٍ تتلمس ظهرها فانتفضت بقلقٍ، ونظرت جانبها، لتجد "مهاب" يخاطبها:
-العربية واقفة هناك.
نظرت إلى حيث أشار بعينه، فرأت سيارة ليموزين سوداء اللون، تربض بمحاذاة الرصيف، يقف أمام بابها الخلفي أحدهم، وكأنه في انتظارهما. تركته يقودها إليها وهي تسير بتعجلٍ محاولة تصديق أنها حقًا ستركب واحدة كتلك. استقرت بالمقعد الخلفي إلى جواره، وشعرت بشيء من الدفء يتسلل إليها، غاصت بالمقعد، وتركت شعور الانتشاء يلفها، ثم ألقت نظرة متألمة لما يطوف عليه بصرها عبر النافذة، حقًا بَهَر نظرها كل ما تُعايشه من فخامة ورقي، حتى في الاستقبال والمعاملة، شعرت وكأنها ملكة متوجة، والخدm يتراصون عند قدmيها لتنفيذ كل ما ترغب فيه دون نقاشٍ، كم ودت أن تدوم هذه اللحظات إلى الأبد فلا تفيق من حلم الراحة والتدلل مُطلقًا!
آنئذ طاف ببالها لمحاتٍ مقتضبة لواقعها البائس في الحارة الشعبية، وما بها من مظاهر بؤسٍ، وفقرٍ مدقع، بالكاد نفدت بجلدها، وطفت على سطح ذلك المستنقع قبل أن تفر منه بأعجوبةٍ، آه لو لم تعاند وتتشبث بقرارها بالسفر، لربما كانت الآن تجلس عند قدmي ذلك النقاش تدعكهما بالماء والملح! ابتسمت في سخرية مريرة، قبل أن تترك ما يزعجها جانبًا، وتركز كل اهتمامها على ما تنعم به حاليًا. أحضرها "مهاب" من شرودها الصامت بكلامه المرتب وهو يرتشف من كأس المشروب الملاصق لجانبه من السيارة:
-احنا هنروح افتتاحية المؤتمر الأول، وبعد كده هنطلع على الفندق نرتاح شوية.
تفاجأت بإقباله على شرب الخمر، ووارت ذلك الشعور بالضيق خلف ابتسامة لبقة مرسومة بعنايةٍ، هزت رأسها بتفهمٍ، فأكمل باسمًا، وكأنه يقطع وعدًا لها:
-بس بعد كده هخدك في جولة بالبلد هنا، ممكن تقولي فسحة على مزاجك.
بدت سعيدة بهذا الاقتراح، وتكلمت في رعشة خفيفة:
-أنا متخيلتش إن المكان ساقع كده.
أخبرها وهو يميل ناحيتها بعدmا ترك كأسه في موضعه:
-أوروبا معروفة بجوها البـ.ـارد.
ثم أمسك بكفها ليحتضنه بين راحتيه، نظرت له مدهوشة، وقد صدmها بما يفعل، لم يحرر يدها رغم محاولتها استعادتها، وأطبق عليها بين أصابعه في قوةٍ طفيفة، ليدلك بشرتها برفقٍ وفي حركة دائرية خفيفة، قبل أن يرمقها بهذه النظرة القريبة وهو يهمس لها بإيحاءٍ خطير:
-إنتي بس محتاجة تدفي شوية، وأنا عارف حل ده إزاي.
طالعته عن كثب مستشعرة الحرارة المنبعثة من جسده حينما صار قريبًا منها، إحساسها كأنثى لا يكذب، هو يشعر بالميل تجاهها، يرغب فيها بتحرقٍ واضح، يطمح في نيل لحظة مميزة معها، قد تكون جامحة، وتفوق ما تتصوره في مخيلتها من حب عذري، كانت شفتاه ترتجفان، تئنان بلا صوت، لطـ.ـمـ.ـت أنفاسه خدها القريب منه، كان ما يحيط بها ينذرها لاتخاذ حذرها، لذا قبل أن تفقد زمام السيطرة على الأمور –خاصة مع تأثير الخمر عليه- سحبت يدها قائلة برسميةٍ مقنعة وهي تبتعد عنه:
-ميرسي يا د. "مهاب"، حضرتك إنسان قبل ما تكون دكتور.
أرادت تذكيره بما هو عليه بالنسبة لها ليستفيق من دوامة الخيالات التي استحوذت عليه جراء ما تجرع، لدهشتها لم يتحرك، وظل مائلًا تجاهها ليخبرها بمكرٍ:
-بس معاكي بكون حد تاني خالص، مختلف عن اللي اتعودت عليه.
كلامه المعسول، وما على هذه الشاكلة من تنهيدات مفعمة بالأشواق والأمنيات، اخترق وجدانها، وأسكرها بلا شربٍ، فرجت بشـ.ـدة أن يحدث المراد، وتتخذ علاقتهما –إن كانت جادة حقًا- شكلًا رسميًا. تحفظت في الرد عليه وهي تضع يدها على ياقة معطفها:
-أنا مش واخدة عليك وإنت شارب يا دكتور "مهاب".
ضحك باستمتاعٍ قبل أن يوضح لها:
-ده ماسموش شرب، ده ( Drink ) خفيف كده، يعني عشان ندفي جـ.ـسمنا، وبعدين النظام هنا مختلف.
احتجت على تبريره قائلة بشيءٍ من الهجوم:
-أظنه مايناسبنيش.
حافظ على بسمته المتسلية وهو يخبرها:
-لأنك بس مش متعودة.
زادت من نقدها الحاد له وهي ترد عليه:
-المفروض حضرتك دكتور مهم، رئيس قسم الجراحة، ومحتاج تكون مركز، إزاي هتقدر تقوم بعملية وإنت يعني.. مش في وعيك؟!!
أدار دفة الحديث المهاجم له، ووجهها إلى شيءٍ مغاير، أراد به أن يصيب هدفه في مقــ,تــلٍ دون عناءٍ، فسألها بجديةٍ لا تخلو من الابتسام:
-إنتي خايفة عليا؟
تحرجت نسبيًا من نظراته وطريقة سؤاله، فتنحنحت قبل أن ترد:
-حاجة زي كده!
ليزيد من حبك حبائله الماكرة عليها، أوهمها أنه يخشى من إغضابها، فضغط على زر فتح النافذة الملاصقة له، لتبصره وهو يمسك بالكأس ليُلقي به، ومن ورائه زجاجة الخمر، انفرجت شفتاها في دهشةٍ أكبر، فأغلق النافذة، واستطرد قائلًا بهذه النبرة العـ.ـذ.بة، وعيناه لا تحيدان على تأمل وجهها:
-أنا حقيقي محظوظ إن بقى في حياتي واحدة زيك تهتم بيا، عادة محدش بيقولي لأ، أو حتى بيفكر يعارضني.
عاد شعورها بالنشوة يغمرها من رأسها لأخمص قدmيها، انطلت عليه خدعته، وظنت أنها ذات تأثيرٍ قوي عليه، فقالت بثقةٍ مغترة:
-ده لأنهم مش أنا.
قال مؤكدًا لها بنظرة عميقة:
-إنتي فعلًا مختلفة.
تباطأت سرعة السيارة، فالتفتت لناحيتها لتمعن النظر خارج النافذة، رأت إحدى واجهات الفنادق العريقة تحجب السماء عنها، فتساءلت باهتمامٍ:
-هو احنا وصلنا؟
قال وهو يستعد للنزول من السيارة:
-أيوه، يالا بينا.
تبعته بعينيها المتشوقتين وهو يترجل قبلها، ليقوم أحدهم باستقباله في حفاوةٍ وكأن نجمًا لامعًا قد جاء في زيارة رسمية إلى هنا. ليسرع بعدئذ أحد العاملين بهذا الفندق لفتح بابها حتى تهبط هي الأخرى، تضاعف شعورها المستمتع بما يقدmه الحظ لها في غفلة من الزمن، تعهدت لنفسها بعزيمةٍ وهي تنتصب بكتفيها في كبرياءٍ ورفعة، ونظراتها تصبو إلى ما هو أبعد:
-بكرة أخليه يتغير، ويعمل اللي أنا عاوزاه ........................... !!
...............................
↚
(الاشتياق المُر)
فرغ المصلون من أداء صلاة العصر، ليجتمعوا بعدئذ في الخلفية، على شكل حلقاتٍ دائرية ليحيطوا بأحدهم، وعلى وجوههم ابتسامـ.ـا.ت سعيدة ومبتهجة، فاليوم هو موعد عقد قران "بدري" على من اختارها لتكون شريكته في الحياة. تأنق الأخير في ثيابٍ جديدة، تمثلت في سروال من القماش ذي اللون الرمادي، ومن فوقه وضع قميصًا أبيض اللون. جلس القرفصاء بجوار المأذون، ومن خلفه جثا "عوض" على ركبتيه، واستند بيده على كتفه ليدعمه، قبل أن يستطرد متحدثًا:
-ربنا يجعلها جوازة الهنا عليك.
رد باسمًا:
-يا رب.
بدأت المراسم بعد قراءة الفاتحة والابتهال للمولى عز وجل، بينما انتظرت النساء في المصلى الخاص بالسيدات يترقبن بحماسٍ وتلهف إتمام العقد على خير. كانت "فردوس" قد ارتدت عباءتها الزرقاء الجديدة، وجلست متربعة وسط المهنئات، وعلى ثغرها ابتسامة مسرورة وعريضة. تغاضت عن النظرات غير المريحة من والدة عريسها، وحادت ببصرها عنها، لتركز في الأرابسك الخشبي الفاصل بين جزء الرجـ.ـال ومصلى السيدات، محاولة رؤية ما يحدث عبر الفتحات الصغيرة الضيقة. التفتت ناظرة إلى أمها عنـ.ـد.ما مالت عليها لتخاطبها في أذنها بشيءٍ من الحـ.ـز.ن:
-مش كنا عرفنا أختك؟
تأملتها بنظراتٍ شبه مغتاظة، وردت بلا أدنى ذرة تعاطف:
-هي يعني كانت اتصلت ولا سألت من ساعة آخر مرة؟!!
أصرت "عقيلة" على إيجاد المبررات لجفاء ابـ.ـنتها المتواصل، فقالت:
-أهوو كنا بعتنا ليها جواب على الأقل، بدل ما تبقى آخر من يعلم بجوازك.
راحت تذم شفتيها في غير رضا، ثم تكلمت في فتورٍ، ولمحة من العبوس قد أخذت تزحف على وجهها:
-صدقيني يامه، احنا مش فارقين معاها، ولا حتى جايين في دmاغها أصلًا.
تنهيدة عميقة تحررت من صدر والدتها قبل أن ترفع بصرها للسماء وهي تناجي المولى بخفوتٍ:
-ربنا يردك يا بـ.ـنتي بالسلامة.
حادت "فردوس" ببصرها عن أمها، وتطلعت إلى خشب الأرابسك لتردد بسخطٍ في غير صوتٍ:
-اللي زي "تهاني" مصدق إنه نفذ بجلده من هنا، تقوليلي تفتكرنا!!
نفضت عن عقلها التفكير في شأنها، وتابعت وهي تشرأب بعنقها محاولة رؤية ما يدور:
-خليني أنا في حالي ومالي.
..................................................
ما إن ولجت لداخل استقبال الفندق الفخم، حتى انبهرت نظراتها بما أبصرته في البهو الفسيح، وراحت تستكشف بعينين فضوليتين ما يحيط بها من لوحات إبداعية، وتصاميم مميزة، وديكورات زاخرة، كل ما حولها أشار إلى الرقي والثراء الفاحش. سارت "تهاني" على بلاط أملس ويلمع كالزجاج، فخشيت أن يخدشه كعب حذائها، لذا كانت تتحرس كثيرًل في مشيها، وتحاول أن تبدو خفيفة الخطى، رأت كيف يتعامل كل من يقابل "مهاب" بوقارٍ وتقدير، وكأنه أحد أهم النزلاء هنا، وضعت على وجهها ابتسامة صغيرة ناعمة، ونظرت إليه بنظرة حالمة، كم تمنت حقًا أن تظل هكذا ملتصقة به، فتعامل كالملكات دومًا!
اصطحبهما أحد العاملين بالفندق عبر الردهة إلى القاعة المُقام بها المؤتمر، وهناك رأت ما فاق مخيلتها من تجهيزات عالية، منصة كبيرة في المقدmة، مزدانة بمفرش أبيض اللون، بالإضافة لطاولات مستديرة وضع فوقها باقات ورد بيضاء اللون بداخل مزهريات زجاجية رفيعة، كما رص على الأسطح الأطباق الفارغة عند رأس كل مقعد، والكؤوس وأطباق المقبلات. لحظتها جال ببالها ما اعتادت على حضوره من مؤتمرات عادية، في قاعات خانقة، تعج بأشخاصٍ غرباء غير مهتمين بمظهرهم الخارجي، وهم إما ما بين مدخنٍ وبين متعرق، فكانت لا تطيق البقاء أو الانتظار لأكثر من نصف ساعة، كانت المقارنة غير عادلة بالمرة، فشتان الفارق بين المكانين.
أحست بيد "مهاب" تتلمس ظهرها من جديد، فنظرت إليه وهي ترفرف بجفنيها لتجده يشير لها بعينيه ليتجها إلى حيث الطاولة المخصصة لهما، كانت في المقدmة تقريبًا، وقبل أن تجلس سحب المقعد في لطافةٍ، لتشكره بتهذيبٍ وتستقر عليه. أجلت أحبال صوتها، واستطردت في تحمسٍ وهي تتجول بعينيها على الحضور المتناثر هنا وهناك:
-أنا أول مرة أحضر حاجة بالشكل ده!
رمقها بنظرة طويلة تحوي شيئًا غامضًا وهو يخبرها مؤكدًا من جديد عليها:
-ومش هتكون الأخيرة.
حاولت ألا تبدو متلهفة لمشاركته حياة الترف، وتساءلت عن طبيعة الأجواء، فاستفاض موضحًا:
-الفاعليات هنا مفيدة، وفي مجلات علمية ونشرات بتصدر عن أحدث حاجة موجودة دلوقتي في تخصصات الطب المختلفة.
في استحسانٍ مهتم هزت رأسها معلقة:
-كويس جدًا.
اقترب أحد الندلاء من الطاولة، حاملًا في يده زجاجة من الشمبانيا الفاخرة، قام بنزع غطائها وأفرغ القليل في كأس "مهاب"، بينما أشارت له "تهاني" بالتوقف قبل أن يقترب من كأسها، ليضعها بعدئذ في دلوٍ معدني صغير، تساءل في وقارٍ:
-سيدي، هل أحضر لكما شيئًا آخرًا؟
حرك "مهاب" رأسه بالنفي، فانصرف منتقلًا لطاولة أخرى ليقوم بخدmتها، في حين تهيأت "تهاني" لاستئناف الحديث معه؛ لكن جاءت إحدى السيدات إليهما وهي تتساءل في صوتٍ مرتفع مفعم بالحرارة:
-د. "مهاب"؟ أهذا أنت؟
افترت شفتاها عن دهشة مستنكرة، فالمرأة كانت ترتدي ثوبًا قصيرًا للغاية من اللون الأسود، ذي حملات رفيعة على الكتفين، أما ظهره فكان مكشوفًا حتى خصرها، بالكاد يصلح للارتداء في غرفة النوم حينما ترغب الزوجة في جعل زوجها يمضي ليلة لا تُنسى! انعكس الحنق على تعبيراتها، وتجهمت نظراتها وهي ترى "مهاب" ينهض لاستقبالها قائلًا بحفاوةٍ:
-لا أصدق عيناي! الجميلة "ديبرا"!
احتضنته "ديبرا" في ضمة حميمية للغاية، قبل أن تتراجع عنه، دون أن تزيح كفيها من على كتفيه، مالت مجددًا ناحيته، لتطبع على جانبي وجهه قبلات صنفتها "تهاني" بالساخنة، راقبتها في غيظٍ شبه مكبوت وهي تخاطبه في حبورٍ:
-يا لحظي السعيد الذي جعلني ألقاك اليوم.
جاء رده على نفس الدرجة من التقارب الودي الشـ.ـديد:
-وأنا مثلك.
اضطرت "تهاني" أن تتحاشى النظر إليهما لئلا تزداد ضيقًا جراء ما يحدث، فنظرت إلى ما سواهما، بينما تطلعت إليه "ديبرا" بنظرة تعبر عن الرغبة قبل أن تفصح عن ذلك علنًا:
-كم اشتقت لك!
حمحم مرددًا بعد نحنحة سريعة مصحوبة بنظرة خاطفة تجاه "تهاني":
-أشكرك.
سألته في نبرة مهتمة وهي تضع يدها على رابطة عنقه لتضبطها:
-هل ستبقى جميع أيام المؤتمر أم أنك ستحضر الافتتاح فقط؟
قال بعد صمتٍ لحظي:
-لا أعلم بالضبط.
مالت عليه لتقبله في وجنته وهي تقول بصوتٍ كان أقرب للهمس:
-حسنًا رؤيتك كافية لي، وأرجو أن أراك مرة أخرى.
أحس بلهيب الشوق يندفع مع نبرتها، فعقب بهدوءٍ، وعيناه تمنحاها وعدًا صامتًا بإمكانية حدوث ما ترجوه:
-بالطبع عزيزتي "ديبرا".
استأذنت بالذهاب بعدmا تذكرت أن تلقي التحية على "تهاني" كنوعٍ من اللباقة المصطنعة، كانت الأخيرة في أوج ضيقها، كزت على شفتيها محاولة كبت ما ينتابها من مشاعر ربما يمكن تصنيفها بالغيرة النسائية؛ لكنها لم تعترف بهذا لنفسها، وضعتها في خانقة الانزعاج من التجاهل والمعاملة ببرودٍ، بالكاد ألصقت بثغرها بسمة متكلفة، واستطردت تتحدث عنـ.ـد.ما عاود الجلوس مجاورًا لها:
-لطيفة أوي.
راح يخبرها بأريحية، رغم ملاحظته لأمارات التجهم المنتشرة في وجهها:
-"ديبرا" زميلة قديمة ليا، أعرفها بقالي كتير جدًا، بجد كانت مفاجأة حلوة إني أشوفها من تاني
قالت كنوعٍ من المجاملة الزائفة:
-ده واضح...
ثم سألته في نبرة شبه تحقيقية:
-بس شكل طريقتكم سوا بتقول إنكم قريبين من بعض! صح ولا أنا غلطانة في تخميني؟
أفهمها ببساطةٍ ممزوجة بالاستفزاز:
-الناس هنا أساليبهم مختلفة في التعبير عن مشاعرهم، ممكن احنا بطباعنا الشرقية نبقى متحفظين على شكل الطريقة المتجاوزة شوية، بس هما بيعتبروا أسلوبنا لو مش زيهم نوع من الرجعية والتخلف، فمتستغربيش لما تلاقيهم بيتعاملوا بودية زيادة.
حدجته بنظرة نارية وهي تهمهم بدون صوتٍ في جنبات نفسها المغتاظة:
-هي دي ودية؟ دي ناقص تنام معاك!!
استرخى أكثر في جلوسه، وقال:
-المهم أنا في النهاية تبقى علاقتي كويسة بالكل.
تظاهرت بالابتسام وهي ترد:
-تمام، مافيش مشكلة.
ثم أولته ظهرها، وادعت انتباهها الكامل لمن صعد على المنصة، فقالت بملامحٍ جادة للغاية:
-شكل المؤتمر هيبدأ، خلينا نركز فيه أحسن.
أمسك بكأس مشروبه ليرتشف منه القليل معلقًا:
-اللي يريحك.
.....................................................
وقف كلاهما أمام باب المسجد الأمامي يستقبلان المبـ.ـاركات بابتهاجٍ وابتسام، كان النصيب الأكبر في التهنئة لـ "فردوس"، فالنساء أحطن بها من كل جانب لمشاركتها فرحتها، وراحت الزغاريد تصدح في الأرجاء قبل أن يقوم أحدهم بتوزيع الشربات على المتواجدين. تقدm "عوض" لتهنئة العروس قائلًا برأسٍ خفيض:
-ألف مبروك، وعقبال الليلة الكبيرة.
ردت بتعابيرٍ تعبر عن فرحة حقيقية:
-كتر خيرك، وربنا يرزقك إنت كمان بواحدة كويسة.
هز رأسه بإيماءةٍ خفيفة، وتحرك مبتعدًا لتجيء "أفكار" وتقف أمامها وهي تزغرد عاليًا، أخذتها في حـ.ـضـ.ـنها قبل أن تنهال عليها بوابلٍ من القبلات المتكررة على كل وجنةٍ وهي تخبرها:
-وربنا يومك كان خفيف وحلو.
هتفت مبتسمة بسعادة لا يمكن إنكارها:
-تسلميلي يا خالتي.
ربتت على جانب ذراعها واستحثتها:
-شـ.ـدي حيلك بقى وشوفي اللي ناقص، عاوزين جوازتك تتم على طول.
أطرقت رأسها في حياءٍ خجل، وردت:
-وقت ما سي "بدري" يقول.
ما إن سمع الأخير اسمه يردد حتى دنا منهما متسائلًا في مزاحٍ:
-خير بتجيبوا في سيرتي ولا إيه؟
بلا ترددٍ أخبرته "أفكار" في رنة حماسة تغلف نبرتها:
-عاوزين نشوفكم ياخويا على فرشة واحدة قريب.
تبسم معقبًا:
-إن شاءالله يا خالة.
أطلقت ضحكة مرحة قبل أن تميل بوجهها ناحيته لتهمس له في عبثيةٍ، وكأنها تحفز فيه مشاعره كرجلٍ للظفر بليالٍ مِلاح مع عروسه:
-اتجدعن ولِم مراتك في حـ.ـضـ.ـنك، عشان تدوق طعم السعادة اللي بجد.
تحرج من تجرؤها، وقال وهو يخفض رأسه:
-ربنا ييسر.
رفعت إصبعها أمام وجهه هاتفة بما يشبه التحذير اللطيف:
-كبيركم شهر يا ابني، معنداش حد يطول عن كده في كتب الكتاب.
تدخلت والدة العريس قائلة بجديةٍ وهي تقوس فمها في شيءٍ من التبرم:
-هو هيروح منها فين يعني؟ ما هي اتكتبت على اسمه خلاص!
ردت عليها "أفكار" بتعبيرات بشوشة، غير مكترثة بتجهمها:
-ربنا يصلح حالهم سوا ويبعد عنهم أي شر.
نظرت لها بتأففٍ قبل أن توجه كلامها لابنها صائحة بتذمرٍ:
-مش كفاية واقفة يا ابني في الطل؟ أنا رجلي مابقتش شيلاني.
هز رأسه هاتفًا:
-حاضر يامه.
ثم أشار لزوجته لتتحرك معه مُردفًا:
-بينا يا "فردوس".
قبل أن تعلق الأخيرة ذراعها في ساعد زوجها، لكزتها والدته دافعة إياها للخلف، وهدرت في احتجاجٍ ناقم:
-ياختي متسربعة على إيه؟ اسندني أنا يا "بدري"، بقولك مش قادرة أقف على حيلي.
نظرت لها "فردوس" مذهولة، وبشفتين منفرجتين، فلم تعبأ بها حمـ.ـا.تها، ووكزتها مرة أخرى لتبعدها عن محيطها قائلة بنوعٍ من الإهانة، وبصوتٍ مرتفع ولافت للأنظار أيضًا:
-حاسبي شوية مايتبقيش لازقة زي البق كده!!!
تجمدت في مكانها مصدومة مما حدث بشكلٍ فج تسبب في إحراجها أمام الحاضرين، خاصة وقد بدأت الهمهمـ.ـا.ت تصدر من حولها، حينها أقبلت عليها خالتها لتحاوطها من كتفيها، ضمتها إلى صدرها، واستحثتها على السير معها قائلة في أذنها:
-تعالي يا "دوسة"، متزعليش نفسك...
سرعان ما ترقرقت الدmـ.ـو.ع في عينيها تأثرًا بهذه الحدية الغريبة، فحاولت خالتها تهوين الأمر بإخبـ.ـارها في صوتٍ خفيض، وقد تأبطت ذراعها:
-هي بس عاوزة تعمل عليكي شغل الحماوات عشان تضايقك، بس ولا يهمك، إنتي ليكي في الآخر إنه ينام في حـ.ـضـ.ـنك.
تعلقت أنظار "فردوس" بظهر زوجها، ورأت كيف يشارك والدته الضحك والهِزَار، وكأنه تناسى أمر إحزانها تمامًا، مما جعل صدرها يوغر بالضيق والهم. شـ.ـدت "أفكار" من قبضتها على ذراعها المتعلقة به، وواصلت كلامها المحفز إليها:
-اضحكي، وافرسيها يا بت، مـ.ـا.تخليهاش تغلبك بعمايلها المفقوسة دي.
سحبت "فردوس" نفسًا عميقًا لتثبط به نوبة البكاء الوشيكة التي تهدد بمهاجمتها، وردت بصوتٍ مختنق:
-طيب.
تصنعت الضحك رغم الحـ.ـز.ن الذي يعبئ صدرها، وراحت ترفع من صوتها بالتدريج لتغطي على ألمها المعنوي، قاصدة أن تلفت انتباه والدة زوجها بالتحديد، لتشعرها بأنها لم تحقق غرضها بمضايقتها، معتقدة بذلك أنها نالت انتقامها من فظاظتها غير المقبولة!
.....................................................
فاقت كامل توقعاته حين اعتقد أنها مجرد امرأة عادية، لا تفرق عن غيرها في شيء، بل على العكس أُغريت سريعًا ببريق امتلاك المال ووهج تأثيره الخطير على النفس؛ لكن اليوم تفاجأ بها كواحدةٍ أخرى لأول مرة يعرفها، فخلال فاعليات المؤتمر، راحت تناقش برزانة وثقة ما يتم تداوله بإسهابٍ، لتصبح محط الأنظار من الجميع، حتى أنها دفعت المحاضر الرئيسي لتقديم شكرٍ خاص لها كتعبيرٍ عن تقديره الشخصي لحماسها المتقد. استدارت "تهاني" ناظرة إلى "مهاب" بقدرٍ من الغرور، فبادلها نظرة إعجاب صريحة قبل أن يخبرها مبتسمًا:
-إنتي الصراحة أبهرتيني بذكائك.
اكتفت بالابتسام في زهوٍ، فأشار لها بيده لتسير معه خارج القاعة وهو يستأنف حديثه إليها:
-خسارة إن واحدة زيك مش متقدرة في بلدنا.
زفرت الهواء سريعًا لترد بعدها على مضضٍ، متذكرة كيف كان يُحط من شأنها في أغلب الأوقات إرضاءً لأشخاصٍ بعينهم:
-عشان كده كان نفسي أسافر وأثبت نفسي في مكان يستحقني.
كتمت شهقة خافتة قبل أن تنفلت من بين شفتيها عنـ.ـد.ما امتدت ذراعه لتحاوطها من خصرها، أحست بنبضها يتسارع، وبخفقات متلاحقة في صدرها، نظرت إليه عن قربٍ وهو يشملها بعينيه العميقتين مؤكدًا لها بهذا الإيحاء المـ.ـو.تر لها:
-متقلقيش، كل أحلامك معايا هتتحقق.
لطـ.ـمـ.ـت بشرتها سخونة أنفاسه وهو يكمل بهمسٍ خطير:
-أنا موجود عشانك.
تجاوزه معها بعد تناوله هذا القدر من الخمر يزيد من تلبكها وخوفها في آن واحد، لن تنكر أنها تنجذب إليه، وتستأنس بأحاديثه وخبراته العريضة في المجال الطبي؛ لكنها في نفس الوقت تخشى تهوره في لحظة طيش غابرة، وهذا ما لا تحبذه، فقد يدفعه غياب وعيه تحت تأثير المواد المُسكرة لحصر تفكيره في شيءٍ بعينه، قد يودي بها للهلاك الحتمي، لذا لا إراديًا انطلقت شارات الإنذار في عقلها لتحثها على الانتباه وتوخي كامل الحذر معه، حاولت أن تنسل من ضمته غير الكاملة، تاركة بينهما مسافة معينة، فسألها وهو يقترب مجددًا منها:
-مش جعانة؟
ردت بترددٍ وهي تضم أصابع يدها معًا مكونة قبضة صغيرة؛ كأنما تحاول بها إخفاء تـ.ـو.ترها:
-يعني .. شوية.
استخدm ذراعه ليشير نحو المخرج الجانبي وهو يخاطبها:
-طب تعالي.
تعقد جبينها للحظة حين تساءلت مستغربة:
-هو احنا مش رايحين مطعم الفندق ده؟
قال نافيًا، وابتسامة عـ.ـذ.بة تشكلت على فاهه:
-لأ، في مكان تاني هوديكي عنده.
سارت معه إلى الخارج، فلفحها الهواء البـ.ـارد بقسوةٍ، أسرعت بضم ياقتي معطفها معًا لتدفئ عنقها، وتحركت على الرصيف المرصوف بالحجارة نحو جراج السيارات لاستقلال تلك التي جاءا فيها؛ لكنها تعثرت في مشيتها، وكادت تنكفئ على وجهها عنـ.ـد.ما علق كعب حذائها فجأة في إحدى الفجوات الصغيرة، فصرخت بغتةً وقد حافظت على اتزان جسدها وحالت دون سقوطه:
-آه!
استدار "مهاب" كليًا تجاهها، وسألها في توجسٍ وهو يمد يده لإسنادها:
-إنتي كويسة؟
اعتدلت في وقفتها، وخفضت ذراعها، ثم ردت وهي تحاول تحرير كعب حذائها العالق دون أن تنحني:
-أيوه.
انقلبت تعبيراتها للضيق الحرج حينما رأت ما حل بحذائها، انحنت لتلتقط الجزء المفصول والعالق بالفجوة الصغيرة، لتقول في خجلٍ:
-ده الكعب اتكـ.ـسر، أنا أسفة جدًا.
اندهش من اعتذارها الغريب معقبًا:
-الموضوع مش مستاهل، عادي بتحصل.
طأطأت رأسها في حرجٍ متزايد، وقالت وهي تنزع الحذاء عن قدmها:
-أنا مكسوفة من حضرتك جدًا.
اضطرت "تهاني" أن تثني ساقها بعدmا لسعت البرودة القارصة باطن قدmها، وأضافت وهي تشير ناحية مدخل الفندق:
-أنا هرجع الفندق تاني، وأحاول أشوف حل للمشكلة دي، حضرتك تقدر تروح المطعم اللي إنت عاوزه، متعطلش نفسك عشاني.
اعترض عليها بصوتٍ وملامح هادئة:
-إنتي هتفضلي معايا، دي مشكلة بسيطة، وحلها موجود.
طالعته باستغرابٍ حائر، فسألها بغموضٍ وهو يفرد ذراعيه لها:
-تسمحيلي؟
ظلت على نظرتها المتحيرة، فوجدته يدنو منها، قبل أن ينحني ليحملها بين ذراعيه في خفةٍ، لتشهق مصدومة من تصرفه المفاجئ لها، سرعان ما تدفقت الدmاء الحارة في شرايينها لتغزو وجهها، مؤكدة على شعورها بالحرج والذهول. في التو استنكرت ما فعلته، وحاولت حثه على إفلاتها:
-مايصحش يا د. "مهاب"، الناس تقول علينا إيه؟!!
أخبرها بجرأةٍ صادmة لها، وبما جعل قلبها يقصف كذلك:
-أنا لو بوستك حتى محدش ليه الحق يعترض!
هتفت محتجة بـ.ـارتباكٍ عظيم، وقد استندت بكفيها على صدره:
-لأ أرجوك.
منحها هذه الابتسامة الماكرة وهو يخاطبها:
-متقلقيش، مش هعمل حاجة غـ.ـصـ.ـب عنك، إنتي غير أي واحدة.
لاذت بالصمت، وتجنبت النظر إلى عينيه نهائيًا وهو يسير حاملًا إياها تجاه السيارة؛ لكنها لن تنكر أنها استمتعت رغم تـ.ـو.ترها بهذا الشعور الجارف لكل ما هو عقلاني!
.........................................
بابتسامةٍ صغيرة وملامحٍ وديعة وقفت على عتبة الحمام تنتظر انتهائه من غسل يديه لتعطيه المنشفة القطنية النظيفة ليجففهما بها بعدmا تناول الطعام في بيتها تلبية لدعوة أمها حينما انقضى عقد القران. سحبها "بدري" من يدها بخشونةٍ، ونشف كفيه ليعيدها إليها دون أن ينبس بكلمة شكرٍ حتى، ثم تجاوزها في عبوسٍ باعث على الاسترابة ليعود إلى الصالة، لحقت به "فردوس" والحيرة تسبقها، ازدردت ريقها، وجلست إلى جواره واضعة أمامه كوب الشاي الساخن، اعتدلت في جلستها متسائلة بتوجسٍ قلق وهي تناظره من موضعها:
-مالك يا سي "بدري"؟ من ساعة ما أعدنا على السفرة وإنت وشك مقلوب؟
أجابها بصيغة تساؤلية مليئة بالاتهام:
-عجبك المرقعة اللي إنتي كنتي فيها دي؟
بهتت تعابيرها خوفًا من غضبته الظاهرة، وراحت تعتصر ذهنها لتتذكر كيف ومتى أحرجته وتسببت في مضايقته، حينما عجزت سألته بصوتٍ شبه مرتعش:
-مرقعة إيه لا سمح الله؟
أجابها بنفس الصوت اللائم وشبه المنفعل رغم خفوته:
-الضحك والكركرة اللي كانوا في الشارع قصاد الناس، خلاص فِشتك عايمة على الآخر!
تذكرت ما اقترحته عليها خالتها لرد الصاع صاعين لحمـ.ـا.تها اللئيمة حين أفسدت عليها فرحتها، وكيف انتهى بها المطاف الآن في وضع الاتهام لا التودد والتدليل. حاولت التبرير له، فأفهمته بتلعثمٍ:
-دي خالتي.. كانت قالتلي إن آ...
لم يمهلها الفرصة للتوضيح، وقاطعها بصوتٍ حاسم، وملامح صارمة:
-بصي يا بـ.ـنت الناس لا خالتي قالت ولا خالتك عادت، أنا مش جاي أتجوز عشان أجيب لنفسي و.جـ.ـع الدmاغ...
انقبض قلبها توجسًا، وأحست بطعم المرارة يملأ حلقها، فتابع على نفس النهج القاسي:
-أنا عاوز اللي تريحني، مش ناقص هم وقرف.
في التو أبدت نـ.ـد.مها قائلة دون تفكيرٍ:
-حقك عليا.
سكت ولم يقل شيئًا، فاستأنفت بحذرٍ وهي تقاوم زحف الدmـ.ـو.ع إلى مقلتيها:
-بس إنت برضوه زعلتني لما سبتني وروحت مع أمك، وكأني مش مراتك!!
هتف في صوتٍ محموم:
-هو احنا لحقنا؟!!
برقت عيناها ارتياعًا، وراح الفزع يتولاها من كل جانب، كأن هناك هجومًا ضاريًا على أعصابها دفعة واحدة، عنـ.ـد.ما صاح في عتابٍ حانق:
-ما إنتي شوفتي بنفسك إنها مش قادرة تقف، عاوزاني أعمل إيه وهي ست كبيرة؟ أقف اتفرج عليها لحد ما تقع من طولها؟
انحشر صوتها وهي ترد بنبرة مهتزة:
-لأ، بس آ...
مرة ثانية قاطعها رافعًا يده أمام وجهها ليهددها:
-من غير بسبسة، اللي حصل حصل خلاص، من هنا ورايح تاخدي بالك من تصرفاتك، سامعة؟ وإلا هتلاقي الرد مايعجبكيش!!
أذعنت أمام تحذيره القوي، وردت في طاعة تامة:
-ماشي كلامك يا سي "بدري".
تحول نظرها عنه، وراحت تلوم نفسها بشـ.ـدة لأنها انساقت وراء خالتها، ولم تضع في الحسبان أنها بذلك تُحـ.ـز.ن زوجها. ودت لو عاد بها الزمن للوراء واكتفت بالسير صامتة، لربما آنئذ نالت رضائه، وكلمة حنونة منه!
...........................................
كانت تشعر بنوعٍ من الغنج والدلال وهي تنتقي بين ماركات الأحذية ما يناسب مقاس قدmيها، بدت وكأنها في عالم من سحر الموضة المشوق، لحظات لا تعوض عاشت كل ثانية فيها بنشوة عارمة، دارت حول نفسها وهي لا تصدق حقًا أنها ترتاد أحد أهم متاجر بيع الأحذية. بعد حينٍ من التجارب، وجدت واحدة ملائمة لها رغم تحيرها في حسم اختياراتها، فكل ما وقعت عليه عينيها كان رائعًا للغاية. تجولت في تبخترٍ أمام ناظري "مهاب" وهو جالسٌ على الأريكة، ثم رفعت قدmها قليلًا عن الأرضية لتبرز شكل الحذاء في قدmها وهي تهتف بابتسامةٍ لهفى:
-تحفة أوي، ومريحة جدًا.
قال وهو يبادلها الابتسام الهادئ:
-المهم إنها عجبتك.
بعدئذ أشار للعاملة في المتجر لتأتي له بالفاتورة، فاستجابت له في التو. انتظرت "تهاني" ذهابها، وتقدmت ناحيته، ثم جلست على حافة الأريكة الوثيرة، وراحت تتحسس ملمس الجلد الثمين بيدها، لترفع نظرها إليه مضيفة بقليلٍ من الحرج:
-بصراحة دي أول مرة ألبس حاجة زي كده في حياتي...
للحظةٍ تحسرت على حياتها البائسة التي جعلتها محرومة تقريبًا من رفاهية الدنيا ومتعها المغرية، قامت واقفة، وتابعت وهي تتطلع إليه بتعبيرٍ واجم، لتقنعه بأنها غير راضية عن هذا الموقف المخجل بتاتًا:
-بس أكيد غالية، وصعب إني آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها قائلًا وقد فهم ما ترمي إليه:
-مـ.ـا.تغلاش عليكي.
حفظًا لماء الوجه، حاولت أن تقول بعزة نفس:
-أنا هرد لحضرتك تمنها.
نهض قائمًا، ودنا منها مرددًا في عتابٍ رقيق:
-عيب الكلام ده يا دكتورة، دي هدية بسيطة مني ليكي، وهي مش من مقامك أصلًا.
أصرت على رأيها هاتفة:
-بس كده كتير، وآ..
مجددًا قام بمقاطعة كلامها مؤكدًا لها بنبرة موحية:
-وإيه يعني؟ دي مش هتكون آخر مرة أهاديكي بحاجة.
نظرت له بامتنانٍ رغم القلق الذي ما زال يراود عقلها، جمَّلت وجهها بابتسامة خجلة؛ لكنها لاحظت تحول نظراته عنها، وأتبعها ذلك قوله المريب:
-لحظة واحدة!
تحرك مبتعدًا عنها نحو موضعٍ ما خلفها، فالتفتت تتابعه بتحيرٍ، وجدته يسحب واحدًا من الإيشاربات المزركشة من على حاملٍ معدني بعد تدقيقٍ سريع، استدار عائدًا إليها ثم فرده في الهواء بين يديه، ليديره حول عنقها، ثم طوقها به، فاقشعر بدنها من الملمس الناعم للقماش على جلدها، أحست كذلك بأصابعه وهي تداعبها خلسة، شـ.ـدها منه ليجذبها ناحيته ويقربها إليه، انساقت كالمغيبة تجاهه، حتى اضطرت أن تريح مرفقيها على صدره، مستشعرة نبض قلبه أسفل يديها، رمشت بعينيها وهي تنظر إليه مباشرة، فعقد طرفي الإيشارب معًا وهو يخبرها بصوتٍ أقرب للهمس:
-ده كمان هيبقى شكله تحفة عليكي.
لم يرخِ يديه بعدmا ربطه، بل استمر في جذبه الرقيق لعنقها جاعلًا وجهها أسيرًا له، رأت كيف ترتعش شفتيه بالرغبة وهو يتغزل بها في هسهسة حارة:
-إنتي جميلة أوي.
كاد ينجح في إغوائها لتقبله؛ لكنها صدت محاولاته في اللحظة الأخيرة بإبعاد وجهها، ودفعه برفقٍ من صدره وهي تخاطبه في لهجة اتخذت شكلًا رسميًا رغم خفوتها:
-د. "مهاب"! من فضلك!
ظل متسمرًا في مكانه وهي تبتعد مسافة عدة خطوات، كأنها تنأى بنفسها من تأثيره الطاغي، لتتساءل وهي تلتقط حقيبتها لتعلقها على كتفها:
-هو المطعم قريب من هنا؟
دس يده في جيب بنطاله، وأجاب:
-أيوه.
أبقت على ابتسامتها الرقيقة وهي تسأله:
-طب مش هنروح ولا إيه؟
أشار لها بيده الأخرى الطليقة لتخرج قائلًا:
-اتفضلي.
هزت رأسها مرددة بإيجازٍ دون أن تخبت بسمتها:
-شكرًا.
......................................
ما زالت لمعة الانبهار تحتل نظراتها كلما زارت مكانًا جديدًا، أو استمتعت بشيءٍ لم تجربه سابقًا. تذوقت "تهاني" أشهى أنواع الطعام، واستطابت ما تناولته من وجبة مميزة بهذا المطعم الراقي، لم تشعر بالوقت يمضي وهي بصحبة مُضيفها، بل إنها استأنست كثيرًا بوجوده، وشعرت بتناغم غير طبيعي معه، ورغم تحفظها الواضح على معاقرته للشراب، إلا أنها لم تظهر اعتراضًا متحيزًا ضده، على الأقل ريثما تتوطد علاقتهما بشكلٍ أقوى، أو أن تتخذ طابعًا رسميًا، وإلا لضاعت جهودها سدى.
أمام ردهة باب غرفتها بالفندق وقفت تصافحه وهي تبدي عُرفانها بما قدmه لها طوال اليوم:
-ميرسي على اليوم الظريف ده، أنا مكونتش متخيلة إني هستمتع كده.
بلطافةٍ موحية ما زال باقيًا عليها قال وهو يحتضن كفها براحتيه:
-ده بس لأنك موجودة معايا...
حاولت استعادة يدها وسحبها من بين قبضتيه؛ لكنه رفض تركها، وتابع بتنهيدة ثقيلة مغلفة برغبة متأججة:
-ونفسي تفضلي كده.
تقدm منها، فتراجعت بشكلٍ تلقائي للخلف، إلى أن حاصرها بين جسده والباب الخشبي، فاضطربت، وتلبكت، وتـ.ـو.ترت للغاية من محاولته المكشوفة للتودد إليها بشكلٍ حميمي، قاومته قدر استطاعتها، وهتفت تناديه بشيءٍ من الذعر:
-دكتور "مهاب"!
لامس بشفتيه جلد عنقها، فلفحتها حرارة أنفاسه، انتصبت شعيرات جسدها، وراحت الوخزات المـ.ـو.ترة تضـ.ـر.ب كل كيانها، تضاعفت رجفتها حين همس لها بشوقٍ آخذٍ في التعاظم:
-مش قادر أمنع نفسي!
توسلته بـ.ـارتعاشٍ:
-أرجوك...
تجاوزت عن ندائها المستجدي لعقلانيته شبه المغيبة، اضطرت أن تلجأ للجفاء معه، لئلا تنـ.ـد.م لاحقًا على تراخيها، لذا جاء في باقي جملتها قدرًا من التهديد عنـ.ـد.ما تابعت:
-إنت كده هتخليني أنـ.ـد.م إني وافقت أجي معاك.
أبعد رأسه عنها ونظر إليها بغموضٍ مريب دون أن ينطق بكلمة، ومع ذلك تمسكت بصمودها، وإن كان مهددًا للخروج من جنة دُنياه الثرية بكل ما تشتهيه النفس، دفعت للخلف قائلة بصوتٍ جـ.ـا.مد:
-تصبح على خير.
تراجع مسافة متر ملوحًا لها بيده قبل أن يرد بهدوءٍ غريب:
-وإنتي من أهله!
لم تنظر تجاهه، وأسرعت بفتح الباب لتدلف إلى الداخل، وهي بالكاد تحاول السيطرة على رعشة أطرافها، أوصدته مستندة بظهرها عليه محاولة استعادة انضباط حالها المتخبط، حذرت نفسها بصوت العقل:
-اجمدي كده يا "تهاني"، لو خدك للسكة دي هتبقي خسرتي كل حاجة قبل ما تملكيها من الأساس!
سحبت نفسًا عميقًا لتعيد الهدوء إلى أوصالها، ثم تابعت مع نفسها، وكأنها تعطيها تحذيرًا شـ.ـديد اللهجة:
-هو بيلعب بالنار، بس إنتي اللي هتتحرقي بيها لو ضعفتي، خليه يتعلق بيكي الأول، ده المهم، وده اللي هيوصلك لدنيا العز اللي بتحلمي بيها.
لم يطرأ على بالها العشق أو حتى اشتهاء متعته الشقية، إلا حينما أصبحت تحت وطأة ضغوطات حميمـ.ـيـ.ـته المخيفة، راحت تكرر على مسامعها نفس العبـ.ـارات المحذرة لتردع ما يناوش مشاعرها كأنثى من تقارب وتجاذب، قبل أن يتفاقم الأمر وتعجز عن كبح جموحه، ففي الحب تُعمى الأبصار عن رؤية العيوب، كما يُحجب المنطق ويُسلب من أذكى العقول.
......................................
-لم أتوقع أن تأتي الليلة!
قالت "ديبرا" بهذه العبـ.ـارة المندهشة وهي تستقبل في غرفتها بالفندق ضيفها المشتعل برغباته، والمدفوع بجوعه العاطفي بعدmا لعبت الخمر برأسه، و.جـ.ـعلته يصل إلى ذروة اتقاد حواسه. اندفع إلى الداخل وهو يقبض عليها من منبت ذراعها بيده، بعدmا صفق الباب بقدmه، قادها للأمام في لهفةٍ متزايدة لتحاول مجاراته وهو ينهال عليها بقبلاتٍ نهمة ومتعطشة للمزيد. طرحها على الفراش بعدmا استل ثوبها القصير، لتصبح كقطعة حلوى شهية جاهزة لأكلها، تمدد فوقها مدmدmًا بلهاثٍ متلاحق:
-أرغب بكِ بشـ.ـدة.
تعجبت من ثورة مشاعره الحسية وفورانها بهذه الطريقة الغريبة، وخاطبته بميوعةٍ وهي تحتضن وجهه بيديها:
-تريث قليلًا، عزيزي، ما زال أمامنا الليل بأسره.
-لا أستطيع.
ردد "مهاب" هذه الجملة المقتضبة، وهو ينتزع رابطة عنقه، ليمسك بعدها بمعصميها، قيدها منهما، قبل أن ينحني مجددًا على شفتيها ناهلًا منهما قدر ما يستطيع من حلوها، شعر بها تقاومه وهو يعيث فيما تملك من مقومـ.ـا.تها المغرية، فرفع نظره إليه ليجدها تحتج في تذمرٍ متدلل:
-أنت تؤلمني!
اعتلى وجهه هذه الابتسامة الخطيرة الواثقة، لتتوهج بعدها عينيه بوميضٍ مستثار وهو يسألها ليتأكد:
-ألا تفتقدين تقاربنا؟
أطلقت ضحكة ماجنة، وتقلبت على جانبها لتبدو أكثر إغواءً وهي تخبره بعد لحظةٍ من الصمت:
-ممم، حسنًا، أنا أعطيك الأفضلية عن "ممدوح" في إيقاظ مشاعر الحب بي.
على حين غرة تحول لقطعة من الجليد بعد إفسادها للحظة التجلي هذه بعقد تلك المقارنة السقيمة بينهما، لتذكره بأن رفيقه كان ولا يزال يناطحه فيما يجيد فعله مع النساء بتفردٍ ومجون، وكأنه مفسد متعته الاستثنائية التي ينتشي بها، فَقَدَ فجأة روح الشغف والاشتياق لتمضية لحظات عاصفة، جنونية، وغير منضبطة بشروط معها. نظرت له "ديبرا" باندهاشٍ وهي تتساءل بوجهٍ يضم علامـ.ـا.ت الحيرة:
-لماذا توقفت؟
حل وثاق يديها قائلًا بجفاءٍ مريب قبل أن يستقيم واقفًا:
-لم أعد أريد.
استنكرت للغاية عزوفه الغريب عنها، وسحبت الغطاء لتلف به ما برز من مفاتن جسدها، ثم نهضت من رقدتها تسأله وهو يسير متباعدًا عنها:
-ما الذي حدث؟ فيما أخطأت عزيزي "مهاب"؟
وقف أمام المرآة يهنـ.ـد.م ثيابه التي تبعثرت، ثم وضع رابطة عنقه حول ياقة قميصه، شعر بها تضمه من الخلف، كمحاولة غير مؤثرة منها لإعادته لوتيرة اللهفة مجددًا. مرغت وجهها في ظهره متسائلة في صوت ناعم:
-ألست أنا من تهوى الجموح معها؟
أطبق على شفتيه رافضًا قول أي شيء، نبذها بنظراتٍ قاسية جعلتها تستهجن هذه المعاملة الجافة منه، لوح لها بيده كنوعٍ من التوديع لها، فصاحت من ورائه تناديه بضيقٍ:
-"مهاب"، انتظر.
خرج من غرفتها سائرًا بتعصبٍ متجاهلًا ندائها المتكرر من ورائه، ليستحوذ على تفكيره فكرة واحدة فقط، ولا غيرها لتنفيذها مهما تكلف الأمر، الفوز بلا منازعٍ في اصطياد الضحية الجديدة .
↚
(القناع)
الصباح كان مختلفًا بالنسبة لها رغم ما امتلأ به ليلها من تفكير مجهد، أفرطت على غير عادتها في تأنقها، وارتدت زيًا رسميًا من قطعتين، بدا أشبه بما ترتديه مضيفات الطيران، من سترة وتّنورة، باللون البترولي، كانت ياقة السترة تلامس منبت رقبتها، فأخفت عنقها البـ.ـارز بالإيشارب المزركش الذي تلقته كهديةٍ بالأمس القريب، تأكدت من جعل العقدة عند جانب عنقها الأيمن، ثم مسدت بيدها على جانبي التنورة لتفرد قماشها فيصل إلى ركبتيها، اعتدلت بعدئذ واقفة، ومشطت شعرها قبل أن تعقصه في كعكة مشـ.ـدودة. مرة أخرى ألقت نظرة متأملة لهيئتها النهائية في تسريحة المرآة، لتمسك بأحمر الشفاه وتضيف مسحة رقيقة على ثغرها، لم تنسَ كذلك إفراطها في نثر العطر الأنثوي على كامل ثيابها، لتتحرك بعدها تجاه الفراش، جلست على طرفه، وانحنت واضعة الحذاء الجديد في قدmيها، أغمضت عينيها للحظة لتتنعم بإحساس الراحة وهو يغلف كيانها.
ابتسمت في رضا عن حالها، ثم نهضت ساحبة معها المعطف الأسود، لم تقم بـ.ـارتدائه على الفور، بل طرحته على ذراعها لتتأكد أولًا من رؤية "مهاب" لها في هذا المظهر الأنيق قبل أن تتوارى خلف الداكن من الثياب، بلغت المصعد، وهبطت به للاستقبال. عندئذ تعمدت التبختر في مشيتها؛ لكنها في نفس الآن رفعت رأسها للأعلى في إباءٍ وزهو. أبقت على ملامحها هادئة حينما أبصرته ينهض من على الأريكة للترحيب بها رغم الاضطراب الذي عصف بوجدانه دفعة واحدة، بالكاد ضبطت حالها، وتشبثت بجمودها الزائف لتبدي انزعاجًا مصطنعًا ومنتقدًا لسلوكه المتجاوز معها بالأمس. وقفت قبالته، وابتسمت ابتسامة صغيرة متكلفة وهو يستطرد:
-صباح الخير دكتورة "تهاني".
كما عهدته وجدته يرتدي حِلته الرسمية، ذات اللون الرمادي، ومن فوقها هذا المعطف الأسود الثقيل. هزت رأسها بإيماءة صغيرة وردت في إيجازٍ:
-صباح النور.
باقتضابها المتعمد في الحديث أرادت إشعاره بالذنب، وبإثبات اختلافها عن الأخريات اللاتي قد يبدين ردة فعل مناقضة لها، أو حتى متساهلة، لعلها تنجح في التأثير عليه بشكلٍ غير مباشر، حين يجدها تعامله بجفاءٍ ورسمية، فلا يظن أن ما حدث يمكن تكراره ببساطةٍ، ودون ردة فعل رافضة. كان يضع يده في جيب بنطاله وهو يخاطبها برنة هدوءٍ مسيطرة على صوته:
-في البداية أنا عاوز أعتذرلك عن سخافة إمبـ.ـارح.
تأهبت حواسها لما أبداه من اعتذارٍ مفاجئ، لم تضع في الحسبان أن يظهر نـ.ـد.مه بهذا الشكل السريع، فقد ظنت أنه سيتغاضى عما حدث ويواريه بالحديث عن أشياءٍ أخرى جانبية. نظرت له بعينين مدهوشتين وهو يسترسل بتعابيرٍ منزعجة، وبنبرة نادmة ومؤكدة:
-للأسف، أنا عديت حدود الأدب معاكي، وده شيء مضايقني جدًا، ومخليني مش راضي عن نفسي نهائي.
ظلت على دهشتها الغريبة لعدة ثوانٍ، لا تصدق ما حدث للتو، بينما أطرق "مهاب" رأسه قليلًا ليبدو مقنعًا قبل أن يضيف بصوتٍ تحول للنعومة:
-إنتي إنسانة غالية، عاملة زي الياقوت النادر، صعب الواحد مايتأثرش بيكي.
سقط القناع الواهي الذي اختبأت خلفه، وطفا على وجهها التخبط والارتباك، امتدت يده لتمسك بكفها، رفعه إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليه، ثم نظر إليها وهو محني قليلًا، ليردد مرة ثانية وهو يرسم هذه الابتسامة الصغيرة الماكرة:
-بكرر اعتذاري ليكي يا دكتورة، وأتمنى من قلبي إنك تقبليه.
أرخى أصابعه عن كفها فاستعادته، وقالت بتلبكٍ حرج:
-ولا يهمك.
تنحى للجانب وأشار بيده نحو المخرج قائلًا بتهذيبٍ أشعرها بالأهمية:
-اتفضلي يا دكتورة، العربية منتظرانا.
تنحنحت في صوتٍ خفيض قبل أن ترد وهي تسير بتمهلٍ:
-شكرًا.
طلب منها في صوتٍ هادئ لا يخلو من الجدية الآمة عنـ.ـد.ما اقترب من الواجهة الزجاجية لاستقبال الفندق:
-الجو برد، فيا ريت تلبسي البالطو بتاعك.
تذكرت أنها وضعته على ذراعها، فأومأت برأسها قائلة وهي تهم بـ.ـارتدائه:
-حاضر.
تغلغل فيها هذا الشعور المنعش بالسعادة والارتياح، فإن كانت محاولة واحدة عادية لصده استحثته على إبداء النـ.ـد.م الفوري، فماذا إن تمنعت قليلًا عليه؟!
............................................
استقرت في المقعد الخلفي إلى جواره في نفس السيارة التي نقلتهما بالأمس إلى مكان المؤتمر؛ لكن هذه المرة كان منهمكًا في مطالعة الكثير من الأوراق والملفات، للدرجة التي جعلته يلتزم الصمت طوال الطريق، مما أشعرها بشيءٍ من الضيق لتجاهله لها، فقد ظنت أنه سيحاول التودد إليها بأسلوب وديع ومهذب لكسب رضائها، ومع ذلك صدmها بردة الفعل المتحفظة تلك، وكأنه غريب كليًا عنها، كان مستغرقًا في عمله للحد الذي أصابها بالتحير، مما دفعها لإعادة التفكير فيما قررته قبل وقتٍ سابق، فقد لا يصلح ذلك التكتيك معه. نفخت بصوتٍ شبه مسموعٍ له دون أن تدري، فرفع رأسه عن الأوراق، وقال باسمًا:
-أنا أسف إني مشغول عنك...
تحرجت من كشف أمرها، ووضعت ابتسامة مهزوزة على شفتيها وهي يستمر في توضيحه:
-بس دي تقارير لأحدث الجراحات الحرجة اللي تمت الشهر اللي فات، وأنا لازم أشوفها.
ردت مجاملة:
-عادي، مش مشكلة.
اقترح عليها وهو يمد يده بواحدة من الملفات:
-تحبي تبصي عليهم معايا؟
ترددت للحظةٍ؛ لكنها لم ترفض عرضه، وقالت بابتسامة اتسعت قليلًا:
-لو مش هيضايقك!
أصر عليها بحبورٍ:
-بالعكس.. اتفضلي.
تناولت الملف منه، وراحت تطالعه بعينين فضوليتين، شتت نظراتها عن قراءة الأسطر الأولى عنـ.ـد.ما خاطبها:
-لو في حاجة مش واضحة قوليلي، وأنا أشرحهالك.
عادت دفقة من النشاط تنتشر في أوصالها وهي ترد بحماسٍ:
-ماشي.
استغلت المسافة المتبقية في ادعاء محاولتها الاستفهام عن بعض النقاط غير المفهومة ليظل الحديث ممتدًا وموصولًا بينهما لآخر وقت، إلى أن تباطأت سرعة السيارة، واحتل الفندق الفضاء المجاور لنافذتها، فأشار بإصبعه تجاهه متكلمًا:
-احنا تقريبًا وصلنا.
استدارت برأسها لتنظر إلى حيث أشار، وقالت وهي تلملم الأوراق المتبعثرة معًا:
-تمام.
لن تنكر أن ما أمضته من لحظاتٍ معدودة وهي تشاركه الرأي وتتناقش معه باستخدام العقل والحجة والمنطق جعلها تزداد رغبة ورجاءً في تعميق صلتها به، فتتجاوز حدود المهنية، لتصل إلى ما هو أكثر من ذلك، تأرجحت مشاعرها ما بين اللهفة والتمني، فتنهدت مليًا وهي تستعد للنزول، وجدته في انتظارها يبتسم بعنايةٍ وجدية، لم يمد ذراعه لتتأبط فيه كما تخيلت لهنيهة، بل أشار لها لتسير إلى جواره، وكأنه عاد لوضع هذا الحاجز الوهمي الفاصل بينهما.
..........................................
لم يجلسا على نفس المائدة السابقة المخصصة لهما في المنتصف، بل انتقل كلاهما للجلوس في المقدmة، على مسافة قريبة من المنصة الرئيسية، وهذا ما استغربته "تهاني"، فقد توقعت ألا يكونا محط الأنظار؛ لكن ربما يكون هناك ما لا تعلمه، دفعت المقعد للأمام بعدmا سحبه لها "مهاب" لتجلس عليه في تصرف مهذب معتاد منه. ابتسمت تشكره، وأخذت تطوف ببصرها على الحاضرين، كان التواجد كثيفًا عن يوم الأمس، توقفت عن تأمل ما حولها عنـ.ـد.ما انتبهت للصوت الأنثوي المألوف وهو يتساءل:
-عزيزي "مهاب"، كيف حالك اليوم؟
زرت عينيها في ضيقٍ محسوس وقد رأت "ديبرا" تقف أمام "مهاب" بقوامها الممشوق، وثوبها الأخضر الفاتن الذي يبرز أكثر مما يواري، لا إراديًا تحسست معطفها الأسود الذي يغطي على ما بذلته من جهدٍ لتلفت أنظاره، أصابتها موجة قوية من اليأس والإحباط وهي تراه يقف لتحيتها قائلًا بشيء من الجدية:
-أنا بخير سيدة "ديبرا"!
اندهشت "ديبرا"، مثلما استغربت "تهاني"، لهذه المعاملة الرسمية، وقررت بصوتٍ شبه هازئ:
-سيدة؟!
أكد على مقصد كلامه المفهوم بإيماءةٍ واضحة من رأسه، وللغرابة أكثر لم يمد يده لمصافحته، أو حتى تقبيلها في وجنتها كما فعل في المرة الأولى، بدا جافًا للغاية، صلفًا، وغير متهاون، الحميمية التي كان عليها بالأمس تلاشت كليًا، وكأنها لم تكن من الأساس. ارتسمت علامـ.ـا.ت الاستياء على وجه "ديبرا"، وراحت تعاتبه بصوتٍ مزعوج:
-لما هذه الرسمية في التعامل معي؟ ألم نكن بالأمس آ...
قاطعها رافعًا يده أمام وجهها:
-اعتذر منك...
ثم حول ناظريه تجاه "تهاني"، وتابع متعمدًا:
-صديقتي المقربة منزعجة من وجودك.
في التو تلاحقت دقات قلب الأخيرة في صدmة جلية مما فاه به، ظلت تحملق فيه بعينين متسعتين، لا تصدق ما سمعته، أفاقت من دهشتها العظيمة على نبرة "ديبرا" المستنكرة وهي تتساءل في استهجانٍ بائن:
-أهذه صديقتك؟
ألصق بثغره هذه الابتسامة الساحرة والمنمقة وهو يؤكد لها، دون أن يبعد نظراته الدافئة عن "تهاني":
-نعم.
تحرجت "ديبرا" من وجودها غير المرغوب فيه، واستأذن بالذهاب، وأمارات الخيبة تظهر على تقاسيمها:
-اسمح لي، فرصة طيبة عزيزتي.
لم تخبت الدهشة من على وجه "تهاني" رغم انصراف هذه المرأة، وظل نظرها معلقًا بـ "مهاب" وهو يخاطبها مبديًا اعتذاره، وقد عاد إلى الجلوس:
-أنا أسف إني اضطريت أقول الكلام ده، بس مكونتش هخلص بصراحة منها.
شعرت وكأنها لا تجد المناسب من الكلام لتعبر به عن رأيها فيما قال، فالمفاجأة ما زالت مسيطرة عليها؛ لكنه تابع موضحًا لها:
-يعني أنا مش بحب النوع ده من فرض العلاقات، هي مش قادرة تفهم إننا مجرد زملاء، عاوزة الموضوع يتخطى ده بكتير.
تطلعت إليه بمزيدٍ من التحير والاندهاش، فواصل تعقيبه:
-جايز الحياة هنا مفتوحة، وكل حاجة متاحة، بس أنا برضوه راجـ.ـل شرقي، وعندي ثوابت.
استندت برأسها على راحة يدها، ولم ترف بطرفيها، فرأى هذه النظرة الحائرة التي تملأ عينيها، لذا سألها مبتسمًا في لطافةٍ:
-بتبصيلي كده ليه؟
تداركت ما كانت عليه من تحديقٍ غريب، وقالت بتلبكٍ خفيف وهي تعتدل في جلستها:
-بصراحة اللي يشوفك إمبـ.ـارح مايشوفكش النهاردة.
قال بشيءٍ من الضيق:
-اللي حصل كان لحظة طيش، وأنا نـ.ـد.مان عليها جدًا.
كانت على وشك التعليق؛ لكنه انتفض واقفًا ليخبرها وهو يشير برأسه تجاه المنصة:
-أنا عندي مناقشة فوق، هستأذنك.
مرة أخرى تفاجأت به يعتلي المنصة كأحد محاضري اليوم، فافتر ثغرها عن ذهولٍ، تركها على حالتها تلك، وهو متأكدٌ أن نظراتها ستظل باقية عليه ولن تفارقه لمدة طويلة. شعرت "تهاني" بدفقة جديدة من الحماس المتقد تنعش وجدانها، فرددت مع نفسها في غير تصديق، وقد أشرقت ملامحها، وبرقت نظراتها سرورًا:
-للدرجادي أنا أثرت فيه؟
تساءلت في صدرٍ شبه ناهج وهي تضع يدها على الإيشارب المطوق لعنقها لتلمسه في ترفقٍ:
-بقى عاوز يتغير عشاني؟!
نفذ إلى قلبها ذلك الشعور اللذيذ الذي ينقلها في طرفة عين إلى عالم الأحلام والأمنيات، تنهدت على مهلٍ، ضمت شفتيها معًا مانعة نفسها بصعوبة من التعبير عن فرحتها، وقالت بعدmا أطبقت على جفنيها للحظةٍ:
-التقل صنعة برضوه!
.........................................
سرعان ما أسرتها طريقته المرتبة والمحكمة في فرض سيطرته على الآخرين، خاصة حينما احتدm الجدال بشأن نقطة معينة، كان ثابتًا، راسخًا كالجبل، لم يتـ.ـو.تر، ولم يبدُ قلقًا، بل على العكس استطاع أن يظهر قدرته على إقناع الحاضرين بصحة رأيه، فاستحوذ ببراعةٍ على إعجابهم قبل اهتمامهم. انتشت "تهاني" وهي تصغي إلى "مهاب" وهو يدلي بدلوه في كل شيء، وكأنه القائد المتزعم، سرحت في تأمله، وشردت مع نبرته في بُعدٍ موازٍ، حتى بدت غير مهتمة سوى بما يفعله فقط، كم دارت في رأسها الخيالات الوردية بشأن مستقبل باهر يجمعها به، فقط إن تطورت علاقتهما إلى ما هو أعمق! تنبهت من دوامة تحليقها الخيالي عنـ.ـد.ما ألقى كلمته الختامية، فطرحت عن رأسها هذه الأفكار الواهمة، ونهضت من مقعدها لتتجه إلى المنصة، حيث يقف وسط مجموعة من الأطباء يتشاور معهم في بعض الجزئيات. سمعت أحدهم يثني عليه من بين ضحكاته:
-نحن محظوظون بك دكتور "مهاب"، لقد كان النقاش غنيًا وممتعًا للغاية.
قال، وقد اتسعت بسمته:
-أشكرك سيدي.
مد آخر يده لمصافحته وهو يوصيه:
-نرجو ألا تحرمنا من هذه المحاضرات مجددًا.
أخبره مؤكدًا بثقة يشوبها لمحة من الغرور:
-لا تقلق، ستجدني في كل محفلٍ طبي.
ارتبكت، وتشعب في بشرتها حمرة خفيفة عنـ.ـد.ما تحولت كافة الأنظار إليها فجأة عنـ.ـد.ما خاطبها أحد الواقفين بنبرة مهتمة:
-وأنتِ كذلك دكتورة، نتمنى رؤيتك مرة أخرى.
عندئذ تحرك "مهاب" ليقف مجاورًا لها، وليضعها كذلك في المقدmة لتتمكن من الحديث إليهم، فابتسمت في خجلٍ، وردت وهي تنتقل بناظريها إليه، لتحدق فيه وحده:
-بالتأكيد.
تكلم مجددًا ذلك الطبيب وهو يوزع نظراته بين الاثنين، ومشيرًا بسبابته:
-لنتقابل في تجمع الغد، سأنتظركما.
وقتئذ رد عليه "مهاب" بهدوءٍ:
-حسنًا.
مرت عدة دقائق إلى أن خفَّ الحشـ.ـد، وانشغل المعظم عنهما، حينئذ انفردت "تهاني" به، وسألته بفضولٍ ممزوجٍ بالحيرة:
-هو في إيه بكرة؟
أجابها وهو يشير لها بيده لتتحرك بعيدًا عن الصخب:
-عاملين زي جولة في البلد، بحيث الضيوف يشوفوا أهم معالمها!
نبرته أوحت لها بعدm اكتراثه، فتفرست في وجهه مليًا، وهي تستطرد متسائلة لتتأكد مما تشك فيه:
-شكلك بيقول إنك مش حابب تخرج؟
جاء رده مائعًا وموجزًا في نفس الآن:
-يعني.
تعجبت من ذلك، وسألته:
-في سبب معين؟
هز رأسه بالإيجاب دون أن يفوه بشيء، وكأنه يقصد بهذا استثارة نزعة الحيرة بداخلها، وحدث ما رتب له، فازداد الفضول بداخلها، ولم تمانع من الإفصاح عما تريد الوصول إليه، لذا تساءلت برقةٍ وتهذيب، وقد أصبحا كلاهما خارج قاعة المؤتمر:
-ممكن أعرف إيه هو؟
اتخذت ملامحه طابعًا جديًا غريبًا، وتوقف عن السير ليوضح لها بمكرٍ مدروس:
-بعيد إني مش عاوز أشوف "ديبرا"، بس ممكن تلاقي بعض الحاجات اللي مـ.ـا.تعجبكيش، وأنا مش حابب ده.
لحظتها أحست بالنشوة والابتهاج لتجنبه فعل ما يزعجها بأي طريقة، وكأن لها تأثير ساحر يعجز إلى حدٍ ما عن مقاومته، تمسكت بهذا الاعتقاد. لاحت ابتسامة ناعمة على محياها وهي تخبره:
-طالما إنت مش هتروح فأنا زيك.
أومأ برأسه ليكملا سيرهما، فتحركت معه، وهزت كتفيه متابعة كلامها:
-أنا أصلًا ماليش في الجو ده.
مشى إلى جوارها قائلًا بصوته الهادئ:
-أنا عارف...
حين التفتت تنظر إليه، أكمل بنبرة موحية، في التو تسربت إلى النابض بين ضلوعها، فراح يخفق بقوةٍ:
-وحابب تفضلي كده.
تسترت وراء قناع الابتسام الخجل لتخفي هذه اللهفة الفرحة المتفشية فيها، لو لم تكن قد سمعت ما قاله، لظنت أنها في حلمٍ جميل ستفيق منه بعد حين؛ لكنها يقظة، وما يردده واقع ملموس، يكاد يتحقق إن استمر على هذا المنوال.
.......................................
لم يكن من هواة الجلوس على المقاهي الشعبية؛ لكن شقيقه أرسل إليه ليأتي إليه في ذاك المكان الرابض بالقرب من محل عمله. انتظره "عوض" في تبرمٍ متذمر، فلم يرغب في إضاعة الوقت سدى، دون أن ينهي ما هو مكلف به من أعمالٍ. هبَّ واقفًا من موضع جلوسه عنـ.ـد.ما لمح "بدري" قادmًا من مسافة قريبة، اتجه ناحيته وهو منزعجٍ بدرجة كبيرة لتأخره، ناداه ملوحًا بيده، ومع ذلك لم يرد، ظل منشغلًا بالتحديق في مغلفٍ أصفر اللون ممسك به بيده. لم يره، واستمر ملهيًا مع نفسه، بلغه فسمعه يردد بما يشبه التهليل رغم خفوت صوته، وكأن برأسه حوارًا لا ينقطع:
-يا فرج الله، أنا مش مصدق.
استوقفه بالإمساك به من ذراعه، وصاح به وهو يهزه قليلًا:
-في إيه يا "بدري"؟ جايبني ومعطلني من الصبح ليه؟
نقل شقيقه الأصغر نظره إليه، وردد في تلهفٍ آخذٍ في التضاعف، وابتسامة عريضة تكاد تصل لأذنيه تبرز على ملامحه:
-افرح ياخويا، أنا الحمدلله استلمت تأشيرة السفر للعراق، فحلفت لتكون أول واحد تعرف.
فاجأه بذاك الأمر الذي انتواه سابقًا ومضى عليه وقت ليس بقليل حتى ظنوا جميعًا أنه لن يحدث، حدق فيه مدهوشًا للحظاتٍ، ثم قطب جبينه، وسأله مستنكرًا، وبعض الضيق يكسو وجهه:
-إنت بتكلم جد؟ برضوه عملتها؟!!
أكد عليه وهو يرفع كذلك المغلف نصب عينيه:
-ده ربنا اللي أراد.
تطلع "عوض" إلى ما في يده بحاجبين معقودين، بينما استمر شقيقه في الاسترسال ليُعلمه وهو عاقد العزم على تنفيذ ما طمح فيه بشـ.ـدة بماضٍ ليس ببعيد عنهما:
-ده أنا حتى كنت نسيت الحكاية دي من ساعة ما وصيت الزبون إياه إنه يشوفلي سكة لبرا، وزي ما إنت عارف لا كان في حس ولا خبر منه، بس طلع أصيل، وحطني على أول الطريق.
بدا شقيقه الأكبر غير راضٍ عن حماسه الظاهر للإقدام على هذه الخطوة الفارقة، وسأله في عبوسٍ:
-وإنت يعني لازمًا تسافر؟ ما تفضك من الحكاية دي.
أصر على قراره هاتفًا بعنادٍ وأصابعه تزداد تشبثًا على المغلف:
-لأ مش هيحصل، دي فرصة أجرب حظي في حتة جديدة أجيب بيها قرش زيادة بدل العيشة الصعب اللي بقينا فيها.
سكت، وحك جبينه للحظةٍ، ثم تشجع ليسأله باهتمامٍ تخالطه الحيرة:
-طب ومراتك؟ ناوي تعمل معاها إيه؟
امتقعت تعابيره، وصار متجهمًا للغاية، ففهم نواياه دون الحاجة للبوح بها، ومع ذلك بادر بالقول عنه، كأنما يسمعه ما يدور في رأسه:
-شكلك مش عامل حسابك عليها تبقى معاك، صح كلامي؟
لوى ثغره ليتكلم في حدة طفيفة:
-هاخدها أبهدلها معايا؟ أنا محتاج أظبط وضعي الأول، وبعد كده أشوف هاخدها إزاي!
كان رده منطقيًا، مقنعًا، وليس محلًا للنقاش، بحث عن شيء آخر ليقوله، لعل وعسى يثنيه عن رأيه؛ لكنه لم يجد، لذا ثبت عينيه عليه قائلًا في استسلام:
-ربنا يصلح حالك.
شكره لدعمه الظاهري، وهتف بتحمسٍ أكبر:
-هروح أفرح أمي وأبشرها.
كان يعلم أنه لا يحق له التدخل في شأنه، ومع ذلك نصحه في نوعٍ من اللين:
-وماله، بس مـ.ـا.تنساش مراتك، هي ليها حق عليك.
تحولت نظراته بعيدًا عنه وقال بغير مبالاة وقد همَّ بالسير:
-ربنا يسهل!
شيعه "عوض" بنظرة آسفة، قبل أن يردد في يقينٍ كبير:
-شكلك هتظلمها معاك يا أخويا.
...........................................................
خُيل إليها أنها أصبحت تملك كنوز الأرض الثمينة، بعدmا أطلعها ابنها على الأنباء السارة. ابتهجت أساريرها، وأضاءت عيناها بكل معاني الفرحة والسرور، ورغم أنها لا تعرف القراءة أو الكتابة إلا أنها ظلت تتحسس الأوراق بأطراف أصابعها، وكأنها تستشعر نشوة الظفر بهذه الأختام الرسمية. ضاقت حدقتاها فجأة، وراحت تشـ.ـدد مجددًا على ابنها وهي تعيد وضع الأوراق في المغلف الأصفر:
-اسمع كلامي، متقولش لحد إلا على آخر وقت، إنت ممكن تتحسد فيها، والعين وحشة.
هز رأسه في طاعةٍ، وسألها:
-طب و"فردوس"؟
أبدت تعبيرًا ناقمًا ومشمئزًا من سيرتها، فحذرته بلهجةٍ صارمة:
-دي بالذات قبلها بيومين، ده كفاية خالتها وأرها!
لم يعارض ما تمليه عليه؛ لكنه تكلم في صيغة متسائلة، كما لو كان يستفهم منها:
-بس جوازي منها كده هأجله؟!!
ردت بامتعاضٍ، ونظرة ساخطة تطل من عينيها:
-مافيهاش حاجة لما تستنى كام شهر، هي متسربعة على إيه؟
فرك مؤخرة عنقه في تحيرٍ معكوسٍ على وجهه، فمالت عليه والدته تخبره بهذه الابتسامة المتسعة:
-ركز إنت في باب الرزق اللي ربنا فتحهولك ده، وسيبك من أي حاجة تانية.
قال صاغرًا دون تفكيرٍ:
-حاضر يامه.
استحسنت قدرتها على استمالة رأسه ودفعه لتنفيذ ما ترغب فيه بلا مجهودٍ، وراحت تستحثه على السعي وراء أحلامه بتلهفٍ يفوقه، غير مبالية إطـ.ـلا.قًا بمن دونه.
........................................
العودة إلى أرض الواقع بعد لحظاتٍ من تذوق نعيم الجنة كان محبطًا لها، تمنت "تهاني" لو استمرت فاعليات هذا المؤتمر لأيامٍ أكثر، ورغم الأسلوب الجاد الذي بات عليه "مهاب" في التعامل، إلا أنها لم تمانع البقاء بقربه؛ لكن لكل شيءٍ نهاية. أوصلها إلى مسكنها، وودعها بابتسامة صغيرة، فتركته وصعدت وهي منهكة من كم المجهود الذي بذلته طوال الساعات الماضية.
كالعلقة التي تلتصق بظهر فريستها لتمتص منها الدmاء بشراهةٍ، لاحقتها "ابتهال" بإلحاحٍ مغيظ منذ اللحظة التي ولجت بها إلى الداخل، أخذت تفحصها من رأسها لأخمص قدmيها بتدقيقٍ عجيب لتتأمل هذا التغيير الملحوظ الذي صارت عليه، سألتها بسماجةٍ وهي تمسح بيدها على ثوبها البنفسجي الجديد، والذي كانت ترتديه حين استقلت الطائرة مع "مهاب" عائدة إلى هنا:
-إيش إيش، إيه الحاجات الحلوة دي؟
تجاهلتها كالعادة، وتركتها تثرثر، فسمعتها تقول من خلفها وهي تضع حقيبتها أرضًا بجوار فراشها:
-ده احنا اتغيرنا ولبسنا اللي على الحبل وزيادة.
ضغطت على شفتيها في تأفف، ما لبث أن انقلب لاستهجانٍ وهي تندفع في الكلام لتسألها بتطفلٍ مستفز:
-والدكتور الحليوة قالك كلام من إياه؟
حينئذ صاحت بها بصبرٍ نافد على الأخير، وبنبرة محتدة:
-"ابتهال"، أنا راجعة من السفر تعبانة، ممكن تسبيني أرتاح؟
لم تعبأ بصراخها، ولا بضيقها الظاهر، بل أصرت على البقاء لصيقة بها، فأخبرتها بلزاجةٍ لا تُطاق:
-ده أنا هطق من الأعدة لوحدي ليل نهار، وربنا ده إنتي كنتي واخدة بحسي.
فما كان من "تهاني" إلا أن فقدت هدوئها، واندفعت تجاهها في عصبيةٍ، لتقوم بدفعها دفعًا إلى خارج الغرفة وهي تهتف بحمئةٍ:
-أنا مش ناقصة صداع.
ما إن أخرجتها حتى صفقت الباب في وجهها، ووصدته بالمفتاح لتضمن عدm اقتحامها للغرفة مجددًا، ومع ذلك سمعتها تصيح من الخارج ببرود مستثيرٍ للأعصاب:
-براحتك، أنا هعذرك بس عشانك تعبانة، ولسه راجعة، بس اعملي حسابك مش هسيبك إلا لما أعرف كل حاجة بتفاصيل التفاصيل.
نفخت "تهاني" في سأمٍ شـ.ـديد، ورددت وهي تسير عائدة إلى فراشها:
-هو في كده؟ بني آدmة رهيبة!!!!
كان إرهاق السفر متمكنًا من بدنها، فلم تستغرق وقتًا في الانخراط في سباتٍ عميق، تسلل فيها شخصه إلى أحلامها الطامعة بحياة هانئة مليئة بالراحة والثراء، الثراء الفاحش!
...........................................
أطلقت تنهيدة ارتياحٍ كبيرة عنـ.ـد.ما نجحت في الإفلات من قبضة هذه السقيمة المتطفلة، قبل أن تعترض طريقها نهارًا، وتحاصرها بأسئلتها التحقيقية المزعجة. انطلقت إلى المشفى بسيارة أرسلها إليها "مهاب" لتقلها، رافضة حضور أي من محاضرات اليوم دون أن تلقاه أولًا، وكأن رؤيته قد باتت إدmانًا لها.
بلغت سعادتها عنان السماء عنـ.ـد.ما وجدته في انتظارها بمكتبها، ألقت عليه التحية، وأبدت سعادة غير عادية لمقابلته؛ لكنه تعامل معها بجمودٍ غريب، واستطرد متحدثًا بشيءٍ من الجدية الباعثة على القلق والريبة:
-أنا مش هطول كتير...
سألته بتوجسٍ، وقد اختفت النضارة من على بشرتها:
-خير في حاجة؟
أبقى عينيه عليها ثابتة وهو يجيبها بهدوءٍ:
-أنا كنت جاي أبلغك إني هرجع مصر كام يوم.
انقبض صدرها، وتـ.ـو.تر قلبها، فسألته باضطرابٍ متصاعد:
-ليه؟ في حاجة حصلت؟
صمت للحظةٍ، ونكس رأسه في حـ.ـز.نٍ قبل أن يجاوبها:
-والدي تعبان شوية، ولازم أسافر أطمن عليه بنفسي.
في التو قالت كنوعٍ من الدعم المعنوي له:
-ألف سلامة، إن شاءالله مـ.ـا.تكونش حاجة خطيرة.
عقب بغموضٍ مقتضب:
-هيبان.
حاولت استطالة الحديث معه بعدmا رأت كيف استبد به الهم:
-متقلقش يا دكتور "مهاب"، ومن فضلك طمني أول بأول.
هز رأسه بإيماءةٍ صغيرة، وأردف مودعًا إياها دون قول المزيد
-أكيد، أشوفك على خير.
أحست بغصة مريرة تعلق في حلقها، فراحت تردد بصعوبةٍ، وهذا الشعور الخانق يزداد ضغطًا على صدرها:
-مع السلامة.
انقلبت سحنتها، وتعكر مزاجها لرحيله، وكأن قناع الثبات التي كانت تختفي خلفه قد سقط عن وجهها، شعرت مع ذهابه بفراغ كبير يحتلها، بوجود شيء موحش يجثم على روحها، حتى أنها استنكرت ما أصابها لمجرد التفكير في تأثير غيابه عليها. لم تقوَ ساقاها على حملها، فارتعشت وهي تسير عائدة إلى مكتبها لترتمي على المقعد وهي شاحبة الملامح متسائلة في صوتٍ يعبر عن تكدرها:
-أنا إيه اللي حسا بيه ده؟!!
..........................................
بذلت جهدًا كبيرًا لتركز في استذكار ما فاتها من محاضراتٍ، ومع هذا عجزت عن قراءة سطر واحد من الورقة المطروحة أمام عينيها لساعاتٍ، كان بالها مشغولًا، تفكيرها مشوشًا، فاكتفت بالنظر إلى ما لا تراه بين السطور لتختبئ خلف ستار الصمت والهدوء الزائفين، لعل وعسى عقلها يكف عن السؤال عنه، فقد مر ما يقرب من أسبوعٍ وهو غائب عنها، لا تعرف عنه أي شيء، حاولت التوصل إلى أي معلومة تُفيدها بشأن مرض والده؛ لكنها لم تصل لشيء، كل الطرق مسدودة. رفعت رأسها فجأة وحولتها تجاه الباب عنـ.ـد.ما تكلم أحدهم بلهجةٍ مرحة مثيرة للانتباه:
-أنا أكيد حظي حلو عشان ألاقي هنا.
استغربت "تهاني" لقدوم "ممدوح" إلى هنا، ونهضت قائمة لترحب به بوديةٍ متكلفة:
-اتفضل يا دكتور.
لم يكن بحاجة إلى أي دعوة ليجلس، فقد تقدm من تلقاء نفسه تجاه مكتبها، واستقر على المقعد الشاغر أمامها، نظر إليها ملء عينيه متسائلًا في اهتمامٍ وابتسام:
-إيه الأخبـ.ـار معاكي؟ وراكي شغل ولا حاجة؟
أجابت نافية:
-لأ، كنت بذاكر شوية اللي فاتني.
هز رأسه في تفهمٍ ليتابع بنظراتٍ قوية مدققة مسلطة عليها:
-مالك يا دكتورة؟ حاسك زعلانة من حاجة...
وقبل أن تفكر في الإحجام عن الرد استأذنها بلباقةٍ ترفع عنه الحرج:
-تسمحيلي أعرف، ده لو مكانش يضايقك أو فيه تدخل مني!
كانت بحاجةٍ للتنفيس عما يجيش في صدرها من كبتٍ وضيق، فتكلمت على مهلٍ، كما لو كانت تستخلص الكلمـ.ـا.ت بصعوبة لتعبر عن حالها:
-لأ، بالعكس..
سكتت لهنيهة في ترددٍ قلق، سرعان ما تغلبت عليه لتستأنف حديثها إليه، وكأنها تحاول الاستئناس بالتحاور معه:
-أنا أصلي قلقانة شوية على والد دكتور "مهاب"، كان قالي إنه تعبان، وهو سافر يطمن عليه.
راقبها "ممدوح" بلا تعقيبٍ، لكن نظراته تبدلت لشيءٍ آخر غامض، بينما اندفعت زفرة طويلة من جوفها وهي تكمل:
-ولحد دلوقتي مش عارفة حاجة عنه.
مرة ثانية سألته وهي ترى ذلك التعبير المبهم الذي استحوذ على كامل ملامحه:
-هو كلمك؟
اختصر جوابه قائلًا:
-لسه...
انتابتها الهواجس، فاضطربت قسمـ.ـا.تها، وتـ.ـو.ترت نظراتها، لذا أخبرها مشيرًا بيده ليثبط من المشاعر السلبية التي استحوذت عليها:
-اطمني، لو كان في خبر وحش كنا عرفناه، الحاجات دي مابتستخباش.
أراحها رأيه قليلًا، فحركت رأسها بهزة خفيفة وهي تغمغم:
-ربنا يعديها على خير...
أغلقت دفتر الأوراق المفتوح أمامها، ونهضت قائلة في إحباطٍ يمتزج بالحـ.ـز.ن:
-أنا مش قادرة أركز أكتر من كده.
قام بدوره، وخاطبها بتفهمٍ:
-مافيش داعي ترهقي نفسك.
دست ما لديها في حقيبتها المتسعة تأهبًا لانصرافها؛ لكنه اعترض طريقها مقترحًا بحماسٍ:
-ت عـ.ـر.في إنتي محتاجة تغيري جو، تشوفي حاجة جديدة تجدد نشاطك.
كانت فاقدة للشغف، فعلقت حقيبتها على كتفها، وتمتمت بغير اهتمامٍ:
-ماليش مزاج أعمل حاجة.
ألح عليها بتصميمٍ، جاعلًا الرفض مسألة غير قابلة للتفاوض:
-سبيلي نفسك وأنا هخليكي في حالة تانية خالص، ومش هاقبل بأعذار نهائي.
تحرجت من رفض دعوته، وقالت:
-مش هاينفع، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ أكبر:
-كده هزعل، أرجوكي يا دكتورة، أنا غرضي أسعدك.
للحظة فكرت في كلامه، فقد احتاجت للهروب من دوامة القلق التي تعتصرها، أبدت موافقتها قائلة وهي توسم شفتيها ببسمة رقيقة:
-طيب.
تظاهر بالسعادة العارمة لقبولها، لكن في دواخله غير المرئية لها كان يحترق كمدًا، فقد أصبح مدركًا أن المنافسة بينهما بدأت لتوها، وخصمه راح يشرع في تنفيذ مخطط استدراج ضحيته الجديدة لشباكه، باللجوء لنفس الحيل القديمة المستهلكة؛ الاختفاء المريب، والغياب الطويل، وتــعذيـــب الوجدان بإحساسي الفراق والهجر المرير، لتصير بعدئذ لقمة يسيرة سهلة المضغ، فترفع رايات الاستسلام دون أدنى مقاومة، بعدmا استنزفتها مشاعرها المرهفة. قال بتحدٍ متحفز لنفسه، وفي عينيه تصدح هذه النظرة الماكرة:
-هنشوف هتسرى في الآخر على مين
↚
(اللعبة الحــقيرة)
صحراء من الصمت المرير عاشت فيها بغيابه المفاجئ عنها، حاولت التغلب على ما يعتريها من مشاعر اللهفة والضيق بإلهاء نفسها بالانشغال بهذه الفسحة المفاجئة، على أمل أن يستريح عقلها ولو لبرهةٍ من التفكير في شأنه. ظنت "تهاني" أن رفيق جولتها سيصحبها إلى أحد المطاعم الجديدة، لكونه خبير في هذا الشأن؛ لكنه وعلى غير توقع إلى البلدة المجاورة، ليصل كلاهما إليها بعد ساعتين من القيادة المتواصلة والمصحوبة بحديث أحادي الجانب عن مواضيعٍ شتى، كانت في غالبيتها تنصت فقط إليه. صف السيارة خارج الميناء التابع لهذه البلدة، وسألته بحاجبين معقودين:
-هو احنا بنعمل إيه هنا؟
أخبرها بغموضٍ، ووجهه تداعبه ابتسامة شقية:
-هت عـ.ـر.في دلوقتي.. اتفضلي.
ثم أشار لها بيده لتتحرك، فتبعته صامتة، إلى أن وجدته يقوم بالحديث مع أحدهم من أجل استئجار أحد تلك اليخوت الصغيرة لتستقلها في جولة بحرية، أسعدتها المفاجأة السارة، وصعدت إليه بمساعدته. رغم اندهاشها من حسن اختياره إلا أنها استحسنته للغاية. ابتسمت تشكره في نعومة وهي تجلس مجاورة لحافة اليخت، ثم استطردت معترفة له:
-أنا عمري ما ركبت مركب في حياتي، دي أول مرة، وفي يخت، بجد كتير عليا.
صحح لها "ممدوح" ما فاهت به بطريقة ماكرة ومراوغة لاستدراجها إلى طرفه في هذه المنافسة القائمة:
-ليه متقوليش إنه حظي الحلو خلاني أشاركك التجربة الجميلة دي.
أحست بشيءٍ من الحرج، وردت وهي تشيح بوجهها لتحدق في صفحة المياه المتموجة بهدوءٍ:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، كلك ذوق.
شعرت به يتحرك مبتعدًا، ليغيب عن أنظارها، فسحبت شهيقًا عميقًا ملأت بهوائه النقي رئتيها المعبأتين بالهم، ظلت مستغرقة في تحديقها الهائم إلى أن عاد مجددًا وفي يده كأسًا مملوءة بمشروبٍ ما، ناولها إياه وقد تبسم قائلًا:
-اتفضلي.
تحفزت في جلستها، وسألته بترددٍ دون أن تمد يدها لتأخذه:
-إيه ده؟
تطلع إليها بغرابةٍ، فتابعت رافضة قبل أن ينطق موضحًا أي شيء لها، وعيناها تنظران إلى الألوان الممتزجة معًا:
-معلش، أنا مش بشرب.
ضحك في لطافةٍ، وتكلم من بين ضحكاته الصغيرة مدهوشًا:
-ده عصير فواكه، كوكتيل، إنتي فكرتيه حاجة تانية؟
زاد شعورها بالخجل، وردت معللة وهي ترمش بعينيها بعدmا أخذت الكأس منه:
-أسفة، أصل افتكرت دكتور "مهاب" لما عزم عليا بشمبانيا.
تعمد وضع هذا الطابع الجدي على ملامحه وهو يسألها بنوعٍ من الترقب:
-وعملتي إيه؟
في التو أخبرته بلا تفكيرٍ:
-رفضت طبعًا.
جلس مجاورًا لها، وأردف في إيجازٍ:
-كويس...
أحست من طريقته المقتضبة أنه ما زال يريد إضافة المزيد، وصدق حدسها عنـ.ـد.ما استأنف مسترسلًا بغموضٍ محير:
-أصله متعود يعمل دايمًا كده مع اللي يعرفهم...
من موضعه نظر إليها عن قربٍ، فرأى كيف تغيرت ملامحها، وغلفتها سحابة من الغمام، وإن ظلت هادئة، لا تعلق بكلمة. ابتسم وأكمل بنبرة موحية:
-وخصوصًا الجنس الناعم، ما هو معجباته كتير بقى.
شعرت بدmائها تحنقنٍ، بقدرٍ من الغليل يسري في عروقها، ويحتل كل ذرة في كيانها، ليجعلها على أهبة الاستعداد للانتفاض والثورة ضد ما تسمعه، تضاعف ذلك الشعور الحانق بقوله المستفيض:
-وهو الصراحة مايتسابش، ألف مين تتمنى ترتبط بواحد زيه، مركز، وسلطة، ومال، وعيلة.
امتلأ جوفها بذاك المذاق المرير، فقربت الكأس من فمها لترتشف منه القليل؛ لكنه كان كالعلقم السقيم، و"ممدوح" لا يزال يخبرها بما زعزع أمنياتها:
-بس هو مش بتاع جواز، أخره يقضي يومين حلوين مع بـ.ـنت جميلة، شوية ويزهق، ويرجع يدور على غيرها، ومش فارق معاه إن كانت مشاعرها هتتأذى ولا لأ.
خفضت الكأس ويدها ترتعش، حاولت النظر إلى الأفق الأزرق الممتد على مرمى بصرها، وصوته يتخلل إلى أذنها ليخبرها بما أجج بداخلها مشاعر الضيق، والحنق، والغيظ:
-هو معذور، اتعود ياخد اللي عاوزه، طالما حط ده في دmاغه، وبيقدm كل المغريات عشان يضمن إنها متفلتش من إيده.
أحست بتورية خفية في ختام جملته، ربما كانت هي المقصودة بهذا، فالتفتت تنظر إليه وهي تحتج على مقصده بانفعالٍ ملحوظ:
-وأنا مالي، هو حر في تصرفاته، أنا مش هحاسبه...
ازدادت أصابعها إطباقًا على الكأس وهي تواصل الحديث بعصبية بائنة رغم خفوت صوتها:
-وعلاقتي بيه في إطار إننا زملاء وبس.
ثبتت "تهاني" نظراتها عليه، وأنهت كلامها قائلة بحسمٍ غاضب:
-مش أكتر من كده.
ثم تركت الكأس من يدها المتشنجة دون أن تنتبه جيدًا لموضع إسناده، فتركته في الفراغ، فسقط في التو، وانسكب محتواه على السطح الخشبي، هبت واقفة، وأبدت انزعاجًا كبيرًا من تصرفها الأخرق، وكادت تنطق بشيء لتعتذر عن حمقها؛ لكن "ممدوح" تدخل قائلًا وقد قام واقفًا:
-حصل خير، ما تشغليش بالك.
عاودت الجلوس وهي تطلق أنفاسًا بطيئة مختنقة بضيقها من بين شفتيها المشـ.ـدودتين، لتتابعه بعدئذ وهو يتحرك من حولها ليحضر أحدهم لينظف الفوضى التي أحدثتها. أصبح كل شيء كما كان عليه قبل قليل، فاستطرد "ممدوح" مخاطبًا إياها بتحذيرٍ مباشر وهو مسلط نظره عليها:
-أنا عاوزك بس تاخدي بالك، مـ.ـا.تتخدعيش بالكلام الحلو.
صاحت به بحدةٍ:
-أنا مش عبـ.ـيـ.ـطة يا دكتور.
امتص غضبها بحنكةٍ، وعلق مرددًا بهدوئه الواضح، كما لو كان يمدحها بغزلٍ مستتر:
-مش قصدي أي إهانة في كلامي، بالعكس إنتي إنسانة ذكية، وأنا واثق من قدرتك على الاختيار الصح.
استقبلت مغزى عبـ.ـاراتها بتحفزٍ، وكتفت ساعديها أمام صدرها، لترد بوجه منقلب:
-ممكن نرجع، أنا حاسة إني تعبانة.
قابل هجومها الظاهر بنفس الأسلوب المسالم، وقال متفهمًا:
-حاضر.
تركها بمفردها، وذهب بعيدًا لتشعر بكتفيها يسقطان من يأسها المحبط، زحفت الدmـ.ـو.ع إلى عينيها رغم مقاومتها لهذا الشعور المخزي، فخاطبت نفسها وهي تخـ.ـنـ.ـق غصة مؤلمة تحك حلقها:
-يعني أنا زيي زي غيري، مجرد لعبة في إيده؟
اختفى ما ظنت أنه كان جميلًا بوجوده، لتحل هذه التخيلات القبيحة رأسها، وتشحن تفكيرها ضده. من مكان وقفه بالخلفية، راقبها "ممدوح" مستمتعًا بما أحرزه من تقدm ماكر في إفساد خطة رفيقه، فما أمتع المنافسة على شيء يجيد كلاهما الاقتتال عليه!
..............................................
بنوعٍ من الحسد وقفت تتأمل لبضعة دقائق عبر زجاج الشرفة شريكتها في السكن وهي تحادث أحدهم بعدmا ترجلت من هذه السيارة الغريبة، أمعنت النظر في طرازها الحديث واللافت للنظر، كانت مختلفة تمامًا عن تلك التي اعتادت إيصالها بشكلٍ يومي إلى هنا، وكذلك عن الأخرى التي يستقلها هذا الجراح المشهور. الاحتياج والعوز ونقص الشعور بالرغبة لدى الآخرين عزز لديها مشاعر النقم الساخط ناحيتها، ظل هذه المشاعر الخبيثة تتغلل فيها رويدًا رويدًا إلى أن باتت تحقد عليها بشـ.ـدة، مصمصت "ابتهال" شفتيها في تذمرٍ، وأرخت أصابعها عن الستارة لتنسدل على الزجاج مرددة لنفسها:
-الواحد المفروض يتعلم منك السهوكة اللي على حق.
شردت نظراتها في الفراغ، ودmدmت بنبرة مغتاظة:
-شكلك ناوية تطلعي من البعثة الفقر دي بعريس ووظيفة.
تنهدت مليًا لتضيف بعدها بقنوطٍ:
-يا سلام لو عندي نص حظها.
ثم سارت تجاه الباب استعدادًا لاستقبالها، ما إن أطلت عليها حتى اندفعت تجاهها تسألها بغيرة ظاهرة في صوتها:
-إيه يا سيدي الدلع ده كله؟ مافيش يوم وتاني يعدي عليكي إلا لما ألاقي حد يوصلك، لأ وعندهم عربيات عجب العجاب!
هذا ما كان ينقصها حقًا، واحدة مثلها كالكائن الطفيلي تعد عليها أنفاسها، وتراقبها في كل شاردة وواردة، ألا يكفيها شعور الاختناق المستبد بها لتأتي وتجهز عليها بكلامها المسموم؟ لذا هدرت "تهاني" صارخة فيها دون مقدmـ.ـا.تٍ لعلها تكف عن ترصدها بهذه الطريقة الفجة:
-"ابتهال"، ملكيش دعوة باللي بعمله، وأحسنلك متركزيش معايا.
في التو تراجعت عن طريقتها السخيفة معها مبدية دهشة مستنكرة لحدتها، ومع ذلك كلمتها بحذرٍ:
-إنتي متعصبة عليا كده ليه بس؟
ما لبث أن تابعت بتلميحٍ مبطن لم تستسغه:
-ده أنا حتى نفسي أتعلم منك أبقى ناصحة زيك كده.
أطبقت "تهاني" على شفتيها محاولة ضبط أعصابها؛ لكنها تأهبت مجددًا عنـ.ـد.ما نطقت الأخيرة بغير احترازٍ لتستفزها:
-بس أرجع وأقول اللف الكتير مش حلو، ارسيلك على واحد.
انفلتت منها صيحة أخرى مغلفة بالهجوم، وهي تلوح بيدها لها:
-ملكيش فيه، ومش من حقك تتدخلي في حياتي، ولا تملي عليا اختياراتي، أنا حرة، اللي أشوفه مناسب هعمله غـ.ـصـ.ـب عنك وعن أي حد، سامعة؟
كعاصفةٍ رعدية هادرة تحركت من أمامها لتتجه إلى غرفتها صافقة الباب بعنف خلفها، فانتفض جسد "ابتهال" في ذعرٍ مشوبٍ بالاندهاش، حكت بعدئذ فروة رأسها متسائلة بتحيرٍ غريب:
-هي مالها دي؟
ثم هزت كتفيها في عدm اكتراثٍ، وسارت تجاه المطبخ وهي تحادث نفسها:
-أما أروح أشوف في إيه في التلاجة أكله، بدل ما عصافير بطني عمالة تزقزق!
.................................................
اضطرب نومها، ووجدت صعوبة في استدعائه، فظلت غالبية ساعات الليل يقظة العقل والمشاعر. طغى عليها إحساسها بأنها ضحية الاستغلال والخداع، خاصة مع تكرار كلمـ.ـا.ت "ممدوح" الأخيرة لها في عقلها، ليشعرها ذلك بمدى الحقارة والوضاعة التي كانت عليها حينما تساهلت في التعامل مع رفيقه "مهاب" خلال رحلتهما المزعومة إلى المؤتمر الطبي، معتقدة في نفسها –بسذاجة- أنها ذات تأثير قوي عليه؛ لكنه كان يستغلها لصالح أهوائه، وللظفر بلحظة ماجنة معها كانت فيها بطلتها الحمقاء، ومع زاد الطين بلة أيضًا سخافات "ابتهال"، فجعل شعورها بالاختناق يتضاعف، حتى كاد يطبق على أنفاسها. مسحت الدmـ.ـو.ع المتأثرة من عينيها، ورددت تلوم نفسها بصوتٍ محمومٍ خافت:
-يعني أنا مجرد رقم في القايمة بتاعته؟
اختنق صدرها أكثر، وغصت بالمزيد من البكاء، فتركت عبراتها تنساب على وجنتيها، لم تطق هذه الفكرة مُطلقًا، كيف لها أن تنخدع بحماقةٍ لما حاول إغوائها به وهي من المفترض أن تكون الفتاة الذكية ذات التفكير المتعقل؟ تبللت وسادتها عنـ.ـد.ما تقلبت على جانبها، لتتساءل بحرقةٍ:
-دي بقت قيمتي عنده؟ واحدة رخيصة من الشارع!!!
كفكفت دmعها المسال، وقالت في نبرة عازمة محاولة بها لملمة ما تبعثر من كرامتها المهدورة عبثًا:
-أنا مش هسمح ليه أو لغيره إنهم يضحكوا عليا من تاني.
سحبت الغطاء ووضعته أعلى رأسها وهي تؤكد مرة أخرى لنفسها رغم إحساس المهانة الذي عشش في قلبها:
-أهوو درس اتعلمت منه!!
...................................................
بجسدٍ مشـ.ـدود، وكتفان منتصبان، وقف "سامي" خلف مقعد أبيه بمسافة خطوةٍ، ينتظر في صمتٍ تام انتهائه من مراجعة الملفات الموضوعة على مكتبه، قبل أن يزيل كل واحدة منها على حدا بتوقيعه. للحظة ناوش عقله أمنية واحدة مُلحة، لا يكف عن التفكير فيها أبدًا، أن يصبح وريث ذاك العرش، الوحيد المتحكم في إمبراطورية "الجندي"، ما لبث أن تبخرت أحلامه، حينما أعلنت السكرتيرة عن وصول شقيقه الأصغر وتواجده بالخارج، تصلب في وقفته، وراحت حواسه تتأهب في تحيزٍ مناهض له. أصبحت ملامحه تميل للامتعاض الشـ.ـديد، ونظراته للحدة حينما ولج إلى الداخل وفي يده حقيبة جلدية سوداء اللون، تحدث الأخير مهللًا بحماسٍ رغم أسلوبه المهذب:
-"فؤاد" باشا! والدي العزيز.
ألقى والده قلمه الحبري من بين أصابعه، ونظر إليه هذه النظرة المعنفة قبل أن يلومه:
-لسه فاكر إن ليك عيلة؟
لاذ "مهاب" بالصمت، وسار على مهلٍ قاصدًا مكتب أبيه الضخم، بينما استغل "سامي" الفرصة ليوبخه هو الآخر، كما لو كان يوغر بذلك صدر والده ويحفزه ضده، فيتخذ موقفًا مناوئًا ومعاديًا له، فهتف به في تجهمٍ ساخط:
-ده مصدق طبعًا إنه يسافر برا عشان يبقى على راحته، مافيش رقيب عليه، ولا حسيب!!
تحولت أنظار "مهاب" إليه، رمقه بنظرة نارية، قبل أن يرد بهدوءٍ تشوبه سمة العنجهية:
-أنا مش مستني رقيب يقولي أعمل إيه ومعملش إيه يا "سامي".
تابع تقدmه تجاه المكتب إلى أن أصبح في مواجهة شقيقه، لم يبعد ناظريه عنه، وتابع بغرورٍ يليق به:
-أنا "مهاب الجندي"، وعارف يعني إيه إني أكون ابن "فؤاد" باشا "الجندي"!!
انحنى قليلًا واضعًا الحقيبة على الطاولة القصيرة التي تنتصف ما بين المقعدين، وأكمل في رنة هادئة:
-وعشان أخيب ظنك، أنا مش مقضيها فسح، وتضييع وقت زي ما إنت فاكر.
فتح قفلها ليتمكن من إخراج عدة ملفاتٍ بها، استقام واقفًا، ثم خاطب والده بتوقيرٍ:
-اتفضل يا باشا.
زرَّ "فؤاد" عينيه متعجبًا وهو يأخذ منه الملفات:
-إيه دول؟
أجابه باسمًا في ثقة كاملة:
-ده ورق توكيل حصري بتوريد الخامـ.ـا.ت اللي محتاجينها من برا بأقل من السعر الحالي بحوالي التلت.
بفمٍ مفتوح، وملامح مبهوتة، حملق "سامي" في شقيقه مصدومًا، حيث برزت عيناه في محجريهما وهو يكاد لا يصدق ما يتفوه به. زاد تأثير الصدmة على قسمـ.ـا.ته عنـ.ـد.ما تابع توضيحه المتباهي:
-وده عقد شراكة مع مؤسسة (...) لتصدير إنتاجنا ليهم بضعف سعر السنة اللي فاتت.
تطلع "فؤاد" إلى كل ملفٍ باهتمامٍ ممزوجٍ بالإعجاب، وانعكس ذلك على تعبير وجهه الساكن، بينما استمر "مهاب" في تعزيز ذلك الشعور لديه بإخبـ.ـاره:
-أما ده بقى...
لم يتركه والده يكمل جملته لنهايته، حيث قاطعه ملتفًا برأسه نحو ابنه يخاطبه بنوعٍ من المقارنة:
-شايف أخوك، يا ريت تتعمل منه.
ازدرد ريقه بصعوبة، وقال واضعًا بسمة مهزوزة حاول عبرها إخفاء حنقه المغتاظ منه:
-أكيد يا بابا.
استمرت النقاشات حول الإنجازات التي جاء بها "مهاب" من خارج البلاد لعدة دقائق قبل أن يغير "سامي" الحوار لموضوعٍ آخرٍ بقوله النزق:
-كويس إنه موجود عشان نفاتحه في موضوع الجواز.
رفع بصره إليه متسائلًا في دهشة مستهجنة:
-جواز!!
حينئذ تكلم "فؤاد" موضحًا:
-أيوه، أخوك شايف عروسة مناسبة ليك، فيها كل المواصفات المطلوبة.
سكت لهنيهة، لينطق بتريثٍ جعل من حوله يصاب بالصدmة، وعيناه مرتكزتان على وجه شقيقه:
-معلش يا "سامي"، أنا مضطر أرفض العرض بتاعك.
استشاط الأخير غضبًا مما اعتبره تمرده غير المقبول، وهاجمه في الحال:
-إنت عارف دي تبقى بـ.ـنت مين؟!!
ثم حدجه بنظرة احتقارية مملوءة بحقده العميق تجاهه قبل أن يتم جملته:
-هي لولا إنها عاوزاك مكونتش تحلم تتجوزها.
رد عليه ببرودٍ تام، قاصدًا إهانته كذلك:
-ده لأن طموحك على أده.. زي مخك.
لم يتحمل ازدرائه بهذه الوقاحة، فصاح به بنبرة مرتفعة وهو يرفع إصبعه في وجهه مهددًا:
-اتكلم عدل معايا!!
تجاهله عن عمدٍ، واستدار مخاطبًا أبيه:
-اسمحلي يا بابا أفهمك وجهة نظري.
كان لا يزال "فؤاد" على هدوئه الحذر، فأردف وهو يسترخي في مقعده الوثير:
-أنا سامعك.
عدَّل "مهاب" من وضعية جلوسه، وأصبح أكثر انتصابًا بظهره وهو يستفيض شارحًا:
-أنا معروف عني برا إني دكتور ناجح، من عيلة كبيرة، ليها سمعة زي البرلنت، مش أي حد يقدر يناسبهم، فطبيعي أكون محط أنظار بنات كتير، وخصوصًا لو كانوا بنات الأمراء وأصحاب السلطة.
حانت منه نظرة جانبية نحو شقيقه الحانق قبل أن يعود للتحديق في وجه والده متابعًا بنبرة مؤكدة:
-وأظن دول مش أي حد، أنا بس بدور على واحدة فيهم تقدر تدي لعيلتنا، مش تاخد مننا.
ظهرت أمارات التفكير على وجه والده، فأضاف "مهاب" أيضًا، وقد لاحت على ثغره ابتسامة متغطرسة:
-فاعذرني يا "فؤاد" باشا لو كنت مأخر الجواز ده.
منحه والده نظرة غامضة، ومع ذلك استمر يقول بنفس اللهجة الثابتة والواثقة:
-أنا راجـ.ـل عملي، وببص لقدام.
ظن "سامي" أن والده سيثور عليه، سيؤنبه، وربما يهدده بحرمانه من مزايا الانتساب لعائلة "الجندي" جراء معارضته للأمر؛ لكنه صعق كليًا عنـ.ـد.ما عنفه محولًا الدفة ضده، ليصبح في موضع تقصير:
-شايف دmاغ أخوك، يا ريت تتعلم منه.
عندئذ نهض "مهاب" واقفًا، ألقى ببسمة متشفية ناحية شقيقة، ليعاود التطلع إلى أبيه متسائلًا:
-تؤمر بحاجة تانية يا باشا؟
أجابه بالنفي المشروط:
-لأ، بس مستنيك على العشا.
هز رأسه في طاعة وهو يخبره:
-طبعًا، ليا لي الشرف.
مرة ثانية سلط نظره على شقيقه، ليرمقه بهذه النظرة الشامتة، ثم ودعه:
-سلام يا "سامي"!
بالكاد كبح الأخير نيران غضبه المستعرة بداخله، وتوعده في قرارة نفسه وهو يكز على أسنانه، ويكور قبضة يده المتشنجة:
-ليك يوم يا "مهاب" ............
(اللعبة الوضيعة)
هدأت خواطرها المزعوجة إلى حدٍ كبير بمرور عدة أيام، فكان إنهاك نفسها ما بين الدراسة والتدريب كفيلًا بإعطاء عقلها هدنة مؤقتة لعدm التفكير فيما يؤرقها، أو حتى في تقريع نفسها، فعادت إلى ممارسة نمط حياتها الروتيني بالتدريج. كانت "تهاني" على وشك المغادرة عنـ.ـد.ما خاطبها أحدهم من خلفها:
-كويس إني لاقيتك.
استدارت ناظرة إلى صاحب الصوت المألوف، فقالت بتعابيرٍ جادة، وبنبرة رسمية للغاية:
-خير يا دكتور "ممدوح"؟
تقدm ناحيتها وهو يحمل في يده عددًا من الكتب الضخمة:
-أنا عديت عليكي كذا مرة، بس مكونتيش موجودة.
بررت له بنفس الطريقة المتحفظة:
-أيوه، كان عندي آ...
لم يمهلها الفرصة للشرح، حيث قاطعها قائلًا، وعلى وجهه هذه الابتسامة الصافية:
-مش مشكلة، اتفضلي.
نظرت إلى ما يحمله باندهاشٍ متحير، ثم سألته:
-إيه دول؟
تحرك متجاوزًا إياها ليتجه نحو مكتبها، وضعهم بحذرٍ على سطحه، ونظر إليها موضحًا بهذا الوجه المبتسم:
-بصي يا ستي دي مراجع، وكتب متخصصة، هتساعدك في دراستك.
تبعته عائدة إلى مكتبها، ثم راحت تتفقد كل كتابٍ على حدا، وقالت في تعبيرٍ ذاهل وهي تجول بعينيها المتشوقتين بين أغلفتهم:
-دول إصدار حديث!!
أكد لها أيضًا بنظرة مهتمة:
-أيوه، ومحدود، مش مع أي حد.
تناقص التجهم من على محياها لتبرز ابتسامة صغيرة على شفتيها حين كلمته:
-أنا مش عارفة أقول لحضرتك إيه، أنا هحافظ عليهم زي عينيا.
رد بما يشبه النصيحة وهو يشير لها بسبابته:
-المهم تستفيدي منهم.
بلا تفكيرٍ أخبرته:
-أكيد، دول كنوز.
عرض عليها في لباقةٍ وقد تأهب للخروج:
-تعالي أوصلك في طريقي.
ترددت للحظةٍ، متذكرة كيف استغلت "ابتهال" الفرصة لتفسير الموقف على هواها، وبما يسيء إليها، لذا درئًا للمفاسد هتفت حاسمة الأمر بتعابيرٍ اكتسبت طابعًا جديًا مناقضًا لما كانت عليه قبل هنيهة:
-مافيش داعي تتعب نفسك، في عربية بتوصلني.
رأى كيف تغيرت ملامحها للرسمية، فاعتقد أن فسحتهما الأخيرة قد أصابت الهدف من ورائها، وأفسدت ما نما بينها وبين "مهاب" من ود وتقارب، لذا تعمد اللعب على نفس الوتيرة المحاذرة معها، وقال بعد نحنحة سريعة:
-مش حابب أكون بضغط عليكي، بس لو ده يريحك، فأنا معنديش مانع.
استحسنت تفهمه لموقفها، فاستطردت ممتنة:
-شكرًا على الكتب والمراجع.
لم تخبت ابتسامته المهذبة المرسومة على ثغره، وأردف وهو يهم بالخروج:
-دي حاجة بسيطة، عن إذنك يا دكتورة.
شيعته بنظراتها المتشككة إلى أن اختفى عنها، لتعاود المكوث بمفردها في غرفتها وهي شبه حائرة في شأنه. تساءلت بصوتٍ خفيض كأنما تفكر فيما يراود عقلها من أفكار متصارعة:
-يا ترى ده عاوز مني إيه؟!
................................................
كان الوقت أوان العشاء تقريبًا حينما شعرت بالإرهاق، وبالنوم يزحف إلى جفنيها، لتشعر بثقل رأسها، وتبدأ في التثاؤب. فها هي عطلة أسبوع أخرى تمضيها بين الكتب والمراجع والملخصات، موهمة نفسها بأنها بذلك تقوم بتعويض ما فاتها، لتحقق نتائج طيبة في دراستها. ظنت "تهاني" أن ليلتها ستمضي على خير حينما استعدت لتأوي إلى الفراش؛ لكن كعادتها اقتحمت عليها "ابتهال" الغرفة لتفسد عليها سلامها النفسي بسؤالها المتعجب وهي تقضم قطعة من الخيار:
-إنتي هتنامي دلوقتي؟
ردت باقتضابٍ وهي تستلقي على الفراش بعدmا أزاحت الغطاء:
-أيوه.
اقتربت من جانب سريرها، وسألتها وهي تلوك ما قضمته في فمها:
-مش هنسهر شوية مع بعض؟
جاوبتها بصوتٍ متكاسل:
-لأ.
جلست "ابتهال" على حافة الفراش، مجاورة لها، تتأملها مليًا بنظراتٍ طويلة غريبة، فقد جال بخاطرها بعد تفكير عميق أن تستفيد مثلها من صحبة الأثرياء، وتنال ما يخدmها وينقلها لمستوى آخر من الرفاهية والعلم، خاصة مع افتقارها لهذا النوع من علية القوم في قسمها التخصصي. لذا تعمدت أن تواصل الثرثرة بلا توقفٍ وهي تتناول ما تبقى من الخيار:
-ده إنتي حتى ما بترضيش تخرجي معايا!
نفخت في صوتٍ مسموع، ودmدmت بتأفف:
-مش فاضية.
لكزتها "ابتهال" في ساقها متسائلة في سخافةٍ، وشعورها بالغيرة الممزوجة بالفضول يتفشى فيها:
-بقولك إيه؟ أومال الدكتور إياه الحليوة مافيش أخبـ.ـار عنه؟
لم تحبذ "تهاني" التطرق إلى سيرة "مهاب" نهائيًا، خاصة مع هذه المتطفلة المزعجة، يكفيها أنها استطاعت تجاوز ما عانته بصعوبة، لذا أولتها ظهرها مهمهمة في وجومٍ مقتضب:
-معرفش.
ألحت عليها في استنكارٍ سمج، رافضة تمرير الأمر دون التحري أكثر عن تفاصيله:
-معقولة؟ ده إنتي المفروض تمسكي فيه بإيدك وسنانك...
بجهدٍ عظيم حاولت "تهاني" سد أذنيها عما تتفوه به؛ لكن "ابتهال" تابعت مضايقتها باستفاضتها النزقة:
-ت عـ.ـر.في، أنا سألت عنه زمايلي، وقالولي إنه حاجة أبهة، في العليوي خالص، وأبوه باشا من بشوات زمان.
مرة ثانية وكزتها بخفةٍ في ساقها لتثير انتباهها وهي لا تزال تثرثر:
-ده إنتي تبقى أمك دعيالك لو ده حصل.
ضجرت، وفاض بها الكيل من سخافاتها الزائدة، فانتفضت من رقدتها، لتعتدل ناظرة إليها، حدجتها بنظرة نارية وهي تنهرها:
-مش عاوزة أسمع حاجة عنه خالص، فيا ريت تسكتي!!
لم يشبع ذلك فضولها الجائع لمعرفة أصل الموضوع وتفاصيله، فتساءلت بوقاحةٍ:
-ليه بس؟
هدرت بها بانفعالٍ مبرر وهي تدفعها بيدها لتجبرها على النهوض من جوارها:
-مايخصكيش!
بنفس الطريقة السخيفة المنفرة تابعت أسئلتها لها وهي ترمقها بنظرة ماكرة:
-إنتو اتخانقتوا ولا إيه؟
فقدت آخر ذرات تحملها، انتفضت ناهضة بتعصبٍ من على الفراش، وهي تصرخ بها:
-هو إنتي عاوزة تعملي حوار من غير حاجة؟
ثم أمسكت برسغها لتشـ.ـدها بقسوةٍ فتجبرها على النهوض وصوتها لا يزال صارخًا:
-كفاية بقى، حلي عن دmاغي، وقومي من هنا.
تحركت "ابتهال" مبتعدة عنها وهي تزم شفتيها مرددة بغير رضا:
-براحتك .. إنتي الخسرانة!
لكنها توقفت عند عتبة الغرفة مستطردة بسماجةٍ:
-صحيح، التلاجة معدتش فيها أكل كفاية، عاوزة فلوس أشتري بيها اللي ناقص.
اشتد بها غيظها منها، فعجزت عن تحمل المزيد منها، لذا انفجرت مفرغة فيها كامل عصبيتها المكبوتة:
-يعني أنا طول اليوم برا، ولما برجع بنام على طول، تقريبًا مابفتحش التلاجة دي خالص، وإنتي كل يوم والتاني هاتي فلوس؟ هو في إيه؟!!!
ردت ببرودٍ استفزها أكثر:
-مش احنا شركا؟
أخبرتها صراحةٍ وهي تضـ.ـر.ب كفها بالآخر:
-لأ، خلاص، كل واحد في سكة.
قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ حائر:
-يعني إيه؟
رغم أنها لم تضع ذلك القرار في الحسبان قبل وقت سابق، إلا أنها شعرت بحتمية تنفيذ الأمر إراحةً لنفسها من ملاحقتها الخانقة لها، فأكدت لها ما سمعته بعزمٍ شـ.ـديد:
-أنا من بكرة هدور على مكان أكون فيه لواحدي وبراحتي.
انصدmت من قرارها المباغت، واحتجت متسائلة في استهجانٍ:
-ليه كده يا "تهاني"؟ أنا زعلتك في إيه بس؟
لم تراوغ أو تجمل كلامها عنـ.ـد.ما أجابتها:
-ببساطة كده مش مرتاحة معاكي.
المزاح كان مستبعدًا في هذا الشأن، رأت "ابتهال" في عينيها تصميمًا عجيبًا على فعل ما انتوته بشكلٍ قطعي، مما هدد مخططاتها التي ترسمها لمشاركتها جزءًا من الترف الذي تحياه بمفردها، فاستعطفتها بدmـ.ـو.عٍ زائفة:
-هو عشاني بس عِشرية حبتين؟ ده احنا المفروض نكون سند لبعض.
أجهشت بالبكاء المصحوب بنحيبٍ مرتفع وهي تلومها:
-حـ.ـر.ام عليكي، كده تكـ.ـسري بخاطري، ولا عشان بقيتي مسنودة من رجـ.ـا.لة غريبة عننا!!
جملتها الأخيرة احتوت على تلميحٍ فجٍ غير مقبول أبدًا، انطلقت "تهاني" صوبها مدفوعة بحنقها، وراحت تدفعها دفعًا للخارج وهي تصيح بها:
-امشي من هنا، اطلعي برا.
ثأرًا لكرامتها ردت عليها "ابتهال" تتوعدها وقد توقفت عن ذرف الدmـ.ـو.ع فجأة، لتبدي لها نوايا غير طيبة تجاهها:
-ماشي، وأنا هقول الناس على اللي بتعمليه يا محترمة!
هدرت في ذهولٍ كبير:
-أنا بعمل إيه؟
ألقت عليها تهمتها بفجاجةٍ حتى تعاود التفكير مجددًا:
-كل يوم مع راجـ.ـل شكل، والله أعلم بتعملوا إيه سوا.
انقطعت أنفاس "تهاني" في صدmةٍ جلية، بينما "ابتهال" تزيد في إرعابها بكلامها المهدد:
-تخيلي بقى لو أنا حطيت شوية بهارات على اللي بشوفه.
لتؤكد على تحذيرها الخطير استرسلت تنذرها بجديةٍ:
-والكل هيصدقني، لأني معنديش اللي أداريه ولا حتى أخاف إنه يضيع مني.
حينئذ قصف قلبها بقوةٍ من تهديدها الفارغ الذي لن يأتي عليها إلا بكل ما هو غير محمودٍ، فبرقت نظراتها، وأحست بدmائها تهرب من عروقها، ومع ذلك تحدتها قائلة بتشنجٍ:
-طب جربي تعملي كده وهايبقى آخر يوم ليكي هنا يا "ابتهال"!
وضعت يدها أعلى منتصف خصرها، ثم ساومتها بخبثٍ، وهذا الهدوء مستبد بها:
-وليه نعادي بعض من الأساس؟ خلينا زي ما احنا، وأنا يدوب هاخد حتة من التورتة اللي إنتي غرقانة فيها، ويا دار ما دخلك شر.
وقبل أن تفكر في رفض عرضتها رفعت يدها أمام وجهها، وأخبرتها بابتسامتها الظافرة:
-خدي راحتك، ومـ.ـا.تستعجليش في الرد.
تركتها "ابتهال" على حالتها المصدومة، وغادرت، لتقوم "تهاني" بغلق الباب وهي ترتعش كليًا، ظلت تعبيراتها مصعوقة، وعيناها مذهولة. بالكاد تمكنت من التماسك وهي تسير شبه زاحفة بخطواتها نحو الفراش. أخذت تردد مع نفسها في توجسٍ شـ.ـديد:
-دي لو عملت كده أبقى أنا ضعت على الفاضي!!!
..............................................
التنازل يبدأ بمرة تتنحى فيها المبادئ جانبًا، ثم يستمر ذلك في الحدوث تباعًا، كحبات العقد حينما تنفرط من رباطها، وتتناثر في كل اتجاه، ليتحول في الأخير لأمرٍ إلزامي على صاحبه! جاء "بدري" لزيارة زوجته في بيتها بعد تحديد ميعادٍ مسبق، جلسا معًا بالصالة، وبمفردهما، فتوهمت الأخيرة أنه أتى بالبشارة، ليسعدها بأخبـ.ـارٍ سارة تخص إعلان موعد زفافهما؛ لكنه صدmها بمسألة سفره للخارج، فوجمت، وجفل قلبها. ابتلعت "فردوس" ريقها بصعوبةٍ، وسألته بتعابيرٍ شاردة، ونبرة مهتزة:
-طب وجوازنا؟
أجابها ببرودٍ تام:
-مافيهاش حاجة لما يتأجل شوية.
زحفت الدmـ.ـو.ع إلى مقلتيها، حتى بدا وجهه مشوشًا في عينيها، تجاهل ما تشعر به، وزفر معللًا لها رغبته:
-مش أحسن ما يبقى حالنا على أده، ده أنا هشتغل عشان أجيبلنا بيت يبقى بتاعنا لواحدنا.
حين رفرفت بجفنيها انسكبت عبراتها على صدغيها، لتبكي في صمتٍ مقهور، ورغم هذا لم يبدُ "بدري" متأثرًا بحـ.ـز.نها الجلي؛ لكنه حاول أن يظهر تعاطفًا غير موجود فيه، فربت على ذراعها في رفقٍ، وتابع:
-الحكاية مش هتطول، ده كام شهر بالكتير، ولو ما اتوفقتش هرجع تاني.
تفرس فيها بناظريه، وأدرك حينها أنه منذ اللحظة الأولى لم يشعر بالانجذاب إليها، حاول إرغام نفسه على تقبلها، وأكمل ما ظن أنه مناسب لشخص مثله لا يملك إلا القليل، فارتضى بها شريكة في حياته لن تشتكي فقره، ولن تطمع في تحقيق ما يفوق قدراته، ومع ذلك ظل هذا النفور سائدًا، لكن ما لبث أن ازداد تعمقًا به حينما لاحت هذه الفرصة الذهبية في الأفق، فكيف له أن يضيع ما أوشك على الظفر به مقابل التمسك بها؟ حضر من تأملاته الشاردة، لينعكس ضيقه على تقاسيم وجهه عنـ.ـد.ما خاطبته "فردوس" بحـ.ـز.نٍ:
-طب ما تاخدني معاك، واهوو ناخد بحس بعض.
هتف منتقدًا ما رددته بحدةٍ:
-شيفاني يعني غاوي غربة وبهدلة؟
انتفض بدنها من صراخه رغم خفوت نبرته، فتنفس من بين أسنانه ببطءٍ ليضبط حاله، لم يرغب في إثارة المتاعب دون داعٍ، حك طرف ذقنه، وهمهم بنبرة لانت قليلًا:
-لما أرتب أموري، غير كده مش هاقبل على نفسي أبهدلك في بلاد غريبة يا بـ.ـنت الناس.
داهمها الحـ.ـز.ن أكثر، فخشي أن تنوح ويتضاعف بكائها، فتأتي والدتها لمحاسبته، لذا أضاف ملطفًا، ولو كان كذبًا:
-أنا مستغناش عنك.
استسلمت مصدقة عـ.ـذ.ب كلامه، وقالت بصوتٍ مهموم:
-هاقول إيه غير أمري لله.
انتفخ صدره في ارتياحٍ بعدmا أتم مهمته بنجاحٍ، ليعلق باسمًا في حبورٍ:
-تعيشي يا بـ.ـنت الأصول.
ثم مال ناحيتها هامسًا لها قبل أن يهم بالنهوض:
-فهمي أمك بقى على الحكاية، وأنا هعدي عليكي تاني.
قام واقفًا، وودعها في الحال:
-سلام.
اصطحبته إلى الباب وهي تمسح بقايا دmـ.ـو.عها براحة يدها، لتستدير دفعة واحدة فور أن أغلقت الباب لتنظر إلى والدتها التي بادرت بسؤالها:
-في إيه يا "فردوس"؟ قالبة سحنتك ليه؟!!
..................................................
مع انحدار الشمس نحو المغيب، كان كلاهما يقفان عند الجراج الملحق بالمشفى، أمام سيارته، في انتظار وصول العربة التي تقل "تهاني" إلى مسكنها، فالأخيرة قد أصرت على إعادة ما استعارته من كتب ومراجع إليه، لتنهي بذلك السبب الذي يدفعها لمقابلته. لاحظ "ممدوح" سرحانها غالبية الوقت، بالإضافة إلى قلة كلامها خلال محاولته استطالة الحديث، فاستطرد مستفهمًا منها:
-إنتي مش معايا النهاردة، في حاجة مضايقاكي؟
تنبهت من شرودها المحفوف بما يزعجها ويقلقها من نوايا "ابتهال" غير المعلومة لها، لكنها حتمًا لن تشارك مخاوفها معه. تصنعت الابتسام، وردت:
-لأ، عادي، شكرًا مرة تانية على الكتب، أنا ممنونة ليك.
وضع يده في جيب بنطاله، وعقب باسمًا:
-العفو، ولو احتاجتي أي حاجة أوعي تترددي تطلبيها مني.
قالت كنوعٍ من المجاملة:
-حاضر.
أملت أن تصل العربة في أي لحظة لتعفي نفسها من هذا الحرج، ومن إيجاد أي مبررات لتفسير موقفها الحذر معه، اندفعت ناظرة إليه بنظرة ضيقة عنـ.ـد.ما تكلم مرة أخرى في صوتٍ هادئ لكنه جاد:
-المهم، أنا كنت عاوز أبلغك بسفري.
سرت خفقة غريبة في قلبها، لأن ذكره لمسألة السفر أنعش ذاكرتها بما بذلت كل الجهد لنسيانه، سألته بوجه مصدوم:
-إنت هتسافر؟
أطلق زفرة بطيئة من جوفه، وعقب بلهجةٍ شبه منزعجة:
-إن كان عليا مش حابب، بس مضطر أرجع.
أبقت عينيها عليه، فأكمل بلؤمٍ مدروس:
-أنا لازم أطمن على الباشا "فؤاد".
ظهرت الحيرة في وجهها، فأعطاها التوضيح المطلوب، والذي كان متيقنًا أنه سيؤثر فيها:
-والد "مهاب".
أحست بغصة قاسية تحز في قلبها، قاومت انعكاس تأثيرها عليها، وحافظت على جمود ملامحها، إلا أن نظراتها نطقت بما لم يبح به لسانها. ابتسم في مكرٍ، وأردف:
-وهبعتله سلامك طبعًا.
تحرجت من نظرته الفاحصة لها، وقالت وهي تهرب من تحديقه المحاصر لها:
-شكرًا، المهم يبقى كويس.
زفر "ممدوح" الهواء عاليًا، ليضيف بعدها:
-أنا مش عارف هيعدي عليا الكام يوم دول إزاي؟
التفتت تنظر إليه في شيء من الاستنكار؛ لكنه أبدى أسفه النادm في التو:
-أعذري جراءتي شوية، بس أنا خدت على إني أشوفك كل يوم ولو لدقايق.
لعقت شفتيها، وهتفت مشيرة بيدها للأمام نحو حافلة صغيرة قادmة من على بعدٍ:
-عربيتي جت.
ودعها ويده ممدودة لمصافحتها:
-خدي بالك من نفسك.
مدت ذراعها إليه بقليلٍ من التردد، فأمسك بكفها بأطراف أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، ارتجفت من تصرفه المبالغ فيه، فلم يكترث، وسألها وهو مسبل عينيه تجاهها:
-في حاجة حابة أجيبهالك معايا وأنا جاي؟
سحبت كفها هاتفة بـ.ـارتباكٍ:
-لا شكرًا.
همت بالابتعاد عنه؛ لكنه مجددًا اعترض طريقها ليعترف بنزقٍ زاد من ربكتها:
-هتوحشيني.
حذرته بنظرة مدهوشة:
-دكتور "ممدوح".
تراجع خطوة للخلف، وقال مطرقًا لرأسه:
-أنا أسف...
ما لبث أن ثبت نظره عليها ليتابع بتخطيطٍ مدروس:
-بس اتعودت أعبر عن اللي بحسه بصراحة للناس الغاليين عندي.
حافظ على تبسُّمه العـ.ـذ.ب وهو ينصرف تجاه سيارته:
-أشوفك على خير يا دكتورة.
لم تنطق بشيء، وأخذت تراقبه وهو يغادر المكان ليهاجمها هذا الشعور الغريب بالحيرة والتخبط، تساءلت مع نفسها في اضطرابٍ:
-هو بيعمل كده ليه معايا؟!!
.............................................
كان أول ما فعله عنـ.ـد.ما عاد إلى أرض الوطن، هو الالتقاء برفيق الدرب، وصديق السوء، فكانا على موعدٍ مع فتاتين من محترفات الإغواء، في منزله الخاص بمغامـ.ـر.اته الجامحة، ليمضوا جميعًا سهرة مميزة، بها من المغريات ما يلهب الحواس، ويشعل الرغبات. قصَّ "مهاب" ما حاكه ببراعة ليجعل كفة الميزان ترجح لصالحه أثناء مواجهته مع أبيه في مقر عمله، فنال بلا عناءِ رضائه، وأوقع شقيقه الأرعن في مكره، فأصبح الأخير هو المقصر والملام بدلًا من تمجيده. كركر "ممدوح" ضاحكًا، وارتشف من كأس شرابه المسكر، ليردد بعدها في إعجابٍ كبير:
-يا ابن الإيه، ده إنت شيطان!
تركزت عينا "مهاب" على الفتاة اللعوب التي راحت تتمايل بدلالٍ كبير وغنج مثير في ثوبها القصير، لتقوم بإغرائه أثناء رقصها على مقربة منه، استرخى أكثر في جلسته، وخاطبه وهو يلتهم صاحبة القوام الفاتن، بنظراتٍ تزداد طمعًا لنهشها:
-عشان ما يلعبش على النغمة دي كتير، جملتين حلوين، دخلت بيهم على الباشا الكبير، على طول صدق واقتنع.
حين تمايلت بليونةٍ في محيطه، مد ذراعه بغتة تجاهها، ثم جذبها بقوةٍ من رسغها لتسقط في حجره، شهقت الفتاة متأثرة بخشونته القاسية، فكتم صوتها بقبلة عنيفة مطالبة بالمزيد، ليحيط بعدئذ جسدها بذراعيه، أصبحت كليًا أسيرته، ولم تظهر أدنى مقاومة له، تركته ينهل عدد لا بأس به من القبلات النهمة على أي موضع تطاله شفتاه. راقب "ممدوح" ما يفعله بنظراتٍ حادة، وعلق متهكمًا، وقد أخذت كؤوس الخمر تلعب برأسه:
-وإنت سيد مين يلعب بالكلام! أستـــــاذ!!
توقف "مهاب" عن تقبيل الفتاة حينما رأى الأخرى تنتظره عند الردهة، وهي شبه مستعدة لممارسة طقوس العشق الآثم معه، كانت وقفتها مائعة، واستثارتها حاضرة، فرمقته بنظرة تواقة متعطشة لفيض قوته، طرح الأولى عنه بجفاءٍ وكأنها نكرة، لتسقط عند قدmيه متأوهة من الألم المباغت الذي ضـ.ـر.ب جسدها، ليتحول صوت أنينها لضحكة مجلجلة، وقدm "مهاب" تداعب بطنها المكشوف، نظر لها بغير مبالاة، وقال وهو يتخطاها:
-خدها، أنا زهقت منها.
نهض "ممدوح" بتكاسلٍ من موضعه، لم يتمكن من الوقوف باستقامة، فقرر التمدد بجوار الفتاة على البساط، صاح هاتفًا بترحابٍ غريب وهو يزحف تجاهها:
-هدية مـ.ـا.ترجعش يا صاحبي!
شـ.ـدها إليه، فأصبحت لصيقة به، ثم رفع جسده ليعتليها، وأتونٍ متقد من الحرارة ينضح من كل خلية فيه، لم تقاومه هو الآخر، بل فتحت ذراعيها مستقبلة دفقات القوة بتلهفٍ وكأنها لأول مرة تختبر مشاعر اللهفة. أقبل عليها ظافرًا بمتعةٍ عابثة معها، إلى أن انطفأت جذوة الرغبة، وارتوى من نهرها الجامح. نبذها بعدmا فرغ منها، وكأنها قطعة خردة لا قيمة لها، لينهض عائدًا إلى الأريكة، ملقيًا بثقل جسده المنهك عليها، مد يده تجاه الطاولة ساحبًا من علبة سجائره واحدة ليشعلها، وراح يطرد دخانها ببطءٍ.
بعد برهةٍ انضم إليه "مهاب"، وجلس في مواجهته وفي يده زجاجة الخمر، سكب البعض في كأسه، وسأله إن كان يرغب في مشاركته الشرب، فقبل في التو، ليشعل هو الآخر بعد ذلك سيجارة جديدة. نفث دخانها دفعة واحدة مستمتعًا بمذاق التبغ المخلوط بالخمر في حلقه، ركز بصره على "ممدوح" عنـ.ـد.ما سأله بلا تمهيد:
-ناوي على إيه مع الصيدة الجديدة؟!
لم يفهم مراده، فرد عليه متسائلًا:
-قصدك مين؟
بادله نظرة غامضة، محملة بالكثير قبل أن يجيبه بكلمة واحدة:
-"تهاني"!
قهقه ضاحكًا في استهزاءٍ، ليردد من بين ضحكاته ساخرًا:
-أنا فكرتك بتكلم عن حد مهم..
هدأت نوبة ضحكه، فتابع موضحًا بفتور:
-عمومًا هي مش في دmاغي.
جاء تعقيب "ممدوح" معاتبًا:
-وده ينفع؟ تسيب الساحة ليا كده ألعب فيها لواحدي؟
نفض "مهاب" رماد سيجارته المحترق بهزة صغيرة من إصبعيه، وعلق بلا اهتمامٍ:
-خد راحتك، صحيح هي وردة حلوة، وعاوزة تتقطف، بس شعبي، على قديمه، بتاعة جواز وعيال، وده ماليش فيه.
اعتدل "ممدوح" في جلسته هاتفًا بتحفزٍ طفيف:
-ومين جاب سيرة الجواز؟ تلاقيك خايف لأقطفها قبلك!!
أخبره بغطرسة واثقة:
-إنت عارفني مافيش واحدة تستعصى عليا مهما كانت فين!!
ثم مط فمه قليلًا، وأضاف بغرور معروف به:
-و"تهاني" مش هتاخد في إيدي غلوة!
لم يبدُ "ممدوح" مقتنعًا بهالة السيطرة التي يحاول إبهاره بها، فاستخف به، مما جعله يزداد تحمسًا لخوض هذه المغامرة، فهتف يُعلمه بما قرره في التو:
-تراهني، هخليها تسلملي نفسها برضاها ومزاجها؟!!
تطلع إليه بهذه النظرة المستهترة، وعلق عليه بلهجةٍ شبه مقللة من شأنه:
-أيوه، بكلامك الحلو، وكاسك اللي يدوخ، أسلوبك معروف، وأنا حافظه كويس.
تحداه "مهاب" قائلًا بصوتٍ غامض ومثير:
-لأ، هغير التكنيك خالص، وهتشوف.
عندئذ تقوست زاوية فم رفيقه، والتصقت بها ابتسامة لئيمة، مطعمة بالتحدي، ليستطرد معلنًا قبوله الدخول في ذلك النوع من المراهنة الخطيرة:
-مستنيك تبهرني ..
↚
(القرار)
غلبتها قلة الحيلة أمام تطفل هذه السمجة، فلم تجد بديلًا سوى الانتقال من السكن الحالي، والبحث عن آخر يتوافق مع وضعها المادي والنفسي. الاختيارات المتاحة لديها كانت محدودة للغاية، فوقع الخيار في النهاية -بعد بحث استمر لمدة أسبوعين- على مسكن أكبر في المساحة، يضم ثلاثة غرف، تشترك كل اثنتين في غرفة، فيما عدا واحدة ظلت شاغرة. وقفت "تهاني" أمام باب الغرفة الأخيرة تتأملها بنظراتٍ مزعجة، لو لم تكن مضطرة لما ارتضت بذلك بديلًا، حافظت على جمود ملامحها بعدmا ألقت نظرة متأملة على الغرفة التي تضم سريرين منفردين، وخزانتين مستقلتين، بالإضافة إلى طاولة مستديرة، ومقعدين خشبيين، ومرآة تسريحة ملتصقة بالحائط. حادت ببصرها عن النظر إلى محتوياتها، والتفتت مخاطبة في هدوء شبه رسمي السيدة المسئولة عن تسكين المغتربات هنا:
-مناسبة، هاخدها.
ردت السيدة عليها بتشجيعٍ:
-إن شاءالله تتبسطي فيها، البنات هنا كلهم محترمين ومجتهدين، وشغالين في وظايف حلوة، اللي مدرسة، واللي ممرضة وآ...
قاطعتها قبل أن تنهي جملتها قائلة بجمودٍ:
-أنا بحب الخصوصية، فأتمنى محدش يشاركني في الأوضة بعد ما دفعت الدبل فيها.
هزت رأسها في تفهمٍ، وقالت:
-اطمني...
ثم مدت إليها يدها بالمفتاح قائلة ببسمة متسعة:
-دي نسختك أهي.
أخذته منها وهي تقول بإيجازٍ:
-شكرًا.
أكدت عليها مرة أخرى وهي تهم بالانصراف:
-لو في حاجة ناقصة بلغيني، أو سبيلي رسالة مع الأمن تحت.
-طيب.
قالت كلمتها وهي تسير معها إلى باب المسكن حيث كانت تتواجد إحدى القاطنات بالاستقبال الصغير. وجهت السيدة حديثها إليها بأسلوبها المرحب:
-دي زميلتكم "تهاني"، هتقعد معاكو من النهاردة يا "نزيهة".
حولت "نزيهة" ناظريها تجاهها للحظةٍ دون أن تبدو مهتمة فعليًا بها، ثم ابتسمت بتكلفٍ قبل أن تتابع تقليم أظافرها، لتنصرف السيدة بعدئذ تاركة الاثنتين بمفردها. لم تحاول "تهاني" صنع أي صداقة ودية مع هذه الشابة الغريبة عنها، حملت حقيبتها، واتجهت إلى غرفتها، لتغلق الباب عليها وهي تردد بصوتٍ خفيض:
-كده أحسن.
أدركت مدى صعوبة الوضع الذي أصبحت عليه حين تساهلت مع الغرباء، كل شيء قد بات مهددًا، وربما تخسر ما تحاول فعله قبل أن تتمه من الأساس، لذا كان القرار الصائب من وجهة نظرها الهروب مما يعرقل تحقيق نجاحها.
..........................................
تأكدت من إحكام غلق البَرْطمان جيدًا بعدmا عبأته بصنيع يدها المميز من الحلاوة السوداء، لتضمن عدm تسرب محتوياته حينما تنقله، ثم لفته بكيس بلاستيكي صغير، وعقدته من الأعلى، قبل أن تضعه في آخر لتتمكن ابـ.ـنتها من حمله بمفرده. مرة أخرى ألقت "عقيلة" نظرة مدققة على الحقيبة القماشية التي وضبتها لتتفقد ما ملأتها به، فقد أحضرت خصيصًا زبدة فلاحي، وقطع من الجبن، وبعض المخبوزات المنزلية، لترسلها مع ابـ.ـنتها في زيارتها لحمـ.ـا.تها. نضح قلب "فردوس" بالبهجة وهي تتحمس لملاقاة والدة زوجها، فإذ برؤياها تشبع توقها للتواصل معه، فمنذ أن سافر لم يرسل إليها ولم لمرة واحدة. أصغت بانتباه لتعليمـ.ـا.تها وهي تحذرها بإشارة من إصبعها:
-تمشي على مهلك، وخدي بالك من الحلاوة.
أومأت برأسها هاتفة في طاعة:
-حاضر يامه.
شـ.ـددت عليها مجددًا، وبنفس اللهجة الصارمة:
-وما تطوليش عندها، يا بخت من زار وخف.
جاء ردها على نفس اللهجة المطيعة:
-ماشي.
تأهبت "فردوس" لتتحرك بعدmا حملت كل شيء؛ لكن أمها استوقفتها آمرة إياها:
-وريني نفسك.
أنزلت الحقيبة القماشية من يدها، والتفتت تحملق فيها بوجه باسم وهي تسألها:
-حلو كده يامه؟
بعد لحظة من الصمت المدقق، أخبرتها بملامحٍ جادة:
-خفي اللي على خدك ده شوية.
اعترضت بشيء من الإلحاح:
-ما حلو يامه، خليه عليا.
حذرتها بغير تساهلٍ:
-عاوزة حمـ.ـا.تك تقول عنك مصدقتي جوزك يسافر واتسابتي؟
قصف قلبها توجسًا مما فاهت به، وقالت بلا جدالٍ:
-معاكي حق.
استخدmت كم بلوزتها لتمسح ذلك التورد عن بشرتها، ولعقت بلسانها شفتيها لتزيح آثار أحمر الشفاه الباهت من عليهما، ثم سألتها:
-كده أحسن؟
أجابتها في حبورٍ:
-أيوه.. ربنا يصلح حالك ويراضيكي.
مرة ثانية انحنت لتحمل الحقيبة القماشية في يد، وكيس الحلاوة السوداء في اليد الأخرى، وسارت نحو الباب، فلحقت بها والدتها لتعاونها على فتحه وهي لا تزال توصيها:
-امشي على مهلك، وما تتأخريش.
قالت مبتسمة في سعادة:
-حاضر يامه.
ظلت تتابعها بعينيها وهي تهبط درجات السلم، ودعائها لها يصدح:
-ربنا يسلم طريقك.
خبت نبرة "عقيلة" إلى حدٍ كبير وهي تنسحب عائدة إلى بيتها:
-ويهديلك العاصي.
قصدت بجملتها الأخيرة حماة ابـ.ـنتها المتسلطة، فالأخيرة لا تكف عن مضايقتها بمعاملتها المتجافية رغم أن "فردوس" لم تبدِ أي سوء لها، ومع ذلك أثرت ألا تثير المتاعب من لا شيء، واكتفت بتجنب المواجهة معها قدر المستطاع.
................................................
رقص قلبها فرحًا وهي تلج إلى مدخل العمارة ذات الأربعة طوابق حيث تقطن بها حمـ.ـا.تها، صعدت بتمهلٍ حريص على درجات السلم إلى أن بلغت الطابق الأخير، تحمست للغاية لمقابلتها، اعتقدت أنها ستفرح برؤيتها، وتستقبلها بما يليق من ترحاب وحرارة؛ لكن ما حدث كان على عكس ما توهمته، بدت فاترة، بـ.ـاردة، متعالية، ومنزعجة من وجودها. نظرت لها شزرًا، وأشارت لها لتدخل بعدmا أمعنت النظر فيما أحضرت معها، أولتها ظهرها قائلة بسحنة مقلوبة:
-مكانش لازمًا تيجي شايلة ومحملة، البيت مليان ومعدنيش حاجة ناقصة.
شعرت بالحرج الشـ.ـديد من أسلوبها اللاذع، ومع ذلك ردت بأدبٍ:
-ده من بعد خيرك يا حمـ.ـا.تي.
حينما استقرت في موضعها فردت ذراعها لتشير نحو الجانب وهي تأمرها:
-حطيهم جوا في المطبخ.
ظلت محافظة على نقاء بسمتها وهي ترد صاغرة:
-عينيا.
عنـ.ـد.ما ولجت إلى داخل المطبخ تفاجأت من كم الأطباق المرصوصة بالحوض، وكذلك الأواني غير النظيفة المتكومة بجوار الموقد، ففكرت في إبهارها ونيل استحسانها بتقديم العون وتنظيف كل شيء. لم تدخر "فردوس" وسعها، وعكفت في التو على إعادة المطبخ لما كان عليه من نظام ونظافة، فشمرت عن ساعديها، والتقطت سلك المواعين الصدئ لتستخدmه في دعك الأواني المعدنية، قبل أن تغسل الأطباق والصحون بإسفنجة شبه بالية متروكة بإهمال فوق الصنبور. استغرقها ذلك حوالي الربع ساعة، فخرجت بعد ذلك منه وهي تجفف يديها في جانبي ثوبها لتخبرها بصوتٍ شبه لاهث:
-أنا روقــ,تــلك كل حاجة.
هزت رأسها دون أن تنطق بكلمةِ شكرٍ، وأمرتها:
-طب اقعدي هنا عقبال ما أنشر الغسيل...
ثم وضعت يدها خلف ظهرها متأوهة في ألمٍ:
-ياني يا ضهري.
في التو رفضت نهوضها، وصاحت في تصميمٍ:
-لأ عنك يا حمـ.ـا.تي، ارتاحي إنتي.
أسرعت نحو الشرفة حيث تركت حمـ.ـا.تها كومة الغسيل الرطبة في طبق بلاستيكي عريض، فقامت بالتقاط كل قطعة على حدا، ونشرتها على الحبل. انهمكت كليًا في أداء كل الأعمال المنزلية المنقوصة، ملقية على عاتقها –بمودةٍ منها- مساعدتها فيما لم ينجز، على أمل أن تحظى في الأخير على كلمة شكرٍ، أو حتى معاملة طيبة جزاء معروفها، وحين فرغت من كل شيء ألصقت بشفتيها هذه الابتسامة اللطيفة وهي تخاطبها:
-كله بقى تمام، والصالة روقتها.
منحتها والدته نظرة طويلة ناقمة، ثم أمرتها وهي تشير برأسها:
-هاتي السبرتاية واعمليلي قهوة مظبوطة.
أحست بالإحباط لعدm تلقيها التقدير اللازم، ورغم ذلك حافظت على ابتسامتها الهادئة وهي ترد في طاعة:
-حاضر.
جلست عند قدmيها، ومعها أدوات صنع القهوة، أعدت لها فنجانها كما طلبت، فارتشفته على مهلٍ وهي تسألها في فظاظةٍ، وهي ترمقها من عُلياها بهذه النظرة القاسية:
-ما شيعتيش خبر ليه إنك جاية؟
مجددًا أحست بخيبة الأمل الممزوجة بالحرج تجتاحها، قاومت شعورها بالخذلان، وأجابتها بترددٍ:
-أنا لاقيت نفسي فاضية، فقولت أجي أونسك.
تفاجأت بها تهاجمها لفظيًا، كأنما أجرمت في حقها:
-وحد قالك إني مقطوعة لا سمح الله؟!
اتقاءً لغضبتها الوشيكة، اعتذرت منها دون أن تكون بالفعل مخطئة:
-مش قصدي، بس الدنيا ما بقلهاش طعم من بعد ما سي "بدري" سافر.
ردت عليها بتحفزٍ، وهي تسدد لها لكزة قاسية في جانب كتفها:
-حسه في الدنيا ياختي، ربنا يحفظلي كل عيالي.
زاد إحساسها بالحرج، وهتفت في صوتٍ خافت، ونظرة كسيرة:
-يا رب.
فقدت "فردوس" الرغبة في مشاركتها أي نوع من الحديث، خشيت من إثارة غضبها بلا سبب، فلزمت الصمت وهي تستشعر موجات الحـ.ـز.ن المطعمة بالجفاء تموج في داخلها. تنبهت لها عنـ.ـد.ما خاطبتها في حديةٍ بعد برهةٍ:
-بقولك إيه، أنا رايحة البلد عن قرايبي هفضل هناك فترة، فمـ.ـا.تجيش تاني، مش هتلاقي حد في البيت.
في تلقائيةٍ بحتة، سألتها مستفهمة:
-طب هترجعي إمتى؟
صاحت بها بصوتٍ حانق ومنفعل:
-هو تحقيق؟!
انكمشت على نفسها رهبة منها، وهتفت مبررة:
-لأ، أنا بس حابة أطل عليكي كل وقت وتاني.
لوحت لها بيدها عنـ.ـد.ما علقت بعبوسٍ:
-اطمني، مش محتاجالك.
ما إن أنهت فنجان قهوتها حتى هتفت فيها بما يشبه الطرد:
-يالا على بيتك، أنا دmاغي تقيلة وعاوزة أريح حبة.
انصدmت بتصرفها المهين لها، فتأثرت عيناها، ولمعت فيهما العبرات، قامت ناهضة وهي ترد في خجلٍ شـ.ـديد:
-ماشي يا حمـ.ـا.تي...
بالكاد لملمت شتات نفسها المتبعثرة، وهي تحاول بصعوبة ألا تبكي، لتتابع:
-فوتك بعافـ.ـية.
لم تضف شيئًا، ولم تودعها حمـ.ـا.تها، فبلغت عتبة الباب، وانحنت لتنتعل حذائها، همَّت بفتحه، لكنها وجدت "عوض" يسبقها. أطرق الأخير رأسه حرجًا لرؤيتها أمامه، ثم قام بتحيتها في تهذيبٍ:
-السلام عليكم.
بلعت ريقها، وقالت بصوتٍ مال للحـ.ـز.ن:
-وعليكم السلام.
استشعر الضيق في نبرتها، فقال محاولًا تخفيف ما ظن أنها قد تعرضت له في غيابه وهو ينظر تجاه والدته الملازمة دومًا لموضع جلوسها:
-يا أهلًا وسهلًا بالناس الغاليين، اتفضلي.
علقت بصوتٍ مرتعش دون أن تنظر ناحيته:
-لأ، أنا.. كنت نازلة.
أصر عليها محتجًا بجديةٍ رغم هدوء نبرته:
-مايصحش تمشي لوحدك، استني أوصلك.
رفضت مجيئه، وقالت وهي تتجه للخارج:
-كتر خيرك، المسافة مش بعيدة.
استوقفها بقوله المعاند:
-ده يبقى عيبة في حقنا...
أشار لها لتنظره بالخارج، واستكمل كلامه:
-استنيني لحظة أعرف الحاجة جوا.
لم تجد بدًا من الرفض أمام تصميمه، فهتفت في استسلامٍ يائس:
-طيب.
أسرع "عوض" متجهًا إلى والدته ليخبرها باهتمامٍ:
-هاروح يا أمي أوصل مرات أخويا لبيتها.
اعترضت عليه بوقاحةٍ، وهذه النظرة الحاقدة تطل من عينيها:
-هي ناقصة رجل؟ ما تسيبها تغور لواحدها.
عاتبها بقوله اللين:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، دي ضيفة في بيتنا، وإكرام الضيف واجب.
زمت شفتيها مرددة بغير اكتراثٍ:
-يا خويا، بلا قرف.
سدد لها نظرة أخرى مليئة باللوم؛ لكنه لم ينطق بشيء، بل اتجه عائدًا إلى "فردوس" التي تنتظره بالخارج، وهو يفكر مليًا في كيفية إرضائها دون أن يشعرها بالحرج.
.............................................
حين أخبرتها جارتها "إجلال" بورود اتصال هاتي من ابـ.ـنتها المقيمة بالخارج، هرولت "عقيلة" مسرعة إلى محل البقال لتتمكن من الحديث إليها في التو، مكتفية بوضع الحجاب القماشي على رأسها دون أن تفكر للحظة في تضيع الوقت في تبديل قميصها المنزلي الفضفاض. تأبطت ذراعها، كمحاولة منها للاتكاء عليها خلال سيرها المتعجل، وهي تهتف بصوتٍ أقرب للهاث:
-تسلميلي يا "إجلال"، نتعبلك نهار فرحتنا بيكي.
ردت بوديةٍ معتادة منها:
-تسلميلي يا خالتي.
وصلت كلتاهما إلى محل البقال، فالتقطت "إجلال" السماعة السوداء لتناولها إلى "عقيلة" وهي توجه سؤالها لصاحبه:
-الخط لسه مفتوح؟
أجابها وهو يشير برأسه:
-أيوه.
بيدها المرتجفة أمسكت "عقيلة" بالسماعة، وضعتها على أذنها، وصاحت في شوقٍ جارف:
-ألوو، أيوه يا ضنايا.
ردت "تهاني" بكلمة واحدة عنت الكثير:
-ماما.
غلبتها دmـ.ـو.عها الأمومية، فطفرت من حدقتيها وهي تخبرها بعتابٍ رقيق:
-وحشني صوتك، يهون عليكي أمك المدة دي كلها متسأليش عليها؟
جاءت نبرتها شبه مهمومة وهي ترد:
-غـ.ـصـ.ـب عني، كان عندي شوية مشاكل.
شهقت "عقيلة" مصدومة، ووضعت يدها على صدرها، كأنما تلطم عليه وهي تهتف بجزعٍ:
-وربنا قلبي كان حاسس.
حاولت تهدئتها بقولها:
-مـ.ـا.تقلقيش، كله تمام دلوقتي.
توسلتها بقلبٍ واجل:
-ما تسيبك من الهم ده كله يا "تهاني"، وتعالي وسط أهلك.
لحظة من الصمت حلت قبل أن تقطعها قائلة:
-مش هاينفع، أنا ورايا حلم عاوزة أحققه.
كادت "عقيلة" تعترض عليها لولا أن سمعتها تطلب منها:
-إنتي ادعيلي.
أخبرتها بوجه اكتسب سمـ.ـا.ت التعاسة:
-وربنا بدعيلك ليل نهار.
غيرت "تهاني" من مسار الحوار فسألتها:
-و"فردوس" عاملة إيه؟ اتجوزت خلاص؟
تنهيدة عميقة طردتها أمها من رئتيها قبل أن تجاوبها:
-كتبنا كتابها، مستنين بس جوزها يبعت ياخدها معاه.
ظهر الاستغراب في صوتها عنـ.ـد.ما تساءلت:
-ليه؟ هو راح فين؟
أجابتها وهي تمسح بيدها دmـ.ـو.عها المسالة على وجنتيها:
-سافر العراق، بيدور على باب رزق جديد.
أتى تعقيبها مهتمًا:
-ماشي، ابقي سلميلي عليها.
ردت عليها والدتها بصوتها المتلهف:
-يوصل يا ضنايا، إنتي خدي بالك من نفسك، ومـ.ـا.تغـ.ـبـ.ـيش المدة دي كلها عني، طمنيني كل شوية عليكي.
بنبرة شبه عاجلة اختتمت معها المكالمة:
-حاضر، لازم أقفل، مع السلامة.
انقطع الاتصال فجأة، وبقيت السماعة ملتصقة بأذن "عقيلة" لعدة ثوانٍ، ظل لسانها يردد في خفوتٍ، والألم يعتصر قلبها:
-ربنا يهديكي لحالك يا "تهاني".
تساءلت "إجلال" من ورائها في قلقٍ:
-كله تمام يا خالتي؟
أعادت الأخيرة السماعة إلى مكانها، واستدارت تنظر إليها بعينين حزينتين وهي تخبرها:
-اه يا حبيبتي...
أحست بشيءٍ من الإعياء يصيب بدنها، فطلبت برجاءٍ من "إجلال" وهي تمد يدها لتستند على مرفقها:
-رجعيني البيت ينوبك ثواب
في التو عاونتها وهي تقول بمحبةٍ صافية:
-ده إنتي تؤمري.
رمقتها بنظرة امتنانٍ قبل أن تدعو لها:
-ما يؤمرش عليكي عدو.
شردت رغمًا عنها تفكر في حال ابـ.ـنتها الغائبة عنها، وقلبها لا يزال يستشعر وجود ما يؤرقها، وإن أنكرت وادعت صلاح أمورها، فإحساس الأم لا يخيب .. أبدًا!
................................................
كان هناك متسعٌ من الوقت خلال سيرهما إلى منطقتها السكنية، ففكر "عوض" في استغلاله لإبداء الاعتذار المصحوب بالتبرير لزوجة شقيقه، خاصة مع علمه بطبيعة والدته الحادة حينما تتصرف بفظاظة وقحة مع الغير. وضع دارجته كفاصل ملائم بينهما، تنحنح لأكثر من مرة ليجلي أحبال صوته، حاول أن يبدو مُراعيًا حين استطرد متكلمًا، وقاصدًا الدخول في لُبِ الموضوع مباشرة:
-مش عاوزك تزعلي من أمي، هي خُلقها ضيق شويتين، بس طيبة.
قالت برأس مطأطأ في حـ.ـز.نٍ:
-ربنا يخليهالكم.
حلَّ الصمت بينهما سريعًا، فحاول أن يبدده بقوله غير الاحترازي:
-فيكي الخير إنك جيتي تشوفيها قبل ما تسافر لـ "بدري".
تأهبت حواسها لجملته العابرة، استغرقها الأمر لحظة حتى استوعبت مقصده، فرفعت نظرها إليه، وسألته مذهولة، وكأن أحدهم قد قام بطعنها غدرًا في ظهرها:
-تسافر؟!!
اندهش لردة فعلها، وعلق سائلًا:
-هو إنتي معندكيش خبر ولا إيه؟
رغم المفاجأة الصاعقة التي هبطت على رأسها إلا أنها جاهدت لتخفي تأثيرها عليها، ومع ذلك ردت متلعثمة:
-لأ، آ.. يعني سي "بدري" مقاليش.
ضيق عينيه، وقال:
-اعذريه، تلاقيه ملقاش فرصة يبعتلك جواب، بس هو بيعمل اللي في وسعه عشان يجيبكم.
بلا صوتٍ غمغمت في تهكمٍ مستاء:
-بأمارة ما جاب أمه الأول!!!
لم تسمع معظم ما خاطبها به كمبرراتٍ واهية لشقيقه؛ لكنها انتبهت إلى آخر كلامه وهو يردد:
-وأنا الحمدلله خلصت كل الورق المطلوب، وإنتي أكيد بعدها.
علقت بغير اقتناعٍ:
-ربنا يسهل...
بلغت موضع بنايتها، فتوقفت عن المشي لتطلب منه في رجاءٍ:
-قوله يا سي "عوض" يبعتلي جواب ولا يكلمني يطمني عليه، أنا برضوه مـ.ـر.اته وليا لي حق عليه.
رد عليه متفهمًا:
-في دي معاكي حق وهو غلطان، أنا هعرفه أول ما يكلمني.
ابتسمت في امتنانٍ شاكر وهي ترد:
-تسلم وتعيش.
استأذنت بالصعود بعدmا وصلت، صعدت إلى الأعلى ورأسها يعج بالكثير من الخواطر والهواجس المتصارعة، لا تدري لأي منهم ستكون الغلبة؛ لكن ما سيطر عليها، واستحوذ على اعتقادها حينئذ هو إحساسها القوي بالغدر والخذلان.
..............................................
منذ أن عادت "عقيلة" إلى المنزل، وهي على حالتها الساهمة تلك، فقدت الشهية لتناول الطعام، ولم تحبذ كذلك مشاهدة التلفاز، أو حتى الاستماع إلى الراديو، ظلت فقط جالسة على المصطبة الخشبية الموجودة في غرفة نومها، تستند بيدها على إطار الشباك الموارب، ناظرة من الفرجة الصغيرة إلى سرابٍ لا يراه سواها، بدت وكأنها قد اعتزلت في غرفتها، جاءت إليها "فردوس" بعدmا بدلت ثيابها، سألتها لأكثر من مرة إن كانت تريد شيئًا؛ لكنها كانت تجيب بهزة نافية من رأسها، أتمت ما نقص من أعمال البيت، ثم عادت إليها، وجلست مجاورة لها، تأملتها بتفرسٍ لبعض الوقت، ثم سألتها في اهتمامٍ:
-إنتي بخير يامه؟
اعترفت لها بشيءٍ من الشجن:
-لأ، قلبي متوغوش على أختك، صوتها مريحنيش.
سألتها مدهوشة وقد تحفز في جلستها:
-هي طلبتك النهاردة ولا إيه؟
أجابتها بإيماءة بطيئة من رأسها:
-أيوه، وزادت الهم في قلبي.
التوى ثغرها بنقمٍ، وردت وهي تزيح رباطة شعرها لتمشط خصلاتها بيدها قبل أن تجمعهم معًا:
-يامه "تهاني" جدعة، مايتخافش عليها.
رأت كيف غامت تعبيراتها، وامتزجت بالتعاسة وهي تخبرها:
-بس لواحدها، مافيش حد ينصحها.
سكتت ولم تعلق بشيء، فإحساس والدتها بالألم راح يغمرها، وحينما ينتابها ذلك الشعور الثقيل تكون مهمومة أكثر، ترددت لهنيهة في إعلامها بما جرى في بيت عائلة زوجها، وما عرفته مصادفة من مسألة التوضيب لسفرها بدلًا منها، سرحت في همها لبرهة، سرعان ما عادت منه عنـ.ـد.ما سألتها "عقيلة" بنوعٍ من الاهتمام:
-أومال عملتي إيه عند حمـ.ـا.تك؟ استقبلتك كويس؟
في التو عدَّلت عن رأيها، ولم تخبرها بالمهانة التي تلقتها هناك، أو حتى ما اكتشفته، لم ترغب في إحزانها، ولا التسبب في نشوب الخلاف بينهما على أمرٍ يمكن حله. اختبأت خلف بسمة مصطنعة، وردت بصوتٍ شبه مضطرب:
-آ.. أيوه يامه، قامت بالواجب وزيادة، دي.. فرحت بجيتي أوي.
تفرست في قسمـ.ـا.تها بشكٍ ملموس، فأكدت عليها "فردوس" بنفس الابتسامة الزائفة:
-دول بيت كرم.
استغربت من عبـ.ـارتها تلك، وقالت ساخرة:
-ماشوفتهاش يعني باعتة معاكي حاجة!!!
ادعت كذبًا وقد اهتزت بسمتها:
-ما أنا مرضتش، هو احنا ناقصنا حاجة يامه؟!
لم تبدُ مقنعة كليًا بتبريرها الضعيف، ومع ذلك تجاوزت "عقيلة" عن هذا الأمر لتقول وهي تسدد لها هذه النظرة العميقة:
-خير.. ربنا ييسرلك أمورك وتروحي لجوزك خلينا نطمن عليكي إنتي كمان.
-إن شاءالله.
قالت جملتها تلك وهي تنهض من جوارها لتفر من نظراتها المتشككة قبل أن تكشف كذبها الواهي، ويتطور الوضع لما تخشى حدوثه!
............................................
انقضت الليالي العابثة، وانتهت السهرات الماجنة، وصار الوقت مناسبًا ليعود إلى ممارسة عمله، فكان أول ما فعله بعد غيابٍ دام لشهر ويزيد هو العودة إلى المشفى الخاص لمقابلة "تهاني"، معتقدًا أن اللهفة قد بلغت منها مبلغها، بل و.جـ.ـعلت قلبها المرهف يلتاع ويتحرَّق لرؤياه، ما لم يتوقعه هو عدm تواجده بمكتبها رغم معرفته الأكيدة بالتزامها الدائم بالحضور. حك جبينه في تحيرٍ، ثم وجه سؤاله لإحدى الجالسات بالحجرة في شيء من الرسمية، خاصة ومكتبها مملوء بالكثير من الكتب والملفات:
-هي دكتورة "تهاني" مجاتش النهاردة؟
أجابته بما صدmه كليًا:
-لأ، هي اتنقلت أصلًا!
للحظةٍ تدلى فكه السفلي قليلًا، وردد متسائلًا في نبرة ذاهلة:
-اتنقلت؟ من إمتى ده حصل؟!!
مطت الطبيبة فمها لبعض الوقت، كأنما استغرقت في تفكيرٍ سريع، قبل أن تجيبه:
-بيتهيألي من حوالي 3 أسابيع!
لاحقها بسؤاله التالي وهو يحاول أن يجعل نبرته خلالها تبدو عادية:
-مـ.ـا.ت عـ.ـر.فيش السبب؟
هزت كتفيها معقبة بغير اهتمامٍ:
-تدريبها خلص هنا، وراحت مكان تاني.
ازدرد ريقه، وتساءل في حيرة متزايدة:
-طب هي مقالتش فين المكان ده؟
هزت رأسها وهي تجاوبه:
-الصراحة لأ.
ضغط على شفتيه مرددًا بوجومٍ:
-شكرًا.
غادر الحجرة سائرًا في الردهة بغير هدى، كان في قمة تحيره وتخبطه، فانسحابها الغريب أصابه بنوعٍ من الشك والارتياب، انهمك في تفكيره التحليلي للدرجة التي جعلته لا يلاحظ وجود "ممدوح" وهو ينتظره عند الدرج، صاح الأخير مهللًا في زهوٍ:
-ما بتضيعش وقت يا باشا!
أفاق من شروده، ونظر إليه قبل أن يزجره بحدةٍ، وقد أصبحت ملامحه مكفهرة:
-في إيه؟
اندهش لحالته المتعصبة، وفطن لحظتها لكونها مرتبطة بـ "تهاني"، خاصة أنه رآه عائدًا من نفس المكان الذي تمكث به بالمشفى، ظن أنها عاملته بجفاءٍ غير مقبولٍ، فاستثار غيظًا للنيل من غروره، لذا استطرد ساخرًا منه وهو يبتسم:
-هي العصفورة نقرتك ولا إيه؟
رد عليه وهو يوكزه في جانب ذراعه بكتفه ليمر من جواره:
-لأ يا خفيف، دي سابت القفص كله وطارت.
تعلقت نظراته المستغربة به، وسأله وهو يتحرك في إثره:
-قصدك إيه؟
صعد كلاهما على الدرج، و"مهاب" يتكلم في تبرمٍ:
-"تهاني" اتنقلت من هنا.
لم يبدُ "ممدوح" مزعوجًا مما سمع، بل قال مستمتعًا:
-أوبا! ليك حق تضايق!
نظر إليه "مهاب" من طرف عينه مليًا، ثم أخبره في تصميمٍ مليء بالتحدي العنيد:
-ملحوئة، أنا عارف هي أعدة فين، هاروحلها هناك.
فرك رفيقه كفيه معًا، كأنما يبدي بذلك تحمسه، ليظهر بعدئذ تأييده لقراره في تشجيعٍ واضح:
-أهوو ده الشغل اللي على حق، وأنا معاك فيه.
..............................................
أدرك "مهاب" وهو يقود سيارته تجاه منطقتها المقيمة بها، أن لعبة صيد الطريدة الغاشمة اتخذت منعطفًا حساسَا للغاية بعد اختفائها عن محط أنظارهما، فهي ليست مثل باقي التحديات الفارغة، والمعروف نهايتها مسبقًا، بل بدت مستعصية على كليهما إلى حدٍ ما، وهذا ما أضفى على صراعهما نوعًا من التشويق والإثارة، على عكس باقي الساذجات المستسلمـ.ـا.ت لإغراء المال أو إغواء الحب، لذا إن استسلم في لحظة وتراجع، حتمًا سينقض "ممدوح" عليها ليظفر بالجائزة الكبرى، وهو لم يعتد الخسارة مطلقًا في مواجهته!
تركه ينتظره بسيارته بعدmا اتفق معه على ذلك، وصعد بمفرده للبناية التي تسكن بها. قرع الجرس، وانتظر بصبرٍ فارغ فتح الباب له، تأهب في وقفته، وضبط رابطة عنقه متوقعًا أن تستقبله هي؛ لكنه تفاجأ بأخرى غريبة تحدجه بنظرة متجهمة وهي تسأله:
-إنت مين؟
بهت ملامحه قليلًا، وأمعن النظر فيها لهنيهة بتحيرٍ، تراءى إلى ذهنه أنها ربما تكون شريكتها في السكن، فسألها في لباقةٍ، وهو يعاود وضع هذه الابتسامة الرقيقة على ثغره:
-دكتورة "تهاني" موجودة؟
قوست فمها في غرابةٍ قبل أن ترد عليه متسائلة بحاجبٍ مرفوعٍ للأعلى في تعجبٍ:
-"تهاني"؟ مين دي؟
اندهش مجددًا لطريقتها، وأخبرها في جديةٍ:
-دي دكتورة ساكنة هنا.
ردت عليه بعدm مبالاة:
-أنا معرفهاش بصراحة.
سيطر عليه الوجوم مرة ثانية، فاستأنفت كلامها شارحة له:
-بص أنا لسه جاية جديد، ممكن تسأل زميلتي، جايز تعرف.
شعر ببـ.ـارقة أمل تلوح في الأفق عنـ.ـد.ما نطقت بهذه العبـ.ـارة، وطلب منها بتهذيبٍ:
-طب هي موجودة؟
هزت رأسها قائلة:
-أيوه، لحظها أناديها.
تركت الباب مواربًا، وغابت للحظات بالداخل، لتعود إليه شابة أخرى ترتدي ثوبًا منزليًا فضفاضًا ومزركش الألوان، معقود من طرفه، ومربوط من خصره، جعلها تبدو كما لو كانت قد انتهت لتوها من المساعدة في حرث الأرض الزراعية. توقف عن تحديقه المتعجب حينما سألته "ابتهال" في فضولٍ:
-إنت عاوزني يا أستاذ؟
أجاب عليها بصيغة تساؤلية:
-مـ.ـا.ت عـ.ـر.فيش دكتورة "تهاني" راحت فين؟
شملته بنظرة غريبة مطولة، كأنما تتحقق بها من شيء ما، ثم تمتمت بلا صوتٍ، وكأنها تحادث نفسها:
-إنت بقى الدكتور الحليوة!!
رمقته بهذه النظرة الثاقبة المغلفة بالغيرة والاستنكار، وهي لا تزال تتحدث في جنبات نفسها:
-والله، برافو عليكي يا "تهاني"، عرفتي تجيبيه على ملا وشه!!
ما لبث أن طفا الشر على صفحة وجهها لتقول في حقدٍ، وبلا صوت:
-بس على مين، وربنا لأفسدهالك!
انتبهت لصوت "مهاب" المتسائل بانزعاجٍ بعدmا ضجر من مماطلتها الفارغة:
-إنتي مش سمعاني ولا حاجة؟
ضحكت في سخافة، وأخبرته بالكذب:
-لا مؤاخذة، أصلها عقبالك اتخطبت.
برقت عيناه في ذهولٍ صادm، وردد بغير تصديقٍ:
-أفنـ.ـد.م!!
أكدت له بثقةٍ تامة، وهي تصيغ كذبتها بإتقانٍ، لتضمن بشكلٍ تام إفساد أي محاولة للتقارب بينهما من جديد:
-أه، وخطيبها حِمش أوي، مارضاش يسيبها لواحدها عازبة كتير، ده تلاقيه اتجوزها.
كرر في صدmة أكبر، وقد ارتفع حاجباه للأعلى:
-اتجوزت؟
استندت بذراعها على إطار الباب الخشبي، وقالت بلؤمٍ خبيث:
-أومال مفكر هي سابت السكن ليه؟
ثم رفعت يدها الأخرى لتسوي شعرها الفاحم وهي تتابع بمكرٍ:
-عمومًا أنا في الخدmة لو عاوز حاجة، أنا عِشرية وعمري ما أقصر مع الناس اللي بحبهم.
حدجها بنظرة احتقارية قبل أن يوليها ظهره منصرفًا دون أن ينطق بشيءٍ، فانتصبت في وقفتها مستنكرة هذه المعاملة الازدرائية، لتهتف من ورائه في حدةٍ:
-إيه؟ مافيش شكرًا حتى؟!!
ابتعد عن محيطها والصدmة تكاد تأكل رأسه المشحون، استطرد محدثًا نفسه في صوت متسائلٍ ومغتاظ وهو يهبط الدرجات ببطءٍ:
-طب هي عملت كده ليه .....
↚
(زواج أَمْ... ؟)
كان وجهه واجمًا، متكدرًا، ويظهر عليه الضيق الشـ.ـديد، لم يستوعب كيف لشابة معدومة الخبرة مثلها أن تنجح في التحايل عليه ومراوغته لمجرد التسلية الفارغة، وهو سيد من يقوم بهذه الأمور اللئيمة ببراعة، وفي النهاية تترك كل شيء وراء ظهرها، وتتزوج بآخر دون أن ينال مبتغاه منها. خرج من المدخل مستاءً للغاية، تنطلق من عينيه نظرات الحنق، وزاد من إحساسه بهذا الشعور الناقم وجود "ممدوح" بالسيارة، حتمًا لن يمرره دون سخرية أو استهزاء، وهذا ما لا يحبذه مُطلقًا، فأحب ما لديه أن يتغذى بداخله شعوري الغرور والسيطرة، لا الانتقاص منهما. ما إن رآه الأخير ظاهرًا في مرمى بصره، حتى فتح الباب وترجل من السيارة ليهتف متسائلًا دون استهلالٍ:
-قابلتها؟
رفض "مهاب" الحديث بشيء، واتجه إلى موضعه خلف عجلة القيادة، فتبعه رفيقه بنظراته الفضولية وهو يعلق باستخفافٍ:
-شكلها ادتك الوش الخشب!
ثم أطلق ضحكة ساخرة منه ليستفزه أكثر قبل أن يتابع بنفس الوتيرة وهو يستقر مجاورًا له:
-وإنت الصراحة مش متعود غير على الحاجات الناعمة والطرية.
لم يطق تحمل سخافاته، فاستطرد بصوتٍ ثقيل وهو يدير المفتاح ليشعل المحرك:
-"تهاني" اتجوزت!
حملق فيه مندهشًا، ليعلق بعدها بنبرته الذاهلة:
-نعم، إنت بتهزر صح؟
رد في وجومٍ وهو يخفض الزجاج الملاصق لجانبه:
-لأ، زميلتها قالتلي كده.
مط "ممدوح" فمه متمتمًا:
-غريبة!
لم يضف "مهاب" أي شيءٍ، وانطلق بالسيارة بعيدًا عن المكان؛ لكن "ممدوح" واصل التعقيب الهازئ من الأمر برمته، فأردف ضاحكًا باستمتاعٍ مغيظ:
-كده احنا الاتنين طلعنا برا اللعبة .. وهي اللي كسبت يا باشا.
نفخ رفيقه بصوتٍ مسموعٍ، وحذره في غير صبرٍ:
-مش عاوز كلام زيادة.
مد "ممدوح" ذراعه، ولكزه في جانب كتفه بخفةٍ، كأنما يمزح معه، واستمر في تعليقه المستفز:
-حقك تزعل، أول مرة تخسر، وقصاد مين، واحدة مالهاش وزن ولا قيمة عند "مهاب الجندي"!
فقد آخر ذرات هدوئه، فالتفت برأسه تجاهه، وزجره في عصبيةٍ:
-كفاية يا "ممدوح"، أنا مش ناقصك.
تراجع الأخير عن مواصلة إغاظته، وقال ملطفًا بابتسامة سخيفة:
-ماشي، تعالى نشوف حتة نغير فيها جو.
دون أن ينظر ناحيته أخبره في لهجةٍ حاسمة:
-أنا هوصلك بيتك وبس.
لم يجادله كثيرًا، فأوجز في الرد وهو يسترخي في المقعد، كما لو كان الأمر يروقه بشـ.ـدة:
-براحتك.
اختطف بين الحين والآخر نظرة عابرة نحوه غير مبالٍ إن كان يراه رائق المزاج أم لا، فهذه هي المرة الأولى التي يشعر فيها بنشوة الانتصار عليه في شيء، وإن كان من وجهة نظره المتعجرفة حقيرًا.
..........................................
لعب الشيطان برأسها فوسوس لها بفكرة جنونية، وهي التفتيش في أغراض هذه الوافدة المستجدة، إذ ربما تتمكن من معرفة أي شيء عنها، خاصة مع تحفظها الغريب والذي يثير في نفسها الاسترابة والشك. استغلت "نزيهة" فرصة وجود "تهاني" في الحمام لتستحم، فتسللت إلى غرفتها بعدmا تأكدت من عدm متابعة أحدٍ لها، وأخذت تمعن النظر في متعلقاتها الشخصية بوقاحةٍ فجة، وهذه الابتسامة المستهزئة تعلو زاوية شفتيها. لم تقم بإعادة ما أمسكته إلى مكانه، تركته بإهمالٍ وهي تقول:
-بس فالحة تعمل نفسها بـ.ـنت ذوات، ومافيش منها اتنين، وهي عدmانة!
لفت نظرها الحذاء القيم المتروك أسفل تسريحة المرآة، سارت تجاهه، وانحنت لتلتقطه، رفعته إلى عينيها وتأملته بإعجابٍ وهي تُحادث نفسها:
-دي الحاجة العدلة اللي عندك، تستاهل إن الواحد يشوفها عليه.
جلست على طرف الفراش، وبدأت في تجربة قياسه على قدmها؛ لكنها لم تستطع إدخاله بسبب كبر حجم قدmها. ألقته في عصبيةٍ أرضًا نحو التسريحة وهي تغمغم بتأففٍ:
-إياكش يتقطع!
وجودها لم يعد ضروريًا، لهذا كما دخلت خلسة خرجت دون أن يمسك بها أحد، لتنضم إلى زميلاتها الجالسات في الصالة، وكأنها لم تفعل شيئًا.
في تلك الأثناء، كانت "تهاني" قد انتهت لتوها من الاستحمام وتجفيف شعرها، ورغم أنه ما زال رطبًا إلا أنها فضلت جمعه برابطة رأس حتى لا يصير مهوشًا. تسمرت عند عتبة غرفتها ناظرة بحدقتين متسعتين في ذهول مستهجن عنـ.ـد.ما رأت الفوضى الموجودة بها، تخطى الأمر حدود المقبول، فاندفعت خارجة من غرفتها بكل عنفوانها نحو الصالة، حيث تجتمع الشابات معًا في جلسة تسامرٍ ودية، جالت بعينين متقدتين عليهن جميعًا، وهي تتساءل في نبرة موحية بالاتهام:
-مين دخل أوضتي؟
اندهشن في حيرةٍ من العصبية الزائدة التي جاءت بها عليهن، وتولت إحداهن مهمة الرد نافية ما قالته في صوتٍ هادئ:
-محدش.
احتدت نبرتها وصرخت فيهن باهتياجٍ:
-لأ، في حد كان جوا الأوضة، وفتش في حاجاتي!
نفت أخرى قيامها بذلك الأمر رافعة يديها في الهواء:
-أنا لسه جاية من برا.
انتفضت "نزيهة" قائمة من مكانها، ولوحت لها بذراعها وهي تهدر باشمئزازٍ:
-أوضة إيه دي يا أم أوضة؟!!!
حولت "تهاني" نظراتها المحتقنة تجاهها، وردت في تعصبٍ مهين:
-المفروض إننا في مكان محترم، مش أعدة في الشارع عشان كل من هب ودب يمد إيده على حاجتي.
انفلتت شهقة مستنكرة من "نزيهة"، وصاحت في تحفزٍ، وهي تتقدm تجاهها، كأنما تريد الهجوم عليها للفتك بها:
-قصدك إن احنا حـ.ـر.امية هنا؟
تدخلت في التو واحدة منهن لتحول بينهما بجسدها وهي تقول بتعقلٍ محاولة لملمة الأمور قبل تفاقمها:
-استني شوية، ماينفعش كده!
قامت أخرى بشـ.ـد "نزيهة" للخلف لإبعادها عن محيطها، بينما واصلت الأولى كلامها:
بصي يا "تهاني" كلنا هنا زي بعض، مافيش واحدة أحسن من التانية!
لم تعبأ بما أخبرتها به، وهتفت مشيرة بسبابتها في وجه الجميع:
-أنا قولت اللي عندي، ولو اتكررت تاني مش هسكت.
غادرت بعدئذ عائدة إلى غرفتها، لتهدر من ورائها "نزيهة" في حنقٍ مستشيط:
-مفكرة نفسها مين دي؟
حاولت إحدى المتواجدات تهدئتها، فقالت:
-حصل خير يا جماعة، مافيش داعي نكبر الموضوع.
ظلت "نزيهة" على حالتها الحاقدة وهي ترد بتحيزٍ مهين:
-دي عاوزة تعمل لنفسها قيمة، وهي مـ.ـا.تسواش.
سرعان ما حامت الشكوك حولها لكونها الوحيدة الثائرة بلا مبررٍ، فتساءلت واحدة منهن بشكلٍ مباشر وهي تحدجها بهذه النظرة القوية:
-"نزيهة"، إنتي دخلتي أوضتها؟
خبت حمئتها إلى حدٍ كبير، وقالت رغم ذلك بلهجةٍ متحفزة:
-الباب كان مفتوح، ف بصيت من برا بس.
-يعني دخلتي؟
-أنا حبيت أعرف الست الدكتورة اللي شايفة نفسها علينا مخبية إيه من ورانا!
-وده يصح؟ إنتي ترضي حد يعمل معاكي كده، وبدون علمك؟!!
-أنا مخدتش منها حاجة، دي كُحيتي على الآخر، أفقر مننا.
-يا ريت مايحصلش ده تاني، مش ناقصين مشاكل لا معاها ولا مع غيرها.
على مضضٍ شـ.ـديد ردت وهي تزفر الهواء من بين شفتيها:
-طيب.
........................................
كل ما راود ذهنها أنها مؤامرة حقيرة دُبرت في الخفاء لعرقلة الزواج وتأجيله دون أن يتم مراعاة هذه المسكينة المنتظرة بتلهفٍ إتمامه. على وجه السرعة جاءت "أفكار" لزيارة شقيقتها فور أن علمت بالأخبـ.ـار الصادmة. استقرت على الأريكة بعد استقبالٍ روتيني من "عقيلة"، وزعت نظراتها الغامضة بين الاثنتين حينما جلستا معها، ثم بصوتها اللاهث، وتعبيراتها الممتعضة أخبرتهما بما جعل القلوب تنبض رهبةً:
-خليكوا كده نايمين على ودانكم ومعندكوش خبر باللي بيحصل!!
تساءلت "عقيلة" في ملامح مستغربة:
-في إيه ياختي؟
نظرت لها بأسفٍ قبل أن تخبرها في تبرمٍ:
-الولية حماة بـ.ـنتك سافرت العراق، والمحروسة لسه أعدة هنا.
حينئذ لطـ.ـمـ.ـت على صدرها في صدmة، ولسانها يردد بتحسرٍ:
-يا نصيبتي!!!
ثم سألتها بقلبٍ ملتاع قد راح يدق في تخوفٍ:
-امتى ده حصل؟!
أجابتها "أفكار" وهي تهز رأسها:
-من كام يوم، ولسه دريانة بده.
لم تبدُ "فردوس" متفاجئة كالبقية بهذا الخبر الصادm، مما استرعى الانتباه، فأدارت والدتها وجهها تجاهها، وسألتها في جزعٍ:
-إنتي كنتي ت عـ.ـر.في يا "فردوس"؟ قالتلك إنها مسافرة؟
ترددت للحظاتٍ، ولم تعرف بماذا تخبرها؛ لكن لا مفر من الحقيقة. تلبكت أكثر، وخاطبتها بصوتٍ شبه مهتز:
-هي بنفسها مقالتليش حاجة يامه، بس ابنها الكبير قال إن سي "بدري" هيبعت ياخدها، وبعد كده أنا.
ضـ.ـر.بت خالتها على فخذيها بكفيها، وراحت تولول في حسرةٍ:
-شوفتي خيبة بـ.ـنتك؟ عارفة وساكتة!!
مجددًا وجهت "عقيلة" سؤالها لابـ.ـنتها في انفعالٍ طفيف:
-وماجبتيش سيرة ليه؟
انتفضت على صوتها العالي، وردت بنبرة أقرب للبكاء:
-افتكرته كلام وبس.
هنا صاحت خالتها تلومها في ضيقٍ شـ.ـديد:
-وأهوو حصل!
وضعت "عقيلة" يديها أعلى رأسها، وأخذت تهزها يمينًا ويسارًا وهي تتساءل:
-هنعمل إيه دلوقتي؟
كورت "أفكار" قبضة يدها، وكزت على أسنانها لهنيهة قبل أن تتكلم عاليًا في تحفزٍ:
-لازمًا نكلم أخوه يوصله، ويبعت ياخدك، هو مش حاجزك هنا وراكنك على الرف لحد ما يهفه الشوق ياخدك.
وقتئذ التفتت "عقيلة" ناظرة مرة ثانية لابـ.ـنتها بنظرة مؤنبة للغالية، ثم عادت لتكلم شقيقتها:
-شيعي لحد يجيب أخوه هنا.
قالت دون تفكيرٍ:
-هيحصل ياختي.
ظلت "فردوس" متجمدة في مكانها كالصنم، تنظر إلى كلتيهما بعجزٍ مشوبٍ بالنـ.ـد.م، فلو تحدثت في وقت باكر عما علمته، لربما اختلف الوضع تمامًا.
...........................................
بعد توبيخ لاذع، وإنذارات شـ.ـديدة اللهجة في منزل عائلة زوجة شقيقه، كان عليه التصرف في الحال، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، خاصة أن موقف شقيقه كان مخزيًا ومحرجًا ولا مبرر منطقي له. انتظر "عوض" على المقعد البلاستيكي المتأرجح بسبب انفلات مساميره، ودار بنظراتٍ شاردة على الوجوه البائسة المحيطة به، ورغم إحساسه بالاختناق والحر، إلا أنه لم يتذمر كالبقية أو يثرثر مع أحدهم ليقضي على بطء مرور الوقت، انتظر دوره بصبرٍ طويل، حتى ناداه عامل السنترال ليذهب إلى واحدٍ من الأكشاك الصغيرة ليتحدث لشقيقه عبر الهاتف في مكالمة دولية مدفوعة الثمن مسبقًا، حاول غلق الباب؛ لكنه كان عالقًا، لذا صاح عاليًا وهو يجاهد لاستراق السمع لصوته وسط الجلبة الصاخبة المنتشرة من حوله:
-أيوه يا "بدري"، عامل إيه ياخويا؟
أتت نبرته مبتهجة للغاية:
-في نعمة والحمدلله.
رد عليه وهو يسد بيده أذنه الأخرى ليتمكن من سماعه:
-يستاهل الحمد، وإزي أمي؟ كويسة؟
أجابه بنبرة مسرورة:
-أيوه، في أحسن حال، وربنا دي صحتها ردت لما جت عندي.
قال "عوض"، كأنما يُعلمه بالحقيقة الواقعة، بنفس الصوت العالي:
-هي طول عمرها متعلقة بيك يا "بدري".
أثر ألا يضيع الوقت هباءً، وسأله في التو باهتمامٍ واضح:
-المهم، إنت ناوي على إيه مع مراتك؟
أحس بتبدل نبرته وهو يجيبه:
-بصراحة كده، أنا مش ناوي أكمل.
صدmه ما أخبره به، فردد مستنكرًا في غير رضا:
-بتقول إيه؟
بدا "بدري" هادئًا للغاية وهو يشرح له مبرراته:
-اسمعني بس، هي مش من تُوبي، ولا نافعة معايا.
لم يقتنع بحججه الواهية، وهاجمه في صوتٍ منفعل:
-هي جزمة بتشوف مقاسها ينفع ولا لأ؟ دي بني آدmة.
كاد أن ينطق بشيء؛ لكن "عوض" واصل مقاطعته:
-وبعدين الناس تقول علينا إيه؟ دي تبقى قلة أصل مننا!!
مرة أخرى صُدm برده غير المراعي أبدًا:
-ولا فارق معايا حد، أنا مصلحتي اللي تهمني وبس.
عنفه شقيقه الأكبر بضيقٍ متزايد:
-اتقي الله يا "بدري"!
تهرب منه بوضوحٍ:
-خلينا نتكلم في ده بعدين، أنا ورايا شغل.
رد عليه بما يشبه التحذير وهو يكظم غضبه:
-ماشي، بس راعي ربنا عشان يكرمك.
هتف بتعجلٍ منهيًا معه مخابرته:
-طيب .. طيب .. سلام ياخويا.
وضع السماعة في موضعها، ودفع الباب المحشور ليخرج من الكشك الضيق ضاربًا كفه بالآخر، يمرق بين المتجمهرين وهو غير مستوعب لما قرره شقيقه دون أدنى مسئولية لعواقب ذلك؛ وكأن حياة الأبرياء لا تعنيه، ظل يردد مع نفسه وبلا وعيٍ:
-ذنبها إيه المخلوقة دي تظلمها معاك؟ ذنبها إيه؟!!
بدا وكأنه أُودع في هم لا ناقة له فيه ولا جمل؛ لكنه عقد العزم على إقناع شقيقه بعدm تطليقها مهما تكلف الأمر.
.......................................................
كعهده حينما يتم دعوته لحضور واحدٍ من المؤتمرات الطبية، يمضي وقت فراغه في أشهر النوادي الليلية، للظفر بمتعة جسدية جامحة، فيشبع بها هذا الشعور النهم بالسيطرة والإخضــاع، ورغم شبقه العطش دومًا لكل ما هو مغري إلا أن هذه المرة كانت مختلفة، فبدا غير مكترثٍ بالتودد إلى إحداهن، أو حتى مواعدة واحدة من النساء العابثات، المتمرسات في فنون العشق ومطارحة الغرام. استغرب "ممدوح" من عزوف رفيقه عن أحب الأشياء إلى قلبه، وتحير في شأنه، ، يبدو أن تأثير صدmة زواج "تهاني" كان عميقًا للدرجة التي جعلته عاجزًا عن تقبل أنه رُفض منها، ونالها غيره، لم يترك لخواطره إرهاق عقله بالتفكير، وانضم إليه في طاولته المنعزلة لينظر إليه بتدقيق وهو يتجرع ما في كأسه دفعة واحدة. خاطبه مستفهمًا ليتأكد من ظنونه وهو يفرغ في كأسه القليل من الخمر:
-شايفك لسه ما رجعتش لمودك الرايق من تاني.
من طرف عينه تطلع "مهاب" إليه، وتساءل في جمود:
-عاوزني أعمل إيه؟
أخبره بتريثٍ، وهو يتلقف بفمه بضعة حبات من المكـ.ـسرات:
-ما أنا بصراحة مابقتش فاهمك، ليه مكبر الموضوع للدرجادي؟!!
منحه "مهاب" نظرة طويلة من عينيه الحمراوين، وكأن هناك أتون مشتعل فيهما، ضغط عليه رفيقه بسؤاله المتعمد ليعزز من شعوره بالألم:
-إيه؟ الخسارة صعبة عليك؟
ثم ضحك ساخرًا منه ليضيف بعدها باستخفافٍ مغيظ:
-بكرة تتعود.
لم يكن بمقدوره تحمل تلميحاته أو حتى التغاضي عن سخافة عبـ.ـاراته، فهدر به في تشنجٍ:
-قفل على السيرة دي!!
هز "ممدوح" كتفيه غير مبالٍ بالغليل المتأجج بداخله، وراح يغوص في المقعد باسترخاءٍ واضح، ثم رفع ذراعه للأعلى ليفرقع بإصبعيه لإحدى النادلات شبه المتعريات لتأتي إليه وتقوم بخدmته بطريقتها الاحترافية. رفض "مهاب" المكوث معه، انتفض الأول ناهضًا ليقول بوجومٍ حانق:
-أنا قايم.
أظهر رفيقه عدm اهتمامه بمغادرته، ولوح له بيده هاتفًا بصوتٍ شبه مرتفع:
-مـ.ـا.تنساش تكريم بكرة.
لم يرد عليه وانصرف بغضبه الذي يلهب صدره، ليردد "ممدوح" من ورائه في همهمة خافتة، وبشمـ.ـا.تةٍ بائنة للغاية:
-ياخي جرب كده مرة تكون مضايق وما تخدش اللي نفسك فيه!
..............................................
جلست القرفصاء أمام طَسْت الغسيل النحاسي تدعك بيديها بياضات الأرائك لتتأكد من تنظيفها جيدًا، قبل أن تلقي بها في الغلاية المجاورة لها، لتضمن الحصول على نَصَاعة أكثر للون الأبيض. أوشكت "فردوس" على الانتهاء من هذه المهمة الشاقة حينما سمعت صوت أمها يناديها من الخارج عاليًا:
-شوفي مين على الباب!
-حاضر يامه.
هتفت بهذه الجملة وقد توقفت عما تفعل، لتنهض من جلستها غير المريحة، تأوهت في صوت خفيض، واستقامت واقفة، ثم جففت كفيها المبتلين بالماء والصابون في جانبي ثوبها المنزلي، قبل أن تشـ.ـد طرفه المثني للأسفل لتغطي ساقيها المكشوفتين. سارت بتعجلٍ تجاه باب البيت، فتحته، وخرجت منها شهقة متـ.ـو.ترة عنـ.ـد.ما أبصرت رجلًا واقفًا قبالته بزي الشرطة الرسمي. في حركة لا إرادية منها، لطـ.ـمـ.ـت على صدرها هاتفة:
-يا ساتر يا رب! خير يا شاويش؟
شملها فرد الشرطة بنظرته الفاحصة موجهًا سؤالًا رسميًا لها:
-ده بيت "فردوس شحاته"؟
دق قلبها بقوة، وراح الخوف يختلج أوصالها كغزو يجتاح ما يعترض طريقه بغتة، بلعت ريقها وردت بوجهٍ راحت الدmاء تفر منه في الحال:
-أيوه، دي أنا.
فتح الدفتر الذي أتى به، ودون بقلمه الحبر شيئًا في أحد أوراقه، ثم أمرها بلهجة جافة، ولا تزال رسمية:
-اتفضلي استلمي الإعلان ده، ووقعي هنا.
نظرت إلى الورقة التي يبرزها أمام عينيها متسائلة بتحيرٍ قلق، ودبيب قلبها آخذ في التصاعد:
-إعلان إيه؟
بنظرة سريعة لفحوى مضمون الورقة أجابها، ودون أدنى تعاطف معها:
-طـ.ـلا.ق غيابي.
تلقت كلمـ.ـا.ته الموجزة كالصاعقة على رأسها، فاتسعت عيناها في محجريهما، واستطال وجهها في صدmة متضاعفة، لتلطم بعدئذ على خديها بقسوةٍ وهي تصرخ في قهرٍ عظيم:
-يا نصيبتي!!!!
...............................................
محاولة التغلب على ما يؤرق مضطجعك ليس بالأمر الهين على الإطـ.ـلا.ق، فقد يجعل الحصول على قسطٍ وافرٍ من النوم أمرًا مستبعدًا، ناهيك عن إرهاق العقل بالكثير والمزيد من الأفكار التحليلية المهلكة للأعصاب. شعر "مهاب" بالصداع يفتك برأسه منذ لحظة استيقاظه، قاومه قدر المستطاع؛ لكنه تمكن منه، فبحث عن دواء مسكن ليتمكن من التماسك طوال الساعة المتبقية من أول أيام ذلك المؤتمر الكئيب؛ لكنه لم يجد. لم ينكر أن سيلًا من الذكريات المزعجة هاجمه وهو يستحضر كيف أمضى شبيه ذلك بصحبة "تهاني"، متوقعًا أنه يجرها إلى شباكه المحكمة، لتعطيه نفحة من نعيمها الأنثوي، واليوم تعمق بداخله ذاك الشعور المرفوض قطعيًا بالهزيمة، كاد يجن، ويخرج عن طور الرزانة المعروف به في محفل الأطباء. تماسك حتى الرمق الأخير، وتلقى الجائزة التقديرية بملامحٍ جليدية يخفي خلفها البركان الثائر في دواخله. امتدت يده لمصافحة أحد كبـ.ـار الأطباء، والمسئول عن إقامة هذا المحفل، ليخاطبه في امتنانٍ:
-أشكرك للغاية على هذا التكريم.
بادله الطبيب المصافحة وقال في إعجابٍ:
-أنت مثال رائع للطبيب المثابر.
ضحك بتصنعٍ، وعلق وهو يربت بيده الأخرى على جانب ذراعه:
-أنت تبالغ عزيزي.
استعاد الطبيب يده، وأبدى تفاخره به مرددًا:
-تستحق دومًا الأفضل.
أنهى معه الحوار بلباقةٍ، وانتقل للحديث مع آخر لعدة دقائق. كان "مهاب" على وشك المغادرة تمامًا لولا أن استوقفه هذا الصوت الناعم الذي يعرفه جيدًا، فاتجه دون إعادة تفكير إلى صاحبته ليحييها بوديةٍ غريبة:
-الجميلة "ديبرا"!
التفتت إليه الأخيرة لتنظر إليه بجبين مقطب، ونظرات متشككة. وضعت بشفتيها ابتسامة متكلفة قبل أن تقول برسمية تامة:
-أهلًا بك دكتور "مهاب".
لم تمد يدها لمصافحته، ولم تحاول حتى تقبيله بحرارة في وجنته، كانت متباعدة كليًا عنه، فاستنكر جفائها، وعاتبها بنظرة لعوب:
-لما كل ذلك التحفظ معي؟!
أولته ظهرها فرأى كيف تمتد الفتحة الخلفية لثوبها النبيذي حتى انتفاخ ردفيها، اشتهى تذوق ما وراء ساتر القماش، وأبقى عينيه الجائعتين على منحنيات جسدها المغرية. تأهبت حواسه عنـ.ـد.ما أجابته بنبرة جافة يشوبها القليل من الاتهام:
-لئلا أزعجك صديقتك، ألم تقل لي ذلك؟ أم أنك تريد إغضابها؟
ثم استدارت مرة واحدة تجاهه لتجد عينيه معلقتين بها، فابتسمت في تشفٍ، وسألته في خبثٍ وقح، كأنما تتعمد إحراجه بشكلٍ يلمح بالإهانة:
-بالمناسبة، أين هي؟ أم أنك أثبت عدm جدارتك معها؟
غلت الدmاء في عروقه حنقًا منها، ورغم هذا حافظ على ابتسامته المنمقة وهو يجيبها بهدوءٍ مريب:
-لقد انفصلت عنها!
رفعت حاجبها للأعلى، وهتفت في ذهولٍ:
-لا أصدق! كيف حدث ذلك؟
اشتدت تعابير وجهه، وأخبرها وهو يحاول جاهدًا نفض كل ما يخص "تهاني" من ذكريات:
-لا يهم، كفانا حديثًا عنها، وهيا بنا، لنا لقاء مميز.
اختتم جملته ويده قد وجدت طريقها إلى ظهرها فلامست جلدها الناعم، اقشعر بدنها، وراحت الوخزات المحفزة تضـ.ـر.ب كل ذرة في جسدها، شعرت بذراعه تطوق بعدئذ خصرها في قوةٍ محسوسة، كأنما يفرض سطوته عليها بالتدريج. لم تقاومه، وأبدت استعدادها للمرح الجامح معه، تبسمت وسألته بعبثية ظاهرة في نظرتها إليه:
-إلى أين؟
مال على أذنها ليهمس لها بشيءٍ من المكر:
-سأعوضك عن تلك الليلة الكئيبة.
قوست فمها قائلة في تشوقٍ:
-أوه، عزيزي، أنا آ...
قاطعها بإصرارٍ وهو يداعب جانبها بأصابع يده:
-لن أقبل بالرفض!
وضعت يدها على كفه تتحسسه، وقالت في ميوعة صاغرة، كأنما لبت نداء الإغراء الذي أطلقه لها:
-حسنًا، أنا طوعك سيدي.
..................................................
تناوب عليها خليط مكثف من مشاعر الألم والمتعة والرضا والانتشاء في آن واحد وهي ترتشف معه من كأس الحب الآثم، إلى أن جاء دوره لنيل غايته التي يكبحها بصعوبةٍ، بالطبع كانت مستسلمة طواعية له، فلم تحتج إلى أي محايلة منه أو حتى مقاومة لتنفذ أوامره، كانت ملك يديه، يعيث فيها كيفما يشاء، كما أن تأثير المشروبات الكحولية خلال لحظاتهما الخاصة أذهب برجاحة عقلها، فأصبحت خاضعة تمامًا لما يمليه عليها. شعرت "ديبرا" بقبضتي "مهاب" تمسكان بها من معصميها، بعدmا استلقت بلا ساترٍ وتمددت على بطنها الصغير، رفعهما للأعلى قليلًا، وقيدهما بخشونةٍ في حامل الفراش، فسألته بنبرة ثقيلة:
-عزيزي، ماذا تفعل؟
أجابها بغموضٍ مخيف:
-سنمرح قليلًا .. كما ت عـ.ـر.فين.
وجدت يده تمسك بقدmيها، حاولت رفع رأسها، والنظر إليه؛ لكنها لم تتمكن، فإذ به يقيد كل واحدة بحافة الفراش، فأصبحت مكبلة بالكامل، راحت تتلوى كالأفعى في مكانها، جاعلة كل بروز في جسدها يتماوج كأمواج البحر حين يشق القارب طريقه فيه. تكلمت وهي تضحك في ميوعةٍ:
-أنت تبدو بربريًا اليوم.
خاطبها بلهجته العربية ووجهه يكاد يفح نارًا:
-مش أنا اللي واحدة تتريق عليا.
تعذر عليها استيعاب مقصده بهذه اللغة، فرددت في تحيرٍ:
-لا أفهم ما تقول.
كادت تفوه بشيء آخر لكن صوتها تحول لأنين مع هذه الصفعة القوية التي تلقتها بغتة على ردفيها بشيءٍ بدا وكأنه جلد قاسي الملمس، حاولت النظر إليه لترى ما في يده، فوجدته قد استل حزامه ليؤنبها به. تقوست بظهرها، وتساءلت في لهاثٍ مازح:
-أستقوم بتأديب تلميذتك؟
أعطاها أخرى أشـ.ـد قوة على فخذيها فصرخت من الألم الحقيقي، ليخبرها بعدها بنبرة أقرب للفحيح، وهذه الابتسامة المتلونة تبرز في وجهه:
-بالطبع، سألقنك درسًا لن تنسيه!
لم يترك "مهاب" جزءًا في جسدها -صعودًا وهبوطًا- إلا ووسمه بلسعة كالسوط من حزامه، انتقامًا من سخريتها السابقة، توقف عنـ.ـد.ما التهب جلدها، وأصبح مكدومًا ببقع لن تختفي آثارها إلا بمرور عدة أيامٍ وباستخدام الملطفات الدوائية. جلس مجاورًا لها على الفراش دون أن يحل قيدها، فرفع وجهها إليه من طرف ذقنها، تأمل اشتعال بشرة وجهها جراء كم الدmاء الساخنة المتدفقة التي اجتمعت فيها. توسلته لتركها وفك قيدها، فما كان منه إلا أن مال عليها ليخبرها بهمسٍ:
-لم ننتهِ بعد!
كمم فمها، ليزيد من إذلالها وإهانتها بما ظن أنها الطريقة المناسبة للتعامل مع واحدة مثلها، نالت في البداية متعتها الخاصة، وحاز في النهاية على شعوره بالسيطرة المزعومة بطريقته الملتوية. نهض من الفراش متجهًا لخارج غرفة النوم الملحقة بجناحه الفندقي، سار إلى حيث ينتظره "ممدوح" بالردهة، طالعه بهذه النظرة المتعالية وهو يضع يديه في جيبي بنطاله ليخبره بعجرفةٍ، وكأنه يمنَّ عليه بفضلة خيره:
-مابقتش تلزمني .. خدها.
فجاجة كلمـ.ـا.ته، ونظراته المهينة لم تمنعه من إظهار هذه البسمة المتسعة على محياه، كاتمًا في صدره إحساسه بالغل الحاقد تجاهه، ببرودٍ محكم قام واقفًا، وشمر عن كميه قائلًا بترحيبٍ شـ.ـديد:
-أنا جاهز ليها ....
لم يتم جملته عن عمدٍ إلى أن وقف في مواجهته، فتابع عن نبرة موحية وهو يركز عليه بنظرة قوية نافذة:
-أو لغيرها حتى لو طارت من القفص!
تركه "ممدوح" واقفًا في مكانه، واتجه إلى الغرفة، ليهتف "مهاب" من بين شفتيه بصوتٍ خفيض، وأقرب للوعيد:
-اللعبة لسه مخلصتش ........
↚
(ورقة رسمية)
عقصت حول رأسها رباطة قماشية من اللون الأسود، تماشت مع ما تلفَّحت به من عباءة منزلية مماثلة، وكأنها لبست الحِداد على رحيل أحدهم، ظلت منزوية في غرفتها، تبكي ليل نهار، حتى جفت دmـ.ـو.عها، ولم يبقَ لها إلا تجرع الألم. نظرت لها "عقيلة" بإشفاقٍ وهي تقف عند عتبة الباب، ومع ذلك لم تقوَ على مؤازرتها بالطيب من الكلام، فقد كانت مثلها متحسرة على مصابها، والأسوأ من ذلك شعورها بالخزي والعار، لكون ابـ.ـنتها لن تسلم من الألسن الشامتة أو الشائعات الحاقدة، وإن كانت غير مذنبة على الإطـ.ـلا.ق، فما أسهل إلقاء التهم الباطلة على الغير دون تحري صدقها!
اتجهت إلى باب البيت عنـ.ـد.ما سمعت الدقات عليه، زفرت الهواء الثقيل من رئتيها وهي تفتحه لتنظر إلى شقيقتها التي جاءت لزيارتها. سألتها الأخيرة دون استهلالٍ:
-"دوسة" عاملة إيه؟
أغلقت الباب بعدmا ولجت للداخل، وأجابتها بنبرة مهمومة للغاية:
-زي ما هي.
استقرت "أفكار" على الأريكة، وراحت تهز جسدها يمينًا ويسارًا وهي شبه تنوح:
-كبدي عليها، لا لحقت تفرح ولا تتهنى!
شاركتها "عقيلة" نفس الندب مرددة وهي تضـ.ـر.ب على فخذيها:
-يا ريتنا ما كنا استعجلنا ولا كتبنا الكتاب!!
ثم ركزت عينيها المنتفختين من كثرة البكاء على شقيقتها الكبرى وتابعت في صوتٍ متألم:
-نابها إيه من الجوازة دي غير إنها بقت متطلقة؟!!!
لم تنبس "أفكار" بكلمة، في حين واصلت الشقيقة الصغرى كلامها، والذي اتخذ طابعًا مهددًا:
-أنا مش هسكت، حق بـ.ـنتي مش هسيبه!
دون تفكيرٍ وافقتها الرأي، وصاحت تؤيدها بشـ.ـدة:
-وأنا معاكي.
عاد التحير ليسيطر على قسمـ.ـا.ت وجه "عقيلة"، وأفصحت عن ذلك بسؤالها:
-بس هنعمل إيه؟
بعد لحظاتٍ من الاستغراق في التفكير أجابتها بتصميمٍ معاند:
-احنا نطب على أخوه، هو لازمًا يتصرف، مش هنسيبه غير لما تاخد كل حقوقها، هي مش سايبة!!
.............................................
ظل شاردًا، صامتًا، غير مكترث بالمشاركة في أي شيء يخص المؤتمر الذي من المفترض أن يكون أحد محاضريه الرئيسيين، انعزل بنفسه عن نفسه وكأنه قد انفصل ذهنيًا عن العالم المحيط به، حتى أنه اختار المكوث بعيدًا عن الصفوف الأمامية ليحظى بنوعٍ من الخصوصية، لعل وعسى يتمكن من فك الأحجية التي حيرته كثيرًا، و.جـ.ـعلته شبه فاقد للتركيز فيما يفعل. كذلك ليلة الأمس الجامحة لم تمنحه ما طمح في الشعور به من الاكتفاء والرضا، بل جعلته يزداد رغبة وتلهفًا في الحصول على هذه الطريدة الهاربة بالتحديد، والإيقاع بها مهما تكلف الأمر، فأنى له أن يقبل بالخسارة هكذا ببساطة؟!
أطفأ "مهاب" عُقب سيجارته في المنفضة قبل أن تنتهي، واستل أخرى من علبته الفضية ليشعلها، سحب دخانها ببطءٍ، ولفظه على مهلٍ، وعيناه توحيان بتفكيره العميق والمستمر. حين انضم إليه "ممدوح"، تجاهله تمامًا، واقتضب في الحديث معه، كأنه غير موجودٍ المرة، إلى أن أنار عقله فجأة بفكرة عجيبة، كان قد غفل عنها، آنئذ تحفز في جلسته بشكلٍ يدعو للحيرة، وراح يجمع متعلقاته الشخصية في تعجلٍ وهو يردد لنفسه مندهشًا:
-إزاي كانت تايهة عني؟!
تطلع إليه "ممدوح" باستغرابٍ، فقبل لحظاتٍ كان يتصرف كالأصنام، لا صوت له ولا حركة، والآن النشاط ينضح من كل طرف فيه، سلط بصره عليه، وخاطبه في جديةٍ طفيفة، محاولًا فهم ما يدور في رأسه:
-حصل إيه؟ إنت مش معايا من بدري، ودلوقتي إيه اللي اتغير؟!!
نظر له بطرف عينه بهذه النظرة المزهوة، كأنه غير مهتم بأي شيء من الأساس، وقال مؤكدًا:
-مش فارق.
تعجب أكثر من طريقته الغامضة، وتضاعف لديه شعوره بالغرابة وهو يراه ينهض من موضع جلوسه استعدادًا لذهابه، لم يتركه لشأنه وسأله مستفهمًا بفضولٍ:
-رايح فين؟
لوح له بذراعه يودعه:
-هكلمك بعدين، سلام.
زم شفتيه مبديًا المزيد من الدهشة لانصرافه المريب، سرعان ما تقوستا وتحولتا لابتسامة لعوبة و"ديبرا" قد أتت لتستقر على مقعد شاغر ملاصق له. سألته وهي تنفض شعرها المسترسل خلف ظهرها:
-إلى أين هو ذاهب؟
مال عليها ليضمها بذراعه إليه في ترفقٍ قائلًا في صوتٍ خفيض؛ لكنه عابث وشقي:
-لا تهتمي به، أنا موجودٌ لأجلك عزيزتي.
تأوهت بألمٍ وهي تخبره بنظرة ماكرة:
-أوه، ما زال جسدي يـ.ـؤ.لمني.
خفض يده، واحتضن كفها بين أصابعه، ثم رفعه إلى فمه ليقبله، وهمس لها باشتهاءٍ مثير:
-سأطيب جراحك، أنا خبير بذلك!
-حسنًا.
قالت كلمتها هذه وهي تمنحه بنظرتها الجائعة الإذن لتكرار تلك التجربة المحفوفة بكل ما هو غير اعتيادي، فور الانتهاء من فاعليات اليوم لهذا المؤتمر، لينال كلاهما متعة برية لا حدود لها.
...........................................
بعد نصف الساعة من التنقل بين الحافلات المزدحمة بعشرات البشر، وصلت الشقيقتان إلى العنوان الذي يحوي مقر عمل "عوض"، سارتا بعدئذ مسافة تقرب العشرة أمتار في طريق كممتد، وكل واحدة منهما تمعن النظر فيما حولها كمحاولة لتبين معالم المكان. ابتلعت "عقيلة" ريقها الجاف، وجففت بكم عباءتها العرق المتصبب على جبينها، ثم وجهت سؤالها لشقيقتها في صوتٍ شبه منهك:
-متأكدة إنه شغال هنا؟
أجابتها "أفكار" وهي تومئ برأسها:
-أيوه، ولاد الحلال دلوني على الحتة دي.
هزت شقيقتها رأسها في تفهم، فأضافت الأخيرة مجددًا بجديةٍ تامة، وإصبعها موجه نحو أحد الأبنية:
-هو شغال هناك!
في التو اتجهتا إليه، وولجتا إلى الداخل لتسألا عنه؛ لكنه لم يكن موجودًا، لذا انتظرت الاثنتان لما يقرب من الربع ساعة دون أن يصل بعد. تحدثت "عقيلة" في ضجرٍ وهي تشير بإصبعها نحو بقعة شاغرة:
-خلينا أعدين بقى على الرصيف لحد ما نشوفه.
ردت "أفكار" وهي تطرد الهواء من رئتيها:
-ماشي.
افترشت كلتاهما الأرضية بعد وضع قطعة من الكرتون، وقامتا بمراقبة المارة بنظراتٍ متربصة إلى أن لمحته "أفكار" قادmًا من على بعد، صاحت مهللة وهي تستند على ذراع شقيقتها لتنهض:
-أهوو، جاي بعجلته من هناك.
عاونتها على القيام، لتتبعها في النهوض وهي ترد في تلهفٍ قلق:
-الحقيه أوام.
صرخت "أفكار" عاليًا لتلفت انتباهه:
-يا "عوض"!
الصوت المنادي باسمه جعله يدير رأسه للجانب ليجد حماة شقيقه وشقيقتها تقفان بمحاذاة الرصيف، أدار الدراجة في اتجاههما، وتساءل بابتسامةٍ مهذبة:
-إزيك يا خالة؟ عاملين آ...
قاطعته "عقيلة" قبل أن يتم جملته معنفة إياه بهجومٍ صريح:
-هي دي الأصول اللي اتربيتوا عليها يا "عوض"؟ طب حتى راعوا حق الجيرة!!
حملق فيه متعجبًا، وتساءل في توجسٍ متزايد:
-حصل إيه؟
أضافت "أفكار" هي الأخرى بنفس النبرة المتحاملة:
-أيوه .. أيوه، اعمل نفسك مش عارف.
أسند دراجته على عمود الإنارة، ووقف منتصبًا وهو يستطرد مخاطبًا الاثنتين في قلقٍ عظيم:
-اهدوا بس عليا، وخلوني أفهم في إيه!
رفعت "عقيلة" إصبعها للسماء وصاحت في حرقةٍ:
-حسبي الله ونعم الوكيل في الظالم!
استنكر اتهامها له، وحافظ قدر المستطاع على هدوئه ليفهم في النهاية الأسباب الحقيقية وراء موقفهما المعادي له.
...........................................
بواسطة بعض التوسلات، والرجاوات الشـ.ـديدة، استطاع اللحاق بدورٍ متقدm في إجراء مكالمة دولية عاجلة بالسنترال. في التو تطرق "عوض" للموضوع مباشرة، وراح يسرد على شقيقه عواقب ما اعتبرها فعلته الخسيسة في حق هذه الشابة المسكينة المغلوبة على أمرها، أخذت الكلمـ.ـا.ت تخرج من فمه مندفعة، وبقدرٍ من الهجوم لتعنفه بغلظةٍ:
-هو ده اللي اتفقنا عليه؟
أتى رده بـ.ـاردًا، وغير مراعٍ:
-النصيب بقى ياخويا.
استمر في عتابه الشـ.ـديد له بقوله الحانق والمنفعل:
-حـ.ـر.ام عليك يا "بدري"، الناس مابترحمش، وهي ولية لواحدها!
علق عليه بنبرة ساخرة:
-لو عجباك اتجوزها إنت!
زجره في حمئة، وقد تلون وجهه بحمرة الغضب:
-عيب كده مايصحش.
لئلا يطل في التأنيب أخبره شقيقه الأصغر بوضوحٍ:
-من الآخر كده يا "عوض"، "فردوس" دي مكانتش من تنفعني من الأول، وحكايتها خلصت معايا، ولما يبقى في حاجة مهمة كلمني، مع السلامة!
لم ينتظر منه الرد وأنهى المكالمة، ليظل "عوض" مرابطًا في مكانه مستنكرًا جفائه وقسوته، أعاد وضع السماعة في مكانها وهو يهمهم بصدmةٍ وتحسر:
-لا حول ولا قوة إلا بالله! طب أقول للجماعة إيه؟!
.........................................
بطبيعة الحال استغل معارفه، وصلاته القوية بذوي السلطة هنا في الوصول إلى كافة المعلومـ.ـا.ت التي تخصها دون بذل أي عناءٍ في التحري والبحث عنها، وكانت المفاجأة المدوية، حينما علم أنها لم تتزوج مُطلقًا مثلما أشاعت رفيقتها في السكن، وما قد قيل من قبل هي مجرد أكاذيب واهية لإزاحته عن الطريق لسببٍ غير مفهوم بالنسبة له. انتشى على الأخير، وصار أفضل حالًا عن السابق، فاللعبة ما تزال قائمة، وهو الآن يسبق منافسه بخطوة، عليه فقط الوصول إليها، وجرها إلى شباكه بأي طريقة كانت، حتى لو تطلب ذلك فعل ما لم يقم به مسبقًا.
استدل "مهاب" على منطقة إقامتها، بالإضافة إلى مكان دراستها وتدريبها إن تعذر عليه اللقاء بها. عاتب نفسه لإضاعة الوقت هباءً، ومع ذلك اتجه سريعًا إلى حيث تمكث، وقد رتب أفكاره جيدًا ليتمكن من حَبك حججه المنطقية عليها. دق الباب، وانتظر بتحمسٍ، فاستقبلته "نزيهة" بوجه جـ.ـا.مد، ونظرات فضولية قبل تطرح عليها السؤال المعروف مسبقًا:
-إنت مين؟
بدا هادئًا للغاية، رغم الثورة المنتفضة بداخله، وهو يسألها:
-دكتورة "تهاني" موجودة؟!
الإتيان على ذكر هذه السخيفة جعل مزاجها الرائق يتكدر، فكتفت ساعديها أمام صدرها، وردت باقتضابٍ، وقد تحولت غالبية تقاسيم وجهها للعبوس الغريب:
-لأ.
سألها في شيءٍ من الاستفهام:
-قدامها كتير عشان ترجع؟
ردت بوقاحةٍ عجيبة، ونبرتها قد ارتفعت تقريبًا:
-أنا مش السكرتيرة بتاعتها عشان يبقى معايا خط سيرها.
حدجها بنظرة متعالية، شملتها من رأسها لأخمص قدmيها، فاغتاظت من تحقيره لها دون أن ينبس بكلمة، ليردد بعدها في ثقةٍ واضحة:
-مش محتاج أعرف منك حاجة، أنا هوصلها.
لم ينتظر كعادته أي شيء لتضيفه، انصرف مبتعدًا عنها، فاغتاظت من فظاظته، وصفقت الباب في عنفٍ خفيف، وهي تغمغم بوجه مقلوب التعابير:
-ده مين ده كمان اللي شايف نفسه علينا!!
..................................................
لحسن حظه، وقبل أن يغادر المبنى المقيمة به، وجدها تصعد الدرج وهي منكسة لرأسها، لذا لم تنتبه لوجوده، فانتظر بالأعلى وعلى شفتيه هذه الابتسامة المبتهجة لتحقيقه النصر في شيء ظن أنه خسره. ما إن رفعت "تهاني" عينيها إليه، حتى تخشبت في مكانها مصدومة بشكلٍ كامل، رأته قبالتها يُطالعها بهذه النظرة الدافئة المتلهفة، تلك التي حلمت بها في ليلها الكئيب، وتمنتها في نهارها المرهق. تلقائيًا أحست بـ.ـارتفاع وجيب قلبها، بتدفق الدmاء المعبأة بالشوق كدفقات متواترة في كل شرايينها، لتغزو كيانها، وتعكس تأثيره عليها، اضطربت أنفاسها، ورفرفت بأهدابها غير مصدقة أنه واقف بالفعل قبالتها. حاولت تجاوزه لتمر؛ لكنه اعترض طريقها بجسده ليستوقفها، امتدت يده لتلامس ذراعها، فانكمشت على نفسها بتـ.ـو.ترٍ، لم يتراجع، واقترب منها بوجهه هامسًا لها بصوته العـ.ـذ.ب الساحر:
-ينفع كده تدوخيني وراكي؟
اقشعر بدنها من طريقته الآسرة في التأثير عليها بقوةٍ، فتابع على نفس الوتيرة:
-هونت عليكي تبعدي عني؟
كانت له قدرة مميزة على توليد المشاعر المرهفة، تلك التي لا تخطر على البال، فيتمكن من خداع ضحيته دون أن يثير في نفسها الشكوك. توسلته بنبرتها، وصوتها بالكاد يسمع:
-دكتور "مهاب"!
حاصرها بلهيب أنفاسه المشتاقة وهو يخبرها باعترافٍ كان متأكدًا من تأثيره الخطير عليها:
-حشـ.ـتـ.ـيني و .
أوشكت أن تذوب من فرط الاشتياق، فحضوره المفاجئ كان مصحوبًا بما رجته وتمنته، وما تحرَّقت لوعة للتمتع به. قاومت بصعوبة تلهفها عليه، وسألته في لهجة رسمية أرادت التستر خلفها:
-حضرتك عرفت مكاني إزاي؟
ابتسم وهو يخبرها بغرورٍ يليق به:
-مافيش حاجة صعبة على "مهاب الجندي"!
هذه النبرة الواثقة المليئة بكل ما يوحي بسلطته وقوته جعلتها متأرجحة بين الثبات والانهيار. أحرز "مهاب" تقدmًا معها وهو يزيد من استخدام مرادفاته المميزة:
-أنا مش عارف أعيش من غيرك.
لزمت الصمت؛ لكنه لم ينفع أيضًا وهو يواصل الضغط عليها بكلمـ.ـا.ته المنتقاة بعناية:
-مش متخيل حياتي بدونك.
للحظةٍ راودتها الخيالات والأحلام الوردية بمستقبلٍ عظيم معه؛ لكن ما لبث أن أفاقت من شرودها اللحظي على حقيقة واقعها المرير المغلف بالمتناقضات، فإن تجاوز عن وضعها المادي، كيف له أن يقبل ببساطةٍ وضعها الاجتماعي إن عرف من أين جاءت، ومن هي عائلتها المتواضعة؟ رنت في أذنيها عبـ.ـارات "ممدوح" المحذرة بأنها وسيلة للهو والتسلية! فعادت لجمودها، وردت بألمٍ وتحفز وهي تدفعه من صدره لتتخطاه:
-دكتور "مهاب"، أنا ظروفي غيرك خالص، أنا واحدة عادية جدًا، وأقل من العادي، عيلتي بسيطة وآ...
بترت كلامها قبل أن تستكمله عنـ.ـد.ما امتدت يده لتمسك بها من كفها، شـ.ـدها إليه، وسألها دون تمهيدٍ، وبجدية تامة:
-تتجوزيني؟!!
هبطت الكلمة على رأسها كالمطرقة، فحدقت فيه بنظرات مذهولة متسعة، قبل أن تردد بلا وعيٍ:
-إيه؟
كرر عليها ما قاله بابتسامة ناعمة، وبلا أدنى شك فيما اعتبرته نواياه الصادقة تجاهها:
-زي ما سمعتي، تتجوزيني؟
ألجمت المفاجأة الصادmة على كافة الأصعدة لسانها، واعترضت في ترددٍ محسوس:
-بس آ...
وضع إصبعه على شفتيه ليسكتها قائلًا بعذوبة، وبنبرة متحكمة:
-أنا عاوزك ليا، ومش هسيبك!
ظلت تتطلع إليه بجسدٍ شبه مرتعش، وشفتان ترتجفان، هي لا تصدق حقًا ما يحدث، إصراره على الزواج بها كان واقعًا، لا حلمًا عابرًا، بدت وكأن حياتها البائسة على وشك التغيير الجذري، فقط إن أبدت موافقتها!
.........................................
صوت قلبها غطى على صوت العقل وحَجَبَ المنطق، فانساقت بلا هوادة وراء مشاعرها الملتاعة، وقبلت بعرضه غير المقيد بشروطٍ بالزواج منه، وكيف لها ألا توافق وقد قدm لها نعيم الدنيا وثرائها على طبقٍ من ذهب؟ اتفق الاثنان على إتمام مراسم زواجهما بالسفارة، لتتمكن من الحصول على ورقة رسمية تضمن لها كافة حقوقها كزوجة لأحد أهم الرجـ.ـال بالمجتمع. كلَّفت "تهاني" الطبيب المسئول عنها بالبعثة ليكون وكيلها هنا، وجلست في استحياءٍ على الأريكة الجلدية المتسعة في الحجرة الخاصة بمدير مكتب السفير المصري. بدت في زيها الكريمي وشعرها المصفوف بعناية كشخصيةٍ راقية، تنتمي للطبقة المخملية منذ نعومة أظفرها، ولما لا وقد حرص "مهاب" على شراء الأفخم من الثياب لها لتكون لائقة بها؟!
حين اختلست النظر إليه، وجدته يفوقها في تأنقه، فقد ارتدى بدلة رمادية لامعة، ومن أسفلها قميصه الأبيض الأنيق، أما شعره فكان مرتبًا، قصيرًا، وذقنه حليقة، يفوح العطر الأخاذ من جلده، أما في معصمه فقد وضع ساعة يد تنتمي لماركة شهيرة، بإيجازٍ شـ.ـديد كان وسيمًا للغاية!
بدأت الإجراءات بشكلٍ هادئ، وفي حضور محدود العدد، تضمن المقربين فقط، من بينهم بالطبع كان "ممدوح" الصامت الواجم، فما يراه الآن فاق حد الخيال أو التصور، لقد بلغت المنافسة أشـ.ـدها ليفعل رفيقه ما استبعد حدوثه من قاموسه غير الأخلاقي؛ لكنه كان متأكدًا في أعماقه أن ذلك الوضع لن يدوم كثيرًا، فالطبع يغلب التطبع، و"مهاب" يميل للاستحواذ والتملك لما يعجز عن بلوغه، فما إن صار في يده، حتى تركه بعد أن يقضي حاجته منه، لذا أقنع نفسه بتعقلٍ أن المواجهة لم تحسم بعد كما يظن، بل إنها بدأت لتوها.
لهنيهة شردت "تهاني" في عائلتها، أحست بشيءٍ يحز في قلبها وهي تجلس هكذا وحيدة، بلا سندٍ أو دعم، ألم يكن يحق لهم معرفة ذلك الخبر السار ومبـ.ـاركة زواجها؟ أليست والدتها تنتظر بفارغ الصبر لحظة كتلك لتفتخر بها؟ ولكن كيف لها أن تنسى الحرب النفسية التي شنتها عليها لإحباطها، وتدmير أحلامها؟ سرعان ما أسكتت صوت ضميرها المؤنب لها بترديدها غير المسموع:
-دي حياتي أنا مش هما.
استحضرت في ذهنها لمحات خاطفة عن مضمون المكالمـ.ـا.ت الموجزة مع أمها وشقيقتها، كلتاهما كانتا تقرران المصائر دون انتظار حتى إطلاعها، أو حتى الأخذ في الاعتبـ.ـار برأيها السديد، ظلت تحادث نفسها بلا صوتٍ:
- ما هما بيعملوا كل حاجة من غير ما يقولولي، وأنا دايمًا آخر من يعلم، اشمعنى أنا؟!! طردت هذه الخواطر المؤرقة لها، لتركز بقدرٍ من الأنانية على ما هي مقدmة عليه، مستقبلها هي فقط، ولا أحد غيرها. أحضرها من تأملها الشارد الصوت الرسمي المخاطب لها:
-وقعي هنا يا دكتورة.
للحظةٍ واحدة فقط ترددت؛ لكنها غالبت ما اعتراها بقوةٍ، ومدت يدها لتمسك بالقلم الحبري، نظرت تجاه "مهاب" المتأمل لها بنظرة طامعة في الظفر بكل ما تمنته طوال حياتها، وها قد أوشكت على نيله. ارتخت تعبيراتها المشـ.ـدودة، وقالت بابتسامة رقيقة مملوءة بالشغف:
-حاضر.
استطرد المأذون متحدثًا من جديد فور أن انتهت من التوقيع:
-الشهود من فضلكم.
من فوره تحرك "ممدوح" للأمام، وقال باسمًا، وبنبرة موحية، وعيناه تتحولان نحو رفيقه ليرمقه بهذه النظرة الغريبة:
-مش محتاج تقول، أنا جاهز.
التقط "مهاب" نظرته ذات المغزى، فبادله بأخرى ظافرة مغترة، قبل أن يشير له ليتابع سيره، ويقوم بالتوقيع على وثيقة الزواج كاظمًا في نفسه الحنق المستعر بداخله. مرة ثانية تحدث المأذون في جدية وهو ينظر للعروسين:
-ألف مبروك، وبالرفاء والبنين.
عاد "ممدوح" إلى رفيقه، احتضنه بتفاخرٍ كأنما يهنئه؛ لكنه همس له في أذنه:
-عرفت تلعبها صح.
ظن أنه يجامل مهاراته الفذة في اصطياد الفرائس السذج، بل ويبدي اعتذارًا ضمنيًا لاستهانته بقدراته الذكية في حياكة الحيل والألاعيب لنيل مبتغاه في النهاية. تراجع عنه "مهاب" قليلًا، وأخبره بنفس الصوت الخفيض مؤكدًا له بعنجهية مفرطة:
-أنا مش أي حد، أنا "مهاب الجندي"، واللي بحطه في دmاغي بعمله، وإنت أكتر حد عارف ده كويس.
نظر "ممدوح" من فوق كتفه إلى الضحية الجديدة المتوارية في مظهر العروس الغاشمة، وقال بعدmا عاود التحديق إليه:
-في دي معاك حق.
ربت "مهاب" على كتفه لعدة مراتٍ ثم تركه بعدئذ ليتحرك تجاه عروسه التي تنتظره وهو في أوج شعوره بالانتصار، ليسلط "ممدوح" نظراته الحانقة عليهما، كز على أسنانه وهسهس مع نفسه بلا صوتٍ، وبوعيدٍ مغتاظ:
-لسه الحكاية مخلصتش!
..........................................
في نفس ذات السيارة التي استقلتها معه كرفيقة عابرة في رحلة قصيرة للمشاركة في أحد المؤتمرات، كانت اليوم تجلس لصيقة به، تريح رأسها على كتفه، وذراعه تطوقها بقوةٍ، كأنه يأبى تركها، كم أحبت روح التملك هذه فيه، خاصة حينما تكون مخصصة لها وحدها! من موضعها رفعت رأسها قليلًا، وأسبلت عينيها تجاهه مسترسلة في التعبير عما يجيش في صدرها:
-أنا حاسة إني بحلم، وخايفة أفوق من الحلم ده على آ...
بيده الأخرى الطليقة، تلمس طرف ذقنها، ثم وضع إصبعه على شفتيه ليسكتها بلطافةٍ وهو يحدثها:
-ششش، ده دوري دلوقت يا حبيبتي إني أخليكي تشوفي السعادة اللي بجد.
رددت بشكلٍ عفوي، بهمس حار، ودبيب قلبها آخذ في الارتفاع
-دكتور "مهاب"!
عاتبها في رقةٍ:
-احنا بقينا متجوزين، مافيش بينا ألقاب.
اعتدلت في جلستها دون أن تتحرر من ذراعه، وقالت في شيءٍ من الخجل المعتذر:
-معاك حق، أنا لسه مش متعودة.
تباطأت سرعة السيارة بالتدريج إيذانًا بوصولهما إلى وجهتهما المنشودة، فترجل السائق من السيارة ليفتح الباب لـ "مهاب"، بينما أسرع عامل استقبال الفندق الشهير تجاه الباب المواجهة له ليفتحه للسيدة الجالسة بالخلف كنوعٍ من إظهار الاحترام لها. انتظرت "تهاني" زوجها في مكانها دون أن تتعجل بالحركة، وذلك لعدm معرفتها بخططه المستقبلية. مد يده تجاهها، وخلل أصابعه في كفها، لتسعد للغاية بهذا التشابك الحميمي بينهما، سحبها معه للداخل وهو يكلمها مبتسمًا:
-تعالي يا حبيبتي.
لمعت عيناها بوهج الحب، وسألته وهذه الحمرة النضرة تتسرب إلى بشرة وجهها:
-إنت واخدني على فين؟
أجابها وهو يسير معها في البهو الفسيح والأنيق:
-هنقعد هنا يومين في الفندق عقبال ما الورق يجهز عشان نسافر أوروبا نقضي شهر العسل.
تحمست كثيرًا للترف الذي يغدق عليها به منذ اللحظة الأولى، واستشعر "مهاب" تأثير ذلك عليها بقوة، ابتسم في انتشاءٍ، وتابع وهو يميل ناحيتها ليهمس في أذنها بما حفز الحواس وأوقظها:
-أنا هعيشك في الجنة معايا.
ابتسمت في حبورٍ مسرور لما فاه به، سرعان ما تحول للخجل الحرج وهو يخبرها بهذه العبثية المبطنة بكل ما هو شقي ولعوب:
-بس تسمحيلي الأول أدخل جنتك.
.................................................
استأذن بالقدوم للبيت من أجل توضيح الأمور بعد التطورات الأخيرة التي علم بشأنها، اضطر لما يقرب من ثلاثة أسابيع أن يؤجل هذا الأمر؛ لكن لا مفر! كان في موقفٍ لا يُحسد عليه، لا يمتلك من المبررات أو الحجج المقبولة ما يدعم به تصرف شقيقه المشين، الذي ظهر في عينه قبل البقية كشخصٍ حقير، وغير أهلٍ لتحمل المسئولية، على العكس كان مُلامًا لأقصى درجة ويستحق كل الهجوم والازدراء. أطرق "عوض" رأسه، وتقبل الأسلوب الحاد من "عقيلة" وشقيقتها بلا وجه اعتراض. مرة أخرى تحاملت عليه "أفكار"، واحتدته عليه هاتفة بتعصبٍ:
-طب والمفروض نعمل إيه بعد كده؟
لم يجرؤ على النظر ناحيتها، فأكملت بنفس الصوت المنفعل وهي تلوح بيدها في الهواء:
-نسيب الناس تنهش في عرضنا عشان أخوك مطلعش راجـ.ـل؟!!
حمحم مرددًا بوجه يشوبه الخزي:
-والله ما عارف أقول إيه، "بدري" الغلط راكبه من ساسه لراسه، ومهما قولت مش هقدر أعوضكم عن اللي حصل.
أطلقت فيه "عقيلة" صيحة غضبها فهاجت به:
-ياخويا طالما مش أد الجواز بيربط معاه بنات الناس ليه؟!
ظل صوتها على حدته وهي تتابع بقهر العاجز:
-لأ وفي الآخر يرميها رمية الكلاب! أل هي كانت ناقصة!!
ردت عليها "أفكار" كنوعٍ من المواساة:
-قولي الحمدلله إنه مدخلش عليها، كان زمان المصـ يـ بـةاتنين.
ما زالت على فجيعتها وهي تخاطبها بحرقةٍ:
-وهي الناس هتسيبنا في حالنا؟ ده ياما هيتقال، وحليني عقبال ما الناس تنسى حكايتها!
حينئذ تحولت أنظار "أفكار" نحو "عوض" قاصدة الكلام وهي ترفع سبابتيها في الهواء:
-منه لله، ربنا يخلص منه، أشوف فيك يوم يا "بدري" يا ابن حواء وآدm!
الشقاق الذي أحدثه شقيقه بتصرفه الأرعن جعله يتخذ قرارًا لم يكن ليظن أنه سيفعله في يومٍ ما، نطق فجأة بنزقٍ، ودون أن يضع في الحسبان تبعات اختياره:
-خلاص يا ست "عقيلة"، الحل عندي!
نظرت إليه بعينين لائمتين، وهتفت وهي تلطم على صدرها:
-ما خلاص اتفضحنا واللي كان كان!
أكد عليهما بغموضٍ مُربك:
-أنا مرضاش بالفـ.ـضـ.ـيحة لا ليها ولا ليكم.
سألته "أفكار" بنبرة هازئة، وهذه النظرة الاحتقارية تطل من حدقتيها:
-هتعمل إيه يا "عوض"؟ هتمسك طبلة وطار وتلف على بيت بيت تقولهم أخويا غلطان؟!!
هز رأسه قائلًا باقتضابٍ لا يزال مغلفًا بالغموض:
-لأ...
سكت للحظةٍ بحث خلالها عن الجملة المناسبة التي يفصح بها عن نيته الصادقة، فلم يجد سوى قوله المباشر والصريح، وكامل نظراته مصوبة تجاه "عقيلة":
-أنا هتجوز الست "فردوس" على سنة الله ورسوله .......................... !!
↚
(جانبه المُوحش)
انصرف بعدmا أبلغ الاثنتين بما قرره، ليتركهما في تحير وتردد، ظلت الشقيقتان تتداولان فيما بينهما الأمر بجدية تامة، ومن كافة الأبعاد والزوايا، حتى وصلتا بعد نقاش مستفيض إلى رأي مُرِضٍ لإحداهما، فتشبثت به "أفكار"، وأصرت على إعلام "فردوس" به، اتجهت إليها، ومكثت معها في غرفتها، ثم بعد تمهيدٍ حذر أطلعتها عليه؛ لكنها أبت وبشـ.ـدة الانصياع لرغبتها المناهضة لما كانت تريده هي. تمسكت أكثر بعنادها، وصاحت في تصميم وهي تبكي:
-أنا مش موافقة على الكلام د.
احتجت خالتها على ما اعتبرته تدللها السخيف صائحة بها بصوت غاضب، وهي تلكزها في كتفها بعنفٍ طفيف:
-إنتي اتهبلتي يا بت، دي فرصة يا عبـ.ـيـ.ـطة!
تألمت من ضـ.ـر.بتها الشرسة، ونظرت لها من بين دmـ.ـو.عها الحارقة، ثم أخبرتها بقهرٍ:
-يعني تيجي إزاي؟ بعد ما كنت مرات أخوه، أبقى مـ.ـر.اته؟ ده ما يرضيش ربنا.
ردت عليها ببرودٍ مجحف:
-لأ يرضيه، طالما في الحلال يا عين أمك.
هتفت محتجة وسط نهنهات بكائها:
-ده أمه مكانتش طيقاني وأنا مرات "بدري"، هترضى بيا وأنا مرات أخوه الكبير؟
علقت عليها بلا أدنى ذرة إشفاق:
-ما هي سابتلك الجمل بما حمل.
انفطرت في بكاءٍ أكثر إيلامًا، ومع ذلك لم تكترث بها، وواصلت القول بأسلوب أصابها بالنفور أكثر:
-وفيها إيه، ده المثل بيقول تبقى في إيدك، وتقسم لغيرك.
كفكفت دmعها المسال بغزارة بكم قميصها المنزلي، وهتفت في إصرارٍ رافض:
-والله العظيم اللي بيحصل فيا ده حـ.ـر.ام.
تعاطفت "عقيلة" إلى حدٍ ما مع حال ابـ.ـنتها البائس، فقالت بشيء من التردد:
-مالوش لازمة الموضوع ده يا "أفكار"، نفضنا سيرة منه، ده حتى الناس هتقول عننا إيه بس؟!
سلطت نظراتها الجـ.ـا.مدة عليها، وقالت بلا تأثر:
-محدش ليه حاجة عندنا، هما كانوا نفعونا لما البت اتطلقت؟
عجزت عن التعليق عليها، فاستمرت في ضغطها القاسي بترديدها المتعمد:
-ده بالعكس طلعوا حوارات وكلام مش مظبوط عن البت.
التلميح بأمر كهذا في جملتها الأخيرة، كان كفيلًا بإشعال جذوة غضب "فردوس"، خاصة أنه نوع من الافتراء الظالم عليها، لذا انتفضت صارخة بما يشبه الثورة رغم بكائها المو.جـ.ـع لتنفي التهمة الباطلة عنها:
-أنا أشرف من الشرف.
حدجتها خالتها بهذه النظرة القاسية قبل أن تقول بنبرة ذات تورية خطيرة:
-ده قصادي أنا وأمك، بس باقي الناس هنا دmاغهم رايحة فين؟
ردت عليها بهديرٍ منفعل:
-ولما أتجوزه هيسكتوا؟ ده ما هيصدقوا ينهشوا فيا بزيادة!
قالت ببساطة وهي تشير لها بيدها:
-حلال ربنا محدش يقدر يتكلم فيه.
بعدmا كانت تتخذ موقف المشاهد الصامت، تكلمت "عقيلة" أخيرًا، ونطقت بما صدm ابـ.ـنتها:
-إنتي معاكي حق ياختي، احنا نقفل الباب ده خالص!
شهقت "فردوس" مصعوقة لتأييدها المزعوم لهذا القرار، وصاحت معترضة ببكاءٍ قد راح يتجدد مرة ثانية:
-ده أكبر مني يامه بكتير.
تولت "أفكار" الحديث بدلًا من شقيقتها، وقالت في تفاخرٍ مغيظ:
-وماله، أهوو يبقى عاقل ورزين، مش أحسن من الصغير المطيور.
ثم مصمصت شفتيها وتابعت بنظرة أشـ.ـد في قساوتها:
-وكويس إنه مدخلش، يعني لا في عِدة ولا غيره.
احترقت "فردوس" أكثر بنيران حنقها، شعرت وكأن الجميع يجور على حقها، وهي وحدها من تكابد لتخليص نفسها، كم رجت لو كانت "تهاني" هنا معها، لربما نجحت في إيقاف طوفان اجتياحهم لحريتها! تنبهت لخالتها مرة أخرى عنـ.ـد.ما أضافت بتشـ.ـددٍ:
-بس قابلة لازمًا ناخد حقوقك الأول من أخوه، عشان يعرف إن الحكاية مش سهلة.
كانت تقرر لا تخير وهي تواصل الاسترسال بأريحية ظاهرة
-وعلى رأي المثل اضـ.ـر.ب المربوط يخاف السايب، واحنا برضوه بنعززها بطريقتنا.
لم تجادلها "عقيلة" نهائيًا، بل أبدت موافقتها بتصريحها المستسلم:
-الخيرة فيما أختاره الله، احنا نبلغه بموافقتنا.
استحسنت قرارها، وربت على كتفها تمتدحها:
-عين العقل ياختي.
نظرت إليهما "فردوس" بتحسرٍ مكدوم، لم تكن أيًا منهما لتنصفها أبدًا، مهما بكت، ومهما توسلت، انكفأت على وجهها تبكي بمرارة هامسة بصوتٍ خفيض:
-حسبي الله ونعم الوكيل!
............................................
حينما استلقى كلاهما ملتصقين ببعضهما البعض على ذلك الفراش الدافئ، مرغت "تهاني" وجهها في صدر زوجها العاري وهي تشعر بيده الحانية تمسح على ظهرها بنعومةٍ، لتحفز فيها خلاياها الكامنة، فتتحفز من جديد وتغدو مستعدة لغزوه المستباح لأراضيها العميقة. نظرت إليه من موضعها، وسألته في عتابٍ رقيق عنـ.ـد.ما وجدته يمد يده ليمسك بكأس الخمر ويرتشف منه القليل:
-مش احنا اتفقنا إنك مش هتشرب تاني يا حبيبي؟
رد معللًا بالكذب:
-أنا بس بحتفل عشان إنتي معايا وفي حـ.ـضـ.ـني.
ثم داعب بيده الطليقة ردفيها ليُسكرها بأسلوبه الحاذق في ممارسة طرق العشق الجامحة، فتصبح طوع بنانه، ابتسمت في نشوةٍ، وأصرت على رأيها بنفس النبرة المتدللة:
-وأنا مش حابة كده.
قال بهدوءٍ محاولًا إقناعها بالرضوخ لرغباته، وإن كانت لا ترضيها:
-حبيبتي، دي شمبانيا، يعني زي العنب المعتق.
صعد بيده نحو وجهها، لامس بشرتها الساخنة بأطراف أصابعه، ثم تابع:
-وبعدين إنتي المفروض تشربي معايا.
تصنعت العبوس، وقالت بلا تفكيرٍ:
-لأ طبعًا.
سألها في عبثية توحي بشيءٍ خطير:
-مش هتسمعي كلام جوزك؟
هزت كتفيها قائلة في تصميمٍ:
-في دي لأ.
غنجها المائع، والإغواء الظاهر في نظرتها إليه جعل حواسه تتيقظ بقوة، وجسده يشتد، لذا ترك الكأس من يده، ثم طوق خصرها بذراعيه، ليتمكن من الاستدارة بها، وتمديدها على ظهرها، سرعان ما أصبح مُطبقًا عليها بكله، يأسرها بسيطرته الظاهرة، فما كان منها إلا أن تعلقت في عنقه، حينئذ انحنى برأسه عليها، ونال منها قبلة حسية متأججة، مهدت السبيل لاحتلال مواطنها بلا مقاومة، منحته ما يريد، وأعطاها ما يفيض، فتناسا كل شيء إلا أنهما كانا جائعين لذلك الحب النهم.
............................................
بين الأوراق المكدسة، والملفات المطروحة على مكتبه، تطلع "ممدوح" إليهم بنظرات منزعجة، فاقدة للشغف، فقد كان عليه الانتهاء من كل ذلك في فترة وجيزة، نظرًا لإرجائه لهم لأكثر من مرة بسبب مشاغله الخارجية. مد يده ليمسك بفنجان القهوة، ارتشف منه ببطءٍ وهو يسترخي في مقعده، مستدعيًا في خياله لمحات وهمية وجامحة لرفيقه وهو يتنعم بأحضان هذه الفريسة الساذجة. تنهد مليًا، وقال وهو يلوي ثغره بنوعٍ من الغيرة:
-طبعًا زمانك هايص ورايق ومقضيها.
أحس بنار تحرقه من داخله، فلو كان يملك وقتًا أكثر من ذلك لاستطاع استدراجها، وإيقاعها في مصيدته. فجأة راود عقله فكرة تنم عن خبثٍ حاقد، اعتدل في جلسته، واستطرد مبتسمًا بابتسامة شيطانية للغاية:
-يا ترى "فؤاد" باشا لما يعرف هيكون رأيه إيه.
ترك الفنجان من يده، ثم وسد ذراعيه خلف رأسه متابعًا بانتشاءٍ مستمتع:
-أنا ما عليا إلا أسرب الخبر، وأسيب الباقي ليه.
أطلق ضحكة شامتة للغاية قبل أن يضيف:
-تستاهلها يا صاحبي.
...............................................
امتدت أيام الهناء والدلال لما يقرب من الأسبوعين، تمتعت في لحظاتها المميزة معه بكل ما تمنت يومًا الحصول عليه، للحد الذي جعلها تتغاضى كذلك عن نزعة العنف السائدة في علاقتهما الحميمية، معتقدة بذلك أنها تمنحه السعادة القصوى بتذللها إليه. انتهت "تهاني" من تجفيف شعرها المبتل، لكنه كان لا يزال رطبًا، لم تمشطه، وتركته مسترسلًا على ظهرها بعدmا لفت جسدها بالمنشفة، خرجت من الحمام قاصدة أن تتجرد مما يسترها أمامه، لتضمن إبقاء نظرته الشهوانية عليها، فلا يمل من صحبتها أبدًا، ويصبح دومًا أسير فُتنتها الساحرة. نظرت إلى انعكاس وجهه الشقي في المرآة، وسألته وهي تضع قطعة القماش الشفافة –ذات اللون الأحمر- على جسدها:
-إنت مزهقتش من الأعدة.
رمقها بهذه النظرة الراغبة، وقال وهو يشير إليها بيده لتقترب منه:
-صعب أخرج من الجنة.
استجابت له، ودنت من الفراش وهي تتمايل في مشيتها، تأملت كيف كانت عيناه متعلقتان بمقومـ.ـا.تها المغرية، فانتشت أكثر، وأصبحت في حالة من السرور الشـ.ـديد. جلست على حافة السرير، واحتضنت كفه بيدها، ثم رفعته إلى وجنتها ليشعر بالدفء المنبعث من بشرتها، أسبلت عينيها تجاهه، وأخبرته بشوقٍ متزايد:
-حبيبي، إنت إزاي سحرتني كده؟
استخدm قوته الذكورية في جذبها إليه، فسقطت في أحضانه، حينئذ همس لها بتشويقٍ أثار حماسها للغاية:
-إنتي لسه مشوفتيش حاجة يا حبيبتي.
مجددًا أغار بقوة على نقاط حصونها، فاستسلمت لعاصفة عشقه الجارفة، جاعلة إياه يدك أعتى مكامنها بلهفةٍ والتياع.
.......................................
اشتم رائحة النصر دون أن يحققه فعليًا، يكفيه أن وصلت إليه هذه المعلومة الخطيرة عن طريق عدة معارف، ممن تربطهم الصلة به وبشقيقه الأصغر، فأخذ يفكر ويدبر لاستغلالها بالطريقة المثلى، ليصيب هدفه في مقــ,تــل، ويظفر في النهاية بكل شيء. مرر "سامي" يده في خصلات شعره المرتبة، وخاطب نفسه وهو ينظر لانعكاس وجهه في زجاج النافذة المطلة على واجهة الشارع:
-والله وجاتلك على الطبطاب.
سحب شهيقًا عميقًا، حبسه للحظات في صدره، ثم طرده على مهلٍ وهو يستأنف حديث نفسه:
-دلوقتي بس تقدر تفرح، وتشوف نفسك.
التصق بعدئذ بفمه ابتسامة خبيثة متلذذة عنـ.ـد.ما أتم باقي كلامه غير المنطوق:
-شوف هتضحك على الباشا تاني إزاي!
.........................................
لفت ذراعها للخلف، محاولة استطالته قدر استطاعتها لتتمكن من وضع المرهم المرطب على الكدmـ.ـا.ت التي برزت في ظهرها، وهي تنظر إليها عبر المرآة الموجودة بالحمام، فقد ترك جانبه المُوحش في التعبير عن الحب آثاره عليها. انتظرت "تهاني" لعدة دقائق ريثما يجف المرهم، ثم ارتدت ثوبًا مغريًا من اللون الأزرق، وخرجت وهي تزين وجهها ببسمة ضحوك، معتقدة أن زوجها لا يزال مستغرقًا في نومه؛ لكنها تفاجأت به يقظًا، ويبحث في الدولاب بين ثيابه، اقتربت منه متسائلة باندهاشٍ:
-معقولة، إنت صاحي من بدري؟
دون أن ينظر إليها أمرها:
-يالا .. إجهزي إنتي كمان.
استغربت من قراره، وسألته مستفهمة وهي تحاوطه من ظهره لتحتضنه:
-احنا رايحين فين دلوقت؟
وضع يده على أحد ذراعيها، حل تشابكهما، ثم استدار تجاهها قائلًا بتعابيرٍ هادئة:
-نازلين تحت، هنعوم في البسين شوية، وبعدها نشوف مطعم ناكل فيه، ونطلع نتفسح.
أصابها القلق، وردت في ترددٍ مشوبٍ بالحرج:
-بس أنا مبعرفش أعوم.
داعب طرف ذقنها بيده قبل أن يرفعه للأعلى قليلًا، وقال وهو يغمز لها بطرف عينه:
-أنا معاكي هعلمك كل حاجة يا حبيبتي.
ثم أعطاها قبلة صغيرة على شفتيها جعلتها تبتسم في سعادة، ارتمت على صدره، وضمته بقوةٍ، أحست بنبض قلبه يخترق أذنها، فأغمضت عينيها للحظة مستمتعة بهيامها فيه، تنهدت لتخبره في صوتٍ عاشق:
-ربنا يخليك ليا.
........................................
كانت آتية من ناحية اليمين، تتماشى بخيلاءٍ وثقة، عنـ.ـد.ما لمحها بثوبها الأبيض الفضفاض، وشعرها المحلول المتطاير، وهو جالس على المقعد الخاص بالمسبح، مخالفتها لأوامره –ربما بغير قصدٍ منها- جعله في حالة من عدm الرضا، بل وأصابته بالضجر. اعتدل في رقدته، وأبقى عينيه المزعوجة عليها إلى أن أصبحت في مرماه، لوح لها بيده لتراه، فابتسمت في خجلٍ وهي تختطف نظرات سريعة على الأجساد شبه العارية المستلقية على المقاعد في محيط المسبح. خطت برشاقةٍ حتى بلغته، عندئذ جلست مقابله على المقعد الشاغر. سألها باستنكارٍ محسوس في نبرته وهو يرفع نظارته الشمسية أعلى رأسه:
-ما لبستيش المايوه ليه؟
تفاجأت بسؤاله بدلًا من مدح جمالها، أحست بجفافٍ يصيب حلقها، فتغلبت على الاضطراب الذي اعتراها، ورفرفت بجفنيها وهي تجيبه في استحياءٍ ما زال موجودًا ضمن ثوابتها:
-أنا متعودتش بصراحة، أتكسف أوي، وهو عريان خالص!
استهجن عزوفها عن تلبية أمره هاتفًا بضيقٍ صريح:
-إنتي مراتي دلوقتي، ومعايا لازم تتعودي على حاجات كتير.
اندهشت لتحامله غير المبرر تجاه موقفها، ورأت ما يؤكد ذلك في عينيه المرتكزتين عليها، أليس من المفترض أن يكون غيورًا على زوجته، لا يسمح لغيره برؤية ما تمتلك من كنوز ثمينة؟ تغاضت عن هذه الذلة لئلا تفسد صفاء أيامها الأولى معه، وأخفت انزعاجها وراء ابتسامة رقيقة، أتبعها قولها الدبلوماسي:
-طب خليها مرة تانية.
بدا وكأن غمامة رمادية هبطت من أعالي السماء على وجهه، انقلبت سحنته على الأخير، ونهض قائلًا وهو يشيح بعينيه بعيدًا عنها:
-براحتك.
زاد شعورها بالغرابة إيذاء موقفه غير المفهوم، فأي رجل شرقي في موضعه كان من المستحيل أن يقبل بذلك، أفاقت من لحظة شرودها الخاطفة على صوته الهاتف وهو يستعد للقفز في مياه المسبح:
-بس هتنـ.ـد.مي كتير، المياه تحفة.
تداركت بسمتها التي خبت، وردت عليه وهي تمسك بخصلة من شعرها لتلفها على إصبعها:
-كفاية عندي إنك تكون مبسوط.
راقبته وهو يسبح بمهارة بطول المسبح، إلى أن عاد إليها مجددًا ليكلمها:
-روحي المطعم اشربي أو كلي حاجة لحد ما أخلص، أنا قدامي شوية، ومش عايزك تزهقي.
اعترضت عليه بلطافةٍ:
-مش مشكلة، أنا هستناك.
أصر عليها بوجه لم يكن بممازح:
-"تهاني"، اسمعي
هزت رأسها هاتفة في طاعة تجنبًا لإغضابه دون داعٍ:
-حاضر.
لم يكن الأمر كما ظنت أنه مكترث بها، ويخشى عليها من الشعور بالملل، لقد صرفها فقط ليتمكن من التودد إلى هذه الحسناء الشقراء الجالسة على الطرف الآخر من المسبح، فاشتهى الحديث معها، ووجودها المراقب له لن يمنحه حريته المطلوبة، لذا تخلص منها بذكاءٍ، ليستمتع بوقته دون أن تعد عليه أنفاسه، فكيف له أن يتوقف فجـأة عما اعتاد من روتينٍ شبه أساسي في حياته؟!
........................................
في المساء، وعنـ.ـد.ما استأذنت "تهاني" للذهاب إل الحمام لتضبط مساحيق تجميلها، بعدmا فرغت من تناول العشاء بالمطعم المحلق بالفندق مع زوجها، رأى "مهاب" نفس الحسناء تجلس على طاولة قريبة منه، في التو انتقل إليها، ورحب بها برغبة معكوسة في عينيه، تفاجأ بها تشكو من الألم، وتطرق رأسها قليلًا، فسألها ليتأكد:
-هل أنتِ بخير؟
أجابته وهي تبتسم:
-أشكرك، يبدو أن الدوار قد أصابني، كان يجب ألا أفرط في الشرب.
مد يده ليمسك برسغها في نعومةٍ، وطلب منها بتهذيبٍ:
-أنا طبيب، هل تسمحي لي بفحصك؟
سحبت منه يدها برفقٍ، كنوعٍ من التمنع المرغوب عليه، ومع ذلك ردت عليه بنظرة لعوب فهمها جيدًا:
-أنا بخيرٍ الآن، لكني سأعود إلى غرفتي لأستريح.
نهضت بتكاسلٍ، فترنحت في وقفتها، أسرع ناحيتها ليسندها، وطوقها من خصرها قائلًا بهمسٍ:
-دعيني أساعدك.
التفتت تنظر إليه عن قربٍ وهي تلفح وجهه بأنفاسٍ حارقة:
-أشكرك كثيرًا، كم أنت لطيف!
لعب على الوتر الحساس الذي تساومه به قائلًا عن عمدٍ وهو يضغط بأصابعه على جانبها:
-وأنتِ تمتلكين مفاتيح الجمال.
خرجت منها تأويهة مستمتعة، اعترفت بها في التو:
-يبدو أني محظوظة لرؤيتك.
فهم أن ما تقوم به مجرد مقدmـ.ـا.ت ممهدة لما هو أخطر، ولم يمانع أبدًا تذوق ما يثير فضوله، لذا في صوت ثقيل مشحون بالرغبة استطرد معلنًا عن تلبيته لدعوتها المفتوحة:
-حتمًا سنتقابل مجددًا.
ردت عليه بمكرٍ استحث غرائزه أكثر:
-إن كنت متفرغًا
كادت عواطفه تشتعل أكثر لولا أن أطلت عليهما "تهاني" بوجهها المتجهم، حدجتهما بنظرة نارية، وصرخت فيهما مسببة بصوتها المرتفع لفت الأنظار:
-مين دي يا "مهاب"؟
انزعج من إحراجه بهذا الشكل المهين، فقال دون أن يترك الحسناء من ذراعه:
-واحدة تعبت وبشوفها.
انتزعتها منه انتزاعًا وهي لا تزال تصيح في تحفزٍ حانق بشـ.ـدة:
-بتشوفها ولا واخدها بالحـ.ـضـ.ـن؟
رد عليه من بين أسنانه المضغوطة، وهو يجول بنظرة غير راضية على من حوله:
-إنت فاهمة غلط.
حاولت الشابة الحسناء الوقوف باستقامةٍ، وحادثت "تهاني" بصوتٍ شبه ثقيل وهي تضع يدها أمام فمها لتمنع نفسها من التجشأ:
-أعتذر، يبدو أن هناك مشكلة ما بينكم.
سلطت عليها "تهاني" نظراتها المحتقنة، ورفعت إصبعها أمام وجهها صارخة فيها بهديرٍ مرتفع:
-نعم، بسببك، اغربي.
استاء "مهاب" للغاية من طريقتها الفوضوية في إثارة المتاعب ولفت الأنظار إليه، فأمسك بها من معصمها ليجذبها منه، ويجرها بعيدًا عن الحضور المتابع لهما وهو ينهرها بصوتٍ جاهد ألا يكون عاليًا:
-بالراحة شوية يا "تهاني"، الناس بتبص علينا.
بقوةٍ متعصبة انتشلت يدها من قبضته، وتسمرت في موضعها بالردهة لتعنفه في غضبٍ مبرر:
-طب اعملي اعتبـ.ـار، ده أنا مراتك.
تنفس بعمق لئلا يخرج عن طور هدوئه، ثم أخبرها كمحاولة أخيرة للتعامل بحكمة مع الموقف:
-إنتي فاهمة غلط.
اشتاطت أكثر من كذبه المكشوف، واندفعت تجاهه تضـ.ـر.به في صدره بقبضتها وهدير صوتها يرن:
-ده أنا شيفاك بعينيا.
حذرها من التمادي في عصبيتها هاتفًا بصرامة:
-"تهاني"، مابحبش الأسلوب ده!
كادت تنطق بشيء لتعارضه؛ لكنه أخرسها قبل أن تنبس بكلمة صائحًا بصوته الحازم:
-خلاص، اسبقيني على فوق، هنتكلم هناك.
على مضضٍ خطت مبتعدة وهي تبرطم بكلمـ.ـا.ت حانقة، شيعها بنظرته القاسية إلى أن غابت عن بصره، فاستدار عائدًا إلى الشقراء الحسناء منحنيًا أمامها بعدmا التقط كفها ليقبله في أدبٍ، ثم اعتدل واقفًا ليخاطبها:
-أعتذر منك سيدتي.
أبقت يدها أسيرة أصابعه وهي ترد بهزة صغيرة من كتفها:
-لا توجد مشكلة.
انتقى من الكلمـ.ـا.ت ما شرح لها به تصرف المرأة الجالسة معه مدعيًا:
-صديقتي مهووسة قليلًا، ترتاب حين أبتعد عنها، وأنا لا أرغب في إحزانها.
أظهرت تعاطفًا ماكرًا معه، وأخبرته في رقةٍ لا تزال مطعمة بالإغراء:
-أوه، إذًا علي الحذر منها.
تصنع الضحك، وقال:
-إنها غير مؤذية، فقط تصرخ لحاجتها إلى الحب.
رمقته بهذه النظرة المتسائلة وهي تعلق عليه:
-يبدو أنك خبير في هذه المسائل.
أكد لها بلؤمٍ كان واثقًا أن مغزاه سيصل إليها:
-بالطبع، وإلا لما غضبت لهذه الدرجة!
ما لم يطرأ على بال "مهاب" هو أن تعود زوجته إليه وهو يتغزل بغيرها، برزت مقلتا "تهاني" من محجريهما وهي تراه بأم عينيها يتقارب بحميمية متزايدة من هذه المترنحة، صرخت بلا وعي، وقد ثارت بداخلها مشاعرها الأنثوية:
-يعني إنت بتمشيني عشان تفضى للهانم دي؟
انصدm بوجودها خلفه، فالتف كليًا تجاهها مرة واحدة وهو يردد مذهولًا:
-"تهاني"!
بلا تفكيرٍ انقضت على الحسناء لتبعدها عنه وهي تلعنها بكلمـ.ـا.تٍ مهينة، مما أجبر "مهاب" على تقييد معصميها بيديه، وسحبها بما يشبه الدفع الخشن بعيدًا عنها وهو يبدي اعتذارًا شـ.ـديدًا لما حدث. قاومته وهي تصرخ به:
-سيبني، ده أنا لازم أفرج عليها الدنيا كلها!
استوقفهما أحد موظفين الفندق متسائلًا في توجسٍ:
-ما الأمر سيدي؟
رد نافيًا وهو يفك قيدها ليتمكن من الإمساك بها من رسغها فقط:
-لا شيء.
سحبها خلفه فتبعه الموظف مُردفًا:
-النزلاء يشتكون من الضجيج، سيدي.
توقف عن المشي المنفعل ليرد بوجه جـ.ـا.مد التعبيرات، ونظراته تقدح شررًا:
-زوجتي ترفض ترك البـ.ـار، وأنا أحاول التعامل معها.
تفهم لموقفه، فكم مرت عليه حالات من الإفراط في تناول المواد المسكرة تنتهي بفضائح مخجلة بين النزلاء، ما أسكته حقًا كانت الورقة النقدية المطوية والتي دسها "مهاب" في يده، أتبعها بنظرة موحية ليكف عن ملاحقته، استجاب له، وقال وهو ينحني احترامًا له:
-حسنًا سيدي، أتمنى لكم ليلة سعيدة.
تعامل "مهاب" بخشونةٍ مع زوجته، ودفعها دفعًا للأمام حتى كادت تنكب على وجهها وهو يكز على أسنانه هاتفًا:
-قدامي، وإياكي تتكلمي!
مرة أخرى عصت أمره، وهاجمته بحرقةٍ لها أسبابها القوية:
-المفروض إنك دكتور محترم ومن عيلة، يعني أبسط حاجة تعمل حساب لمراتك، مش مجرد ما أبعد عنك تعيش حياتك ولا كأني موجودة.
سكت ولم يعقب بشيء، فاشتعلت أكثر وانكوت بغيرتها، لذا صرخت به:
-رد عليا.
شـ.ـدَّ من قبضته على معصمها حتى شعرت به يكاد يدmيها، فتألمت من قساوته، ليخبرها بعدئذ بوعيدٍ أصاب بدنها بالرجفة:
-لينا كلام في أوضتنا.
كانت شجاعة للدرجة التي جعلتها تتحدى مخاوفها ووعيده المحسوس بقولها النزق:
-أه طبعًا معندكش اللي تبرر بيه موقفك!!
..........................................
خيل إليها أنه حينما يعود بها إلى غرفتهما سيبدي لها نـ.ـد.مًا شـ.ـديدًا، ويعتذر لها عما بدر منه من إساءة جارحة لكينونتها؛ لكنه على العكس دفعها بغلظةٍ للأمام حتى طُرحت أرضًا، واصطدmت بعنفٍ بالبلاط القاسي. لهجت أنفاسها، وتهدج صدرها صعودًا وهبوطًا من فرط انفعالها، لم تتوقع أن تظهر طباع السوء لديه بهذه السرعة، أدارت رأسها ناحيته، واستندت على كفيها لترفع جسدها عن الأرض، انفلتت منها صرخة متألمة عنـ.ـد.ما أمسك بكومة من شعرها وهو يسألها:
-إنتي عارفة إنتي متجوزة مين؟
جذبها منه بخشونةٍ مؤلمة ليجبرها على النهوض، حاولت تخليص شعرها من يده؛ لكنها لم تفلح أمام قوته، أطبق بيده الأخرى على ذقنها، فشعرت بأصابعه تعتصر فكها، تابع تهديده لها بفحيحٍ:
-الفضايح اللي حصلت تحت دي مش هعديها.
رغم موجات الألم الممزوجة بالإهانة التي اجتاحتها إلا أنها ناطحته بردها:
-طبعًا ما إنت دكتور "مهاب الجندي" على سن ورمح، اللي محدش بيقوله لأ.
مرة أخرى دفعها بغتة بكلتا يديه، وبكل قسوة، لتنكفئ أرضًا وهو يخاطبها بغير تساهلٍ:
-طب كويس إنك عارفة إني مش أي حد.
ضـ.ـر.ب الألم جسدها، ومع ذلك لم ترتدع أو تكف، عاودت النهوض وصاحت به وهي تلوح بيدها في الهواء:
-بس على الأقل يا دكتور يا فاضل تحترمني، تقدرني، ما تعملش اللي يضايقني.
نظر لها بلا اهتمامٍ، وسألها في تحدٍ مستفز:
-ولو عملت؟
اندفعت تجاهه لتمسك به من ياقتي بدلته، هزته بعنف وصوت صراخها يرن:
-إنت قاصد تعصبني وخلاص؟
أبعد يديها عنه، ودفعها للخلف، كأنما يلفُظها، فاستشاطت أكثر من أسلوبه الاستحقاري، وواصلت صياحها الغاضب؛ كأنما تعطيه إنذارًا أخيرًا:
-شوف يا دكتور، الحياة قبلي كانت حاجة، وبعدي حاجة تانية خالص.
كركر ضاحكًا بصوتٍ مرتفع متعمدًا الاستهزاء بها، ثم أكد لها شعورها بالازدراء بإعلانه غير المكترث:
-مين فهمك كده، بالعكس، أنا زي ما أنا.
قصف قلبها في خوفٍ متعاظم، وسألته وقد خفت حدة نبرتها إلى درجة كبيرة:
-قصدك إيه؟
مط فمه للحظةٍ، ثم دس يديه في جيبي بنطاله، وتجول بتريثٍ أمامها وهو يجيبها بما لم تود سماعه:
-يعني من الآخر اللي بعوزه باخده، واللي بيجي في بالي أعمله بعمله، ومابيفرقش معايا حد.
حاولت لملمة ما جُرح من كبريائها كأنثى، وردت ببقايا كرامة مهدرة:
-وأنا مراتك دلوقتي.
مرة ثانية ضحك ساخرًا من تصريحها المزعوم، ليسألها ببسمة عريضة:
-وإيه يعني؟
بهتت ملامحها بشكلٍ مخيف، فأسلوبه، ونظراته، وحتى نبرته توحي بأنها في مأزقٍ، لم يتركها "مهاب" لشكوكها كثيرًا، بل أفاض في التوضيح لها عن حقيقة نواياه:
-أه، نسيت أقولك، إن دي كانت الطريقة اللي قدامي عشان أجيبك بيها هنا على السرير، وآ...
النظرة الحقيرة المطلة من عينه تجاهها، أشعرتها بوضاعتها، بمدى الغباء الذي كانت عليه، لتصدق في يومٍ أنه تمناها كزوجة ملائمة، لا مجرد وعاء لإفراغ شهوته بها. صرخت به عنـ.ـد.ما استرسل في وصف مهامها التي أدتها بكفاءة منقطعة النظير كعاهرة محنكة وفقًا لتعليمـ.ـا.ته:
-إنت ســافل!
تغاضى عن سبها، واعتبره ردة فعل هزيلة لصدmتها، استمتع أكثر بإحراق أعصابها وهو يخبرها:
-بس مـ.ـا.تنكريش إنك اتبسطي.
لم تتحمل طريقته الملتوية لإشعارها بالسوء تجاه حالها، فاض بها الكيل، فانطلقت ناحيته رافعة يدها في الهواء تنوي صفعه وهي تلعنه بغضبٍ جامح:
-حيــــوان!
قبل أن تصل يدها إلى صدغه، كان قابضًا عليها، يعتصرها بقسوةٍ، فتألمت بشـ.ـدة، نظر لها بعينين تحولتا للإظلام وهو يتوعدها بما جعل داخلها قبل خارجها يرتج من الارتجاف:
-الظاهر إنك محتاجة ت عـ.ـر.في أنا مين كويس ................................... !!
↚
(نهاية الحلم الوردي)
طريق الحب الوعر معه لم يكن قد امتلأ بالندوب والجراح فقط، بل تضمن كـ.ـسر الروح، تحطيم المشاعر، وفَطر القلوب. لم تشفع توسلاتها، ولم يمنعه بكائها الحارق من التوقف عن ممارسة أساليب خسته اللا آدmية معها، للمرة الأولى تكتشف جانبه المظلم، بل الأكثر إظلامًا على الإطـ.ـلا.ق، ما فاق حدود تخيلها. عجزت "تهاني" عن صد هجمـ.ـا.ته النهمة الآكلة لكل ما هو إنساني بداخلها، استحقرت نفسها، واشمئزت مما عايشته معه. بعد وقتٍ ظنت أنه لن يمضي أبدًا، انتهى "مهاب" من الظفر بليلة جامحة، وحشية، ولا يُمكن نسيانها، نهض قائمًا بعدmا ترك زوجته مقيدة إلى عارضة الفراش، وآثار ما بدا أشبه بضـ.ـر.بات السياط تلهب كامل جلدها، لم يترك فيها بقعة إلا و.جـ.ـعلها تصرخ من الألم، وكأنه يشبع ذلك النزعة الســـــادية المستحوذة عليه.
فرغ من استحمامه دون أن يكلف نفسه عناء حل قيدها، أبقى عليها على تلك الحالة للإمعان في إذلالها أكثر، تقدm منها وهو يصفف شعره الرطب بيده قائلًا في استمتاع مريـ.ـض:
-دي مجرد قرصة ودن صغيرة ليكي عشان لو جه في بالي تتعدي حدودك.
حاولت رفعت وجهها المبلل بدmـ.ـو.عها لتنظر إليه، فآلم ذلك رقبتها، ومع ذلك صاحت فيه ببكاءٍ مقهورٍ:
-إنت مش بني آدm.
ضحك في تسلية عظيمة، ثم جلس مجاورًا لها، ليمد يده ويمسد على شعرها قائلًا:
-عارف.
نفرت منه بشـ.ـدةٍ، وجاهدت لتبعد رأسها عن ملمس يده؛ لكنها لم تستطع، انتفضت بذعرٍ عنـ.ـد.ما خفض يده ليلامس عنقها، كانت عاجزة تمامًا عن منعه من فعل أي شيء يريده، تسلى وانتشى برؤيتها تتلوى بغير مقدرة على صده، ما إن اتلف أعصابها بمداعباته المؤذية لها حتى تكلم هامسًا بالقرب من أذنها، ليزيد من سحق كبريائها:
-أنا رايح عند الحلوة اللي ضايقتك، هجيبهالك هنا.
نجح في إصابة هدفه، فسرت في دmائها دفقات من الغل الحارق، مما جعلها تثور وتزأر في تشنج:
-إنت مـ.ـجـ.ـنو.ن! شخص مريـ.ـض!
انحنى عليها ليقبل كتفها قائلًا بنبرة معاتبة، وهذا العبوس الزائف يملأ محياه:
-كده أزعل منك، بعد الحب اللي اديتهولك؟
أصابها الغثيان والتقزز من تودده إليها، صرخت به رافضة طريقته تمامًا:
-مـ.ـا.تلمسنيش!
سرعان ما سقط قناع البرود من على ملامحه ليعود إلى شراسته هادرًا بها، وقد قبض بيده على فكها ضاغطًا عليه بقسوة:
-مش واحدة زيك هتديني أوامر!
انخرطت في بكاءٍ جديد، أشـ.ـد حرقة، وأعلى صوتًا، فأرخى أصابعه قليلًا، وشملها بهذه النظرة الغريبة، وكأنه يظهر تعاطفًا غير محسوسٍ لها، ليضيف في هدوء بما استفزها:
-بس ت عـ.ـر.في، شكلك وإنتي متعصبة تحفة ومغري.
حدجته بهذه النظرة المقيتة الكارهة، فاستقبلها بترحاب غريب، وراح يتلمس الندوب الملتهبة التي تركها على ظهرها بأطراف أصابعه في رقةٍ مناقضة لوحشيته وهو يخاطبها:
-يشجع الواحد إنه آ...
زاد من وتيرة إيقاظ هلعها ببتر عبـ.ـارته، ليجعل الخواطر المخيفة تدور في رأسها، فيتضاعف استمتاعه بمشاهدتها تعاني هكذا، ظل تأثيره طاغيًا، يصيبها بكل ما هو منفر، وهو لا يزال يستنزف طاقاتها بأساليبه الملتوية والمراوغة، إلى أن رن الهاتف الأرضي، حينئذ توقف عن اللعب معها قائلًا في ضيق طفيف:
-حظك، التليفون هيعطلني شوية عنك، بس راجعلك تاني!.
ضم شفتيه ليرسل لها قبلة في الهواء قبل أن ينهض متجهًا إليه، رفع السماعة من موضعها، وألصقها بأذنه متسائلًا بصوتٍ جاد:
-ما الأمر؟
أتاه الرد في صوتٍ متـ.ـو.ترٍ:
-سيدي، نعتذر عن إزعاجك في هذا التوقيت، لكن تم استدعائك لعملية جراحة عاجلة في مشفى (...)، والطبيب "بيدرو" أصر على حضورك.
سلط "مهاب" نظراته الغامضة على زوجته، وقال على مضضٍ رغم عدm رضائه:
-حسنًا، سأحضر في الحال.
أغلق الخط، واتجه إليها ليحررها من قيدها قائلًا دون أن يمنحها أدنى تفسير:
-لينا أعدة تانية سوا!
احتضن وجهها الغارق بدmـ.ـو.عها براحتيه، أبعد خصلات شعرها الملتصقة به للجانبين، وخاطبها بلهجة لا تمزح:
-نصيحتي ما تزعلنيش تاني، وخلينا حلوين سوا.
ودَّت لو بصقت في وجهه لتشعره بمدى وضاعته واحتقارها الشـ.ـديد له؛ لكنها كانت تعلم أن ذلك سيزيد الأمر سوءًا، ولن تنال إلا ما يـ.ـؤ.لمها فقط، لذا اكتفت بكظم غضبها، وحدجه بهذه النظرة الساخطة، فربت على وجنتها بخفةٍ قبل أن يتركها لحال سبيلها ويمضي بعيدًا عنها مكملًا ارتداء ملابسه. ما إن تمكنت "تهاني" من التحرر من حصاره حتى سحبت الغطاء على جسدها لتغطيته، انتابتها رجفة عظيمة، واصطكت أسنانها ببعضها البعض. همهمت بصوتٍ خافت للغاية وهي تراقبه بعينين مشبعتين بحمرة واضحة ناتجة من شـ.ـدة حنقها:
-حـ.ـيو.ان، قــذر!
غادر "مهاب" وهو يدندن بصافرة خفيضة، فتضاعفت رجفتها أكثر، وراحت تلطم على صدغيها متسائلة في حسرة وو.جـ.ـع:
-أنا إيه اللي عملته في نفسي ده؟!
طاحت أحلامها بمستقبل باهر، وذهبت أدراج الرياح، وتحولت أمانيها إلى هباءٍ منثور. احتل مخيلتها في هذه اللحظة طيفًا باهتًا لوجه والدتها الحزين، تألم قلبها وتمزق لبُعدها عنها، كم رجت لو كانت معها فارتمت في حـ.ـضـ.ـنها، لتحس بشعور الأمان المسلوب منها! لكن كيف لها أن تخابرها وتخبرها بما صار معها وهي المذنبة من الأساس؟ ألم تتجاهل حتى الاتصال بها لتُعلمها بما انتوت على فعله؟ أليست هي من أصرت على ذلك الارتباط مهما كانت العواقب طمعًا وراء زهوة المال، ونشوة السلطة؟ كلما تذكرت كيف صدقت أكاذيب هذا المخادع المحنك في اصطياد ضحاياه لعنت سذاجتها وسطحيتها! فواحدة مثلها كان من المفترض أن تنتبه أكثر إليه؛ لكنها سقطت في شباكه كالغـ.ـبـ.ـية، وها هي تتجرع الكأس المرير بلا شفقة! ضـ.ـر.بت أعلى رأسها بكفيها وهي تردد في نـ.ـد.م:
-طب هاقول لأهلي إيه؟
.............................................
راحت سكرة الحب، وجاءت الصحوة الصادmة، فما ظنت أنها أيام السعادة والهناء انقضت بلا رجعة، وحل محلها التعاسة والشقاء. تسترت "تهاني" بثيابها، ومع ذلك شعرت بأنها مجردة من كل شيء، وكيف لها ألا تشعر بذلك وكرامتها قد دعست وسحقت بين شقي الرحى؟ انتظرت عودته بصبرٍ شبه فارغ، تركها لهواجسها فتنهش منها. جلست على الأريكة رافضة الاقتراب من ذلك الفراش الذي يذكرها بلحظات تتمنى محوها من عقلها، أه لو تملك عصا سحرية، لأعادت الزمن إلى الوراء، وتجنبت الصدفة التي جمعتها به!
جاء "مهاب" متأخرًا، شبه مرهق من تمضية ليلة مشحونة بالعمل، ورغم هذا لم يكن في مزاج متكدر، بل بدا مستمتعًا للغاية، وتضاعف استمتاعه حين رأى زوجته جالسة في موضعها بجمودٍ، وهذه النظرة النارية تنتفض في عينيها. ابتسم في استفزازٍ، وسألها ساخرًا وهو يطوف بناظريه عليها:
-مش معقولة تكوني مستنياني لحد دلوقتي؟
هتفت في تصميم ظاهر بقوة في صوتها وقد قامت وافقة لتواجهه:
-أنا عاوزة أطلق!
بخطواتٍ متمهلة دار حولها، وحدجها بهذه النظرة المستخفة قبل أن يخبرها وهي يجلس مكانها:
-وقت لما أزهق منك.
التفت إليه تصرخ في وجهه بتعصبٍ، دون أن تقترب منه، وأصابعها تشتد وتلتف معًا لتشكل قبضة متشنجة:
-خلي عندك كرامة وطلقني.
نظر لها مليًا، بعينين حادتين كالصقر، لا يظهر فيما سوى البرود تام، داعب طرف ذقنه بإصبعيه، وسألها مستنكرًا بلهجةٍ مالت أيضًا للاستهزاء بها:
-قبل شهر العسل ما يخلص؟ ده حتى عيب!
ازداد صراخها به، كادت تهجم عليه لتفرغ فيه شحنة غضبها المستعرة بداخلها تجاهه؛ لكنها تمالكت نفسها في اللحظة الأخيرة، وكبحت ثورتها، ومع ذلك خرج صوتها محتجًا:
-إنت مصدق كدبك ده؟
وسَّد ذراعيه خلف رأسه وهو يغوص في المقعد أكثر ليقول بجمودٍ، ونظراته مسلطة عليها:
-طالما مبسوط، فمش فارق معايا.
تقدmت ناحيته، حتى أصبح ما يفصلها عنه مسافة خطوة، نظرت له باحتقارٍ كبير، وصاحت في اعتراضٍ ناقم وهي تلوح بيدها في الهواء:
-إنت مش خدت اللي عاوزه مني؟ سيبني لحال سبيلي.
اعتدل في جلسته، ثم أمسك بها بغتة من معصمها، فارتعدت فرائصها وقاومت شـ.ـده لها، ارتسمت على شفتيه هذه البسمة وهو يخاطبها بتلذذٍ:
-ده احنا لسه في الأول يا حلوة.
ارتفع صوتها وهي تجاهد لانتشال يدها من قبضته المحكمة عليها:
-ابعد إيدك.
عن عمدٍ، وبخشونةٍ كذلك، سحبها بقوةٍ أكبر ليُسقطها في حجره، ثم أحاطها بذراعيه، فعجزت عن الفكاك من قبضتيه المقيدتين لحريتها، ظلت تتلوى بجسدها في عجزٍ يائس، فضحك بتسلية وهو يراها كالفأر الذي وقع في المصيدة، اقترب بفمه نحو منحنى عنقها، وهمس لها بأنفاسٍ شعرت بحرارتها تلفح بشرتها المرتجفة:
-ينفع كده نبوظ ليلتنا واحنا لسه عرسان جداد؟
أظهرت اشمئزازها العارم منه، قاومت تودده الكريه إليها، وحاولت إبعاد وجهها عنه وهي ترد بانفعال:
-أنا مش طيقاك.
تشبث أكثر بها، وقال بفحيحٍ جعل قلبها يهوى في قدmيها:
-وأنا عاوزك لسه!
................................................
لم يرغب في القيام بهذا الأمر سرًا ودون علمها، اتبع أسلوب البر معها، وأخبرها بالحسنى عن نيته في الزواج بـ "فردوس" عبر مكالمة دولية طارئة، فما كان من والدته إلا أن اعترضت عليه بشـ.ـدة، معتبرة إياها زيجة مشؤومة وغير موفقة بالمرة، أبدت رفضها القاطع لإتمام ما يريده ابنها البكري بقولها الصريح:
-يعني أخوك مصدق يخلص منها، وإنت رايح تورط نفسك معاها؟
برر لها إصراره على إكمال هذه الزيجة:
-بصلح اللي عمله.
جاء صوتها كالصراخ وهي ترد عليه:
-هو لحق يعمل حاجة؟ ده كتب كتاب بس!
اختطف نظرة سريعة نحو من هم بالقرب منه معتقدًا أنهم سمعوا ما قالته؛ لكن لم يكن أحد منتبهًا لما يدور بينهما، فالكل مشغول بهمومه وأثقاله. أخبرها بعد زفير سريع:
-أهي اتحسبت جوازة على الغلبانة دي.
أتاه صوتها مهددًا:
-طب قسمًا بالله يا "عوض" لو اتجوزتها لا إنت ابني ولا أعرفك.
رغم الصخب والضوضاء المحيطين به إلا أنه حاول صمَّ أذنيه عما حوله ليركز معها، احتج على تعنتها غير المقبول قائلًا بضيقٍ:
-حـ.ـر.ام عليكي يامه، بلاش كده.
أكدت عليه بتصميمها المتزمت:
-هو ده اللي عندي.
ثم أنهت المكالمة دون سماع المزيد منه، فتمتم بغير رضا، وهو يضع السماعة في مكانها، وقد باتت ملامحه متجهمة للغاية:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
...........................................
أنهكها بمتطلباته النهمة لما يرضيه هو، فلم تتمكن من منعه أو إيقاف جوعه العاطفي، تألمت أكثر، وتأذت، وأصبح ما ظنت أنه الحب العاصف مجرد وصمة عــار تذكرها دومًا بجريمتها في حق نفسها. كانت تبكي في الحمام بلا صوتٍ، رفضت أن تظهر بمظهر الضعف قبالته، فخنوعها يُمتعه، وانكسارها يُسليه. تصلبت يديها على حافة الحوض عنـ.ـد.ما سمعته من الخارج يأمرها:
-جهزي نفسك عشان هنرجع النهاردة...
لم تنبس بكلمة، فتابع من وراء الباب الفاصل بينهما:
-أنا نازل وراجع كمان شوية تكوني وضبتي نفسك، سلام.
ظلت على صمتها ودmـ.ـو.عها الحارقة تنساب بغزارة. سرت بها رجفات متواترة من الخوف فور سماعها لصوت غلق الباب الخارجي، رفعت رأسها ببطءٍ، وتأملت ملامحها الذابلة في المرآة، تذكرت كيف كان وجهها يشرق بالأمل والإصرار قبل أن ترتبط به، إذًا ما الذي حدث لتُعمى بصيرتها عن رؤية قبحه المنفر، أهو حمق الحب الذي دفعها للهاوية؟ أم أنها بسبب أطماعها ألقت بنفسها في بئر الجحيم؟ نكست رأسها في خزيٍ، وتركت العنان لصوت بكائها ليخرج ممزوجًا باعترافها النادm:
-يا ريتني ما وافقت، يا ريتني!
...........................................
حين كان غافيًا بجوارها في الطائرة، تأملت قسمـ.ـا.ته عن كثبٍ، كيف لها ألا ترى جانبه المريـ.ـض؟ انزاح الساتر الذي غطى على صوت العقل، وأصبحت ترى حقيقته البشعة بوضوح، بدا في عينيها وكأنه انجذب ناحيتها فقط إشباعًا لغرائزه، لا لتوق مشاعره، أدركت وقتئذ أنها أساءت الاختيار، ويا له من اختيار ممـ.ـيـ.ـت! قضى عليها في ريعان شبابها، ولم يترأف بها. أبعدت مقلتيها عنه وهما تلمعان بالدmـ.ـو.ع. لم يعد هناك فائدة من البكاء والتحسر على الحال، عليها فقط أن تبذل ما في وسعها للتخلص منه بأقل الخسائر الممكنة.
لاذت بالصمت غالبية الوقت، وتحركت كإنسان آلي ليوجهها، حتى استقل كلاهما السيارة للعودة إلى منزله، إلى حدٍ كبير فاق ما كانت تتخيله، كانت موقنة أنه ثري؛ لكن ليس بمثل هذه الدرجة، فقد كان بيته المتواضع –كما يسميه- أشبه بفيلا صغيرة، مستأجرة، لها حديقتها الخاصة، ومحاطة بأسوارٍ عالية، مفروشة بالجديد والفاخر من الأثاث، ومملوءة بالكثير من التحف والأنتيكات. أحست بانقباض صدرها وهي تطأ البهو بقدmيها، بهجة العروس الفرحة ببيتها كانت مفقودة، هي جاءت إلى هنا تنفيذًا لرغبته، لا عن طواعية منها. لم تنظر تجاهه وهو يخاطبها بأسلوبه الجاف المستعرض لثرائه الفاحش:
-البيت زي ما إنتي شايفة مليان أوض كتير، نقي واحدة فيهم وخليها ليكي.
همَّت بالتحرك بحثًا عن غرفة ملائمة، وبعيدة عنه كل البعد؛ لكنه استوقفها بقوله الفج والموحي بما أشعرها بالاحتقار:
-ووقت لما أعوزك هتيجي عندي.
استنفرت حواسها، واستدارت تحدجه بنظرة عدائية وهي تخبره باسمة باستهجانٍ:
-طب ما تطلقني أسهل، حتى علشان تاخد راحتك في بيتك أكتر، بدل ما أبقى ضيفة تقيلة عليك.
دنا منها قائلًا بتسليةٍ:
-لما يجيلي مزاج!
كادت تتحرك مرة ثانية؛ لكنه أمسك بها من ذراعها ليشـ.ـدها إليه قائلًا بوقاحةٍ مغلفة بالإهانة:
-إنت دورك هنا ما يزدش عن كونك واحدة بتلبي طلباتي وبس.
نظرت له شزرًا قبل أن تهتف في تحفزٍ:
-قول إنك متجوز خدامة.
احتضن ذقنها بيده، وقال في نبرة معاتبة هازئة منها:
-إنت أرقى من كده يا دكتورة.
أحست بأصابعه تشتد على فكها، كما لو كان يعتصره، ارتجف قلبها عنـ.ـد.ما همس لها بنبرة ذات مغزى، ونظرة وضيعة تنطلق من عينيه إليها:
-والصراحة، أنا لسه ما شبعتش منك!
كزت على أسنانها مدmدmة بلا صوتٍ:
-حقير.
داعب بإبهامه وجنتها متكلمًا:
-وعشان ت عـ.ـر.في إني مديكي قيمتك، هرجعك تاني معايا المستشفى.
أحست أن جملته منقوصة، فنظرته الغريبة إليها أكدت ذلك الهاجس المريب، فتابع بما فاجأها:
-بس انسي موضوع البعثة!
استطال وجهها في صدmة جلية، وهتفت محتجة على الأخير، وكأنه سلب الشيء الوحيد الخاص بها:
-أنساه إزاي؟ ده مستقبلي!
مجددًا اشتدت قبضته على فكها فتألمت من قساوته، قرب وجهها منه، ونظر إليه بنظرة متملكة نفذت إليها مرددًا بتسلطٍ:
-ما يلزمنيش طالما إنتي معايا.
رغم الألم الذي ينتشر في فكها، خاطبته بخوفٍ:
-إنت كده بتخسرني أهم حاجة اتغربت بسببها.
لم يكن مكترثًا بذلك، وعلق باسمًا:
-قصادي مافيش حاجة تسوى.
حدجته بنظرة نارية مشتعلة على الأخير، ارتخت أصابعه قليلًا عن فكها وهو يستأنف كلامه:
-شرف ليكي إنك تبقي مراتي.
ما لبث أن غلف صوته التهديد وهو يخبرها في أذنها:
-وأحسنلك ما تزعلنيش، بدل ما أخسرك كل حاجة!
طبع قبلة على وجنتها قبل أن يبعد شفتيها ليودعها متبسمًا بابتسامة مغيظة:
-سلام يا .. دكتورة.
كلمته الأخيرة كانت أقرب إلى إهانة عنها إلى تقدير، بصقت خلفه بعدmا انصرف، وهسهست بكره آخذٍ في الازدياد:
-ربنا يريحني منك.
الخوف من خسارة ما كابدت لتحقيقه مرة واحدة جعلها تبدو أكثر اضطرابًا وتخبطًا، فكل شيء بات على وشك الضياع ما لم تحسب حسبتها جيدًا.
............................................
لم يعتد طوال حياته على مخالفة مبادئه، ولا حتى على إسكات صوت ضميره اليقظ، مهما اشتدت الصعاب وتعقدت، لأجل إرضاء أهواء الآخرين، دومًا كان يفعل ما يؤمن به، وما في الخير لغيره، لهذا رغم تهديد والدته الصريح رفض الانصياع لرغبتها، وأكمل في الطريق الذي اختاره لنفسه. التزم بالحضور في الموعد المتفق عليه في بيت عائلة "فردوس"، التقى بأمها وخالتها في الصالة، فسألته الأخيرة بتحفزٍ بائن في نبرتها قبل نظرتها إليه:
-نويت على إيه يا "عوض"؟
أجابها بصوتٍ ثابت بعد لحظاتٍ من السكوت:
-كتب الكتاب والد.خـ.ـلة هيكونوا سوا، وهنعمل حاجة على الضيق، وبعدها نطلع على البيت عندي.
تهللت أسارير "أفكار"، وتبادلت مع شقيقتها نظرة سعيدة للغاية، ثم صاحت في حماسٍ، وكأن روحها عادت إلى جسدها:
-على خيرة الله، أهي دي البشاير ولا بلاش.
وجهت بعدئذ كلامها إلى "فردوس" التي جاءت حاملة صينية القهوة في يديها، فهتفت في مرح ضاحك:
-زغردي يا "دوسة" وكيدي الأعادي...
ارتفع صوت ضحكتها على النقيض مع عبوس ابنة شقيقتها، استأنفت بعدئذ جملتها المبتهجة، فاستطرد وهي تشير بيدها:
-ولا أقولك شيلي القهوة دي وبلي الشربات يا حبيبتي.
لم تستجب لها، وأسندت الصينية أمام الضيف، لترد بسحنة مقلوبة:
-مش عاوزة.
سددت لها "أفكار" نظرة مستنكرة، لاحقتها بقولها وهي تصر على أسنانها، كأنما تبدي غيظها من جمودها:
-يا بت اسمعي الكلام.
تدخل "عوض" قائلًا بتهذيبٍ، وهو شبه خافض لنظراته:
-سبيها على راحتها يا حاجة.
أثرت "فردوس" الذهاب؛ لكن منعتها "عقيلة" مضيفة بتعبيرٍ صارم، وهي ترمقها بنظرة آمرة:
-سيبك من اللي في إيدك، واقعدي معانا يا "فردوس".
على مضض استجابت لأمرها، واستقرت على الأريكة المجاورة لأمها، وبعيدًا عن مرمى بصر "عوض"، كأنما بهذا تبدي اعتراضها الضمني على الزواج به. ساد الصمت بين أربعتهم، وكأن مخزونهم من الحديث قد نضب، مما استدعى "أفكار" للتصرف بشيءٍ من المكر، أشارت بنظرة مفهومة لشقيقتها طالبة منها النهوض وهي تستطرد:
-أما نقوم نجهز السفرة...
كانت "فردوس" على وشك الوقوف؛ لكنها أشارت لها لتجلس مخاطبة إياها:
-خليكي إنتي مع عريسك.
لم تكن راضية عن هذا، فاقتربت منها خالتها، وهمست لها في أذنها:
-افردي وشك، وقولي كلمتين حلوين للجدع بدل ما يطفش!
احتدت نظرتها إليها، واكتسى وجهها بأمارات الضيق، ومع ذلك لم تستطع منع نفسها من التعبير عن مكنونات صدرها، انتظرت ابتعاد والدتها مع خالتها، وراحت تكلم "عوض" بنزقٍ:
-إنت واخدني شفقة أنا عارفة.
تفاجأ بما قالته، فنظر ناحيتها، وحاجباه معقودان، أنكر اتهامها في التو:
-لا يا بـ.ـنت الناس، ده مش طبعي.
سألته مستفهمة بغير تصديقٍ:
-أومال طلبت تتجوزني بعد ما أخوك رماني ليه؟
أتى رده بسيطًا للغاية، ونابعًا من داخله:
-عشان شايف فيكي ست البيت الأصيلة!
اندهشت لكلامه، ولم تبدُ مقتنعة تمامًا بتبريره، ظلت متمسكة باعتقادها المترسخ فيها جراء التجربة السلبية التي حفرت آثارها بعمق في وجدانها.
......................................
على الجانب الآخر، أرهفت "أفكار" السمع محاولة التنصت على "فردوس"، والتقاط ما تخاطب به عريسها من موضع وقوفها في الزاوية، توجس قلبها خيفة من احتمالية إفساد هذه الحمقاء المتهورة للأمر، فهي لم تقبل به في البداية لترتضي به في النهاية. سرعان ما أفصحت عن مخاوفها لشقيقتها، فخاطبتها في نبرة قلقة:
-بقولك إيه، ما تنادي على البت تساعدنا هنا بدل ما تعك الدنيا مع الراجـ.ـل برا.
نظرت لها بتشككٍ، فأكدت لها حينما أخبرتها:
-بصي عليهم كده وإنتي ت عـ.ـر.في أنا خايفة ليه.
تحركت من مكانها لتنظر إليهما بحذرٍ، رأت كيف تبدو ابـ.ـنتها متحفزة بشـ.ـدة، كأنما تتصيد الأخطاء له، شاركتها في تـ.ـو.ترها، وهتفت توافقها:
-دي بوزها شبرين، ومش طايقة حد!
دون إضاعة الوقت، اتجهت "عقيلة" للخارج واضعة على محياها ابتسامة زائفة، ثم طلبت منها في وداعة غريبة:
-تعالي يا ضنايا رصي الأطباق معايا.
استغربت "فردوس" من عودة والدتها إليها، ومع ذلك قالت في طاعة، كما لو كانت قد وجدت المهرب لها من جلستها غير المستحبة إليها:
-طيب.
...........................................
فور أن علم بعودته على رأس عمله بعد رجوعه من الخارج، ذهب إليه في مكتبه، ومضى معظم وقت راحته معه، تقمص دوره جيدًا، وأبدى اهتمامًا غير عادي به، كأنما كان يتحرق شوقًا لمعرفة تفاصيل جولته الزوجية الجديدة، استرسل مدهوشًا، وهو يرتشف القليل من فنجان قهوته:
-ده إنت ملحقتش، أنا قولت هتقعد شهر ولا اتنين.
قال بغموضٍ محير، وهو يزين وجهه ببسمة ظافرة:
-كفاية كده.
غمز له "ممدوح" بطرف عينه معلقًا في خبثٍ عابث:
-شكل البطة البلدي كانت تستاهل.
ضحك مستمتعًا ليؤكد له ما ظنه مرددًا:
-من الناحية دي، أيوه!
صفق له كنوعٍ من الإثناء على مهاراته في الإيقاع بها، وتابع
-عقبال كل آ.. بطة.
ليزيد من إغاظته، قال منتشيًا وهو ينتصب في جلسته الشامخة:
-ما أنا ماستكفتش بيها وبس، وشبكت مع عصفورة شقرا.
كان "ممدوح" بـ.ـارعًا للغاية في التغطية على ما يشعر به بقناع الهدوء وعدm المبالاة، رغم يقينه بأنه يتعمد قول ما يستفزه، وما يشعره دائمًا بأنه صاحب الأفضلية والأسبقية في كل شيء، لذا جاراه في استعراضه المتفاخر، ومط فمه في إعجابٍ معقبًا عليه:
-مابتضيعش وقت، أستـــاذ!
..............................................
أدرك بصفاء كامل أن ما تمنى حدوثه على وشك الوقوع الآن، عليه فقط أن يكون مرتب الأفكار، وأكثر إقناعًا وهو يبوح لوالده بما أجرم به شقيقه، ليقصيه من منزلته المفضلة لديه في قلبه، ويعتليها هو بلا أدنى عناء. بمكر الثعالب ودهائهم شرع "سامي" في تنفيذ خطته مسترسلًا في وصف ما نما إليه من معلومـ.ـا.ت صادmة وضعت العائلة في موقف مشين، وشبه مخزٍ، حقق ما كان يصبو إليه حينما انفجر السيد "فؤاد" هادرًا في تعصبٍ غاضب:
-تبعت تقوله يجي فورًا هنا، يسيب أي حاجة عنده ويرجع.
بنفس نبرة المَسْكنة التي اتخذها وسيلته للمواراة خلفها قال صاغرًا:
-حاضر يا باشا.
تأمل الانفعال الذي أصبح عليه، فأطرق رأسه، وتابع في خبثٍ ليزيد من شحنه ضده:
-أنا مكونتش عاوز أعرفك يا بابا، بس حاجة زي دي مابتستخباش!
استثاره بأقواله اللئيمة، فهدر في تعصبٍ أكبر:
-اتهبل في مخه عشان يجيب حثالة من الشارع يعملها مـ.ـر.اته؟!
رد عليه مستنكرًا، وليضمن ملء صدره بالأحقاد ضده:
-وكان عامل نفسه بينصحني وهو قاصد يرمي نفسه في الوحل.
استشاط غضبًا على غضب، وهدر يأمره بغير تهاونٍ:
-مش عاوز أسمع كلمة زيادة، تعمل اللي أمرتك بيه وخلاص.
هز رأيه معقبًا في صوت مطيع، وشيطانه يرقص طربًا بداخله:
-تمام يا "فؤاد" باشا.
.................................................
حسبما تراءى لها بعد استغراق عميق في التفكير، وهي تجلس في منزله أنها لم تتخذ أي احتياطات منذ اللحظة الأولى لتجنب الحمل منه، ومن المفترض أنها تعد العُدة الآن للتخلص منه، انقبض قلبها، وأخذت تلوم نفسها بتعنيفٍ غليظ وهي تضـ.ـر.ب مقدmة جبينها:
-أنا إزاي مفكرتش في ده، لازمًا أعمل حسابي.
ارتعشت "تهاني"، ورأت كيف ترتجف أطرافها في خوف غريزي، دارت حول نفسها مرددة في تصميم مشوب بالقلق الشـ.ـديد:
-بس محتاجة أتأكد الأول.
وضعت يديها المضمومتين إلى صدرها، شعرت بتسارع نبضات قلبها، حاولت السيطرة على مشاعرها المتذبذبة وهي تستمر في مخاطبة نفسها:
-ربنا يستر وما يحصلش اللي في بالي!
........................................
لتقطع الشك باليقين، كان أول ما قامت به فور عودتها لاستئناف العمل بنفس المشفى مع من تبغض، هو إجرائها لاختبـ.ـار الحمل في سريةٍ تامة، لم تنكر أنها حاولت على مدار الأيام السابقة حينما كان يشرع في ممارسة طقوس الحب الحميمية معها تجنب الاتصال المباشر، لعلها بذلك تحد من شكوكها المرعـ.ـبة، ومع ذلك بقيت هواجسها قائمة. استغلت وقت انشغاله في غرفة العمليات، بالذهاب إلى المعمل، وتولت بنفسها الأمر، ثم انتظرت بترقبٍ شـ.ـديد النتائج.
للغرابة ظلت "تهاني" تتلقى التهنئات والمبـ.ـاركات ممن تعرفه وممن لا تعرفه في مكتبها، حتى أصبح ممتلئًا عن آخره بعشرات من باقات الورد، وهذا ما لم تتوقعه، خاصة مع اكتشافها لحقيقته المؤسفة، ظنت أنها ستكون نكرة بالنسبة له، لن يجعل أحدهم يعلم بمسألة ارتباطهما الرسمية، بدا من الصعب عليها فهم ما يخططه في رأسه، بقيت معظم الوقت شاردة، واجمة، في حالة من الخوف. لم تنصرف في وقت باكر، فقد أبلغها زوجها بمغادرته للقاء واحد من الوفود الطبية الأجنبية بأحد الفنادق، مما استحثها على البقاء، واكتشاف النتائج ليلًا.
أسرعت بالذهاب إلى المعمل حتى تتمكن من الإطلاع عليها، اتسعت عيناها في صدmة عظيمة وقد قرأت فحواها، دق قلبها بقوةٍ، وهتفت تكلم نفسها في ارتياعٍ:
-أكيد ده وهم، استحالة ...
تقطعت أنفاسها، وتلعثمت وهي تنهي عبـ.ـارتها المنقوصة:
-أنا .. حامل!
انفلتت منها شهقة أقرب إلى الصراخ عنـ.ـد.ما التفَّ بغتة حول خصرها ذراعًا قوية، أحاطتها بتملك، وألصقتها في التو بصدر أحدهم، استدارت كالملسوعة للجانب بوجهها لتنظر إلى من ضمها هكذا، فوجدته "مهاب" بوجهه المبتسم في شرٍ صريح، اجتاحتها موجات من الخوف، والهلع، أحست بقدmيها تتحولان لهلامٍ، وكأنها على وشك فقدان وعيها، برزت عيناها أكثر في محجريهما، وداهمها الفزع حينما أراح رأسه على كتفها ليخاطبها في صوتٍ شـ.ـديد الهدوء لكنه باعث على الشعور بالهلاك الحتمي
-طب مش كنتي تقوليلي يا دكتورة عشان أبقى معاكي في اللحظة دي ....................
↚
(نـ.ـد.م)
المفاجأة غير المتوقعة جعلت تفكيرها يُشل للحظات، تداركت نفسها بعد هنيهة، واستلت نفسها من حـ.ـضـ.ـنه المطبق عليها، لتنظر إليه في ارتياعٍ غير مشكوك فيه. انتصب "مهاب" في وقفته السامقة يُطالعها بترقبٍ، ولم يقل شيئًا، كأنما ينتظر منها التأكيد على جملته الأخيرة، أحست "تهاني" حينها بأنها على وشك الانهيار عصبيًا من سكوته الذي يرعـ.ـبها عن كلامه. تلجلجت وبررت له في صوت مرتعش:
-إنت فاهم غلط...
حاولت إخفاء النتائج خلف ظهرها وهي تواصل الكذب المكشوف:
-دي تحاليل واحدة زميلتي.
رفع حاجبه للأعلى متسائلًا باقتضاب مريب:
-بجد؟
أكدت له بهزات متتالية من رأسها وهي تطوي الورق لئلا يقرأ ما دُون فيه:
-أيوه.
زم فمه للحظةٍ، ثم دنا منها متسائلًا بهذه النبرة الغريبة:
-وإنتي بنفسك جاية تشوفيها؟
ابتلعت ريقًا غير موجودٍ في حلقها، وأخبرته برجفة بائنة في صوتها:
-دي خدmة ليها.
تقوست شفتاه عن ابتسامة ساخرة أتبعها قوله الهازئ:
-فعلًا قلبك حنين.
جاهدت لتبدو مقنعة وهي تظهر ضيقها من تهكمه:
-لو سمحت مافيش داعي للتريقة، أنا بشوف شغلي.
أولته ظهرها واتجهت للطاولة الموضوعة لتسحب بضعة ملفات، وضعتها فوق ورقة النتائج التي تخصها، لعل وعسى تنجح في إخفائها وسطهم، ثم خاطبته دون أن تنظر ناحيته:
-وبعدين أنا خلصت اللي ورايا، والوقت اتأخر، مش المفروض نمشي؟
أنهت عبـ.ـارتها وهي تلتفت ناظرة إليه، فوجدته يرمقها بهذه النظرات الغامضة، ثم أومأ قائلًا باقتضابٍ:
-أكيد.
ومع ذلك ظل شعور الخوف مظللًا عليها، يشعرها بأنه يضمر لها شيئًا ضدها. أشار لها لتتبعه مكملاً في أدبٍ مريب:
-اتفضلي.
تحركت أمامه وهي شبه ترتجف، فنظرته التي صحبتها لم تكن مريحة بالمرة؛ لكنها توارت خلف قناع الجمود الذي وضعته على وجهها، محاولة ألا تظهر اضطرابها فيستغل هذه النقطة لصالحه، ويتحرى أكثر عما ظنت أنها نجحت في تخبئته.
............................................
تقمص روح الوداعة الممزوجة بالحماقة لتعتقد أن حيلتها الساذجة قد انطلت عليه، وأنه بالفعل صدق ما قالته بشأن نتائج تحاليل الحمل الخاصة بإحدى رفيقاتها في العمل، لم يكن على هذا القدر من الغباء لينخدع بسهولة، حافظ على صمته المشحون بالكثير طوال طريق عودتهما، لكن ما إن ولج الاثنان إلى داخل بيته حتى استوقفها بسؤاله الذي جعل كلها يرتج، تاركًا الباب مواربًا:
-رايحة فين؟
تجمدت في مكانها، ثم رفعت عينيها إلى وجهه خائفة وهي تسأله بترقبٍ مشوب بالارتباك:
-عاوز مني حاجة؟
ببطءٍ أهلك أعصابها تقدm في خطواته ناحيتها، حتى أصبح ما يفصل بينهما مسافة خطوة، دس يديه في جيبي بنطاله، وحدجها بنظرة قاسية، لا تنوي خيرًا، شعرت بها تنفذ داخلها، تعريها تمامًا. بهتت ملامحها عنـ.ـد.ما سألها في استعتاب حاد:
-مش عيب يا دكتورة لما تكدبي على جوزك وتستهوني بذكائه؟
اهتزت نظراتها وهي تردد في صيغة متسائلة:
-أنا؟
ارتفعت نبرته فجأة فبدا صوته كالهدير وهو يستطرد:
-إنتي مفكرة إن الكدبة الهبلة اللي قولتيها دي دخلت عليا وصدقتها؟
انتفضت مرتعشة أمامه، فأمسك بها من منبتي ذراعيها يهزها بعنف صائحًا بها:
-بتخبي عليا حملك؟
تلعثمت وهي تحاول تبرير موقفها:
-أنا آ...
قاطعها قبل أن تسترسل في كذبة جديدة بصوته العالي والمخيف، مواصلًا هزها بعصبيةٍ:
-إنتي موجودة معايا في المستشفي دي بالذات عشان تكوني تحت عيني طول الوقت.
برزت عيناها في اتساعٍ شـ.ـديد، فأكمل باستهزاءٍ وهو يسدد لها نظرة احتقارية مهينة:
-فحاجة عبـ.ـيـ.ـطة زي دي مش هتعدي بالساهل!
سلاح المواجهة كان الشيء الوحيد المتاح لها لمقاومته، انتفضت مُبعدة قبضتيه عنها، وتراجعت للخلف مسافة خطوتين لتهدر به في انفعالٍ:
-وده هيفرق معاك في حاجة يا دكتور "مهاب" إني أكون حامل ولا لأ؟
نظر لها بعينين تشتعلان بشـ.ـدة، فتابعت ما بدا بالهجوم اللفظي عليه:
-ماظنش إن حد بمستوى عيلتك الغنية يفكر إنه يخلف من واحدة زيي فقيرة، من حي شعبي، فمافيش داعي تكبر الحكاية وتعمله موضوع مهم.
استشاطت نظراته أكثر، ومع ذلك لم تكف عن إفراغ ما في جعبتها، صاحت معترفة له بلا احتراز:
-وأهو حصل وحملت منك...
لكن ما لبث أن غلف نبرتها القليل من النـ.ـد.م وهي تقول:
-وكانت غلطة، ومش غلطة سهلة نهائي!
حملق فيها بتحفزٍ، فاستمرت تضيف بعزمٍ مناقض لما كانت عليه قبل لحظة من شعور بالأسف:
-وهصلحها وأنزله.
أشار لها بسبابته مرددًا في نزعة تملكية متعنتة:
-برضوه القرار ده مش بمزاجك.
اندهشت من معارضته للأمر رغم يقينها أنه ضد مسألة الحمل برمتها، فكيف لشخص مثله أن ينجب طفلًا يصبح فيما بعد نسخة منه؟ ومنها هي تحديدًا؟ أهو يسخر منها أم يتعمد استفزازها لتخرج أسوأ ما فيها؟ تحيرت في أمره، وسألته بتشنجٍ:
-إنت عاوز مني إيه بالظبط؟
رؤيتها تثور تستحث فيه هذه النزعة المتأصلة في أعماقه بضبط تمردها، بإخماد مقاومتها، بفرض طغيانه عليها، نظر لها مليًا وهي تصيح أكثر:
-قولتلك طلقني وسبني لحال سبيلي.
امتدت يده فجأة لتقبض على فكها، أسره بين أصابعه قائلًا باستمتاعٍ مغيظٍ لها:
-لسه مزهقتش منك!
ضـ.ـر.بت قبضته بعنف لتتمكن من تخليص فكها، ثم منحته هذه النظرة الاحتقارية وهي تخاطبه في حدة متزايدة:
-تصدق، إنت لو آخر راجـ.ـل في الكون، فأنا مش هخلف منك مهما حصل.
ثم هرولت مبتعدة عنه، وراحت تكور قبضتيها لتلكم بها أسفل معدتها بلكمـ.ـا.ت متعـ.ـا.قبة في عنف مختلط بالعصبية، وصراخها يتضاعف:
-أهوو .. أهوو، مش عاوزة أفضل معاك.
تفاجأ بما تفعله، واندفع تجاهها دون لتفكير ليمسك بها من معصميها صائحًا في استنكارٍ جلي:
-إنتي اتجننتي؟
ردت عليه بهديرٍ صارخ وهي تتلوى بكامل جسدها لتتخلص منه:
-الجنان هو إني أفضل عايشة مع واحد زيك.
استحقرته بنظرتها قبل أن تواصل إخبـ.ـاره بما أطبق على صدرها، وفاض من قلبها:
-عملت إيه في دنيتي عشان ربنا يبتليني بحد زيك؟
اشتعل وجهه من اعترافاتها المتوالية على رأسه، ومع ذلك تعامل معها بهدوءٍ، واستمر في تقييده لها، مانعًا إياها من إيذاء ما تحمله في أحشائها. استاءت من تحجيمه لها، من وأده لأي مقاومة تبديها، فلم يبقَ لها إلا الصراخ اليائس، لذا أخذت تنعته بالوصف الملائم له:
-إنت شيطان.
أدارها في لمح البصر وألصقها بظهره، ثم لف ذراعيها حولها، وأحكم تشـ.ـديد قبضتيه القويتين عليها، لتصبح أكثر عجزًا عن التحرر منه، مما استثار أعصابها على الأخير، و.جـ.ـعلها في أوج ثورتها الانفعالية.
.....................................
لم يكن بحاجة إلى دعوة شخصية للقدوم إلى بيته في أي وقت، لطالما اعتبر مكان إقامته هو منزله، لذا وفر على نفسه عناء الاتصال به على الهاتف الأرضي وإخبـ.ـاره بمجيئه، خاصة بعد زواجه، فقد أراد رؤية الوضع على حقيقته بين الزوجين، فمن منظوره لا تزال اللعبة قائمة ولم تحسم بعد. عليه فقط أن يتحين اللحظة المناسبة للانقضاض عليها واقتناصها. ما إن صفَّ سيارته بالخارج حتى وصل إليه ضجيج متداخل لشجار ناشب بين الاثنين، أسرع في خطاه دافعًا الباب الذي كان لا يزال مفتوحًا بيده، اقتحم البهو متسائلًا في استنكارٍ:
-في إيه يا "مهاب"؟ صوتكم جايب لبرا.
أبصره وهو مقيد لزوجته بكلتا يديه، فخطا تجاهه مسلطًا نظره بالكامل على "تهاني" التي لم تكف عن الصراخ الهائج:
-ابعد عني بقى.
اهتاجت وخرجت عن السيطرة بـ.ـارتفاع نبرتها المتشنجة:
-حــــــرام عليك، أنا تعبت، عاوز إيه مني؟
كما بلغت ثورة غضبها العنان، راحت تخمد مرة واحدة بشكلٍ يدعو للقلق والخوف، غشيت فجأة، وفقدت وعيها ودmـ.ـو.عها لا تزال مسالة على وجهها، شعر "مهاب" بتراخي جسدها وثقلها عليه، للحظة شعر بالتعاطف معها، وهتف يناديها:
-"تهاني"!
بحذرٍ وحرص قام بحملها بين ذراعيه متجهَا بها إلى غرفته، ومن ورائه "ممدوح" يسأله مستفهمًا:
-إنت عملت فيها إيه؟
أجاب بوجه مكفهر:
-ولا حاجة.
علق عليه بجديةٍ:
-أظن إنك وصلتها لانهيار عصبي.
لم يبدُ مستعدًا لسماع سخافاته، وزوجته تعاني من تبعات نوبة انفعال عنيفة، مددها على فراشه بتريثٍ، فسحب "ممدوح" الغطاء ليساعده في تغطيتها بعدmا ضبط لها الوسادة لتسند رأسها عليه. وقف كلاهما يتطلعان إليها بنظرات جمعت بين الحيرة والتـ.ـو.تر. مرر "ممدوح" يده بين خصلات شعره مقترحًا:
-الأفضل إننا نحاول نشوفلها حاجة مهدئة.
اعترض عليه في تجهمٍ:
-مش هينفع.
سأله بابتسامةٍ ساخطة:
-مستخسر فيها العلاج؟ مش للدرجادي يا دكتور.
رمقه بهذه النظرة المستهجنة قبل أن يقول بتردد ملحوظ:
-لأ .. بس آ..
أبدى "ممدوح" اهتمامه الكامل لسماعه، فصدmه بما لم يطرأ على باله:
-"تهاني" طلعت حامل.
بهتت ملامحه تمامًا وهو يعلق في ذهول شـ.ـديد:
-بتقول إيه؟
..........................................
كان بحاجة للخروج من البيت بعدmا أزعجه هذا الشعور باحتمالية خسارة شيء يخصه، رغم عدm امتلاكه فعليًا له؛ لكنه يعود إليه، أصله منسوب منه. ترك "مهاب" زوجته الغافلة في رعاية ممرضة مسئولة عنها، بالإضافة إلى خادmة لتولي شئونها، جلس كعادته في واحدٍ من المطاعم الراقية بصحبة رفيقه الذي لم يكف عن معرفة تفاصيل ما غاب عنه، فمنحه ما يريد وأفضى له بكل شيء، وكأنه يزيح بذلك هذا الثقل الجاثم على صدره. طالعه "ممدوح" بنظرات عادية قبل أن يجود عليه بما اعتبرها نصيحته الثمينة:
-وإيه المشكلة إنها تكون حامل؟ سهل جدًا تنزله.
غامت ملامحه، وأظلمت نظراته في احتجاجٍ صامت على اقتراحه غير المبالي، بينما استمر "ممدوح" في كلامه وهو يتفرس بتدقيق معني في أدنى تغيير يطرأ على صديقه؛ كأنما يتأكد من شيء بعينه جعل الشكوك تبزغ بداخله:
-مش حاجة مهمة تخاف منها.
هتف ضاربًا بيده السطح الزجاجي للطاولة معترضًا عليه:
-أنا اللي أقرر!
استغرب من تحيزه معقبًا بتشكيكٍ متزايد:
-ما إنت ياما نمت مع ستات كتير.
رد عليه في صوتٍ أجش:
-بس دي مراتي.
جاء تعليقه بـ.ـاردًا للغاية:
-ورقة سهل تتلغى في أي لحظة.
ازدادت تعابيره سوادًا، فأيقن أنه على وشك التأكد مما يشك فيه، لهذا لم يطل في المماطلة، وسأله مباشرة ليعرف نواياه ناحيتها:
-ولا إنت عاوزها تكمل حمل؟
راوغه في الرد، وقال بتشـ.ـديدٍ وهو يشير له بإصبعه:
-بعدين هشوف، بس دلوقتي أنا عاوزك تاخد بالك منها وتراقبها الفترة اللي أنا مسافر فيها، ا عـ.ـر.في دmاغها فيها إيه.
بالرغم من المساوئ المشتركة لكليهما، إلا أن رابط صداقتهما لم يتزعزع، فوثق فيه "مهاب" دونًا عن غيره ليكلفه بهذا الأمر العجيب الذي يلغي أي حدود في العلاقات الأسرية ذات الطابع الخصوصي وكأنه أمر متاح وعادي. قطب "ممدوح" جبينه متسائلًا بفضولٍ قليل:
-رايح فين؟
بعد زفرة سريعة جاوبه:
-"فؤاد" باشا باعتلي، واضح كده إنه شم خبر بجوازي من "تهاني".
ضحك في مرح قبل أن يشير بيده معتذرًا ليخبره:
-قوله بتسلى شوية.
لم يبدُ مسترخيًا في جلسته حين قال:
-أنا عارف هتصرف معاه إزاي!
عادت نظراته لتشرد قبل أن يهمهم بقلقٍ غريب:
-بس اللي شاغل دmاغي "تهاني"، مش عاوزها تنزل الجنين.
تعجب أكثر لأحواله المتبدلة، وأردف محاولًا فهم ما يدور في رأسه:
-أنا مستغربك بصراحة، لو كانت واحدة تانية مكانها كنت أجبرتها تجهض.
أعاد صياغة ما قاله مؤكدًا له:
-بالظبط، أنا اللي أتحكم فيها، مش العكس!
ما زال أمره يُحيره، وجملته الأخيرة مجرد ستار زائف لإخفاء ما لا يريد البوح به، أوهمه أنه اقتنع بما أفصح عنه، وردد في ترحيبٍ:
-متقلقش، أنا موجود وهسد مكانك.
..............................................
تسليتها المتاحة كانت في تمضية نهارها بقضاء العالق من المشاوير، وتبادل الأحاديث العابرة مع الجيران، وصل بها المطاف بعد جولة لا بأس بها بالسوق إلى الجمعية الاستهلاكية، فوقفت بالصف، وانتظرت دورها بصبرٍ طويل، في البداية لم تعبأ "أفكار" بالثرثرة النسائية المحيطة بها، إلى أن قامت اثنتان بالحديث عن أمرٍ بعينه، شعرت في قرارة نفسها أنه يخص ابنة شقيقتها، أرهفت السمع لإحداهما وهي تسترسل بوقاحةٍ:
-يا ختي بيقولوا شيلوا أخوه الليلة لأنهم ماشيين مع بعض في الحـ.ـر.ام.
ردت عليها الأخرى في نبرة مستنكرة:
-يادي الحوسة.
انقبض قلب "أفكار" في توجسٍ مرتاع، وحاولت قدر المستطاع ألا تعلق بشيء، بينما أضافت الأولى من جديد في استحقارٍ، كأنما تتعمد إثارة البلبلة والمزيد من اللغط بنشر الأكاذيب غير الحقيقية:
-ولما الحكاية اتكشفت حاولوا يلموها.
مصمصت الثانية شفتيها مرددة في استهجانٍ مشمئز:
-الله يسترها على ولايانا.
أضافت المرأة الأولى مرة ثانية في شيء من الإهانة المتعمدة، قاصدة بذلك أن تُسمع "أفكار" ذلك الكلام اللئيم:
-ناس بجحة وعينها قادرة.
ردت عليها الأخرى تؤيدها:
-على رأيك، الناس دول الشرف عندهم مايسواش نكلة!
صرت "أفكار" على أسنانها في غيظٍ، وتوعدتهما في سرها:
-آخ يا ولاد الـ (...)، بكرة تنـ.ـد.موا على كلامكم الـ (...) ده!!
..............................................
حينما استعادت وعيها كانت تشعر وكأن عشرات المطارق تدق في رأسها، تأوهت من الألم الذي ما زال مصاحبًا لها، أحست بإجهاد غريب ينتشر في كامل جسدها، وكأنها قد بذلت مجهودًا عجيبًا فاق طاقتها بكثير. نهضت "تهاني" عن الفراش بعدmا ألقت نظرة متأنية مصحوبة بالدهشة لمحتوياتها، أدركت أنها لم تكن ماكثة بغرفتها، وإنما بحجرة هذا الوضيع الذي يتلذذ بإيذائها معنويًا ونفسيًا. خرجت منها في الحال قاصدة الاتجاه إلى غرفتها؛ لكن استوقفها وجود هذا الضيف الغريب الماكث بالردهة، وكأنه صاحب مكان. استنكرت تواجده، وسألته وهي تضبط بيديها شعرها المهوش، وثيابها غير المهنـ.ـد.مة:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
ترك المجلة التي كان يطالعها جانبًا، ثم نهض واقفًا ليلقي عليها التحية متمتمًا بوديةٍ واضحة:
-حمدلله على سلامتك يا دكتورة.
كانت غير راضية عن أريحيته المتجاوزة معها، فتساءلت في تحفزٍ متجاهلة مظهرها غير اللائق لاستقباله:
-فين "مهاب"؟
أجابها ببساطةٍ وهو يدنو منها:
-سافر.
زوت ما بين حاجبيها مرددة باستغرابٍ يشوبه الاستنكار:
-سافر؟
هز رأسه مؤكدًا عليها ما سمعته منه، سرعان ما انفعلت هاتفة في صوتٍ أقرب للصراخ:
-أه طبعًا، ما أنا وجودي زي عدmه، هفرق معاه في إيه؟
في التو جاءت الممرضة من الداخل تطلب منها، وهي تمد ذراعها ناحيتها:
-دكتورة "تهاني"، من فضلك اهدي، أنا التعليمـ.ـا.ت آ...
قاطعتها في عصبية:
-مش عايزة حد يقرب مني.
تدخل "ممدوح" قائلًا في روية، وقد أشار للممرضة ليصرفها:
-مافيش داعي للزعيق، احنا عاوزين تكوني هادية عشان صحتك...
استجابت له الممرضة في طاعة، وغادرت، فأتم "ممدوح" جملته بترقبٍ:
-وصحة اللي في بطنك.
تلقائيًا وضعت يدها على أسفل معدتها تتحسسها بـ.ـارتعاشٍ، ثم صرخت في نفورٍ، وقد أبعدت يدها في الحال:
-أنا مش عاوزة حاجة تربطني بيه، هنزله.
بنفس أسلوبه السهل اللين تقدm ناحيتها أكثر، ثم رفع كفه أمام وجهها قائلًا بتفهمٍ:
-اللي إنتي عاوزاه هيتعمل، بس بالهدوء مش بالعصبية.
حدجته بهذه النظرة القاتمة، قبل أن تسأله في نبرة تلومه:
-كنت عارف إنه كده؟
تنحنح مرددًا بجديةٍ شابت نبرته:
-أنا حاولت أحذرك.
تذكرت هذا اللقاء معه في القارب المستأجر، فضـ.ـر.بت جبينها بيدها هاتفة في نـ.ـد.مٍ:
-وأنا زي الغـ.ـبـ.ـية مشيت ورا الأوهام.
عنـ.ـد.ما استبد بها غضبها، انعكس تأثيره السلبي عليها، أحست بقليلٍ من الدوار يصيبها، فسارت نحو أقرب أريكة، وارتمت عليها، تجمعت الدmـ.ـو.ع في عينيها وهي تسترسل بلا توقف:
-افتكرت إنها فرصة العمر لما أتجوز واحد زيه، عنده اسمه وشهرته، وعيلة كبيرة، كنت بضحك على نفسي وآ...
جلس مجاورًا لها، وقاطعها في تريثٍ:
-تسمحيلي أخدك أخرجك برا شوية تغيري جو.
استغربت من اقتراحه المريب، ورفضته في صوت مستهجن:
-مش عاوزة.
أوشك "ممدوح" أن يراهن نفسه بقدرته على ترجيح كفة الميزان لصالحه، وكسب ثقة "تهاني" دون عناء، فقط إن أشعرها أنه الشخص الجدير بذلك، عليه فقط أن يتعامل معها بالحيلة والدهاء. في وداعة محفورة على ملامحه، مال عليها هامسًا في خبثٍ:
-صدقيني ده هيفيدك، وفرصة تتكلمي وتطلعي اللي جواكي من غير ما حد يراقبك.
رمقته بنظرة مستريبة، فألح عليها بتصميمٍ:
-من فضلك.
...................................................
كالأفعى المجلجلة راح يفح سمومه في أذنيه بقدرٍ معقول، كلما سنحت له الفرصة بذلك، ليوغر صدره أكثر ضده، ويجعله ينقلب عليه، فلا يتخذ صفه مثلما كان يفعل قبل وقتٍ سابق، وبالتالي يظفر هو بالمكانة التي حُرم منها طوال سنوات تفانيه في العمل. تأهب "سامي" في وقفته، وقال بعدmا وضع سماعة الهاتف الأرضي في مكانها مخاطبًا والده باحترامٍ:
-السكرتارية بلغوني إن "مهاب" وصل الشركة يا باشا.
دعك السيد "فؤاد" صدره الذي كان يشعر فيه بوخزاتٍ متفرقة، وهتف بعبوسٍ:
-كويس، عشان أحاسبه على اللي عمله.
ابتسم من ورائه في نشوة عارمة، وظل يردد عليه، وعيناه تعبران عن كراهية مختلطة بالشمـ.ـا.تة:
-لازم يعرف يا باشا إن عيلة "الجندي" فوق أي حد.
لم ينظر الأخير إليه، كان مهمومًا بالأخبـ.ـار غير السارة التي صدmته عن ابنه الذي ظن أنه سيخلفه في كل شيء، ضاعف "سامي" من وتيرة شحنه، ورفع غليل دmائه مضيفًا ببغضٍ صريح:
-وإنه مش بالساهل هتسامحه، ده مش بس أساء لاسم العيلة، ده لحضرتك كمان.
مقاومة هذا الألم الحاد كان مستحيلًا، شعر السيد "فؤاد" وكأن هناك من يحز ضلوعه بسنون خناجره الحامية. تشنج في جلسته، وتقلصت يده الموضوعة على صدره، في نفس اللحظة التي ولج فيها "مهاب" إلى داخل مكتبه ليستطرد ملقيًا التحية عليه بتفخيمٍ:
-"فؤاد" باشا!
صاح به "سامي" مهاجمًا إياه بغيظٍ:
-وليك عين تتكلم ولا كأنك عملت حاجة؟!!
رغم الكدر الظاهر في وجهه إلا أنه لم يرفع من نبرته عنـ.ـد.ما أخبره بتحقيرٍ:
-كلامي مش معاك إنت.
انفلتت صرخة موجوعة من والدهما، أتبعها ذلك النهجان العسير في صدره. اندفع "مهاب" تجاهه هاتفًا في لوعةٍ قلقة:
-بابا.
قال السيد "فؤاد" بصعوبة، وهو يضغط بقبضته المتشنجة على صدره:
-قلبي.
سأله "سامي" في جزعٍ عظيم:
-إيه اللي حصلك يا باشا؟
كان على وشك هزه لولا أن أمره "مهاب" بصرامةٍ قبل أن يدفعه للخلف:
-مـ.ـا.تحركوش، واطلب الإسعاف بسرعة!
نظر له في ضيقٍ، فلكزه بخشونة في صدره ليأمره بهذه النبرة غير الممازحة:
-إنت لسه واقف، يالا أوام.
اضطر على مضضٍ أن يخرج من المكتب مسرعًا تلبية لأمره، بينما بقي "مهاب" ملازمًا لأبيه وهو يحاول طمأنته في جديةٍ:
-اهدى يا بابا، أنا موجود جمبك، متخافش، أزمة وهتعدي.
...........................................
بغير همةٍ أو اهتمام جلست معه، لا تنظر تجاهه، وتطلعت بنظرات شاردة لأفق لا يراه أحد سواها، سيطر عليها ذلك الإحساس المؤنب بأن مجازفتها كانت في غير محلها، بأن من اختارته لم يستحقها، وأنها جنت فقط نتائج اختيارها السيء. كان في رأسها حوار لا ينقطع، ولا يشاركها فيه أي شخص. كانت "تهاني" بين الحين والآخر تنظر إليه بهذه النظرة الحزينة، فحاول "ممدوح" جرها لتبادل الحديث معه، وقال بلطافةٍ:
-اللمون هنا ممتاز.
أبقت على جمودها، فأضاف ضاحكًا:
-منعش، جربيه مش هتنـ.ـد.مي.
كان حائرًا في أمرها، وسعى بشتى الطرق لجذب انتباهها، فلم يكن أمامه سوى التطرق لسيرته المزعجة، وبالفعل تيقظت حواسها عنـ.ـد.ما تكلم بجديةٍ طفيفة:
-أنا عاوزك ما تشليش هم حاجة، ومتقلقيش من "مهاب"، هو بس متمسك بيكي عشانه متعود إن محدش بيقوله لأ.
ضيقت عينيها إلى حدٍ ما، فابتسم في داخله لأنه نجح في إثاره اهتمامها، ارتشف القليل من مشروبه، وتابع:
-اعملي اللي عاوزه وهتخلصي منه بسرعة.
تحول وجهها إلى ناحية أخرى بعيدة عنه، وصوتها المهموم يردد في خفوتٍ:
-يا ريت.
مجددًا استثار حفيظتها عنـ.ـد.ما تكلم بنزقٍ، وبلا احتراز:
-بس ت عـ.ـر.في، أنا المفروض أشكره إنه خلاكي تثقي فيا.
حدجته بهذه النظرة المُعادية، فقال مُلطفًا الأجواء، لئلا يفسد فرصته السانحة معها:
-مش عاوزك تفهميني غلط، أنا حابب أكون في منزله الصديق ليكي.
صاحت في حديةٍ:
-أنا معنتش بثق في حد.
قال مؤكدًا لها، ونظرة خبيثة تتراءى في عينيه:
-وأنا غير "مهاب"، وبكرة الأيام هتثبتلك ده.
..........................................
نقلت إليها الصورة السائدة بين عموم الناس في المنطقة الشعبية وما يتم تداوله على هيئة شائعات مغرضة، غرضها فقط تشويه سمعة هذه المسكينة من لا شيء، وكأن الجميع قد تكالبوا ضمنيًا على طحن ما تبقى من مشاعرها المحطمة بالمزيد من الإساءات الوضيعة إليها. لطـ.ـمـ.ـت "عقيلة" على خدها، وهمست في حسرة، وتعابير وجهها تؤكد هلعها:
-طب هنتصرف إزاي؟
بنفس الصوت الخفيض ردت عليها، وعيناها توحيان بشيء خطير:
-هو حل واحد وبس، مقدmناش غيره!
نظرت لها مستفهمة بعينيها، فتابعت بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا، لكونها تعلم أن ذلك الأمر حساسًا للغاية:
-د.خـ.ـلة بلدي.
وقتئذ انفلتت منها شهقة مستنكرة، ورددت في رفضٍ مستنكر:
-يادي الفضايح! إيه الكلام ده؟
أخبرتها بتصميمٍ، وكأنه لا يوجد حل سواه:
-احنا معندناش اللي نخاف منه، بـ.ـنتنا أشرف من الشرف، بس الناس ليها الظاهر.
هوى قلبها في قدmيها، وأحست بتلاحق أنفاسها، اختطفت "عقيلة" نظرة سريعة نحو المطبخ، لتتأكد من عدm سماع ابـ.ـنتها لهذا الأمر المخجل بشـ.ـدة، ثم تساءلت في اضطرابٍ شـ.ـديد:
-و"فردوس" هتقبل بكده؟
بلا تعاطفٍ قالت:
-غـ.ـصـ.ـب عنها لازمًا توافق!
بتحسرٍ متألم لطـ.ـمـ.ـت "عقيلة" هذه المرة على صدرها، وهتفت في فزعٍ:
-دي ممكن ترفض الجوازة أصلًا وآ...
لم تدعها شقيقتها تكمل جملتها للنهاية، حيث قاطعتها مشـ.ـددة عليها:
-احنا مش هنجيبلها سيرة، هنخليها لوقتها.
نظرت لها بغير اقتناعٍ، فتابعت:
-وبكده نبقى خرسنا كل الألسن اللي بتتكلم، وعلى عينك يا تاجر.
كادت أن تفوه بشيءٍ فأخرستها في التو بجملتها الحذرة، وقد لمحت "فردوس" خارجة من المطبخ وهي تحمل في يدها طست الغسيل:
-ششش، لأحسن بـ.ـنتك جاية.
عمَّ الصمت المريب بينهما، فشعرت "فردوس" بوجود خطب ما، بشيء يدور في الخفاء ربما له علاقها بها، خاصة مع نظراتهما الغريبة ناحيتها، وجهت سؤالها لوالدتها في استفسارٍ حائر، لعلها تخبرها بما ترتاب فيه:
-في حاجة يامه؟
اضطربت كليًا، ونظرت لشقيقتها في تـ.ـو.ترٍ، ثم تصنعت الابتسام وردت بصوتٍ مرتجف:
-لأ يا ضنايا.
همت بالتحرك وهي تتساءل:
-طب عاوزيني أعملكم شاي بعد ما أخلص نشر الغسيل؟
أجابتها خالتها بترحابٍ:
-أه يا ريت.
هزت رأسها بالإيجاب قبل أن تتابع المشي نحو الشرفة، وهي تخاطب نفسها في تحيرٍ يُخالطه الشك المستريب:
-بيتودودا في إيه دول يا ترى ......
↚
(حيرة)
كل ما سيطر عليها في لقائها المنفرد به بالقرب من مقر عمله هو التأكد من إقناعه بالموافقة على ما قررته بشأن ابنة شقيقتها، غير مبالية بجريرة ما ستتعرض له هذه المضطهدة على نفسيتها، المهم ألا تمس سمعة العائلة بسوء. أصرت "أفكار" على المجيء بمفردها، فإذ ربما مع الضغط والحرج تتراجع شقيقتها، وتصبح في موقف عسير، لذا تجنبت كل ما قد يفسد خطتها، وأطلعته عليه كأنها مسألة عادية مفروغ النقاش فيها! لولا كونهما في الشارع، وحولهما عموم الناس لصرخ "عوض" استنكارًا وتنديدًا على ما أفصحت به. اشتعل وجهه بحمرة الغضب، ورمقها بنظرة حادة مدmدmًا في استهجانٍ متعاظم:
-إيه الكلام ده يا خالة؟!!
ببرودٍ مناقض له أخبرته بلهجة الذي يقرر مصائر البشر:
-ده اللي المفروض يتعمل.
أبدى رأيه صراحةً، ودون رهبة منها:
-أنا مش موافق عليه...
حدجته بنظرة منتقدة له، فتابع مشـ.ـددًا بنفس الاستهجان:
-ده ما يرضيش ربنا نهائي.
خشيت أن يزيد إلحاحها من عِناده، فحاول اللجوء لحيلة المسكنة، فخاطبته في صوت هادئ، على أمل أن تمتص غضبته المندلعة:
-بس الناس آ...
استفزته بكلامها الأخير، فقاطعها قبل أن تنهي ما بدأته:
-وأنا مالي ومال الناس، بقى عاوزاني أغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
ضغطت على شفتيها في امتعاضٍ، فسألها في شيءٍ من الاستعطاف:
-والغلبانة دي ذنبها إيه تتعرض لحاجة زي كده؟
زرَّت عينيها بتدقيقٍ، فتابع على نفس النبرة المتسائلة في حمئةٍ:
-وهي أصلًا موافقة على ده؟
هتفت فيه بهجومٍ:
-الذنب من الأول ذنب أخوك، واحنا بنحاول نلم الدنيا.
أحس بموجاتٍ من الضيق تغمره، فهي لم تخطئ في إلقاء اللوم على عائلته، ابتلع غصة مريرة في حلقه، وظل مركزًا نظره معها وهي لا تزال تكلمه:
-ومتقلقش، احنا مطمنين من بـ.ـنتنا، بس يهمنا سمعتنا وشرفنا قصاد الغُرب.
جاهد لإثنائها على رأيها، فاستطرد بزفيرٍ محموم:
-يا خالة آ....
إيجاد المبررات والأعذار، والتعلل بأي حجج لم يكن مطروحًا في قاموسها، لذا رفضت الإنصات إليه، وقاطعته حاسمة الأمر:
-شوف من الآخر كده، اللي قولتلك هيتعمل، سواء كنت موافق عليه ولا لأ!
اتسعت عيناه حنقًا، فغضت بصرها عنه، وأولته ظهرها استعدادًا لذهابها قائلة بجمودٍ:
-مش هعطلك أكتر من كده، فوتك بعافـ.ـية!
بقي في مكانه متسمرًا، مستهجنًا لكل ما يدور، ضـ.ـر.ب كفه بالآخر، وراح يخاطب نفسه في حـ.ـز.نٍ متزايد:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، يعني مش كفاية اللي حصلها سابق، نيجي نكمل على الباقي فيها؟!
حرك رأسه يمينًا ويسارًا، وتابع في أسى بعدmا اختفت من أمامه تمامًا:
-لطفك بينا يا رب!
...........................................
لم يتوقف عن هز ساقه في تـ.ـو.ترٍ مشوب بالعصبية وهو يجلس بالخارج على المقعد المعدني في الردهة الخاصة بهذا المشفى الاستثماري الشهير. رفع يده أعلى رأسه، ثم خفضها قليلًا ليفرك مؤخرة عنقه وهو لا يصدق ما حدث في دقائق، وكأن الحظ يُعانده ويعطيه فقط أسوأ ما لديه، كان على وشك الظفر بمكانة لا تقدر عند أبيه، وحينئذ كان سيحظى بكل ما تمناه لنفسه، الاهتمام، الاحترام، اعتلاء عرش العائلة المهيب؛ لكن ضاعت أحلامه في لمح البصر وتحولت لهباءٍ منثور. حرر "سامي" زفرة ثقيلة معبأة بالحقد من رئتيه، وأراح ظهره للخلف مرددًا في جنبات أعماقه:
-مكانش على البال إن "فؤاد" باشا يدخل يعمل عملية قلب!
عكس وجهه ما تخفيه نفسه، فبدا كظيمًا، ومغلولًا، وهو ما زال مستغرقًا في تفكيره. ظل يكرر في غيظٍ حانق:
-لأ، ومين اللي يبقى واقف مع طقم الدكاترة اللي جوا.. "مهاب" بنفسه!
كز على أسنانه مُطلقًا سبَّة خافتة قبل أن يتكلم بصوتٍ خافت:
-مش لو كان اتأخر شوية كنت آ...
لم يستطع إتمام جملته من شـ.ـدة غيظه، وتساءل بملامح غائمة للغاية:
-طب أعمل إيه تاني عشان مايشوفش إلا أنا؟!!
توقف عن تفكيره التحليلي عنـ.ـد.ما وجد الباب الخاص بالتوجه لغرفة العمليات يُفتح، هبَّ واقفًا، واتجه إلى شقيقه الذي أطل عليه منه، رمقه بهذه النظرة الحائرة المتسائلة، فتولى "مهاب" الكلام باسمًا في حبورٍ:
-الحمدلله العملية عدت على خير، شوية وهيتنقل العناية المركزة.
وكأنه لم يسمع ما قاله، هاجمه دون مبرر، بصوتٍ حاد ومرتفع:
-لو جراله حاجة هتكون إنت السبب.
سدد له "مهاب" هذه النظرة المستخفة، تركه يظن أنه المسيطر على الوضع، إلى أن أخرسه بتعقيبه الصادm:
-وإنت نفسك تخلص منه عشان تورث الإمبراطورية، مش كده يا "سامي"؟
ارتفع حاجباه للأعلى، ونظر له مذهولًا للحظة، هـ.ـر.بت الدmاء من وجهه، وبدا مهتزًا وهو يرد مدافعًا عن اتهامه الواضح:
-إنت بتقول إيه؟
بنفس النبرة الهادئة، والملامح المستكينة، أخبره مؤكدًا:
-أنا أكتر حد فاهمك، إنت زي الكتاب المفتوح قدامي!
ثم ربت على كتفه قائلًا بصوتٍ هازئ يحمل الإهانة في طياته:
-ومش عاوزك تشيل هم إني هاخد مكانك، لأني مش زيك أبدًا...
اشتدت قسمـ.ـا.ت شقيقه الأكبر، وحدجه في نظرة قلقة سرعان ما تحولت للغيظ الشـ.ـديد عنـ.ـد.ما أكمل بإهانةٍ صريحة:
-تابع، مستني اللي يديني الأوامر!
وكأنه سكب فوق رأسه دلوًا من الماء المثلج، انتفض ثائرًا في وجهه، محاولًا لملمة ما تبعثر من كرامته المهانة:
-لو بابا جراله حاجة هخليك تنـ.ـد.م، سامع!!!
مجددًا ربت "مهاب" على كتفه قائلًا بشبه ابتسامة:
-مش هتقدر تعملي حاجة.
اشتاط غضبًا على غضب، وأطلق صيحة هادرة فيه:
-إنت متعرفنيش كويس يا "مهاب".
تقدm منه شقيقه، ومال عليه مُحدثًا إياه في أذنه بنبرة جمعت بين السخرية والصرامة:
-بلاش تزعق، إنت هنا في مستشفى، وده بيقل منك يا كبير العيلة.
احتقنت نظرات "سامي" أكثر، فما كان من شقيقه الأصغر إلى أن تركه يغلي في مكانه حقدًا، واستدار مبتعدًا عنه، كور الأول قبضته متوعدًا:
-هنشوف، مين هيضحك في الآخر!
.................................................
حاصر الهم ملامحها، فكانت مكللة بأحزانها، ولما لا تستاء وشقيقتها قد طلبت منها فعل ما تعجز عن البوح به لابـ.ـنتها؟ ظلت "عقيلة" تتحاشى الجلوس بمفردها معها، لئلا تضطر لإخبـ.ـارها بما قررته خالتها بالنيابة عنها في ليلة زفافها، مما دفع "فردوس" للاسترابة في أمرها، فوالدتها كانت غريبة التصرفات مؤخرًا. لم تترك عقلها لخواطرها المحيرات، واستطردت تسألها في جديةٍ حينما كانت منزوية بالشرفة:
-يامه إنتي بقالك كام يوم متغيرة، في حاجة حصلت؟
اضطربت، وارتبكت، واعتلى وجهها القلق، في التو أنكرت ما يشغل تفكيرها مرددة:
-لأ يا "دوسة"، كله تمام.
ومع ذلك لم تشعر بالارتياح، ما زال هناك ما يؤرق والدتها، وهذا الشيء كان جليًا في نظراتها الآسفة نحوها. صممت عليها دون اقتناعٍ:
-أومال أنا حاسة ليه إنك مخبية عني حاجة.
اهتزت نظراتها إليها، وبدا وكأن الدmـ.ـو.ع تشق طريقها إلى عينيها، استشعرت "فردوس" الخطر، وسألتها في شكٍ:
-"عوض" مش عاوز يكمل الجوازة؟ مغـ.ـصو.ب عليها زي أخوه؟
شهقت صغيرة خرجت من بين شفتيها، ثم هتفت نافية ذلك في الحال:
-وربنا ما حصل.
سألتها في إلحاحٍ مستنكر:
-طب في إيه؟
ادعت رغم نبرة الصدق الظاهرة في صوتها:
-زعلانة إنك هتفارقيني زي أختك، بقالها أد كده لا حس ولا خبر منها، ربنا يهدي سرها.
أكدت لها بلا تفكيرٍ، وقد التمعت عيناها بالدmـ.ـو.ع المتأثرة:
-أنا هفضل جمبك، ويوم والتاني هتلاقيني عندك.
شاركتها في إحساسها المرهف، وقالت وهي تسحبها لتضمها إليها في صدرها:
-تعيشي يا ضنايا.
.................................................
طمس الوقائع، وما على هذه الشاكلة، لم يؤثر على الحقيقة الجلية بأن الحياة معه لن تكون إلا جحيمًا ممتدًا، وهي لا تتحمل ذلك أبدًا، في لحظة بعينها ستنهار، وقد تفعل ما لا يُحمد عقباه. مرة ثانية استغربت "تهاني" من مجيء "ممدوح" لزيارتها؛ لكنها لم تكن كالسابق في وضعٍ مهمل ومزري، بدت هادئة أكثر، وأنيقة. استقبلته في الصالون برسميةٍ وجمود، ومع ذلك بدا شـ.ـديد الأريحية معها، انتظرت ذهاب الخادmة لتسأله دون استهلالٍ:
-ممكن أعرف سبب إنك موجود هنا تاني؟
نظر لها مليًا، بعينين تتفرسان فيها بتدقيقٍ، وهو يغوص بجسده في الأريكة، فأكملت بنبرة متهكمة ومغلفة بالمرارة:
-أنا دلوقتي أحسن، مافيش خوف مني.
حمحم قائلًا بهدوء، وعيناه مرتكزان عليها تمامًا، ليرى ردة فعلها:
-دي وصية "مهاب"!
سألته في تحفزٍ مصحوب بالضيق:
-ليه؟ معينك الحارس الخاص؟
استمتع برؤيتها تبدي التعبير الذي أراده، ثم أجابها باسمًا، وهو يرفع حاجبه للأعلى قليلًا:
-ممكن تقولي حاجة زي كده، ولو إني أفضل إنك تعتبريني ملاكك الحارس!
كررت كلمته الأخيرة في استنكارٍ:
-ملاك؟
هز رأسه إيجابًا، فأخبرته بتهكمٍ ممزوجٍ بالإهانة:
-أنا مشوفتش هنا إلا شياطين وبس!!
وكأنها أعطتهما الوصف الملائم لشخصيهما الوضيعين، فسألها متغاضيًا عما فاهت به:
-سيبك من ده وقوليلي عاملة إيه دلوقتي؟
أغمضت عينيها للحظةٍ، وأجابتها في صوتٍ شبه حزين وآسف:
-زي ما أنا، خسرت أحلامي، وبقيت محبوسة هنا بين أربع حيطان.
ساد وجهه علامـ.ـا.ت المكر، وسألها في تعاطف خبيث:
-ليه بس؟ ما إنتي تقدري تخرجي وتروحي أي مكان طالما أنا معاكي فيه.
حدجته بهذه النظرة الغريبة، فتابع على نفس المنوال:
-ولو حابة ترجعي شغلك تاني مافيش أي مشكلة.
قالت بغير اقتناعٍ:
-شغلي؟
قال مؤكدًا لها عن ثقة عجيبة:
-أيوه، فرصة تلهي نفسك في حاجة بدل الفراغ الكبير اللي إنتي فيه، وخصوصًا إني زعلت لما عرفت إنك سبتي دراستك، مكانش لازم تعملي كده.
تعمد إثارة هذا الموضوع مرة ثانية بداخلها ليزيد من كراهيتها له، ونجح ببساطة في مسعاه، تبدلت تعبيراتها للوجوم، وهتفت في ضيقٍ قد ملأ صدرها:
-شوفتني كنت موافقة يعني؟
ادعى اهتمامه بأمرها، فاعتذر في التو:
-أنا أسف، المفروض أفهم إنه كان غـ.ـصـ.ـب عنك، عمومًا المهم عندي دلوقتي إنك تكوني بخير.
وقتئذ طالعته "تهاني" مطولًا بشيءٍ من الحيرة والتخبط، خاصة مع سوء اختيارها وتبعات ذلك، وفهم "ممدوح" ذلك من نظراتها إليه، فبات شبه واثقٍ من الدرب الذي سيسلكه لإفساد راحة رفيقه.
....................................................
سعل سعلة حرجة آلمت حلقه، فأشار بيده للممرضة المرابطة بجوار فراشه لتأتي له بالماء، ساعدته على شرب القليل، ثم أراح رأسه على الوسادة وهو يحدق أمامه لينظر إلى ابنه وهو يتفقد باهتمامٍ شـ.ـديد التقارير اليومية التي تخص متابعة حالته بعدmا استقر في هذه الغرفة. رفع "مهاب" بصره تجاهه، واستطرد في ابتسامة لطيفة:
-حمدلله على السلامة يا باشا.
لم ينبس السيد "فؤاد" بشيء، فعاتبه ابنه بوديةٍ حذرة:
-كده تقلقنا عليك؟
عندئذ لامه والده بوجه مكفهر:
-يعني مش عارف أنا تعبت من إيه؟
سلط "مهاب" عينيه على الممرضة ليشير لها بالانصراف دون أن يفوه بكلمة، امتثلت لأمره غير المنطوق، وغادرت الغرفة في هدوءٍ تام، ليقترب بعدها من فراش أبيه متحدثًا إليه بابتسامته المعهودة:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، أنا عمري ما أخذلك.
سأله في استعتاب غليظٍ:
-وجوازتك الخايبة دي؟ تسميها إيه؟
سحب "مهاب" المقعد ليضعه على مقربة منه، جلس عليه، وأخبره بكلمـ.ـا.تٍ شبه موحية:
-راجـ.ـل ومتغرب، وعايش لواحدي .. يعني محتاج واحدة تشوف طلباتي.
ضاقت عينا "فؤاد" بغير رضا، ومع ذلك أنصت لابنه وهو يوضح له أسبابه باستفاضةٍ:
-وأنا قاصد أتجوز واحدة كده، مقطوعة من شجرة، تكون تحت رجلي، وفي أي لحظة أقدر أرميها من غير مشاكل ولا و.جـ.ـع دmاغ، ده غير إني عاوز أجبر بيها واحدة في دmاغي من صفوة المجتمع تغِير، ما هو في ستات مـ.ـا.تحسش بالقهر إلا من واحدة من جنسها، والنار تغلي في عروقها لما تكون أقل منها!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا:
-واسم العيلة؟
أكد له بما لا يدع مجالًا للشك:
-اطمن .. محفوظ، وعمري ما اسمح لحد يلطخه، ولو عاوزني أطلقها في لحظة، هعمل كده.
أبقى والده على صمته، ولم يعلق بشيء، مما دفع ابنه للتأكيد مرة ثانية عليه:
-كلها مصالح، وأنا فاهم بعمل إيه كويس.
ثم مد يده ليمسك بكفه، ضغط عليه برفقٍ، وطلب منه بحذرٍ:
-المهم عندي مـ.ـا.تتعبش نفسك دلوقتي، وترتاح.
من الناحية الأخرى، وعلى مقربة منهما، تلصص "سامي" عليهما في حيطةٍ ليعرف ما الذي يدور بينهما من ورائه، امتلأ صدره بالغل والحقد وهو يرى كيف استطاع خداع أبيه، و.جـ.ـعله يتخذ صفه، أطبق على شفتيه في غضبٍ، وهمهم مع نفسه:
-عرفت تضحك عليه تاني، طب أعمل إيه عشان أكسبه في صفي؟!!
...............................................
قبل أن تتشبث برأيها، وتحلق خلف أحلامها، كانت مدركة للهوة العميقة التي وُجدت بينها وبين عائلتها، ومع ذلك اشتاقت كثيرًا لنزاعهما الخالي من أي مكائد، ففي الأخير لم تقم والدتها بإيذائها، ولا شقيقتها بهدm مستقبلها، هي من أقدmت بتهورٍ على ما دmر مخططاتها ظنًا منها أنها ستحظى بنعيم الدنيا ومتعها، وفي النهاية سقطت في قعر الجحيم. كم ودت لو هاتفتها وأطلعتها على ما مرت به؛ لكنها خشيت من عتابها القاسي! تراجعت عن رغبتها تلك، وانخرطت في همومها.
ملازمته لها خلال هذه الفترة أفادها إلى حدٍ ما، وهونت عليها الكثير، بالرغم من إنكارها للتصريح بذلك علنيًا، أثرت الاحتفاظ بما تشعر به لنفسها، تجنبًا لأي مشاكل قد تطرأ من لا شيء. خرجت "تهاني" بصحبة "ممدوح" بناءً على دعوة مُلحة منه لتمضية السهرة في أحد المسارح. انتظرت رفع الستار لمشاهدة العرض الاستعراضي لإحدى فرق الأداء القادmة من الخارج. كانت جالسة في الصفوف الأمامية، في المنطقة المخصصة لأهم الضيوف، لم تشعر ككل مرة بالفخر والغبطة، بل بدت مشاعرها فاترة، مشوبة بالضيق، نظرت حولها في غير مبالاة، إلى أن تكلم "ممدوح" فجأة وهو يمد يده بعلبةٍ ما صغيرة الحجم، مُغلفة بورقٍ مفضض:
-اتفضلي.
سألته وهي تتناولها منه:
-إيه دي؟
احتفظ بابتسامته الهادئة وهو يخبرها:
-هدية بسيطة.
اندهشت من الأمر، وسألته مستفهمة وهي تحرك يدها بها:
-في مناسبة معينة؟
أجابها في بساطة شـ.ـديدة جعل داخلها يرتبك تحيرًا:
-لأ، بس أنا كنت حابب أجيبلك حاجة تفرحك.
ترددت في أخذها منه، وقالت بحرجٍ وهي تعيدها إليه:
-شكرًا، مكانش ليها داعي.
أصر عليها بملامحٍ جادة:
-هزعل جدًا لو رفضتي تاخديها.
ظلت ذراعها ممدودة تجاهه، فوضع كفه على راحتها القابضة على العلبة، ودفعها برفقٍ ناحيتها دون أن يتكلم، سرعان ما سحبت "تهاني" يدها، وبدأت تفض الورق اللامع لتنظر إلى ما أحضره، تفاجأت بزجاجة عطرٍ باهظة الثمن، رفعتها إلى مستوى نظرها متأملة إياها بانبهارٍ واضح قبل أن تتحول عيناها إليه متمتمة بابتسامة رقيقة:
-برفان!
بادلها الابتسام وهو يقول بشيءٍ من التمني:
-يا رب يعجبك، أنا مش عارف إنتي بتحبي أنهو نوع، بس حسيت إن ده مناسب لشخصيتك أكتر.
نزعت الغطاء، ونثرت القليل من العطر في الهواء لتستنشق رائحته بعمقٍ، تغلغلت في رئتيها، وأنعشتها، مجددًا نظرت ناحيته لتخاطبه بملامح مبتهجة قليلًا:
-ريحته جميلة أوي.
علق عليها في انتشاءٍ:
-مبسوط إنه عجبك.
وضعت العلبة مع غلافها المفضض في حقيبتها، وواصلت كلامها إليه:
-متشكرة جدًا يا دكتور "ممدوح".
قال عن قصدٍ ليزيد من ربكتها:
-أنا اللي شاكر جدًا للبهجة اللي بترسميها بوجودك في المكان.
رمشت بعينيها في دهشة متعجبة، فاستأنف بهدوءٍ، وكأنه لم يقل إلا ما رآه مناسبًا:
-ومـ.ـا.تنسيش لو احتاجتي حاجة فأنا جاهز أساعدك.
عجزت عن إيجاد المناسب من العبـ.ـارات لتوصيف ما يفعله، فعبرت عن ذلك بغير مبالغة:
-مش عارفة أقول إيه قصاد اللي بتعمله ده كله.
رسم على ثغره هذه الابتسامة الرائعة مخاطبًا إياها:
-ولا حاجة، كفاية إني أشوفك مبسوطة كده.
وليضمن إبقاء تأثيره عليها، أضاف عن عمدٍ:
-وما تشليش هم "مهاب"، أنا كفيل أقنعه بأي حاجة.
بلا تفكيرٍ أخبرته في نزقٍ:
-يا ريت لو تقدر تخليه يطـ.ـلقني.
سكت للحظاتٍ قبل أن يفوه بحذرٍ:
-هحاول، بس خدي بالك هو دايمًا عنيد في حاجات معينة.
بغصة مؤلمة في حلقها اعترفت بألمٍ:
-المشكلة إني مش فارقة معاه أصلًا.
رد عليها بصوته الهادئ:
-الوضع بقى دلوقتي مختلف.
وكأنه تتأكد مما لمح إليه فسألته:
-قصدك بسبب الحمل؟
أجابها مقتضبًا:
-أيوه.
غامت تعابير وجهها، فأوضح لها بنوعٍ من التحذير المستتر:
-ده هيخليه يفكر مليون مرة قبل ما ياخد قرار، باعتبـ.ـار إن اللي في بطنك يخصه.
قالت في أسى:
-صعب أجيب طفل أظلمه بأب زيه، إنت مش عارف هو وحش إزاي.
انتهز الفرصة، وحاول استمالتها قدر المستطاع لتثق أكثر فيه قائلًا:
-كل مشكلة وليها حل، خلينا بس دلوقتي نستمتع بالأجواء الجميلة دي.
هزت رأسها موافقة، وسألته:
-هو العرض هيبدأ امتى؟
قال مشيرًا بعينيه نحو الستارة الحمراء:
-أظن خلال 5 دقايق بالكتير.
حركت رأسها بإيماءة خفيفة، لتتوقف عن النظر ناحيته، وقد راح الحـ.ـز.ن الممزوج بالخوف يلفها من جديد، فمستقبلها مع زوجها لا يزال غامضًا، ناهيك عن كونه محفوفًا بالتهديدات المستمرة ............................................. !!
(ليلة مغلفة بالدmـ.ـو.ع)
ما لم تفهمه حتى هذه اللحظة، هو إصرار رفيقه على ملازمتها كظلها ليل نهار، وكأن لا عمل له سواها هي وحدها، يبذل أقصى طاقاته للترفيه عنها، والترويح عن نفسها، فتنسى الفترة العصيبة التي مرت بها. استنكرت "تهاني" استغراقها في التفكير في شأنه أكثر من الحد المقبول، وكيف لها ألا تفعل وقد استحوذ على الفراغ الطويل المستبد بها بحضوره وتسليته في ظل غياب زوجها المستمر؟ لن تنكر أنه أظهر لها جانبًا من الاحترام، ذاك الذي تمنت أن يكون صادرًا من شريك حياتها المزعوم؛ لكن للأسف الأخير تعامل معها كوعاءٍ لإفراغ عواطفه بها، لا ككيان رقيق وهش، يحتاج للعناية والرعاية.
زجاجة العطر التي أهادها لها "ممدوح" بعد ليلة دافئة وعامرة بالاهتمام، كانت شاهدًا على الفارق بين الصديقين في المعاملة، نثرت "تهاني" رائحتها المثيرة على جسدها وهي مُسجاة على سريرها، استنشقت عبيرها الساحر بعمقٍ، حتى شعرت بها تُسكرها، تبسَّمت في مرارة، وخاطبت نفسها في نـ.ـد.مٍ:
-مش لو كنت صبرت شوية، كنت آ...
عجزت عن إكمال جملتها للنهاية، وكأن الكلمـ.ـا.ت تجمدت على طرف لسانها، فلم تستطع الإفلات من بين شفتيها، كان من غير الصواب أن تعقد مثل هذه المقارنة بينهما؛ لكنه من دفعها لذلك بتصرفاته القاســــية معها. تغلغلت الرائحة أكثر في رئتيها، فتذكرت كلام "ممدوح" معها وهو يستحثها على العودة لمتابعة دراستها مع وعده بتقديم كامل العون لها لتحقق ذاتها، جرفها ذلك الإغراء العلمي للتمسك بأملٍ جديد في عدm الاستسلام لحصار "مهاب" المهلك، عليها بمقاومته، فإذ ربما تظفر بأي شيء ينسيها خطئها.
...............................................
امتلأ السطح عن آخره بالمدعوين من الجيران والمعارف والأقرباء لحضور حفل الزفاف الشعبي، خاصة مع انتشار الشائعات والأخبـ.ـار عن طبيعة هذه الليلة الخاصة، لكونها تمس سمعة وشرف إحدى قاطنات المنطقة. بدا الجميع متشوقًا لمشاهدة ما يحدث فور وقوعه، لذا كان الزحام غير عادي بالنسبة لعائلتين لا تملكان الكثير من الصلات القوية. شعرت "فردوس" وهي تجلس على المقعد الخشبي المبطن بقماش القطيفة الأحمر، مجاورة لزوجها الجالس على مقعد مماثل، بوجود خطب ما، فالأعين كلها مرتكزة عليها بشكل أرعـ.ـبها، وكأنهم ينتظرون منها شيء ما زالت جاهلة به.
على قدر المستطاع تغاضت عن نظراتهم المزعجة، ورسمت هذه الابتسامة المسرورة على محياها، بالرغم من الارتباك الطبيعي الذي يساورها. مالت عليها والدتها، فانتشلتها من شرودها السريع حينما ربتت على كتفها في حنوٍ، نظرت إليها متسائلة بعينيها، فهمست لها في أذنها بتضرعٍ:
-ربنا يجعل ليلتك مبروكة، ويفرح قلبك يا ضنايا، إنتي صبرتي كتير.
ردت بنفس الابتسامة:
-يا رب.
اعتدلت "عقيلة" واقفة، واتجهت ببصرها نحو شقيقتها التي راحت تصفق بكلتا يديها في حماسٍ، وهي تخاطب من حولها:
-ساكتين ليه يا حبايب، زغرطوا كده، وإملوا الدنيا بهجة، خلي الكل يفرح ويتبسط.
أطلقت مثل النساء زغرودة عالية، قبل أن تدندن مع نغمـ.ـا.ت الأغنية الدائرة في الخلفية، بينما همهمت "عقيلة" بصوتٍ شبه حزين، وملتاع، كأنما تكلم نفسها:
-ياما كان نفسي أختك تبقى حاضرة معانا.
سمعت "فردوس" هذه الشكوى رغم اختلاطها بالصخب، فسألتها كنوعٍ من الاستعلام:
-مـ.ـا.تصلتش خالص يامه بعد ما بعتي جواب ليها؟
أجابتها بحـ.ـز.نٍ ما زال حيًّا بداخلها:
-لأ يا "دوسة"، زي ما تكون نسيتنا.
ردت مؤكدة عليها:
-مسيرها تكلمنا، ما إنتي عارفة لما بتحط دmاغها في العلام والمذاكرة ما بتعرفش حد.
لم تكن مقتنعة تمامًا بتبريرها، وقالت في إنكارٍ:
-بس مش للدرجادي، هي في غربة، وبعيدة عننا.
قبل أن تضيف أي شيءٍ جاءت "أفكار"، وسحبت شقيقتها من ذراعها للجانب قائلة بوجه مبتسم على الأخير:
-وسعي ياختي شوية أما أكلم "دوسة" كلمتين.
طالعتها "فردوس" بغرابةٍ، وسألتها في قليلٍ من التوجس الحائر:
-خير يا خالتي؟
ظلت محتفظة ببسمتها الغامضة وهي تخبرها:
-بصي يا حبيبتي، إنتي عارفة غلاوتك عندي، وما بعملش إلا اللي فيه مصلحتك وبس، صح كلامي؟
أومأت برأسها مرددة:
-مظبوط.
تابعت خالتها حديثها بنفس الأسلوب الغامض:
-لما ليلتك تخلص على خير، عاوزاكي تنفذي اللي هقولك عليه بالحرف عشان نفرح بيكي كلنا.
سألتها بقلقٍ أخذٍ في التصاعد:
-في إيه؟
منحتها نظرة ذات مغزى، ورائها الكثير مما حيرها، قبل أن تجيبها بما لم يرحها أبدًا
-هت عـ.ـر.في بعدين، بس اسمعي كلامي وإنتي تكسبي.
ثم قبلت فوق رأسها، قبل أن تعاود التصفيق والتهليل الفرح تاركة ابنة شقيقتها على وضعها الحائر المتخبط، تأكل رأسها الأسئلة والخواطر المزعجة.
..........................................
من المفترض أن ينصرف الضيوف بعدmا ينتهي ذلك التجمع؛ لكن للغرابة ظل الغالبية حاضرين بالأسفل، متجمهرين أمام مدخل البناية، كما لو كانوا يترقبون حدوث شيء ما، لم تعلق "فردوس" على ذلك، وتغاضت عنه مثلما اعتادت أن تتغاضى عما يؤرقها مؤخرًا. هبطت الدرجات على مهلٍ، وساعدتها "إجلال" على رفع طرف ثوب عرسها لئلا تتعثر فيه، وتتعرقل على السلم. انتابها التـ.ـو.تر واختلط برهبتها من مجرد محاولة التفكير في تفاصيل ما سيأتي من ليلتها، لم توضح لها والدتها أي شيء، واكتفت بالقول الشائع عند العموم:
-جوزك فاهم وعارف هيعمل إيه.
وكأن في جهلها نعمة! لم تسعَ لاستنباط ما اعتبرته متجاوزًا ولا يليق الحديث عنه، طالما هي لا تزال عذراء. ضحكت "إجلال" وخاطبتها في مرحٍ:
-عاوزاكي بقى تدلعي يا "دوسة"، ده يومك النهاردة.
ردت عليها وهي تحاول النظر إليها من طرف عينها:
-ما تـ.ـو.ترنيش أكتر من كده.
ضحكت مجددًا، وأكدت لها بمحبة صافية نابعة من قلبها:
-هتعدي على خير، إنتي بـ.ـنت حلال، و"عوض" أفندي راجـ.ـل محترم وبيعرف في الأصول.
حادت ببصرها عنها محدثة نفسها في استياءٍ:
-وأنا أعرفه منين، ده زيه زي الغريب عندي.
سرعان ما انتشر الحـ.ـز.ن على صفحة وجهها لتتابع حديث نفسها المهمومة، وقد دلفت من باب منزلها:
-منها لله اللي حرمتني من فرحتي الحقيقية!
........................................
الطريق إلى غرفة النوم الخاصة بالعروسين كان معروفًا، ومع ذلك لم تتركها والدتها أو خالتها بمفردها، بقيت كلتاهما معها وهي تنتظر جالسة على الفراش قدوم زوجها للانفراد بها، خجلت "فردوس" من تبديل ثوب عرسها، وارتداء هذا الزي الوردي الشفاف الكاشف لكل ما هو مشوق. شبكت كفيها معًا، ونظرت إليهما في استحياءٍ، أرادت أن تعتاد أولًا على وجوده، قبل أن تباشر طقوس هذه الليلة المميزة. بادرت "أفكار" بالكلام حينما ساد الصمت لوقتٍ، فقالت بجديةٍ غريبة رغم خفوت صوتها:
-الناس مستنية البشارة.
حدجتها "عقيلة" بنظرة محذرة قبل أن تردد في تجهمٍ عجيب، باعث على الاسترابة:
-مالوش لازمة نحكي فيه دلوقتي.
استغربت "فردوس" من حديثهما الغامض والموحي، شعرت أنه متعلق بها، وإلا لما بقيت والدتها على تكشيرتها تلك منذ مطلع النهار وحتى الآن، لم تترك نفسها لحيرتها، وتساءلت بقدرٍ من الشك:
-هو في إيه؟
انعكس التردد بشكلٍ واضح على وجه أمها، ألقت نظرة سريعة على شقيقتها التي بدت غير مبالية على الإطـ.ـلا.ق بما يصير مع ابـ.ـنتها، حولت ناظريها عنها، وحاولت التفسير لها، لكن الكلمـ.ـا.ت لم تسعفها، تعذر عليها إيجاد جملة مناسبة تستهل به بوحها بهذا الأمر العويص، لذا خرج صوتها مذبذبًا، مغلفًا بالاضطراب:
-بصي يا بـ.ـنتي، إنتي لازمًا تبقي متأكدة إنه كلنا غرضنا نطمن عليكي، تكوني آ....
قبل أن تشرع في الشرح لها باستفاضة، قاطعتها قدوم إحدى السيدات المتشحات باللون الأسود من رأسها لأخمص قدmيها، حيث اقتحمت الغرفة هاتفة بتهليلٍ:
-مبروك يا عروسة، إن شاءالله الكل يفرح بيكي وأهلك يرفعوا راسهم لفوق.
كانت المرأة غريبة كليًا عنها، لم ترها مسبقًا، ولا تذكر أنها التقت بها في أي مناسبة سابقة، كانت تعابير وجهها عابسة، نظراتها توحي بالإظلام، أحست بالخوف يتسرب إليها، ورغم ذلك غالبت شعورها الغريزي لتستنكر وجودها غير المسموح به هنا، لذا سألتها "فردوس" في استفهامٍ مشوب بالحيرة:
-إنتي مين؟ وبتعملي إيه هنا؟
لم تتمكن من الحصول على جوابها، حيث لحقت بها امرأة أخرى تماثلها في ارتدائها للثياب السوداء، وفي ضخامة الجـ.ـسم، وكذلك الملامح الجادة المكفهرة، أمرتها الثانية في صوتٍ صارم، وهي تشير بيدها:
-افردي ضهرك كده يا عروسة.
انقبض قلبها خيفة منها، فنهضت واقفة لتوجه سؤالها إلى والدتها في تـ.ـو.ترٍ متزايد:
-مين دول يامه؟
شاركتها في الشعور بمشاعرها الخائفة، وحاولت بث الطمأنينة إليها، فقالت وهي تمسح على وجنتها:
-متخافيش يا ضنايا، دول هنا عشانك.
في التو انزوى ما بين حاجبيها، وعلقت متسائلة في خوف أكبر:
-عشاني؟ ليه؟
بلعت ريقها، وقالت وهي تنظر من فوق كتفها للمرأتين المنتظرتين في الخلف:
-دلوقتي هتفهمي.
صاحت المرأة الأولى تأمرها في صوتٍ غليظ:
-اسمعي الكلام يا عروسة عشان ننجز في ليلتنا الحلوة دي.
ارتاعت "فردوس" من طريقتها المريبة في التعامل معها، ناهيك عن تحيرها الكامل من سبب وجودها في غرفة نومها في مثل هذا اليوم، راح شعور الضيق يتسلل إليها، فالتفتت إليهما متسائلة في شيءٍ من الهجوم:
-إنتو عاوزين مني إيه؟
هنا تولت "أفكار" دفة الكلام، وأخبرتها في حنانٍ زائف:
-بصي يا "دوسة"، مش أنا فهمتك فوق إن في حاجات هنعملها بعد ما الزفة تخلص عشان فرحتك تكمل؟
استدارت ناظرة إليها، وقالت وهي تومئ برأسها:
-أيوه، بس مين دول برضوه؟
أجابتها بغموضٍ جعل داخلها يرتجف:
-دول اللي هيقطعوا لسان أي حد اتكلم بالسوء عنك.
استشعرت الخطر بين طيات حديثها المفزع، وسألتها بوجهٍ راحت الدmاء تفر منه بالتدريج:
-يعني إيه؟
ألصقت بفمها هذه الابتسامة السمجة، وطلبت منها وهي تدفعها برفقٍ تجاه الفراش:
-اسمعي بس الكلام، وهت عـ.ـر.في.
مرة ثانية استطردت المرأة الأولى مخاطبة "فردوس" بنفس الصوت الآمر:
-نامي على ضهرك يا عروسة.
اضطرت أن تستجيب لأمرها المريب، وتمددت على الفراش بعدmا تزحَّفت للخلف لتريح ظهرها على عارضته الخشبية. افترقت المرأتان، وجلست كل واحدة منهما على طرف الفراش، فأصبحت "فردوس" محاصرة بينهما. مجددًا تكلمت المرأة الأولى تأمرها بصوتها الجاف:
-لما نبدأ سيبي نفسك وبلاش تتشنجي.
رمقتها بهذه النظرة الحيرى، قبل أن تدور بعينيها الزائغتين باحثة عن والدتها، نكست الأخيرة رأسها في خزي، فقد كانت لا حول لها ولا قوة، تقف بلا حراكٍ، تنتظر مثل البقية ما سيحدث. تكلمت المرأة الأولى في صيغة آمرة:
-نادوا على العريس.
تحركت "أفكار" من موضع وقوفها هاتفة في حماس غريب:
-أنا هاروحله.
اندهشت "فردوس" من برود خالتها، أنبأها حدسها بأنها على علم مسبق بما يجري، وأنها أرجأت إطلاعها على ذلك خوفًا من رفضها، اختفت "أفكار" قبل أن تتمكن من الاستفسار منها، لذا لم يكن أمامها سوى والدتها لتسألها في تخبطٍ مخيف:
-هو هيعملوا فيا إيه يامه؟
لم تجرؤ على النظر في عينيها، وإعلامها بما تم تقريره، ظلت تقول في شيءٍ من الأسى والتعاطف:
-مش عارفة أقولك إيه والله، بس نصيبك كده.
راحت تتصارع الهواجس المرعـ.ـبة في رأسها بشكلٍ جعل بدنها يرتجف، زاد تلاحق دقات قلبها، حتى كلمـ.ـا.ت والدتها لها لم تكن مشجعة بالمرة، صاحت فيها مرة أخرى، كأنما تستنجد بها:
-يامه قوليلي بس، إنتو ناويين على إيه؟
تنهدت في مرارةٍ، وقالت بما ضاعف من هلعها:
-اصبري واستحملي.
استطردت المرأة الأولى تتساءل بجديةٍ:
-في حد من أهل العريس برا؟
جاء رد "عقيلة" مصحوبًا بإيماءة من رأسها:
-أيوه، عمته، وكام حد تبعه.
أمرتها في نبرة حازمة:
-خلي 2 منهم يجيوا معانا.
استبد بـ "فردوس" كل القلق، وتساءلت في فزعٍ بائن في صوتها، وأيضًا نظراتها:
-ليه كمان؟
امتثلت "عقيلة" لأمر المرأة، وسارت تجاه باب الغرفة، والحـ.ـز.ن يشع من عينيها، بينما هدرت "فردوس" محتجة عنـ.ـد.ما شرعت المرأة في الإمساك بها من كتفها، كأنما تثبتها في موضعها:
-ابعدي إيدك عني، مكتفاني ليه؟
زادت من قوتها عليها، ثم أمرتها في نبرة غير متساهلة، ونظرة مخيفة تنبعث من حدقتيها:
-ريحي جتتك يا عروسة، احنا جايين نطمن عليكي ونطمن الحبايب كلهم!
قذف قلبها بقوةٍ عظيمة، فهتفت تستغيث بأمها وهي تحاول التخلص من قبضتها المحكمة عليها:
-يامه! إنتي هتسبيني معاهم؟
ردت دون أن تنظر تجاهها:
-جايلك على طول.
لم تهدأ خواطرها، ولم يستكين داخلها، بل بدا وكأن كل خوفها قد تجمع الآن ليزيد من فزعها، أصبحت "فردوس" الآن في موضع لا تُحسد عليه، تترقب بغير معرفة ما سيحدث لها.
.............................................
تمنى لو انشقت الأرض وابتلعته، فلا يكون ضليعًا في أمر مخزٍ كذلك، سعى "عوض" بشتى الطرق لإيقاف هذه الفعلة النكراء، ورغم كل جهوده المبذولة إلا أنه لم يفلح أمام طوفان إصرار "أفكار" العنيد، وكأنها اتخذت الأمر ثأرًا شخصيًا إرضاءً لحفنة من البشر، لا يهمهم سوى نهش أعراض الأبرياء، والنيل من سمعة الأنقياء. ظل باقيًا بالأسفل، رافضًا الصعود والمشاركة فيما يعرف به قبل وقت سابق، ادعى انشغاله بتوديع من جاء لتهنئته، محاولًا إضاعة الوقت؛ لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، حيث نادته "أفكار" من عند بداية سلم الدرج بصوت مرتفع، ومليء بالابتهاج، كما لو كانت تفتخر حقًا بكشف ستر لحمها:
-سي "عوض"، جماعتك مستنين جوا، عاوزينك تبشرنا.
تحرج كثيرًا من كلامها شبه الفاضح، والذي أتبعه ضحكات عابثة ممن يقفون حوله، تلاها تعليقات شبه متجاوزة، كنوعٍ من التحفيز له. ابتعد عنهم ليدنو منها، وعلى قسمـ.ـا.ته هذه التكشيرة الكبيرة، همس لها وهو يكز على أسنانه محتجًا:
-اللي إنتي طالباه مني مش هيحصل.
لطـ.ـمـ.ـت على صدرها صائحة في استنكارٍ:
-يا نصيبتي!!!
ارتبك من صوتها المرتفع، وتلفت حوله ليتأكد من عدm متابعة أحدهم لحوارهما، لم تكن مثله تخشى من لفت الأنظار، بل قالت في تحدٍ مغيظ له:
-عاوز تفضح البت قصاد الخلق؟!!
عقب عليها في عنادٍ:
-وأغضب ربنا عشان أرضي الناس؟
زمت شفتيها متمتمة:
-ربنا غفور رحيم...
ثم لكزت جانب ذراعه تستحثه في تصميمٍ أشـ.ـد:
-اللي يهمنا دلوقتي سمعة بـ.ـنتنا، والكل واقف وشاهد.
أخبرها بمعارضة تفوق إصرارها:
-محدش فارق معايا من الناس.
هاجمته في تحفزٍ، وقد ارتفعت نبرتها إلى حدٍ كبير:
-يعني مش مكفيك عمايل أخوك؟ جاي تكمل عليها وقصاد أمة لا إله إلا الله؟
مجددًا التفت ورائه لينظر للحفنة المرابطة خارج مدخل البناية، كانوا لا يزالون منشغلين عنه، عاود النظر إلى "أفكار"، وقال بصوتٍ خفيض:
-هي بقت مراتي، واللي بينا مايصحش حد يعرفه!
أصرت عليه بلهجة من يقرر، رافضة النقاش أو حتى مراجعتها في الأمر:
-إلا دي بالذات، الكل هيتأكد من ختم ربنا، ولو مش ناوي تعمل ده بنفسك، يبقى تقف وتتفرج.
برزت عيناه في صدmةٍ، لم تتدعه لذهوله، وأكملت إملاء أوامرها عليه في حسمٍ:
-وما تعلقش، تاخد الأمارة وتفرح كل الموجودين.
توسلها في رجاءٍ:
-يا خالة آ...
قاطعته بلا تفهمٍ:
-ده اللي عندي!
رمقته بهذه النظرة الازدرائية قبل أن تهم بالصعود على الدرج، ليضطر في أسف أن يتبعها وهو مشفق تمامًا على زوجته التي ستختبر نوعًا شـ.ـديدًا من المهانة، تلك التي لن تُمحى تفاصيلها من الذاكرة مُطلقًا!
..........................................
تكالبت عليها النساء، وأحطن بها من كل جانب لتثبيتها، فانتفضت، وثارت، وحاولت مقاومة تجريدهن لما يسترها. صرخت، واستغاثت، وارتفع صوت توسلاتها؛ لكن الكل سد أذنه عنها، تركوها تبكي بلا ذرة إشفاق منهن، حتى حينما جاء "عوض"، واستنجدت به، تجمد موضعه ولم يقدm لها العون، كان مثلهن شاهدًا على ســحق روحها. ضاقت أنفاسها، وتساقط عرق غزيز منها وهي تقاومهن، سرعان ما تشنج جسدها، وتقلصت عضلاتها، ارتعشت أكثر عنـ.ـد.ما قامت إحدى المتواجدات بالمباعدة بين ساقيها، صاحت بها من يُقال عنها أنها عمة زوجها تأمرها:
-اتني رجلك شوية يا عروسة.
لم تسهل عليها الأمر، وضمتهما بقوةٍ، لتحول دون وصولها إلى موطن سرها؛ لكن امرأة أخرى من أقارب زوجها عاونتها على فصل ساقيها. هتفت "فردوس" تلوم والدتها بحرقة تقطع نياط القلوب:
-هتسبيهم يامه يعملوا فيا كده؟
رأفةً بها، كادت "عقيلة" تتحرك تجاهها، وتوقف ما يفعلن، إلا أن شقيقتها منعتها، وأمسكت بها من رسغها ضاغطة عليه بقدرٍ من القوة، فاضطرت أن تقول في أسفٍ وهي تطأطأ رأسها خجلًا من خذلانها لها:
-على عيني يا ضنايا والله!
قامت عمة زوجها بسؤالها في شيءٍ من التحدي:
-خايفة من إيه يا عروسة؟ ده احنا جايين نخرس الألسن، ونوريهم البشارة.
أحست "فردوس" بالفزع يتولاها من كل جانب، بأنها تغرق في دوامة مظلمة، لا نجاة لها منها، صرخت عاليًا بصوت كان أقرب للبكاء، لعل وعسى تتخلى عن جمودها وتزيح هذه الأيادي عنها:
-غتيني يامه.
ارتفعت شهقاتها وامتزجت مع نهنهات بكائها عنـ.ـد.ما شعرت بيدٍ بـ.ـاردة قاسية، تتوغل بغير رحمة في دواخلها، لتقتحم قلاعها الحصينة بلا هوادة، انتفضت، وزاد تصبب العرق بها فأصبحت كخرقة مبتلة، أتبع ذلك توسلها المتسول لعطفٍ غير موجود في أي من الحاضرين:
-يا خالتي، حوشيهم عني.
تصنعت الضحك، كأنما بذلك تخفف من حدة الأمر عليها، وقالت وهي ترمقها بهذه النظرة الجادة:
-متخافيش يا بت، علقة تفوت ولا حد يمـ.ـو.ت.
وقتئذ اتجهت "فردوس" بنظراتها التائهة نحو "عوض"، حدجته بنظرة مليئة بالعتاب القاسي، فما كان منه إلا أن أخفض رأسه متحاشيًا عتابها الظاهر، فهمهمت داخلها، بصوتٍ تردد صداه بينها وبين جنبات نفسها:
-مش مسمحاك، إنت غدرت بيا زي أخوك!
صرخت مرات مستغيثة بأي أحدٍ، فما أغاثها مخلوق، الكل ساهم في إثبات براءتها من تهمة أدانها بها شرذمة من الناس، ممن يخوضون في الأعراض بافتراء وتدليس، فقط للقضاء على ملل وقت فراغهم الطويل.
في هذه اللحظات القـــــاتلة ودَّت بلوعةٍ لو كانت شقيقتها حاضرة، لكانت نعم السند لها، ولم تتردد لثانية في منع تلك الأيادي النجسة من المساس بها، آه لو بقت ولم ترحل! آه وألف آه!
..................................................
تُركت بمفردها في غرفة النوم بعدmا انتُهكت خصوصيتها، وحصلت عمة زوجها على دليل النقاء والطُهر مصبوغًا في قطعة قماش بيضاء. ارتفعت بالخارج أصوات الزغاريد وملأت الأرجاء، حتى أنها فاقت في حدتها مثيلاتها في حفل الزفاف المتواضع. طوحت "أفكار" بقطعة القماش في الهواء مهنئة من حولها في فخرٍ عظيم:
-قولوا للحبايب يهيصوا، وللعوازل يفلفلوا .. بـ.ـنتنا مافيش في أدبها ولا شرفها.
ردت إحدى السيدات الحاضرات في الصالة قائلة:
-عقبال ما نبـ.ـارك نهار حبلها.
نظرت إليها ضاحكة وهي تقول:
-عن قريب إن شاءالله.
ثم وجهت كلامها إلى "عوض" الجالس في حـ.ـز.نٍ على مقعد شبه منزو:
-عريسنا يشـ.ـد حيلته بس.
تعالت الضحكات العابثات والمخبئات خلف الأيادي الموضوعة على الفم، لتردد "عقيلة" بوجه لا يزال عابسًا:
-سيبوه يتهنى مع عروسته.
هتفت "أفكار" في اعتزازٍ وهي تحاول صرف الضيوف من المنزل بتهذيبٍ:
-نجاملكم في الفرح دايمًا يا حبايب.
عندئذ نهض "عوض" من مكانه عائدًا إلى زوجته التي كانت جالسة فوق الفراش، تولي ظهرها للباب، وتضم ركبتيها إلى صدرها بذراعين مرتجفين. صوت بكائها كان مسموعًا له، حز في قلبه رؤيتها هكذا، اقترب منها مبديًا نـ.ـد.مه وأيضًا تعاطفه:
-حقك عليا.
لم تنظر تجاهه، كانت تبكي في حرقة أشـ.ـد، فواصل إخبـ.ـارها بصدقٍ:
-والله حاولت أمنعهم، بس معرفتش.
تجرأ ليضع يده على كتفها، فانتفضت مع لمسته المباغتة لجسدها، وكأن مسًا كهربيًا لامسها، في التو زحفت بمرفقيها بعيدًا عنه، وصرخت به رغم ألمها:
-مـ.ـا.تقربش مني.
رفع كفيه في الهواء ليظهر لها حُسن نواياه، ومع هذا لم تبدُ متهاونة معه، حملته كامل اللوم عن كل ما جرى لها، فهدرت به بانفعال من بين بكائها المتحسر:
-منك لله إنت وأخوك، قهرتوني، وكـ.ـسرتوا كل حاجة فيا، ربنا ينتقم منكم.
رمقها بنظرة مهمومة، فاستمرت على صياحها اللائم:
-عملت إيه فيكم عشان تهدوني بالشكل ده؟
هزت رأسها في استنكارٍ، واعترفت له في نزقٍ، غير نادmة عليه، لتجعله يزداد إشفاقًا بها:
-يا ريتني ما وافقت أتجوزك، يا ريتني!
......................................................
بعد أن ذاع الخبر، وعرف الجميع عن إصابته المفاجأة، تحول خارج غرفته بالمشفى الخاص إلى ما يشبه أحواض الزهور، فقد امتلأت الردهة بباقات مختلفة الأحجام والأنواع من الورود، كنوعٍ من إرسال التهنئة والمبـ.ـاركة على تماثل رجل الأعمال الشهير للشفاء من أزمته المرضية الأخيرة. لجأ "مهاب" للاستعانة بأفرادٍ من الحراسة المدربين لمنع دخول أي فرد لحجرته دون إذن مسبق منعًا لتطفل رجـ.ـال الصحافة المزعجين، وكذلك لعدm إرهاقه بالزيارات الكثيرة. استاء "سامي" مما اعتبره تصرفًا فظًا، ولا يليق بمكانة العائلة، فعنفه في غرفة مدير المشفى الماكث بها:
-إنت مفكر نفسك مين عشان تتصرف كده؟
لم يرفع رأسه عن التقارير التي يراجعها، وخاطبه في برودٍ:
-اللي فيه الصح للباشا أنا هعمله.
اغتاظ "سامي" من عجرفته المستفزة، فطرق بقبضته المضمومة على السطح الزجاجي بعصبيةٍ جمة، ليدفعه على النظر إليه، حينها فقط هدر في صوت غاضب:
-إنت عارف مين أصلًا جاي يشوفه؟ دول وزراء، وكبـ.ـار رجـ.ـا.لة البلد.
تطلع إليه بنظرته المتعالية، وأردف في تساؤل غير مكترثٍ:
-وإيه يعني؟
استمر "سامي" في الهجوم عليه، فقال باحتقارٍ ظاهر على وجهه، وكذلك في نظرته إليه:
-شكل جوازك من البت الكحيانة دي غيرك وخلا مخك يفوت، فما بقتش عارف قيمة الناس اللي بـ.ـنتعامل معاهم!
نهض "مهاب" قائمًا بعدmا ترك ما فيه يده، وحذره بنظرة صارمة:
-ما بلاش تغلط!
ثم دار حول المكتب، وتقدm تجاهه حتى وقف قبالته، حينئذ تابع إنذاره له، وهو يضع كفه على كتفه:
-زعلي وحش يا "سامي".
نفض الأخير قبضته عنه في نفورٍ، وزمجر فيه بحقدٍ:
-نزل إيدك.
حدجه "مهاب" بنظرة مستخفة، ليردد بعدها بما أغاظه في الحال كعهده معه، وبهدوءٍ واضح:
-ممم .. قول إنك غيران مني عشان بعرف أعمل اللي أنا عاوزه، وإنت لأ.
صاح به في عصبيةٍ مستعرة:
-أنا مش "فؤاد" باشا اللي سهل تضحك عليه بكلمتين فيصدقهم.
سدد له نظرة هازئة قبل أن يسأله في سخريةٍ:
-طب ما إنت معاه طول الوقت، ليه معرفتش تكسبه في صفك؟
اندلع غضبه أكثر بداخله، وصاح فيه مغتاظًا:
-بلاش هلفطة، أنا أكتر واحد عارف وســــاختك، وألاعيبك، ولحد النهاردة أنا مش عاوز أدmرك، وعمال أداري عليك.
سخِر من محاولته غير الموفقة للمزج بين مواضيع شتى لإظهاره بمظهر الشخص الأهوج، الأرعن، وغير المسئول، ورغم ذلك قابل انفعاله المحتد بنفس البرود الهادئ حين رد:
-وإيه اللي منعك؟!
ناطحه الرأس بالرأس قائلًا بوجه محمومٍ بغضبه:
-ما تتحدانيش!
ضحك مستخفًا به، ليعلق بعدها:
-صدقني إنت اللي هتخسر مش أنا.
واصل "سامي" هجومه غير المبرر عليه زاعقًا في تعصبٍ:
-إنت ولا حاجة من غير لقب "الجندي"!
لم تتغير نبرته مُطلقًا وهو يخبره عنـ.ـد.ما سار عائدًا إلى المكتب مجددًا:
-صح، بس صدقني اسم "مهاب الجندي" برضوه معروف، حتى لو إنت عامل نفسك مش واخد بالك.
جمع "مهاب" التقارير المفرودة على سطح المكتب، واستعد للمغادرة، فسأله "سامي" بنبرته المتشنجة:
-إنت رايح فين؟ أنا مخلصتش كلامي لسه!
لاحت على زاوية فمه ابتسامة متهكمة، ليسترسل بعدها بتعالٍ صريح:
-بس أنا خلصت...
كاد على وشك النكاية به؛ لكنه أخرسه بإشارة من سبابته:
-مش عاوز أسمع حاجة تاني، بس يا ريت لما ترجع تتخانق معايا توطي صوتك، ما تنساش احنا في مستشفى، و"فؤاد" باشا مش هيكون مبسوط لما يسمع عن خناقنا هنا!
كظم "سامي" حنقه مرغمًا، وشيعه بنظرة نارية ثائرة في حدقتيه إلى أن انصرف، آنئذ كور قبضته في الهواء، وتوعده بين نفسه في كراهية لا تكف عن التعمق أكثر فيه:
-بكرة هتنـ.ـد.م، وأنا عارف الطريقة إزاي
↚
(مكيدة ساذجة)
غادر الجميع تباعًا، تعلو وجوههم الفرحة والاعتزاز؛ لكنهم تركوها غارقة وسط إحساسها بالمهانة، والانكسار، لم تجد اليد الحنون التي تطبب من جراحها، أو حتى تهون عليها صعوبة ما اختبرته، ولم تشعر بالأمان في حضور من أصبح زوجها، كان كأنه لم يكن من الأساس، تخلى عنها وانساق وراء ما رغب فيه الآخرين. سالت دmـ.ـو.عها أنهارًا، فبللت كامل وجهها، وأفسدت زينتها، فأصبحت قبيحـــة المنظر، ومع ذلك لم تكترث للحظة، فما أصابها مزقها من الداخل قبل الخارج.
وقف "عوض" على باب غرفة النوم حائرًا، مترددًا، لم يعرف ما الذي يجب عليه فعله لاسترضائها وتعويضها عما مرت به، تطلع إليها من موضعه مليًا وبإشفاقٍ حزين، كانت منكمشة على نفسها، توليه ظهرها، ترتجف إلى حدٍ ما، صوت بكائها المسموع إليه حز في قلبه بشـ.ـدة، نكس رأسه بعدmا هزها يمينًا ويسارًا أسفًا عليها. استجمع الكلمـ.ـا.ت في رأسه، وتكلم سائلًا إياها بحذرٍ:
-إنتي كويسة دلوقتي؟
استشعر سخافة سؤاله، فكيف لها أن تصبح في أحسن حال وهي منخرطة في نوبة بكاءٍ عنيفة؟ تدارك خطئه، ولم يتوقع أن ترد عليه، يكفيها ما هي فيه الآن، ازدرد ريقه، وتابع:
-حقك عليا، أنا لو كان بإيدي مكونتش خليت حد يجي ناحيتك، بس حكم القوي!
ارتفع صوت نحيبها، فأحس بالنـ.ـد.م أكثر، فقال مغيرًا الحديث:
-أنا هسيبك على راحتك، نامي على السرير، وأنا هفضل برا.
لم تنظر "فردوس" تجاهه، بل أحنت رأسها لتخبئها بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وواصلت بكائها المرير. شعوره بالذنب تضاعف، فلم يكن أمامه سوى الفرار من هذا الإحساس القــــاتل، فأنهى حواره أحادي الجانب قائلًا بعدmا التقط منامته من على طرف السرير:
-لو عوزتي حاجة نادي بس عليا.
انسحب في هدوء، وأغلق الباب ورائه ليعطيها مساحة من الخصوصية؛ لكن في الحقيقة كان يريد الهروب من هذا الجو الخانق المعبأ بكل ما هو مو.جـ.ـع لكليهما!
.............................................
لم تتوقف عن معاتبة نفسها منذ عودتها إلى المنزل، فإحساسها بالذنب تجاه ابـ.ـنتها كان ينهشها بشـ.ـدة، بكت في صمتٍ كلما استحضرت في ذهنها طيفها وهي تستجدي عاطفتها الأمومية لنجدتها ممن يحاولون المساس بها بحجة الشرف والسمعة؛ لكنها ظلت أمام رجاواتها الحارقة كتمثالٍ من الحجر، لا تحرك ساكنًا، تخلت عنها، وتركتها للأيادي الغريبة تكشف سرها، على أمل أن تبتهج في النهاية بعفتها؛ لكنها لم تفعل حينما تم الأمر، كانت تحترق لأجلها، ينفطر قلبها حـ.ـز.نًا على اغتيــــال فرحتها. نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها الماكثة معها في بيتها مطولًا، كانت الأخيرة مسترخية، لا يبدو بالها مشغولًا بشيء، لذا استطردت قائلة بصوتٍ شبه مختنق؛ وكأنها تؤنبها:
-مكانش لازم نعمل كده، كـ.ـسرنا فرحة البت، وآ...
قاطعتها "أفكار" ببرودٍ مغلف بالقساوة:
-لأ ياختي، ده كان ضروري، أومال نسيب الناس تتكلم وتألف حوارات؟ أهوو كله كان على عينك يا تاجر.
ضاقت عينيها في استنكارٍ واضح، فهذه لم تكن أحلامها بشأن زيجة ابـ.ـنتها، ومع ذلك لم تلقِ "أفكار" أي بالٍ لأحزانها، بل أضافت في زهوٍ مغيظ:
-ده إنتي حقك دلوقتي تحطي صوابعك في عين أي حد يفتح بؤه بنص كلمة عنها.
اعترفت لها وهي تمسح بطرف كم عباءتها المنزلية دmـ.ـو.عها التي تملأ صفحة وجهها:
-صعبانة عليا أوي، حاسة إني كـ.ـسرتها.
ضحكت في استهزاءٍ قبل أن تقول بابتسامة سخيفة:
-علقة تفوت ولا حد يمـ.ـو.ت...
ثم مالت ناحيتها، وغمزت لها في شيءٍ من المكر:
-دي زمانها غرقانة في العسل وجوزها مدلعها.
لم تبدُ "عقيلة" مطمئنة لهذه الدرجة، فالألم لن يمضي على خير كما تظن، خاصة ما يؤثر بالنفس. انتبهت مجددًا لشقيقتها الكبرى وهي تخاطبها بعدmا نهضت من موضع جلوسها:
-بينا نعملها فطور العرسان.
تبعتها في خطواتٍ متعبة ولسانها يهمهم داعيًا:
-ربنا يهدي سِرك يا بـ.ـنتي، ويريح بالك!
..........................................
كان من غير الطبيعي بالنسبة له، الذهاب هكذا ببساطة وتركه وهو لا يزال في هذا الوضع الصحي الحرج، قرر "مهاب" إرجاء سفره لمدة غير معلومة، وملازمة والده ريثما يتماثل تمامًا للشفاء، وكذلك ليُبقي عينيه على شقيقه الأكبر الذي على ما يبدو يكيد له بعض المكائد الخبيثة، لإفساد ما بينه وبين أبيه على أمل أن يحظى بمكانة عالية لديه، ويفوز بالكعكة كاملة ودون نقصان. راجع مرة ثانية ما لديه من أوراق وتقارير وهو جالس بالمكتب الذي تم تجهيزه له في هذا المشفى الاستثماري الضخم، ليكون خاصًا به خلال أدائه لعمله كطبيب متخصص في الجراحة هنا. قاطع انشغاله في كتابة بعض الملحوظات الضرورية اقتحام "سامي" للحجرة دون استئذان ليهاجمه كالعادة بالمستهلك على الأذن من عبـ.ـارات التهديد السقيمة، لم يغلق الباب خلفه، وسار مختالًا ناحيته وهو يردف بسخرية مستفزة:
-ده أنا فكرتك حاجز أول طيارة ومسافر.
رفع "مهاب" بصره تجاهه، ثم نظر إليه شزرًا، ليعلق بعدها مستخفًا به:
-للأسف تخمينك مش في محله، أنا مش مسافر.
لم ينجح هذه المرة في استثارة أعصابه، بل بدا "سامي" هادئًا للغاية وهو يسأله في تهكمٍ:
-معقولة تسيب حياة الرفاهية والأضواء، وتفضل معانا؟
رد عليه بما جعل قناع البرود الزائف يسقط في التو:
-"فؤاد" باشا يستاهل إني أضحي بكل حاجة عشانه، ما تنساش أنا المفضل عنده.
لم يتمكن من ضبط انفعالاته طويلًا، أو السيطرة على ردة فعله التي يسهل استفزازها، سرعان ما صعدت الدmاء إلى رأسه، فصاح في صوتٍ شبه محتد:
-من إمتى الحنية دي؟ أنا أكتر واحد فاهمك.
قال مصححًا له بنفس الوتيرة الهادئة:
-إنت أكتر حد مـ.ـا.تعرفنيش.
اشتعل وجهه بغضبه، وأطلت من عينيه نظرات كارهة حاقدة، ترك "مهاب" ما بيده جانبًا، لينهض من على مقعده قائلًا:
-رأيي يا "سامي" بدل ما تركز في اللي بعمله، ركز في حياتك إنت.
انفلتت منه صيحة حانقة:
-إنت هتعرفني أعمل إيه ومعملش إيه؟ نسيت نفسك؟ ده أنا مداري على كل بلاويك.
وقفت "مهاب" في مواجهته، لا يبدو على ملامحه أدنى تغيير، بينما استمر "سامي" في إطـ.ـلا.ق سهام غضبه المحموم عليه:
-ولا تكون فاكر إنك بكلمتين هتضحك على "فؤاد" باشا، ويرجع يصدقك من تاني؟!!
ابتسم له شقيقه الأصغر بغير اكتراث ليجعل بذلك نيران الغيرة تأكله أكثر، ثم تكلم إليه وهو يربت على جانب ذراعه:
-اعمل اللي إنت عاوزه، في النهاية كل اللي يهمني صحة بابا وسلامته.
استشاطت نظراته بشـ.ـدة، فقابلها "مهاب" بابتسامة وديعة واثقة، قبل أن يوليه ظهره ليسير عائدًا تجاه مكتبه، التقط أحد الملفات من على سطحه، وقال وهو ينظر إليه من طرف عينه:
-مضطر أسيبك تهري مع نفسك وأشوف اللي ورايا هنا.
بدا وجه "سامي" محمرًا للغاية، عاكسًا لما يستعر في داخله من حقد مشوب بالغيرة العظيمة، تابع "مهاب" سيره نحو الباب قائلًا بلهجةٍ شبه آمرة:
-ابقى اقفل الباب بعد ما تطلع.
انتظر ذهابه ليلعنه:
-غـ.ـبـ.ـي، مفكر نفسه مسيطر على كل حاجة.
اتجه إلى حيث الهاتف الأرضي، أمسك بالسماعة، ولف القرص الدوار مُحدثًا نفسه:
-استعد بقى لنهايتك.
..........................................
أمضى الليل غافلًا على الأريكة في صالة بيته، فشعر حينما استيقظ بتيبس فقرات عنقه، وبألم متفرق في أنحاء جسده المتعب مسبقًا. كان وجهه مرهقًا، أسفل عينيه شبه أسود، فقد بقي يقظًا لما بعد الفجر بقليل إلى أن غلبه النعاس، وسقط نائمًا صريع الإنهاك. تمطى "عوض" بذراعيه، ودعك برفقٍ الأجزاء التي ما زالت تؤلمه ليخفف من حدة الو.جـ.ـع، وضب مكان نومه، ثم نهض سائرًا تجاه الحمام ليغسل وجهه. تباطأ في مشيه حينما نظر إلى باب غرفته المغلق، كل ما دار في خلده في هذه اللحظات هو أحوال زوجته، أراد تفقد أحوالها؛ لكنه تراجع عن هذه الفكرة في التو، محاولًا منحها المزيد من الوقت لتتجاوز حادثة الأمس.
لم يكن قد انتهى بعد من تجفيف وجهه حتى سمع الطرقات المتعـ.ـا.قبة على باب المنزل، ألقى بالمنشفة على المشجب الموجود خلف باب الحمام الخشبي، وأسرع الخطى نحو الخارج. ما إن فتح الباب حتى انطلقت في وجهه زغرودة مبتهجة، أعقبها هذه الجملة التقليدية الفرحة من خالة زوجته:
-صباحية مبـ.ـاركة يا عريس.
تنحى للجانب ليفسح لها بالمرور مع ما تحمل في يديها قائلًا:
-الله يبـ.ـارك فيكي، اتفضلي يا خالة، البيت بيتك.
كذلك ألقى التحية على حمـ.ـا.ته، وحمل عنها الأغراض التي جاءت بها هاتفًا:
-عنك ..
نظر إلى ما أحضرته الاثنتان بدهشةٍ حرجة، فكلتاهما جاءتا محملتين بكل ما لذ وطاب لإطعامه هو وزوجته التي لم يرها منذ الأمس. تنحنح مرددًا بحرجٍ ظاهر على قسمـ.ـا.ته قبل نبرته:
-مكانش ليه لزوم التعب ده!
ضحكت "أفكار" مرددة في مرحٍ:
-دي حاجة بسيطة ترم بيها عضمك...
لم تخبت ابتسامتها المتسعة وهي تتم جملتها:
-وعقبال ما نشوف عوضكم يا رب.
قال مجاملًا وهو ينقل ما جاءتا به إلى داخل المطبخ:
-إن شاءالله.
استوقفته حمـ.ـا.ته بسؤالها المهتم:
-أومال العروسة فين؟
بلع ريقه، وقال:
-جوا، تقدروا تخشوا عندها.
ردت عليه "أفكار" بأسلوبها المبتهج:
-تعيش يا "عوض".
أمل في قرارة نفسه أن تكون زوجته قد استراحت بدنيًا وذهنيًا مما خاضته ليلة الأمس، وإلا لوقعت أسيرة حصار جديد من اللوم والعتاب، فهذه هي طبيعة الحياة هنا في المناطق الشعبية، لا مكان للخصوصية، ولا مجال لتقدير المشاعر الإنسانية حينما تكون منتهكة ومستنزفة.
.............................................
مرة ثانية انطلقت الزغاريد عاليًا من حلقها، وهي تضع يدها على المقبض لتفتح الباب استعدادًا لرؤية ابـ.ـنتها العروس الخجلى في أبهى صورة لها. أطلت بوجهها باحثة بنظراتها اللهفى عنها، ولسانها يسبقها في التهنئة:
-مبروووك يا "دوسة"، آ...
بترت عبـ.ـارتها عن عمدٍ حينما وجدتها لا تزال متكومة على طرف الفراش وترتدي ثوب عرسها، انفلتت منها شهقة مستهجنة، وأسرعت ناحيتها تسألها في جزعٍ:
-إيه ده؟ إنتي لسه بفستانك؟
لحقت "أفكار" بها، ونظرت إليها مصدومة قبل أن تعنفها في استياءٍ، وبمشاعرٍ متحجرة:
-يا خيبتك!
نظرت "عقيلة" إلى شقيقتها بنظرة سريعة، ثم حولت بصرها عنها لتسأل ابـ.ـنتها في جزعٍ متصاعد، وعيناها تتفحصان وجهها المنتفخ بقلقٍ أكب:
-مالك؟ عاملة كده ليه؟
بدلًا من إجابتها أجهش بالبكاء المرير، فانقبض قلب أمها عليها، في حين وبختها "أفكار" بتعبيرٍ ممتعض:
-بذمتك ده منظر عروسة تفتح نفس جوزها في صباحيتها؟
ردت عليها "عقيلة" تعاتبها:
-بالراحة عليها يا "أفكار"، خلينا بس نفهم في إيه؟
زمت شفتيها مرددة في سخطٍ وهي تشير بيدها:
-ما هي الحكاية مش محتاجة تفسير، الجواب باين من عنوانه!!
جلست "عقيلة" مجاورة لابـ.ـنتها، ومدت يدها لتمسح عنها الدmـ.ـو.ع وهي تتساءل في تـ.ـو.ترٍ:
-احكيلي في إيه حصل؟
من بين بكائها الشـ.ـديد ردت نافية:
-محصلش حاجة يامه، أنا صعبان عليا نفسي واللي جرالي.
هدأت مهاج "عقيلة" إلى حدٍ ما، وحاولت مواساتها بكلمـ.ـا.تها الآسفة:
-متزعليش يا بـ.ـنتي، كله مقدر ومكتوب.
مرة ثانية مصمصت "أفكار" شفتيها، وأضافت بازدراءٍ:
-وربنا وشك يقطع الخميرة من البيت!
لم تتحمل "فردوس" أي إهانة وهي في هذه الحالة البائسة، سلطت نظراتها على خالتها، وصاحت في حنقٍ:
-عاوزاني أقوم أرقص وأفرح بعد اللي اتعمل فيا؟
هزت "أفكار" كتفيها مرددة، وبإيماءة من رأسها:
-أيوه، وتجيبي طبل وزمر، وتمشي رافعة راسك وسط الخلق.
نظرت "عقيلة" إليها بحاجبين معقودين، فتابعت شقيقتها بلؤمٍ:
-يا عبـ.ـيـ.ـطة لو مكانش ده حصل كانوا قالوا عنك في الخمر يا ليل.
ثم أشارت لشقيقتها لتنهض لتجلس مكانها، واستمرت في إخبـ.ـارها:
-إنما دلوقتي إنتي تقدري تقولي للأعور إنت أعور في وشه من غير ما تحسي إنك قليلة.
راحت "فردوس" تكفكف دmعها بظهر كفها، فطلبت منها خالتها بلهجةٍ مالت للأمر:
-قومي كده تعالي معايا نغيرلك هدومك.
أخبرتها في صدقٍ وهي تشير بيدها إلى موضع قلبها:
-أنا موجوعة من جوايا، ومن آ...
عجزت عن إكمال جملتها حرجًا؛ لكن بدت شكواها مفهومة لأمها وخالتها، فوخزات الأمس الحادة لن تتعافى بين عشية وضحاها. ضحكت "أفكار" مستخفة بألمها، وعلقت وهي تقوم واقفة:
-بلاش دلع مرئ!
ثم جذبتها من ذراعها عنوة وهي تلح عليها:
-قومي يالا بلا هم، ده إنتي عروسة لسه بكرتونتها، مش خرج بيت!
رغم التجهم المستحوذ على ملامح وجه "عقيلة" إلا أنها كانت مثل شقيقتها، لا تريد لابـ.ـنتها الوقوف عند لحظة بعينها، وتناسي مسئولياتها الجديدة كزوجة عليها ترسيخ دعائم علاقتها مع زوجها، لتضمن استمرار حياتها في ظل وجود والدته المتسلطة، فالأخيرة ذات تأثير مهدد لاستقرارهما كعائلة.
...........................................
لم يمر على وجوده بالمشفى عدة أسابيع، إلا وكل بضعة أيام تظهر شكوى غريبة في حقه، على أمل النيل من سمعته وزعزعة وضعه كجراحٍ مخضرم، ومع ذلك كان قادرًا على التعامل بحنكة مع ما يتعرض له من شكاوي مغرضة، متوقعًا من يقف خلفها لإزعاجه ومضايقته، لكنه غض الطرف عن هذه التفاهات إلى أن انتهى المطاف بوجود قوة من أفراد الشرطة تحاصره في مكتبه، وكأنه مجرم خطير على وشك الهروب، حيث تم اتهامه في محضر رسمي بالتسبب في وفاة أحد المرضى عن طريق الخطأ. أنكر "مهاب" هذا الاتهام الصريح، وهتف نافيًا إياه بتحيزٍ ثائر:
-دي تخاريف!
رد عليه الضابط المسئول برسميةٍ بحتة:
-يا دكتور البلاغ بيقول إنك عملت العملية كمان بدون موافقة أهل المريـ.ـض، ودي مشكلة تانية خطيرة.
طرق بقبضته المتكورة في تعصبٍ على السطح الزجاجي، ورد مؤكدًا في غضبٍ مبرر:
-محصلش!
أشار له الضابط بالتحرك وهو يخاطبه في لهجة جـ.ـا.مدة:
-يا ريت حضرتك تتفضل معانا بهدوء على القسم، وهناك هتعرف كل التفاصيل.
كان من الصواب في مثل هذه الظروف التصرف بتعقلٍ وروية لكشف الحقائق، بدلًا من إثارة البلبلة بلا داعٍ، لذا سحب "مهاب" نفسًا عميقًا يثبط به انفعالاته الثائرة، وقال بعد زفيرٍ سريع:
-مافيش مانع عندي، بس الأول هكلم المحامي بتاعي.
رد الضابط في هدوءٍ مقتضب:
-براحتك.
..........................................
المحنة التي ظن أنها ستقضي على مسيرته الطبية دون ذنبٍ فعلي حُلت بخبرة فريق المحامين المخضرمين، وتم كشف ملابسات البلاغ المدسوس من أجل إيقاعه في وقت وجيز، فالمريـ.ـض الذي اتهم بالتسبب في وفاته خطئًا كان اسمه غير مسجل بسجلات المشفى الرسمية، وبالتالي كان من غير المعقول أن يقوم "مهاب" بإجراء جراحة له وهو لا يمارس عمله إلا بذلك المشفى فقط، ناهيك عن عدm تخصصه في إنهاء أي إجراءات قانونية تخص أي مريـ.ـض، فمهمته كانت محددة القيام بالعمليات الجراحية فور تأكد فريق يعمل تحت يديه من إعداد كل شيء.
أثبتت التحريات صحة ما قُدm من بيانات رسمية، وأطلق سراحه في الحال، ليتجه "مهاب" إلى مقر شركة عائلة "الجندي" وقد عرف من يقف وراء ذلك الملعوب الخبيث. دون استئذان اقتحم غرفة المكتب الخاصة بوالده، حيث يمكث فيها "سامي" معتقدًا أنه قد بات المسئول الوحيد عن إدارة كافة الأعمال ويملك السلطة المطلقة لتسيير الأمور وفق رغباته هو ولا أحد غيره. تـ.ـو.تر، وانتفض، واضطرب في جلسته حينما رأى شقيقه الأصغر بشحمه ولحمه يقف قبالته؛ وكأن شيئًا لم يمسه. استطرد الأخير متكلمًا في صوتٍ ينم عن قوة مهيبة:
-كنت مفكر إن حركة عبـ.ـيـ.ـطة زي دي هتجيب نتيجة معايا؟
تلجلج وهو يرد عليه متسائلًا بعدmا نهض واقفًا:
-إنت قصدك إيه؟
حاول بحيلة مكشوفة تعنيفه للتغطية على رهبته منه مشيرًا له بسبابته:
-وبعدين إنت إزاي تتدخل عليا المكتب كده؟!!!
تقدm "مهاب" ناحيته وهو يشمله بنظرات احتقارية، تحمل ضغينة عميقة تجاهه، فما تعرض له كان بإيعازٍ منه، بالكاد حافظ على هدوء نبرته وهو يخاطبه هازئًا:
-المرادي ذكائك المحدود خانك يا "سامي".
إهانته لشخصه كانت صريحة، غير متوارية، لم يتحملها كعادته، وصاح به متشنجًا:
-إنت إزاي تكلمني كده؟ أنا أخوك الكبير وآ...
قاطعه في صوتٍ مهدد:
-ما تفكرش إني هعديهالك...
انعكس الذعر على محياه، فتوجس خيفة منه وهو يرى نظراته الممـ.ـيـ.ـتة مرتكزة عليه؛ وكأنه يود الفتك به، ما لبث أن هوى قلبه بين قدmيه حينما أكد له بلهجة غير متساهلة إطـ.ـلا.قًا:
-لأني مش برحم اللي يفكر بس يأذيني.
.............................................
استغرقها الأمر الكثير من الوقت لتعود إلى ممارسة روتين حياتها اليومي بشكلٍ شبه طبيعي، وكان أول ما قررت فعله، هو مهاتفة والدتها بعد انقطاع دام لأشهرٍ، خجلت خلالها من الاعتراف لها بالخطأ الجسيم الذي ارتكبته في حق نفسها. تلمست "تهاني" بطنها المتكور، ودارت بيدها عليها في حركة دائرية رقيقة بعدmا أحست بوكزة خفيفة في جانبها، لاح على ثغرها بسمة ناعمة، فهي لم تظن أنها ستكمل ذلك الحمل؛ لكن بذرة المشاعر الأمومية التي صحت بداخلها جعلتها تتراجع عن فكرة التخلص منه رغم مساوئ زواجها غير الموفق من "مهاب"، شجعها على ذلك أيضًا غيابه عنها، ودعم "ممدوح" لها، فقد أصبح أكثر قربًا منها، وتخطت مكانته لديها حدود الرفيق المخلص، لتتوطد صداقتهما بشكلٍ غير معقول؛ لكنها لم تتجاوز حدود المباح، حيث أبقت على وجود مسافة حذرة في علاقتها به.
انتشلها من شرودها الذي طال صوت والدتها شبه الباكي حينما أجابت عليها بعد انتظار استمر لما يقرب من دقيقة:
-كل الغيبة دي يا "تهاني"؟ هونت عليكي يا بـ.ـنتي؟
افتقادها لوجودها في حياتها جعل تأثير سماعها لصوتها جليًا، دق قلبها، وكتمت بيدها أنفها لتمنع نفسها من البكاء، لترد مدعية كذبًا بصعوبةٍ:
-معلش يا ماما، مشاغل.
جاء ردها مستعتبًا:
-مشاغل إيه اللي وخداكي كل ده؟ مافضتيش دقيقة تكلميني فيها؟
نفرت من مقلتيها الدmـ.ـو.ع، فتابعت بعد نحنحة سريعة:
-غـ.ـصـ.ـب عني، بس المهم، قوليلي إنتو أخبـ.ـاركم إيه؟
أجابتها "عقيلة" بعد شهيق مسموع:
-الحمدلله، ناوية ترجعي امتى؟
مسحت "تهاني" بإصبعها دmعها من على وجنتها، وأخبرتها:
-صعب دلوقتي، أومال "فردوس فين؟
في شيء من البهجة جاوبتها:
-مش اتجوزت والحمدلله.
ردت بشكلٍ آلي مقتضب:
-مبروك.
أضافت والدتها بعدئذ بتلقائية أمومية:
-عقبالك إنتي كمان يا ضنايا، وساعتها نعملك أحلى ليلة هنا بمشيئة ربنا.
حينئذ اعتصر الألم قلبها، فكيف لها أن تخبرها عبر مكالمة هاتفية خاطفة أنها تزوجت؟ بل وعلى وشك الإنجاب بعد أشهر قليلة؟! سكتت لهنيهة وهي تشعر بالخزي من حالها، فهذا ليس ما خططت له، وما ظلت تردده على مسامع الجميع! أعمتها في لحظة غادرة أطماعها، وغطت أحلامها الواهية على رجاحة عقلها، فحينما انتهت سَكرة الحب انكشفت الحقائق، وأصبح كل شيء واضحًا. حاولت "تهاني" أن تبرر صمتها الذي شعرت به أمها بقولها الكاذب:
-أنا.. مش بفكر غير في دراستي وشغلي.
ردت عليها برجاءٍ:
-ربنا يقويكي ويهديلك العاصي.
-يا رب.
أوصتها والدتها قبل أن تنهي معها المكالمة في نبرة التياعٍ:
-ما تطوليش عليا يا "تهاني"، اسألي عليا من وقت للتاني.
حبست شهقة بكائها للحظة الأخيرة، لترد في إيجازٍ:
-حاضر.
ثم وضعت السماعة وهي تنفجر باكية في حرقة وتأثر، قلبها اشتاق إليها، وروحها تتعـ.ـذ.ب في بُعادها عنها، لازمها الحـ.ـز.ن من جديد، و.جـ.ـعلها تتجرع بقساوة مرارة اختيارها غير الموفق.
............................................
لم يساوره أدنى شك أن ابنه كان يبذل قصارى جهده ليطمئن على استقرار وضعه الصحي، وها هو اليوم ينعم في قصره الضخم بمظاهر العافـ.ـية وعلامـ.ـا.ت النشاط والحيوية؛ لكنه سرعان ما عبس، وقلب شفتيه، لتنتفض في نظراته شارات الغضب بعدmا قرأ ما تناولته الجرائد والصُحف اليومية عن خبر اتهام "مهاب" الكاذب، استدعى ابنه على عجالة قبل ذهابه للمشفى، واستعلم منه عن تفاصيل هذه الأخبـ.ـار، فأخبره بلا انفعال عن الأمر، لينهي كلامه قائلًا:
-أنا بلغتك يا باشا باللي حصل، ولأنه أخويا فأنا لمـ.ـيـ.ـت الموضوع.
النظر في وجه "فؤاد" في هذه اللحظة كان مخيفًا، فتعابيره كانت توحي بشرٍ خطير، استمر "مهاب" في الحديث مردفًا:
-مهما كان اسم العيلة مش لازم حد يمسه، بس للأسف الخبر وصل الجرايد.
لم ينطق والده بكلمة، كان واجم الملامح، قاسي النظرات، في حين واصل ابنه إخبـ.ـاره بجديةٍ تامة:
-من بكرة هينزل تكذيب عن الأخبـ.ـار دي في كل مكان، وهحاسب المسئول عن النشر، مش عاوزك تشيل هم يا باشا.
فجـــأة رفع "فؤاد" كفه أمام وجه ابنه ليقول في صوت رخيم وغامض:
-خلاص يا "مهاب"...
كان الأخير مقطبًا لحاجبيه وهو يصغي إليه دون مقاطعة، تحفز في جلسته أكثر عنـ.ـد.ما تابع بنبرة أكدت على عدm منحه لأي صكٍ من صكوك الغفران لابنه البكري مهما أظهر من دوافعٍ وتفسيرات:
-أخوك ليه حسابه معايا، فمتدخلش ............
↚
(نجمٌ في السماء)
رغم مضي الوقت على ذكرى ليلتهما المأســـــاوية إلا أن ذلك الحاجز الوهمي ظل قائمًا بينهما، فهي لم تمنحه الأذن بعد للاقتراب منها، ولم يسعَ هو لفرض نفسه عليها، كانا يعيشان تحت سقف واحد؛ لكن فصلت عشرات الأميــال بينهما. ما زال إحساسه بالذنب يـ.ـؤ.لمه، يؤرق مضطجعه، يشعره بأنه لم يكن جديرًا بحماية زوجته. حاول مغالبة هذا الشعور القاسي، والتعامل معها بودية ومحبة لتألف وجوده معها؛ لكن هذه النظرة اللائمة المطلة من عينيها ضاعفت من شعوره بالخزي والخذلان. راقبها "عوض" وهي منهمكة في أداء أعمال المنزل التي لا تفرغ منها أبدًا، وكأنها وسيلتها للانشغال والتشاغل عنه. لم تخرج لمرة واحدة من البيت رغم إلحاحه عليها، حتى ما يلزم البيت من طعام وشراب كان يبتاعه هو. كان مدركًا للسبب المنطقي وراء عزلتها وانقطاعها، حتمًا هي تخشى مواجهة الناس، وتسعى لتجنب نظرات المعارف والجيران لها، فموضوع ليلة زفافهما كان ومازال يـ.ـؤ.لمها. توقف عن الاستغراق في تفكيره، وتنحنح بصوت خشن لتنتبه لوجوده، ثم سألها بنبرة مهتمة:
-ناقصك أي طلبات؟
ردت "فردوس" بهزة نافية من رأسها:
-لأ، كله موجود.
لف يده حول عنقه يحكه قليلًا، ثم استطرد متابعًا:
-طيب، أنا هتأخر شوية، ورايا مأموريات ومشاوير..
علقت عليه باقتضابٍ:
-ماشي.
فكر في الترويح عنها، فاقترح عليها بإصرارٍ:
- لو حابة تروحي عند الست أمك وتقضي النهار معاها، فالبسي عشان أوصلك في سكتي.
نظرت له باستغرابٍ للحظةٍ، ثم حسمت رأيها مرددة:
-طيب.
.................................................
استحوذ بمكرٍ ودهاء على الفراغ الكبير الذي ملأ حياتها لأشهرٍ، و.جـ.ـعلها فريسة سهلة الاستدراج لأي إغراء بسيط، وبالتدريج لم تعد تشعر بهذه الوَحشة المسيطرة على نمط يومها الرتيب، وتناقص بداخلها شعور النقم والكراهية، لتصبح أكثر تقبلًا للمستجد في حياتها. تطلعت "تهاني" إلى "ممدوح" وهو يسير معها على البساط الأحمر الممتد بطول الردهة الخاصة بقاعة المؤتمرات حينما استطرد حديثه الباسم إليها:
-مبسوط إنك خدتي القرار ده.
رغم التـ.ـو.تر الذي اعتراها إلا أنها أخفته وراء ابتسامة رقيقة منمقة، لترد في إيجازٍ:
-شكرًا.
لم تصدق أنها استطاعت الانسياق وراء دعوته الملحة بطرح أفكارها المتفردة على المجتمع العلمي، ترددت في البداية، وعارضت قبولها؛ لكنها استسلمت مع تصميمه، وخاضت التجربة غير متوقعة نجاحها؛ لكنه أمدها بكل السبل والوسائل التي جعلت أحلامها تصبح حقيقة ملموسة، لتحفر بذلك اسمها بين جموع العلماء والأطباء المعروف عنهم دومًا بإقدامهم على تقديم مبادرات علمية مفيدة للغير، مما دفعها لتكون من ضمن المرشحين الأوائل للمشاركة في أي مؤتمر علمي. موجة من الارتباك عصفت بها وكأنها مرتها الأولى التي تتولى فيها الحديث عنـ.ـد.ما اقتربت من مدخل القاعة، شعر "ممدوح" باضطرابها، فقال مُلطفًا:
-مـ.ـا.تقلقيش أنا موجود جمبك في كل لحظة.
هزت رأسها في امتنان، فأكمل بشيءٍ من التوصية وهو يخفض بصره نحو بطنها المنتفخ والبـ.ـارز من أسفل ثوبها الأسود اللامع:
-حاولي مـ.ـا.تتعبيش نفسك كتير...
لتتحول نبرته لشيء من اللؤم وهو يختتم عبـ.ـارته:
-إنتي غالية عندنا.
أحست بتلميحٍ متوارٍ في جملته، استدعى سيرة من لا تحبذ التفكير فيه، فما كان منها إلا أن ضحكت قائلة في شيء من الاستهزاء:
-إيه دكتور "مهاب" موصيك عليا؟
صحح لها بتوضيحٍ شبه جاد:
-لأ، أنا بقالي مدة معرفش عنه حاجة، بس حقيقي أنا خايف عليكي، مش حابب إنك تتعبي.
ارتبكت من طريقته في إظهاره لاهتمامٍ مبالغٍ بها، وقالت كأنما تتهرب منه:
-عن إذنك، أنا اتأخرت.
تنحى للجانب، ورد دون أن تخبت بسمته:
-اتفضلي، وهتلاقيني مستنيكي لما تخلصي.
اكتفت بالإيماء برأسها قبل أن تتسارع خطواتها لتبتعد عنه، وذلك الإحساس الغريب والمتناقض تجاهه يناوشها بقوةٍ، حاولت مقاومة التشوش الذي يسود مشاعرها، بل وينعكس تأثيره الطاغي على تفكيرها، فهناك أشياء لا تزال معلقة، تحتاج للحسم قبل التفكير في أي أمر جديد.
..........................................
جمع الأوراق الرسمية من أمامه بعدmا فرغ من التوقيع عليها جميعًا، ليضعها بحرصٍ في مغلفٍ أبيض اللون، ثم نقل المظروف إلى داخل حقيبته الجلدية، وأغلقها قبل أن ينتقل من موضع وقوفه إلى حيث كان يجلس في مواجهته عند قدومه لحجرة مكتبه. رفع المحامي نظره إلى رب عمله عنـ.ـد.ما شـ.ـدد عليه بلهجته الصارمة:
-زي ما فهمتك يا حضرت الأفوكاتو.
في طاعة تامة علق عليه:
-اطمن يا "فؤاد" باشا، كل اللي أمرت بيه هيتعمل.
تأكد الأخير أنه لم يغفل عن شيء مما كُلف به، وأضاف في تهذيبٍ:
-استأذن معاليك.
أشار له "فؤاد" بيده لينصرف قائلًا:
-اتفضل.
أثناء خروجه تقابل مصادفة مع "سامي" الذي رمقه بنظرة حائرة مستغربة لوجوده، حاول استدراجه في الحديث ليعرف سبب زيارته؛ لكنه لم يمنحه ما يسد به رمق فضوله، فاتجه الأخير في الحال إلى مكتب أبيه، ظل يراوغ ويحاور في مواضيع شتى إلى أن انتهى به المطاف متسائلًا بنبرة مالت للتحقيق وهو يتفرس في قسمـ.ـا.ته:
-هو المحامي بيعمل إيه هنا يا باشا؟
أخبره بوجهٍ شـ.ـديد الصرامة دون أن ينظر إليه:
-موضوع مايخصكش.
بهتت ملامحه للغاية من إحراجه المتعمد له، وقال حفظًا لماء وجهه المُراق:
-أنا بس بطمن لأحسن يكون في مشكلة ولا حاجة، يعني مافيش داعي حضرتك تتعب نفسك، كل اللي يمهني سلامتك، وأنا موجود عشان آ...
قاطعه في صوتٍ آمر غير متساهل:
-روح على مكتبك دلوقتي، لما أحتاجك هناديلك.
تحول حرجه لعاصفة من الضيق، اضطر مرغمًا لكظم ما يعتريه، وقال متصنعًا الابتسام:
-تمام يا باشا.
بدا في وجهه التذمر لأنه لم يعرف السر الذي يخفيه والده عنه، خاصة مع تكرار قدوم محاميه الخاص، دون أن يتم استدعائه لحضور لقائهما، والذي يرتبط في الأغلب بالعمل والاتفاقات المتعلقة به، لذا شك أن يكون الأمر أخطر مما يجيء في تصوره. تكلم "سامي" مع نفسه بعزمٍ وهو يسير نحو مكتبه:
-لازم أعرف إيه اللي بيدور من ورايا!
............................................
انتابتها قشعريرة مريبة ومبررة عنـ.ـد.ما وطأت خارج جدران بيتها، نـ.ـد.مت لأنها وافقت على ذلك، وسارت -وشعورها بالرهبة يغمرها- مجاورة لزوجها، اختلست النظرات على من حولها، كانت تخشى من أي ردة فعل غير متوقعة حينما يراها أحدهم، فقد توهمت أن الجميع مازالوا يذكرون تفاصيل ليلتها الدامـــية بعدmا شاهدوا بأعينهم ما جرى حينها. هدأت خواطرها المتـ.ـو.ترة نسبيًا عنـ.ـد.ما وجدت أن هواجسها غير حقيقية. استعادت جأشها، ومشت بخوفٍ أخذٍ في التناقص حتى بلغت بنايتها القديمة. تركها "عوض" عند المدخل، وقال:
-سلمي على الجماعة فوق، وأنا هطلع عندهم لما أرجع.
أولته ظهرها مرددة بوجهٍ شبه عابس:
-طيب.
تقابلت عند صعودها على الدرج مع جارتها "إجلال" التي كانت تنفض السجاد، سعدت الأخيرة للغاية لرؤيتها، وهللت في سرور متعاظم:
-"دوسة" حبيبتي.
احتضنتها، وانهالت عليها بعشرات القبلات على كل وجنة، وعاتبتها برقةٍ:
-كده يا "دوسة"؟ تنسيني يا حبيبتي؟
ردت بوجومٍ بائن:
-معلش.
تصنعت "إجلال" الضحك، ومازحتها:
-شكل صحتك مش جاية على الجواز.
لم تجد منها أي تعليق، فنـ.ـد.مت على طرفتها على الموفقة، وتساءلت لتغير من مجرى الحوار:
-إنتي عاملة إيه؟ بقالنا كتير مشوفناكيش هنا، هو سي "عوض" مانعك تزوري خالتي ولا إيه؟
نفت بهزة من رأسها، وأجابتها صراحةً، وبنبرة مشوبة بالهم:
-لأ، أنا اللي مكونتش حابة انزل من البيت.
تفهمت للأمر، وقالت بودٍ وهي تميل عليها بوجهه لتقبلها:
-مش هعطلك يا "دوسة"، عشان تلحقي تقعدي مع خالتي شوية، إن شاءالله نتقابل تاني.
تنهدت مغمغمة في نفس النبرة الموحية بالتعاسة:
-ربنا يسهل.
شهدت "إجلال" كيف يمكن لمشاعر الحب حينما يتم الغدر بها أن تتبدل لأخرى على النقيض، ناقمة، ساخطة، وغير مقبلة على الحياة، لأن أحد الطرفين كان منذ البداية مستغلًا، ومنافقًا.
.................................................
رغم استقبالها الحميمي والحار لها إلا أنها شعرت بأنها مجرد ضيفة عابرة، بأن ما في المنزل ما عاد يخصها. اقتضبت في الحديث مع والدتها، والتهت بتنظيف ما احتوى على الغبـ.ـار لئلا تحادثها بما لا تريد البوح به، خاصة ما يخص طبيعة علاقتها الفاترة مع زوجها. انقلبت سحنتها حينما جاءت خالتها على غير ميعاد، وكأنها لا تبدو مرحبة بوجودها. سألتها "أفكار" بفضولٍ وهي تجول بعينيها عليها من رأسها لأخمص قدmيها:
-مالك يا "دوسة" خاسة كده ليه؟
ردت عليها وهي تجفف الأرضية المبتلة تحت قدmيها بمنشفة جافة:
-أنا زي ما أنا.
تدخلت "عقيلة" في الحوار، وأخبرتها بعد زمة سريعة لشفتيها:
-وربنا أنا قولت هي مابتكلش.
سكتت "أفكار" لهنيهة، ثم تكلمت عاليًا وبنزق:
-لأحسن تكوني حبلى؟!!
شهقت "فردوس" مصدومة، وتوقفت عن التجفيف وهي منحنية على ركبتيها لتتطلع إليها بعينين مصدومتين، في حين تابعت خالتها متسائلة بمكرٍ:
-هو إنتو بقالكو كام شهر سوا؟
ردت عليها بوجومٍ:
-عيب يا خالتي الكلام ده.
ضحكت في تسلية، وأصرت عليها بسخافةٍ:
-يا بت هتعملي مكسوفة ولا إيه؟ علينا برضوه!
مرة ثانية شاركتهما "عقيلة" الحديث، وقالت بتعبيرٍ شبه جدي:
-أكيد لو في حاجة هتقول.
لم تبدُ شقيقتها مقتنعة بذلك، وأردفت في نفس الأسلوب السمج المستفز:
-ده احنا بقالنا شهور مابنشوف وشك، يعني لازمًا غرقانين في العسل، والدلع، وآ...
ضجرت "فردوس" من سماعها لمثل هذه التلميحات المتجاوزة، وكأنها حقًا تنعم بحياة هانئة مع من اختارت، لذا أنكرتها في التو، وبغير احترازٍ:
-محصلش، هو احنا أصلًا بنقعد سوا!!!
توقفت كلتاهما عن الكلام لتحدقا في وجهها بنظراتٍ جمعت بين الدهشة والذهول، آنئذ أدركت "فردوس" أنها أخطأت في إبلاغهما بحقيقة وضعها. استقامت واقفة، ومسحت كفيها في جانبي قميصها المنزلي، لتتجه بعدئذ بعينيها نحو أمها عنـ.ـد.ما لطـ.ـمـ.ـت على صدرها تسألها في جزعٍ:
-يا نصيبتي؟ ليه كده يا بت؟
أجابتها بوجهٍ ممتعض:
-مافيش يامه، مالناش نفس لبعض.
نظرت لها "أفكار" شزرًا، وعقبت بنبرة مليئة بالاستهجان، ويدها تشير إليها باحتقارٍ:
-طبعًا، ونفسه هتتفتح إزاي؟ شوفي بوزها ممدود شبرين لقدام!
اشتعل وجهها غيظًا من أسلوبها الفظ، فلم تكف عن مضايقتها، واستمرت تقول:
-بقى ده شكل واحدة هتخلي جوزها يلبد في البيت؟ ليه حق يكون معظم الوقت طفشان!
هتفت بها في حدةٍ، وقد اشتاطت غضبًا:
-مالوش لازمة الكلام ده يا خالتي!
لم تكترث لأمرها، وحذرتها بشيءٍ من الهجوم:
-إنتي لو فضلتي على نفس الحال مش بعيد تلاقيه متجوز عليكي.
انقبض قلبها، وراحت تصيح بالتياعٍ ممزوج بالضيق:
-مـ.ـا.تقوليش كده...
منحتها خالتها نظرة مستخفة بها، فدافعت عنه بثقةٍ عمياء:
-"عوض" مالوش في الكلام ده.
أكدت لها بما زعزع يقينها تجاهه:
-يا عين أمك الرجـ.ـا.لة كلهم صنف واحد، لو ملاقوش الراحة في بيتهم هيدوروا عليها برا!
ثم مصمصت شفتيها، وسألتها في جرأة:
-على كده بقى بتلبسي ليه الشفتشي؟!!
تضرج وجهها بحمرة خجلة، ورمشت بعينيها مهمهمة:
-عيب كده!
ضحكت ساخرة منها، ووكزتها في جانب ذراعها، لتخبرها بعد ذلك بنبرة ذات مغزى:
-يا خايبة! وربنا الراجـ.ـل ده ليه الجنة إنه مستحمل منك نشفان الريق!
كزت على أسنانها في حنقٍ، ومع ذلك لم تعلق عليها، بينما استمرت "أفكار" تتكلم مخاطبة شقيقتها كنوعٍ من التحذير:
-وعيها يا "عقيلة"، بدل ما ترجع تقعد جمبك بخبيتها الكبيرة!
على الرغم من فظاظة طريقتها إلا أنها كانت محقة في إنذارها، وهذا ما جعل شقيقتها ترتاع من احتمالية انفصــال ابـ.ـنتها، أو على الأغلب زواجه بأخرى لتعاني بقســــاوة من الأمرين.
.........................................
مع مرور الوقت نما بينهما شيء أعمق من الود؛ لكنه ما زال مغلفًا بالحيطة والحرص، ولم يتجاوز الحدود، فرغم هجر "مهاب" لها إلا أنها حافظت على مسمى علاقتهما إلى أن تنتهي بشكلٍ رسمي. لن ينكر "ممدوح" أن مشاعر الغيرة قد بلغت منتهاها لديه عنـ.ـد.ما انكشفت له شخصية "تهاني" الإنسانية، تلك التي لم ولن ينظر إليها رفيقه مطلقًا، كم حقد عليه لكونه تفوق عليه في الظفر بها! آه لو سبقه في النيل منها، لربما اختلف كل شيء الآن. مرة أخرى اصطحبها لأحد المؤتمرات الطبية، وكالعادة أصر على اشتراكها في محاضرة الضيوف، ولم تعارضه مثلما فعلت في السابق، فخبرتها لم تعد محدودة في هذا المجال. تقوست شفتا "تهاني" عن ابتسامة مشرقة وهي تستطرد:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح" على كل حاجة عملتها عشاني، حد تاني كان استغل الموقف واتخلى عني، مش يدعمني بالشكل الكبير ده عشان أنجح.
رمقها بهذه النظرة الدافئة المليئة بقدرٍ من العتاب قبل أن يرد:
-هزعل منك بجد لو فضلتي تقولي كده!
تلونت بشرتها بحمرة نضرة، فقال عن قصدٍ ليزيد من إرباك مشاعرها:
-إنتي غالية عندي.
افتقارها لسماع ما يداعب مشاعرها المرهفة كأنثى جعلها تواقة دومًا لمثل هذه العبـ.ـارات الناعمة التي تجعلها متأهبة لاستقبال المزيد. نظرت إليه بنظرة مختلفة، وهو يؤكد لها مبتسمًا:
-وأنا واثق إنك قريب أوي هترتاحي من كل مشاكلك.
تضمن جملته تلميحًا حذرًا يخص علاقتها الشائكة مع زوجها، تنهدت مليًا، وهمهمت في رجاءٍ كبير:
-يا ريت.
............................................
أدهشه تفوقها العلمي، ولباقتها الأدبية، فكانت لأغلب الوقت محط أنظاره، لا يرى سواها، ولا يسمع غيرها، كان في كامل انتباهه لكل شاردة وواردة تصدر عنها رغم جلوسه في مؤخرة القاعة؛ لكن زاويته أتاحت له رؤيتها بشكلٍ أفضل ودون إثارة الريبة أو التساؤلات، بقي مستغرقًا في تأملها إلى أن هبط عليه ظلًا غريبًا، جعله يدير رأسه للجانب ليمعن النظر فيمن حجب الرؤية عنه، سرعان ما اعتلت قسمـ.ـا.ته صدmة جلية، فهتف في غير تصديق، وقد اتسعت نظراته بشـ.ـدة:
-"مهاب"!
ضـ.ـر.ب كتفه بيده، وجلس إلى جواره قائلًا بعنجهيةٍ:
-مفاجأة مش كده؟
سحب "ممدوح" شهيقًا عميقًا، ليضبط به نوبة الاضطراب التي أصابته، لفظه على مهلٍ، ثم سأله مستفهمًا في صوتٍ شبه هادئ:
-ماقولتش إنك جاي ليه؟ على الأقل كنت روحت بنفسي أستقبلك في المطار!!
رد عليه في خبثٍ، ونظرة غامضة تصدح من مقلتيه:
-وأبوظ المفاجأة عليكم؟
تحفز "ممدوح" في جلسته، وسألته بتحيرٍ قلق بعدmا اختفت البسمة من على محياه:
-إنت عرفت منين إن احنا هنا؟
رفع حاجبه للأعلى قليلًا، وأجابه:
-مافيش حاجة بتستخبى عليا.
ثم اتجه ببصره للأمام، لتقع عيناه على زوجته، وتابع بنبرة موحية:
-أنا شايف إنك قايم بواجبك على الآخر، مقصرتش مع "تهاني".
قال كأنما يسخر منه:
-مش إنت موصيني؟
مجددًا ضـ.ـر.ب على كتفه بيده قبل أن ينهض ليخبره:
-وإنت الصراحة عملت بالوصية، وعوضت غيابي.
كلمـ.ـا.ته كانت منتقاة، ومبطنة بتلميح مفهوم، نظر إليه بشيءٍ من التوجس والقلق، ثم تساءل كمحاولة للتغطية على ذلك:
-أخبـ.ـار "فؤاد" باشا إيه؟
مط فمه للحظةٍ، وأجابه:
-بقى أحسن.
تصنع الابتسام معقبًا:
-طب كويس.
أشار "مهاب" برأسه نحو المنصة، ثم خاطبه في تشفٍ، وهذه الابتسامة اللئيمة تتراقص على زاوية فمه:
-فرصة بقى أطلع أشجع مراتي، ولا إيه رأيك؟
غام وجهه كليًا، وانعكس ذلك أيضًا في نظراته إليه، بصعوبة حاول مبادلته الابتسام حينما رد عليه:
-اتفضل.
كاد ينهض ليسير معه؛ لكنه ضغط على كتفه ليبقيه جالسًا في مقعده وهو يكلمه بلهجة الآمر الناهي:
-خليك مطرحك، أنا عارف سكتي كويس!
ثم أطلق ضحكة خافتة كأنما يستهزئ به، قبل أن يوليه ظهره، ويتقدm للأمام تاركًا إياه يغلي بين أحقاده.
.................................................
ركزت عينيها على زجاجة الماء البلاستيكية الموضوعة أمامها إلى أن أحست بانقباضة غير مريحة تضـ.ـر.ب في صدرها، وكأن حدسها يخبرها بشكلٍ غير مباشر باتخاذ حذرها، في عفوية تامة، تطلعت للأمام، وأبصرته، كانت مفاجأة مدوية، ما لبث أن استدعى عقلها لحظات المذلة والإهانة وهو يسير في خيلاء تجاهها، وكامل نظراته عليها، توقفت عن التنفس، كما جحظت عيناها على اتساعهما، ورددت بقلبٍ يدق في هلع:
-"مهاب"!
بقيت على حالتها المصدومة للحظاتٍ إلى أن استعادت رشـ.ـدها، فنهضت مستأذنة من على منصة الحضور، محاولة الفرار منه قبل وصوله؛ لكن لحظها التعس شعرت بذراعه القوية تطوق كتفيها لتجبرها على الاستدارة للجانب، والنظر إليه، انفرجت شفتاها، وحملقت فيه بذهولٍ كبير، فاقدة لقدرتها على النطق بكلمة، مال نحو أذنها، وهمس لها بحرارة كانت ترتجف منها:
-حبيبتي، حشـ.ـتـ.ـيني و .
انطلقت شارات الإنذار في عقلها لتجبرها على الاستفاقة من حالة التيه التي سيطرت عليها بوجوده المؤثر، أيمكن لمتحجر القلب ومن يدعس على أرواح البشر أن يكون صادقًا في اهتمامه بأحدهم؟ ربما لانطلى عليها ذلك لو لم يتابع مرددًا بأسلوبه المتملك:
-فكرتيني مش راجع ولا إيه؟
حدجها بنظرة لها مدلولها وهو يسألها:
-"ممدوح" كان شايف شغله معاكي كويس؟
أدركت بصفاءٍ كامل أنه يحاول استفزازها، تهديد سلامها الذي ظنت أنها قد بدأت تعيش فيه بغيابه الدائم عنها، سرعان ما تحفزت ضده بوضوحٍ، تملصت من ذراعه، وتراجعت عنه متسائلة في حدة:
-إنت عاوز مني إيه؟
ألقى نظرة على الانتفاخ البـ.ـارز في جسدها معلقًا:
-شكلك نسيتي إنك مراتي، وإن اللي في بطنك ده يخصني.
بغريزة أمومية وضعت يدها على بطنها تحميه، وهتفت في نوعٍ من الهجوم اللفظي عليه:
-مش شايف يا دكتور إنك اتأخرت على الطـ.ـلا.ق؟ المفروض ورقتي كانت توصلني من زمان.
تفشى فيها الخوف حينما منحها هذه النظرة النهمة التي تجردها مما يسترها، قبل أن يخبرها مؤكدًا:
-ومين قالك إني هطلقك دلوقتي؟ ده أنا حتى ماشبعتش منك!
أحست بدفقاتٍ من العرق البـ.ـارد تغمرها وقد لمحت "ممدوح" قادmًا من على بعد لينضم إليهما، ارتعشت شفتاها وهي تنطق باسمه:
-دكتور "ممدوح"!
التفت زوجها لينظر إليه صائحًا بصوتٍ مسموعٍ لكليهما:
-بيتهيألي دورك خلص لحد كده.
تجمد الأخير بمكانه ناظرًا إلى "تهاني" بتحيرٍ وضيق، أصبح أكثر حقدًا عليه عنـ.ـد.ما طلب منه "مهاب" في وقاحةٍ:
-محتاج أختلي بمراتي شوية، يا ريت تمشي!
اكتسب وجهه تعبيرًا ساخطًا رغم ترديده الهادئ:
-طبعًا، خدوا راحتكم.
انصرف مغادرًا وهو يبرطم بسبة خافتة، في حين انطلقت "تهاني" مواصلة فقرة هجومها الكاره عليه:
-إزاي قابل على نفسك تفضل مع واحدة مش طايقاك؟
وضع يده في جيب بنطاله، وانتصب أكثر في وقفته السامقة المتعجرفة، ليسألها في استعلاءٍ:
-للدرجادي نسيتي كنتي عاملة إزاي أول ما شوفتيني؟
ببساطة شـ.ـديدة اعترفت له مسترسلة:
-كنت غـ.ـبـ.ـية، وعامية، ومش فاهمة حاجة.
وجوده كان كالهم على القلب، جعلها في حالة من الغضب والانفعال، وازداد ذلك بقوله المستمتع:
-ت عـ.ـر.في، أنا فكرت إنك نزلتي الحمل، بس إنتي فاجئتني.
رفعت سبابتها في وجهه، وهتفت في تحيزٍ حانق:
-أنا احتفظت بيه عشاني مش عشانك إنت.
وضع إصبعيه على طرف ذقنه قبل أن يقول:
-أكيد، ماهي فرصة ليكي برضوه تستفيدي عن طريقه.
الآن ترى صورة مختلفة عنه، حقيقته البشعة التي حجبها حبها الأعمى عن رؤيتها؛ شخصية مؤذية، متعجرفة، متملكة، تفرض سطوتها بكل الحيل والسبل لتحوز على ما لا تستطيع امتلاكه. استمرت في قولها المتعصب وهي تناطحه الند بالند:
-إنت غلطان يا دكتور.
امتدت يده تجاه وجهها لتلامس راحته صدغها، فانتفضت نافرة منه، ومع ذلك لم يبدُ مزعوجًا من تصرفها، بل قال في برودٍ تام:
-حبيبتي، أنا قريتك من أول لحظة!
احتقنت نظراتها بشـ.ـدة، فتابع مستفيضًا في وصفها بتبجحٍ:
-واحدة طماعة، دورت على فرصة حلوة عشان تركب عليها، بس للأسف اللي حصل العكس!
وصلها وصفه الجارح والمهين، فاندفعت ناحيته بعصبية وهي تكور قبضتها لتلكزه في صدره صارخة به:
-إنت سـ.ـا.فل ومش محترم.
أمسك بها من رسغها ضاغطًا عليه بقسوةٍ، أخفض يده مدmدmًا في صوتٍ صارم ومحذر:
-مـ.ـا.تنسيش نفسك!
انتشلت يدها من قبضته، واستمرت في مهاجمته كلاميًا:
-إنت واخد قلم كبير في نفسك...
قطب جبينه مظهرًا ضيقًا نسبيًا منها، فأكملت على نفس المنوال:
-أنا من غيرك أقدر أحقق أحلامي بنفسي، مش مستنية أستفيد منك بحاجة.
في التو هددها مباشرة:
-وأنا سهل عليا جدًا أدmرها، ومن غير مجهود.
اشتعلت عيناها على الأخير، فقال باستخفافٍ:
-مـ.ـا.تبصليش كده.
تأويهة خافتة انفلتت منها عنـ.ـد.ما أطبق على فكها يعتصره وهو يخاطبها:
-اللعب معايا مش سهل خالص يا دكتورة.
وضعت يدها على كفه تريد انتزاعه، فأرخى أصابعه عنها لتهمهم في ألمٍ:
-أنا بكرهك.
استخدm يده الأخرى في المسح على وجنتها قائلًا:
-كويس، عاوزك تفضلي كده.
انتفضت من لمسته التي اعتبرتها مقززة، وهتفت به:
-كنت غـ.ـبـ.ـية لما صدقت إن واحد زيك كويس.
لم تنتظر رده على كلامها، بل تحركت منصرفة بعيدًا عنه بخطواتٍ شبه مسرعة نحو سلم الدرج، ليلحق بها هاتفًا:
-أنا ماسمحتلكيش تمشي.
ثم قبض عليها من ذراعها ليوقفها عنوة، لم تقبل بإمساكه لها، وثارت عليه محاولة انتشــال ذراعه من بين أصابعه:
-مـ.ـا.تمسكنيش، شيل إيدك عني.
نجحت في الإفلات منه مستخدmة كامل قوتها، واستدارت بعصبيتها الجمة للأمام غير منتبهة لموضع قدmها، فزلت، وانكفأت على وجهها، فاقدة لاتزانها، لتسقط في حلقات دائرية بطول سلم الدرج وصوت صراخها المفزوع يرن في جنبات المكان. تسمر "مهاب" في مكانه مصدومًا مما حدث لها، وصاح يناديها:
-"تهانــــــــي"!
.........................................
مغلفًا بصمته، ومستغرقًا في تفكير عميق، مكث "مهاب" في الرواق على أحد المقاعد الجلدية بالمشفى، بعدmا تصاعدت الأحداث واتخذت مسارًا مفاجئًا غير الذي كان مرسومًا له. بالطبع لكون الحادثة التي تعرضت لها زوجته خطيرة، رغم أنها لم تكن بقصدٍ منه، إلا أنها جعلته محط الاتهام والتساؤلات، فخضع للتحقيق المدقق كإجراء قانوني متبع، شهد بما حدث، موضحًا تفاصيل وقوعها، إلا أنه تغاضى عن الإبلاغ بشجارهما الذي نشب، مدعيًا أنها كانت متلهفة للعودة إلى منزلهما لتجديد شوقهما، فغفلت عن الانتباه لخطواتها وتعرقلت على الدرج، ولم يتمكن من إنقاذها.
استفاق "مهاب" من شروده عنـ.ـد.ما سأله رفيقه:
-عملت إيه؟ التحقيقات خلصت ولا لسه؟
أجابه بتعبيرات واجمة:
-لسه.
استطرد "ممدوح" يسأله في خبثٍ، كأنما يتأكد من شكوكه ناحيته:
-هما مفكرين إنك زقتها على السلم ولا إيه؟
حدجه بنظرة نارية قبل أن يجيبه:
-لو حابب أخلص منها طبيعي أعمل ده من غير شهود يا "ممدوح"، أنا مش غـ.ـبـ.ـي أوي كده.
توقف عن التحديق في وجهه عنـ.ـد.ما خرج إليه أحد الأطباء من الداخل ليخاطبه:
-دكتور "مهاب"...
نهض قائمًا، فاستأنف الطبيب كلامه بترددٍ:
-احنا للأسف مضطرين نلجأ للولادة القيصرية.
ظهر القلق الشـ.ـديد على وجه "ممدوح"، بينما ظلت تعابير "مهاب" غير مقروءة، خاصة والطبيب يؤكد بنبرة شبه آسفة:
-الوضع صعب، والتدخل الفوري مطلوب حفاظًا على حياة الأم والجنين اللي في بطنها.
لم ينبس بكلمة، وأبقى على صمته المريب، فكرر عليه الطبيب لمرة أخرى:
-محتاجين موافقتك، باعتبـ.ـارك زوج المريـ.ـضة.
ظهرت الحيرة في عيني "ممدوح"، وابتلع ريقه متوقعًا الرفض من قِبل رفيقه، فمنذ متى يهتم لأحدهم؛ لكنه فاجأه عنـ.ـد.ما هتف بصوتٍ حازم:
-اعمل المطلوب.
هز الطبيب رأسه بالإيجاب، فتابع "مهاب" إملاء أوامره عليه:
-اسمعني كويس، اللي يهمني الجنين، مفهوم؟
قال بعد زفرة سريعة:
-احنا هنعمل اللي علينا وزيادة.
بعينين متحفزتين، تطلع "ممدوح" إليه، رغم كل شيء لم يمنعه ضيقه من سؤاله غير المتدبر:
-هي مش فارقة معاك ولا إيه؟
لم ينظر تجاهه، وهمهم وهو يستقر جالسًا على مقعده:
-مش وقته الكلام ده!
بحث عن شيء ليخبره به؛ لكنه لم يجد، لذا هسهس مع نفسه في استحقارٍ:
-للنـــدالة عنوان!
.................................................
الانتظار الطويل المحمل بالتكهنات بالخارج كان مزعجًا له، ربما لو استخدm سلطته لولج بلا أي تعقيد لداخل غرفة العمليات وتابع ما يدور بنفسه؛ لكنه للمرة الأولى في حياته يرتاع من فكرة تواجده، فقطعة منه تسبب بدون قصد منه في إيذائها. تأهب في جلسته، وانتفض دفعة واحدة عنـ.ـد.ما أطل الطبيب من الداخل ليعطيه البشارة بوجه مبتسم:
-ألف مبروك يا دكتور "مهاب"، الحمدلله الخطر زال، والأم والولد بخير.
غفل عن الجزء المتعلق بزوجته، وأبدى كامل تركيزه مع كلمـ.ـا.ته الأخيرة متسائلًا ليتأكد مما سمع:
-هي جابت ولد؟
رد بنفس الوجه المبتسم، وبإيماءة من رأسه:
-أيوه.
انفرجت أساريره بابتسامةٍ كانت مصحوبة بخفقة قوية في صدره، رأى "ممدوح" ما طرأ عليه من تغيير غريب ومريب، وراقبه دون تدخلٍ، عاد الطبيب ليكلمه:
-شوية وهننقل المدام بعد ما تفوق على أوضة خاصة بيها.
مرة ثانية لم يكترث لحديثه عنها، وسأله "مهاب" مستعلمًا:
-الولد كويس؟
جاوبه في الحال:
-بخير، بيتم فحصه جوا، اطمن...
أحس "مهاب" بنوبة من الارتياح تتخلل أوصاله، بينما الطبيب لا يزال يحادثه:
-صحيح الولادة كانت بدري عن ميعادها، بس الحمدلله عدت على خير.
ضنَّ عليه بأي رد يظهر اهتمامه بها، وانشغل بتفكيره في المولود الصغير الذي سيحمل اسمه، ولقب عائلته. انتبه لرفيقه عنـ.ـد.ما هنأه وهو يربت على ظهره بخفةٍ:
-مبروك يا صاحبي، بقيت أب.
ثم تصنع الضحك، واستأنف يسأله في لؤمٍ:
-أكيد الباشا الكبير هيفرح لما يعرف بخبر عظيم زي ده، ولا هو معندوش خبر بجوازك؟
حينئذ برزت نظرة مسيطرة في عيني "مهاب" وهو يقول بغرورٍ واثق:
-لأ عرف، ولاد الحلال خدmوني الصراحة!
خيل إليه أنه يتهمه بنظرته تلك، كاد أن يبرر له لولا أن خرجت إحدى الممرضات من الداخل وهي تحمل لفافة قماشية، تقدmت بها نحو "مهاب" وهي تخاطبه:
-اتفضل يا دكتور، ابن حضرتك.
وكأنه صعق بلمسة غير متوقعة من سلك يسري فيه تيار كهربي حينما امتدت ذراعاه، وحمل عنها طفله البكري، قربه من صدره ببطءٍ، وراح يتأمله بنظرات ملية، مدهوشة، حائرة، غير مصدقة حقًا أنه يضم بين يديه لحمه ودmه. راقبه "ممدوح" بسحنةٍ مغتاظة، طغى عليه غليل نفسه، وأردف معلقًا عليه في أسلوب شبه متهكم ليحقر من أهمية هذه اللحظة الفريدة التي يعايشها:
-منظرك غريب أوي، مين كان يصدق إن الدكتور "مهاب" يبقى أب بالسرعة دي، أكيد إنت مصدوم!
للغرابة لم يبالِ "مهاب" بسخريته الظاهرة، ولا باستخفافه بمسألة إنجاب زوجته لطفل في ولادة مبكرة، بل كان منشغلًا بما يحمل، بقيت نظراته تحوي رضيعه دون غيره، وأخبره بصدقٍ عجيب:
-هتصدقني لو قولتلك إن دي لحظة ما تتعوضش.
وكأنه يزيد من اندلاع النيران بأعماقه بالإفصاح عن حقيقة مشاعره، لذا استهان بها مدعيًا ضحكه:
-معقولة؟ إنت بتحس؟ صعب أقتنع بصراحة!
سدد له نظرة مزدرية قبل أن يعقب عليه:
-تقتنع أو لأ مايهمنيش دلوقتي.
ابتلع إهانته البادية في نظرته إليه، وسأله كنوعٍ من المزاح:
-ماشي يا سيدي، على كده ناوي تسميه إيه بقى؟
كان كمن صعد نجمه إلى السماء في طرفة عين بميلاده غير المرتب له، خاصة إن علم والده أن حفيده البكري ذكرًا، فكم كان ينتظر لحظة كتلك، وإن لم يكن راضيًا عن زيجته! ابتسم في حبورٍ، ليترك لرضيعه سبابته ليلف أصابعه الضئيلة عليه، ثم قال في شموخٍ:
-بفكر في .. "أَوْس" ...........
↚
(أَوْس)
بعد نجاح عملية الولادة القيصرية لها، تم نقلها إلى غرفة منفردة، لتقوم إحدى الممرضات برعايتها الرعاية اللازمة، ريثما تستفيق كليًا. كانت "تهاني" تشعر بآلام متفرقة في أنحاء عظام جسدها، وذلك كردة فعل طبيعية جراء اصطدامها العنيف والمتكرر على طول درجات السلم. تأوهت في صوت واهن، وهي تحرك رأسها للجانبين على الوسادة، تجمعت الدmـ.ـو.ع في عينيها، وراح صوت أنينها يرتفع بالتدريج، انحنت عليها الممرضة لتضبط غطاء شعرها البلاستيكي، وسألتها إن كانت تريد شيئًا، فأخبرتها الأخيرة بسؤالٍ، وبهمسٍ شبه مسموع:
-اللي في بطني عايش؟
أجابتها في التو، وبابتسامة مشرقة على محياها:
-أيوه، ما شاء الله ابنك بخير.
خفق قلبها بقوةٍ، وردت بصدرٍ ينهج:
-ابني!!
استغرقها الأمر لحظاتٍ معدودة لتخامر هذا الشعور الرائع بكونها قد أنجبت وصارت أمًا. بلهفة ممزوجة بالحماس هتفت تطلب منها رغم انخفاض نبرتها:
-عاوزة أشوف ابني.
ربتت الممرضة بحنوٍ على كتفها قائلة بنفس الوجه الباسم:
-اطمني، هيجيلك هنا كمان شوية.
أغمضت "تهاني" عينيها لهنيهة مستمتعة بذلك الإحساس الخلاب، لتظل تردد على لسانها بتنهيدة متشوقة:
-ابني.
راودتها ذكرى مشوشة للحظة سقوطها من على الدرج، فتنفست الصعداء لكونها قد مرت وانقضت على خير، تنبهت لصوت الباب وهو يفتح لتجد أحد الأطباء يلج منه مخاطبًا إياها بشيء من الودية:
-حمدلله على السلامة يا دكتورة.
نظرت تجاهه، وردت وهي تحاول الابتسام:
-الله يسلمك.
تفقد اللوح المعدني المدون عليه آخر الملحوظات المتعلقة بشأنها، والمتدلي من على طرف فراشها، ثم سألها مهتمًا:
-حاسة بإيه؟
تحسست جبينها، وأخبرته بإيجازٍ:
-تعبانة.
هز رأسه في تفهمٍ، وقال:
-متقلقيش، شوية وهترتاحي.
اقترب منها ليفحصها عن قربٍ، ثم أضــاف:
-أنا موصي الممرضة وهي هتقوم باللازم معاكي.
استمر في فحص أنبوب المحلول الموصول برسغها وهو يخاطبها:
-بصراحة أنا مكونتش متخيل إن رغم صعوبة وضع العملية إنها تعدي على خير.
ضيقت عيناها ناحيتها، فابتسم أكثر وقال:
-إنتي والمولود كويسين.
عند ذكر رضيعها صاحت تسأله في لهفةٍ:
-عاوزة أشوف ابني، هو فين؟
أجابها ببساطةٍ وهو يكتف ساعديه أمام صدره:
-مع دكتور "مهاب"، باباه!
عندئذ انتابها الفزع، هـ.ـر.بت الدmاء من وجهها المتعب، وهمهمت في صوتٍ متقطع، مستشعرة تلاحق دقـــات قلبها:
-"مهاب"!!
اندهش للتغير الذي طرأ على ملامحها، وبدا متعجبًا أكثر حين سألته في صوتٍ خائف للغاية:
-هو فين؟
لم يعرف بماذا يجيب، فشأنهما معًا لا يخصه، لذا فضل أن يتحدث بحيادية، فتكلم في هدوءٍ:
-أنا عاوزك تهتمي بصحتك بجانب اهتمامك بالمولود، ده جـ.ـر.ح خطير، محتاج وقت عقبال ما يلم، وإنتي فاهمة طبعًا يا دكتورة.
كان الشائع في هذه الفترة الزمنية وضع النساء لحملهن بصورة طبيعية، فكان من النادر اللجوء للولادة القيصرية، إلا في الحالات القصوى التي تتطلب ذلك، وبالتالي اضطر الطبيب أن يزيد من الاستفاضة في إسداء النصح لها تجنبًا لأي مضاعفات قد تنعكس بالسلب عليها، فأكمل على نفس النهج:
-ويا ريت تظبطي مع دكتورة نسا، بحيث تاخدي وسيلة قبل ما تفكري تحملي تاني.
تجاهلت كل ما قاله، وهتفت ترجوه بنظرتها قبل نبرتها:
-أنا.. عاوزة .. ابني.
أومأ برأسه مرددًا وهو يهم بالتحرك مبتعدًا عن سريرها الطبي:
-متقلقيش.
شيعته بنظراتها اللهفى إلى أن خرج من غرفتها وهي تتحرق بشـ.ـدة لرؤية وليدها، تنفست بعمقٍ قبل أن تحرر الهواء من صدرها في هيئة زفير بطيء، تعلقت عيناها بسقف الغرفة، وأخذت تحدث نفسها في قليل من الراحة:
-ابني كويس، الحمدلله.
....................................................
طال انتظار وصول رضيعها إليها، وراح شعور الاطمئنان الذي غمرها يتلاشى، ليحل كبديل عنه شعور الخوف والاضطراب. تضاعفت مخاوفها بصورة مرعـ.ـبة عنـ.ـد.ما وجدت زوجها يقف عن عتبة الباب يراقبها بنظرات قاسية للغاية، جعلتها ترتجف في رقدتها، حاولت الاعتدال فاجتاحتها موجة من الألم؛ لكنها لم تتفوق على رهبتها منه، تمتمت باسمه في صوت مرتعش:
-"مهاب"!
تقدm مُختالًا في خطواته ناحيتها، دون أن ينطق بشيء، فقط عيناه تحومان عليها، كأنما يتعمد استثارة أعصابها، وزيادة ارتياعها منه. تسارعت نبضات قلبها، وسألته في صوتٍ لاهج ما زال مرتجفًا:
-فين ابني؟
وقف أمام فراشها، يُطالعها من علياه بنظرات دونية، احتقارية، تحمل الإهانة في طياتها، أجابها مقتضبًا في الكلام، بعد صمت بدا لها ممتدًا، وكأنه لا ينتهي أبدًا:
-موجود.
نظرته إليها لم تكن مريحة بالمرة، شعرت من خلال تأملها المرتعب لملامحه أنه يكمن لها شيئًا، وزاد ذلك الهاجس قوة عنـ.ـد.ما استطرد قائلًا من جديد:
-بس الأول في حاجة لازم أقولهالك.
هزت رأسها كأنما تسأله دون كلام، فأخبرها باسمًا في تشفٍ أصابها بالصدmة العظيمة:
-إنتي طالق!
جحظت عيناها في ذهول مرتاعٍ، وغمغمت بلا تصديقٍ:
-إيه؟
تابع معلقًا في لذة مغيظة لها، وممتعة له:
-مش ده اللي كان نفسك فيه من زمان.
شعرت حينها وكأن أنفاسها انقطعت، بتوقف عضلة قلبها، بظلامٍ تام ساد ما حولها. اخترقت كلمـ.ـا.ته المسمومة طبلتي أذنيها وهو يواصل إخبـ.ـارها ببرود وقسوة:
-وجه الوقت اللي أقولك فيه أنا مابقتش عاوزك.
كانت تنظر إليه كالمـ.ـو.تى، الصدmة المفاجئة جعلت ذهنها عاجزًا عن التفكير، ورغم هذا استمر يفرغ ما في جعبته هاتفًا بنبرة هازئة متهكمة بشـ.ـدة:
-روحي اثبتي نفسك كدكتورة مالكيش مثال، وانجحي، إنتي حرة.
بدأ عقلها يعمل من جديد، ليوضح لها فداحة قراره، وأكد لها ذلك بقوله الحاسم:
-بس ابني مالكيش دعوة بيه، وأنا هعرف أربيه بمعرفتي.
آنئذ خرجت عن طور جمودها اللحظي لتفجر صارخة فيه، متجاوزة في إحساسها بالقهر والعجز أي شعور بالألم الجسدي:
-حـ.ـر.ام عليك يا "مهاب"، إنت بتعمل فيا كده ليه؟
انتصب في وقفته، وقال وهو يحدجها بنظرة مزدرية:
-قولتلك كل حاجة بتتعمل بمزاجي.
سدد لها نظرة احتقارية جعلت داخلها يتفتت، وقلبها يتمزق إربًا وهو يتابع:
-وإنتي مـ.ـا.تلزمنيش دلوقتي.
إعلانه بطرده من جنته المزعومة جعل كيانها يتبدل كليًا، انتفضت من رقدتها لتمد ذراعها نحو يده، أمسكت بكفه تشـ.ـده منه متوسلة إياه في حرقةٍ:
-أبوس إيدك مـ.ـا.تحرمنيش من ابني.
استجدت فيه عاطفة إنسانية غير موجودة به من الأساس، فلم يرأف بها، ولم يكترث لشأنها، بل نفض يدها بقوةٍ كأنه ينفر من لمستها المقززة، بكت في قهرٍ، وهي ترى منه هذه المعاملة المتجافية. انسحق قلبها بين ضلوعها عنـ.ـد.ما رأته يستدير ليتجه نحو باب الغرفة تمهيدًا لمغادرته، أحست بناقوس الخطر يدق، إن تلكأت أو فكرت لربما خسرت وليدها الذي لم تره بعد للأبد، لم تنتظر كثيرًا، بل اندفعت ناهضة من على الفراش، وطوفان من الألم الجارف يجتاح كل ذرة فيها، انفلتت منها صرخات متقطعة، وهي تجاهد للحاق به، تاركة خلفها بقعة من الدmاء تلوث فراشها، كان كل ما فيها يرتج، ومع ذلك لم يشفق عليها، ولم يبالِ لأمرها كعهده معها. بالكاد استوقفته عند العتبة، فركعت في الحال على ركبتيها عند قدmيه، وقتئذ نظر إليها باستحقارٍ أكبر مستلذًا بتحقيق انتصار زهيد من لا شيء. بلا تفكير أو وعي راحت تردد متسولة مشاعره:
-أنا هعيش خدامة تحت رجلك، بس خليني جمب ابني.
أمام إحساس الأمومة، ورائحة الصغار الملائكية يهون كل شيء وأي شيء! بيديها المرتعشتين، تعلقت بساقه، وظلت تتوسله في انكسارٍ:
-مش هعصالك أمر مهما كان، اللي هتؤمرني بيه هنفذه مهما كان.
ثم أحنت رأسها بطواعية كاملة، كأنما تريد تقبيل حذائه، وتابعت في ألمٍ شـ.ـديد:
-أبوس رجلك مـ.ـا.تبعدهوش عني.
كانت كالعبدة الذليلة، مشهدًا لطالما أغراه، وعايشه مع العابثات المتمرسات في طقوس العشق الآثم، واليوم يتجدد بشكل أكثر واقعية وتأثيرًا عليه، ورغم هذا علق بجمودٍ مستخفًا بما تفعله:
-ماظنش إنك هتستحملي، إنتي واحدة عندك طموح وآ...
قاطعته رافعة بصرها إليه قبل أن يكمل جملته للنهاية مؤكدة لها عن انصيـــاع صريح له:
-لأ، جربني، ولو عصيتك طلقني تاني.
مط فمه قليلًا، فواصلت توسلها المهين:
-بس مـ.ـا.تحرمنيش من ابني.
كانت لترضى بأي احتمال طالما أنه لا يتضمن حرمانها من رضيعها، ذل الخدmة أهون عليها بكثير من و.جـ.ـع الفراق! تركها "مهاب" تلتاع بشوقها وأنينها معقبًا في النهاية بعدmا نفض ساقه ليتخلص من قبضتيها:
-تمام يا دكتورة، هشوف.
زحفت على يديها في عجزٍ واضح نحو الخارج وصوتها الباكي يرجوه في حرقةٍ أشـ.ـد:
-"مهاب"، رجعلي ابني، خليني أطل عليه.
لم يلتفت إليها، بل انصرف في نشوة مريـ.ـضة لترتكن بظهرها على الجدار المجاور لغرفتها وهي تنوح في حسرة متعاظمة:
-آه، يا و.جـ.ـع قلبي عليك يا ضنـــايا!
...............................................
تأهبت ابتسامتها المبتهجة للبزوغ عنـ.ـد.ما سمعت صوت زوجها يأتي من الخارج، خاصة مع امتلاء رأسها بعشرات النصائح والحكايات المخجلة عن العلاقات بين الزوجين لضمان استمرار اشتعال جذوة الحب بينهما لأطول فترة ممكنة، فتحمست لإسقاط ذلك الحاجز الوهمي الفاصل بينهما، ومحاولة إعطاء الفرصة لقدرٍ من الملاطفة والتقارب، لعل وعسى تنجذب إليه، وتجد فيه ما يعيد دفقات المياه إلى مجاريها الطبيعية. أوشكت "فردوس" على الذهاب إليه لاستقباله؛ لكن خالتها منعتها من الخروج لتؤنبها بنبرتها، وكذلك بنظرتها الحادة إليها:
-إنتي هتطلعي كده؟
سألتها مندهشة وهي تخفض بصرها لتتأمل سريعًا ثوبها المنزلي الفضفاض القديم، وذي اللون البرتقالي:
-ماله شكلي؟
بفظاظةٍ واضحة صارحتها:
-يقطع الخميرة من البيت.
عبست كليًا، وانطفأت الفرحة في عينيها، بل إنها كادت تبكي تأثرًا من كلامها اللاذع؛ لكن خالتها لم تعبأ بما تفوهت به، واستمرت في تعنيفها:
-أومال احنا كنا بـ.ـنتكلم فيه إيه من صباحية ربنا؟
كادت تبرر موقفها بأنها أمضت النهار بطوله في تنظيف المنزل، وغسل الثياب، والقيام بكافة الأعمال العالقة تخفيفًا من العبء المُلقى على كتفي والدتها؛ لكن الأخيرة لم تهتم بمجهودها المستهلك، وهتفت تأمرها:
-روحي الأوضة خديلك قميص عِدل من بتوع "تهاني" البسيه.
الإتيان على ذكر نوعية ثياب شقيقتها نشط ذاكرتها باهتمامها بانتقاء الجيد من الأقمشة، والمواكب لما يسمى بصيحات الموضة، وإن كان كاشفًا للأكتاف، بـ.ـارزًا للمنحنيات، وملتصقًا بالأجساد؛ لكنها كانت تفتقر للشجاعة لارتداء ذلك، فتلبكت، وقالت باعتراضٍ حرج:
-بس آ...
في التو منعتها من الاحتجاج بإصرارها الحاسم:
-من غير بسبسة، عاوزين الجدع مايشوفش غيرك.
مع سيل الإهانات المتواصل فقدت حماسها لمواصلة الأمر، فردت بإحباطٍ:
-يا خالتي أنا ماليش نفس.
زمت شفتيها هاتفة بها بغيظٍ مكتوم:
-أومال هيبقالك إمتى؟ لما يرجعلك معلق في دراعه واحدة تانية تفرسك؟
ارتفع حاجباها للأعلى، فلكزتها "أفكار" بقبضتها المضمومة في ذراعها، وحذرتها:
-مايبقاش مخك ضِلم.
لم تبدُ راضية عما تسعى لإجبـ.ـارها عليه، فتابعت خالتها إعطاء تعليمـ.ـا.تها عليها:
-مـ.ـا.تضيعيش الوقت، أمك هتفضل معاه، وإنتي البسي حاجة مدندشة من هدوم أختك الجديدة.
ردت على مضضٍ، وكأنها تستصعب تنفيذ ذلك:
-طيب.
قبل أن تغادر استوقفتها مرة ثانية آمرة إياها:
-استني كده وريني خدودك!!
قطبت جبينها متسائلة في تحيرٍ:
-مالهم دول كمان؟
أمسكت بهما بأصابعها وراحت تضغط عليهما بشكلٍ أو.جـ.ـعها وهي توضح لها ما تقوم به:
-خليني أقرصهم عشان يبان فيهم الدmوية كده.
تأوهت من الألم، ورجتها:
-بالراحة يا خالتي.
تجاهلت شكواها، واستمرت في جذب خديها بقساوةٍ طفيفة لتكسبهما هذه الحمرة الشـ.ـديدة، ثم تصعبت بشفتيها، لتدmدm بعدها في سخطٍ:
-بلا خيبة!
..................................................
ابتسامة حقيقية صادقة، نابعة من أعماق قلبها، ظهرت على صفحة وجهها الباكي، عنـ.ـد.ما عاد إليها بعد وقت طويل وهو يحمل رضيعها، كانت قد فقدت الأمل في رجوعه، حقًا شعرت وكأن روحها قد ردت إليها حينما رأته، أقبلت عليه بذراعين مفتوحتين لتضمه في لهفة وشوق، متناسية ما بها من أوجــاع، وكأن في ضمته البلسم الشافي لجراحها الغائرة، هانت كل المصاعب مع احتضانها له. قبلت "تهاني" وليدها من كفه الضئيل والدmـ.ـو.ع تطفر بغزارة من طرفيها، كلمته في صوت رقيق رغم اختلاطه بالبكاء:
-ابني حبيبي.
وجوده معها، وبين أحضانها، جعلها تقبل وترتضي بأي مهانة مهلكة لها في مقابل عدm خسارته، راحت تهمس له في أذنه برجاءٍ شـ.ـديد:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
كفكفت دmعها بظهر كفها، وتابعت:
-فداك كل حاجة يا حبيبي، المهم تفضل في حـ.ـضـ.ـني.
ابتسامتها المشوبة بالبكاء ضاعت فجأة، وحل الفزع على قسمـ.ـا.تها عنـ.ـد.ما حادثها "مهاب" فجــأة:
-احتمال يجوا يحققوا معاكي.
سألته بقلبٍ ازدادت وتيرة دقاته وهي تضم رضيعها إلى صدرها في خوفٍ، كما لو كانت تخشى من أخذه قســـرًا منها:
-في إيه؟
أجاب بنبرة هادئة:
-بخصوص وقوعك من على السلم.
في البداية تطلعت إليه ببلاهةٍ، وكأنها تحاول استحضار تفاصيل مشاجرتها الأخيرة معه، لم تضع الوقت في الصمت، وقالت من تلقاء نفسها:
-أنا دوخت ووقعت من نفسي.. إنت ملكش دخل.
نظر إليها مبتسمًا قليلًا، واستحسنت ردها:
-كويس.
أشاحت بنظراتها بعيدًا عنه، لتعاود التحديق في الوجه النائم هامسة :
-حبيبي.
مجددًا تكلم "مهاب" ليشتت نظراتها عن الرضيع:
-صحيح أنا خلاص قررت أسمي ابني "أَوْس"!
كررت الاسم باندهاش غريب:
-"أوس"!
قال متباهيًا بحُسن اختياره:
-أيوه، حاجة مختلفة، وتليق بيه.
تأملته "تهاني" بتعجبٍ، فواصل توضيحه المملوء بالزهو:
-"أوس الجندي"، اسم يليق بحفيد الباشا "فؤاد الجندي"!
...............................................
تبعثرت خيوط الكلمـ.ـا.ت وتفرقت أثناء حديثه مع حمـ.ـا.ته عنـ.ـد.ما رأى زوجته تطل من الداخل وهي متأنقة في ثوبٍ ضيق، من اللون الأحمر، له فتحة صدرٍ متسعة، يكاد ما يبرز أسفلها من مقومـ.ـا.ت مغرية يعلن عن وجوده المشوق. بدا متأهبًا في جلسته، وعجز عن إبعاد نظراته الفضولية عنها، فقد كان غير معتاد على رؤيتها هكذا، تدلى فكه للأسفل باستغرابٍ، وراح يتأملها مليًا، ليتسلل في حرجٍ واضح من تحديقه الذي طال بها عنـ.ـد.ما هتفت به "أفكار" في مكرٍ، وابتسامتها العابثة تتراقص على شفتيها:
-امسك الصينية عن مراتك يا "عوض"، ده بيتك، إنت مش غريب.
نهض من موضع جلوسه متجهًا إليها ليحمل عنها صينية الشاي قائلًا وهو مطرق الرأس:
-عنك.
ردت عليه "فردوس" باقتضابٍ:
-تسلم
اختطف نظرة سريعة نحو نتوءاتها الشهية، فانتفضت به حواسه الكامنة، تنحنح في حرجٍ، وباعد عينيه عنها ليعاود الجلوس في مكانه، محاولًا قدر المستطاع تحاشي النظر ناحيتها، وتوجيه الحديث إلى "عقيلة"، لئلا يبدو اشتهائه للاقتراب منها واضحًا. استمرت "أفكار" في اللعب على وتيرة تحفيز الزوجين، فقالت مدعية وجود الألم بظهرها:
-يستر عرضك يا "دوسة" اعدلي طرف السجادة لأحسن مش قادرة أوطي.
حملقت فيها "فردوس" بغرابة، وتعابيرها تعكس حيرة جلية، وكأنها لا تفهم مقصدها، فأشارت لها خالتها بعينيها نحو البقعة القريبة من زوجها، لتظهر تأثيرها عليه كأنثى عند وجودها في محيطه. أكملت "أفكار" جملتها مزيدة في توضيحها:
-بدل ما حد يتكعبل فيها.
-حاضر.
قالتها "فردوس" وهي تسير إلى النقطة المشار إليها، من وجهة نظرها كان البساط مفرودًا، لا يحتاج لإعادة ترتيب، ومع ذلك مالت بجسدها مدعية انشغالها بتسوية أطرافه، وهي غير مدركة أن ما تقوم به من حركات عادية تعمل كمؤثرات محفزة لمشاعر زوجها المكبوتة. اعتدلت في وقفتها، فأمرتها "عقيلة" وهي تشير بيدها:
-شوفي جوزك لو ناقصة حاجة هتيهاله.
قال معتذرًا بمجاملة مهذبة وقد أطرق رأسه قليلًا:
-لأ كده فضل ونعمة، كتر خيركم.
ثم التفت ناظرًا إلى زوجته التي بدت مغرية، قبل أن يخاطبها في صوت جاهد ليجعله جادًا:
-مش يالا بينا بقى، عشان نسيب الجماعة يرتاحوا.
هزت رأسها موافقة، فنهض قائمًا ليضيف:
-هستناكي تحت عقبال ما تغيري هدومك.
قالت وهي تشرع في السير:
-طيب.
لكنها توقفت عنـ.ـد.ما اقترحت خالتها بخبث، ونظرة عبثية تلمع في عينيها:
-مالوش لازمة تعطلي جوزك، حطي عليكي العباية.
همَّت "فردوس" بقول شيء محتج يعبر عن انزعاجها من محاولة فرض وجودها عليه بهذا الشكل السافر؛ لكنها ابتلعت الأحرف في جوفها عنـ.ـد.ما منحتها خالتها هذه النظرة المحذرة، لتضطر مرغمة على إطاعتها في صمت، بينما رددت والدتها في سرها بتنهيدة راجية:
-ربنا يجعل في وشك القبول والرضا يا بـ.ـنتي .................................... !!
(أَوْس)
أثناء سيرها معه كانت ساهمة، تمشي مدفوعة بتوجيهه وبشكل آلي عبر الطرقات إلى حيث يقطنان، دار في رأسها عشرات الأفكار، ورسمت العديد من السيناريوهات لما ستكون عليه ليلتهما بعد كل ذلك المجهود المبذول من قِبل خالتها لتحلية صورتها في عينيه، انتبهت "فردوس" لزوجها، وانتفضت كالملسوعة فجأة عنـ.ـد.ما تكلم في نبرة معاتبة:
-إنتي مش معايا خالص!!
سألته بحرجٍ وهي ترمش بعينيها:
-هو .. إنت كنت بتقول حاجة؟
كرر عليها سؤاله مبتسمًا في بساطةٍ:
-كنت بسألك ناقصك حاجة نجيبها في سكتنا؟
هزت رأسها قائلة:
-لأ، ماظنش.
عاد الصمت يخيم بينهما من جديد، فسعى "عوض" لفتح سبل الكلام مجددًا، فقال بشيءٍ من الصدق، وكأنه يعبر لها عن مشاعره المتأثرة بها:
-بس ت عـ.ـر.في النهاردة كان شكلك حلو.
تفاجأت بمدحه غير المتوقع، فسكتت للحظةٍ، تحاول استجماع جملة ملائمة، فقالت كالبلهاء:
-كتر خيرك.
تفهم التردد الظاهر عليها، وأكد لها باهتمامٍ متزايد:
-أنا مش بجاملك دي الحقيقة.
على عكسه كانت متبلدة، جـ.ـا.مدة، تجد صعوبة في مجاراة طريقته السلسة في البوح بما يناوش القلب، فاكتفت بالصمت، وتحاشت النظر ناحيته، لتتطلع للأمام ممعنة النظر في الحواجز المعدنية التي تسد مقدmة الطريق، هتفت متسائلة في استغراب حائر:
-هو الشارع مقفول ولا إيه؟
دقق النظر هو الآخر في الناصية المزدحمة بعشرات البشر، وقال:
-مش عارف، بس أول مرة يحطوها هنا.
تباطأت خطواتهما، واستطالت عنق "عوض" محاولًا تبين ما يحدث عبر الحشـ.ـد الذي يملأ جنبات المكان، علق مُبديًا تحيره:
-ده في زحمة ودوشة قدام.
توجس قلبها خيفة من حدوث مكروه ما، فرددت بتلقائيةٍ:
-ربنا يستر..
أشار لها بيده لتتوقف قائلًا بلهجة شبه آمرة:
-استني كده أما أسأل.
استجابته له هاتفة في إيجازٍ:
-طيب.
سارع "عوض" في خطواته بعدmا تركها واقفة في مكانٍ غير مزدحم ليستطلع بنفسه الأمر، آملًا ألا يكون خلف ذلك التجمهر كارثة مفجعة.
............................................
بدأ قلبها يدق بسرعة كعادته كلما ولج إلى الغرفة، ارتاعت فرائصها ظنًا منها أنه قد جاء لأخذ رضيعها قسرًا، شـ.ـددت من ضمه له، ونظرت إلى "مهاب" بقلقٍ معكوس بقوة على محياها، ازدادت مخاوفه مع صمته المدروس، فما كان منها إلا أن سألته بصوتٍ ما زال مرتعشًا:
-هتردني لعصمتك تاني؟
لم يمنحها الرد الشافي، ترك هواجسها المخيفة تأكل رأسها، وقبل أن تفكر في تكرار سؤالها المُلح عليه اقتحم الغرفة دون استئذان "ممدوح" ليلقي نظرة شاملة على "تهاني" والرضيع القابع في حـ.ـضـ.ـنها، اندلعت مشاعر الغيرة بدواخله تجاه رفيقه، فانتفض الحقد في مقلتيه، فهو دومًا يظفر بكل ما يتمنى دون عناءٍ، على عكسه، فهو يتلقى الفتات والمتبقي منه. أخفى ما يضمره في صدره وراء ابتسامة متكلفة، وتساءل وهو يتبختر مقتربًا من الفراش:
-أنا جيت في وقت مش مناسب ولا إيه؟
احتفظ "مهاب" بصمته، وصاحبه بنظراته الغامضة وهو لا يزال يتقدm للأمام، في حين تابع "ممدوح" كلامه قائلًا:
-حبيت أطمن على الدكتورة.
ثم وجه حديثه إليها متسائلًا باهتمامٍ:
-إيه الأخبـ.ـار؟
تـ.ـو.ترت "تهاني" من وجوده، وتضاعفت دقاتها، فإن كانت مشاعرها قد انجذبت إليه بسبب لطافته ووديته معها، إلا أنها لن تضحي بقطعة منها لأجل أهواءٍ وقتية نتجت جراء الوحدة والشعور بالفراغ. ارتجفت في رجفتها عنـ.ـد.ما أجاب "مهاب" بنبرة موحية:
-مـ.ـا.تقلقش عليها.
حينئذ تكلمت من فورها، وبصورة رسمية استغربها:
-شكرًا يا دكتور "ممدوح"، أنا كويسة.
اندهش الأخير من الجفاء المريب الذي تظهره ناحيته، وكأنها راحت تعيد بطواعية وضع الحواجز بينهما، كان فطنًا للدرجة التي جعلته يخمن انصياعها الواضح، فقال مشيرًا بيده:
-الدكتور برا قالي إن في حد جاي يسألها عن تفاصيل الحادثة.
أخبرته دون أن تفكر للحظة، كما لو كان الجواب معدًا بشكل مسبق:
-ده قضاء وقدر، والحمدلله إنه اكتبلي أنا وابني عمر جديد، وده اللي يهمني دلوقتي.
مط فمه في إعجابٍ، ثم حول نظراته تجاه "مهاب" الذي كان يحدجه بنظرته المتباهية، اقترب بعدئذ منه، مال ناحيته، وهمس له:
-برافو، عرفت تطلع من المشكلة دي كمان من غير خساير...
هز "مهاب" رأسه في نشوةٍ، بدا متفاخرًا بتحقيق نصرًا جديدًا في معركة لم يبذل فيها مجهودًا، استكمل "ممدوح" الناقص من جملته، فاستطرد بسخريةٍ محسوسة في نبرته:
-وبعيل كمان.
صحح له بصرامةٍ رغم خفوت صوته:
-اسمه "أوس"، يا ريت تحفظه.
تلقائيًا اتجه "ممدوح" بنظراته القاتمة تجاه الرضيع، وعلق بإيجازٍ غامض:
-أكيد.
ربت "مهاب" على جانب ذراعه وهو شبه يطرده بوقاحةٍ:
-بيتهيألي وجودك مالوش لازمة.
حملق فيه مرة ثانية، ابتلع الإهانة المستترة في طريقته المتعالية، واستقبلها بابتسامة متصنعة مرددًا:
-صح، هاسيبكم سوا.
همَّ بالانصــراف؛ لكنه توقف عند الباب ملتفتًا برأسه نحو "تهاني"، أعطاها نظرة لم تسترح لها، قبل أن يدور ببصره ليستقر على وجه "مهاب"، ابتسم في سخافةٍ، وخاطبه قائلًا في تهكم متوارٍ:
-نتقابل بعدين يا .. "أبو أوس"!
...............................
أثار الغبـ.ـار التي سادت في الأرجاء جعلت الرؤية غير واضحة، مشوشة، والسعال كان منتشرًا بين المتواجدين. حاول "عوض" اختراق صفوف البشر المجتمعين بكثافة ليصل إلى المقدmة، التقطت أذناه عبـ.ـارات مبهمة عن تواجد مكثف لعناصر الشرطة مع رجـ.ـال الإسعاف وسيارات الإطفاء، ما إن وصل إلى آخر نقطة كان مسموحًا فيها للحضور بالوقوف حتى استطاع فهم ما حدث، رأى العقــــــار الذي يقطن به وقد انهار تمامًا منذ ساعات، على حسب ما سمع، ليخلف العديد من الضحايا العالقين أسفل أطنان من الركام الخرساني. تدلى فكه للأسفل، وحملق بعينين متسعتين في رعـ.ـبٍ للأطلال المرابطة كجبل من الحجارة أمامه، حلت الصدmة عليه كالصاعقة، فعجز عن الكلام أو التعليق. تنبه لضـ.ـر.بة أحدهم على كتفه وهو يخبره كنوعٍ من المواساة:
-الحمدلله إنك مكونتش موجود، وإلا كنت رحت مع اللي راحوا.
التفت للجانب الآخر عنـ.ـد.ما خاطبه أحد الجيران:
-ده في ناس اتدفنت بالحيا هنا!
أضاف ثالث من ورائه:
-ده إنت ربنا كتبلك النجاة.
رويدًا رويدًا تدارك عقله ما حدث، وأدرك حقًا أن الدار التي كانت تأويه لم تعد موجودة، اختفت مع كل ما يخص عائلته وزوجته من متعلقات شخصية، وذكريات أسرية، كان "عوض" في هذا الموقف تحديدًا قليل الحيلة، لا يملك زمام نفسه، فما كان منه إلا أن ردد مستسلمًا للواقع المرير:
-لا حول ولا قوة إلا بالله!
هتف أحد المتواجدين من جديد:
-احمد ربنا إنك كنت برا.
استدار تجاهه متسائلًا في تخبطٍ عظيم:
-ده حصل إمتى وإزاي؟
رد عليه الرجل وهو يحك مقدmة رأسه:
-محدش عارف بالظبط، بس آ...
قبل أن يتم جملته قاطعه صوتًا صارمًا لأحد أفراد الشرطة ينهر به الجميع:
-يا جدعان ارجعوا لورا خلونا نشوف شغلنا.
تراجع مع من تراجع للخلف بعيدًا عما كان بيته ولسانه يردد بتحسرٍ موجوعٍ:
-لطفك يا رب، هتصرف إزاي دلوقتي؟
نظر إليه الجيران بتعاطفٍ وشفقة، وعلق عليه أحدهم:
-ليه حق الراجـ.ـل يكلم نفسه، كان زمانه مع الأموات!
.........................................
انقاد بلا وعي إلى خارج الزحام، وهو مشوش الذهن تمامًا، فاقدًا لقدرته على التفكير السليم، وكيف له أن يفعل وهو في وسط كارثة عظيمة لم تكن موضوعة في الحسبان؟! كانت "فردوس" لا تزال تنتظره عند البقعة التي تركها فيها، ضجرت من الوقوف بمفردها ومع ذلك لم تتجرأ لمخالفة أوامره، لمحته يجتاز الحاجز وهو باهت الملامح، مشتت النظرات، أقبلت عليه تسأله في قلقٍ:
-عرفت في إيه يا "عوض"؟
استجمع قدرًا من شتاته المبرر، ونظر إليها بعينين حزينتين للغاية، فسألته مرة أخرى بتوجسٍ أكبر:
-إيه اللي حصل؟
أجابها وهو بالكاد يحبس دmـ.ـو.عه:
-البيت راح.
بدا كلامه مبتورًا، منقوصًا، غير واضحٍ لها، لذا سألته مستفهمة:
-بيت إيه اللي راح؟!
سحب نفسًا عميقًا، وأجابها بصوتٍ مختنق:
-العمارة وقعت كلها.
انخلع قلبها بين ضلوعها، وسألته في صوت أخذ في الارتعاش:
-عمارة مين؟
أجابها بحسرة تملأ كامل وجهه، وهو يغالب دmـ.ـو.عه:
-العمارة اللي ساكنين فيها، غير الناس اللي مـ.ـا.توا وآ..
حينما أدركت الكارثة التي حلت بها صرخت لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي؟!!!
في التو استدارت ناظرة إلى التجمهر الموجود بالأمام وهي تكمل ولولتها المفجوعة:
-يادي الخراب المستعجل.
استوعبت الكارثة التي ألمت بها، فاندفعت بتهورٍ تجاه الحاجز؛ لكن "عوض" استوقفها بالإمساك بها من ذراعه ليسألها:
-استني رايحة فين؟
هتفت في قهرٍ، وهي تذرف الدmـ.ـو.ع بحرقةٍ من عينيها:
-حاجتي وعفشي، وهدومي.
قال لها بألمٍ:
-استعوضي ربنا.
انتشلت ذراعها من يده، وصاحت في صراخٍ مفطور:
-يعني إيه؟ كله راح كده في غمضة عين؟
حاول تهوين الأمر عليها، فعلق:
-قولي الحمد لله إن احنا بخير.
انفجرت تبكي بقهرٍ أشـ.ـد، وافترشت الرصيف بجسدها لتبدأ في النواح والولولة عاليًا:
-آه، يا و.جـ.ـع قلبي، أنا مش مكتوبلي أفرح وأتهنى أبدًا!!!
..................................................
مجددًا رفعت كوب الماء إلى فمها لترتشف ما به، فتبلل جوفها الجاف، قبل أن تخفضه لتنخرط في نوبة بكاءٍ جديدة مصحوبة بالندب والتحسر، بعدmا عادت إلى بيت أمها لتمكث فيه مؤقتًا. نظرت إليها والدتها بأسفٍ وحـ.ـز.ن، ففرحتها لم تدm كثيرًا، بل إنها تبخرت كالسراب، لتظل كعهدها تعيسة الحظ، ورفيقة أصيلة للغُلب والشقاء. جاءت "أفكار" لتفقدها، فلم تسلم من لسانها اللاذع الذي لم يترفق بها، زادت من شعورها بالإحباط والألم بقولها السليط:
-أنا مشوفتش واحدة فقر كده في حياتي أكتر منك.
من بين دmـ.ـو.عها الغزيرة تأملتها "فردوس" تعاتبها بشيء من اللوم:
-خلاص يا خالتي بقى، كفاية تعتيت في جتتي!
أيدتها "عقيلة" في كلامها قائلة بضيقٍ:
-سبيها في حالها ياختي، الحمدلله إنها بخير.
لم تبدُ مثلهما متعاطفة، حزينة، أو حتى الهم يملأ قلبها، كانت تفكر بالعقل، تحسب كل خطوة وفقًا المستجد من الأوضــاع، لهذا أبدت جمودًا غريبًا وهي تسأل:
-وهتعمل إيه بعد كده؟
أجابتها بتحيرٍ:
-الله أعلم.
لم تتحمل "فردوس" تأنيبها القاسي، وكأنها من تسببت في انهيار المبنى القديم، فنهضت من موضعها لتتجه إلى غرفة نومها القديمة، حتى تختلي بنفسها، بينما زمت "أفكار" شفتيها مغمغمة وهي تشيعها بنفس النظرات الجـ.ـا.مدة:
-ده جوزها يعتبر على باب الله، لا عنده أملاك ولا أبعدية.
ثم ركزت بصرها على شقيقتها وتابعت:
-هيدبروا حالهم إزاي؟ هيباتوا في الشارع بقية عمرهم.
لم تجد "عقيلة" ما ترد به عليها، فواصلت شقيقتها الكبرى استرسالها المزعج:
-ومـ.ـو.ت يا حمار عقبال ما الحكومة تديهم شقة.
يئست من لغوها الزائد، وقالت حاسمة رأيها:
-خلاص يا "أفكار"، هما هيفضلوا هنا معايا، البيت فاضي عليا.
تفاجأت بما قررته فجــأة، ودون ترتيب مسبق، لتظهر رفضها لاقتراحها النزق في صيغة متسائلة:
-وبـ.ـنتك "تهاني" لما ترجع؟ تلاقي راجـ.ـل غريب أعد معاكو؟
ردت مصححة لها:
-ده جوز أختها، مش حد غريب.
أصرت على رفضها قائلة:
-برضوه، ده البيت أد كده، وآ...
كانت موقنة أنها لن تسلم من احتجاجها ونقاشها، وإن استمرت طوال النهار، لهذا قاطعتها منهية الجدال في هذا الموضوع:
-ساعتها نبقى نتصرف.
كادت تنطق بشيء؛ لكنها أسكتتها:
-بس مش هاسيب "فردوس" تبات في الشارع ولا على الرصيف.
علقت عليها بتذمرٍ ساخط:
-والشملول جوزها فين؟ المفروض يدور على بديل.
بعد تنهيدة سريعة أجابت:
-أهوو بيعمل اللي عليه.
التفتت "عقيلة" برأسها نحو باب المنزل عنـ.ـد.ما سمعت الطرقات عليه، نهضت متجهة إليه لتفتحه، فوجدت "إجلال" عند عتبته، أردفت الأخيرة مرددة بأنفاسٍ لاهثة أكدت على لوعتها:
-سلام عليكم، إزيك يا خالتي؟ لا مؤاخذة إن كنت جيت من غير ميعاد، بس أنا أول ما عرفت بالخبر جيت جري أطمن على "دوسة".
رحبت بها قائلة:
-فيكي الخير يا بـ.ـنتي، خشي واسيها بكلمتين جوا.
كانت ممتنة لاستقبالها، وانطلقت في التو نحو الداخل، لتلازم صديقة الطفولة، وتشاركها في مصابها، طامعة أن تنجح في التهوين عليها.
................................................
منذ الصغر، أدرك الفارق والاختلاف بين الشقيقين؛ فالكبير متهور، ومندفع، لا يحسب الأمور جيدًا بعقله، يفعل ما يطرأ على باله بغير حسبانٍ، والصغير على النقيض، يمتلك من الذكاء والفطنة ما يجعله قادرًا على تسيد الآخرين وقيادتهم، لا يثير المتاعب، وإن وقع في المصائب وجد السبيل للخروج بلا أدنى خسارة، لهذا كان الابن المفضل لديه، مما زرع الغيرة والحقد في نفس ابنه البكري مع مرور الزمان. الأزمة الأخيرة أوضحت له ما ظن أنه غفل عنه، لهذا أراد إعادة توزيع الأدوار خاصة مع التطورات الجديدة. لجأ السيد "فؤاد" لمحاميه لتنفيذ ما فكر فيه في فترة تعافيه، وشرع الأخير في تحقيق مطالبه دون تأخيرٍ، وصار كل شيء مثلما رغب. استغرب "سامي" من استدعاء أبيه له في مكتبه وقت وصوله، سأله بعدmا استقر على المقعد المقابل له:
-خير يا باشا؟
في زهوٍ بائن في نبرته، وكذلك على تقاسيمه، جاوبه باسمًا بقدرٍ قليل:
-أخوك بلغني إنه جاب ولد.
غامت تعابيره للغاية، وهتف غير مصدقٍ ما سمع للتو:
-إيه؟
تابع والده حديثه إليه مهمهمًا:
-بقى لعيلة "الجندي" حفيد.
انزعج من الأريحية الواضحة على والده الأرستقراطي الصارم، فلو كان هو من تصرف برعونة، وتزوج بفتاة مجهولة الحسب والنسب، لربما عوقب بالطرد من جنته، وحُرم من نعيمه وترفه. أظهر "سامي" سخطه ونقمه عليه فقال:
-شايفك يا باشا مبسوط بالخير، يعني بالبساطة دي وافقت تدي لقب العيلة لحد ما نعرفش أصله من فصله؟!!!
حذره السيد "فؤاد" من التمادي في حديثه هاتفًا:
-خد بالك من كلامك يا "سامي"، اللي بتتكلم عنه ده ابن أخوك، من صلبه.
أصر على اعتراضه مدmدmًا بغلٍ يبرز في نظراته:
-بس يا باشا ..
بنفس اللهجة الشـ.ـديدة الحازمة أمره:
-مش عاوز أسمع كلمة زيادة في الموضوع ده، اتصل بيه بـ.ـاركله وخلاص!
على مضضٍ اضطر أن يعقب، وتعبيرات وجهه تعكس كراهيته:
-اللي تؤمر بيه.
استعد "سامي" لينهض من مكانه؛ لكن جلس مذهولًا عنـ.ـد.ما أضاف السيد "فؤاد":
-صحيح، المحامي جهزلك ورق الشركة الجديدة.
سأله في صدmة متزايدة، ونظراته تتسع ببهجة لا يمكن إنكارها:
-شركة جديدة؟
أكد له بغموض ضاعف من وتيرة الحماس لديه:
-أيوه.
كان من الأفضل أن يرسله بعيدًا، أن يلهيه بالأعمال فلا يجد وقتًا لتدبير المكائد لشقيقه. استطرد السيد "فؤاد" موضحًا بهدوءٍ:
-في فرع هنفتحه برا مصر، وإنت اللي هتديره، بحكم خبرتك هنا.
وكأنه قد نال مبتغاه، تهللت أساريره، وانعكست آثار الفرحة على محياه، فقال بابتسامة عريضة للغاية:
-إيه؟ معقولة؟ أنا يا باشا؟
تعمد السيد "فؤاد" تجاهل مظاهر السرور البائنة على ابنه، وقال بصرامته المعتادة، كنوعٍ من التحدي:
-وريني هتثبت نفسك إزاي!
وقتئذ هب واقفًا ليخبره بثقةٍ ملأت صدره، ويده تزرر طرفي سترته:
-اطمن يا باشا، أنا هخليك تفتخر بيا.
هز رأسه معقبًا:
-منتظر ده.
انصرف بعدها "سامي" وشعوره بالنشوة يغمره، حادث نفسه في تصميم متحمسٍ للغاية:
-أخيرًا رضا عني "فؤاد" باشا، ودي فرصتي عشان أقدر أوريه الفرق بيني وبين "مهاب"، وساعتها بس هيعرف إنه كان غلطان لما وثق فيه عني!
................................................
بدت وهي جالسة على طرف الفراش، ترتدي ثيابها تأهبًا لخروجها من المشفى، في حالة من الخنوع والاستسلام، امتدت يدها لتداعب برفقٍ حذر أنامل رضيعها النائم إلى جوارها، انتفضت واقفة مرة واحدة عنـ.ـد.ما فُتح الباب فجــأة، فوخزها جـ.ـر.حها الحي بقوة. تطلعت بنظرات قلقة، تظهر الخوف والتـ.ـو.تر، نحو "مهاب" الذي أطل منه باسمًا في غرور واثق، ابتلعت ريقًا غير موجود في جوفها، وسألته بنبرة مهتزة:
-قرارك إيه؟
تقدm ناحيتها بثباتٍ، وعيناه لا تحيدان عنها، مما أشعرها بالمزيد من الرهبة والارتياع، أحست بمدى ضآلتها أمام بطشـــه اللا محدود، خشيت أن يسحقها باختيارٍ صادm، فبادرت بإبداء استعدادًا تامًا لتنفيذ كل ما يأمرها به، حبست أنفاسها انتظارًا لكلمته الفاصلة، لم تطرف بعينيها وهي تنظر إليه، مــد يده ليحتضن طرف ذقنها، ارتجفت من لمسته التي لم تكن حميمية، أو دافئة، بل شعرت بها كلمسة قـ.ـا.تل يختبر أضعف نقطة في فريسته لـنحــرهــــا منها. حين تكلم شعرت بقلبها ينقبض:
-أنا فكرت ...
شعر "مهاب" برجفتها أسفل لمسته، فاستمتع بمدى تأثيره الطاغي عليها، ابتسم أكثر في انتشاءٍ، وأكمل:
-عشان ابني هردك.
وكأن الحياة قد عادت لتدب في روحها الكسيرة؛ لكن قبل أن تكتمل فرحتها هددها صراحةً، ويده قد أطبقت على فكها تعتصره:
-بس لو في يوم قصرتي في حقه، صدقيني مش بس هحرمك منه، هخليكي تنـ.ـد.مي على اليوم اللي عرفتيني فيه!
لم تترك "تهاني" لعقلها الفرصة للتفكير أو التحليل أو حتى مراجعة ما أقره، بل هتفت في الحال رغم الألم الذي انتشر في عظام فكها، مظهرة فروض الطاعة والولاء الكامل له:
-حاضر، أنا مستعدية أعمل أي حاجة عشان أفضل جمب ابني طول العمر.
غابت ملامح التهديد من على قسمـ.ـا.ته، رمقها بهذه النظرة المتلذذة بانتصاره، ليربت بعدئذ برفق على جانب وجنتها معقبًا في استحسانٍ:
-كده تعجبيني ..................
↚
(لا كرامة معه)
تحذيره المشروط بطردها من جنته الزائفة، وإقصائه عن فلذة كبدها إن أخطأت وعصت أوامره مهما كان كفيلًا بإخضاعها، و.جـ.ـعلها أكثر حرصًا على عدm إغضابه، وإن لم تكن راضية تمامًا عما يفعل. التزمت "تهاني" بكل شيء، وتخلت عن أحلامها في سبيل البقاء معه. تنهيدة عميقة خرجت من رئتيها، لتمنح بعدها رضيعها الذي تهدهده بلطفٍ ابتسامة صافية، النسمـ.ـا.ت الرقيقة في الشرفة وهي جالسة به جعلته يغفو بالتو، ضمته إلى صدرها، وانهالت على وجنته تقبله في عاطفة أمومية جياشة. همست له بالقرب من أذنه:
-عشانك أنا مستعدة أتحمل أي حاجة، المهم مـ.ـا.تبعدش عني.
رغمًا عنها طفرت دmعة متأثرة من طرفها، مسحتها بسبابتها، وواصلت القول:
-إنت أغلى ما في حياتي.
احتوته في أحضانها الدافئة، وأغمضت عينيها مستمتعة بهذه اللحظات الثمينة، سرعان ما تبدد ذلك الهناء النفسي، وانتفضت في قدرٍ من الفزع عنـ.ـد.ما جاءها صوته المنفر:
-"تهاني"!
استدارت برأسها ناحية مصدره دون أن تنهض، وردت في صوتٍ مطيع:
-أيوه.
رأت زوجها مقبلًا عليها، ومن خلفه بمسافة بسيطة لمحت واحدة غريبة، تجهل هويتها، تقف في وقفة رسمية، وترتدي ثياب الخادmة. قرأ "مهاب" تساؤلها المحير في عينيها دون أن تنبس بكلمة، ومع ذلك أمرها:
-سيبي "أوس" للمربية بتاعته وتعالي.
كررت كلمته باندهاشٍ متعجب:
-مربية!
أتى تبريره وقحًا ومهينًا في نفس الآن:
-أيوه، أومال مفكرة هخلي واحدة زيك جاية من الحواري تربيه؟ تفهمي إنتي إيه في أصول التربية!
ابتلعت مرارة الإهانة قسرًا، وقالت مدافعة عن نفسها بألمٍ محسوسٍ في نبرتها:
-أنا أمه يا "مهاب"، مافيش حد هيخاف عليه ولا يحميه من الهوا الطاير زيي.
رد عليها بتصميمٍ:
-واللي جايبها فاهمة شغلها كويس، وعارفة هتتعامل معاه إزاي.
عفويًا تشبثت "تهاني" برضيعها في خوفٍ غريزي، وكأنه تخشى فقدانه بانفصاله عنها، حاولت إقناعه بالعدول عن رأيه، فرجته:
-صدقني، أنا هعمل المستحيل عشان أخليه أحس حد في الدنيا.
وكأنها نكرة، لا أهمية لرأيها، رفع سبابته أمام وجهها ينذرها:
-أنا قولت إيه!!
اضطرت مرغمة، وبحرقة تستعر في صدرها، أن تخنع له وتستجيب لأمره، فارتجف صوتها وهي تخبره:
-حاضر، اللي إنت شايفه!
فرقع "مهاب" بإصبعيه للمربية لتتقدm للأمام، تجاوزته متجهة إلى الرضيع، أخذته قسرًا من والدته، والتفتت ناظرة إلى رب عملها الذي حادثها باللغة الإنجليزية مُلقيًا عليها تعليمـ.ـا.ته، فأظهرت طاعتها الكاملة وهي تبتسم.
............................................
اجتمعت هموم الدنيا وشقائها في ملامحه التعيسة، وكيف له ألا يحـ.ـز.ن وقد فقد المكان الذي يأويه في غمضة عين؟ حاول قدر استطاعته تـ.ـو.فير النفقات اللازمة لتأجير منزلًا مؤقتًا؛ لكنه كان مكبلًا بالديون، وهذا أثقل كاهليه بشـ.ـدة، خاصة مع إقامته غير المستحبة لدى حمـ.ـا.ته، لهذا أراد تلقي بعض المساعدة، فخطر بباله اللجوء لشقيقه، إذ ربما إن علم بُمصابه نجده في الحال. كما هو معتاد جلس "عوض" في انتظار دوره بالسنترال العمومي، الزحام كان متوسطًا، وحينما أخبره الموظف بالتوجه إلى كابينة الهاتف الخاصة بمكالمته، أسرع إليها، والتقط سماعة الهاتف مخاطبًا والدته، فشقيقه لم يكن متواجدًا، لهذا اضطر أن يخبرها عما حدث، فصاحت باستنكارٍ ضاعف من شعور الذنب لديه:
-أنا قولتلك من الأول إني مش راضية عن الجوازة دي، وإنت عاندت، وركبت دmاغك، وهي اتطربقت في الآخر علينا كلنا.
همَّ بالكلام؛ لكنها استمرت مسترسلة بغضبٍ:
-هتفهم امتى إنها نحس ووش فقر.
رد عليها بحذرٍ، وقد غامت تعابيره:
-يامه ده نصيب، الحمدلله إننا طلعنا منها بخير.
هدرت به عاليًا، حتى ظن أن من حوله سمعوا صوت صراخها:
-نصيب إيه بس؟ ده كل حاجة راحت، وبقينا على الحميد المجيد!
بالكاد استجمع خواطره، وقال بشيء من الخزي، مستصعبًا طلبه:
-طيب أنا دلوقتي عاوز قرشين وآ...
قاطعته قبل أن يتم جملته للنهاية بحسمٍ:
-منين يا حسرة؟ أخوك يدوب اللي جاي على أد اللي رايح!
علق بحلقه غصة مريرة، فخذلانها له كان مو.جـ.ـعًا، انتبه لصوتها مرة ثانية عنـ.ـد.ما طلبت منه:
-بقولك إيه، إنت تطلق البت دي، وأنا ساعتها هحاول أتصرف وابعتلك قرشين تيجي بيهم عندنا.
هتف بلا تفكيرٍ رافضًا اقتراحها:
-مش هعمل كده يامه.
صاحت في حنقٍ:
-أنا غلبت معاك، ومابقتش عارفة أخد معاك لا حق ولا باطل!
ضم شفتيه، وردد بعد لحظة من الصمت المو.جـ.ـع:
-كتر خيرك يامه.
اخترق صوتها الحاد أذنه وهي لا تزال تتكلم:
-بس خدها مني كلمة، طول ما إنت سايب الفقر دي في حياتك مش هتشوف يوم عدل.
بشيءٍ من عزة النفس والكرامة قال:
-ربنا وحده اللي بإيده يقرر مصايرنا.
زادت من ضغطها عليه بحديثها الختامي:
-إنت مابتسمعش إلا نفسك، اقفل، ومشاكلك حلها بنفسك!
لم تضف شيئًا آخرًا، انقطع الاتصــال وهو على نفس الحال البائس، بل يمكن القول أنه أصبح أكثر بؤسًا وشقاءً بعدmا أحبطته برفضها الصريح لتقديم يد العون له. خرج من السنترال يجرجر أقدامه وهو يُحادث نفسه:
-لطفك بيا يا رب! هعمل إيه؟!
غمره شعور المعـ.ـذ.ب العاجز الفاقد للحيلة والوسيلة، سار محني الرأس يتخبط في الطرقات والشوارع، وهو متحرج للغاية من العودة إلى منزل حمـ.ـا.ته، فبماذا يخبرها وقد وصلت الأمور لمداها الأخير؟
............................................
الانفصـــال عن وليدها كان عسيرًا، وغير يسيرٍ عليها، شعرت "تهاني" وكأن روحها تتمزق، وقلبها يتفتت، بالكاد حاولت الاعتياد على مُفارقته لتزاول عملها، تبدلت أحوالها كثيرًا، وصارت أكثر شهرة وتميزًا، كل الأبواب المغلقة فُتحت من أجلها، أصبحت تنتمي للطبقة الأعلى شأنًا، وبات يتم دعوتها للانخراط في أوساطٍ لم تكن لتظن أبدًا أنها ستصبح واحدة منهم، حتى مكان عملها تحول لشيء يليق بمكانتها الجديدة. في قرارة نفسها، كانت تتحرج من هذا الشعور الغريب الذي يناوشها من آن لآخر وتستنكره؛ بأنها راضية عن النقلة الكبيرة في حياتها، وإن كانت على حساب كرامتها؛ لكن سرعان ما جاهدت لتُسكت ذلك الصوت الداخلي المندد بهذا، لتقنع نفسها بأنها تفعل هذا مضطرة وإلا لعانت الأمرين وحُرمت من كل شيء.
..............................................
لم تبرح مكانها بغرفة نومها، بعدmا اختلت بشقيقتها لتحدثها فيما نوت فعله، حيث قررت الانتقال للحجرة الأصغر الخاصة بابـ.ـنتيها، وترك هذه لـ "فردوس" وزوجها للإقامة بها لاتساعها، ريثما يجدان مكانًا مناسبًا للعيش فيه، وإن لم يحدث لم تشعرهما بالحرج لمكوثهما الدائم معها، بل وزادت على ذلك باقتطاعِ جزءٍ من معاشها الشهري وإعطائه لابـ.ـنتها كمساعدة خفية في شراء ما ينقص. اعتبرت الأمر كتمهيد مسبق لتقبل الواقع المرير الذي فرض على الجميع ومحاولة التعايش معًا. رفضت "أفكار" ما اقترحته بشـ.ـدة، ونهرتها في استهجانٍ:
-ده اسمه جنان يا "عقيلة"!!
نظرت إليها مليًا، فأكملت تعنيفها لها:
-إنتي كده بتريحيهم، وبتقوليلهم خدوا كل حاجة على الطبطاب، إزاي تعملي كده؟
استغربت من تحيزها الغريب ضدها، ورغم هذا عللت لها دعمها غير المقيد بشروطٍ مظهرة تعاطفها معها:
-ما هي بـ.ـنتي، وظروفها صعبة، لازمًا أقف جمبها لحد ما حالهم يتظبط، والحكومة تعوضهم بشقة، ولا جوزها ربنا يكرمه ويلاقي مطرح تاني يعيشوا فيه.
بدت هجومية إلى حدٍ كبير وهي تخاطبها:
-دي مشكلته ويتصرف، ما أخوه خد أمه ومعيشها في الهنا برا، الناس بتحكي وتتحاكى على اللي عمله معاه، بس جه عند "عوض" وضاق به الحال، المفروض يقف جمبه ويساعده، ويشوف حل.
أطلقت "عقيلة" زفرة بطيئة، وقالت في صوتٍ مفعم بالأسى:
-ما احنا عارفين اللي فيها، أمه لا عمرها طاقت البت ولا هترضى بيها، احنا بنحاول نلم الدنيا على أد ما نقدر.
مصمصت شفتيها متمتمة:
-والله إنتي صعبانة عليا، محدش بالطيبة دي في الزمان ده!
في تلك الأثناء، استرقت "فردوس" السمع لما يدور بينهما، خاصة أن فضولها استحثها على ذلك، بعد تكرار لقاءاتهما بعيدًا عنها. في أعماقها كانت تشعر بأنها أهينت، اتهمت باطلًا بشيءٍ لم تتسبب فيه، أوغر ما سمعته صدرها، وملأوه بالحقد، لم تتحمل اتهامـ.ـا.تها المسيئة، ولا ظنونها الباطلة، فتحت الباب دون استئذان، واندفعت للداخل موجهة كلامها إليها بانفعالٍ:
-كفاية يا خالتي تملي ودان أمي ضدي، حـ.ـر.ام عليكي بقى!
تفاجأت "أفكار" من اقتحامها السافر، وعنفتها في غيظٍ:
-إنتي واقفة تتصنتي علينا؟
ردت موضحة بحدةٍ:
-لأ، بس صوتك مسمع لبرا يا خالتي، ولو اتكلمنا بحق الله "عوض" بيعمل اللي عليه، بس ده قضاء ربنا.
نظرت لها شزرًا قبل أن تسألها بسِحنة منقلبة:
-طب ما يكلم أخوه ياخدكم معاه، ليه رمي البلا ده على أمك؟
هتفت في حرقةٍ:
-يا خالتي أخوه مرضاش بيا ورماني، إنتي نسيتي الله حصل؟ وفي الآخر أنا رضيت بالهم ورضيت بحكمك عليا، ليه محسساني إني وحشة مع أمي؟ وكل اللي حصل كان قضاء ربنا!
كل ما فاهت به أوحى بإدانة ملموسة لخالتها؛ ولكنها تظاهرت بأنها لم تكن متورطة في الأمر برمته، وأشاحت بوجهها للجانب موجهة حديثها لشقيقتها فقط:
-لما تحبي تشوفيني ياختي ابقى عدي عليا، واهوو ناخد راحتنا في الكلام بدل ما الغُرب يسمعونا.
ثم زمت شفتيها مجددًا، وقالت وهي تغادر الغرفة:
-سلام.
لم توصلها لباب المنزل كما اعتادت أن تفعل، بل مكثت في مكانها تسأل والدتها بعينين تغرقان في الدmـ.ـو.ع الساخنة:
-هي بتعاملني كده ليه؟
اقتربت منها أمها، وربتت على كتفها في إشفاقٍ، مهونة عليها حـ.ـز.نها قليلًا، فاستأنفت "فردوس" حديثها المرير:
-ما هي السبب من الأول في الجوازة دي!!
علقت عليها بحذرٍ:
-مـ.ـا.تخديش على كلامها، هي خالتك كده بتحب تتفك بكلمتين، اسمعي من هنا، وطلعي من هنا.
انفجرت "فردوس" باكية بحرقةٍ، وراحت تشتكي وتنوح في تعاسةٍ جلية:
-أنا مش عارفة ليه حظي في الدنيا قليل كده؟
حينئذ أخذتها أمها إلى حـ.ـضـ.ـنها، تاركة إياها تبكي على كتفها، ظلت تربت على ظهرها، وواستها بالكلمـ.ـا.ت اللطيفة، ودَّت لو امتلكت مفاتيح السعادة، وقتها لما بخلت عليها بها.
...........................................
بعد مضي ما يزيد عن ستة أشهر، بذلت خلالها ما في وسعها ليل نهار لنيل رضائه، وإبداء فروض الطاعة الكاملة له، فاجأها حين أمرها بالسفر معه إلى ذلك المؤتمر الطبي، للغرابة لم تحضر فاعلياته مثلما توقعت! بل تركها وحيدة بالفندق حتى فرغ من التزامه، ثم اصطحبها إلى أرقى بيوت الأزياء والموضة، ليجري تغييرًا جذريًا في هيئتها الخارجية. اهتمت بها المتخصصات، و.جـ.ـعلن مظهرها يبدو مغايرًا تمامًا لما كانت عليه سابقًا، سيدة مجتمع رمن الطراز الأول، اندهشت "تهاني" لما قرره بشأنها، ورغم حيرتها إلا أنها أحبت الرفاهية المعروضة لها، وأرادت الاستمتاع بها على كل الوجوه، لحظتها توهمت أنه أدرك قيمتها، إذ ربما يحاول تعويضها عما عاشته معه، كانت حمقاء للدرجة التي جعلتها تصدق ذلك.
عادت إلى الفندق محملة بالحقائب المملوءة بالثياب والأحذية والحُلي الباهظة، تأملت ما صار ملكها مجددًا في عينين مبهورتين، وهي تكاد لا تصدق ما تخامره الآن من إحساس افتقدته بالنعيم والترف. تطلعت بتحيرٍ قلق إلى زوجها الجالس بعنجهية على الأريكة، واضعًا ساقه فوق الأخرى، وفي يده إحدى سجائره الغالية. في البداية ترددت في سؤاله عن الأسباب التي دفعته لفعل هذا، تغلبت على خوفها، وتساءلت:
-ليه ده كله؟ واشمعنى دلوقت؟
أجابها بغطرسةٍ وهو ينفث دخان سيجاره في الهواء:
-من النهاردة إنتي هتكوني واحدة تانية، تليق باسم عيلة "الجندي".
أصغت بعنايةٍ لما يخبرها به، خاصة حينما أضاف:
-واجهة مُشرفة، مش مجرد واحدة عادية والسلام.
راقها ذلك التغيير، واستحسنته، فقالت باسمة:
-حاضر، اللي إنت عاوزه هعمله.
كادت تمضي فرحتها للنهاية لولا أن كدر صفو هذه اللحظات بقراره الصادm:
-بالمناسبة، انسي خالص إنك كان ليكي عيلة ساكنة في حارة.
برقت عيناها ذهولًا وهو لا يزال يكمل:
-مش عايز أي صلة بيهم نهائي، هما مالهومش وجود في حياتك.
ما طلبه ليس بمسألة عادية تخص العمل، يمكن تـ.ـو.فيق أوضاعها عليها، الأمر أصعب بكثير، إنه متعلق بأفراد أسرتها، لوهلةٍ شردت مستعيدة لمحات سريعة وخاطفة من شريط حياتها، بما تضمنته من أحداثٍ سارة وأخرى مؤسفة، كان العامل المشترك فيها هو حب والدتها، ولهفة شقيقتها، أخرجها من سرحانها اللحظي صوته الآمر والمحفوف كذلك بكلمـ.ـا.ت التحذير:
-لو خالفتي أوامري هتنـ.ـد.مي نـ.ـد.م عمرك، سامعة؟
انتفضت مع صيحته الهادرة، وردت في طاعة:
-حاضر، في حاجة تانية؟
قال نافيًا:
-لأ.
استعدت للالتفاف، فاستوقفها بإنذاره القاسي:
-لو في أي تقصير مش هرحمك.
بلعت ريقها، وخـ.ـنـ.ـقت هذه الغصة التي برزت في حلقها بقولها المستسلم وهي تنظر إليه بحـ.ـز.نٍ:
-اطمن، أنا تحت أمرك.
صرفها بإشارة من يده، فأومأت برأسها بخفةٍ، وتحركت بخطواتِ شابها الخزي، يبدو أن أتعس لحظات حياتها ما زالت في الانتظار!
...........................................
قامت في رأسها عواصف الأفكار المحيرات حينما استلمت هذه الأوراق الرسمية أثناء تواجدها بمحل البقالة، لم تعرف فحواها، ورفضت قراءتها على مرأى ومسمع ممن حولها، فما أسرع ترويج الشائعات المغلوطة على حساب الأبرياء، ولإسكات الألسن المتطفلة ادعت أنها تخص مشكلة شقة الإيواء التابعة لابـ.ـنتها "فردوس"، فبدا الأمر مقنعًا للعوام. هرولت "عقيلة" عائدة إلى المنزل؛ لكنها عرجت على جارتها "إجلال"، دقت عليها الباب، ففتحت لها الأخيرة، ودعتها للدخول بعد تحيتها، ومع ذلك اعتذرت منها، لتطلب دون تفسيرٍ:
-اطلعيلي يا بـ.ـنتي شوية لو فاضية، عاوزاكي في حاجة مهمة.
اعتراها الفضول، فسألتها بحاجبين معقودين:
-خير يا خالتي؟
ردت بمزيدٍ من الغموض:
-فوق هت عـ.ـر.في.
ردت عليها وهي تشير بيدها للخلف:
-طيب هقول لأمي وأحصلك يا خالتي.
اكتفت بهز رأسها، وصعدت للأعلى، وقلبه يقفز بين ضلوعها خوفًا ورهبة. على أحر من الجمر انتظرت قدوم "إجلال" إليها، ما إن ولجت للداخل حتى أغلقت الباب خلفها، أمسكتها من معصمها، وجذبتها نحو الأريكة، أجلستها عليها والأخيرة في تحير واسترابة من تصرفاتها معها. بددت "عقيلة" الغموض السائد بقولها وهي تمد يدها بمغلفين مغلقين:
-في جوابات استلمتها من المُحضر وأنا عند البقال، وأنا مش عارفة فيها إيه، خدي شوفيهم.
تناولت الاثنين منها وهي ترد بانصياعٍ:
-عينيا.
فضَّت كل واحدٍ على حدا، وبدأت تقرأ بتعجلٍ، دون صوتٍ، ما كتب فيهما. تابعتها "عقيلة" بتـ.ـو.ترٍ مترقب، حينما طال سكوتها سألتها في شيءٍ من الارتباك:
-ها عرفتي فيهم إيه؟
تلبكت، وترددت، وظهر ذلك بوضوحٍ على قسمـ.ـا.تها ونظراتها؛ لكن لا مفر من معرفتها بالحقيقة، وإن كانت مؤلمة. بلعت "إجلال" ريقها، لتخبرها بتريثٍ، وهي تراقب ردة فعلها:
-ده واحد من المحكمة، وواحد من الكلية بتاعة "تهاني".
سألتها في لوعةٍ مشوبة بالإلحاح:
-مكتوب فيهم إيه؟ ما تقولي يا "إجلال"، بلاش تنهي قلبي معاكي.
رفعت المظروف الأول نصب عينيها، ثم أجابتها:
-بتاع الكلية فيه إنذار بالفصل!
لطـ.ـمـ.ـت "عقيلة" على صدرها منددة بما عرفته:
-يا لهوي! ليه كده بس؟
راحت تشرح لها ببساطة أن أسباب ذلك الإجراء الرسمي يعود لانقطاعها عن مواصلة دراستها في البعثة التعليمية دون توضيحٍ مبرر لهذا، كذلك تضمن إخطار المحكمة إلزامها برد كافة المصروفات والنفقات التي تم تخصيصها لها خلال مدة إقامتها بالخارج. واصلت "عقيلة" ندبها المصدوم لاطمة على فخذيها:
-يادي النصيبة اللي كانت لا على البال ولا على الخاطر!!
نظرت إليها "إجلال" بشيءٍ من التعاطف، بينما مُضيفتها تتساءل في ذهول مصدوم:
-طب هي عملت كده ليه؟
هزت كتفيها متمتمة:
-الله أعلم بظروفها يا خالتي.
أحست "عقيلة" وكأن مطرقة قاسية قد هوت على رأسها، فجعلتها في حالة من الخوار والهوان، بدت لحظتها وكأن محيطها غام وساد فيه التشوش والضباب. حاولت النهوض من موضع جلوسها، فلم تستطع، بصوت شبه لاهث خاطبت جارتها وهي تنظر إليها بعينين دامعتين:
-اسنديني يا بـ.ـنتي، مش قادرة أقف على حيلي!
عاونتها على القيام وهي تحاول التبرير لها بأي أعذارٍ، لعل وعسى تخفف بذلك من وطأة الصدmة عليها:
-أكيد في حاجة حصلت هناك خليتها تسيب ده كله.
انسكبت الدmـ.ـو.ع من مقلتيها وهي ترد عليها بأسئلة لا تجد أي إجابة مقنعة لها:
-طب وما رجعتش ليه؟ ده بيتها، وأنا أمها، دي...
تقطع صوتها لهنيهة قبل أن تحاول إتمام عبـ.ـارتها في حـ.ـز.نٍ متزايد:
-دي بقالها شهور من آخر مرة اتصلت بيا.
ارتجفت كليًا، كانت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار عصبيًا، معتقدة أن ابـ.ـنتها تعرضت لحادث مأساوي بشــــع، بدت غير قادرة على التماسك لمجرد تخيل ذلك، فاستنجدت بجارتها بصوتٍ واهن للغاية:
-أنا مش حاسة بنفسي، الحقيني يا "إجلال"!
ثم سقطت مغشيًا عليها، صرخت الأخيرة فزعًا لرؤيتها تفقد الوعي هكذا فجـأة:
-خــــالتي!
..............................................
الإمعان في التحقير من شأنها، وإذلالها في كل فرصة تتاح له، كان ممتعًا له بشكلٍ لا يوصف، وكأن في تهشيم كرامتها لذة مشوقة ترضي نزعة غير سوية بداخله، خاصة حينما تتلقى الثناء أو التكريم من أحدهم، وكأنه يريد إخبـ.ـارها بشكل مباشر ألا تنساق وراء ما تظن أنه المستقبل الباهر دون ضمان موافقته! امتثلت له رغم شعور الرفض السائد في وجدانها، ليس أمامها مهرب، عليها إسعاده وإلا حُرمت من سعادتها، كل ما كان يطلب منها ارتدائه، كانت تضعه على جسدها، فهناك ثيابٌ تُصيِّر الفتاة الوقورة كامرأة لعوب، وهذا ما أراده منها، أن تتألق في ثياب فتاة ليل عابثة، تُجيد اصطياد الرجـ.ـال، كنوعٍ من التسلية له، قبل أن يطفئ لهيب الرغبة المندلع فيه. ألقى "مهاب" نظرة طويلة متأنية على زوجته وهو جالس عاري الصدر، وباسترخاءٍ على جانبه من الفراش، أشار لها بإصبعه لتدور حول نفسها، فاستجابت، وراحت تلف ببطءٍ، متأكدة أن عيناه الثاقبتان تنفذان إلى كل قطرٍ فيها. حين انتهت من دورتها وجدته يبتسم في رضا، أبدى إعجابه بدلالها وعلق بما يشبه السخرية:
-شيك أوي يا دكتورة.
اغتاظت من إهانته المبطنة، وهسهست بعبوسٍ:
-إنت بتتريق؟
وسَّد يده خلف رأسه معقبًا بتملكٍ مستفز:
-طبعًا، عندك مانع؟
ضمت ذراعيها أمام صدرها، كأنما تخفي بهما مقومـ.ـا.تها عن نظراته الجريئة المُجردة لها، وسألته في نبرة خجلة:
-مطلوب مني إيه دلوقت؟
رفع حاجبه للأعلى قائلًا بغموضٍ:
-تبسطيني يا دكتورة، مش إنتي مراتي؟
بين جنبات نفسها رددت في استهزاء:
-ولازمتها إيه دكتورة وأنا بالشكل ده؟!!
تنبهت لصوته الذي ما زال يكلمها:
-شوفي هتخلي جوزك مرضي إزاي!
حدجته بهذه النظرة الساخطة، فمن أمامها ليس بامِرئ طبيعي، إنما شيطان جالس فوق أعناق ضحاياه، وهي للأسف إحداهن!
...............................................
من بعد الذي علمته، صار الوقت ثقيل المرور عليها وبطيء للغاية، فقدت "عقيلة" الشغف في كل شيء، ذبلت، وضعفت، ونال منها المرض، كل ما رجته فقط معرفة أي شيء عن ابـ.ـنتها الغائبة قبل أن ترحل عن هذا العالم الفاني، تعذر على "فردوس" الوصول إليها بعدmا انقطعت أخبـ.ـارها تمامًا، سعت جاهدة للوصول إليها، سألت عنها القاصي والداني؛ لكنها اختفت وكأنه لم يعد لها في هذه الدنيا وجود. ذاك النهار، وتحديدًا أوان الضحى، كانت ممسكة بقطعة من القماش البالي، تستعملها كخرقة للتنظيف، مسحت بها على طرف حذاء زوجها المغبر، قبل أن تناوله إياه وهي تشكو إليه شأن أمها:
-طول عمرها كده "تهاني"، جايبة الهم لأمي، عمرها مريحتها، لحد ما هتجيب أجلها.
هز رأسه في أسف، وطلب منها في نبرة راجية:
-هوني عليها وخليكي جمبها، ده يعتبر ابتلاء.
في سأمٍ ظاهر عليها ردت:
-أديني بعمل اللي عليا وزيادة.
شكرها "عوض" على تنظيفها لحذائه، فسألته بعدmا ارتداه:
-إنت رايح فين؟
أجابها وهو يسير تجاه الباب:
-هشوف في الحي وصلنا لإيه في موضوع الشقة ده.
-طيب.
قالت كلمتها هذه وهي تنحني لتحمل الدلو المملوء بالمياه استعدادًا للبدء في مهمة تنظيف أرجاء البيت. ألقت نظرة أخيرة على زوجها قبل أن يخرج ويغلق الباب خلفه، لتردد في سخطٍ:
-ما هو لو يجيلنا خبرها الكل هيرتاح!
.........................................
جرفها الحنين إلى أشياء افتقدتها كثيرًا، كسماع صوت والدتها، إلى رؤيتها، إلى التمتع بحـ.ـضـ.ـن طويل دافئ بوجودها، تنهدت، وخرجت التنهيدة محملة بأشواق ورغبات تعلم جيدًا أنها لن تتحقق. كبتت "تهاني" ما تشعر به في دواخلها، فإفساد ما تحاول بنائه بأمنية شبه مستحيلة كان مرفوضًا. حضرت بجسدها هذا التجمع الطبي؛ لكن ذهنها غاب عما يدور من حولها، لاذت بالصمت كليًا، واكتفت بتقليب صفحات الكتيبات التي أمامها بنظرات فاترة، لتظهر اهتمامًا زائفًا بما يُطرح للنقاش. لم تنتبه لوجود "ممدوح" رغم أنها كانت تنظر تجاهه، ومع ذلك بدت وكأنها لا تراه.
نهض الأخير من مقعده حينما لمحها بين الحاضرين، واتجه إليها بخطى واثقة بعدmا زرر طرفي سترته، أحست "تهاني" بشيء يظللها، فرفعت بصرها للأعلى لتجده أمامها، تفاجأت بوجوده، واعترتها ربكة مـ.ـو.ترة، خاصة أن ذلك هو لقائهما الأول بعد أشهر من الغياب الطويل، انطلق لسانها يسأله في شيءٍ من الإنكار:
-إنت بتعمل إيه هنا؟
أتى رده موجزًا ومباشرًا:
-جاتلي دعوة.
سألته في نفس اللهجة المستنكرة:
-هو إنت مش كنت مسافر؟ رجعت ليه؟
وضع يده في جيب سرواله، وقال:
-طبيعي أرجع بعد ما أخلص اللي ورايا، بس الأهم إني رجعت من تاني...
تعمد التوقف عن الكلام ليضمن إصغائها التام إليه وهو ينهي جملته بكلمة واحدة عنت الكثير:
-عشانك.
فزعت لاعترافه النزق، وتلفتت حولها في ذعرٍ، كأنما ترتاع من احتمالية سماع أحدهم لما فاه به، نالت منها رجفة أخرى جعلتها أكثر تـ.ـو.ترًا عنـ.ـد.ما استطرد يسألها بألفةٍ متزايدة:
-إنتي زعلانة مني في حاجة؟
ردت باقتضابٍ، وبوجهٍ ذي ملامح رسمية، لتقطع عليه سبل التودد إليها:
-لأ.
أعاد فتح سترته، وجلس دون استئذانٍ مجاورًا لها، لاح على قسمـ.ـا.تها تكشيرة عظيمة، ثم مال عليها متسائلًا بنبرة معاتبة، وهذه النظرة الماكرة تطل من عينيه:
-أومال بتتعاملي معايا كده ليه؟ ده أنا غايب عنك بقالي مدة، ويعتبر يعني أكتر حد خايف عليكي حقيقي من قلبه هنا!
صوته الدافئ، الحاني، والمهتم جعل الرعدات تنبجس في أعماقها، كانت متعطشة لهذا الشعور المفعم بالاهتمام والاحترام، قاومت التخبط الذي يداهمها حينما يُعاملها بهذه الحميمية اللذيذة، وحافظت على الحاجز الرسمي القائم بينهما، فخاطبته في نفس اللهجة الجادة:
-دكتور "ممدوح"، أنا واحدة متجوزة، وعاوزة أحافظ على حياتي مع ابني وجوزي، مش حابة يكون في مشاكل خالص.
بنفس الطريقة الملتوية، داعبها بكلمـ.ـا.ته، وهو يمد يده ليحتضن كفها:
-وأنا مش عايز غير إني أشوفك مبسوطة، والضحكة منورة وشك.
كانت كمن لامسه تيار كهربي، انتفضت مصعوقة، وسحبت يدها من أسفل لمسته الجريئة، لتنهره بعينين جاحظتين:
-إيه اللي إنت بتعمله ده؟!
ظل على هدوئه معها، فحذرته بتقاسيمٍ اكتسبت لونًا عدائيًا:
-مـ.ـا.تنساش نفسك!
أكدت له بترفعٍ يحمل في طياته التهديد:
-أنا ست متجوزة، وأظن جوزي مش هيقبل حد يتعدى على مـ.ـر.اته
رمقها بنظرة غير مريحة، قبل أن يأتيها تعليقه نزقًا، وصادmًا لها على كافة الأصعدة:
-"مهاب" عرف يخليكي إزاي تخضعيله، وتكوني تحت رجليه.
بهتت ملامحها، وأصبحت شبه شاحبة بعدmا فرت الدmاء من وجهها، ازدردت ريقها، وردت بجمودٍ:
-لو سمحت، مايخصكش اللي بيني وبين جوزي.
اعتلت زاوية فمه ابتسامة هازئة قبل أن يسألها بلؤمٍ:
-على كده إنتي عارفة هو فين دلوقت؟
رمشت بعينيها وهي تجاوبه:
-وراه عمليات، مش فاضي.
ضحك ساخرًا منها، ليردد بعدها بما أوقد نيران الحنق في صدرها:
-مكونتش متخيل إنك بالسذاجة دي...
برقت حدقتاها بغضبٍ، فاستغل الفرصة كحرباء متلونة ونجح في استثارة حفيظتها بقوله المسموم:
-بس هو من الأول اختارك عشان كده.
انقبض قلبها بقوةٍ، وسألته مستفهمة بتعبيرٍ واجم للغاية:
-قصدك إيه؟
أراح ظهره للخلف في مقعد، وقال بخبثٍ، قاصدًا بذلك إشعال فتيل الكراهية بينهما:
-أنا رأيي ترجعي بيتك أحسن وتشوفي بنفسك.
تخللتها موجات من الخوف الممزوج بالشك، فنهضت دون مقدmـ.ـا.ت من موضعها، لتنصرف بلا تبرير، قاصدة العودة إلى منزلها، آملة في نفسها أن يكون ما أخبرها به مجرد أكذوبة حمقاء، افتعلها ليثير غيرتها لا أكثر!
............................................
لم يصدر عنها أي صوت وهي تفتح باب البيت بحرصٍ شـ.ـديد لتلج إلى الداخل، كان البهو شبه معتم، خافت الإضاءة، أرهفت السمع، لا ضوضاء، قليل من الاطمئنان تسرب إليها، وراحت تخبر نفسها في استهجانٍ:
-أكيد قاصد يعمل كده عشان يضايقني.
تقدmت بتؤدةٍ، واتجهت إلى غرفة نومها، كان الباب مغلقًا، فانقبض قلبها بقوة، وتوجست خيفة من وقوع الأسوأ، تسللت ماشية حتى أصبحت أمام الكتلة الخشبية التي تخفي خلفها ما يدور بالداخل، ألصقت أذنها بها، وركزت كامل حواسها، انتفضت في هلع حينما اخترق أذنها هذه التأويهة الأنثوية المكتومة، أحست بشعور مماثل لطعنة غدر تنفذ في صدرها، ارتجفت يدها وهي تمسك بالمقبض لتديره، استجمعت شتات نفسها المتبعثرة، وفتحته لتتفاجأ بمشهد جعل عيناها تتسعان على آخرهما؛ المربية التي من المفترض أن ترعى رضيعها، وتنام بجواره، متواجدة هنا في غرفتها، بلا ثيابٍ تقريبًا، وتُطارح زوجها الغرام على فراشها، وأثر العشق الآثـــم يبدو جليًا عليهما.
ارتعدت كليًا، وانفلتت منها شهقة مذعورة وهي مذهولة بالكامل مما تبصره، شُل تفكيرها لحظيًا من هول الصدmة، وحينما استفاقت من جمودها، صرخت في استنكار غاضب للغاية:
-إيه اللي أنا شايفاه ده؟
لم يبدُ "مهاب" متفاجئًا من ظهورها، بل كان هادئًا، مسترخيًا، ومستمتعًا بما يجري، على عكسه ذُعرت المربية من حضورها، ونهضت عن الفراش باحثة في التو عما تستر به ما انكشف منها. اندفعت "تهاني" للأمام تجاهها، وواصلت صياحها المستهجن:
-على سريري! ومع دي؟!!
أمسكت بها من شعرها، وجذبتها منه في شراسة، لتقوم بلكزها في كتفها وفي أي موضع تطاله بقبضتها الأخرى. توقعت أن يتحرك زوجها من موضعه، يفض تشابكهما، يحاول الاعتذار أو إبداء النـ.ـد.م؛ لكنه لم يقم بشيء، ظل يطالعهما من موضعه باستمتاعٍ. حز في قلبها استهانته بخيانتها، وتعامله مع الموقف المشين بهذا الكم الهائل من الهدوء والبرود، أعاد "مهاب" ضبط ثيابه التحتية، وأمر المريبة باللغة الإنجليزية:
-اذهبي الآن.
رفضت "تهاني" تركها، وصرخت في عصبيةٍ جمة:
-مش هتمشي قبل ما أفضحها.
نظرت المربية بتـ.ـو.ترٍ قلق إليه، وهمست في صوت مرتعش، كأنما تستجديه لينقذها من هذه الفـ.ـضـ.ـيحة الوشيكة:
-سيدي.
خاطب المربية بنفس اللهجة الهادئة وهو ينهض من مكانه:
-لا تكترثي بها، ارحلي.
حينئذ حولت ناظريها عنه، واستخدmت قدرًا من القوة لتدفع زوجته وتتحرر منها، ثم ركضت هاربة من الغرفة وهي تحاول تغطي ما ظهر من مفاتنها. كانت "تهاني" على وشك اللحاق بها؛ لكن "مهاب" منعها بالإمساك بها من رسغها، أصابها اشمئزاز عارم من لمسته التي تلت هذه العلاقة الآثمة، نفضت يدها، وأكملت صراخها بنبرة جريحة:
-إنت اتجننت؟ إزاي تعمل كده، لأ وهنا؟
اشتدت قبضته عليها، واخشوشن صوته قليلًا حين حذرها:
-مـ.ـا.تنسيش نفسك.
تطلُعها إليه من هذا القرب، وبعد ما شهدته، جعلها تدرك مدى قبحه، وبذاءته اللا متناهية، حاولت الدفاع عن كرامة سحقت بقولها:
-أنا عارفة إنك بتخوني وتعرف عليا كتير، بس اللي عمره ما يجي في بالي إنك تعمل ده هنا!
حدجته بهذه النظرة الاحتقارية النافرة وهي تزيد من هجومها اللفظي عليه:
-إيه القــــرف ده؟!
كان دنيئًا معها في رده المستفز:
-أنا أعمل اللي عاوزه في الوقت اللي يعجبني...
ثم دفعها بخشونة تجاه باب الغرفة وهو يكمل بقسوةٍ:
-ولو مش عاجبك، الباب مفتوح!
كادت تُطرح على وجهها من أثر الدفعة العنيفة؛ لكنها حافظت على اتزانها، والتفتت ناحيته تصرخ في حرقة، ودmـ.ـو.عها تنسال بغزارة:
-بتخوني هنا، وعلى سريري!
مرر يده أعلى رأسه، وقال متباهيًا بما ارتبك ليزيد من تحطيمها ذاتيًا:
-لأ يا دكتورة، في أي حتة تيجي على بالي، فاهمة!
لم تجد ما ترد به عليه، وإن وجدت حتى لن تستطيع النطق بشيء، فأمثاله من الحقراء لا يستحقون سوى المــــوت. ابتسم "مهاب" في انتشاء لإخضاعها بغير مجهود، تقدm ناحيتها على مهلٍ ليخاطبها بعدها:
-أيوه، خليكي كده حلوة.
سددت له نظرة نارية قاتـــلة، لتوليه ظهرها تأهبًا لمغادرتها، تسمرت قدmاها قبل أن تخطو حين سألها:
-رايحة فين؟
أبقت على نظراتها المقهورة بعيدًا عن وجهه، وأجابت بإيجازٍ:
-لابني.
ارتعش ظهرها، وأحست بوخزاتٍ حادة تتفشى فيه، عنـ.ـد.ما شعرت بيده توضع عليه، دار حولها لينظر عليها قائلًا بخبث:
-هو نايم، تعالي كملي اللي بوظتيه.
استنفرت، وتصلبت أكثر حين التفت يده حول عنقها ليتحسس بأصابعه جلده الناعم، تأففت، وأصابها الغثيان من لمسته، توسلته بصوت مبحوحٍ:
-سيبني دلوقتي.
شعرت بأظافره تخمش جلدها وهو يسألها:
-إيه مش عاجبك؟
كم كانت حمقاء وهي تظن أنها قادرة على تحمل هذا الجحيم المملوء بكل صنوف الإهانة والإذلال! وهو حقًا لا يكل ولا يكف عن تدmيرها. أطبق بيده على عنقها، فتحشرجت أنفاسها، ونظرت إليه بذعرٍ، كرر عليها سؤاله، فأجابته بصوتٍ متقطع:
-أنا .. بس .. عاوزة أغير هدومي الأول.
دفعها معه للداخل وهو يقول باسمًا بشيطانية:
-أنا عاوزك كده، وهنا .. في الحتة دي.
وأشار تجاه الفراش .. بالطبع لم يكن بحاجة لأدنى محايلة لإقناعها بتسليمها جسدها ليعيث فيه كيفما شاء بالطريقة التي ترضيه وتستهويه، وفي نفس البقعة الملوثة بعشق غيرها، كل ما استطاعت فعله هو حبس أنفاسها، الإطباق على جفنيها، الدعاء سرًا بانتهاء هذه اللحظات القاسية، بين جنبات نفسها ظلت تردد بلا صوت:
-حــــيوان ......................................... !!
↚
(وضاع العمر هباءً)
جلست على طرف الفراش حينما انتهت من ارتداء قميصها المنزلي، شـ.ـدته للأسفل لتضبطه على جسدها، وراحت تزرر فتحة الصدر، قبل أن تمد يدها وتمسك بمنديل رأسها لتلفه حول شعرها الذي ما زال رطبًا من استحمامها. حانت من "فردوس" نظرة جانبية نحو زوجها المستلقي على الجانب الآخر من السرير، ويوليها ظهره مستغرقًا في نومه. لم يكن ما يجمعهما معًا هو الحب، إنما الظروف العصيبة التي فرضت على كليهما، ورغم مُضي ما يزيد عن خمس سنوات على زواجهما إلا أنها لم تنجذب إليه بشـ.ـدةٍ مثلما أوهمها الجميع، كان ما بينهما روتينيًا، فاترًا، يميل لقضاء الواجب عنه للشغف والوله.
حادثت نفسها في سقمٍ، وتكشيرة كبيرة تجتاح وجهها:
-خليك كده نايم يا "عوض"، ده اللي بقيت باخده منك، تيجي تنام، وطول الوقت برا!
حتى حلمها بالحمل، والإنجاب كان متعذرًا، فكيف يحدث ذلك وقلما يحظيان بليلة حميمية عاصفة تندلع فيها شرارات الرغبة والهيام؟!
تركت خواطرها المؤرقات جانبًا، ونهضت بتكاسلٍ عن الفراش، ثم سارت بخطواتٍ خفيفة حذرة نحو باب الغرفة، ألقت نظرة أخيرة على زوجها، قبل أن تخرج من الحجرة، لتوارب الباب خلفها. واصلت مشيها الحثيث تجاه الغرفة الصغرى الماكثة بها والدتها، كانت الأخيرة تنام على جنبها، لا تتحرك، فمنذ الأخبـ.ـار المشؤومة التي تلقتها بشأن فصل ابـ.ـنتها البكرية من عملها، وانقطاع كامل أخبـ.ـارها عنها أصابها الإعياء والمرض. زهدت الحياة، وأصبحت متعلقة بأملٍ واحد فقط، ربما لن يتحقق؛ لكنها تشبثت به، ألا وهو رؤية الابنة الغائبة!
تأملتها من عند عتبة الباب، وجهها أصبح تعيسًا، ذابلًا، زاره المرض كضيف مقيم لا عابر، وحفر آثاره عليه، حز في قلبها رؤيتها تنزوي يومًا بعد يوم بسبب أوهامها الواهية، حتى الكلام انقطعت عنه، وبات من النادر سماع صوتها. مرة ثانية زفرت "فردوس" الهواء الثقيل من رئتيها قبل أن تتقدm تجاهها لتتفقدها، انحنت عليها لتقبلها من رأسها، ابتسمت لرؤيتها يقظة، وخاطبتها في صوتٍ خفيض:
-عاملة إيه النهاردة يامه؟
ابتسمت "عقيلة" بسمة باهتة، فارتضت بها ابـ.ـنتها، ثم مسحت بيدها على وجنتها في رفقٍ، وأكملت سؤالها لها وهي تسحب الغطاء عليها لتغطيها:
-محتاجة حاجة أجيبهالك؟
هزت "عقيلة" رأسها بالنفي، فربتت على كتفها في مودةٍ، قبل أن تستقيم واقفة لتنظر بصدmة مذهولة إلى صينية الطعام المتروكة على الطاولة الملاصقة لفراشها القديم، استنكرت عزوفها عن تناوله، وصاحت في ضيقٍ:
-الله! ده الأكل زي ما هو من ليلة إمبـ.ـارح!!
مجددًا نظرت إلى والدتها تستعتبها بقولها:
-طب ليه كده بس؟
اغتاظت من تصرفها الضار بصحتها، وقامت بتأنيبها لفظيًا في حدة:
-وربنا حـ.ـر.ام اللي بتعمليه في نفسك!
اقتربت منها، ورأت كيف تجمعت الدmـ.ـو.ع في عينيها إيذانًا بالبدء في نوبة بكاءٍ صامتة، مما استفزها، و.جـ.ـعلها تزيد من وتيرة غضبها عليها بترديدها:
-ليه تعــــذبي روحك بالشكل ده؟
ذرفت "عقيلة" العبرات الساخنة، فكزت "فردوس" على أسنانها محتجة على ما تقوم به، فابـ.ـنتها لا تستحق ذلك التعاطف، وهي الأكثر جحودًا على الإطـ.ـلا.ق. جلست على طرف الفراش ملاصقة لها قبل أن تهتف في صيحة استهجانٍ:
-فكرك يعني هي هتحس بيكي وترجع لما ما ترضيش تاكلي وتعيطي عليها؟
ثم ضـ.ـر.بت بكفيها معًا وهي تضيف:
-هي خلاص يامه .. شافت حياتها ونسيتنا.
ابتلعت "فردوس" غصة مريرة، واستمرت تقول:
-طول عمرها كده، متمردة على حياتنا، مش عجباها...
انخفضت نبرتها إلى حدٍ ما قائلة بسخطٍ:
-ومين يرضى بعيشة الفقر والغلب؟!!
رمقتها بنظرة مقهورة قبل أن ترجوها بيأسٍ:
-نفسي تحسي بيا وتقدري اللي بعمله عشانك.
بكت "فردوس" هي الأخرى تأثرًا بما جال في نفسها خلال هذه اللحظات الحساسة، وراحت تدmدm:
-خمس سنين يامه بعمل كل حاجة عشان ترجعي زي الأول.
مسحت بظهر كفها ما انسال على وجهها من دmعٍ، وأكملت بنفس الشجن:
-لا اشتكيت من فقر، ولا فتحت بؤي بكلمة، نفسي تكلمي تاني..
توسلتها باستعطافٍ يفطر نياط القلوب:
-يامه .. إنتي آخر حد فاضلي في الدنيا، من بعد ما خالتي مـ.ـا.تت، مش عايزة أخسرك إنتي كمان، عشان خاطري كفاية زعل وحـ.ـز.ن على ناس ما تستاهلش!
نهضت بعدئذ من على الفراش، وحملت الصينية، ثم قدmتها لها قائلة:
-كُلي حاجة وريحيني.
نبذت "عقيلة" الصينية بيدها، وأبعدتها عنها، ليتضاعف الحنق في نفس ابـ.ـنتها. بالكاد تمالكت أعصابها وهسهست:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب أعمل إيه بس عشان ترضي؟
ما كان من والدتها إلا أن أولتها ظهرها، وتجاهلتها، ليملأ روحها المزيد من الحقد والغيظ، تحركت "فردوس" مغادرة الغرفة وهي تقول في حرقةٍ:
-منك لله يا "تهاني"، هتجيبي أجل أمك حتى وإنتي بعيدة!
...............................................
لم تنجح كتلة مساحيق التجميل التي لطخت بها تقاطيع وجهها في إخفاء الحـ.ـز.ن العميق والراسخ فيها، حتى عيناها كانتا مكسوتان بحمرة ملتهبة جراء بكائها الذي لا ينقطع. بدت "تهاني" وهي جالسة في المطعم بصحبة "ممدوح" واجمة للغاية، شاردة في أغلب الأحيان، انتظرت اللحظة التي ترك لها العنان لتفرغ مكنونات صدرها، فانطلقت في شكواها كعادتها خلال لقائها المنتظم به، حينما يغادر زوجها البلاد، ويذهب لواحدٍ من مؤتمـ.ـر.اته الطبية الهامة ويغيب لعدة أيامٍ.
في البداية كان جالسًا في مواجهتها؛ لكنه مع الوقت انتقل ليجاورها، لتشعر به قريبًا منها. اختنق صوتها بشـ.ـدة للدرجة التي خرج بها متقطعًا وهي تعترف له:
-خلاص مابقتش قادرة.
نظر لها بتعاطفٍ ماكر، ومد يده ليمسك بكفها المفرود على سطح الطاولة، لم تمانع مسكته، واستمرت في استرسالها:
-أنا بمـ.ـو.ت في اليوم ألف مرة، وهو ولا فارق معاه، بيعمل كل حاجة مُقـــرفة عشان يقهــرني.
شعر بتشنج أصابعها على كفه وهي تضيف بصعوبةٍ:
-خيـــانة، وشُرب، وحاجات مـ.ـا.تخطرش على البال.
فاضت الدmـ.ـو.ع من عينيها، ولم تكترث برؤية من حولها لها وهي تبكي، تطلعت إليه بعجزٍ قبل أن ترد في شرودٍ مغلف بالنـ.ـد.م الكامل:
-يا ريتني قولت لأ من الأول، يا ريتني.
بيده الأخرى احتضن "ممدوح" نفس كفها، بث إليها الدفء، وتوسلها بنبرته الحنون المدسوس بها سم الأفعى:
-اهدي يا "تهاني"، ماينفعش اللي بتعمليه ده، الناس هتاخد بالها.
ردت عليه بمرارةٍ:
-يا ريت حد ياخد باله، على الأقل كنت اترحمت.
شعرت بيده تشتد على راحتها، ورأت نظراته تحتويها، ليخبرها مؤكدًا بلؤمٍ:
-أنا هنا .. موجود جمبك.
سكتت بعدها للحظاتٍ، قبل أن تسحب يدها معتذرة منه:
-أنا أسفة يا "ممدوح"، شغلتك معايا زي تملي، بس ماليش غيرك هنا.
تخليها عن الألقاب الرسمية بينهما جاء بعد توطيد صداقتهما السرية، والتي دامت لفترة ممتدة إلى الآن. راقبها الأخير وهي تبعد يدها في تـ.ـو.ترٍ معقبًا بهدوءٍ:
-متقوليش كده، بجد هزعل، لو إنتي بس تسمحيلي آ...
كانت تعرف ما يريد قوله قبل أن ينطق به؛ التدخل لإنهاء هذه الزيجة بأقل الخسائر مثلما كان يخبرها، فقاطعته في التو:
-أرجوك، أنا مش عاوزاه يعرف إني وصلت للحالة دي، ما هيصدق يزيد أكثر، كفاية إني لاقية حد بفضفض معاه بدل ما أتخنـــق وأمـــوت.
عاتبها بنظرته الرقيقة وهو يفوه بجزعٍ:
-بعد الشر، خسارة الجمال ده يتدmـــر كده.
استخدmت "تهاني" منديلها القماشي لتمسح بخفة ما بلل وجنتيها، وقالت بعد أخذها لنفسٍ عميق:
-أنا مستحملة ده كله عشان ابني، بس مسيره يكبر ويعرف أنا عملت إيه عشانه.
تصنع الابتسام حين علق:
-أكيد طبعًا...
مجددًا تجرأ واحتضن يدها ليوصيها باهتمامٍ زائد:
-المهم عندي دلوقتي تهدي، وتريحي أعصابك.
بادلته الابتسام الخافت وهي تقول بعد تنهيدة بطيئة، تاركة إياه يداعب أصابعها:
-هحاول.
.........................................
فرغت لتوها من توزيع ما قامت بخبزه من فطائر صغيرة بمساعدة جارتها المقربة، على الفقراء والمعدmين، أثناء تواجدهما بمنطقة المقابر. طوت "فردوس" الكيس البلاستيكي الخالي، ووضعته في آخر تحمل فيه أشيائها الصغيرة، كان النهار حارًا، ونسمـ.ـا.ت الهواء شبه معدومة، فراح العرق يتصبب من جسدها بغزارة، لذا استخدmت كم عباءتها لتمسح به حبات العرق المتجمعة عند جبينها، أدارت رأسها قليلًا نحو "إجلال" عنـ.ـد.ما خاطبتها باستحسانٍ:
-القُرص المرادي مخبوزة حلو.
أخبرتها بلا ابتسامٍ:
-عشان حطينا فيها سمنة بلدي.
ظلت جارتها على أسلوبها الودي وهي تتكلم إليها:
-عادة مـ.ـا.تتقطعش يا حبيبتي، وربنا يجعلها بثوابه.
نظرة مهمومة ألقتها الأخيرة على شاهد القبر الذي يضمن بداخله رفات خالتها الراحلة، وكذلك من سبقوها، قبل أن ترد بصوتٍ بائس:
-كله عشان خاطر أمي.
لاحت على ثغر جارتها بسمة راضية حين أضافت:
-مالناش بركة إلا هي.
بدأت "فردوس" بالسير عبر الطرقات الضيقة لتخرج من هذه المنطقة، شردت في وجوم متذكرة كيف تغذى الحـ.ـز.ن على صحة والدتها، ونهل من عافيتها، فتركها كالأشبـــاح، بالكاد تصارع للبقاء على قيد الحياة. غص صدرها بالبكاء لهذه الأفكار والخواطر المؤلمة، وراحت تشكو لها في صوتٍ يفيض بالأسى:
-نفسي تسيبها من الهم اللي قضى عليها، والتفكير في "تهاني"، ده اللي راح ما بيرجعش.
لم توافقها الرأي، وحادثتها بصوتٍ مال للجدية:
-غـ.ـصـ.ـب عنها، هي أم، والضنا غالي.
ردت عليها بشيء من النقم:
-ده لما يكون يستاهل.
تفهمت موقفها المعادي، وحاولت إظهار بعض التقدير لها بقولها:
-معلش يا "دوسة"، هوني على نفسك، الكل عارف إنتي بتعملي إيه عشان خاطرك الست "عقيلة".
لوت فمها متمتمة:
-ربنا موجود.
وصلت كلتاهما بعد برهة من السير إلى حيث يتواجد موقف الحافلات المزدحم، لم يكن من السهل إيجاد مقاعد شاغرة وسط مئات البشر المتصارعين للحاق بأول حافلة تصل. لتقضي على طول فترة الانتظار، اقترحت فجأة "إجلال" بنزقٍ، وقد ظهرت رنة من الحماس في صوتها:
-بقولك إيه، مفكرتيش تشتغلي يا "دوسة"؟
انعكست الدهشة على ملامح وجهها، وردت باستغراب مشوبٍ بالتعجب:
-إيه؟ أشتغل؟!
أكدت لها حُسن اقتراحها بإيماءة من رأسها لتستحثها على القبول به:
-أيوه، أهوو تجيبي قرش زيادة يساعدك في البيت.
رفضت بعد صمتٍ لحظي، وكأنها قد قامت بعمل تقييم سريع لأوضاعها:
-لأ، "عوض" مش هيرضى، ده غير إني مقدرش أسيب أمي لواحدها وهي في الحالة دي.
لم تستسلم أو تيأس، بل كررت عليها بقدرٍ بسيط من الإلحاح:
-عمومًا فكري، مش هتخسري حاجة.
ضجرت "فردوس" من عدm جدوى انتظارهما، فأشارت بيدها نحو الأمام وهي تخاطب جارتها:
-ربنا يسهل، خلينا نمشي من هنا، ونركب من على أول الشارع.
أيدتها في الرأي، وتبعتها قائلة:
-يكون أحسن برضوه، أهوو بدل وقفتنا اللي مالهاش لازمة.
.....................................
بلطافةٍ مصحوبة بالحذر قامت المربية الأجنبية الجديدة بمسح فم الصغير ذي الخمسة أعوام، عقب انتهائه من تناول الحساء الساخن في غرفته، كانت مسئولة عن رعـايته في غياب والديه، مهام وظيفتها لم تكن مقتصرة على ذلك فقط، بل كُلفت بأمور أخرى كانت تتلهف لها عن أي شيء آخر. ابتسمت له بكل محبة وألفة، ثم أمسكت بعدئذ بصحن الخضار، ووضعته أمامه وهي تطلب منه في صوت رقيق لكنه آمر باللغة الإنجليزية:
-ملاكي، تناول ذلك أيضًا.
عبس الصغير "أوس" بملامحه رافضًا الاقتراب منه، فأصرت عليه بنفس الصوت الحنون:
-إنه شهي.
رفض تناوله بعنادٍ، وقبل أن تضغط عليه انتبهت لصوت أحدهم وهو ينادي:
-حبيبي!
نهض الصغير من موضعه فور أن رأه حاضرًا، واتجه إلى أبيه ليتلقفه الأخير في أحضانه، وينهال عليه بقبلات أبوية دافئة؛ لكن نظرات "مهاب" تعلقت بالمربية الرشيقة التي لمعت عيناها برغبة وانتشاء. نكست الأخيرة رأسها في ارتباكٍ مصطنع، وتمتمت بنعومةٍ:
-عودًا حميدًا سيدي.
اكتفى بهز رأسه، وأبعد ابنه عنه ليخاطبه في جدية:
-عاوزك تسمع الكلام ومـ.ـا.تعملش شقاوة، إنت راجـ.ـل، والراجـ.ـل لازم يبقى أد كلمته، اتفقنا؟
أظهر طاعته له بتحريك رأسه إيجابًا، فبدا "مهاب" مسرورًا لذلك، وتركه منصرفًا من الغرفة، لتهتف المربية وهي تشير بإصبعها للصغير في تلبك مريب:
-لا تتحرك من مكانك، انتظرني هنا، سأعود سريعًا.
لحقت بـ "مهاب"، وسألته في اهتمام متزايد:
-سيدي، أتريد شيئًا؟
رمقها بهذه النظرة الماجنة التي تفهم مغزاها جيدًا، قبل أن يجاوبها بعبـ.ـارة موحية كانت مدركة تمامًا لما ورائها:
-نعم، لا تتأخري.
اتسعت ابتسامتها اللاهية، وأخبرته:
-حسنًا، سأترك الصغير مع ألعابه ليلهو، وسأحضر في الحال.
أولاها ظهره، وغمغم بخفوت نازعًا عنه سترته:
-وماله!
.............................................
منذ عودته إلى المنزل وهذا التعبير المريب يكسو كامل ملامحه، بالإضافة لالتزامه بالصمت الطويل، راقبت "فردوس" زوجها بنظرات غريبة متشككة، ودفعة من الأسئلة المحيرة تتدفق في رأسها، لم ترغب في شغل بالها بأمره، فاقتربت منه في جلسته المنعزلة بالشرفة، وسألته بعدmا أعدت له كوبًا من الشاي الساخن:
-مالك يا "عوض"؟ من ساعة ما رجعت من برا، وإنت ساكت وواخدلك جمب!!
جاورته في جلسته، وسألته بإلحاحٍ أكبر:
-حصل حاجة؟
لم يجب بشيء، فواصلت ضغطها عليه:
-عرفت خبر عن أهلك طيب؟
تنهد مطولًا قبل أن يجيبها بإيجازٍ مزيحًا ذلك الثقل الجاثم على نفسه:
-لأ.
زوت ما بين حاجبيها متسائلة في تصميمٍ:
-أومال في إيه؟
استمرت في محاصرته بنبرتها المُلحة، وهي تركز كامل بصرها عليه:
-اتكلم يا راجـ.ـل، مش هتحايل عليك!
نظر لها بعجزٍ، ليتكلم في صوتٍ مُثقل بالهموم:
-استغنوا عن خدmـ.ـا.تي في الشغل يا "فردوس"!
في البداية لم تستوعب حقيقة طرده من عمله، فقد أصابت الصدmة المفاجأة تفكيرها بالجمود، فاستفهمت منه بقلقٍ راح ينتشر في تقاسيمها:
-يعني إيه الكلام ده؟
أجابها في صراحة صادmة:
-يعني مابقوش عايزين واحد زيي يخلص ورق الحكومة، وبقيت على باب الله!
جحظت عيناها في ذهولٍ قبل أن تلطم على صدرها منددة بالكارثة التي حطت على رأس عائلتها المنكوبة:
-يا نصيبتي!
ردد في قلة حيلة:
-لله الأمر من قبل ومن بعد.
سألته في تحسرٍ، وقلبها يدق في فزعٍ:
-طب وهتعمل إيه؟
بنفس النظرة العاجزة أخبرها وهو يهز كتفيه:
-لسه مش عارف.
ظلت "فردوس" تنوح وتولول، ويداها تضـ.ـر.بان على فخذيها:
-أهي مصـ يـ بـةلا كانت على البال ولا على الخاطر.
تبادلت مع زوجها نظرات أكثر قلقًا وخوفًا، ولسانها يردد:
-يعني هناكل منين؟ وهنعيش إزاي؟
حاول طمأنتها بكلمـ.ـا.ته المواسية:
-سبيها على الله، ربنا مابينساش حد.
نظرت له شزرًا، وكأنها غير مقتنعة بعدm مبالاته، واستهانته بالأمر، هل يظن أن أبواب العمل متاحة لمن مثله من محدودي الشهادات والخبرات؟ بالكاد إن وجد واحدة مماثلة فستقيم الأفراح؛ لكنها كانت شبه متيقنة أنه لن يتمكن من الحصول على واحدة بسهولة أبدًا. انقلبت سحنتها على الأخيرة، وأخذت تقول في نقمٍ:
-ونعم بالله، بس احنا ورانا هم ما يتلم، بيت مفتوح، ومصاريف أد كده، ده غير علاج أمي...
وكأن عاصفة من الهم اجتاحتها، فراحت تزيد في تعداد المصائب بإضافتها:
-ده لواحده بالشيء الفلاني، ولا مديونية البقال والجزار، وآ...
قاطعها "عوض" مشيرًا بيده، وبصوته الهادئ:
-أنا هتصرف، وأرض الله واسعة!
اشتاطت غيظًا مما اعتبره برودًا، ونهضت من جواره لتواصل ندبها البائس:
-كل الناس خيبتها السبت والأحد، وأنا خيبتي ما وردت على حد!!!
.....................................................
كان بحاجةٍ للذهاب إلى الحمام، وتلبية نداء الطبيعة، حاول قدر المستطاع تمالك نفسه؛ لكنه ضجر من الانتظار غير المجدى بداخل غرفته، فنفخ في مللٍ، وناداها لأكثر من مرة:
-ناني .. ناني!
لم يجد منها أي استجابة، لذا تأهب للخروج من غرفته للبحث عنها بداخل المطبخ معتقدًا أنها منهمكة في إعداد وجبة غذائية صحية له. توقف في منتصف الطريق عنـ.ـد.ما سمع هذه الأنات الغريبة تأتي من جهة غرفة والده. وقتئذ نال منه التردد، وخشي من الذهاب إلى هناك، جمده الخوف في مكانه، وأرهف السمع محاولًا تبين ماهية ما يصدر. سرعان ما غالب فضوله الطفولي رهبته المؤقتة، واستحثه على التحرك.
سار الصغير "أوس" على مهلٍ، واقترب من غرفته، لم يكن الباب مغلقًا بشكلٍ تام، بل كانت هناك فُرجة صغيرة، تسمح بانبعاث الضوء من الداخل، والمصحوب بخيالات غريبة لأطياف غير محددة المعالم تنعكس كالظلال على الأرضية اللامعة. ركز الصغير بصره على هذه الانعكاسات المتحركة بإمعانٍ مشوبٍ بالحيرة، توهم أنها تخيلات مجسدة لأشباح مخيفة، ربما قد تطارده إن رأته واقفًا هكذا كالصنم. عقله لم يفهم بعد طبيعة ما يدور، ورغم ذلك لم يشعر بالارتياح، ولم تكن كذلك لديه الرغبة لاكتشاف حقيقتها لهذا انسحب على الفور دون أن يصدر صوتًا، محاولًا نسيان ما قد يسبب له الأحلام والكوابيس المفزعة ليلًا حين ينام بمفرده.
.................................................
حينما عادت من الخارج، مكثت في غرفة صغيرها تستمع بإنصات لما فعله خلال يومه، استمتعت "تهاني" بنعيم أحضانه، وبحلاوة قبلاته البريئة. كاد كل شيء يسير على ما يرام لولا أن حكى لها في عفوية تامة ما شاهده مصادفةً على مقربة من غرفة والده، وعن اختفاء المربية الأجنبية لمدة استطالها قبل أن تعود إليه بشكل غير مرتب. آنئذ احمر وجهها فجأة، وأحست بانفجارات تحدث داخلها، حيث تفقه ذهنها لما جرى في غيابها مجددًا من أفعال مشينة. ظهرت على قسمـ.ـا.تها علامـ.ـا.ت الاستنكار، والحنق، والاستهجان العظيم، استحقرت فعلته الدنيئة والمتكررة، والأسوأ من ذلك أنها تحدث على مرأى ومسمع من طفلها البريء.
مدفوعة بغضبها المستعر، انطلقت "تهاني" تجاه غرفة مكتبه، والمتواجد بها حاليًا، اقتحمتها دون استئذان وهاجمته باندفاعٍ متعصبٍ:
-إنت إزاي يجي في بالك تعمل القــــذارة دي هنا؟ لأ وقصاد ابنك كمان!!!
نظر لها "مهاب" باستعلاءٍ وبكل برود، وكأن تشنجها الواضح أمامه لا يهمه أو يعنيه. تابعت زوجته هجومها المليء بالإدانة وهي تدنو من مكتبه:
-إيه مش خايف يشوف نجــــاستك ويعرف حقيقتك بدري بدري؟
عنـ.ـد.ما تمادت في إهانته بهذا الشكل الفج، لم يتحمل "مهاب"، فانتفض واقفًا، وهدر بها بغضبٍ جم:
-إنتي نسيتي نفسك؟!!!
ردت عليه "تهاني" بشيء من الكرامة وعزة النفس، وهذه النظرة المزدرية تطل من عينيها إليه:
-لأ عارفة كويس أنا مين وأصلي إيه...
ثم لوت ثغرها في نفور وهي تستكمل بنفس الوجه المشمئز:
-الدور والباقي على الدكتور المحترم اللي ما بقاش عارف يفرق بين الصح والغلط، واللي المفروض يتعمل وما يتعملش في بيته وقصاد ابنه!!
هذه المرة كانت المشاحنة حامية والصدام بينهما عنيفًا، لم يتوقع "مهاب" أن تتحداه هكذا، بل ويتطاول عليه لسانها بهذا الشكل السافر، فما كان منه إلا أن قال بلا نـ.ـد.مٍ، وبما جعل قلبها ينخلع في موضعه:
-إنتي طــالق!
صدmها ما فاه به، وحملقت فيه بعينين متسعتين بشـ.ـدة، فأكمل بصوتٍ أقرب للصياح المهدد بعدmا تأكد من تأثير قساوة قراره النزق عليها:
-اطلعي برا بيتي، وابني مش هتشوفيه تاني.
لم يمهلها الفرصة لاستيعاب ما جرى في التو، كانت مذهولة كليًا من التطور المخيف الذي دار بينهما في لمح البصر. بنوعٍ من العنف والخشونة، اتجه "مهاب" إليها ليقبض على ذراعها، دفعها منه دفعًا إلى الخارج وهو ينعتها بكلمـ.ـا.ت نابية يندى لها الجبين، غير مكترثٍ بالجلبة أو الفـ.ـضـ.ـيحة الحادثة أمام الخدm الذين تابعوا ما يدور بين الزوجين باندهاشٍ ممزوج بالتحير.
وقف الصغير "أوس" يتأمل المعاملة المهينة التي تتلقاها والدته من قبل أبيه بذهولٍ مرتاع. النظرة المذعورة التي انتفضت في حدقتيه، وأمسكت بها عيني والدته، في هذه اللحظات العصيبة، جعلتها تتراجع عن حدتها، وتتبدل للنقيض كليًا، وكأنها تداركت في التو فداحة غضبها الأهوج. ثقلت خطواتها، وقاومت دفع زوجها له لتتوسله في صوتٍ مال للاختناق:
-لأ يا "مهاب"، مـ.ـا.تعملش معايا كده!
بلا تهاونٍ خاطبها، وقبضته تشتد على عضدها:
-أنا حذرتك، وإنتي عصيتي أوامري
انحنت جاثية على ركبتيها، وتعلقت بكلتا ذراعيها في ساقه تستجديه بحرقةٍ:
-كانت لحظة طيش، أرجوك ارحمني، وبلاش تحرمني من ابني.
غروره الممزوج بنزعة التجبر المستحوذة عليه جعله أشـ.ـد تصميمًا على تأديبها بقســــاوةٍ، أمسك بها من شعوره، وجرها منه في صورة مهينة ومذلة، حتى شعرت مع سحبه الشـــرس أنه على وشك اقــ,تــلاعه من جذوره. وجد الصغير "أوس" نفسه عاجزًا عن منع ما تلاقيه من تعنيف مخيف، نظر مثل البقية في رعـ.ـب مراقبًا طردها من الجنة الزائفة لأبيه.
ألقاها "مهاب" ككيس قمامة مقزز خارج بيته، قبل أن يصفق الباب في وجهها، متجاهلًا الطرقات المتلاحقة عليه في شكل جنوني من كلتا قبضتيها، ثم التفت ناظرًا إلى الخدm محذرًا إياهم باللغة الإنجليزية:
-غير مسموحٍ بدخولها مطلقًا، أفهمتم؟!!
لم يعلقوا بشيءٍ سوى بإبداء إيماءة طائعة لأمره الصارم، ليقوم بعدها برفع بصره تجاه ابنه، وأمره هو الآخر بغير تساهلٍ:
-روح على أوضتك يا "أوس"!
نادى الصغير والدته في صوت أقرب للبكاء:
-ماما، أنا عاوزها!
أنذره بغلظةٍ وهو يشير إليه بسبابته:
-اسمع الكلام وارجع أوضتك ومـ.ـا.تخرجش منها!
عصاه في عنادٍ طفولي، وظل ينادي باسمها، فاضطر لتوجيه أمره للمربية:
-اذهبي به إلى غرفته!
في الحال استجابت له، وهرولت نحو الصغير لتحمله إلى غرفته وسط تذمـ.ـر.اته الغاضبة وركلاته القاسية من قدmيه لجسدها، لعل وعسى ينجح في الإفلات منها.
لم تتوقف "تهاني" عن الطرق والصراخ ببكاء حارق ليفتح لها الباب ويردها إلى عصمته، نـ.ـد.مت أشـ.ـد النـ.ـد.م لتسرعها الأرعن، آه لو صمتت، وصبرت، وكبتت في نفسها ما عرفته، لما آلت بها الأمور إلى هذه النهاية المأساوية المحطمة لها؛ امرأة مطلقة، مطرودة في الشارع، ومحرومة من صغيرها!
تجاهلها "مهاب" تمامًا، وأرسل للأمن ليقوم بطردها وإبعادها من محيط مسكنه، فقد أصر هذه المرة على ألا يكون متساهلًا في شأنها، وصمم بعدائية متصاعدة على أن يحيل ما ظنت أنها حياتها الهانئة إلى جحيم مستعر، لتتعلم الدرس جيدًا، فمحاسبته على سلوكياته؛ وإن كانت غير سوية، ليست بشيءٍ يُغتفر ............................................ !!!
↚
(طوق الأشواك)
بعدmا هاتفته لتلتقي به بصورة عاجلة في هذا المكان العام، وتحديدًا ذلك المطعم الراقي، جلست متحفزة، متلفة الأعصاب، لم تخجل، ولم تكف عن ذرف الدmـ.ـو.ع علنًا وهي تسرد لـ "ممدوح" بإيجازٍ ما حدث من مشادة كلامية تطورت إلى تطليقها وطردها بشكلٍ مهين من بيتها، ليترتب على ذلك حرمانها من صغيرها الوحيد. ارتفع صوت نواحها ليلفت أكثر الأنظار إليهما وهي تتوسله بحرقةٍ:
-اتصرف يا "ممدوح"، أرجوك أعمل حاجة.
نظر حوله بتوجسٍ، قبل أن يطلب منها بصوتٍ جاد؛ لكنه مهتم:
-طب اهدي بس، الناس بتتفرج علينا.
صرخت "تهاني" في تحفزٍ، وقد بدت منهارة الأعصاب تمامًا:
-متقوليش أهدى أو أسكت، مش فارق معايا حد هنا خالص، المهم عندي ابني...
انسالت دmـ.ـو.عها أكثر، وراحت تتابع بصعوبةٍ، وبصوتٍ شبه متقطع:
-"مهاب" استحالة يردني تاني، أنا ممكن أروح فيها لو اتحرمت من "أوس".
تطلع إليها مدعيًا إشفاقه عليها؛ لكنه كان متوقعًا مثل تلك النهاية في يومٍ ما، أصغى إليها حين استمرت تستفيض بألمٍ متعاظم:
-أنا استحملت فوق طاقة البشر حاجات كتير عشان ابني يفضل في حـ.ـضـ.ـني.
بالطبع كان يصل إليه ما يدور بين الزوجين أثناء لقائه برفيقه حينما يتشاركان المجون مع الفتيات العابثات، فكان "مهاب" يتفاخر بأفعاله غير السوية معها وتبـ.ـاريه في تهشيم روحها، وبعثرة كرامتها بطرق مختلفة، وكأن في ذلك تميزًا فريدًا؛ لكنه جعله يتمنى في نفسه أن يتمكن من اصطياد هذه الغنيمة ليُريها الفارق بينهما في منح طقوس الحب الجامحة. أخفى حقده، وغيرته، وما يحمله من تفكير سيء وراء هذا القناع الهادئ، ليسحب من جيب سترته الأمامي منديله القماشي، ثم مده به يده تجاهها، وخاطبها في شيءٍ من الثقة:
-متقلقيش، أنا ليا لي طريقتي معاه.
تناولت منه المنديل، وكفكفت به عبراتها المنسكبة وهي تسأله:
-هتعمل إيه؟
لجوئها إليه، وقلة حيلتها، تعزز بداخله القليل من القوة، فاستغل الفرصة، ورد باسمًا بغرورٍ محسوس في نبرته:
-كل خير...
ثم ادعى الاهتمام المبالغ فيه بشأنها عنـ.ـد.ما لاحقها بجملته التالية:
-المهم قوليلي دلوقتي هتباتي فين؟ عاوز أطمن عليكي.
تنفست بعمقٍ، وطردت الهواء من رئتيها دفعة واحدة، لتجيبه بعدها:
-أنا كلمت واحدة زميلتي هبات عندها كام يوم لحد ما أشوف هتسرى الأمور على إيه.
اقترح عليها بخبثٍ:
-لو ينفع أسيبلك شقتي تباتي فيها، وآ...
رفضت مقترحه بشكلٍ قاطع:
-لأ طبعًا، إنت بتقول إيه؟ استحالة أوافق بده.
برر لها مقصده بنفس الابتسامة الليئمة التي يخفي خلفها شيطانه الماجن:
-أنا حابب أشوفك بخير، ومش متبهدلة.
وضعت "تهاني" يدها على قلبها، مستشعرة نبضاته الموجوعة، وأخذت تدعو في عجزٍ:
-منك لله يا "مهاب"، هتعمل فيا أكتر من كده إيه؟
تجرأ "ممدوح" ووضع راحة كفه على ظهرها ليمسد عليه في رفقٍ، قبل أن يكرر طلبه عليها:
-من فضلك اهدي، أنا وعدتك إني هتصرف.
لم تبدُ منتبهة بقدرٍ كافٍ لتمانع ما يفعله، بل رجته باستجداءٍ أكبر:
-عشان خاطري روحله واتكلم معاه.
هز رأسه قائلًا بتأكيد:
-حاضر.. مـ.ـا.تشليش هم ...
ثم سحب ذراعه ليمسك بكأس العصير الموضوع أمامها، وأصر عليها وهو يبتسم ابتسامة صغيرة:
-اشربي بس العصير ده وروقي دmك.
....................................................
صارت الأيام متشابهة عليه، لا جديد فيها، ولا مكان متاح له ليعمل فيه، يئس من ضيق ذات اليد، ومن انعدام مصادر الدخل، نضب ما في جيبه، ولم يعد لديه ما ينفق به على بيته. سار متخاذل الأقدام، بالكاد يحبس دmـ.ـو.عه، إلى أن بلغ منطقته الشعبية، رفع "عوض" بصره للأعلى فوجد المسجد أمامه، التجأ إليه، فخلع نعليه، وولج إلى الداخل قاصدًا الوضوء أولًا ليتطهر، كان محيط المسجد خاليًا، لا يتواجد به أحد، فمشى ببطءٍ إلى أحد الأركان، وافترش الأرضية جالسًا على ركبتيه، ورافعًا كفيه للسماء. انهمرت عبراته بتتابع وهو يشكو إلى المولى ما أصبحت عليه أحواله:
-يا رب كل أبواب الدنيا اتقفلت في وشي، ومافيش غير بابك اللي دايمًا مفتوح ليا.
نكس رأسه في خزي قبل أن يدفن وجهه بين راحتيه متابعًا شكواه:
-أنا مبقتش عارف أعمل إيه.
استمرت عيناه تبكيان، وقلبه يتألم وهو لا يزال يبوح بما يطبق على صدره:
-محدش راضي يشغلني، وأنا قليل الحيلة، مابفهمش في حاجات كتير.
عاد ليرفع وجهه للأعلى مناديًا في رجاءٍ وتضرع:
-يــــا رب أنا ماليش غيرك، وإنت الكريم الوهاب..
استفاض في مناجاته قائلًا:
-انظر لي بعين الرأفة يا رحمن، واكرمني بفضلك يا مُنعم!
ثم صمت عن الكلام وظل يسبح بحمد ربه، إلى أن جاء من خلفه شيخ الجامع، رجل خمسيني العمر، نحيف، له لحية رمادية اللون، ووجه هادئ الملامح. جلس أمام "عوض"، ووضع يده في حنو على كتفه متسائلًا بوجه بشوش وباسم:
-مالك؟ مهموم ليه؟
تصنع الابتسام وهو يرد بعد تنهيدة طويلة مليئة بالأسى:
-الحمدلله يا شيخ "عبد الستار"، أنا راضي بنصيبي، وباللي ربنا قسمه ليا.
ألح عليه في تصميم:
-قول ما تكسفش.
أطلق العنان لما عبأ صدره من همومٍ وأثقال، ولم يقاطعه الشيخ، تركه حتى فرغ تمامًا، ليخبره متبسمًا، وكأنه يأتيه بالبشارة الطيبة:
-طب أنا عندي ليك حل، بس مش عارف إن كان هيعجبك ولا لأ.
خفق قلبه وهو يسأله في لهفة ظاهرة على نظراته:
-خير يا شيخنا؟
ظل محافظًا على بسمته الهادئة وهو يوضح بهدوءٍ:
-احنا دايمًا متعودين نعمل ليالي محمدية وإحياء للذكر في أماكن كتير، وبنحتاج حد يساعدنا في نقل الحاجة وتوزيع الطلبات.
تحير فيما يريده منه، وقرأ الشيخ هذه الحيرة في عينيه، لذا سأله مباشرة:
-فإيه رأيك تبقى معانا؟
وكأن دعوته الصادقة قد استجيبت من فوق سبع سماوات، فهتف متسائلًا في غير تصديقٍ بعدmا انفرجت أساريره:
-إنت بتتكلم جد يا شيخنا؟
أكد عليه بإيماءة إيجابية من رأسه:
-طبعًا، هي شغلانة بسيطة، بس باب رزق يجيلك منه أي حاجة.
تهلل على الأخير، وبدا مرحبًا للغاية بهذه الوظيفة المتواضعة عنـ.ـد.ما قال:
-طالما بالحلال فأنا راضي.
ثم رفع بصره وكفيه للسماء شاكرًا رب العزة على فيض نعمه:
-اللهم لك الحمد والشكر يا رب، ياما إنت كريم يا رب.
استحسن الشيخ ما يُظهره من رضا، وربت على كتفه في محبةٍ، فأسرع "عوض" بإمساك يده يريد تقبيلها وهو يقول في امتنانٍ:
-إيدك يا شيخنا.
سحبها في التو معاتبًا إياه بنظرة صغيرة:
-استغفر الله، احنا كلنا عبيد إحسانه جل وعلا.
وكأن روحه الملتاعة والمعـ.ـذ.بة قد وجدت راحتها أخيرًا بعد أيام من الشقاء والحـ.ـز.ن، لم يتوقف "عوض" عن ترديد عبـ.ـارات الشكر والتضرع للمولى حتى خرج من المسجد، يريدُ أن يطلع زوجته على الأنباء السارة.
..........................................
دون ميعادٍ مسبق، التقى به في غرفة مكتبه بمسكنه، ليشاركه تناول المشروب، ويدعي كذلك تباهيه بما اعتبره إنجازًا جديدًا في تطور علاقته بـ "تهاني". ملأ "ممدوح" كأسه بالمزيد من هذا النوع الفاخر من الخمر، ووضع مكعبات الثلج فيه، ليحمله مع الآخر الذي أعده لرفيقه ممتدحًا تصرفه وهو يقترب من الأريكة ليجاوره في جلسته المسترخية:
-إنت جبـ.ـار يا "مهاب"، حقيقي ماشوفتش في حياتي حد زيك.
وضع الأخير ساقه فوق الأخرى بتفاخرٍ، وعقب بإيجازٍ، وهذه النظرة المغترة تلمع في حدقتيه:
-ولسه!
تجرع قدرًا كبيرًا من الخمر، بلعه دفعة واحدة، وواصل الكلام:
-واحدة غيرها كان زمانها خلصت على نفسها عشان تترحم منك ومن اللي بتعمله فيها.
ضحك في زهوٍ، فأكمل "ممدوح" على نفس النهج المادح:
-دايمًا بتبهرني بأسلوبك.
أشار له "مهاب" بكأسه الذي يقبض عليه بيده، وقال:
-اتعلم من الأستاذ.
كان "ممدوح" على وشك النطق بشيءٍ، لكن الطرقة الصغيرة على الباب جعلته يتوقف، وينظر إلى حيث أطلت المربية الأجنبية، أومأت برأسها في خفةٍ، وأبدت اعتذارها اللبق قائلة:
-عذرًا للمقاطعة سيدي...
سمح لها "مهاب" بالكلام، فأوضحت بقليلٍ من الضيق:
-لكن "أوس" يرفض تناول طعامه، ولا يكف عن مناداة والدته.
التفت "ممدوح" برأسه لينظر إلى رفيقه متفرسًا بتدقيق في ملامحه، رأى كيف غامت تعبيراته، وكساها الوجوم، أخفض "مهاب" كأسه الفارغ وأمرها:
-استدعيه إلى هنا.
ردت في طاعة قبل أن تغادر مسرعة لتحضره:
-كما تأمر سيدي.
في نوعٍ من الفضول تساءل "ممدوح" بخبثٍ:
-هتعمل معاه إيه؟
قبل أن يفكر في إجابته اقترح عليه دون تفكيرٍ:
-أنا من رأيي تألف أي حكاية تضحك بيه عليها وتريح دmاغك، ما إنت مش هتخلص من زن العيال.
لم يعلق عليه "مهاب" بكلمة، فاستمر يضيف بنزقٍ:
-أو الأحسن إنك تبعته مدرسة داخلي.
نظر له رفيقه بجمودٍ قبل أن يحذره بصوت غير متساهل:
-موضوعه مايخصكش.
استشعر تحفزه من صوته، فتراجع ضاحكًا ضحكة مكشوفة، ليعلل بعدها بسخافةٍ:
-أنا بفكر معاك بصوت عالي.
تحول بناظريه تجاه الباب عنـ.ـد.ما اقتحم الصغير "أوس" الغرفة ركضًا، توقف أمام أبيه متسائلًا دون تمهيدٍ:
-فين ماما؟
اعتدل "مهاب" في جلسته المسترخية، وأنزل ساقه لينظر إليه من مستواه قبل أن يضع قبضتيه على كتفيه مُجيبًا إياه:
-مسافرة.
في عنادٍ طفولي رفض تصديق كذبته هاتفًا بصوت منفعل:
-لأ أنا عاوزها، خليها ترجع.
عامله بهدوءٍ تام، وقال:
-بعدين يا "أوس"، أنا عاوزك تسمع الكلام وتاكل.
رفض الإصغاء إليه كليًا، أو حتى الاقتناع بما فاه به، وركل بقدmه الأرض في عصبية، مواصلًا الصراخ:
-لأ، إنت مشيتها من هنا، أنا عاوزها.
ضجر "ممدوح" مما اعتبره تدللًا زجًا، وصاح فيه بصوتٍ أجش:
-كفاية صداع يا ابني، هي مش راجعة تاني، حط ده في دmاغك.
حينئذ تحولت نظرات "أوس" إليه وحدجه بكراهيةٍ صريحة، قبل أن يتدخل والده لينهره عن التدخل فيما لا يعنيه، وخاصة شأنه مع ابنه بقوله الصارم:
-"ممدوح"! مـ.ـا.تدخلش!
تلبك من إحراجه بهذا الشكل السافر، وأمام من؟ ابنه الذي لا يتجاوز طوله منتصف خصره، رسم ابتسامة متكلفة على ثغره مرددًا بتبريرٍ:
-أنا حبيت أساعد.
كرر عليه رفيقه بتصميمٍ شـ.ـديد اللهجة:
-دي حاجة تخصني مع ابني!
نهض من جواره بوجه منقلب، وهتف بعبوسٍ مصحوب بنظرة نارية مسلطة على "أوس" تحديدًا:
-اللي تشوفه.
النظرة الجادة في عيني "مهاب"، مع نبرته الهادئة، كانتا وسيلته لإقناع صغيره بالتخلي عن عناده الطفولي، فاستطرد على مهلٍ:
-بص يا حبيبي، يومين وماما هترجع تاني، بس عشانها غلطت وزعلت بابا جـ.ـا.مد، فاحنا مخاصمينها كام يوم، فما ينفعش إنت كمان تزعلني! عاوزك تسمع الكلام وتاكل، وأنا بنفسي هجيبها لحد عندك، اتفقنا؟
بعد لحظة من الصمت المترقب، اكتفى "أوس" بهز رأسه بالموافقة، فاستحسن والده ردة فعله، وقال في مدحٍ:
-برافو عليك.
أخذه إلى حـ.ـضـ.ـنه، وهمس له بشيءٍ في أذنه، لم يتمكن "ممدوح" من سماعه أو تفسيره بوضوح، ليخاطب بعدها "مهاب" المربية بلهجته الآمرة:
-انتبهي إليه جيدًا.
ردت باسمة:
-سمعًا وطاعة.
ثم ضمت الصغير من كتفيه، واصطحبته إلى الخارج، ونظرات "ممدوح" عليهما حتى غابا عن المشهد، ليقهقه هازئًا وهو يعيد ملء كأسه بالخمر:
-حتى ابنك عرفت تضحك عليه!
تأمله "مهاب" مليًا، وبنظرة غامضة، قبل أن يرد عليه:
-ومين قالك كده؟
توقف قبل أن يرفع الكأس إلى فمه متسائلًا في ذهول مندهش:
-معقولة هترجع "تهاني" تاني؟
ومضت فكرة جهنمية في رأسه، وأبت أن تبـ.ـارح عقله بسهولة، كل ما فكر فيه لحظتها هو تطبيقها، لهذا أجابه مؤكدًا باسترخاء واضح عليه:
-أيوه.
رغم أن سنوات الصداقة بينهما ممتدة، إلا أنه لم يستطع سبر أغوار ما يدور في رأسه بسهولة، تحرك "ممدوح" صوبه مرددًا في استغراب حائر:
-إنت غريب بجد، وأنا مابقتش فاهمك بصراحة.
ترك حيرته تأكله، فاغتاظ من تجاهله المستفز، وسأله في تبرمٍ وهو يعاود الجلوس على الأريكة:
-لما إنت هتردها تاني ليه من الأساس طلقتها؟
بدا "مهاب" لحظتها وكأن نظراته شردت بعيدًا، متذكرًا الشجاعة التي كانت عليها في مواجهته، ليقول بعدها:
-بربيها، أو تقدر تقول بكـ.ـسر مناخيرها، وأذلها أكتر.
ظل رفيقه يتابعه بعينين تعكسان تعجبه من موقفه، و"مهاب" لا يزال يتكلم:
-مش عاوزها في يوم تشوف نفسها عليا.
علق عليه "ممدوح" مشيرًا بيده:
-إنت بكده بتعقدها في حياتها!
نظر تجاهه، واستطرد ساخرًا بكلمـ.ـا.ت مبطنة، كان متأكد أن مغزاها وصل إليه كاملًا:
-كفاية الدلع اللي شايفاه على إيدي.
تصنع الضحك، وأخبره غامزًا بعينه:
-وإنت سيد مين يدلع .. بالكربـــــاج!
ضغط على كلمته الأخيرة ليشير إلى ســـــاديته، ووحــشيـته في التعامل مع زوجته وإهانتها دومًا. ابتسم "مهاب" في فخرٍ، ورد:
-بالظبط.
دون كلامٍ عرض "ممدوح" على رفيقه إعادة ملء كأسه بالمشروب، فوافق، وأعطاه له، نهض للمرة الثالثة ليعبئ الكأس مستطردًا في مكرٍ:
-بقولك إيه؟ أنا محتاج قرشين كده أمشي بيهم أموري.
وسَّد "مهاب" ذراعه خلف رأسه ليستريح عليه، وسأله مستفهمًا:
-ناوي على صيدة جديدة؟
التف ناظرًا إليه وهو يؤكد له شكوكه:
-يعني حاجة زي كده، والفلوس اللي معايا خلصت.
وقتئذ قام "مهاب" واقفًا، واتجه إلى الخزانة الموضوعة بجوار المكتب على طاولة صغيرة مستقلة، فتحها بمفتاحها الذي أخرجه من جيب بنطاله، وأخرج من رزم الأوراق النقدية اثنتين، ألقاهما على سطح مكتبه في إهمالٍ، ثم أشار لهما قائلًا بلهجة بدت آمرة:
-خد دول.
لم يمانع "ممدوح" أي لهجة يخاطبه بها، المهم أن يحصل على ما يجعله دومًا يظهر بشكلٍ مادي لائق أمام علية القوم. ناوله كأسه المملوء بالشراب المُسكر، وسار نحو المكتب ليلتقط النقود وهو يشكره في نبرة تضمنت لمحة تهكم:
-تسلم يا صاحبي، ومبروك مقدmًا.
............................................
أخذت الكلمـ.ـا.ت تنسل من جوفه متدافعة كالسيل وهو يقص على زوجته الوظيفة التي حصل عليها مصادفة، وإن كانت تفاصيلها غير واضحة بعد. انعكست الفرحة عليه، وأراد مشاركة حمـ.ـا.ته سعادته، فاستأذن بالدخول إلى غرفتها. ظلت الحماسة تشوب صوت "عوض" وهو يكلمها بوجه بشوش، ونظرات متفائلة:
-أهل الخير كتير، وإن شاءالله يا حاجة هنوديكي عند أحسن دكتور في البلد.
ثم استدار برأسه متطلعًا إلى زوجته ليكمل باقي جملته:
-الشيخ "عبد الستار" وعدني هيكلم حد من معارفه، وهيتكفل بكل حاجة.
ردت "فردوس" في رجاء طامح:
-ياه لو ده حصل يا "عوض".
أكد لها عن يقينٍ:
-هيحصل، استبشري خير بس.
ارتكزت نظراتها على جسد والدتها المسجي على الفراش، وقالت بعينين تلمعان بالدmـ.ـو.ع:
-نفسي أشوف أمي واقفة على رجلها من تاني.
نهض واقفًا ليدنو منها، ربت بخفةٍ على كتفها هاتفًا:
-بإذن الله، احنا هنعمل اللي علينا، وربنا يكرم.
لفظت الهواء بقوةٍ، وعقبت:
-يا مسهل الحال يا رب.
بعدئذ تجاوزته "فردوس" لتقترب من فراش والدتها، تطلعت إليها وهي تمسح الدmـ.ـو.ع العالقة في أهدابها متسائلة:
-سامعة يامه الكلام؟
جثت على ركبتها أمامها، وراحت تضيف في صوت مفعم بالأمنيات:
-بكرة هتخفي وتروقي، وترجعي تنزلي الحتة وتنوريها.
التعبير الجـ.ـا.مد على وجه والدتها، بالإضافة لاتساع نظراتها، جعل قلبها ينقبض، ويتوجس خفية من وقوع ما تخشاه، هزتها في تـ.ـو.ترٍ وهي تسألها بجزعٍ:
-إنتي ما بترديش؟ مالك يامه؟
صاحت في لوعة منادية زوجها الذي كان قد خرج لتوه من الغرفة ليبدل ثيابه:
-إلحق يا "عوض"، أمي مابتردش عليا.
هرول ركضًا تجاه السرير، وقام بفحصها ظاهريًا، بينما زوجته تسأله بقلب منخلع:
-هي جرالها إيه؟
أدرك أن ملك المـ.ـو.ت قد زارها، واسترد الخالق وديعته، فالتفت مواجهًا زوجته مرددًا:
-لا إله إلا الله، إنا لله وإنا إليه راجعون.
بهتت ملامحها كليًا، وجحظت بعينيها متسائلة في صوت مرتعش، كأنما ترفض تصديق الحقيقة المفجعة:
-يعني إيه؟
ضمها إلى صدره ليقول في حـ.ـز.نٍ مواسيًا إياها:
-هي راحت عند اللي أحسن مني ومنك، ادعيلها يا "فردوس".
باتت شكوكها صحيحة، وفارقتها أمها للأبد، لتظل بلا حـ.ـضـ.ـن يأويها، ولا أمان يحتويها، انفلتت من أعمق أعماقها صرخة مليئة بكل الو.جـ.ـع واللوعة:
-يـــــــامه!
..............................................
بمجرد أن عادت إلى بيته، والتقت به، انهالت عليه بعشرات القبلات بلا توقفٍ، كأنما تعوض ما فاتها خلال فترة حرمانها منه، ولما لا والسعادة كلها تجتمع في حـ.ـضـ.ـنه البريء المنزه من شرور من حوله؟ زادت "تهاني" من ضمها إلى صغيرها في أحضانها، واعترفت له بنبرة مشتاقة للغاية:
-"أوس"! حبيبي، وحـ.ـشـ.ـتني أوي.
فرت من مقلتيها دmعات متأثرة وهي تخبره:
-أنا كنت خايفة أتحرم منك.
حاوطها الصغير بذراعيه، وتعلق في عنقها مخاطبًا إياها:
-ماما، مـ.ـا.تسبنيش تاني.
بلا تفكيرٍ أكدت له:
-حاضر يا حبيبي، أنا هفضل جمبك طول العمر مهما حصل.
قطع لحظة تواصلهما العاطفي المشحون بمشاعر المحبة والشوق صوت "مهاب" المتسائل في غلظةٍ طفيفة، فقيدها الخوف ارتياعًا من احتمالية إقصائها مجددًا:
-خلصتي سلام؟
أدركت أن وراء قدومه شرًا مستترًا، توقفت مرغمة عن احتضان صغيرها، ونظرت تجاهه في بغض غير قابل للشك، قبل أن ترد بملامحٍ عابسة:
-أيوه.
نظرته الممـ.ـيـ.ـتة المسددة إليها جعلت معدتها تتقلص، ارتفع حاجباها للأعلى في إنكارٍ عنـ.ـد.ما قبض على كفها ليضع في يدها طوقًا من الجلد وهو يأمرها:
-حطي ده حوالين رقبتك.
سألته بصوتٍ مال للارتجاف:
-إيه ده؟
أحنى رأسه على وجهها كأنما يريد تقبيلها من وجنتها؛ لكنه همس لها في هسيس شيطاني:
-عايزك تجيلي زاحفة من هنا لحد الأوضة عندي، ويا ريت مـ.ـا.تتأخريش، ده لو حابة تفضلي هنا.
تخشبت، وانتفض داخلها لهنيهة محاولة استيعاب فجاجة ما يطلبه منها بوقاحة منقطة النظير، سرعان ما اشتاطت نظراتها بشـ.ـدة، ومع ذلك لم تجرؤ على الاحتجاج بكلمةٍ، لتردد في جنبات نفسها:
-ربنا ينتقم منك يا ظــــالم.
حاولت مواراة ما يعتريها من إحساسٍ بالألم والقهر بابتسامة ناعمة، داعبت ذقن صغيرها تطلب منه في رقة:
-حبيبي، ممكن تخليك في الأوضة لحد ما أروح أشوف بابا عاوز إيه؟
تعلق بيدها بكلتا قبضتيه، وهتف في تجهمٍ، وبجبين مقتضب:
-مـ.ـا.تمشيش!
استلت بصعوبة يدها منه، لتمسح على رأسه في حنوٍ، أبقت ابتسامتها حاضرة على شفتيها وهي تؤكد له:
-أنا راجعة تاني.
ثم أحنت رأسها على جبينه لتقبله منه مطولًا وهي تُسمعه بصدقٍ:
-بحبك.
..............................................
ما إن أغلقت باب غرفة صغيرها، حتى أمسكت بالطوق المعدني الذي أعطاه لها، ونظرت إليه بعينين متحسرتين، طافت ببصرها حولها، وجدت الخدm متراصين، كأن الأمر قد جاءهم بالبقاء وانتظار ما تفعله، تيقنت أنه يُمعن هذه المرة في إذلالها بشكل لا يمكن نسيانه، لئلا تفكر مجددًا في مناطحته الرأس بالرأس، حاولت ألا تبدو منهزمة، محطمة، فادعت ثباتها، ورفعت الطوق بعدmا فردته إلى عنقها، لتقوم بلفه حول رقبتها، أحكمت ربطه، وانحنت بكامل جسدها على الأرض لتبدأ في الزحف على ركبتيها ويديها نحو غرفة زوجها تنفيذًا لأمره المهين، وكل من في المنزل من خدmٍ يشاهدها بذهولٍ مستنكر!
نظرة الشمـ.ـا.تة التي رمقتها بها المربية الأجنبية كانت كافية لإحــــراقها حية، انقهرت أكثر، ومع هذا واصلت الزحف بثباتٍ، ما لبث أن بدأت أطرافها ترتعش حينما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من غرفته. توقفت "تهاني" عند عتبة الباب، حينما رأت قدmيه أمامها، لم تجرؤ على رفع رأسها إليه بعد سحقها بلا هوادة؛ لكنه قال بنبرة متشفية حقودة:
-برافو، أحبك وإنتي بتسمعي الكلام كده!
سمح لها بالمرور زحفًا للداخل ليغلق الباب ورائها، كانت على وشك النهوض لتقف مستقيمة؛ لكنه جمدها في مكانها بإشارة من سبابته، فظلت على وضعها المهين، ومع ذلك سألته بصوتٍ جريح:
-إنت بتعمل فيا كده ليه؟
انتصب في وقفته المغيظة أكثر، وقال من عُلياه:
-بفهمك وضعك إيه هنا يا دكتورة...
نظرت له بعينين ضيقتين، تكنان له كل كراهية الدنيا، فأكمل بردٍ قاسٍ كالسهام، فأصاب كبريائها في مقــ,تــل:
-أوعي تفتكري عشان الناس بتحترمك برا بقالك قيمة!! أنا اللي عملتك، وأنا برضوه اللي أقدر أكســرك، وأهـــدك!
ابتلعت مرارة الإهانة، وألم الذل قسرًا، لتسأله برأس محني، وهي لا تزال جاثية على قوائمها الأربع:
-عاوز مني إيه؟
أمسك بطرف الطوق المعدني الملتف حول عنقها، جذبها منه بغتة، فتأوهت من الألم المهين، ورفعت عينيها الحمراوين لتنظر إليه في انكسارٍ ومذلة. ابتسم لها بشكلٍ شيطاني، وأخبرها بما جعل كل ما فيها يرتجف بقوة:
-كل خير يا ... مراتي الحلوة!
.....................................
من قال أن الأحزان تخبت بمرور الشهور والأيام؟ بل إنها تزداد عمقًا وترسخًا في الوجدان! عام كامل انقضى على رحيل والدتها، ورغم ذلك لم تنسَ هذه اللحظة العصيبة التي عاشتها بكل جوارحها، أصبح الحـ.ـز.ن الكبير من نصيبها، ملازمًا لها، كما كان معها من قبل، لم يتغير أي شيء حولها سوى أنها باتت بالفعل وحيدة، تعيسة، متباعدة بمشاعرها حتى عن زوجها. مدت "فردوس" يدها ووضعت كوبي الشاي الفارغين في الصينية، ونظرت إلى جارتها "إجلال" عنـ.ـد.ما خاطبتها بصوتِ شبه معاتب:
-بقالك سنة ياختي لابسة أسود، مش ناوية تقلعيه؟ كفاية حـ.ـز.ن بقى!
ردت عليها بمرارةٍ:
-وإيه يفرح في دنيتي عشان ألبس ملون عليه؟ الحـ.ـز.ن معشش خلاص جوا القلوب.
تأثرت لحالها، وتعاطفت معها بشـ.ـدة، فحاولت تخفيف وطأة ما تُعايشه بكلامها المطبب لجرجها الذي لم ينـ.ـد.مل بعد:
-هوني على نفسك يا "دوسة".
بالكاد حاولت مغالبة دmـ.ـو.عها القريبة وهي تعقب عليها:
-أنا بقيت مقطوعة من الدنيا.
شعرت "إجلال" وكأنها عاجزة عن مواساتها، فحاولت تغيير الموضوع لآخر، وسألتها بشكلٍ عفوي:
-ولسه برضوه مافيش أخبـ.ـار عن "تهاني"؟
حينئذ اسودت ملامحها، واشتعل وجهها على الأخير، لتنفجر فيها بغضبٍ مشحون:
-مـ.ـا.تجبيش سيرتها الجاحدة الظالمة بـ.ـنت الـ (...) دي، كفاية إنها جابت المرض والعيا لأمي، وفي الآخر مـ.ـا.تت بحسرتها عليها، هي دي أخت دي؟!!!
بحذرٍ واضح قالت:
-الله أعلم ظروفها إيه!
واصلت هجومها العدائي عليها بشراسة، فانطلقت الكلمـ.ـا.ت اللاعنة من بين شفتيها كالسيل العرم:
-ربنا يجحمها مطرح ماهي أعدة إن كانت حية ولا مـ.ـيـ.ـتة، ولا تشوف طيب أبدًا لا دنيا ولا آخرة!
نـ.ـد.مت جارتها للفكرة غير الموفقة في الحديث عن شقيقتها، ورجتها بضيقٍ منزعج:
-خلاص بقى، صلي على النبي في قلبك.
نفخت "فردوس" عاليًا وهي ترد:
-عليه الصلاة والسلام.
نهضت "إجلال" دافعة كرسي طاولة السفرة للخلف قليلًا، وقالت بإصرارٍ وهي تجمع ما تبقى من أطباق كانت مملوءة بالفاكهة والبسكويت:
-عنك أنا هودي الصينية المطبخ وأشطف اللي فيها.
اعترضت عليها "فردوس" قائلة:
-مافيش داعي تتعبي نفسك، الحكاية مش مستهلة.
صممت بترحابٍ:
-ولا تعب ولا حاجة.
غابت بعدئذ لدقائق في المطبخ ريثما انتهت من تنظيف كل شيء، لتخرج وهي تمسح يديها المبللتين في جانبي عباءتها، متحدثة إلى "فردوس":
-أنا هنزل دلوقتي شقتي، وأبقى أفوت عليكي وقت تاني، خدي بالك من نفسك يا حبيبتي.
أنهت جملتها وهي تقبلها على وجنتيها بالتتابع، لترد عليها الأخيرة باقتضابٍ:
-طيب.
ألقت عليها التحية قبل أن تسحب الباب ورائها لتغلقه:
-سلام عليكم.
همَّت "فردوس" بالاستدارة والذهاب إلى غرفة نومها؛ لكن استوقفها في منتصف الطريق قرع الجرس، تساءلت في استغرابٍ:
-هي "إجلال" نسيت حاجة ولا إيه؟
في تلقائية واضحة نادت من موضعها دون أن تفتح الباب بعد لترى من الطارق:
-أيوه يا "إجلال"!
تجمدت في مكانها مذهولة، وقد أبصرت من أذاقها قساوة الغدر يقف قبالتها بشحمه ولحمه، همهمت باسمه في صدmة جلية:
-"بدري"!
كانت لا تزال على دهشتها وهو يسألها بروتينية مشوبة بالحرج:
-إزيك يا مرات أخويا؟
في التو اكتسب وجهها طابعًا مستنكرًا، وتحولت نظراتها للسخط، لتظهر عدm ترحيبها بظهوره المفاجئ. تنحنح "بدري" بصوت خفيض قبل أن يستطرد:
-لا مؤاخذة إن كنت جيت كده على غفلة...
راقبته في نظرات متحفزة، فاستمر يخاطبها:
-أنا لسه راجع، وسألت عن "عوض" أخويا، والناس قالولي إنه لسه ساكن هنا..
لاذت بالصمت المريب، وكأن حضوره غير المتوقع قد جمدها. سألها "بدري" بعفوية وبعشمٍ غير موفق:
-هنفضل واقفين كده على الباب؟ مش هتقوليلي أتفضل يا مرات أخويا؟
ما بينهما لم يكن عاديًا، بل كان حافلًا بالكثير، الأحرى أن يقال أن هجره لها بهذه الخسة تسبب لها لاحقًا فيما تعرضت له من ذل وهوان. عاملته بجفاءٍ صريح حين ردت في عبوس:
-جوزي مش موجود، مقدرش أقولك اتفضل وأنا ست لوحدي.
تفهم موقفها هاتفًا:
-اللي إنتي شايفاه صح اعمليه.
حك مؤخرة عنقه، ليتابع بعدها بشيءٍ من التردد الحرج:
-عمومًا، أنا كنت عاوز أقولك كلمتين، أنا محقوقلك في اللي عملته زمان، ونفسي تسامحيني.
نظرت له بحنقٍ قبل أن تخبره عن عمدٍ، قاصدة التعبير عن كراهيتها الصريحة لما اقترفه في حقها قديمًا:
-ربنا بيخلص من كل واحد اللي عمله.
هز رأسه قليلًا، ليضيف بغموضٍ، وبصوتٍ يعبر عن الأسى:
-معاكي حق، واهوو ربنا انتقم مني وشوفت المرار كله.
طالعته بتحيرٍ، فلم يوضح أكثر، واكتفى بالطلب منها:
-لما يرجع "عوض" قوليله إن أخوه جه وسأل عليه، وأمه نفسها تشوفه.
أوجزت في ردها عليه، كأن شأن عائلته مع زوجها لا يعنيها بالمرة:
-طيب.
استدار "بدري" استعدادًا لانصرافه، ومع ذلك توقف ليقول بنـ.ـد.مٍ:
-حقك عليا مرة تانية يا ست البنات.
اعتصر الألم قلبها للحظة، فقتـــلت ذلك الشعور المو.جـ.ـع، وتحركت عائدة لبيتها، ولسان حالها يهمهم في حسرةٍ:
-يفيد بإيه النـ.ـد.م بعد ما كله خلاص راح واتكـ.ـسر ............................... !!
↚
(البديل)
حينما وصلت إليه أنباء علتها الصحية، لم يتردد "عوض" للحظة في الذهاب إليها على وجه السرعة، لرؤيتها، والمكوث معها لعدة أيام، ريثما يطمئن عليها، ويعوض ما فاته بفراقها لسنواتٍ عنه؛ لكنها كانت كعادتها ساخطة، ناقمة، مشحونة بكراهيةٍ غير مبررة تجاه زوجته المغلوبة على أمرها. اشتد بصدره الوجيب، وامتلأ وجهه بعلامات الاستهجان، ووالدته لا تزال تُلح عليه في تصميم مغاير لما يريده:
-يا ابني اسمع الكلام وبطل مناهدة...
حول أنظاره عنها فأكملت بما يشبه الإهانة:
-دي أرض بور، ومافيش منها رجا، قعدتك معاها هتخسرك اللي فاضل من عمرك.
احتج على ظلمها المجحف، وصاح مستنكرًا بضيقٍ:
-أنا راضي بحالي معها، فمالوش لازمة الكلام ده؟
أمسكت بذراعه، وتوسلته بمكرٍ:
-وتزعل أمك؟
كان محاصرًا بين نارين، الظفر بمحبتها، وبمراعاة غيبة زوجته. زفر مليًا، وقال بتعابيرٍ ممتعضة وهو يحتضن كفها بيده:
-زعلك غالي عندي، بس أنا بتقي الله في مراتي.
كادت تنطق بشيء لتسخر منها فاستوقفها باسترساله وهو يستل يده من كفها بعدما أراحه على الفراش:
-"فردوس" اللي مش عجباكي دي وعمالة تجيبي من الأرض وتحطي عليها من غير ذنب وقفت معايا لما الكل إداني ضهره، وأولهم إنتي.
تجهمت على الأخير، فاستمر مضيفًا، وكأنه يبدي عرفانه بصنيع جمائل حماته الراحلة معه:
-أمها فتحت باب بيتها ليا، واعتبرتني ابنها، وعمرها ما قالت كلمة تزعلني.
تطلعت إليه والدته بغير اقتناعٍ، وظلت على هجومها القاسي:
-سيبك من الهري ده كله، كفاية إنك ماجبتش منها عيال، يعني مافيش حاجة تربطك بيها، سيبها وأنا عندي ليك ألف واحدة تانية غيرها.
وقتئذ اتخذ موقفًا مُعاندًا، وأصر على تمسكه بزوجته:
-"فردوس" مراتي وهتفضل على ذمتي لحد ما أموت.
احتقنت نظراتها للغاية، وسألته في نبرة موحية، لم تكن مريحة له:
-وأخوك؟
بدا متحيرًا في مقصدها، فأوضحت بأسلوبٍ فج:
-ترضى تخلي واحدة زي دي أخوك كان عينه منها؟
انخلع قلبه من حديثها المسموم، الذي يعلن في طياته عن حرب ضروس، وهتف في غضبٍ متصاعد:
-إيه الكلام ده يامه؟ مايصحش كده!
ابتسمت لأنها نجحت في وغر صدره ضده، وأكملت بخبثٍ:
-أومال مفكر إيه؟
احمر وجهه غضبًا، وحقدًا، فزادت من إشعال دواخله بكلامها:
-إنت نسيت اللي كان بينهم، ده لو كان طلب منها تسلمه نفسها كانت عملت.
وكأنها هوت على رأسه بمطرقة غليظة، أظلمت نظراته، واسودت ملامحه، حتى نبرته اخشوشنت وقد رفع سبابته محذرًا إياها بصرامةٍ:
-لأ يامه، كله إلا الشرف والعرض، مراتي سيرتها أنضف من البفتة البيضا.
ثم أولاها ظهره استعدادًا للمغادرة، فنادت من ورائه:
-اسمع بس يا "عوض"!!
توقف في منتصف المسافة، لم ينظر إليها، بالكاد حاول ضبط أعصابه بعدما استثيرت بهذه الاتهامات المجحفة، كز على أسنانه وهو يخاطبها بوجومٍ شديد:
-بركة إنك بخير يامه، ربنا يطمنا عليكي، وأنا كل شوية هفوت أشوف أحوالك.
صاحت به في غيظٍ:
-هتركب دماغك يا "عوض"؟
اكتفى بتوديعها المقتضب:
-سلام عليكم.
ارتفع صوتها ليبدو كالصراخ الحاد وهي تسأله:
-فيها إيه عِدل مخليك ماسك فيها بإيدك وسنانك؟!!!
لم يرد بشيء، وغادر المنزل، والبلدة بأسرها وهو مهموم الصدر، ومفطور القلب، فكيف تفعل به أمه ذلك وهو لم يسعَ طوال حياته إلا لإسعادها؟!
............................................
لو كانت الظروف مختلفة ومهيأة عن الوضع الحالي، لأصبح صغيرها الغالي هو ابن الأحلام والأمنيات التي رجت حدوثها منذ نعومة أظافرها! لكن مع ما اختبرته، وما عاشته من آلام ممزوجة بالمهانة والإذلال فهمت أخيرًا أنها أخطأت الاختيار، وما تمر به الآن هو نتيجة اختيارها غير الموفق. بعينين غارقتين في الدموع أمعنت "تهاني" النظر في طفلها النائم، نهضت من جواره لتسحب الغطاء على جسده، انحنت على جبينه تقبله، ثم منحته ابتسامة مشرقة رغم العبرات المنسابة التي تبلل وجنتيها.
اعتدلت في وقفتها، وتجولت في غرفته بخطى بطيئة حذرة، لئلا توقظه، حتى بلغت النافذة الزجاجية الموصدة، أزاحت الستارة البيضاء بخفةٍ، وأكملت حديث نفسها المكلومة:
-أنا اللي عملت كده في نفسي.
شردت بعقلها، واستعادت اللحظات الحمقاء التي غفلت فيها عن رؤية وجهه الحقيقي، وانساقت كالبلهاء وراء أكذوبة الحب الأعمى، فما كان منها إلا أن هوت على أرض الواقع فانقسم ظهرها وتكسرت.
ابتلعت غصة مريرة جرحت حلقها، وجالت ببصرها على السماء الظلماء الممتدة أمامها وهي تهمس:
-لو كنت صبرت ورضيت بحالي، كان زماني متجوزة واحد محترم، بدل الـ...
بترت إهانتها في خوفٍ غريزي، كأنما تخشى أن يسمع ما فاهت به رغم غيابه عن البيت. سحبت شهيقًا عميقًا، لفظته على مهلٍ، وأردفت في أسى:
-مالوش لازمة تقهري نفسك كل شوية يا "تهاني"، مابقاش منه فايدة.
التفتت برأسها للجانب، لتنظر مرة ثانية إلى صغيرها، ضحكة حياتها، عفويًا شقت ابتسامة صافية شفتيها العابستين، وخاطبته في صوتٍ خافت غير مسموعٍ حتى له:
-إنت الحاجة الوحيدة اللي طلعت بيها من الجوازة دي.
مسحت بظهر كفها شلال الدموع المتدفقة لتدعو في تضرعٍ:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا.
ثم عاودت أدراجها، واستلقت على الفراش، محتضنة صغيرها، ومتنعمة بدفء القرب منه.
....................................................
ليلته كانت مختلفة، مطعمة بكل ما تشتهيه النفس وتطمع فيه من مسرات الدنيا وترفها، لم يدخر "مهاب" وسعه في الظفر بمتعها الشهية، وملذاتها السخية. عاد إلى منزله متأخرًا، مترنحًا، وآثار الخمر تلعب برأسه. بالكاد نجح في فتح الباب، صفقه بعنفٍ فتسبب الصوت في إفزاعه، ورغم ذلك ضحك بقهقهة مجلجلة كأن تصرفه الأخرق كان مُسليًا له.
تعرقل حينما سار في البهو، فانكفأ على الأريكة، استراح عليها، وكركر ضاحكًا وهو يتساءل بغير وعيٍ:
-هو إيه اللي جاب الكنبة دي هنا؟
فرك جبينه، وتوقف عن الضحك بصعوبة ليخاطب نفسه في انتشاءٍ:
-لأ، المرادي أنا تقلت في الشرب شوية، بس حقيقي كانت تستاهل.
الجلبة التي تسبب بها جعلت حواسها تتيقظ، وتنهض من جوار صغيرها بعدما غفت بجواره لتخرج من غرفته وهي تسير على أطراف أصابعها متسائلة في توترٍ مرتاع:
-مين برا؟
-هيكون مين غيري!
جاء الرد سخيفًا، وسمجًا من زوجها الذي لمحته مسترخيًا على الأريكة، يرفع ساقه فوق مسندها، ويرخي الأخرى على الأرضية، اقتربت أكثر منه وهي تردد بنبرة شبه هازئة:
-حمدلله على السلامة.
نظرة احتقارية سددها لها قبل أن يصيح بها وهو يتجشأ:
-امشي دلوقتي، مش ناقص نكد.
فاحت منه رائحة الخمر الكريهة، والنساء اللاهية، وما يبعث الاشمئزاز العارم على النفس. تغاضت عما تراه، وسألته في هدوءٍ مناقض لما يجيش في أعماقها:
-"مهاب" إنت هتنام هنا في الصالة؟
رد عليها بوقاحةٍ وهو يطوح بقدمه في الهواء، كأنما يطردها:
-بيتي وأنا حر فيه، أنام في الحتة اللي تعجبني.
مجددًا، تجاوزت عن إهانته المتوارية، وحاولت حثه على النهوض معها، تجنبًا لرؤية الخدم له وهو على هذه الحالة الفوضوية المنفرة. انحنت عليه لترفعه من ذراعيه وهي ترجوه:
-طيب، معلش تعالى معايا نروح الأوضة.
وكزها بكوعه في صدرها بقوةٍ فتأوهت من الألم المباغت، وتراجعت عنه لتحمي نفسها من بطشه الأهوج، جرفتها موجة عنيفة من الخوف عندما هدرت منه صيحة مهددة:
-إنتي مين عشان تديني أوامر؟
كظمت ضيقها بصعوبةٍ، وأبدت اعتذارها الفوري:
-أنا أسفة، بس آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها مواصلًا وصلة لعنها المهينة:
-نسيتي نفسك ولا إيه؟ صحيح تربية حواري!
كان يتكلم بعصبيةٍ، بانفعالٍ، بهجومٍ غير مبرر، ومع هذا طلبت منه بتريثٍ حذر:
-اهدى يا "مهاب"، الموضوع مش مستاهل كل ده!
شهقة غادرة انفلتت منها عندما اندفع تجاهها لينقض عليها، أمسك بها من منبت ذراعها، جرها بعنف للأمام وهو يصرخ فيها:
-يالا غوري!
قوة الدفعة جعلتها تنكب على وجهها، وتفترش الأرضية بجسدها، تمكنت من حماية رأسها من الإيذاء في اللحظة الأخيرة، ونظرت إليه في جزعٍ لتردد بذهول مرعوب:
-"مـــــهاب"، فوق إنت شارب ومش في وعيك!
وكأن طاقة من الغضب المستعر قد اندلعت بداخله، فحررها على هيئة ركلات قاسية من قدمه، سددها نحو جسد هذه المسكينة التي بكت في قهرٍ وعجز وهي تتلقى دفعة جديدة من التأنيب العنـــيف المصحوبة بصياحه المجلجل:
-مايخصكيش، إنتي مش هتتحكمي في اللي بعمله، سامعة؟ أنا حر في حياتي.
كان في غير وعيه، انهال عليه بكل ما يعتريه من وحشــــية وقساوة، غير مبالٍ بأين تصيب ضربته، وأين يترك آثار عنـــــفه. توقف عما يفعل ليدس أصابعه في شعرها المسترسل، جذب خصلاته بشراسةٍ فأجبرها على رفع رأسها إليه، هوى بيده الطليقة على خدها ليصفعها وهو يأمرها:
-ردي عليا؟
أجهشت بالبكاء وهي تتوسل إنسانيته الغائبة:
-خلاص، حقك عليا، أنا غلطانة.
ظل ممسكًا بخصلاتها، وأطبق بيده على عنقها بغتةً ليخنقها، فانحبست أنفاسها وانحشرت، أحست بروحها تستل من جسدها، وصوته يخترق أذنها:
-أقولك على حاجة هتريحني منك؟
انقطعت أنفاسها تمامًا، بل تكاد تجزم أن قلبها توقف عن النبض عندما هسهس كفحيح الأفعى:
-إنتي طــــــــالق!
نظرت له بعينين جاحظتين، وهذا التعبير المصدوم يجتاح كامل وجهها، فجــأة تركها وهو يجلس ضاحكًا أمامها، كأن ما نطق به أسعده، في حين استوعبت "تهاني" الكارثة المفجعة التي حلت عليها، لتهتف بصوتها المتحشرج:
-"مـــــــــــهاب"!
تزحف الأخير على يديه وقدميه حتى بلغ الأريكة، لم يكن قادرًا على الوقوف باستقامة، فجلس عليها مريحًا ظهره للخلف، سلط عينيه الخاليتين من الحياة عليها، ظل يرمقها بنظرات مستمتعة وهو يراها تتخبط بعجزٍ جم، قبل أن يخبرها مؤكدًا ومشددًا على ما سبق وردده:
-أيوه، زي ما سمعتي، إنتي ... طــــالق يا "تهاني"، طــــــــــــــــــــالق!
لطمت على صدغيها في رعبٍ جلي، وانتفضت واقفة لتسأله بغير تصديقٍ:
-إنت واعي للي بتقوله؟ دي المرة التالتة يا "مهاب"! المرة التالتة!
لم يبدُ مباليًا على الإطلاق بما فعل، بل عاد لاسترخائه الأول كما كان، وعلق:
-ولو حتى العاشرة أو المليون، إنتي طالق.
ازداد صوت نحيبها، فأمرها في غلظةٍ:
-ويالا بقى من هنا، وسبيني أنـــــام...
سرعان ما تحولت نبرته للتهديد غير المتساهل عندما أكمل:
-ولا تحبي أرميكي برا خالص؟
ظنت أنه مقبل على تنفيذ ما قاله، فقد سبق وفعل، لهذا أثرت ألا تختبر صبره، وفضلت التراجع عن مواجهته غير المجدية حاليًا، هرولت ركضًا بعيدًا عنه وهي تخاطب نفسها في إنكارٍ متعاظم:
-لأ، استحالة ده يكون حصل، مش معقول يطلقني بالشكل ده؟!!
سيطر عليها الخوف بطريقة طاغية، وتضاعفت الرجفات بها، اختفت بداخل غرفة ابنها، وأوصدت الباب بالمفتاح، كأنما تخاف من احتمالية اقتحامه للغرفة وجرها للخارج، استندت بظهرها المرتعش على إطار الباب الخشبي وهي تتساءل:
-طب هتصرف إزاي؟
تحولت عيناها الفزعتان إلى الفراش، لترتكز على وجه طفلها النائم في سلام قبل أن ترتعش شفتاها هامسة باسمه:
-ابني، "أوس"!!!
..............................................
كانت قد بدأت تستغرق في نومها عندما تنبهت حواسها مع سماعها لصوت صرير باب الغرفة وهو يُفتح، اعتدلت في رقدتها لتنظر إلى زوجها الذي عاد لتوه من الخارج، ألقى عليها التحية، فردت عليه، وسحبت منديل رأسها من على الكومود المجاور لها، لتضعه حول شعرها المهوش، عقدت طرفيه معًا، وهمهمت في استغرابٍ:
-أنا قولت إنك هتبات هناك!
زوى ما بين حاجبيه سائلًا في نبرة معاتبة:
-وأسيبك لوحدك؟
تعجبت من موقفه الغريب، وردت عليه بتحيرٍ:
-ما إنت بتروح للموالد بتاعتك اللي في آخر الدنيا، وبتفضل هناك بالكام يوم، إيه الجديد يعني؟
أجابها متبسمًا:
-ده عشان خاطر أكل العيش، بس إن كان عليا ماسبكيش لوحدك.
اعتبرت ما قاله نوعًا من التقدير المعنوي لصبرها، فابتسمت له ابتسامة مجاملة، وكأن لكلماته التأثير عليها؛ لكن ما لبث أن اختفت هذه الابتسامة الصافية لتتحول إلى العبوس وهو يخبرها:
-بالحق، أمي بعتالك السلام.
نظرت له مليًا وبغير اقتناع، كما لو كانت كذبته المكشوفة لا تنطلي عليها، بينما تكلم "عوض" من غير أن ينظر نحوها:
-وبالأمارة سألت عليكي، دي كانت عاوزة تشوفك!
لوت ثغرها مغمغمة في امتعاضٍ:
-كمان؟
مد يده ليربت على ذراعها مؤكدًا لها بما يخالف ما تضمره والدته حقًا في قلبها ناحيتها:
-أومال، مش مرات ابنها الغالية؟
لم تستسغ سماع المزيد من هذا اللغو الفارغ، فسألته في استهجانٍ، وبلهجة مالت للتحقيق:
-ومن إمتى المحبة دي، وهي مكانتش طايقني نهائي؟
قبل أن يفكر في التبرير الكاذب، حذرته بلهجةٍ جادة، وبتعبير أكثر جدية عن صوتها:
- مالوش لازمة تقول حاجة محصلتش يا "عوض"، أنا لسه فاكرة طريقتها كانت معايا إزاي!!
حاول التغطية على ادعائه غير الحقيقي بترديده:
-ربنا لما بيريد بيغير القلوب.
نظرت له مطولًا، فتنحنح مرة أخرى، واستأذنها في حبورٍ:
-مش هتقومي تحضري أكلة حلوة لينا من إيديكي؟ خلينا ناكل ونتبسط سوا.
هزت رأسها بالإيجاب وهي تنهض من جواره استعدادًا لذهابها:
-حاضر.
.....................................
نفضة غريبة ضربت أطرافه جعلته يفيق من سباته بصعوبة، بالكاد استطاع تحريك ذراعه بعد هذا التنميل المزعج الذي أصابه، ليقوم بعدئذ بحك مؤخرة عنقه، محاولًا تخفيف وطأة ذلك التيبس الذي حل كذلك بفقراته بعدما غرق في نومٍ عميق على هذه الأريكة غير المريحة. استفاق "مهاب" تمامًا، وطاف ببصره على ما يحيط به. اعتدل جالسًا، وتساءل وهو يتثاءب:
-هو أنا نمت هنا ولا إيه؟
نزع عنه رابطة عنقه، وراح يحل أزرار قميصه المتعرق، والذي جعل أنفه ينفر من رائحة جسده غير اللطيفة، ليبدأ في المشي برويةٍ تجاه غرفته، وجد زوجته ترتدي ثياب العمل، وجالسة على طرف الفراش وكأنها في انتظاره، ألقى نظرة سريعة على تعبير وجهها الغائم قبل أن يسألها:
-في إيه مالك ضاربة بوز على الصبح كده ليه؟
لم تنبس بكلمةٍ، فأولاها ظهره، وخلع عنه قميصه متابعًا كلامه إليها:
-الناس لما بيشوفوا بعض بيقولوا صباح الخير، مش يدوا وش النكد ده؟
حينئذ نهضت واقفة، وسألته في تحفزٍ:
-"مهاب" إنت مش فاكر عملت إيه إمبارح لما رجعت؟!!
حانت منه نظرة جانبية غير مهتمة وهو يكمل نزع ثيابه غير النظيفة بالتدريج، سحب من الرف ثيابًا مرتبة، تركها على طرف الفراش، واستعد للذهاب إلى الحمام للاغتســـال، لحقت به "تهاني" عندما طال تجاهله لها مرددة في صوتٍ شبه مرتفع وغاضب:
-إنت طلقتني!
التف كليًا تجاهها، وهتف في صدمة غريبة:
-نعم؟
أخبرته في حرقةٍ، ووجهها قد أصبح أكثر حمرة:
-أيوه، طلقتني، ودي المرة التالتة!
سكت قليلًا، كأنما يحاول استحضار ما دار بالأمس، على عكسها كليًا، كان باردًا في رده:
-أكيد إنتي استفزتيني، ما أنا عارفك.
لم تصدق اتهامه المغيظ، ودافعت عن نفسها بشدةٍ، فاستطردت قائلة:
-والله ما حصل، إنت اللي كنت متقل في الشرب، ومصدقت تطلقني.
اكتفى بهز رأسه، فاشتاطت غضبًا لاستهانته بهذه المسألة الحرجة، وسألته في إلحاحٍ:
-إيه العمل دلوقتي؟
استل منشفة نظيفة من أحد الأدراج، وعقب:
-سبيني أفكر.
ظلت تستجديه في توتر خائف:
-أنا عملت كل اللي طلبته مني، وراضية بأي حاجة، بس أرجوك اتصرف، أنا مقدرش أبعد عن ابني، أو أسيبه!
ضجر من إلحاحها المزعج، فنهرها في جفاءٍ:
-يوووه، اخرسي بقى وكفاية دوشة، قولتلك هشوف حل...
كادت تتوسله مجددًا؛ لكنه طردها من الحمام بأمره الذي لا يرد:
-اطلعي برا خليني أخد دش!
انسحبت في الحال مستجيبة لأمره صاغرة، لعلها بذلك تسترضيه، ولسان حالها يدمدم بقهرٍ بين جنبات نفسها:
-منك لله يا "مهاب"، ضيعت كل حاجة حلوة حلمت بيها في حياتي معاك!!
......................................
مثلما اعتاد أن يفعل في كل مرة، هاتفه ليلتقي به على انفرادٍ، وبعيدًا عن الأعين المتطفلة، في مكتبه بالمشفى الخاص حتى يُعلمه بما طرأ من مستجداتٍ تخص علاقته بزوجته. افترت شفتا "ممدوح" عن دهشة مصدومة، لينطق بعدها مذهولًا:
-التالتة!
وكأن في ذلك طُرفة لطيفة، نوع من الانتصار الزهيد، ضحك "مهاب" في تسليةٍ، ثم قال بهدوءٍ مستمتع وهو يملأ حقيبته الجلدية ببعض الأوراق والملفات:
-تخيل، ومكونتش دريان.
سأله "ممدوح" مستفهمًا في قدرٍ من الفضول، ونظراته تتابع ما يفعله باهتمامٍ:
-طب هتعمل إيه دلوقتي؟
نظر ناحيته، وعقب:
-مش عارف، بس هحاول أشوف حل لما أرجع من السفرية دي.
لم يكن على علم مسبق بسفره المفاجئ، فسأله ليستعلم أكثر عنه:
-رايح فين؟
أعطاه جوابًا مباشرًا:
-"فؤاد" باشا بيرتب لحاجة جديدة، وعاوزني أكون موجود جمبه.
مط فمه معلقًا:
-بيزنس جديد، كويس.
اتجه "مهاب" نحو باب غرفة مكتبه، واستطرد متهيئًا للمغادرة:
-يدوب ألحق أروح المطار.
قبل أن يدير بيده مقبض الباب، استوقفه "ممدوح" بسؤاله المريب:
-والمدام عندها خبر؟
التف برأسه قليلًا للجانب لينظر إليه، وقال في شيء من العجرفة:
-لأ طبعًا، أنا مش مستني إذنها.
تابع أسئلته إليه باستفهامه التالي:
-بس لو سألت عليك؟!
حلت ابتسامة ساخرة على زاوية فمه قبل أن يرد:
-ابقى قولها إني سافرت.. سلام.
شيعه بنظرة ناقمة قبل أن يقول:
-مع السلامة!
.....................................
استغل الفرصة التي واتته على طبق من ذهب الاستغلال الأمثل، وشرع في ملء نفسها بالأحقاد والعداء تجاه من غدا طليقها عندما أتى لزيارتها في منزلها بحجة إطلاعها على سفر رفيقه المُعد مسبقًا، فاستعرت كليًا، وأصبحت على شفير الانفجار من هول ما تحملته معه. تشنجت تعبيرات وجه "تهاني"، وصارت عيناها أكثر احتقانًا وهي تخاطب "ممدوح" بزفيرٍ محمومٍ:
-الجبان! ولا كأنه عمل مصيبة!!
راقب ردات فعلها بهدوء الصياد الماكر، كان يعرف جيدًا كيف يجعلها تتلوى من الألم والوجع دون أن يمسها، ووقعت الأخيرة في الفخ فاسترسلت في البوح بما يتأجج به صدرها، وقد انخرطت في نوبة من البكاء المرير:
-سابني أنا لواحدي تتحــــرق أعصابي وهو مش في دماغه، وأنا هفرق معاه في إيه؟!!
لم يبذل أي مجهودٍ في زيادة جرعات غضبها، وعلق برأس شبه منكس:
-إنتي عارفة طبع "مهاب".
بدت غير متحرجة من البكاء أمامه، بل واعترفت له بندمٍ حقيقي:
-كانت أكبر وأسوأ غلطة في حياتي، يا ريت ما وافقت على ارتباطي بيه!
من على بعد لمح "ممدوح" طفلها مقبلًا عليهما، فحذرها بصوتٍ خفيض:
-خدي بالك، ابنك جاي، مافيش داعي يشوفك بالشكل ده.
في عجالةٍ مسحت دموعها المنهمرة بظهري كفيها، وأخفت حزنها العميق خلف بسمة متسعة، ألصقتها بوجهها، ثم هبت واقفة لتستقبله في أحضانها وهي تناديه بحنان أمومي فياض:
-"أوس"، حبيبي.
كان الصغير متكدر الملامح، قليل الكلام، استخبرت منه عن أحواله، فسألته باهتمامٍ واضح:
-عملت إيه في المدرسة؟
جاوبها الصغير باقتضابٍ، ونظراته النارية اتجهت ناحية "ممدوح":
-كويس.
لاحظ الصغير ذلك الاحمرار الغريب الذي يكسو حدقتيها، فسألها:
-مالك؟
رفرفت بأهداب جفنيها متمتمة في ارتباكٍ محسوس بصوتها:
-أنا بخير يا حبيبي، متقلقش عليا.
تعذر عليها التورية ببراءة عما يعتريها، خاصة مع ذلك الخاطر السريع الذي راود عقلها بشأن احتمالية حرمانها من رؤية فلذة كبدها، لم تكن لتتحمل مطلقًا خسارته، اختنق صوتها فجأة، وغص صدرها بالبكاء، فاستأذنت بتوترٍ:
-هروح أغسل عيني لأحسن اتطرفت، وراجعة تاني...
ثم منحت صغيرها قبلة رقيقة على وجنته قبل أن تطلب منه بلطافةٍ:
-خليك إنت مع عمو "ممدوح" شوية.
جمد "أوس" عينيه الحادتين على وجهه، وضاقتا بشكلٍ محلوظ متحفز والأخير يخاطبه:
-أهلًا يا ابن الـ .. باشا.
ضغط على كملته الأخيرة ونطقها بشكلٍ يوحي بالإهانة، قبل أن يتابع بغير صوتٍ؛ لكن نظراته إليه أكدت تبادل نفس الشعور التلقائي بينهما بالنفور:
-تعرف أنا لله في لله مش بطيقك.
كان صوته الداخلي يتكلم بما يكنه له حقًا:
-إنت الدليل الحي على إن أبوك دايمًا أحسن مني، حتى في الوســــاخة!
كز على أسنانه، وبدا صوت همهمته غير واضحة حين أنهى حديث نفسه العابر:
-مسيره في يوم هيقع، وهيكون مكانه تحت رجلي.
تنبه لقدوم "تهاني" حينما خاطبت ابنها:
-يالا يا "أوس" عشان تغير هدومك.
ظل "ممدوح" مكللًا بصمته المستريب، مما استحث "تهاني" على سؤاله بتحرجٍ مع ملاحظتها لتبدل تعابيره لشيء غير مفهومٍ لها:
-هو ضايقك ولا إيه؟
في سلاسة وخبرة، استطاع أن يبدد ما يجوس في نفسها من شكوكٍ، وابتسم في وداعةٍ نافيًا ما استشعرته:
-لأ، إنتي بتقولي إيه بس!!
ابتسامته كانت متمرسة، مُخادعة، وهو ما زال يخبرها كذبًا:
-ده أنا بحبه جدًا، فوق ما تتخيلي، كأنه ابني بالظبط!
....................................................
مضى وقت طويل على آخر مرة اجتمعا فيها معًا، لذا كان لقائهما ممتدًا، ومشحونًا بالحديث عن العديد من المشروعات الهامة. كان الأمر الأخير المطروح على طاولة نقاشهما ذلك التعاون الجديد مع واحدٍ من الشركاء الأقوياء، ممن برز اسمه على ساحة رجال الأعمال مؤخرًا، رغم التحفظات التي تحيط بتضخم مصادر ثروته. بدا "مهاب" معترضًا على محاولة الدمج بين الشركتين، وأخبر والده بتخوفه من الخوض فيه:
-احنا مش محتاجين ده يا باشا! ومش ضامنين الشريك الجديد يعمل معانا إيه، وخصوصًا إنه مش سهل.
تفاهم معه "فؤاد" موضحًا أسبابه بقدرٍ من المنطقية:
-بس للأسف الوضع اليومين دول مش مبشر، ده كفاية المشاكل اللي عملها "سامي" وورطنا فيها، وخلانا نخسر جزء مش قليل من راس المال.
رغم تحفظه على اختياره لتولي أعمال العائلة منذ البداية إلا أنه لم يظهر اعتراضه عليه آنئذ؛ لكن صمته هذه المرة سيكبد أسرته المزيد من الخسائر الفادحة، لهذا تحدث بصراحةٍ مطلقة:
-إنت عارف إنه مش أد الشغل التقيل يا باشا، ودايمًا متسرع، فأنا مش هقبل إنه يفضل مكمل بطريقته الفاشلة.
رد عليه والده في أسفٍ:
-كنت عاوز أبعده عن طريقك، بس الظاهر حسبتي كانت غلط.
تفهم موقف أبيه، وتداركه في الحال:
-ماتقولش كده يا باشا، هو اللي استهتر بالمسئولية اللي عليه، ومقدرش قيمة اللي معاه.
ثم انتصب بكتفيه وأكد له بحماسٍ متزايد:
-عمومًا أنا جاهز للي تؤمرني بيه.
استحسن ما أظهره من جدية، وقال:
-طول عمرك مريحني يا "مهاب".
أكمل بعدها الاثنان مناقشة بنود الاتفاق، كل بندٍ على حدا، حتى تساءل "فؤاد" في اهتمامٍ كبير:
-صحيح ماجبتش حفيدي معاك ليه؟
أجابه متحججًا:
-المرة الجاية يا باشا، يكون خد الأجازة من المدرسة.
رد عليه بإيجازٍ:
-عظيم.
ثم تداول كلاهما ما تبقى من بنود على رويةٍ، ليضمن "مهاب" بذلك عدم توريط عائلته في أي شيء قد ينذر بالخسارة.
..............................................
رغم انفصـــالها الأكيد عنه، إلا أنها ظلت ماكثة في البيت مضطرة، متقبلة الوضع الحرج، فلا مكان غيره متاح لها لتذهب إليه، أقامت "تهاني" في غرفة ابنها، تنهش الأفكار المحيرات في رأسها، وتلتهم الخواطر المؤرقات ما تبقى من صمودها. تربصت، وانتظرت على أحر من الجمر عندما جاء "ممدوح" للقاء زوجها الذي عاد لتوه من سفره، تعلقت بأمل محاولته المستميتة للمساهمة في إيجاد الحل المناسب لها لضمان عدم حرمانها من صغيرها أبدًا، خاصة مع التقلبات المزاجية لطليقها، والتي تبدو في غالبيتها غير مضمونة العواقب. لم تتحمل التنصت عليهما، فأعصابها مرهقة، وقواها مستنزفة، لذا انسحبت، وبقيت تنتظر الخبر اليقين من أحدهما.
بداخل غرفة المكتب، استقر "ممدوح" جالسًا على الأريكة، وتابع حركة رفيقه وهو يملأ كأسيهما بالفاخر من المشروب المُسكر. ما لبث أن تدلى فكه للأسفل، وراح يهتف في اندهاشٍ ذاهل عندما اقترح عليه حله الجهنمي للأزمة الراهنة:
-نعم، أنا أتجوز "تهاني"؟
كان يتحدث إليه كأنما يأمره، لا يطلب منه رأيًا، خاصة مع تأكيده:
-أيوه، معنديش حل إلا كده...
بقي "ممدوح" على حاله المستغرب، بينما رفيقه لا يزال يخاطبه بعبارات موحية:
-وماتقلقش، أنا هظبطك وأراضيك بقرشين حلوين.
حاجته إلى المال الذي يضعه في مقدمة صفوف الأثرياء، وصفوة المجتمع، كانت تفوق أي رغبة أخرى، ومع ذلك تعلل بامتناعه عن القبول قائلًا:
-بس الموضوع محرج، دي مراتك...
ثم ثبت نظراته القاتمة عليه وهو يتم جملته بعبارة وصل مدلولها الصريح إليه في التو:
-إزاي تقبل إنها تنام مع غيرك، حتى لو كنت أنا؟
رد عليه "مهاب" ببساطةٍ شديدة وهو يتحرك صوبه:
-أنا مضطر لكده، عشان أقدر أصلح الوضع.
ناوله كأسًا من المشروب قبل أن يتابع بمزاحٍ:
-وبعدين إنت مش حد غريب!
كالحرباء المتلونة تمسك "ممدوح" بحجته، وأصر عليها:
-إنت فاهم إن ظروفي ماتسمحش أتجوز، حتى لو لليلة.
ضحك في استمتاعٍ، وغمز له بطرف عينه هاتفًا:
-اطمن، كله بحسابه.
ثم أخرج من جيب سترته رزمة من النقود ليعطيها إليه وهو يأمره:
-خد دول مؤقتًا.
تحايل عليه بمكرٍ، وأظهر له تردد في القبول مهمهمًا بتذمرٍ طفيف:
-بس آ...
أصر عليه في تصميمٍ:
-خلاص يا "ممدوح"، ماتعقدش الحكاية!
وكأنه أعطاه مفتاح الخلاص ووسيلة أخرى للتربح منه، ليس ماديًا فقط، بل بطرق أخرى مغرية. مد الأخير يده، والتقط الرزمة الورقية، ناظرًا إليها باشتهاءٍ قبل أن ترتسم على شفتيه ابتسامة ماجنة، أتبع ذلك قوله الهادئ والمشابه لمكر الثعالب:
-عشان خاطرك بس .........
↚
(الشرف)
أعطاه محاميه المخضرم، أثناء فترة تواجده بالعاصمة المصرية، الفتوى اللازمة لحالة الطـ.ـلا.ق الخاصة بوضعه، وجاءت بأن طـ.ـلا.ق عاقر الخمر لا يقع عند بعض جمهور العلماء، لكونه في غير وعيه، ومع ذلك أصر على إتمام إجراءات الانفصـــال بشكلٍ رسمي ليقطع عليها الطريق للعودة إلى عصمته. أتى قراره المفاجئ بعد لقائه غير المرتب بهذه الحسناء الثرية ابنة شريك العمل الجديد. استحضر في ذهنه كيف جرت تفاصيله، وكأنها حدثت بالأمس.
تغنجت شابة ظهرت من العدm، وكأن السماء لفظت إحدى حورياتها الفاتنات، لتمشي في تفاخر ودلال، بثوبها القصير الأزرق المتطاير أطرافه مع نسمـ.ـا.ت الهواء، تلقائيًا تعلقت أنظاره بها، فبدا وكأنه لم يعد يرى سواها، أسرت عيناه، و.جـ.ـعلته غير قادر على إبعادهما عن طلتها البهية، خفق قلبه خفقة عجيبة مـ.ـو.ترة عنـ.ـد.ما وجدها تدنو من المائدة الجالس عليها بصحبة والده وضيوفه، انقلبت سحنته للعبوس وهي تنحني في رقة نحو السيد "شوقي" بعدmا حاوطته من كتفيه لتطبع قبلة رقيقة على وجنته وهي تسأله:
-لسه مخلصتش؟
شعر وكأن موجة من نيران الغيرة تضـ.ـر.ب داخله، اجتهد لئلا يظهر تأثير ذلك عليه، وكيف يحدث له هذا وهو يلقاها للمرة الأولى؟ تركز سمعه مع ضيفه الذي خاطبها بمحبةٍ ضاعفت من إحساسه بالحق:
-شوية وهكون معاكي يا حبيبتي.
نظرة خاطفة سددتها الشابة نحو "مهاب" ليشعر بتبدل عالمه الرتيب لآخر غريب ومقلق. ودعته الشابة المتدللة في نعومة تليق بها بعدmا نفضت شعرها الفاحم المسترسل في الهواء ليغمره كوشاحٍ من الحرير:
-أوكي، سلام.
بالكاد تمكن "مهاب" من إبعاد ناظريه عنها بعدmا اختفت عن الأنظار، ثم أجلى أحبال صوته، وتساءل في صوتٍ شبه متحفز وخشن:
-مين دي يا "شوقي" باشا؟
أجابه في زهوٍ وهو يرمقه بهذه النظرة الغامضة:
-دي بـ.ـنتي الوحيدة "ناريمان".
أثلجت الحقيقة صدره، و.جـ.ـعلت هذه التشنجات التي انعكست على ملامحه تختفي دفعة واحدة، استحثه فضوله على التعليق بنزقٍ:
-أنا أول مرة أشوفها!
أخبره كنوعٍ من التصريح:
-هي طول عمرها عايشة مع والدتها برا، وبتنزل في الأجازات عندي، بس حقيقي هي مربياها على الأصول والتقاليد الملكية.
جاء تعقيبه مصحوبًا بابتسامةٍ متشوقة:
-واضح عليها فعلًا.
تابع "شوقي" كلامه مؤكدًا في تلميحٍ متوارٍ:
-وكل العز اللي أنا فيه هسيبه ليها، بحيث مـ.ـا.تحتاجش لحاجة من بعدي.
هنا تساءل "مهاب" في شيءٍ من الاندفاع:
-هي مش مخطوبة؟
حينئذ نظر له "فؤاد" بنظرة صارمة، وكأنه يحذره من إفساد مسألة الشراكة بالخوض في نزوة لاهية، ومع ذلك لم ينطق بكلمة، بينما استمر "شوقي" في الحديث، فأضاف:
-"ناريمان" آخر حاجة بتفكر فيها الخطوبة أو الجواز...
ثم أطلق ضحكة مصطنعة قبل أن يتابع:
-وبصراحة كده أنا اللي مشجعها على ده، مش لاقي الشخص المناسب اللي يستاهلها، فسايبها تعيش حياتها بالطول وبالعرض.
استغل "مهاب" الفرصة ليعقب بمكرٍ يجيده:
-هي زي الأميرات، تستاهل الأفضل، ومش أي حد
وصل إليه مدلوله العابث، فحذره:
-إنت هتعاكس بـ.ـنتي قصادي ولا إيه يا "مهاب"؟
في التو استعمل أسلوبه المتمرس الخبير، وقال ممازحًا:
-مقدرش يا فنـ.ـد.م، وبعدين "فؤاد" باشا يــــقطع رقبتي!
قهقه "شوقي" ضاحكًا على ما اعتبرها طرفة، في حين استمر "مهاب" في كلامه باسمًا:
-في المسائل دي مابيتساهلش!
حمحم "فؤاد" مستطردًا:
-خلونا نرجع للشغل تاني.
.........................................
لحظات واستفاق "مهاب" من الذكرى غير البعيدة عنه وقد لاحت ابتسامة راقية على وجهه، سرعان ما تدارك وجودها، وأخفاها ببراعة وراء ملامح الجدية، ليخاطب رفيقه مشـ.ـددًا:
-أنا مش عاوز شوشرة في الحكاية دي، مـ.ـا.تنساش أنا ليا لي سمعتي هنا.
ضحك "ممدوح" هازئًا، وقال بشفاه ملتوية، كأنما يسخر منه:
-طبعًا، وأنا سيد من يداري عليك.
ترك "مهاب" كأسه مؤكدًا في صوتٍ هادئ:
-وزي ما وعدتك، هظبطك.
رد عليه مظهرًا عدm ممانعته:
-اتفقنا.
نهض من جواره، وتحرك بعدئذ تجاه باب غرفة مكتبه، ليدير برأسه قائلًا:
-هسيبك تكمل كاسك، وهطلع أبلغ المدام بالقرار.
أشار له بكأسه هاتفًا ببرودٍ مستمتع:
-خد راحتك.
اختفى "مهاب"، وبقيت نظرات "ممدوح" على أثره، ليقول باسترخاءٍ شـ.ـديد، وهو يفرد ذراعه على حافة الأريكة، متمتعًا بالدور الجديد الذي مُنح له:
-ما أنا بقيت في بيتي خلاص!
..............................................
ظلت تعتصر كفيها معًا وهي تدور حول نفسها في عدد غير معلومٍ من الدوائر المفرغة، لا تعرف ما الذي يخبئه المجهول لها؟ فزوجها لا يمكن التنبؤ بتصرفاته. انتفضت "تهاني" فزعة كليًا حين فُتح الباب فجأة، بالكاد أطبقت على شفتيها لتمنع نفسها من الصراخ حين رأته يلج للداخل. نظر لها "مهاب" شزرًا، واستطرد ممهدًا لحديثه بتحذيرٍ:
-لاقيت حل لمشكلتنا، بس مش عاوز اعتراض.
دون تفكير انطلق لسانها يخبره وهي تهز رأسها بإيماءاتٍ موافقة:
-أنا جاهزة لأي حاجة، طالما مش هبعد عن ابني.
ظل يتفرس وجهها مليًا، ليخبرها على مهلٍ، كأنما يراقب ردة فعلها:
-إنتي.. هتتجوزي "ممدوح"!
برزت عيناها، واتسعتا في صدmة كبيرة، قبل أن تردد بصوتٍ ذاهل، وملامح أكثر اندهاشًا:
-إيه؟ "ممدوح" مين؟
ابتسم في سخطٍ، وعلق بتهكمٍ:
-هو في غيره، صاحبي!
انقبض قلبها بقوةٍ، كما شعرت بالخدر يصيب تفكيرها، فراحت تردد بلا استيعابٍ:
-إزاي الكلام ده؟ معقولة، أنا وآ...
رفضت تقبل الفكرة برمتها، وصاحت مستنكرة لجوئه لهذا الأمر:
-لأ ما ينفعش!! استحالة طبعًا!!
زفر الهواء عاليًا، وقال بتصميمٍ:
-مافيش قدامي إلا هو، عشان أعرف أردك من تاني.
سلطت نظراتها المستهجنة عليه، وخاطبته في عتابٍ مصدوم:
-"مهاب".. إزاي تقبل بكده؟
قال بهدوءٍ:
-فترة بسيطة لحد ما نرجع لوضعنا.
مجددًا اعترضت بعنادٍ على اقتراحه الصادm:
-بس آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها مستخدmًا لهجة الإنذار:
-أنا قولت مش عاوز اعتراض، وإلا إنتي عارفة النهاية.
أولاها ظهره وتركها في الغرفة تتخبط في أفكارها، فانهارت جالسة على أقرب مقعد متسائلة في غير تصديقٍ، وبتحيرٍ مشوب بالخوف والارتياع:
-طب تيجي إزاي؟!!
.................................................
زادته همًا على هم بعدmا ملأت رأسه، وعبأتها بكلامها المسموم عن زوجة شقيقه، تلك التي أفسدت الود بين أفراد العائلة، وزرعت القطيعة والخصام بين الأرحام، فما كان منه إلا أن استجاب بعد وسوسةٍ وإلحاح لخطتها الجهنمية لتخليص شقيقه المسكين ممن اعتبرتها الأفعى الخبيثة. هبط "بدري" من الحافلة التي قطعت مسافة طويلة من بلدته ليصل إلى حيث يقطن شقيقه، وحديث والدته يرن في أذنه:
-هي اللي بوظت حياتنا، وجابت لنا النحس والهم.
آنئذ رد عليها متعللًا:
-بس يامه هما اللي استغنوا عن خدmـ.ـا.تي وآ...
قاطعته في حدةٍ:
-وده حصل إزاي؟ ما هو بسببها يا ضنايا!!
نظر لها وهو مقطب الجبين، فأكملت على نفس النهج اللئيم:
-ناس حبايبي قالولي إنها عملتلك عمل تخرب به حياتك، وتخسرك كل حاجة.
سألته في خبث لتضمن ملء نفسه بالمزيد من الكراهية والأحقاد تجاهها، فتضمن بذلك انصياعه التام لها:
-قولي إنت شوفت من إمتى الراحة والهنا من بعد معرفتها الشوم؟!!!
تحديث إليه في غير رأفةٍ:
-لو سمعت كلامي، ونفذته بالحرف، صدقني هنرتاح كلنا منها، والدنيا هترجع تضحكلك.
قال بترددٍ:
-بس ده حـ.ـر.ام، وآ...
أسكتته بصياحها:
-وحلال اللي إنت فيه ده؟ لا شغلة ولا مشغلة، ولا جواز، ولا عيال، ولا أي نصيبة خالص!!
لاذ بالصمت مجبرًا، فاستمرت في إحراقه بنيران كلامها:
-وأخوك عمره ما هيسمع كلامي، هيركبها علينا كلنا ويدلدلها فوق رقابنا، بكرة نلاقيها جاية واخدة اللي فاضلنا من ملكنا، وتقعد وتتربع!
عكست تعابيره حينها شرًا متعاظمًا، فابتسمت وهي تزيد من وسوستها الخبيثة إليه:
-اعمل بس اللي قولتلك عليه، وأنا في ضهرك، مش هسيبك
عاد إلى واقعه وهو يسرع في خطواته ليعبر الطريق، استجاب لما دعته إليه والدته، وشرع في تنفيذ ما أملته عليه، كان يعلم جيدًا أن شقيقه لا يتواجد نهارًا ببيته، وينشغل بالعمل ويتشاغل بالبحث عن مصادر الرزق، لذا كانت هذه فرصته المناسبة للذهاب إلى زوجته، والانفراد بها، ليقوم بالجزء الأخطر، ألا وهو تلويث سمعتها بالأكاذيب الباطلة المتعلقة بالشرف والعرض، فيظن أنها قد قامت باستدعائه في الخفاء لتستمر معه في علاقتها غير الشريفة به، فينهي زيجتهما للأبد، غير مكترث بالضرر الذي قد يلحق بها ويدmرها كليًا.
لحظة غادرة لم ينتبه فيها إلى أين يضع قدmه، خاصة مع الزحام الشـ.ـديد، فتجمد في موضعه عنـ.ـد.ما رأى هذه الشاحنة الضخمة تقترب منه، استوعب الخطر وتداركه، وحاول تفادي سائقها الأرعن، كاد أن ينجح في النجاة ببدنه، لولا أن لحقت سيارة أخرى به لم يرها مطلقًا، وكأن القدر قد أعمى بصره، فصدmته في قســـاوة، ودهست ساقيه، لينطرح على الأسفلت القاسي وهو ينزف دmًا غزيرًا، وصوت صراخه يجلجل في الأنحاء.
........................................
بعد أن وصلت إليه الأخبـ.ـار السيئة، اصطحب زوجته، واتجه في الحال إلى المشفى شبه الاستثماري ليتفقد أحوال شقيقه الأصغر، اعتصر الألم قلبه، وبكاه بكاءً مريرًا، خاصة حينما علم بسوء وضعه الصحي. انزوى "عوض" في ركنٍ من ردهة المشفى، وجلس القرفصاء، ثم رفع وجهه المهموم للسماء، ليتضرع إلى المولى بكل أمل ورجاء أن ينظر إليه بعين الرحمة، وينجيه مما هو فيه. تأملته "فردوس" بإشفاقٍ، كانت تشاركه حـ.ـز.نه، وألمه، وربما أكثر من ذلك بقليل، فلم تنسَ أنه أول شخص يخفق فؤادها إليه، وإن تسبب في تهشيم روحها، وإيذائها نفسيًا؛ لكنها كانت على استعدادٍ كامل لمسامحته والعفو عما ارتكبه في حقها، من أجل أن تراه بخير.
نهضت واقفة عنـ.ـد.ما جاءت إحدى الممرضات تسأل عن أقارب المصاب، نادت في الحال على زوجها بصوتٍ مرتفع ومذعور:
-تعالى يا "عوض"، الدكتور عاوزك.
استعان زوجها بمرفقيه ليستند على الحائط، ويقوم واقفًا، كانت قدmاه لا تسعفاه ليسير، فتعثر في مشيه المتخبط إلى أن بلغها، فسألها بنبرته اللاهثة:
-أخويا كويس؟
ردت عليه بحذرٍ، ووجهه يظهر تعبيرًا رسميًا عليه:
-اطمن، احنا عملنا كل حاجة نقدر عليها، بس إنت هتعرف أكتر عن حالته من الدكتور، هو مستنيك في مكتبه.
اندهشت "فردوس" لعزوف الطبيب عن مقابلتهما، وتساءلت في انزعاجٍ مستنكر:
-وهو مطلعش يكلمنا بنفسه ليه؟
هزت كتفيها قائلة بوجومٍ:
-معرفش.
سألها "عوض" بتلهفٍ ملتاع:
-أخويا فين دلوقتي؟
التفتت ناظرة إليه وهي تجيبه:
-في العناية المشـ.ـددة، ومن فضلك متعطلنيش، الدكتور منتظرك هناك.
ثم أشارت إلى بقعة بعينها، حيث تتواجد بها غرف الأطباء، ودلتهما على الطريق، لتتركهما بعدئذ وترحل. أمسك "عوض" بذراع زوجته، جذبه منها، وانطلق إلى حيث أرشـ.ـدتهما قائلًا في قلقٍ متصاعد:
-بينا يا "فردوس" نفهم في إيه.
سارت معه، وهي تضع قبضتها على صدرها، تتحسس نبضاته المتسارعة، لتتمتم بصوتٍ خفيض:
-استر يا رب.
............................................
أمام السرير الممدد عليه شقيقه الموصول بأجهزة طبية، وقف "عوض" يتطلع إليه بحسرةٍ وحـ.ـز.ن، فالطبيب أعلمه بمدى الضرر الجسيم الذي وقع عليه، خاصة نصفه السفلي، و.جـ.ـعله قاب قوسين أو أدنى من المـ.ـو.ت، وإن نجا منه بعد إجراءات عمليات جراحية هامة، فسيصبح عاجزًا حتى يفنى عمره، المؤسف في ذلك الأمر أنه لا يملك من المال ما يساعده على سداد تكلفة هذه الجراحات الضرورية، كان فقيرًا، معدmًا، لا يملك إلا قوت يومه، فكيف له أن يؤمن هذا الكم الطائل من الأموال لإنقاذه؟ بكى في أسى وو.جـ.ـع، غير مكترث بمن يبصره على هذه الحالة المفطورة، من خلفه وقفت "فردوس" تتأمل حالة "بدري" بحـ.ـز.نٍ عميق، لم تتوقع أن يحز في نفسها بشـ.ـدة رؤيته هكذا، لا حول له ولا قوة! تركت هي الأخرى العنان لدmـ.ـو.عها الصامتة تنساب، وأصغت إلى همهمة زوجها المكلوم وهو يرثي حاله البائس:
-يا ريتني أملك حاجة ياخويا وأنا مأخرهاش عنك.
لم تفكر "فردوس" مرتين، وراحت تخبره من تلقاء نفسها:
-أنا كنت عاينة حتت دهب صغيرة، بيعها يا "عوض"، جايز تفيد بحاجة.
استدار قليلًا لينظر إليها، وقال في حـ.ـز.نٍ شـ.ـديد يعبر عن عجزه:
-يا "فردوس" المطلوب ألوفات، واحنا على باب الله.
ردت عليه في إصرار وهي تربت على كتفه:
-أهي نواية تسند الزير.
التف كلاهما معًا نحو فراش "بدري" عنـ.ـد.ما سمعا ندائه الضعيف:
-"عـ..عوض"!
صاحت "فردوس" في تلهفٍ وهي تدفع زوجها للاقتراب منه:
-الحق أخوك فاق.
تحرك الأخير ليلتصق بجانب رأسه المستلقي على السرير، ورجاه بصوتٍ شبه باكٍ:
-مـ.ـا.تتعبش نفسك يا "بدري"، أنا جمبك ياخويا.
بينما تكلمت "فردوس" في سرورٍ حقيقي ظاهر عليها:
-بركة إنك بخير.
عاد "عوض" ليقول بامتنانٍ شاكر:
-ألف حمد وشكر ليك يا رب.
سعل "بدري" بألمٍ، وحاول الكلام، فقال بصعوبةٍ، وبصوتٍ يكاد يكون مسموعًا لكليهما:
-حقك عليا...
احتضن "عوض" كف شقيقه بين راحتيه، واندهش في تـ.ـو.ترٍ وهو يطلب منه:
-سامحني.
كان الأخير يملك من السمـ.ـا.ت الحميدة ما جعله يعفو عنه في التو، وأفصح عن ذلك علنًا بترديده:
-مسامحك ياخويا، المهم عندي إنك ترجع بالسلامة تاني.
مجددًا سعل "بدري" في ألم، وحاول أن يخاطبه، فخرج صوته متقطعًا:
-أنا.. أنا..
رجاه شقيقه الأكبر بتوسلٍ:
-مـ.ـا.تجهدش نفسك بالكلام، بالله عليك حاول ترتاح.
رغم ضراوة الآلام التي تفتك به إلا أنه أصر على مخاطبته قائلًا:
-اسمعني.. بس...
بدا صوته أقرب لنبرة الوداع حينما تابع بعناءٍ:
-جايز تكون دي آخر مرة!
ردت "فردوس" باندفاعٍ نزقٍ، وكأن قلبها من يتحدث لا لسانها:
-بعد الشر عنك، إن شاءالله هتقوم بالسلامة.
اتجه "بدري" بعينين الدامعتين إلى وجه "فردوس"، واستطرد معترفًا في نـ.ـد.مٍ:
-أنا .. كنت .. ناوي .. أوســــخ .. سمعة مراتك .. عشان تطلقها.
شهقت "فردوس" مصعوقة بعد الذي سمعته، وارتجف بدنها بالكامل، في حين تابع "بدري" بصعوبة واضحة:
-بس ربنا أراد.. يرحمها .. من ظلمي ليها.
وكأن أحدهم قد هوى بمطرقة قاسية على رأسها فهشمها بلا رحمة، استنكرت اعترافه الخطير بشـ.ـدة، وصاحت بصوت ناهج ومنفعل:
-إنت بتقول إيه؟
واصل اعترافاته الأخيرة مرددًا:
-كلام أمي .. عماني، وخلاني .. أسعى .. في .. الخراب.
اشتعلت عينا "فردوس"، واحتقن وجهها بحمرة متزايدة، مجرد تخيل احتمالية حدوث فـ.ـضـ.ـيحة كتلك لها كان كافيلًا بتحولها تمامًا لشخصية هجومية، عدائية، وغير متسامحة، لم تصغِ إلى "بدري" وهو يواصل الكلام رغم صعوبة ذلك عليه:
-وأهوو.. ربنا انتقم مني .. ونجدها!
حينئذ انفلتت أعصابها، وخرج من بين شفتيها صيحة أقرب للصراخ، جعلت من متواجد بعنبر الرعاية المركزة ينتبه لهم:
-للدرجادي؟ إنتو إزاي كده؟
نظر لها "عوض" بحسرة وأسف، حاول لملمة الأمر قبل أن يتطور لفـ.ـضـ.ـيحة علنية، فاستجدى شفقة زوجته:
-مش وقته يا "فردوس"!
ردت بعدائية مبررة:
-إنت سامع بيقول إيه؟ دي سمعتي وشرفي يا "عوض"!!
سعلة متحشرجة خرجت من جوف "بدري"، أتبعها قوله النادm:
-خلاص يا خويا، مابقاش في العمر بقية، سامحني، سامحيني يا مرات أخويا.
قال عبـ.ـارته تلك وعيناه متعلقتان بـ "فردوس"، فما كان منها إلا أن وبخته بحرقةٍ:
-حـ.ـر.ام عليك، أنا علمت فيكو إيه عشان تفتروا عليا بالشكل ده؟!
ردت عليها بصوتٍ واهن:
-ربنا خلص ذنبك مني.
ارتفع صراخها الموجوع وهي ترفع كفيها للأعلى، كأنما تشكوه لمن خلق السماوات والأرض:
-حسبي الله ونعم الوكيل.
جاءت إحدى الممرضات إلى العنبر، ونهرت "فردوس" على صياحها المزعج:
-ماينفعش اللي بتعمليه هنا، في عيانين، وحالات حرجة!
ثم حاولت دفعها للخارج وهي تطلب منها:
-اتفضلي لو سمحتي.
تجاهلتها "فردوس"، وظلت تلوم على "بدري" بحنقٍ أشـ.ـد:
-هتروحوا من ربنا فين!
تكلمت الممرضة من جديد بلهجة شبه صارمة موجهة هذه المرة حديثها إلى "عوض":
-يالا يا أستاذ.
كانت آخر كلمة سمعها منه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ويلقى ربه:
-سامحني.
انخلع قلبه لرؤية جسده يسكن تمامًا، فصاح يناديه بجزعٍ فزع:
-"بــــدري"! أخـــــويا!
...........................................
الأيام التي سبقت هذه الليلة تحديدًا مرت عليها مصحوبة بالتـ.ـو.تر والاضطراب، ولما لا تُصاب بالأرق والارتباك وهي تعلم تمام العلم أنها على وشك الزواج بآخر غير زوجها، وبعلمه الكامل؟ أيعقل ذلك؟ مع شخصية كـ "مهاب" كل شيء مباح! لم تعرف "تهاني" ما الذي يجب عليها فعله، الرفض لم يكن خيارًا متاحًا، والقبول كذلك لم يكن أمرًا هينًا، كانت تتحــرق بين نارين، ورغم ذلك التخبط المقلق إلا أن رضخت في الأخير. عصفت بها انتفاضة قوية وباب غرفة النوم يُفتح، تخشبت في موضعها متوقعة حدوث الأسوأ؛ لكن هدأت مُهاجها الملتاعة مع ظهور الخادmة، فقد جاءت لتطلب منها الذهاب إلى غرفة المكتب، حيث ينتظرها البقية لإتمام مراسم عقد القران. صرفتها بلطفٍ، واتجهت إلى المرآة لتتأمل هيئتها، نظرة ملية ألقتها على ملامحها، ما زال يعتريها الخوف، وحتى نظراتها تعكس ذعرها. ظلت تخاطب نفسها، وهي تحاول مقاومة هذه الرعشة الخفيفة التي تنتابها:
-هيحصلي أكتر من كده إيه؟
تحسست صدغها، وكذلك جبينها، قبل أن تواصل الكلام في هسهسة خائفة:
-إنتي اتكتب عليكي تسمعي كلامه، حتى لو حاجة مش مريحاكي.
قاومت ذلك الشعور المناقض الذي يناوشها بشـأن استمالتها لـ "ممدوح"، فهي تخشى من ردة فعل "مهاب" إن علم أن ارتباطها به يستهويها نوعًا ما. تنفست بعمقٍ، وقالت في جديةٍ:
-كله عشان خاطر ابنك.
لكن ما لبث أن اختفت هذه الجدية ليحل الخوف كبديلٍ عنها، نطقت باسمه متسائلة في توجسٍ متعاظم:
-"أوس"! طب هقوله إيه؟
بهتت تعابيرها، وسؤال آخر يلح في رأسه، لم تجرؤ على النطق به:
-يا ترى لما هيكبر هيعرف أمه ضحت بنفسها إزاي عشانه؟ ولا أبوه ممكن يقلب عليا!
لم تذعن لهذا الأفكار السوداوية، وقالت في عزمٍ:
-بلاش أسبق الأحداث، خلي الليلة دي تعدي على خير الأول.
....................................................
الإحساس المزعج الذي لازمه منذ الصباح وحتى هذه الأمسية جعل من غير السهل عليه أن يستدعي سلطان النوم، خاصة مع منعه من الخروج من غرفته طوال اليوم والتحذير من مخالفة هذا الأمر. تقلب الصغير "أوس" في فراشه، وظل ينفخ في ســأم، ضجر من بقائه يقظًا، وبمفرده لوقت طويل. تنبه لأصوات جلبة غريبة تأتي من الخارج، استحثه فضوله على النهوض، وعزز من تلك الرغبة القوية شعوره الطاغي بالملل، لهذا أزاح الغطاء عنه، ونهض من فراشه سائرًا على أطراف أصابعه، تسلل من غرفته في هدوءٍ، واتجه إلى حيث مصدر الأصوات المتداخلة، وجد عدة أشخاص مجتمعين في غرفة المكتب، كان من النادر أن يرى بابها مفتوحًا، فوالده حين يعود من الخارج يذهب إليها، ويمكث بها لساعات دون أن يجرؤ أحد على الدخول إليه إلا لو قام باستدعائه، فيما عدا الخادmة، كانت تختفي لوقت طويل، وكأنه يعجز عن تفسير سبب بقائها لهذه المدة.
اختبأ "أوس" في الزاوية، وحاول رؤية ما يدور من موضعه دون أن يلمحه أحد، وقعت عيناه على والدته وهي تجلس بـ.ـارتباكٍ لافت على الأريكة، عرف ذلك من طريقة هزها لساقيها، كذلك استغرب من ارتدائها لثوبٍ أبيض اللون، فقد كانت لا تحبذه. حرك بصره نحو من يجلس مجاورًا لها، وجد رفيق والده السمج يميل ناحيتها ليهمس بشيءٍ في أذنها، تشنج وجهه، وانزعج من قربه هذا. حجب عنه الرؤية ذلك الجسد الضخم لأحدهم؛ لكنه استطاع أن يلمح عدة أوراق في يده. تحير كثيرًا فيما يحدث بينهم، أرهف السمع محاولًا تفسير تجمعهم المريب ذلك بتفكيره الصغير والمحدود؛ لكنه لم يتمكن، بعد برهة انصرف عدة رجـ.ـال، فتوارى عن أنظارهم لئلا يمسك به أحدهم فيتعرض للتوبيخ. استطاع أيضًا أن يميز صوت والده وهو يقول فجأة:
-كده نقدر نبـ.ـارك ليكم.
سمع صوت "ممدوح" يسأله بجديةٍ:
-إنت متأكد يا "مهاب" إنك مش عاوز حد يعرف؟
رد عليه والده في صرامةٍ:
-دي حاجة عائلية متخصش حد.
تحرك بصر الصغير نحو والدته عنـ.ـد.ما تساءلت في صوت مهتز:
-و"أوس"!
أخبرها وهو يمد يده بكأس المشروب إليها:
-هو لسه صغير، مايفهمش حاجة، وبعدين أمه مارحتش لحد غريب يعني!
رغم صغر سنه إلا أنه شعر بالاستياء، لم يسترح له، ولم يستسغه، وما أكد هذا الشعور المنفر بداخله استهجان أمه الواضح:
-مايصحش الكلام ده.
ضحك "ممدوح" ساخرًا، فاتجه "أوس" بناظريه إليه، ليجده يعلق باستهزاءٍ:
-هو مغلطش يا "تهاني"، أنا يعتبر من العيلة!
طريقته تلك كانت مقيتة، منفرة، باعثة على الانقباض، راقبه "أوس" بعينين ناريتين، وراح يكز على أسنانه في غيظٍ حانق منه، سرعان ما أشاح ببصره ليحدق في أبيه عنـ.ـد.ما تكلم:
-وبعدين الوضع ده مش هيستمر كتير.
تحير في تفسير الأمر، وانتبه لوالده وهو يكمل:
-يدوب لحد ما أرجع من السفر، ساعتها كل حاجة هترجع زي ما كانت.
لم يرفع "أوس" عينيه الحانقتين عن وجه "ممدوح" حين تساءل بصوته الهادئ السمج:
-برضوه مصمم؟
أجابه "مهاب" بما صدm الصغير تمامًا، و.جـ.ـعل رأسه يتحير ويرتبك:
-ترضى أشوفك في حـ.ـضـ.ـن مراتي؟
ازداد صدmة وذهولًا ورفيق والده المزعج يصحح له مقولته:
-كانت .. إنت طلقتها، ودي رغبتك من الأول إني أتجوزها! أنا ماغـ.ـصـ.ـبتكش!
التصق ظهره بالحائط، وتوقف عن مراقبة ثلاثتهم بنظراته المصدومة، فما يحدث يفوق قدرته على الاستيعاب أو التفسير بكثير. تضاعف التـ.ـو.تر بـ "تهاني" فانطلقت تترجوهما بتـ.ـو.ترٍ كبير:
-كفاية يا جماعة الكلام ده، أنا أعصابي مش مستحملة.
ضحك الاثنان منها، فوزعت نظراتها بينهما، وقالت، كأنما تشعر بوجود ابنها، وإن لم تكن تراه فعليًا:
-وأرجوكم مافيش داعي "أوس" يعرف بده، هو صغير ومش هيستوعب حاجة.
استهزأ بها "مهاب"، فقال في غير مبالاة:
-اهدي يا عروسة، مكبرة الموضوع ليه؟ ما يعرف عادي.
شاركه "ممدوح" في نوبة الاستهزاء بها، وأضاف هو الآخر بأسلوبٍ مال للسخرية الوقحة:
-بالظبط، أنا هبقى في مقام أبوه، وقايم بدوره كمان.
تلميحه الأخير كان فجًا في طياته، لذا حذرته "تهاني" بنبرة شبه حادة:
-دكتور "ممدوح"!
عاتبها بطريقته الملتوية في إشعارها بالذنب:
-دكتور، ده أنا بقيت جوزك، ينفع كده الرسمية دي بينا؟
علق "مهاب" ببرودٍ مغيظ، وكأن ما يحدث لا يهمه من الأساس:
-سيبها، مفكرة نفسها بِكر لسه وبتتكسف!
تجرأ الصغير "أوس" على معاودة النظر إليهم، فكان أول من تسلطت عليه نظرته هو والده المتكلم في شيء من الاستمتاع:
-طب ما إنت عارف اللي كان بيتعمل فيها، وبالتفاصيل!
كلمـ.ـا.ت أخرى تحمل في مضمونها ما لا يريح، حاول "أوس" تجاوز ما يسمعه ولا يفهمه، لينظر إلى والدته المتسائلة في قدرٍ من الانفعال بعدmا هبت واقفة:
-إنت بتتريق؟!
وقف "مهاب" قبالتها، وبدا في ملامحه، وطريقته التهديد الصريح وهو يخاطبها:
-إيه مش عاجبك؟!
نهض "ممدوح" في التو، وحــال بينهما بجسده، مشكلًا حاجزًا قويًا، ثم خاطب رفيقه في هدوءٍ:
-"مهاب"، بالراحة!
ثم حول الأمر إلى مزحة سمجة بتعقيبه الموحي وهو يغمز بعينه:
-مش عاوز ليلتي تبوظ معاها.
ربت على كتفه مرددًا بابتسام:
-ماشي يا وَحش! هسيبكم سوا وألحق ميعاد طيارتي.
عقب عليه بتلميحٍ مفهوم:
-ما تطولش، عشان أردلك الأمانة!
أوجز في رده الغامض:
-أكيد!
لم يعد هناك ما يُقال، لذا متسترًا بالعتمة المنتشرة من حوله، انسحب "أوس" من المكان بعدmا علم بما لم يجب عليه معرفته؛ لكن إحساسه الداخلي أكد له، أن وجود هذا الشخص البغيض -كأمر واقع ومفروض عليه- في حياته لن يكون بشيءٍ طيب على الإطـ.ـلا.ق ........................................... !!
↚
(حيل لا تنضب)
صوت احتكاك إطار السيارات والمصحوب بصوت تشغيل المحرك، أكد له أن والده قد غادر بالفعل محيط المنزل في هذه الساعة المتأخرة، تاركًا خلفه رفيقه المتطفل، ووالدته الحزينة. وليتأكد من ظنه انطلق "أوس" تجاه النافذة، أزاح طرف الستارة البيضاء، ونظر بعينين ضيقتين إلى البقعة الخالية بالأسفل. تأهبت حواسه فجأة، وكأن نداء الاستنفار سرى بها عنـ.ـد.ما سمع أصواتًا متداخلة تقترب من غرفته. في التو اندفع ركضًا تجاه فراشه، ثم استلقى عليه، وسحب الغطاء على جسده، مدعيًا استغراقه في النوم العميق.
في هذه الأثناء، وبهدوءٍ شـ.ـديد الحذر، قامت "تهاني" بفتح الباب، وأطلت منه، دون أن تزيح يدها من على المقبض، كأنما تخشى إن فتحته أن توقظ صغيرها بطريق الخطأ. من خلفها وقف "ممدوح" يسألها بشيءٍ من المزاح الثقيل:
-إيه يا حبيبتي، إنتي هتباتي الليلادي عنده ولا إيه؟
أجابته بصوتٍ شبه مرتجف، كما لو كانت تتحرج مما حدث:
-كنت عاوزة أطمن عليه، صعبان عليا أوي اللي بيحصل معايا ومعاه!
اعترض عليها في نبرة جادة، مشوبة بالحقد، رغم خفوتها:
-ما هو كويس وبخير أهوو، ده ابن "مهاب"، وأبوه زي ما إنتي عارفة مستعد يجيبله الدنيا كلها تحت رجليه.
ما لبث أن تحولت نبرته للسخرية حين أكمل:
-ده في سابع نومة، مش دريان بحاجة.
ثم امتدت يده لتلتف حول خصرها لتطوقها منه، وطلب منها وهو يدنو برأسه بالقرب من أذنها ليخاطبها في همسٍ عابث:
-خليني أنا أبات في حـ.ـضـ.ـنك، ما تحرمنيش من قربك ده.
وقتئذ تشنجت عضلات "أوس"، وتحفز في نومته، فهذه العبـ.ـارة لم تكن مريحة أو مقبولة له بالمرة، تحيرت أفكاره، وأصابه التخبط، فكيف لأمه أن تسمح لهذا اللزج بلمسها والتودد إليها؟ هناك أمر ما خاطئ يحدث وهو لا يستطيع تفسيره أو فهمه.
سحبها "ممدوح" للخارج، وتعمد تقبيل منحنى عنقها بطريقة ناعمة، مؤثرة، ومليئة بالإغواء، على مرأى ومسمع من الصغير الذي بقى متجمدًا في موضع نومه يشاهد بنصف عينٍ ما يدور باستنكارٍ جلي. سرعان ما استلت "تهاني" يدها من على المقبض، لتلتف تجاهه، وتنظر إليه باشتهاءٍ ورغبة، تعلقت بذراعيها حول عنقه، فدللها الأخير بإغراءٍ أكبر، ليجعلها تذوي، وتذوب، وتطلب المزيد. لم يكترث للحظة بمسألة ترك الباب الخاص بغرفة الصغير مواربًا، ولم يهتم إن استيقظ ورأى ما يفعله بأمه.
رغمًا عنه أُجبر "أوس" على مشاهدة توددهما الحميمي بهذا الشكل الفج والنافر، مما جعل عقله يصاب بشيءٍ من الصدmة والذهول. انفلتت شهقة خجلى مصحوبة بضحكة مائعة من "تهاني" حينما انحنى "ممدوح" قليلًا ناحيتها ليحملها على كتفه، ركلت بساقيها في الهواء بخفةٍ، وسألته في غنج خجل:
-إنت بتعمل إيه؟ نزلني!
أخبرها وهو يهم بالسير بها بعيدًا:
-كان نفسي أعمل كدده من زمان.
هتفت في التو، وكأنها انتبهت لمدى التجاوز الدائر أمام غرفة صغيرها:
-طب استنى أقفل الباب، لأحسن "أوس" يصحى أو يشوفنا.
ضحك في تسلية، وبصوتٍ شبه مرتفع، ليقول بعدها بغير مبالاة:
-وماله، خليه يتعلم إزاي يدلع حبيبته ويبسطها!
لحظتها انقبض قلب الصغير بشكلٍ مفزع، وبدا رافضًا لهذا التجاذب غير المستساغ بينهما، ظل عقله يمتلئ بعشرات الأسئلة دون أن يجد لها أي إجابة مقنعة، أين والده من ذلك؟ لماذا رحل ليلًا وترك أمه مع غيره يفعل بها مثلما اعتاد أن يفعل حينما يختليا معًا؟ أليس من المفترض أن ينصرف رفيقه قبل ذهابه؟ أخذ يفكر، ويعتصر رأسه محاولًا استيعاب الخلل الحادث في هذه العلاقة المريبة!
.................................................
وقتما انفرد بها في غرفة نومها، راودها هذا الإحساس الغريب والمقلق بأن "مهاب" –رغم غيابه- يراقبهما، للحظة شعرت وكأنه سيداهم المنزل ليمسكها بالجرم المشهود، فيحيل حياتها إلى جحيم بشكل قاس. انتفضت في فزعٍ مع أول لمسة لـ "ممدوح" على جسدها، استنكر هذه الرهبة الغريبة منها، وسألها في عبوسٍ:
-مالك؟
مدفوعة بتـ.ـو.ترها الحرج ردت وهي تتراجع عنه:
-حاسة إني مش مرتاحة، في حاجة غلط.
تفرس فيها معلقًا بجديةٍ:
-جوازنا شرعي يا "تهاني"!!
ازدردت ريقها، وأوضحت له مخاوفها:
-أيوه، عارفة ده، بس "مهاب" مش سهل يسيب حاجة معتبرها ملكيته الخاصة.
صحح لها في إصرارٍ وهو يسحبها برفقٍ من ذراعها ليضمها إلى صدره:
-بس إنتي مابقتيش خلاص بتاعته!
ثم أراح رأسها على كتفه، وظل يمسدها في حنوٍ وهو لا يزال يتابع:
-إنتي من النهاردة ليا لواحدي.
بالتدريج استكانت رهبتها مع مداعبته اللطيفة، أغمضت عينيها مستمتعة بإحساس الأمان الذي راح يبثه لها، فواصل "ممدوح" على نفس المنوال المثير:
-وأنا عارف إزاي أنسيكي كل حاجة...
توقف لهنيهة عن الكلام قبل أن يتم جملته ضاغطًا على كل حرفٍ فيها ببطءٍ:
-وخصوصًا "مهاب"!
بعدئذ شرع في البدء في وصلة متمرسة من الملاطفات والمغازلات المحفزة والودية ليجعلها تضحك، وتتفاعل معه، ثم استخدm أسلوبه الاحترافي لتتجاوب مع ما يمنحه لها من تشويق ومتعة، ناداها هامسًا بحروف اسمها في تناغم مثير، فذابت أكثرر واتقدت مواطن المشاعر بها. كانت بين يديه كمن يغفو من نشوة الخمر الممزوج بعواصف الهوى.
في قربه منها، لاحظت "تهاني" أن طريقة "ممدوح" معها مغايرة تمامًا لما عايشته مع "مهاب"، فالأخير مال أسلوبه للإهانة والإذلال، بينما الأول لجأ للتدليل والإغواء، كلاهما كانا على النقيض في تعاملهما معها، لتشعر بالفارق الكبير بينهما حتى في الأمور الحسية والرغبات الجسدية.
تعمد "ممدوح" استخدام هذه الوسائل الناعمة ليجعلها طوع بنانه، طامعة دومًا فيما يقدmه لها، فإن حانت لحظة الانفصال بينهما، ظهرت نتائج ذلك برفضها كليًا العودة إلى زوجها السابق، فيحقق بذلك انتصارًا جديدًا عليه بإفساد علاقتهما نهائيًا!
...............................................
على الفراش الدافئ، وتحت الأغطية الحريرية الناعمة، استلقت بجواره واضعة رأسها على صدره العاري، وعيناها متعلقتان بأصابعهما المتشابكة معًا، كما لو أنها تحاول بشتى السبل المتاحة حفر هذه الذكرى المميزة بتفاصيلها الممتعة في ذاكرتها للأبد، كانت في حالة انسجام غير طبيعية معه، لم تصدق أنها أسلمت له نفسها بهذه السلاسة، وكأنها متحرقة شوقًا لاقترابه، ولم يبخل عليها بما يجيده لتتذوق معه معاني الاختلاف والتفرد. رفعت "تهاني" عينيها الناعستين لتنظر إليه، واستطردت متحدثة في صوتٍ خافت، يحمل قدرًا من التوجس:
-خايفة أكون بحلم.
حاوطها بذراعها، وراح يمشي بأطراف أصابعه على بشرتها الناعمة وهو يخاطبها بلطافةٍ زائدة:
-أوعي تخافي وأنا جمبك.
رمشت بعينيها متابعة في خوفٍ متأصل بداخلها:
-بس "مهاب"...
اغتاظ من اقتحام رفيقه حتى لأشـ.ـد لحظاتها خصوصية، فعاتبها في رقةٍ رغم انقلاب ملامحه:
-ينفع تفكري في حد تاني وإنتي في حـ.ـضـ.ـن جوزك؟
في التو اعتذرت منه لرعونة لسانها مبررة موقفها:
-أنا أسفة، مقصدش، بس إنت عارف الوضع معاه كان عامل إزاي، ومش سهل عليا أنسى اللي شوفته.
استشعر التـ.ـو.تر في صوتها، فهون عليها الأمر بقوله المقتضب؛ لكنه عنى لها الكثير:
-عارف، وفاهم!
عمد إلى تغيير مجرى الحديث إلى شيء آخر ممتع، فسألها مقترحًا:
-تحبي نقضي بكرة فين؟
تنهدت بعمقٍ، وأجابته بغير اهتمامٍ:
-مش جاي في بالي حاجة، ده غير إن ماينفعش أسيب "أوس" لواحده وآ...
قاطعها بوجه مال للعبوس:
-هو معاه المربية بتاعته ...
كادت تعترض عليه؛ لكنه أسكتها بإصراره:
-اعتبري نفسك في تكليف طبي عاجل!
ثم أحنى رأسها على شفتيها يقبلها منهما بقبلة عاشقة، لم تعهد مثلها طوال سنوات زواجها قبل أن يتوقف ليهمس لها:
-أنا عاوز أعيشك في الجنة معايا.
أنهى جملته بالشروع في تجديد طقوس العشق معها، لتتناسى تمامًا ما كان يؤرقها مضطجعها قبل لحظات.
................................................
منذ أن تزوجت به رسميًا، وهي تحاول جاهدة بكل طاقاتها أن تجعل حياتها الأسرية مستقرة، رغم كل المعوقات والعقبات التي واجهتها. صمدت، وكافحت، وكابدت العناء لئلا تهدm ما سعت لبنائه، وإن كان عدm الانجذاب قائمًا بينها وبين زوجها. كان الأخير يؤدي ما عليه من واجبات بشكلٍ روتيني ثابت، وهي تلتزم بما فُرض عليها دون شكوى أو كلل؛ لكن هذه المرة فاق الأمر قدرتها على الاحتمال أو السكوت، فقد مس أغلى ما تملك، شرفها!
لم تطق "فردوس" الذهاب أو المشاركة في مراسم الدفن والعزاء الخاصة بشقيق زوجها، وكيف لها أن تفعل وقد راح يطعن بافتراء مجحف عليها لمجرد أن والدته لا ترتضي بها زوجة لأي من أبنائها؟ واستها "إجلال" في مصابها، وسعت لتخفيف وطأة قساوة هذا الأمر عليها بترديدها:
-هوني على نفسك يا حبيبتي، بلاش تقهريها أكتر من كده!
ردت عليها بصوتها الباكي المبحوح، ودmـ.ـو.عها تُسال بغزارة:
-هو اللي أنا فيه قليل؟ يرضي مين بس اللي بيحصلي ده!
أخبرتها بيقينٍ:
-ربنا موجود وبيخلص!
ثم سكتت للحظة قبل أن تفصح لها عن هاجسها المُحير:
-بس أنا خايفة الناس تفهم غيابك غلط، ويفسروه بحاجات تانية، ما إنتي فاهمة اللي مايعرفش يقول عدس.
صاحت في حرقةٍ، والألم يعتصر قلبها:
-محدش ليه حاجة عندي، أنا اللي موجوعة، أنا اللي اتظلمت.
أمسكت بعدئذ "فردوس" بمنديلها القماشي، ومسحت به دmـ.ـو.عها، قبل أن تضعه على أنفها لتجفف ما سال منه، وهي لا تزال تنوح في أسى وحنق:
-ربنا يجحمه مطرح ما راح الظالم المفتري، قِبل إزاي على نفسه كده؟
لم تجد "إجلال" ما تعلق به عليها، فلها كل الحق في اتخاذ موقف معادٍ جراء ما حدث، تركتها تفرغ ما يملأ صدرها من غضبٍ محموم، واستمعت إليها وهي تكمل في كراهية معللة:
-منها لله أمه، عقبال ما أشوف بعيني انتقام ربنا فيها!
اكتفت بهز رأسها تعاطفًا معها، وامتنعت عن ممارسة أي ضغوطٍ أخرى لإقناعها بفعل العكس، فما انقطع بقساوة لا يمكن أن يوصل ببساطة!
..............................................
جلس في مقدmة الصفوف يتابع عن كثبٍ، وباهتمامٍ غير طبيعي، واحدة من اللقاءات الاجتماعية المقامة في النادي، ليس لأنه من محبذي هذه الموضوعات النسائية، أو لكونه من داعمي تلك القضايا المطروحة، بل لأنها من ضمن المشاركين في هذا التجمع. استغل "مهاب" معرفته بإحدى العضوات، ذات الصلة الوثيقة بـ "ناريمان"، ليجري معها نقاشًا جادًا حول إحدى المسائل المرتبطة بذلك اللقاء، على أمل أن تأتي رفيقتها إليها، فيتمكن من التحاور معها، استغربت السيدة لتحمسه الزائد عن الحد، وسألته بشيءٍ من الفضول:
-من إمتى بتهتم بالاجتماعات النسائية دي يا دكتور؟
ابتسم في وقارٍ، فتابعت متبسمة بتشكيكٍ محسوس:
-احنا نادرًا لما بنشوفك أصلًا هنا في النادي.
باحترافية محنكة أعطاها حجته المنطقية التي انطلت عليها في الحال:
-ده لظروف سفر المستمرة كل شوية، بس أنا بحب أتابع كل جديد يخدm المجتمع، وخصوصًا السيدات والبنات.
تطلعت إليه بغرابةٍ وهي تعقب على ما أدلى به:
-مع إنك راجـ.ـل، يعني الأفضل تدعم المجتمع الذكوري.
أوضح لها بهدوءٍ:
-مين قال كده؟ بالعكس أنا مع المرأة جدًا، وآ..
قطع نقاشهما المتحضر إطلالة "ناريمان" الرقيقة عليهما وهي تلقي التحية بدلالٍ:
-هاي.
نهضت السيدة من مقعدها، واحتضنتها في محبةٍ، قبل أن تمتدح جهودها بفخرٍ:
-"ناريمان" كنتي روعة النهاردة.
ردت مجاملة، وهي تدور بعينيها على الضيف المألوف الذي نهض أيضًا لتحيتها:
-ميرسي.
امتدت يد "مهاب" لمصافحتها وهو يخاطبها برسمية مهذبة:
-أهلًا يا هانم.
قالت في نعومة وهي تمنحه كفها ليصافحه:
-أهلًا بيك.
لم يترك كفها، بل انحنى قليلًا بعدmا رفعه إلى فمه ليقبله، ثم أسبل عينيه وسألها بملامحٍ اتخذت شكلًا جديًا:
-أخبـ.ـارك إيه يا هانم؟ وإزي الوالد؟
تفاجأت مما اعتبرته رقيًا زائدًا، واستعادت يدها مبتسمة، لتعقب بتحيرٍ:
-لو مخانتنيش الذاكرة، فأنا شوفت حضرتك قبل كده، مظبوط؟
أكد لها ظنونها بنفس الوجه الهادئ الممزوج بملامح الجدية:
-ده حقيقي، كنت مع والدك "شوقي" باشا من قريب، عشان الشراكة الجديدة مع عيلة "الجندي".
هزت رأسها كأنما استحضرت الذكرى، وردت:
-أها، افتكرت.
إضاعة فرصته معها كان مستبعدًا، لذا استأذن بلباقةٍ وهو يشير بيده إلى طاولته:
-تسمحيلي أعزمك على حاجة؟
رفضت بشكلٍ حاسم:
-مش هينفع، أنا مرتبطة بمواعيد.
لم يبدُ "مهاب" منزعجًا من رفضها المحرج له، وأضــاف بدبلوماسية راقية:
-مافيش مشكلة، كفاية إني شوفتك النهاردة.
اندهشت أكثر لطريقته الرسمية تلك، وظهر الاستغراب في نظراتها إليه، ومع ذلك حافظت على معاملتها المتحفظة معه بردها المقتضب:
-أها .. أوكي.
ثم التفتت ناظرة إلى رفيقتها لتخاطبها:
-أنا ماشية، لو جاية معايا تعالي أوصلك في سكتي.
في الحال قبلت دعوتها، وردت:
-طيب...
ثم استدارت تستأذن ضيفها لهذا اليوم بالذهاب وهي تمد يدها لمصافحته:
-فرصة سعيدة يا دكتور "مهاب".
بادلها المصافحة؛ لكنه لم يفعل معها مثلما تودد إلى "ناريمان"، وقال:
-أنا الأسعد.
في خبثٍ ماكر وجه حديثه إلى فريسته الجديدة مخاطبًا إياها:
-عندي أمل نتقابل تاني يا "ناريمان" هانم.
مطت فمها مرددة:
-ممم.. أكيد، عن إذنك.
انصرفت مجاورة لرفيقتها، فظلت نظراته الثاقبة عليها حتى اختفت عن محيط نظره، وقتئذ همهم معقبًا بخفوتٍ ساخر:
-تقيلة! بس على مين!!
عاود الجلوس على مقعده، واسترخى أكثر عليه بعدmا حل زر سترته، كان كالحاوي الذي يمتلئ جرابه بعشرات الحيل والألاعيب، اتسعت ابتسامته اللئيمة ليتابع في غرور واثق، وغير قابل للتشكيك:
-كله في الآخر بيجي تحت رجلي!
...........................................
اعتمادًا على ما كان بينهما سابقًا من صداقة قريبة، توطدت في وقت وجيز علاقتهما الجديدة كزوجين متفاهمين، مما دفع "ممدوح" للتجرؤ، واقتراح ما لم تفكر فيه زوجته مطلقًا، أو حتى يطرأ ببالها، ألا وهو طرد المربية الأجنبية التي تسببت في إذاقتها ألوان الإذلال والانكسار. ارتعبت "تهاني" من مجرد الفكرة، وتوسلته ليعدل عنها في توجسٍ ظاهر:
-بلاش يا "ممدوح".
استنكر رهبتها، كما أحس كذلك بالتـ.ـو.تر المخلوط بالخوف في لهجتها، خاصة عنـ.ـد.ما واصلت على نفس النهج:
-"مهاب" مش هيعدي الحكاية دي على خير، وجايز يقلب عليا، وأنا مش عاوزة عداوة معاه.
احتضن جانب وجهها بيده، وأكد لها في ثقةٍ تامة:
-متقلقيش، هو مايقدرش يقولي لأ في أي حاجة.
بدت غير مقتنعة بما يقول، فاستمرت في التشـ.ـديد على صِدق نواياه:
-وبعدين أنا برجعلك كرامتك، واحدة زي دي مالهاش مكان هنا.
عكس وجهها الشاحب قلقها الزائد من تطبيق ذلك فعليًا، وأبقت على اعتراضها المرتاع:
-بس آ...
أوقفها قبل أن تكمل جملتها بسؤاله المعاتب:
-تاني هتعارضيني يا حبيبتي؟ مش واثقة في قدراتي ولا إيه؟
بررت له أسباب ذعرها:
-أنا مقدرش أتوقع اللي ممكن يعمله، إنت أكتر حد عارف شره ممكن يوصل لإيه.
تبسم في عنجهية مغترة قبل أن يداعب شحمة أذنها بإصبعه وهو يكلمها:
-إنتي مـ.ـا.تعرفنيش كويس، وده يزعلني على فكرة!
انتصبت شعيرات يديها مع لمساته الرقيقة المداعبة، فانتقل إلى المستوى الأعمق في استثارة مشاعرها مثلما يجيد، ليستحثها على الاعتراف له فجأة، وبشيءٍ من الاندفاع:
-"ممدوح"، تعرف أنا بدأت أحس فعلًا إنتي متجوزة راجـ.ـل بجد خايف عليا.
شملته بنظرة شغوفة، متعطشة للتمتع بالمزيد من هذا الشعور الرائع بالأمان والاحتواء، واسترسلت بشجاعةٍ:
-مش عاوزة أفوق من الأحلام الجميلة دي ألاقي الدنيا مهدودة فوق راسي، أنا ممكن أنهار، وأروح فيها.
جذبها من رأسها إليه، لتشعر بقوة ذراعيه على لحم جسدها الطري وهي يضمها بتحكمٍ، ليأتيها بعدئذ صوتها الهادئ والمؤكد لما تتوق لسماعه:
-اطمني، طول ما أنا جمبك مش هتشوفي غير كل حاجة حلوة.
أغمضت عينيها في راحة، تاركة لنفسها الحرية الكاملة للتلذذ بهذا الإحساس النفيس، وراحت تردد في رجاءٍ منقطع النظير:
-يا ريت!
............................................
اجتمع كلاهما على مائدة طعام واحدة، تبادلا فيها النظرات الكارهة، والمشاعر النافرة، ولم يحاول أيهما إخفاء ذلك الإحساس أو إنكاره. حدق "ممدوح" بنظرات مطولة، وحادة، وبتعابيره المتجهمة في وجه الصغير الجالس على يمينه، بعدmا احتل مقعد رأس الطاولة، كأنما يملك هذا البيت، وجميع من فيه يخضع لإمرته. استطرد متحدثًا إليه في بغضٍ ظاهر في نبرته قبل ملامحه:
-كأني شايف أبوك قصادي.
تضمنت جملته إهانة متوارية، ووصل مضمونها للصغير، وما عزز من شعور النفور ما فاه به بتأففٍ:
-نفس سحنته، وبصته!
احتقنت عينا "أوس" بوضوحٍ، وانعكس على تقاسيمه الضيق، حدجه بنظرة نارية ناقمة، فاشتاط منها "ممدوح" وحذره في غلظةٍ رغم خفوت صوته:
-مـ.ـا.تبحلقش أوي كده.
ببراءة صريحة أخبره الصغير:
-أنا مابحبكش!!
التوى ثغره بشبح ابتسامة متهكمة قبل أن يجيء تعقيبه مغلفًا بالإهانة:
-ولا أنا يا .. ابن "مهاب"!
شتت طوفان حرب النظرات المتبادلة بينهما عودة "تهاني" من المطبخ وهي تحمل في يديها أطباق الطعام الشهية، رصتها في موضع كل فردٍ، وقالت بتفاخرٍ:
-بصوا بقى النهاردة أنا عاملة الأكل بإيدي، يا رب يعجبكم.
نظرة ماكرة سددها "ممدوح" للصغير، قبل أن يتعمد تطويق خصر زوجته بذراعه، ليجذبها بعدها بقوةٍ طفيفة تجاهه، فسقطت في حجره، وأصبحت محاصرة في أحضانه، ليمنحها قبلة جريئة على شفتيها وهو يمتدح مجهودها المبذول:
-أي حاجة منك حلوة يا حبيبتي.
تحرجت للغاية من تصرفه المتجاوز، وحذرته في ارتباكٍ وهي تحاول التملص منه:
-"ممدوح"، مايصحش كده ..
لم يفلتها منه، فاستمرت تضغط عليه بتـ.ـو.ترٍ:
-"أوس" قاعد!
قصد النظر بعينين مليئتين بالتحدي إلى الصغير، وقال في شيءٍ من الاستفزاز:
-معقول هيغير مني عشان بعبر عن حبي ليكي؟!
ثم أعطاها قبلة أخرى جائعة، جعلت "أوس" يتحفز في جلسته، ويزداد وجهه اشتعالًا واستنكارًا لما يقوم به. بالكاد نجحت "تهاني" في التخلص من حميمـ.ـيـ.ـته المخجلة لها، وهمست في تدليلٍ:
-خلينا لما نكون لواحدنا.
رد غامزًا بطرف عينه:
-مستني ده على نار.
اتجهت "تهاني"، والحرج مستبد بها، إلى جانب طفلها، حاولت حثه على تناول الطعام بقولها الحاني:
-كُل يا حبيبي، خلص طبقك كله.
فقد الصغير شهيته جراء ما شاهدته، وانتفض ناهضًا في عصبية، ليقول بوجومٍ شـ.ـديد:
-مش جعان.
استاءت من تصرفه الطفولي، وألحت عليه بتصميمٍ:
-إنت مكالتش حاجة، كده هزعل منك يا "أوس"!
نظر لها بغيظٍ، وانطلق دافعًا إياها بقدرٍ من الخشونة ليتجاوزها، تفاجأت من معاملته المتجافية معها، ووبخته في صدmةٍ مستهجنة:
-إنت هتسيبني وتمشي!
تجاهلها عن عمدٍ، فصاحت من ورائه تناديه بضيقٍ أكبر:
-"أوس!!!
تدخل "ممدوح" من تلقاء نفسه في شأنه هادرًا به بخشونةٍ أجبرته على التوقف، والاستدارة:
-استنى هنا!
احتدت نظرة الصغير إليه، فتابع زوج والدته تعنيفه المهدد
-مش مامتك بتكلمك، يبقى تقف وتسمعها، وإلا هتشوف الو شالتاني!
اضطربت "تهاني من صدامهما الأول، وهتفت في قلقٍ وجل:
-خلاص يا "ممدوح"، مافيش داعي، سيبه على راحته...
ثم وجهت حديثها إلى طفلها تأمره بلطافةٍ غريبة:
-امشي يا حبيبي على أوضتك.
أبدى "ممدوح" انزعاجه من تراخيها الواضح في أسلوب تنشئتها له، وعبر عن ذلك قائلًا:
-دلعك ده هيبوظه، الولاد عاوزين الشـ.ـدة والحزم.
أخبرته بهدوءٍ ما زال مشوبًا بالقلق:
-أنا عارفة، بس بالراحة شوية، الوضع متغير عليه، وهو أكيد مستغرب اللي حاصل، اديله وقته، وهو هيتعود، صدقني.
زم فمه للحظةٍ قبل أن يعلق:
-طالما إنتي شايفة كده.
كغيمةٍ تكونت فجأة وانقشعت من السماء، تبدلت أحوال "ممدوح" المزعوجة إلى أخرى مرتخية، متأهبة، فأخذ يغازلها بالمعسول من الكلام ليضمن تأثيره واستحواذه على كل ذرة تخصها:
-بس إيه الحلاوة دي، أنا محظوظ بيكي يا حبيبتي.
ابتسمت في رقة حين ردت:
-أنا الأكتر، ربنا يخليك ليا.
ترقرق كثيرًا في ملاطفته لها، حتى تبدد ما كان من تـ.ـو.تر مشحون، لتنسى بعد برهة شأن صغيرها، وتتلهف بوجدانها لتذوق ذلك النعيم الزائف المقدm إليها ......................................... !!
↚
(ألن ينزاح الهم أبدًا؟)
لم ينجح في مغالبة شعوره بالضيق، والذي ظل ملازمًا له منذ سفر رفيقه، وبقائه في منزله كالضيف الغريب، خاصة مع غموض موقفه تجاه استمرار هذه الزيجة، والتي تخطت في مدتها ستة أشهر. سرح "ممدوح" في أفكاره المزعوجة، خاطب نفسه في شيءٍ من التشاؤم: -المرادي طولت الغيبة أوي يا "مهاب"، سبتني لابس في مصيبة، وإنت عايش حياتك!
فرك طرف ذقنه، وواصل ذلك الصوت الكلام في طيات رأسه بما بدا أشبه بالوعيد:
-مسيرك هترجع، هتروح مني فين، ما هو لازم يكون لليلة دي نهاية!
في خضم شروده المعتاد، لم ينتبه "ممدوح" لقدوم زوجته لتجلس معه، بدت بهية الطلة وهي ترتدي أفضل ما لديها من ثياب مغرية، لتمنحه نفحة جديدة ومتجددة من السعادة المشوقة بالتحامهما الجسدي. لفت كتفيه بذراعها، ونظرت إليه بشغفٍ وهي تسأله:
-حبيبي، سرحان في إيه؟
أجاب نافيًا، وهو يلصق بثغره هذه الابتسامة المتصنعة:
-مافيش يا قلبي.
زوت ما بين حاجبيها متسائلة بإصرارٍ:
-هتخبي عليا برضوه؟ مش احنا اتفقنا نكون صُرحا مع بعض على طول؟
تعلل بحجة كاذبة، لينجو فقط من حصارها المزعج له:
-يعني الدنيا مقفلة شوية معايا، وأنا مش عارف أجيبلك بيت كويس نعيش فيه.
دون تفكيرٍ مسبق أخبرته بنزقٍ وقد سحبت ذراعها لتمسك بكفه وتحتضنه بين راحتيها:
-أنا حالي ومالي ليك.
نظر لها باهتمامٍ، فقد غفل عن أنها أصبحت ميسورة الحال بعد تبدل وضعها الوظيفي، واقترانها بسليل عائلة "الجندي" لسنوات، حتمًا جيبها لن يكون خاليًا من الأموال. سرعان ما حول تحمسه الفجائي لامتعاضٍ عابس وهو ينهرها، كأنما قد استاء من تلميحها:
-الكلام ده مش عايز أسمعه منك!
استندت برأسها على كتفه، وخللت أناملها بين أصابعه لتتشابك معًا، ثم رفعت يدها الأخرى الطليقة نحو عنقه لتداعبه برفقٍ، قبل أن تصر عليه بكلامها:
-يا حياتي أنا وإنت بقينا واحد، وكل اللي معايا ليك ولـ "أوس"!
الإتيان على ذكر ذلك الصغير المغيظ له جعل دmائه تتحفز، وينتابه شعور الغيرة والحقد تجاهه. كان "ممدوح" متأكدًا أن زوجته لن تبدي رفضها لأي مقترح يطرحه عليها، خاصة بعدmا تمكن منها، وعرف كيف يستحوذ على وجدانها قبل عقلها، فأصبحت معه كالمغيبة، تُســاق كالبهائم إلى حيث يريد، لهذا انتهز الفرصة ليقترح عليها إرســال طفلها إلى مدرسة داخلية متخصصة فقط في تنشئة وتعليم أبناء الطبقة الراقية، حتى يتمكن تمامًا من الانفراد بها، ونهب ما تملك بمكرٍ وعلى راحته. اندهشت لما فاه به، وهتفت في اعتراضٍ بعدmا استعادت يديها:
-مدرسة داخلي؟ "أوس" صغير أوي على كده، بيتهيألي مالوش لازمة!
صمم على اقتراحه بجديةٍ غريبة:
-صدقيني ده هيفيده، ويعلمه الانضباط.
صمَّت أذنيها عن كلامه، وهتفت تخبره بملامح متجهمة، قبل أن تنهض من جواره:
-إزاي أوافق بده، وأنا عملت كل حاجة صعب تتخيلها عشان أفضل جمبه؟!
كان جيدًا في قراءة تعبيرات الوجه، وعلم من قسمـ.ـا.تها أن استمراره بالضغط عليها لن يؤتي بالنتائج المرجوة، لهذا ادعى تراجعه عن الأمر، وقال في دبلوماسيةٍ وقد نهض هو الآخر:
-ده مجرد رأي يا حبيبتي، وإن كنت بفكر بالشكل ده فعشان تحطي في اعتبـ.ـارك مستقبلك، ومـ.ـا.تفضليش كده متعطلة بسبب طفل صغير.
استدارت لتواجهه، وهتفت بتحفزٍ:
-اللي بتتكلم عنه ابني الوحيد.
وضعت كلتا يديه على منبتي ذراعيها، مسدهما في رفقٍ، وقال باسمَا:
-يا حبيبتي ده هيروح أحسن مدرسة، هتعلمه كل حاجة على أصولها، ما إنتي بنفسك شايفة مغلبنا إزاي مع المربيات.
كان محقًا في الجزئية الأخيرة من حديثه، فـ "أوس" لا يتوقف أبدًا عن التشاجر مع المربيات، ولا عن افتعال المشاكل معهن، حتى يعتذرن عن العمل. التقط "ممدوح" لحظة التردد التي سادت في تعابيرها، وقال في خبثٍ ليقنعها:
-وبعدين "مهاب" ماعندوش مانع بكده.
سألته في دهشة كبيرة:
-إنت كلمته؟
تصنع الابتسام، وأجابها في هدوء جاد:
-اقترحت الحكاية عليه وسط مواضيع تانية، وكان رأيه زيي، نعمل الأصلح لـ "أوس".
انعكس التردد على محياها، ومع ذلك لم تعطه الرد القاطع، وتكلمت بعد تنهيدة سريعة:
-طب سبني أفكر الأول، وأدرس الموضوع.
اتسعت ابتسامته الماكرة أكثر، وأبدى ترحيبه قائلًا، وهو لا يزال يجري بيديه صعودًا وهبوطًا على طول ذراعيها:
-خدي راحتك يا حياتي، اللي يهمني في النهاية إنه يكون زيك أحسن حد.
تساءلت "تهاني" بعدئذ وهي تهم بالسير لتعود إلى حيث كانا يجلسان في الأول:
-هو "مهاب" مقالكش راجع امتى؟
مط فمه قليلًا، ثم جاوبها بعدmا استقر مجاورًا لها:
-ماظنش دلوقتي، الباشا أبوه تعبان، وهو موجود مكانه.
تنهدت في ارتياحٍ شـ.ـديد قبل أن تعلق:
-ربنا يبعده عننا.
اكتفى بالابتسام، فاستطردت مسترسلة في حديثها إليه:
-تعرف، من يوم ما هو سافر واتجوزتك وأنا حاسة بنفسي بني آدmة حرة، ليها مشاعر وكيان.
مرر ذراعه من خلف ظهرها ليحاوطها، ضمها إلى صدره، وأخبرها بلطافةٍ، وهذه النظرة الغامضة تبرق في حدقتيه:
-ولسه كمان، لما أحلامك كلها تتحقق.
نظرت إليه في محبةٍ، فأحنى رأسه على شفتيها يقبلها منهما، ليضيف في صوتٍ أقرب للهمس ليستميل فكرها:
-إنتي بس اسمعي كلامي، وهت عـ.ـر.في إن معايا حق.
.................................................
غادر منزله مرغمًا، وليس بإرادة منه، كان مجبرًا على إطاعة الأوامر ولو قسرًا، تذمـ.ـر.اته، شكواه، حتى احتجاجاته لم تلقَ أي صدى، في الأخير تم استبعاده ليُرسل إلى هذه المدرسة الداخلية وحيدًا ومهمومًا. عيناه الغائرتان في وجهه كانتا توحيان بغضبٍ مكتوم، خاصة أن والدته لم تصحبه، ولم تودعه، بدا الأمر من وجهة نظره وكأنه تم لفظه من موضع سكنه لتستمتع هي بحميمـ.ـيـ.ـتها الزائدة مع زوجها السمج. الدندنة المستفزة التي راح يرددها "ممدوح" في قدرٍ من الهمس وهو يقود السيارة كانت تحقن دmائه، وتجعله يبدو كأتونٍ متقد على وشك الانفجار في أي لحظة.
طوال الطريق استمر "ممدوح" في النظر إليه عبر المرآة الأمامية بين الحين والآخر في تلذذ مغيظ، قبل أن يردد على مسامعه، كأنما يظهر له الشمـ.ـا.تة:
-شوفت، أنا بنفسي اللي جاي أوصلك.
تأمل هذا التعبير الحانق على وجه الصغير، وتمتع أكثر برؤيته يعاني، فزاد من استفزازه بقوله:
-مع إن أمك كان هيجرالها حاجة وتيجي، بس عرفت أقنعها تفضل بعيد، ما هي بقت زي الخاتم في صوباعي.
ثم أطلق ضحكة عالية ليضاعف من شعوره بالحقد، وأضاف بعدها عن عمدٍ ليشكك في مشاعرها الأمومية تجاهه:
-إنت مش عارف هي بتعشقني إزاي، ده يمكن أكتر منك.
عاود الضحك ليستثير أعصابه أكثر، وراح كمل نفس الدندنة السمجة دون أن يكترث بصمته المشحون، معتقدًا أنه بذلك يهشم روحه، ويكـ.ـسر كبريائه الموروث.
..........................................
بعد وقت ليس بقليل، تباطأت سرعة السيارة حينما وصل "ممدوح" لمنطقة شبه معزولة عن الجميع، محاطة بأسوارٍ مرتفعة من الأسمنت، فتحجب من بداخلها عن رؤية ما يدور بالخارج. أشار بيده للحرس الأمني الواقف عند البوابة، فسمحوا له بالدخول بعد تفقد هويته، وإعطائه شارة الزائر.
-شوف يا نانوس عين أمك، إنت لو بقيت كويس وبتسمع الكلام ومش عامل قلق في المدرسة دي، جايز أسمحلك تزورنا مرة في الشهر، غير كده صدقني السجن هيبقى أهون من اللي هتشوفه معايا.
تحفز في وقفته، وتصلب، وسدد له نظرة نارية ليصيح بعدها بصوتٍ مرتفع محموم بالغضب:
-أنا بكرهك.
ارتسمت على شفتي "ممدوح" ابتسامة أكثر اتساعًا وشمـ.ـا.تة، ليدنو منه برأسه قائلًا ببرود قاسٍ:
-وأنا مابحبكش.
استغل "أوس" اقترابه منه ليسدد له لكمة قوية برأسه نحو أنفه، فأصابه بغتةً بإصابة جسيمة، تأوه "ممدوح" من الألم الشـ.ـديد، ووضع يده على أنفه النازف وهو يلعنه في حرقةٍ:
-يا ابن الـ ....
ابتسامة زهو علت ثغره، لم يبدُ خائفًا أو مرتجفًا منه، ولم يفر من مكانه حتى، ورغم كونه انتصارًا زهيدًا حسب معتقده إلا أن تأثيره كان واضحًا على "ممدوح" الذي أخذ يتوعده في شراسةٍ وهو لا يزال واضعًا يده على أنفه:
-وحياة أمك لأوريك يا ابن .. "مهاب"، إنت مش هتخرج من هنا إلا على جثتي!
..............................................
تَورُم أنفه كان واضحًا، ومو.جـ.ـعًا، تنفس "ممدوح" الصعداء لأن الأمر لم يصل إلى الكـ.ـسر، وإلا لبات التشوه به دائمًا ومُخجلًا له، خاصة وهو يعتمد على وسامة وجهه ولسانه المعسول لاصطياد ضحاياه. عاد إلى منزله الجديد الذي انتقل إليه مؤخرًا للإقامة فيه مع زوجته بعدmا تم إسعافه، ليسرد عليها ما قام به ابنها من تصرف مشين غير مبررٍ. استهجنت بشـ.ـدة فعلته، وراحت تقول في صدmة حرجة:
-إزاي يعمل كده؟
أكد بعبوسٍ يشوبه قدرًا من المزح السخيف:
-أهوو ده اللي حصل، الحمدلله إنه مكانش كـ.ـسر، ولا فقعلي عيني.
استنكرت تصريحه، ونفت عنه هذه العدائية بترديدها:
-"أوس" استحالة يكون بالعنف ده!
أطلق زفرة بطيئة أتبعها استرساله بوجه شبه ممتعض:
-للأسف ابنك معايا مش زي ما إنتي مفكرة، سلوكه محتاج يتعدل كتير، وأنا شايف إن تشـ.ـديد المدرسة في صالحه، هيفيد شخصيته.
ارتعشت أطراف "تهاني"، وبدا ذلك ملحوظًا وهي تتحسس جبينها، أولته ظهرها، وراحت تمشي ببطءٍ مبتعدة عنه وقد نكست رأسها في خزي، لتهتف في نـ.ـد.مٍ ممزوج بخيبة الأمل:
-أنا خايفة نكون استعجلنا في الخطوة دي، كان لازم يفضل معايا!
في خبثٍ ملازم له، اتجه "ممدوح" إليها، دار حولها واستوقفها، ثم مد يده نحو ذقنها ليرفع وجهها إليه، رأى الحـ.ـز.ن جسيمًا في حدقتيها، فأسبل عينيه تجاهها، وخاطبها في لينٍ:
-حبيبتي، ابنك بيكبر كل يوم عن التاني، وهو متمرد، واخد صفات باباه، وإنتي بنفسك مجربة طباعه العنـــــيفة إزاي، مش هنستنى لحد ما ينحـــرف.
اغرورقت عيناها بالدmـ.ـو.ع، وأخبرته بألمٍ متزايد:
-ده طفل، مايفهمش حاجة!
سحبها إلى حـ.ـضـ.ـنه في رفقٍ، ولف ذراعيه حولها ليحتويها وهو يطلب منها:
-هدي أعصابك يا حبيبتي، كل حاجة هتتحل، احنا بس نرجع من التدريب اللي ورانا، وبعدين نشوف صِرفة.
سحبت نفسًا عميقًا لتخـ.ـنـ.ـق به نوبة البكاء التي توشك على البدء فيها، وأخبرته بترددٍ يشوب نبرتها:
-مش حابة أسافر وأنا قلقانة عليه، غيابه مأثر فيا.
خفَّض من ذراعه نحو خصرها ليتلمسه بلمسات الخبير القادر على إيقاظ الجسد الغافل من سباته، داعبها في محبة وهو يهمس في أذنها:
-وأنا موجود عشان أنسيكي أي زعل.
حاولت المناص منه بإظهار رفضها اللبق وهي تعتذر منه:
-"ممدوح" مش وقته، من فضلك.
أصر على إغراقها في موجات حبه المُضلة لئلا يترك لها مساحة من التفكير، فتفسد ما يحاول فعله، وقال وهو يدس أنفه المتورم في منحنى عنقها لتشعر بلهيب أنفاسه الحارقة على جلدها:
-هو في أحلى من كده!
كان كمن يملك مفتاح زمامها، بعد عدة ملاطفات مدروسة، استطاع أن يجعلها تضحك من جديد، تشتهي وِدّه، وتتحرق إلى حنانه، لتضطر أن ترجئ ما يقلقها لوقت لاحق، حتى تشبع افتقادها للحب الصادق والاهتمام الزائد.
..........................................
سارت الأمور على ما يرام، وتمت الاتفاقات الرسمية أخيرًا، لتصبح مسألة الشراكة قانونية ومعلنة، وللاحتفاء بذلك التحالف القوي أقيم احتفالًا رسميًا بأحد الفنادق الشهيرة، حضره نخبة من رجـ.ـال الأعمال البـ.ـارزين، وصفوة المجتمع الراقي، بالإضافة لحشـ.ـد من الإعلاميين والصحفيين لتغطية أخبـ.ـار هذا الحدث الهام. بهيبة تليق بطلته، ورزانة مرسومة على قسمـ.ـا.ته، وقف على يُمناها استعدادًا لالتقاط الصورة الفوتوغرافية المخصصة لإحدى الجرائد القومية، اختطف "مهاب" نظرة سريعة نحو هذه الفاتنة التي أسرت تفكيره لأسابيع، كانت صعبة المنال، كلما اقترب منها خطوة، ابتعدت عنه بعشرةٍ، حتى باتت هوسه للظفر بها، ومع هذا لم يتعجل في خطوات تودده إليها، كان يضع في حسبانه كل شاردة وواردة تخصها، فإن حانت اللحظة المناسبة، انقض عليها ونال مآربه منها.
ما إن انتهى المصور من أخذ اللقطات المناسبة حتى التفت إلى "ناريمان" ممددًا يده لمصافحتها وهو يقول:
-مبروك على شراكتنا الجديدة.
بالكاد لامست كفه، وردت في اقتضابٍ:
-ميرسي.
ثم سحبت يدها في التو، فأظهر عدm اكتراثه بجفائها، وواصل الكلام بألفة واحترام:
-أنا واثق إننا هنكتسح السوق، الحكاية مجرد وقت، ومحدش هيكون موجود ينافسنا
ردت بهزة خفيفة من رأسها:
-أها..
حاول إطالة مدة الحديث بينهما، فأضاف:
-يمكن أي حد يستغرب إني دكتور ومهتم بأمور البيزنس جدًا، بس في الحقيقة الاتنين واحد، حتى لو المجال مختلف.
بدت وكأنها لا تلقي بالًا لما يفوه به، حتى أنها باعدت نظراتها الفاترة عنه، وهمَّت بالانصراف لولا أن استطرد بشيء أزعجها و.جـ.ـعلها تتجمد في موضعها:
-إنتي شكلك متغير شوية.
حدجته بهذه النظرة القوية المستنكرة قبل أن تلومه:
-إيه يا دكتور؟ ده نظام جديد للمعاكسة؟
أوضح لها بجديةٍ:
-مش محتاج أعاكس يا هانم، بس من واقع خبرتي أقدر أعرف أعراض المرض من لون البشرة والجلد، وإنتي فيكي آ..
قاطعته في غطرسة صريحة مستخدmة يدها في الإشارة:
-شوف لو أنا تعبانة أكيد هروح لأحسن دكاترة في العالم، مش أي حد.
تضمنت عبـ.ـارتها الأخيرة تقليلًا من قدره، مما ضايقه، وما زاد من هذا الشعور المزعج انسحابها المتعجرف:
-عن إذنك، ضيوفي منتظريني.
أشار لها بيده معقبًا بهدوءٍ حذر:
-اتفضلي.
بدا في نبذها له تحديًا مثيرًا ومشوقًا، لهذا رفض "مهاب" الاستسلام مبكرًا لمحاولات صدها الدائمة له، وأصر على إيقاعها في حبائله، حتى لو كلفه ذلك الشراكة القائمة بين العائلتين.
............................................
على هيئة استدعاء رسمي، أُرسل في طلب ولي أمره للحضور في التو والحال رغم أنه لم يمر سوى شهر واحد على مكوثه هنا. عجز مدير هذا الصرح التعليمي المعروف برقيه –بالتعاون مع فريق التدريس الاحترافي- على ضبط أو تقويم سلوك هذا الطالب المستجد، فالأخير كان يزداد عنفًا، وتمردًا، وعداءً لكل المحيطين به، مما يشكل تهديدًا قويًا على نظم وأسس المكان الراسخة. جلس "مهاب" أمام المدير وهو يناوله أوراق الملف الخاص بابنه إليه مبديًا أسفه:
-سيدي، نحن نعتذر عن إبقاء ابنك بمؤسستنا التعليمية.
لم ينبس بكلمة، وأصغى إليه وهو يبرر له اتخاذه لذلك القرار الصادm:
-لقد بذلنا قصارى جهدنا معه؛ لكنه لا يستجيب مُطلقًا.
اقترح كذلك عليه في ختام كلامه إليه:
-من الأفضل أن يذهب إلى مكان آخر غير مقيد بقوانين.
حفظًا لماء الوجه أوجز "مهاب" في رده:
-حسنًا.
ثم نهض واقفًا، فمد المدير يده لمصافحته مختتمًا حديثه:
-شكرًا لسعة صدرك.
اكتفى بهز رأسه، ومغادرة المكتب ليجد وحيده ينتظر في غرفة السكرتارية، على مقعد منفرد، يهز ساقه في عصبيةٍ، حين رأى "أوس" أبيه، انتفض قائمًا، فأشار له الأخير ليقترب منه، ثم سأله في وجهٍ صارم:
-عملت فيهم إيه يا "أوس"؟
لهنيهة تردد الصغير في إخبـ.ـاره مخافة من غضبه؛ لكنه في النهاية تجرأ وأفصح له:
-مش عاوز أفضل في المدرسة دي يا بابا.
سأله في نوعٍ من التوبيخ:
-وده يخليك تتصرف كده لحد ما تتطرد؟
بعد زفرة سريعة أباح له بالسبب الحقيقي للجوئه لهذا:
-السبب ماما وصاحبك.
حينئذ غامت تعابيره تمامًا، وكز على أسنانه مهسهسًا:
-قولتلي بقى.
ابتسامة غريبة ظهرت على وجه "مهاب" عنـ.ـد.ما خاطب ابنه بجديةٍ:
-طالما دي رغبتك، فهترجع البيت تاني، وكمان مدرستك القديمة.
اندهش الصغير من موقف أبيه الذي كان يظنه غير هذا كليًا. وضع "مهاب" ذراعه على كتفي ابنه، واستحثه على المشي معه وهو يواصل الكلام؛ لكن إلى نفسه:
-وأمك هتتحاسب مع اللي وزاها على كده، بس كله في وقته!
...............................................
الصفعة المباغتة والعنـــــيفة التي تلقتها على وجنتها فور أن واجهها "مهاب" جعلت شعورها بالارتعاب منه يبلغ ذروته في لحظاتٍ، وكأنها لن تسلم من بطشه أبدًا، ستظل دومًا قابعة تحت مظلة تهديده. فهمت دون الحاجة للإيضــاح أن الأمر متعلق بصغيرها، فقد وصل إليها ذلك الإنذار اللعين بفصل ابنها من المدرسة، وكذلك بُعث بمثيله إلى والده. حاولت التبرير له فتوسلته وهي تتراجع مبتعدة عنه:
-"مهاب"! من فضلك اسمعني!
هدر بها في صوت مجلجل وأجش، رافعًا سبابته أمام وجهها:
-ابني خط أحمر يا دكتورة يا محترمة.
تطلعت إليه في ارتعابٍ، فأكمل تهديده اللفظي لها:
-أوعي تفكري بإن جوازك من "ممدوح" هيحميكي مني؟
اخشوشنت نبرته، وتوحشت نظراته وهو لا يزال يصيح بها:
-إنتو الاتنين تحت رجلي!
رمقها بنظرة احتقارية مهينة قبل أن ينهي كلامه المذل لها:
-ده أنا اللي مظبط كل حاجة ليكم، يعني في لحظة أمحيكم من الوجود.
ارتعش صوتها وهي تستجدي غفرانه:
-صدقني أنا كنت بدور على مصلحة ابننا، مقصدش أبدًا آ...
قاطعها قبل أن تكمل تبريرها بأمره الحاسم:
-مش مسموحك بده أصلًا، أنا الوحيد اللي مسئول عنه...
ما لبث أن غلف صوته رنة التهديد القاسية حين أكمل:
-ولا تحبي أحرمك منه نهائي؟
عندئذ انخلع قلبها وغاص بين ضلوعها هلعًا، في التو أظهرت نـ.ـد.مها الكامل بهتافها:
-أنا أسفة، مش هتحصل تاني.
حدجها بنظرة أخرى أكثر إهانة ليأمرها بإصبعه كنوعٍ من الاستزادة في الإذلال:
-يبقى تبوسي رجلي.
فاجأته حينما وافقت:
-اللي إنت عاوزه أناهنفذه.
انحنت جاثية على ركبتيها، وزحفت إليه لتقبل طرف حذائه، فما كان منه إلا أن ركلها في فكها، لتتلوى بعدها صارخة من الألم الشـ.ـديد، وقد راحت خيوط الدmاء تنزف بغزارة من بين أسنانها. وقتئذ أخبرها بتشفٍ:
-دي قرصة ودن ليكي!
نظرت إليه نظرة العاجز، الذليل، والمغلوب على أمره. بكت في قهرٍ وهي تراه يمارس طقوس هيمنته دون أن تبدي ردة فعلٍ لذلك، فهي في نظره المخطئة منذ البداية وحتى النهاية.
..............................................
حينما اكتشف ما تعرضت له في غيابه وفي عقر داره، انطلق كالمـ.ـجـ.ـنو.ن لمقابلته، لم تكن مشاعر الحب والشوق هي ما حركته للزود عن زوجته المكلومة، بل كان الأمر مختلفًا، يخص شأنه معه، لذا مدفوعًا بضيقه وغيرته منه، اقتحم "ممدوح" مكتب رفيقه بالمشفى ليعنفه على ما ارتكب في حقها، فقد بدا الأمر بالنسبة له أنه مسَّ كبريائه كرجل وأهانه بشـ.ـدة، وبالتالي ليعوضه عما حدث قد يلجأ لتسوية الأمر ويملأ جيبه بالأوراق النقدية، فينسى ويتناسى ما أزعجه، ويعود ثلاثتهم إلى نقطة الصفر. انطلق لسانه يصيح به في حنقٍ:
-ينفع كده يا "مهاب"؟
نهض الأخير من مقعده ليقف بشموخٍ مبادلًا إياه التهديد بقوةٍ:
-إلا ابني يا "ممدوح"، سامعني، إلا ابني!
خسارته ومعاداته في هذا التوقيت الحرج لم يكن مستحبًا له، ومع ذلك ليحفظ كرامته قال في غيظٍ مكبوت:
-ماشي أنا معاك في اللي إنت شايفه مناسب لابنك، بس مـ.ـا.تنساش "تهاني" لسه مراتي وعلى ذمتي .. إنت كده بتقلل مني قصادها، وده مش حلو في حقي.
نظر له بتعالٍ قبل أن يأتيه رده صادmًا على كافة الأصعدة:
-مايهمنيش اللي بينكم...
برزت عينا "ممدوح" في ذهول، فأكمل رفيقه بما شتت تفكيره وأصابه بالتخبط:
-ولو عاوز تطلقها براحتك، معدتش تفرق معايا!
سأله بتشككٍ مرتاب:
-معقولة! من إمتى بتسيب حاجة حاطط عينك عليها؟
بنفس العجرفة وأسلوب العنجهية علق:
-كانت مرحلة وخلصت.
تضاعفت الشكوك بداخله حيال شأنه، وحاول محاصرته بإخبـ.ـاره:
-مش بعوايدك، إلا لو كنت لاقيت حاجة تانية أحسن.
سحب "مهاب" مقعده، واستقر جالسًا عليه وهو يخبره ببرودٍ استثار حفيظته، وأحرجه:
-برضوه مايخصكش.
نظر له مليًا، فأول ما طرأ على باله بعد تبدل معاملته تلك، أنه يخفي شيئًا عنه، ويبذل كل الجهد لضمان عدm معرفته بالأمر. ابتلع طعم التجاهل عن قصدٍ، ورد بعدmا تبسم قليلًا:
-تمام، زي ما تحب...
ثم انسحب من مكتبه عاقدًا العزم على عدm ترك الأمر دون التحري فيه، فأكد لنفسه بتصميم:
-مسيري أعرف مخبي إيه من ورايا، ولحد ده ما يحصل هنهدي اللعب على الآخر.
..................................................
بقائها معه جعلها ترى صورة مختلفة عن الحياة الأسرية المستقرة، وإن كان يتخللها بعض الآلام والتحديات، كما أن اهتمام "ممدوح" بها نفسيًا وبدنيًا ساعدها على التعافي وتجاوز التجربة السيئة التي خاضتها؛ لكنها كانت مدركة أنه في نفس الآن يضمر الضيق لرفيقه الذي سبب الأذى لزوجته، رأت ذلك في نظراته الشاردة، واستشعرته في صمته الطويل. التمعت عيناها بالحب عنـ.ـد.ما انحنى على رأسها ليقبلها قبل أن يتفقد فكها وهو يسألها في جدية:
-عاملة إيه النهاردة؟
أجابت باسمة قليلًا، رغم الو.جـ.ـع الذي عصف بفكها:
-أحسن.
لاحظ امتقاع وجهها، فاستغل ذلك ليستطرد في وجومٍ، كأنما يشـ.ـدد على ما أحسته في أعماقها بشأن نبذه للاعتداء عليها:
-لولا إنك موصياني كنت قلبت الدنيا على "مهاب"، كله إلا إنتي يا حبيبتي، أنا معنديش أغلى منك.
رفعت يدها نحو صدغه، تلمسته في نعومةٍ وهي تقول:
-أنا عارفة إنك مجبور على ده، بس غـ.ـصـ.ـب عني، أنا مش عاوزة أتحرم من ابني.
رمقها بنظرة عميقة نافذة، فواصلت الحديث في مرارةٍ:
-"مهاب" قاسي، ومش سهل.
وكأنها تستفز مشاعره الذكورية بمقارنته بآخر، دومًا متفوق عنه، يحصل على ما يريد أولًا بأول، وهو موجودٌ فقط ليجمع فضلته، وما يزيد عن حاجته. غامت نظرته وأصبحت سوداوية وهي تتكلم بغير احترازٍ:
-جايز يأذيك، وأنا مش عاوزة أخسرك.
بالكاد كظم غضبه، لا يريد إفساد مخططاته التي يضعها في صمتٍ، إلى حدٍ ما لانت نظراته القاسية وارتخت تعابيره حينما أخبرته:
-وفي نفس الوقت مش عاوزة أخسرك، إنت بقيت مهم عندي، ومكانتك زي "أوس".
نفس المقارنات السخيفة، الأمر لم يعد يُطاق بالنسبة له، ومع ذلك استمر على سكوته وهي لا تزال تخاطبه:
-حبيبي متزعلش مني عشان حطاك في الموقف المحرج ده، أنا عارفة إنه صعب عليك تفضل كده بسببي.
رد عليها بمكرٍ مستغلًا تصديقها لوهم حبه المتيم بها:
-أنا بس مش عايز حد يأذيكي وأقف كده ساكت أتفرج عليكي.
هزت كتفيها قائلة بنوعٍ من التخمين:
-مسيره يتلهى عننا بأي واحدة، أكيد مش هيفضل كده.
اتفق معها في ذلك، فهو على علم تام بطبيعة رفيقه المحبة لاصطيـــاد النساء المختلفات في الطباع والشخصيات، وما جعله يتخلى بغير مبالاة عن تحديه القديم هو وجود آخر جديد ما زال يجهل تفاصيله. ابتسم لها ليخفي آثار التفكير السائدة على ملامحه، وعلق:
-على رأيك.
قام بعدئذ بالمسح بترفقٍ على وجنة زوجته طالبًا منها:
-حاولي ترتاحي يا حبيبتي.
تعلقت بيده، ورجته في لهفةٍ:
-مـ.ـا.تسبنيش، خليك معايا.
دون أن يحول نظراته الزائفة المهتمة بها، جلس على طرف الفراش مؤكدًا لها:
-أنا هفضل جمبك.
.............................................
عام بأكمله مضى وانقضى منذ وفاة شقيقه في هذا الحادث المأساوي، ومع ذلك ظل مواظبًا على زيارة والدته في بلدتها بشكل منتظم، فكان يلقاها أسبوعيًا ليمكث معها بعض الوقت، أحيانًا قد يبيت هناك، وفي كثير من الأحيان يرحل في وقت متأخر ليستقل بعدئذ المواصلات العامة ليعود إلى زوجته التي أبقت على قطيعتها مع عائلته. تفهم "عوض" لأسباب قيامها بذلك، ولم يضغط عليها لتوصل ما انقطع حتى معه، ترك للزمن مهمة مداواة جراحها العميقة، وحافظ على روابط المودة والعِشرة القائمة بينهما، وإن هجرته في الفراش. هذا الأسبوع تقاعس عن القيام بزيارته المعتادة للبلدة، لكونه معلول الجسد، ولم يأتِ بباله أن تجازف أمه وتأتي لزيارته، ويا ليتها ما جاءت، فحضورها كان مصحوبًا بالعواصف والأهوال.
القرع العنيف على الباب جعل "فردوس" تترك ما في يديها بالمطبخ، وتهرول شبه راكضة تجاه باب البيت لتفتحه، اتسعت عيناها ذهولًا عنـ.ـد.ما رأت من تمقت واقفة قبالتها، والأخيرة تمنحها هذه النظرة الساخطة البغيضة والكارهة لها، لم تمهد بشيءٍ، واندفعت كالثور الهائج تدفعها بعنفٍ من كتفها وهي توبخها:
-فين ابني؟
استهجنت طريقتها العدائية في التعامل معها، ناهيك عن إلقاء التهم جزافًا عليها، نظرت لها "فردوس" شزرًا، ومع ذلك لم تتوقف حمـ.ـا.تها عن الصراخ بها:
-عاوزة تحرميني منه ده كمان؟ مش كفاية جبتي أجل الأول!
شهقت مذهولة وهي تتساءل بعدm تصديقٍ:
-أنا؟
شملتها بنظرة مهينة من رأسها لأخمص قدmيها، قبل أن تتوالى عليها إهاناتها كالصفعات:
-أيوه، اعمليهم عليا يا منحوسة، يا خَربْ البيوت، يا آ...
لم تتحمل بذاءة لسانها السليط، وأوقفتها بصياحها الهادر فيها:
-كفاية، ابنك اللي جنى على نفسه بعمايله، وربنا انتقم منه!
جملتها الأخيرة أشعلت الغضب بدواخلها، فانطلقت تلومها بحقدٍ آخذٍ في التصاعد:
-وليكي عين تقولي كده في وشي؟!!
ردت عليها بتحدٍ سافر:
-يعني جاية بيتي تتخانقي فيه وعاوزاني أسكتلك؟
وكأنها تزيد الطين بلة بمناطحتها، مصمصت حمـ.ـا.تها شفتيها مغمغمة في استحقارٍ صريح:
-عشنا وشوفنا، القوالب نامت، والأنصاص قامت!
ثم اندفعت تجاهها لتمسك بها من كتفها، هزتها بعنفٍ وهي تسألها بصوتٍ لا زال صارخًا:
-فين ابني يا وش البومة؟ انطقي!
بكل ما أوتيت من قوة نفضت "فردوس" قبضتها عنها، وصاحت تنذرها بلهجةٍ شـ.ـديدة:
-احترمي البيت اللي إنتي فيه!
أرسلت لها ضيفتها نظرة نارية كالسهام المارقة وهي تزيد من استحقارها المهين لها بكلامها الموجه لشخصها:
-بيت إيه يا أم بيت؟ ده إنتي كلك على بعضك ما يسواش فردة شبشب مقطعة الجربـــان ما يرضاش يلبسها في رجله.
آنئذ كان "عوض" مستلقيًا على فراشه، وحين سمع الشجار اللفظي بين والدته وزوجته، جاهد لينهض من رقدته، سار ببطءٍ حذر إلى أن بلغ الصالة، استمع إلى ما تتلفظ به أمه من عبـ.ـارات مهينة، وكلمـ.ـا.ت نابية، فعاتبها في حـ.ـز.نٍ:
-عيب الكلام ده يامه؟ مايصحش كده!
التفتت والدته بناظريها إليه، ومشت تجاهه تسأله في لوعةٍ:
-"عوض"، عامل إيه يا ضنايا؟ كده مـ.ـا.تجيش تزورني؟ هي موحياك عليا ولا إيه؟
استنكر ظلمها البين، وقال نافيًا:
-لأ يامه حـ.ـر.ام تظلميها، أنا أصلي تعبان وبعافـ.ـية.
تحولت أنظارها عنه لتحدج "فردوس" بنظرة مُمــــيتة قبل أن تطلق لسانها اللاذع عليها:
-أه طبعًا، عاوزة تجيب أجلك زي ما خلصت على أخوك، ربنا ياخدها ويريحنا منها.
وقفت زوجته تشاهد ردة فعل زوجها جراء ما تتعرض له من إهانة وإذلال، كانت على وشك اتخاذ موقفًا معاديًا تجاه الاثنين معًا لولا أن نطق "عوض" بحزمٍ مُستعتب:
-كفاية يامه بقى، إنتي جاية تسألي عني ولا تخربي بيتي؟
تدلى فك والدته للأسفل، وراحت تلوم تحيزه لزوجته:
-أنا يا "عوض"؟
أكد لها بضيقٍ:
-أيوه، أومال تسمي اللي بتعمليه ده إيه؟
اشتعل وجهها كمدًا، وراحت توغر صدره بالمزيد من الإساءات ضد زوجته:
-يا ابني بوز الإخص اللي إنت متجوزها دي مافيش منها رجا، طلقها، وارجع لحـ.ـضـ.ـن أمك.
تحولت ملامحه للإظلام، وراح يحذرها بتشـ.ـددٍ:
-ماسمحلكيش تهينيها، هي مراتي، واللي يجـ.ـر.حها يجـ.ـر.حني!
رفعت يدها أمام جبينها لتشير إليه بحركة اعتراضية قبل أن تسأله:
-من إمتى الكلام ده يا "عوض"؟
أجابها مباشرةً:
-من زمان يامه، بس إنتي اللي مصممة تهدmي حياتي.
سألته في نبرة لائمة:
-بقى بتقف في صفها ضدي؟
قال بما لا يدع مجالًا للشك في نواياه تجاه زوجته:
-أنا واقف مع الحق، ومن زمان على فكرة، بس إنتي مش عاوزة تشوفي ده.
كانت المرة الأولى التي تشهد فيها "فردوس" عليه وهو يدافع عن كرامتها وإنسانيتها، بل ويحاسب المسيء بلا نـ.ـد.مٍ، مما أشعرها بالرضا والحبور، بينما استفزت حمـ.ـا.تها بردوده، ودفاعه المستمـ.ـيـ.ـت عن هذه المرأة، فلكزته في كتفه وهي توبخه بحرقةٍ:
-ماشي يا ابن بطني، قلبي وربي غضبانين عليك.
قال بهدوءٍ رغم الألم الذي يحز في قلبه ناحيتها:
-كتر خيرك يامه، بس ا عـ.ـر.في إني طالما بتقي الله في عباده، مافيش ملامة عليا.
بصقت عليه، وقالت وهي تتحرك نحو باب المنزل:
-ابقى قابلني لو عتبتلك باب بيت تاني!!!
توقفت عنـ.ـد.ما أصبحت عند العتبة، ثم استدارت إليه لتكلمه بتعصبٍ، لتزيد من إحساسه بالذنب لمعاداتها:
-ولو مت ماشوفكش في دفنتي ولا واقف على قبري، وأنا هوصي الناس بكده!
مجددًا اتجهت نظراتها الحانقة نحو "فردوس" لتخاطبها في صوتٍ مليء بالإهانة:
-طول ما إنت متجوز الحرباية دي لا أعرفك ولا تعرفني!
تبعها "عوض" ليودعها باحترامٍ:
-شرفتي يامه، مجيتي دي على راسي.
أغلق الباب بعدmا انصرفت، واستدار عائدًا إلى غرفته، حاولت "فردوس" اللحاق به ونادته:
-"عوض"!
لم يلتفت إليها، وطلب منها في رجــاءٍ:
-معلش، سبيني لواحدي دلوقتي.
للحظة ظنت أن ما قاله في حقها كان وهمًا، لمجرد استرضائها بعد الذي قدmته إليه منذ اللحظة الأولى التي عرض فيها الزواج عليها، غشى بصرها الدmـ.ـو.ع تأثرًا بما جرى، في طرفة عين كُسر داخلها، وتفتت قلبها، وراحت تشتكي لنفسها، غير آملة أن يشعر أحدهم مهما مضى الزمان بها بما يجيش في صدرها من هموم وأثقال:
-هو أنا مش مكتوبلي أتهنى في حياتي أبدًا ................................ ؟!!!
↚
(لحظات فارقة)
رغم مرور بضعة أسابيع على ذلك الصدام القوي الذي تسبب في نشوب الخصام بينه وبين أمه، إلا أنه لم ينقطع عن زيارتها في بلدتها، ومع هذا قامت بصده، ومنعه من رؤيته لتضغط عليه أكثر، وتدفعه للانصياع إلى رغبتها في تطليق زوجته التي كانت ولا زالت تعتبرها فأل شؤم. حز في قلب "فردوس" أن ترى زوجها تعيسًا، مهمومًا، يحمل فوق كتفيه أطنانًا من الأثقال والأحزان، خاصة بعد مؤازرته الكبيرة لها. حينما عاد هذا المساء إلى البيت واجمًا وحزينًا، حاولت تهوين الأمر عليه بجره إلى الحديث معه، كان قليل الكلام، كثير الصمت، فلجأت إلى أمر آخر ظنت –للحظةٍ- أنه لن يجدي نفعًا معه؛ ولكن للمفاجأة وجدته متعطشًا لقربها، منتظرًا للحظة اللقاء الدافئة بينهما.
أراحت "فردوس" ظهرها على الفراش، ووسدت رأسها الوسادة عنـ.ـد.ما انطفأت جذوة المشاعر المتأججة بينهما، ساد السكون من جديد، وكأن شيئًا لم يكن، مما أوغر صدرها، و.جـ.ـعلها تشعر بالقلق. لم تتحمل هذا السكوت المو.جـ.ـع، لهذا تشجعت لتسأله أمرًا، وبضعة دmعات غادرة تتراقص في عينيها أثناء تحديقها في سقف الغرفة المعتم:
-"عوض"، إنت صاحي؟
بعد زفرة ثقيلة مسموعة لها قال:
-أيوه.
سكتت لهنيهة لتستجمع جأشها، وسألته بصوتٍ مختنق، دون أن تنظر تجاهه مطلقًا، وكأن في رؤيتها لتعابيره الحقيقية أمرًا مؤلمًا لها:
-هو إنت اتجوزتني ليه؟
اندهش لسؤالها الذي اعتبره في غير محله، وأجابها سائلًا في شيء من المعاتبة وقد استدار لينظر إليها:
-جاية بعد السنين دي كلها تسأليني يا "فردوس"؟
آنئذ التفتت لتبادله النظرات الحزينة، ثم ألحت عليه بتصميمٍ، رغم توقعها لقساوة الجواب:
-معلش، عاوزة أعرف، يعني أنا فاكرة إنك كنت مغـ.ـصو.ب عليا وآ...
قاطعها في صوتٍ متجهم:
-مـ.ـا.تكمليش!
غص صدرها بالبكاء، فخـ.ـنـ.ـقت أنفاسها لئلا تبدو بمثل هذا الوهن، وأصغت إليه بترقبٍ متـ.ـو.تر وهو يسترسل موضحًا:
-محدش بيبقى عارف النصيب هيكون مع مين، ولا هيحصل إزاي، بس اللي أنا متأكد منه إنك بـ.ـنت حلال، ومن أصل طيب.
بدا رده حياديًا، دبلوماسيًا، وغير جارح لها، ومع ذلك هتفت بكلمة محددة كانت تعني من مدلولها الكثير:
-وأمك؟
صمت للحظاتٍ، فأكمل بصوتٍ ظهر كالنشيج:
-أنا عارفة إنها كرهاني، وإنت صعبان عليك زعلها منك، وبتيجي عليك لحظات ما بتبقاش طايقني فيها، ويمكن تكون نـ.ـد.مان إنك اتجوزتني.
سألها في هدوءٍ جاد:
-مين قال كده؟
ردت مباشرة وهي تكفكف دmـ.ـو.عها المنسابة بظهر كفها:
-مش محتاجة قوالة، دي حاجة بتتحس.
هز رأسه قليلًا، ثم استطرد مستفيضًا في رنة صوت هادئة:
-شوفي يا "فردوس" ربنا سبحانه وتعالى قال "وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ"، وده اللي أنا بعمله مع أمي حتى لو غضبانة مني عشا معملتش اللي هي عاوزاه، لأنه هيغضب ربنا مني، أنا عليا أودها بالمعروف وأراضيها، لحد ما قلبها يحن، وتفهم إني مرتاح معاكي.
كلمـ.ـا.ته الأخيرة كانت كالبلسم على جراحها العميقة، أثلجت روحها، وطمأنت قلبها، لذا انتفضت راقدة لتسأله في لوعة وتلهف، وكأنها تشتاق لهذه الجرعة المحدودة من الاهتمام والصدق:
-إنت مرتاح معايا؟
ابتسم إلى حدٍ ما وهو يجيبها بلهجة لينة مترفقة:
-يعني لو مش متهني ومرتاح معاكي إيه اللي هيغـ.ـصـ.ـبني أكمل؟ إنتي رزق ربنا ليا، وأنا حامده وشاكره.
امتدت يدها لتمسك بكفه، وقالت في امتنانٍ يشوبه التضرع، وقد عادت عيناها لتفيض بالدmع الغزير:
-ربنا يخليك ليا، وتفضل على طول سندي.
ظل "عوض" محافظًا على ابتسامته البسيطة والصافية وهو يرد:
-يا رب.
.....................................................
مرر يده في خصلات شعره، وراح يدعك رأسه برفقٍ عدة مرات، على أمل أن يخفف من أثر ذلك الصداع الرهيب الذي يفتك به، باله كان لا يزال مشغولًا بالتفكير في هذه الورطة العالق بها؛ زواجه بـ "تهاني"! ظن أن الأمر في البداية مجرد لعبة سخيفة، يستمتع بها لبضعة أيامٍ أو أسابيع، وفي نفس الوقت يجني من ورائها الربح والمال؛ لكن ما قرره رفيقه فجأة قلب الموازين، و.جـ.ـعل الأمور أكثر تعقيدًا. همهم "ممدوح" بصوت منزعج وهو ينفخ دخان سيجارته في الهواء الطلق أثناء وقوفه بالشرفة:
-يعني أنا كده لبست فيها على طول؟!!
سحب مرة أخرى نفسًا عميقًا، حبسه في صدره للحظاتٍ قبل أن يحرره دفعًا واحدة متابعًا حديث نفسه:
-لازمًا أشوفلي حل وأخلص من الرابطة السودة دي.
شروده الممتد جعله لا يدرك تواجد زوجته بالقرب منه، لم يشعر بها تمامًا إلا حينما التصقت به لتسأله صراحةٍ، وهي تتفرس في ملامحه بتدقيقٍ:
-حياتي، سرحان في إيه؟
تصنع الابتسام، ونفى انشغاله عنها بقوله:
-ولا حاجة يا حبيبتي.
رفضت تصديق ما فاه به، وصممت على معرفة ما يؤرقه بإلحاح:
-إزاي؟ ده أنا بكلمك من بدري وإنت مش بترد عليا خالص، أكيد في حاجة حصلت، وإنت مخبي عليا!!
سرعان ما اعترى قسمـ.ـا.تها التـ.ـو.تر الجم، وهتفت في التو بصيغة متسائلة، ودقات قلبها قد أخذت تتصاعد بشـ.ـدة:
-لأحسن يكون "مهاب" ضايقك؟ ده اللي حصل؟!
وكأنها أعطته حلًا ذهبيًا ليستغله في خداعها كعادته معها، تســــلح بصمته ليضاعف من إحساسها بالقلق والرهبة، فوقعت بسذاجة في فخ خديعته، وتوهمت أن ذلك ما حدث، راحت تضغط عليه ليعترف لها بما تخشاه:
-أرجوك قولي مـ.ـا.تخبيش حاجة عليا، هو هددك بحاجة؟!!
نكس رأسه متحاشيًا النظر إليها، ثم أجابها بتردد مدروس:
-بصراحة كده .. هو آ.. عايزيني .. أسيبك.
انخلع قلبها وتمزق من مجرد ترديده فقط لهذا، فما الذي قد يحدث لها إن نفذ ما أخبرها به، هتفت مصدومة بشـ.ـدة، ووجهها يزداد شحوبًا:
-إيه؟ تـ.. تسيبني؟!!
في مكرٍ احترافي رفع رأسه لينظر إليها مؤكدًا لها:
-وأنا رافض ده تمامًا، إزاي أتخلى عن مراتي حبيبتي بالبساطة دي؟
رأى كيف تجسد الرعـ.ـب في نظرتها إليه، وأيضًا في ملامح وجهها، حرك ذراعيه ليضعهما على كتفيها، وضغط عليهما بقبضتيه مكررًا عليها بتأكيد:
-أنا مقدرش أستغنى عنك يا "تهاني"، إنتي نور حياتي.
وكأنها استفاقت من صدmتها اللحظية لتهتف في انفعالٍ:
-وطبعًا بيهددك عشان تنفذ اللي عاوزه؟
عبس بملامحه، وقال بعد صمت قليل قبل أن يخفض قبضتيه:
-للأسف، ضاغط عليا بشكل رهيب، وخصوصًا في الشغل، لدرجة إني مابقتش مركز، وخايف أعمل كارثة في أبحاثي، وأنا بحاول أحافظ على مركزي وسمعتي.
في حرقة مغتاظة هتفت، ودmائها تغلي في عروقها:
-منه لله الظالم.
تنحنح بعدئذ مضيفًا في خبثٍ:
-ده غير وضعي المادي اللي مأثر عليا وآ...
دون تفكيرٍ لم تمهله الفرصة لإتمام جملته حين فهمت ما يرمي إليه، بل أخبرته في الحال وهي تتعلق بذراعه:
-من ناحية الفلوس مـ.ـا.تشلش هم، أنا معاك يا حبيبي وفي ضهرك.
أشاح بوجهه بعيدًا، فاستمرت تضيف على نفس النهج الجاد:
-مرتبي مع المنح التشجيعية اللي بخدها تحت أمرك.
ادعى تحرجه منها، وقال في نبرة معاتبة:
-عيب الكلام ده، أنا ماينفعش أمد إيدي على فلوسك، إنتي كده بتصغريني، وأنا ماقبلش بده.
رفعت يدها لتمسك بوجهه، وتديره إليها، ثم صممت عليه في تلهفٍ:
-أرجوك مـ.ـا.تقولش لأ، اللي يهمني إنك تركز في شغلك وأبحاثك، مش عاوزة حاجة تعطلك أو تخلي تركيزك أقل.
نظر إليها بمحبةٍ، فابتسمت مكملة حديثها إليه:
-وجودنا مع بعض بينجحنا احنا الاتنين.
أخذها إلى حـ.ـضـ.ـنه قائلًا بعد تنهيدة بطيئة:
-أنا مش عارف من غيرك كنت هعيش إزاي؟
طوقته هي الأخرى بذراعيها لتشعر بضمته القوية على جسدها مرددة:
-إنت هدية ربنا ليا.
قبل أعلى رأسها باسمًا في لؤمٍ بعدmا ظفر منها بمكسبٍ آخر جديد يحسب إليه:
-حبيبتي!
..........................................
في نفس الأثناء، ومن مسافة قريبة، وقف "أوس" ممسكًا بالكُرة يشاهد توددهما العاطفي بعينين تتقدان نارًا، فارتباطه بأمه كان متأصلًا وقويًا، يدفعه غريزيًا للشعور بالغيرة عليها، خاصة حينما يراها هكذا في أحضان ذاك الغريب المستفز، احتقن داخله، وتنامى بعمق إحساسه بالحقد تجاهه، لم يشعر بنفسه إلا وهو يخفض لعبته أرضًا، ليركلها بكل عنف نحوهما، قاصدًا إصابة ذلك البغيض ليـ.ـؤ.لمه، نجح في تسديدته، ونالت الكرة من ظهر "ممدوح" فتأوه من الألم القاسي والمباغت، والتفت هادرًا في عصبيةً موبخًا إياه وهو يلوح بذراعه في الهواء:
-إيه اللي إنت عملته ده؟ إنت اتهبلت في مخك؟
تدخلت "تهاني" في التو ترجوه بتبريرٍ، وقد راحت تحول بجسدها بينهما، ومانعة زوجها من الاندفاع تجاهه ليؤذيه:
-اهدى يا "ممدوح"، ده طفل، ومايقصدش، أكيد وهو بيلعب ماخدش باله.
بقي على تعصبه صائحًا بصوتٍ غاضب للغاية:
-لأ هو قاصد، ده ابن "مهاب"، وبيتعامل بنفس طريقته المستفزة.
نظرت "تهاني" إلى صغيرها بنظرة صارمة، وأمرته بوجهٍ غائم:
-اعتذر يا "أوس" لعمو "ممدوح" بسرعة.
بادلها الصغير نظرة قاسية قبل أن يأتي رده موجزًا وقويًا:
-لأ.
حينئذ انتفخت عروق "ممدوح" وهدر في حنقٍ مضاعف:
-شايفة بيعاندني إزاي؟ ده عاوز يحرق دmي!
كان على وشك تجاوزها وبلوغه؛ لكنها ظلت كالحاجز بينهما، ورجته في توسلٍ:
-عشان خاطري مافيش داعي تنفعل، أنا خايفة عليك.
من شـ.ـدة غيظه، وقعت عيناه على كرته، فانحنى ليلتقطها، ثم قذفها بكل عصبية وانفعال خارج الشرفة وهو يصيح عاليًا:
-أدي كورتك أهي، وريني هتلعب تاني بيها إزاي!!
لم يبدُ على "أوس" التأثر مطلقًا، بل ابتسم له بتشفٍ ليفسد عليه متعة إغاظته بإلقاء كرته، وما زاد من شعوره بالحقد ترديده البـ.ـارد:
-مش عاوزها، بابا هيجيبلي الأحسن منها.
وكأنه يتعمد إحــــراقه حيًا بكلامه المستثير للأعصاب، رأت "تهاني" كيف احمر وجه زوجها بشـ.ـدة، وكيف أصبح جسده متشجنًا، كأنما يحجم نفسه من الاندفاع تجاهه، لذا قالت في تعجلٍ لتمنعه من التطاول عليه باليد:
-اتفضل روح على أوضتك، إنت متعـ.ـا.قب.
مرة ثانية سدد لها الصغير نظرة حانقة، مملوءة بالكثير من الغضب، واستدار مغادرًا دون أن ينبس بكلمة. ظنت "تهاني" أنها ذات تأثير قوي على طفلها الوحيد، والدليل على ذلك استجابته الفورية لأمرها. حولت بصرها نحو زوجها طالبة منه:
-حبيبي .. مـ.ـا.تزعلش نفسك، أنا هيكون لي كلام كبير معاه، بس مـ.ـا.تضايقش عشان خاطري.
رد عليها في نفس الصوت المنفعل:
-ابنك لو مشـ.ـدناش عليه صدقيني هيتعبنا، ده لازم يتعلم الأدب.
داعبت طرف ذقنه بلطافة وهي ترد عليه:
-حاضر، اللي إنت عاوزه هعمله، بس من فضلك اهدى.
لفظ كتلة من الهواء مرة واحدة، وتمتم في غير رضا:
-ماشي.
...........................................
على وجه السرعة توجه عائدًا إلى العاصمة المصرية، ليجلس مع والده الذي أصر على حضوره بشكلٍ عاجل في مكتبه لمناقشة مواضيع مصيرية تخص شأن العائلة مستقبلًا. تفاجأ "مهاب" من مطالب أبيه، والتي تمثلت بإيجازٍ في تقسيم الثورة على حياة عينه مناصفة، وتحديد مسئولياته مقابل مسئوليات شقيقه، تجنبًا للخلافات اللاحقة، وإن كان في ذلك تهميشًا ملحوظًا لدوره مؤقتًا. احتفظ "مهاب" بملامحه هادئة، وغير مقروءة التعبيرات رغم الضيق الذي ملأ صدره، شعر "فؤاد" بما يجيش في نفس ابنه، واستطرد قائلًا في نبرة رزينة:
-أنا عارف إن اللي بطلبه منك صعب، بس ده لحمايتك فيما بعد.
اكتفى ابنه بالصمت، فواصل الأخير الكلام:
-أصول المال هتكون مناصفة بينكم إنتو الاتنين، بس الحسابات السرية ليك لواحدك، محدش يعرف عنها حاجة.
أدهشه ذلك الأمر، فلم يكن لديه أدنى علم بوجود ثورة مخفية، لا علم لأحدٍ عنها، استراحت نفسيته، وسكنت جوارحه، وقال:
-اطمن يا باشا.
سعل "فؤاد" قليلًا، فمد يده المرتعشة ليمسك بكوب الماء الموضوع قبالته، ارتشف منه قدرًا، واستأنف حديثه الجاد:
-لو سبت كل حاجة في إيد "سامي" هيضيع اللي بنيته ويهده بتصرفاته.
وافقه الرأي، وأضاف عليه:
-هو متهور كعادته، مابيحسبهاش صح.
هز رأسه بالإيجاب، وتابع:
-عشان كده هو مايعرفش غير اللي أنا عايزه يعرفه وبس.
استحسن قراره الصائب، واستمع إلى أبيه وهو لا يزال يُملي عليه أوامره:
-لما ابنك يكبر، وعُوده يشـ.ـد مسكه كل حاجة، عرفه إنه مايحنيش راسه لأي حد مهما كان.
قال مومئًا برأسه:
-حاضر يا باشا.
بوجه صارم التعبيرات، ونظرة مماثلة، استمر "فؤاد" يقول:
-إنت وهو امتداد لإمبراطورية "الجندي"، ومن بعدكم أحفاد أحفادي.
رد عليه مؤكدًا:
-كل اللي نفسك فيه هيحصل يا باشا، إنت مـ.ـا.تقلقش على حاجة.
بعدئذ أشار له والده لينهض، وأمره:
-سبني أرتاح لحد ما أخوك يجي.
انصــاع كليًا لما أراده منه، وقال وهو يهم بالانصراف:
-أوامرك يا باشا.
موجة عارمة من الرضا والانتشاء اجتاحته تمامًا، لم يكن ليطرأ على باله أن ينال أضعاف ما يملك في طرفة عين، عليه فقط أن يتحلى بالصبر، وينتظر اللحظة المناسبة ليملك زمام كل شيء.
............................................
قام باستدعائها في مكتبه بشكلٍ طارئ، مما جعل أوصالها تضطرب، وعقلها يغوص في حيرة كبيرة، كان من النادر أن يطلب لقائها هنا، خاصة بعدmا تزوجت برفيقه. مؤخرًا كان اجتماعهما معًا محدودًا، ومختصرًا في نطاق العمل، بعيدًا عن شأن صغيرهما، لهذا انتابتها الهواجس والتـ.ـو.ترات المبررة، وراحت رأسها تطن بعشرات السيناريوهات المخيفة. خشيت أن يدبر لها فـ.ـضـ.ـيحة ما هنا ليقضي كليًا على سمعتها قبل مستقبلها. ارتجفت وهي تقف قبالته، أرهفت السمع ولم تقاطعه وهو يخبرها بعبـ.ـارات محددة عن رحيله من هذا البلد وانتقاله لمكان آخر. كل ما جال في خاطرها لحظتها هو حرمانه من طفلها، فسألته في توجسٍ متعاظم:
-طب وابني؟
تحرك ليدنو منها، وأجابها بلا ابتسام:
-ما تخافيش، مش هحرمك منه، إنتي هتنقلي معايا، جهزي حالك للسفر.
اتسعت عيناها في استنكارٍ جلي، ما هذه الوقاحة التي يتحدث بها؟ كيف يتجرأ على طلب ذلك منها؟ تجهمت تقاسيمها، وأردفت محتجة بضيقٍ مبرر:
-إزاي؟ إنتي ناسي يا "مهاب" إني متجوزة؟ الكلام ده مش هينفع!
نظر لها شزرًا قبل أن يأمرها بأسلوبه المتسلط والمتبجح:
-مش عاوز نقاش كتير، نفذي اللي أمرتك بيه.
كادت تنطق بشيء لكنه أخرسها بترديده الحازم:
-ويالا اتفضلي مش فاضيلك.
طرده لها كان مغيظًا ومستفزًا، ومع ذلك لم تبدِ أي ردة فعل معادية له، فمثله لا يجب تحديه، وإلا لكانت العواقب وخيمة، انصرفت في الحال وهي مشتعلة الرأس، مشحونة الفكر، ومحتقنة الصدر، أخذت تبرطم مع نفسها بذهول شـ.ـديد الإنكار:
-اتجنن ده ولا إيه؟ فاكر نفسه مين ..................................... ؟!!
↚
(العوض)
ما يفرضه على الجميع لم يكن مجرد رأي عابر، أو اقتراح ضمني قابل للمناقشة، بل حقائق إجبـ.ـارية واجبة التنفيذ، لهذا بدا من العسير عليها تقبل هذه النقلة المفاجئة والغريبة، وما زاد من غرابة هذا الأمر عليها هو انصياع زوجها له، وترحيبه بالسفر والرحيل. استنكرت ما أخبرها به، وهتفت في استهجانٍ أشـ.ـد، وقد تشنج كامل وجهها:
-إزاي توافق على الهبل ده يا "ممدوح"؟
أجابها في صوتٍ هادئ وهو يسترخي أكثر على الأريكة:
-طالما المصلحة معاه، ليه لأ؟
جلست إلى جواره بتعصبٍ، وراحت تلوم رضوخه في انفعالٍ متزايد:
-ده بيتحكم في حياتنا، في الهوا اللي بـ.ـنتنفسه، مش ممكن أسمحلك توافق على ده.
مد ذراعه ليمسك بكتفها، ضغط عليه برفقٍ، وقال:
-صعب نواجهه مع نفوذه التقيل.
اشتعلت نظراتها غيظًا، وهدرت في إصرار:
-خلاص نسيبه يغور، ونفضل أحرار في حياتنا، وهو أكيد هينسانا.
هز رأسه محتجًا على كلامها الذي أعده ساذجًا، قبل أن يوضح لها بتعقلٍ:
-مش مع "مهاب" يا "تهاني"، ده لازم ناخده بالسياسة مش بالعافـ.ـية.
ثم ابتسم لها، وأضــاف:
-وبعدين فترة وتعدي يا حبيبتي، احنا مش خسرانين حاجة، يبقى إيه الضرر علينا؟
احتدت نظرتها المليئة بالإنكار تجاهه، ونفضت ذراعه عنها، لتقوم واقفة، لم تحد بعينيها الحانقتين عنه، وانفجرت فيه بعاصفة كلامية متحيزة وهي تشير بإصبعها له:
-وسمعتنا؟ ومجهود السنين اللي عملناه هنا؟!!
نهض بدوره ليواجهها، وأمسك بها مجددًا من رسغها ليعلق عليها:
-شوفي لو "مهاب" فيه كل العبر بس حاجة مهمة بتميزه، إنه دايمًا مابيقعش إلا واقف.
حاولت تحرير يدها من قبضته وهي تسأله في تخبطٍ:
-مش فاهماك! إنت كده بتحيرني بزيادة!!!
استرخت قبضته على معصمها، لتنخفض في بطءٍ، وتتخلل أصابعه أناملها، ليتشابكا معًا في اتحادٍ، وصوته يخاطب أذنها بلهجة العاقل:
-يعني "مهاب" مش هياخد الخطوة دي، ولا هيجبرنا نروح معاه إلا لما يكون مظبط أموره كويس جدًا، ومـ.ـا.تنسيش إنه يعتبر من صفوة المجتمع.
كان يعرف جيدًا من أين تؤكل الكتف، لهذا استطاع أن يلين رأسها المتيبس بقدرته الفائقة على الإقناع، فاسترسل مستفيضًا في توضيح مخاطر معارضته:
-كمان إنتي لو رفضتي مش هيفرق معاه، بس هيحرمك من ابنك الغالي، ها .. إنتي تقدري تستغني عنه؟
في التو قالت وبلا تفكير، وكأنها قد استطاعت رؤية الجانب الآخر –والمظلم- من الأمر:
-لأ طبعًا.
حافظ على ثبات بسمته الماكرة، وطلب منها:
-خلاص، اعتبريه تكليف، وخديه بالرضا.
نكست رأسها قليلًا، وهمهمت معترفة في نبرة مضطربة:
-أنا حقيقي بقيت أخاف من "مهاب" أكتر من الأول، مش مطمنة.
لم يحرر أناملها، وطوقها من خصرها، ليضمها إلى صدره، راح بعدئذ يمسح على ظهرها بنعومة وهو يؤكد لها:
-اهدي يا حبيبتي، مش هيقدر يعملك حاجة وأنا موجود، أومال أنا جاي على نفسي ليه عشانك؟
حينئذ رفعت عينيها لتنظر إليها، تبسمت عنـ.ـد.ما أخبرها:
-ده أنا كلي فداكي.
ثم أتبع ذلك قبلة ناعمة على شفتيها، لتتنهد بعدها قائلة:
-حبيبي، وده اللي يمكن مريحني شوية...
ما لبث أن غلف صوتها التـ.ـو.تر حينما أتمت جملتها:
-بس برضوه لازم ناخد بالنا.
حرك رأسه مؤكدًا وهو يعاود ضمها إليه:
-طبعًا.
من طرف عينه، لمح "ممدوح" صغيرها قادmًا، فتعمد التودد إلى والدته بحميمية متجاوزة، كما لو كان يشتهي قربها كثيرًا، مما قد يسيء عقل الصغير تفسير ما يدور، لوجود بعض الجموح بتصرفاته، وذلك فقط ليستثير حنقه، كأنما يريد الانتقــــام منه بطريقته الخبيثة، ونجح في ذلك. سرعان ما تنبهت "تهاني" لوجوده، وهتفت بتحرجٍ شـ.ـديد وهي تتراجع عن زوجها؛ لكن وجهها ظل مضرجًا بحمرة ساخنة:
-حبيبي، إنت رجعت من النادي إمتى؟
استطرد "ممدوح" كذلك بأسلوبه الوقح المغيظ، ونظراته الشامتة مرتكزة عليه:
-"أوس"، إنت دايمًا تيجي كده في الأوقات الصح!
تجاهله الصغير مُباعدًا عينيه القاسيتين عنه ليخاطب والدته في صوت متجهم:
-ماما عاوزك.
استمر "ممدوح" على ملاطفته المستفزة لزوجته أمام ناظريه، رغم محاولتها لصده بتهذيبٍ، قبل أن يغيظه أكثر بقوله السمج:
-هي مشغولة معايا، لما تخلص هتجيلك.
في صوتٍ صارم، ووجه غائم أمرها الصغير:
-تعالي دلوقتي.
هزت رأسها مرددة بعد نظرة سريعة ألقتها نحو زوجها:
-طب روح يا "أوس" وأنا هحصلك.
حدج كلاهما بنظرة نارية قبل أن يغادر، لتعقب "تهاني" في تحرجٍ خجل:
-لازم ناخد بالنا واحنا مع بعض، "أوس" بيضايق.
رد عليها بعبوسٍ:
-مش إنتي دايمًا تقولي عنه عيل؟ مـ.ـا.تكبريش الحكاية.
صممت على رأيها في اتخاذ الحذر التام في ممارسة طقوس الهوى:
-برضوه، أنا مش عايزاه يزعل.
لحظتها وجدت منه جفاءً عجيبًا، وكأنه خاصمها، أولاها ظهره قائلًا:
-براحتك.
انتابها شعور النـ.ـد.م، فلحقت به تسأله في جزعٍ:
-إنت اتضايقت ولا إيه؟
رد باقتضابٍ:
-عادي.
وكأن ضميرها يؤنبها على تسرعها، هتفت تناديه في نبرة آسفة:
-"ممدوح"!
لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، زاد من قلقها رؤيتها إياه وهو يرتدي سترته استعدادًا لذهابه، سألته في تـ.ـو.ترٍ ممزوج بالخوف:
-إنت خارج؟
وضع مفاتيح سيارته في جيب سترته، وكذلك علبة سجائره، ليقول بإيجازٍ مماثل لباقي ردوده السابقة:
-أيوه.
حلت دهشة مرتاعة على وجهها، وهتفت:
-دلوقتي؟
ظنت أن خروجه الآن ما هو إلا ردة فعل لمطلبها، اعترضت طريقه، واستوقفته من ذراعيه بكلتا يديها، لتتوسل إليه وهي تشـ.ـد عليهما بأناملها:
-عشان خاطري مـ.ـا.تمشيش وإنت مضايق مني.
انتشى داخله لقدرته الفائقة على تطييعها وإخضاعها بأقل مجهودٍ، وضع ابتسامة صغيرة على محياه قائلًا، ويده ترتفع لتمسح على وجنتها بنعومةٍ:
-حبيبتي، أنا ورايا كام مشوار عاوز أعملهم...
تخللها شعور الارتياح، وبادلته الابتسام، لكن تبدد حالها سريعًا عنـ.ـد.ما اختتم جملته بما أرعـ.ـبها:
-وهعدي على "مهاب"!
عكس تعبير وجهها، وأيضًا نظراتها، هذا الفزع الكبير، فاستجدته بأنفاس متقطعة:
-بلاش تروحله، هيأذيك!
قال مطمئنًا إياها:
-مايقدرش، وبعدين أنا هشوف دmاغه فيها إيه.
استردت أنفاسها بصعوبةٍ، ومع ذلك أوصته:
-طب خد بالك يا "ممدوح"، مش عاوزة أي حاجة تحصلك.
أكد لها بثقة واضحة:
-مـ.ـا.تخافيش عليا.
انصرف بعدmا منحها قبلة مقتضبة على جبينها، لتظل ماكثة في موضعها والخوف يتسلل إليها من تخيل حدوث الصدام بينهما، إن أبدى زوجها تحيزه لموقفها المعارض للذهاب، هكذا ظنت بحماقةٍ!
......................................
حياته منذ الميلاد كانت ناعمة، مخملية، مملوءة بكل الترف والرفاهية، لذا ادعاء حرمانه من السلطة والنفوذ كان غريبًا، ومريبًا. جلس "ممدوح" مواجهًا لرفيقه في بيته شبه الخالي من الأثاث، والخدm. سأله في دهشة متعاظمة بعدmا قص عليه بإيجاز ما أراد أن يعرفه فقط:
-معقولة الباشا يعمل معاك إنت كده؟
هز "مهاب" رأسه إيجابًا، فتابع الأول مستنكرًا، وبشيء من الشمـ.ـا.تة كذلك:
-ده إنت كنت فرخة بكشك عنده، إزاي يسلم الإدارة لـ "سامي"؟
بعد زفرة سريعة أخبره:
-مش فارق معايا، أنا محتاج أظبط حاجات تانية أهم.
سأله في استهجانٍ ساخر:
-هو في أهم من الثروة والفلوس والعز والجاه؟!
رمقه بهذه النظرة المحذرة قبل أن يرد:
-بلاش تتدخل في اللي ملكش فيه.
اكتفى "ممدوح" بتحريك رأسه بإيماءة صغيرة، ومع ذلك ظل داخله يردد بسخطٍ ناقم، وكأنه يحسده فيما لم يملك منذ نعومة أظافره:
-طبعًا، لازم تتنى وتتفرد عليا، هتحس بالغلب إزاي وإنت مولود وفي بؤك معلقة دهب؟!!
انتشله "مهاب" من شروده الحاقد بسؤاله:
-خلاص جهزت نفسك؟
أجابه وهو يمرر يده أعلى رأسه:
-فاضل كام حاجة كده هظبطها، وبعدين نحصلك أنا والمدام.
أشار له "مهاب" بيده هاتفًا في لهجة جادة، تحمل في طياتها الإنذار:
-و"أوس" قبلكم .. فاهمني!
ألصق "ممدوح" بثغره ابتسامة سخيفة قبل أن يعقب:
-طبعًا.
مرة ثانية حذره "مهاب" مشيرًا بإصبعه:
-ويا ريت تبطل تضايقه، لأن زعلي وحش.
تنحنح مبررًا بالكذب:
-هو بيتعب أمه، فبتضطر تطلب مساعدتي عشان تعرف تسيطر عليه.
لم يقتنع بزيف ادعائه، وأمره بتسلطٍ متكبرٍ:
-سيبه يعمل اللي عاوزه، محدش ليه كلمة عليه، وهي بالنسباله مجرد خدامة وبس!
وقتها بدا تعبير وجه "ممدوح" غير مقروءٍ، فاتر، فقط ابتسامته اللزجة ذبلت قليلًا، خاصة عنـ.ـد.ما واصل إملاء أوامره عليه:
-ويا ريت تحاول تخلص منها في أقرب وقت.
عاد ليبتسم بقوة وهو يؤكد له بمكر الثعالب:
-هيحصل، ما إنت عارفني، بحب التجديد .. زيك!
.........................................
بعد مرور شهر، اضطر للعودة للعاصمة المصرية عنـ.ـد.ما علم بتدهور حالة والده الصحية، لم يكن ليتركه وحيدًا في أيامه الأخيرة، ظل ملازمًا له، وساعيًا بكل ما يستطيع لمداواته؛ لكن فارقت الروح الجسد، وانتقلت للرفيق الأعلى، ليقوم مع شقيقه بتشييع جثمانه في جنازة مهيبة تليق به كرجل أعمال معروف في الأوساط المجتمعية، ثم تواجد كلاهما في دار المناسبات المرموقة بعد يومين، حيث أقيمت مراسم تلقي العزاء فيه. جلس الاثنان متجاورين، فبادر "سامي" بالحديث في نبرة غبطة، شبه سعيدة، وكأنه عاجز عن إخفاء سروره لتهميش دور شقيقه المفضل لدى أبيه:
-مش عاوزك تزعل يا "مهاب" إن الباشا اختارني أمسك كل حاجة، رغم إنك المفضل عنده.
لم ينظر ناحيته، وتركه يكمل وصلة إغاظته بترديده الفارغ:
-بس ده الصح، هو بيثق فيا، وأكيد شاف فيا حاجة مش موجودة فيك.
شعر بيده تربت على فخذه، فرفع بصره إليه، ليجده يقول بعينين ضاحكتين، وكأن في مـــوت والديهما سعادة لا توصف له:
-اطمن، لو احتاجت حاجة أنا جمبك.
مط فمه، ثم أوجز قائلًا:
-أكيد.
انتصب "سامي" في جلسته على مقعد العزاء، واستطرد في لهجة المتحكم، وكأن ما ظفر به بعد ممـ.ـا.ته هو التعويض الملائم الذي يستحقه بعد إقصائه لسنواتٍ:
-أرباحك السنوية هحطهالك في حسابك، ده غير مبلغ شهري محترم هيوصلك أول كل شهر.
كان من السخيف التطرق لهذه الأمور في مثل هذا الظرف، لهذا لم يدع "مهاب" الأمر يمر، واستعتبه بضيقٍ:
-بيتهيألي الكلام ده مش وقته، احنا في عزا الباشا، وده مش أي حد، الناس كلها جاية عشان عارفة قيمته كويس، فيا ريت نحترم ده.
تلونت بشرته بحمرة طفيفة جراء إحراجه الصريح له، وقال حفظًا لماء وجهه المراق:
-أه طبعًا، بس عشان الأمور تبقى واضحة من الأول بينا.
التزم الصمت بعدها، ورغم ذلك لم يستطع التغطية على ابتهاجه الملحوظ للجميع.
............................................
لا شك أن الخروج في هذا النهار الحار كان غير موفق بالمرة، خاصة مع اقتراب الوقت من الظهيرة، وعدm وجود ما يحجب أشعة الشمس القاســـية. تجولت "فردوس" مع جارتها في منطقتهما الشعبية وهما تحملان من الأكياس ما يكفي لسد احتياجاتهما لأسبوع أو أكثر. توقفت كلتاهما عند إحدى البائعات، مالت "إجلال" على رفيقتها لتهمس لها بشيءٍ في أذنها، ثم ابتعدتا عنها، وهما غير راضيتان عن بضاعتها الذابلة. مصمصت "فردوس" شفتيها، وأردفت قائلة في تبرمٍ:
-ما كنا جربنا نجيب حاجتنا من السوق التاني، أسعاره أرخص، والخضار فيه طازة.
تذمرت رفيقتها على اقتراحها هاتفة:
-بس مشوار يهد الحيل يا "دوسة"، وأنا مش قادرة ألف.
ردت عليها بتأففٍ:
-ما هو البياعين مطلعين عينا.
ضحكت لوهلة، وعلقت:
-هو إنتي يعني بتسكتيلهم؟ ده إنتي أستاذة في الفصال!
ابتسمت لما اعتبرته مدحًا، وتابعت مشيها معها إلى أن شعرت برأسها يدور، توقفت فجأة، واعترتها ربكة غريبة، كأنما تخشى فقدان اتزانها، لاحظت "إجلال" ما أصابها فسألتها بتوجسٍ شبه قلق:
-مالك يا "فردوس"؟ إنتي بخير؟
أخبرتها في صوتٍ أظهر إجهادًا غريبًا:
-مش عارفة، زي ما يكون دايخة كده والأرض عمالة تلف بيا.
في التو جمعت ما تحمله كلتيهما في يدٍ، وحاولت إسنادها من ذراعها بيدها الأخرى، لتحول دون وقوعها، وطلبت منها في تعجلٍ:
-طب تعالي هنا عند البقال ترتاحي شوية.
كانتا قريبتان من المحل، فسارتا بضعة خطوات ناحيته، وصوت "إجلال" ينادي بتخوفٍ:
-كرسي أوام الله يكرمك يا عم "زهير"!
نهض ذلك الكهل من على مقعده فور أن وجدهما يقتربان منه، وسحبه تجاههما مرددًا دون تأخيرٍ:
-اتفضلي يا ست البنات.
عاونت "إجلال" رفيقتها على الجلوس، ثم تركت الأكياس جانبًا، وراحت تجفف بطرف حجابها العرق المتجمع عند جبينها وهي تفسر ما أصابها:
-أكيد دي ضـ.ـر.بة شمس!
شعرت "فردوس" وكأن رأسها يصبح أكثر ثقلًا، وجسدها أكثر تراخيًا، بدا من الصعب عليها التنفس بسهولة، فحاولت حل طرفي حجابها لتسحب أنفاسًا عميقة إلى رئتيها، كانت قادرة على تمييز صوت "زهير" وهو يخاطب رفيقتها:
-ما الجو بصراحة النهاردة مش طبيعي.
ثم سمعته يكلمها بوديةٍ:
-ألف سلامة يا ست "فردوس"، نجيبلك عصير ولا حاجة بـ.ـاردة تروقي بيها دmك؟
ردت عليه معتذرة وهي ترفع يدها ببطءٍ لتشير له:
-مالوش لازمة، دلوقتي هبقى كويسة.
تساءلت "إجلال" في جزعٍ:
-إيه اللي جرالك بس ياختي؟ ده إنتي كنتي كويسة وزي الفل.
بصوت واهن أجابت:
-مش عارفة، بس آ...
وقتئذ حلت غيمة من الظلام على مدارك "فردوس"، فشـ.ـدتها قسرًا إليها، لتغرق فيها، وتفقد وعيها. صرخت "إجلال" بفزعٍ وهي تحتضن وجهها بيديها لتهزها منه:
-يا نصيبتي، "فردوس" ردي عليا!
ضـ.ـر.ب "زهير" كفًا بالآخر، واقترح في الحال:
-أنا هجيبلها كولونيا من عندي تفوقها:
سارع في خطاه عائدًا لداخل بقالته؛ لكن "إجلال" طلبت منه في صوت مرتاع وهي لا تزال تحاول إعادة رفيقتها لوعيها:
-الله يكرمك يا عم "زهير" شوفلنا كده سي "عوض" إن كان موجود في الجامع اللي على الناصية ولا لأ.
رد عليها بصوته المرتفع:
-على طول أهوو.
ناولها زجاجة العطر، ثم انطلق باحثًا عن زوجها في المسجد القريب، على أمل إيجاده لإطلاعه على ما أصاب زوجته فجــأة.
.........................................
بمعاونة بعض أهل المنطقة، قام بنقلها إلى المستوصف الطبي المتواضع، خاصة حينما عجزوا عن إفاقتها. ظل "عوض" منكفئًا برأسه على المقعد المعدني المتأرجح، يدعو الله في نفسه بتضرعٍ ألا يصيبها مكروه، كان مهمومًا، وواجمًا، فإن امتلك من المال ما يكفيه، لأرسالها إلى مشفى آخر لديه من الإمكانيات الطبية ما يسعفها. لم تتركه "إجلال" بمفرده، وعادت إليه لاحقًا بعدmا وضعت أكياس الطعام في بيتها، جلست مقابلته، واستطردت تكلمه:
-ربنا يطمنا عليها.
هز رأسه معلقًا دون أن ينظر تجاهها:
-إن شاءالله خير، ويطلع الموضوع بسيط...
تذكر عزوفها عن تناول الطعام مؤخرًا، فنـ.ـد.م على عدm اكتراثه بهذه المسألة، وقال في ضيقٍ:
-هي بردك لازم تاخد بالها من صحتها، بقالها كذا يوم مابتكلش كويس.
عاتبته "إجلال" باستنكارٍ جلي:
-وإنت ساكت يا سي "عوض"؟
أخبرها بشيء من التبرم:
-ما إنتي عارفة هي بأحوال، وأنا مابرضاش أغـ.ـصـ.ـب عليها في حاجة.
ظلت على لومها، فاستطردت:
-أهوو جت على دmاغها في الآخر.
توقف كلاهما عن النقاش عنـ.ـد.ما جاءت إحدى الطبيبات من الداخل وهي توجه سؤالها إليهما:
-إنتو اللي جايين مع المريـ.ـضة اللي جوا؟
في التو انتفض "عوض" واقفًا، وسألها بلوعةٍ، وعيناه تتحركان في تـ.ـو.ترٍ:
-أيوه يا ست الدكتورة، خير؟ هي كويسة؟
نهضت "إجلال" هي الأخرى، واستطردت تقول من تلقاء نفسها:
-أنا قولتلها بلاش نلف كتير في السوق بس هي صممت.
وزعت الطبيبة نظراتها بينهما، وقالت بابتسامة لطيفة:
-اطمنوا، هي بقت أحسن...
تنفس "عوض" الصعداء، وشعر بالارتياح لكونها بخير؛ لكن يبدو أن ذلك الشعور كان لحظيًا، حيث حل محله الارتياب التام عنـ.ـد.ما حذرتهما الطبيبة:
-بس لازمًا يبقى في راحة تامة الفترة الجاية.
تساءلت "إجلال" من فورها باستغرابٍ:
-ليه؟
بوجه بشوش، ونظرات متحمسة، جاء رد الطبيبة بسيطًا ومباشرًا؛ لكنه احتوى في طياته على أسمى معاني التعويض، والإرضاء:
-عشان المدام حامل ...........
↚
(الغدر المُوجـــع)
وكأنها أميرة مُدللة، كل ما يأتي في بالها يُجاب قبل أن تنطق به علنًا، نعِمت "فردوس" منذ أن علمت بخبر حملها بسبل الراحة والاسترخاء، حيث منعها زوجها من ممارسة أي أعمال منزلية شاقة، قد تؤدي لإيذاء الوديعة الغالية التي أودعت في رحمها. وضعت الوسادة خلف ظهرها وهي راقدة على فراشها عنـ.ـد.ما رأت "عوض" مقبلًا عليها حاملًا بيده صينية مملوءة بكل ما لذ وطاب من الطعام. ابتسمت في رضا، وقالت ممازحة:
-إنت مكبر الحكاية يا سي "عوض".
لم يبدُ مهتمًا باحتجاجها الخجل من قيامه بتدليلها، وأسند الصينية على طرف الفراش، ليمسك بثمرة الليمون ويعصر قدرًا منها على حسائها الساخن، مدت يدها لتعترض على ما يفعل وهي تخبره:
-مافيش داعي تتعب نفسك.
رفع بصرها إليه، وعلق عليها بمحبةٍ صادقة:
-هو أنا بتعب لمين غير الغاليين؟
أعطاها الصحن الساخن لتتناول ما فيه، ودعا لها في تضرعٍ:
-ربنا يكملك على خير وتقومي بالسلامة.
بادلته نظرة استحسان كبيرة، ثم ارتشفت القليل بالمعلقة، قبل أن تسأله في شيءٍ من التردد:
-نفسك ربنا يرزقك بإيه؟
لم يضع الوقت في التفكير، وقال في حبورٍ مبتهج:
-كله خير من عند الله، كفاية إن ربنا إدانا هدية عظيمة من عنده.
هزت رأسها معقبة:
-ونعم بالله.
عمَّ السكوت بينهما إلا من صوت ارتطام المعلقة بالصحن، ليضيف "عوض" بعدئذ بصوت شبه جاد:
-بقولك أنا هسافر لأمي أعرفها، يمكن تفرح بالخبر.
وافقت على طلبه دون معارضة، وأوصته باسمة:
-وماله، بس مـ.ـا.تطولش في غيبتك.
تبسم مثلها، وهتف مشيرًا بيده:
-مسافة السكة.
......................................
في وضح النهار، وتحديدًا في الفناء الفسيح الملحق ببيته الجديد، وقف كلاهما ينظران بتدقيق إلى مجموعة من العلب الفارغة المتراصة على طاولة قديمة، والمتواجدة على مسافة عدة أمتار من موضع وقوفهما. تأكد "مهاب" من ضبط وضعية إمساك وحيده بالسلاح الناري، وراح يوصيه بتشـ.ـددٍ رغم لين نبرته:
-عايزك تنشن صح، إيدك مـ.ـا.تتهزش.
استجاب صغيرة بهدوءٍ تام لما يمليه عليه، وأصغى إليه بإنصاتٍ وهو لا يزال يخبره:
-ركز عينك، وحدد هدفك، إيدك تبقى ثابتة كده، ومـ.ـا.تدوسش إلا لما تبقى واثق إنك هتعرف تصيب الهدف.
أخذ "أوس" كل الوقت الذي يلزمه للاستعداد جيدًا قبل أن يضغط على الزنــــاد، لينطلق بعدها العيار الناري مُصيبًا حافة الطاولة بدلًا من العلب، ظهر الإحباط عليه، ومع ذلك خاطبه والده في هدوءٍ، كأنما يستحسن أدائه الأولي:
-مش بطال.
لم يكن الصغير راضيًا عن محاولته الفاشلة، ونظر إلى أبيه بعينين حادتين، ليعلق عليه الأخير بشيءٍ من التشجيع:
-مرة فمرة هتتعلم.
تركه يُعيد المحاولة، وكان وشيكًا من تحقيق هدفه، فامتدح تطور مهاراته، وظل يدعمه:
-برافو، عاوزك تبقى بطل.
انشغل الاثنان بالتدريب على الرمـــاية لوقت غير محدد إلى أن جاءت "تهاني" من الخارج لاصطحاب صغيرها، حينما تفقدت ما يفعلان انخلع قلبها، وحل الذعر بها، ومع ذلك لم تحتج إلا حينما طلبت من طفلها الانصراف لتبديل ثيابه، آنئذ راحت تلوم "مهاب" في ضيقٍ منزعج يشوبه كذلك الخوف لما اعتبرته من وجهة نظرها تهورًا:
-إنت شايف يا "مهاب" إن دي لعبة مناسبة تعلمها لـ "أوس"؟
حدجها بنظرة مهينة قبل أن يعاود ملء خزانة سلاحه الناري بالطلقات وهو يخاطبها في لهجة صارمة:
-ما يخصكيش.
لن تنكر أن داخلها ارتعب من رؤيته هكذا، وحاولت إشعاره بفداحة ما يقوم به بأسلوب آخر شبه معترض لكنه حذر:
-المفروض تشجعه يمارس رياضة مفيدة لجـ.ـسمه وصحته؟
نظرًا لها شزرًا قبل أن يصوب فوهته تجاهها هاتفًا في نبرة مهددة، لا تخلو التجريــــح:
-إنتي دورك في حياة ابني معروف، فبلاش تجيبي لنفسك الإهانة!
ارتعشت أطرافها، وتراجعت عنه، متوهمة أنه على وشك إفراغ ما في الخزانة بها، لتصطدm بظهرها في صدر زوجها الذي تلقفها بذراعيها مانعًا إياها من الانكفاء، حينها شعرت "تهاني" بقليلٍ من الأمان يغمرها، واحتمت خلفه، بينما وزع "ممدوح" نظراته المتعجبة بينهما، ليتساءل بعدها في نبرة عادية:
-اتأخرت عليكم ولا إيه؟
أشاح "مهاب" ببصره بعيدًا عن كليهما، وقال بترفعٍ:
-جاي في ميعادك مظبوط...
ثم راح يُطلق في تتابع متزامن الطلقات النارية واحدة تلو الأخرى على العلب الفارغة ليُصيبها جميعًا وهو يكمل بشيءٍ من التحذير الصارم:
-ويا ريت تعلم مراتك تلزم حدودها، بدل ما أعلمها أنا بطريقتي، وأظن إنها مش هتعجبها.
اشتعل وجهها غضبًا من تحقيره المتعمد والمشوب أيضًا بتهديد سافر، فنظرت إلى زوجها بعينين حانقتين، فما كان منه إلا أن طلب منها برجاءٍ وهو يسدد لها هذه النظرة المصحوبة بإشارة من يده:
-"تهاني" .. خلاص، من فضلك.
بالكاد تماسكت، وأطبقت على شفتيها مانعة نفسها من التفوه بأي حماقة احترامًا لتواجده، ولتُشعر كذلك طليقها السابق أن زوجها الحالي يشكل مكانة عزيزة في قلبها، ارتفع حاجباها للأعلى في استهجان عنـ.ـد.ما أمرها "ممدوح" بصوته الهادئ:
-اسبقيني على العربية.
استنكرت ما يريده، وقبل أن تفكر بإبداء اعتراضها منحها نظرة راجية من عينيه لتلتزم الصمت مجبرة، حينما شرعت في الابتعاد عنهما أتى من خلفها صوت "مهاب" وهو يُعلمها بلهجة صاحب القرار:
-"أوس" هيبات عندي النهاردة.
كظمت حنقها بصعوبة، وعلقت بنبرة متشنجة دون أن تنظر تجاهه:
-براحتك.
ارتسمت على زاوية فمه ابتسامة صغيرة، ما لبث أن تلاشت عنـ.ـد.ما أخبره "ممدوح" بخبثٍ بمجرد اختفاء زوجته من محيط المكان:
-مبروك الشراكة الجديدة، أنا عرفت من مصادري الخاصة، بس الصراحة مافيش حاجة بتستخبى في البلد دي.
مرة ثانية ملأ "مهاب" خزانة سلاحه بالطلقات، وقال في عدm اكتراثٍ:
-على كل حال إنت كنت هتعرف، الموضوع مش سر.
ثم ناول رفيقه السلاح ليستخدmه في الرماية بعدmا قام برص علب جديدة وهو لا يزال يكلمه في هدوءٍ:
-هننتهي من الإجراءات الرسمية، وهعلن عن ميعاد الافتتاح الرسمي للمستشفى.
فرد "ممدوح" ذراعه، وحاول التصويب متسائلًا ببسمته الماكرة:
-زي الفل، وأنا معاك فيها طبعًا؟
أجابه بإيماءة موافقة من رأسه، فاستمر "ممدوح" يقول بنوعٍ من الإلحاح:
-مسكني منصب كويس، عيب يبقى صاحبي صاحب أكبر المستشفيات هنا، وأنا أبقى حتت موظف صغير.
أشار له ليبدأ بالتصويب وهو يخبره:
-مـ.ـا.تقلقش.
فشل "ممدوح" في الإطاحة بأي واحدة من العلب، فالتصقت بسمة ساخرة بثغر رفيقه الذي استعاد منه سلاحه ليصوب الفوهة تجاه أول علبة، أسقطها بطلقة واحدة، وفعل المثل مع البقية، ليشعر الأول بالحنق من انتصاره عليه. تحولت أنظارهما تجاه الخادmة الأجنبية عنـ.ـد.ما جاءت لتقول في لهجتها الرسمية الجادة:
-سيدي، لقد جاءت ضيفتك، هل أحضرها هنا؟
في التو أجابها بصوته الصارم:
-لا، اجعليها تنتظر في غرفة مكتبي.
اعترى الفضول نفس "ممدوح" وتساءل بتطفلٍ وقح:
-مين دي يا "بوب"؟ صيدة جديدة؟
تجاهل الرد عليه، وخاطبه في تهكم بعدmا رمقه بهذه النظرة الحادة:
-روح لمراتك لأحسن تقلق إنك اتأخرت عليها!
استفزته طريقته، وهمهم باسمًا، فقط حفظًا لماء وجهه المُراق:
-هي الحكاية بقت كده، ماشي يا صاحبي.
لوح "مهاب" بعدها بيده كأنما يودعه، فغادر في عجالةٍ محدثًا نفسه بعزمٍ:
-بيتهيألي جه الوقت اللي أخلص فيه من "تهاني".
.................................................
بحماسٍ متقد، وعلى وجه السرعة، استقل وسائل المواصلات العامة المختلفة، ليصل إلى بلدة والدته، من أجل زيارتها، ونقل النبأ السار إليها، وضع "عوض" مسألة القطيعة والخلافات جانبًا، وأصر هذه المرة على عدm تقبل رفضها للقائه، فإذ ربما يرق قلبها وتلين مشاعرها المتحجرة حينما تعلم بأمر الحفيد المنتظر. انتظر كعادته عند بابها المغلق، طرقه عدة مرات وهو يناديها راجيًا من الخارج:
-يامه! عاوزك في حاجة مهمة، ومش همشي قبل ما ت عـ.ـر.فيها.
أتى ردها متحفزًا ضده مثل العادة:
-قولتلك غور من هنا، وانسى إن ليك أم.
أصر عليها بتصميمٍ معاند لرغبتها:
-والله المرادي أنا جاي في حاجة مهمة هتفرحك، اسمعيني بس الأول.
هتفت عاليًا في سخطٍ:
-وأنا من إمتى بفرح واللي بتعمله مزعلني وقاهر قلبي؟
لم يجد بدًا من إخبـ.ـارها هكذا من موضع وقوفه، رغم تمنيه لرؤية تعابير وجهها وهو يُلقي بالخبر على مسامعها:
-يامه ربنا هيعوضنا خير، وهيرزقنا بعيل.
حينها فقط سمع وقع خطوات قدmي والدته وهما تتحركان لتدنو من الباب، أتاه أيضًاصوتها المتسائل في ذهول قبل أن تفتحه:
-بتقول إيه؟
انتشى داخله لتخليها عن عنادها المحطم لنفسيته، وتحمس للغاية للالتقاء بها، فتحت الباب، فانتفض قلبه ورفرف بين ضلوعه، تأمل وجهها العابس بنظرات فرحة، وفي غاية السعادة، فما أجمل الظفر بلمحة من الأحب والأغلى إلى الفؤاد. سألته أمه في تحفزٍ غريب:
-إنت بتتكلم جد؟
انحنى على يدها بعدmا أمسك بها يقبلها، وقال مبتسمًا بشـ.ـدة:
-أيوه يامه، ربنا كرمه واسع، و"فردوس" حامل.
أشارت له بيده الأخرى ليتبعها وهي تأمره:
-تعالى جوا.
سار خلفها مسرورًا، ليستطرد في نشوة عارمة:
-كنت عارف إن قلبك هيحن لما ت عـ.ـر.في، عمر إحساسي ما خيب أبدًا.
جلس على المصطبة الخشبية مجاورًا لها، شملها بنظراتٍ متشوقة لمثل هذا القرب الدافئ، وسألها في حماسٍ ممزوج بالبهجة:
-فرحانة يامه؟
لم تعطه أي رد، ومع ذلك ارتضى بالقليل الذي منحته له، تابع الحديث في استرســالٍ:
-إن شاءالله اللي جاي هيكون في غلاوة "بدري" ويعوضنا عن فراقه.
ظلت تنظر إليه في صمتٍ، فاستمر يضيف بقدرٍ من الرجاء الشـ.ـديد:
-أنا مش عاوزك تفضلي زعلانة مني يامه ومقطعاني، إنتي بركة حياتي.
طالعته بنظرة غامضة، لتقول بعدها في هدوءٍ مريب:
-ماشي يا "عوض".
لم يشك للحظة واحدة في نواياها السيئة تجاه زوجته، بل على العكس كان في قمة الرضا معتقدًا بتبدد ما كان قائمًا بينهما من خلافات وخصام.
.......................................
منذ أن عاد من الخارج وهو في حالة غير الحالة التي كان عليها صباح اليوم، ظل "ممدوح" واجمًا، متصلبًا، يتصيد الأخطاء لها، وكأنه يمهد السبيل للتخلي عنها. أحست "تهاني" بنفسها تهوي من أعالي السماء لتنسحق وهي تلامس الأرض القاسية عنـ.ـد.ما عنفها بتأنيب على ما حدث:
-إنتي قاصدة تقللي مني قصاده؟
نظرت إليه بذهولٍ مرتاع، لا تعرف ما الذي أصابه لتتبدل أحواله لهذا الشكل المخيف، انقبض صدرها بقوةٍ وهو يسألها في نبرة مليئة بالاتهام:
-لسه بتفكري فيه بعد كل اللي حصل؟!!!
ظلت عيناها مندهشة، لا تقوى على الرمش وهو يخاطبها بحدةٍ:
-ما أنا الاستبن اللي مركون على الرف.
نفت اتهامـ.ـا.ته المزعومة بتأكيدها المذعور:
-أبدًا والله، بس إنت بنفسك شايف بيعلم "أوس" إيه!
استخف بما قالت، ولوى ثغره معلقًا في نفورٍ:
-كل حاجة "أوس"، هي دي الحجة المناسبة عشان تفضلي جمبه؟ وأنا زي المغفل مصدقك.
هتفت من فورها نافية شكوكه المرعـ.ـبة لها:
-اقسم بالله أنا مابطقوش، إزاي تظن كده؟
أحست بعاصفة من الخوف تجتاحها وهو يخبرها بلهجة غريبة لم ترحها مُطلقًا:
-"تهاني"، الوضع ده مابقاش عاجبني، أنا مش حاسس إني مستقل بحياتي، دايمًا "مهاب" محشور فيها.
هـ.ـر.بت الدmاء من وجهها، وراحت أطرافها ترتجف بقوةٍ عنـ.ـد.ما أضــاف عن عمدٍ، قاصدًا إفساد علاقتهما:
-وطبعًا عشان خاطر ابنك إنتي مضطرية تقدmي تنازلات، ومش مهم جوزك.
لحظتها أحست "تهاني" أن حياتها على وشك الانهيار، وأنها باتت قاب قوسين أو أدنى من التخريب، لهذا هتفت بوجلٍ وهي تتعلق بذراعيه:
-لأ متقولش كده يا "ممدوح"! أنا استحالة أتصرف بالشكل ده معاك، إنت حبيبي، أنا عرفت طعم الحب واتعلمته على إيديك.
أبعد قبضتيها عنه ليقول بجمودٍ أرعـ.ـبها تمامًا:
-بيتهيألي احنا محتاجين نبعد فترة عن بعض لحد ما نشوف هنقرر إيه.
لحظتها شعرت وكأن قلبها ينسحق بين الرحايا، فصرخت في توسلٍ:
-لأ يا "ممدوح"، مـ.ـا.تعملش فيا كده.
تركها ومضى وهو يعلم تمام العلم أن قربه منها صار عصيًا عليها، وما هي إلا بضعة صدامـ.ـا.ت أخرى قاسمة ليقضي على ارتباطهما كليًا، ومن جذوره!
............................................
أشرق وجهه، وسرَّ داخله وهو يحمل في يده بعنايةٍ واضحة ملفوفٍ طيب المذاق أعدته والدته خصيصًا لأجل زوجته في وعاءٍ مستقل، كنوعٍ من المبادرة للتصالح بينهما، لم ينسَ طوال الطريق توصياتها بتناوله كاملًا، وإلا لغضبت منه لعصيانه أمرها، خاصة أنها هديتها الغالية إليها، وبذلت فيها الطاقة والجهد لإسعادها، لهذا وعدها بتحقيق مطلبها دون أن يشك أبدًا في نواياها. عاد إلى البيت فاستقبلته زوجته باهتمامٍ يخالطه الفضول، فقد رغبت في معرفة تبعات هذه الزيارة، وكانت المفاجأة بترحيب أمه لعودة العلاقات الودية ونسيان أحزان الماضي، وما زاد من اندهاشها هو تجهيزها بنفسها لهذا الطعام المرهق في تحضيره، اشتمت رائحته الشهية، وعلقت مبتسمة:
-مكانش ليه لازمة تتعب نفسها!
أكد لها بحسن نية:
-أمي لما بتحب حد بتعمله محشي، ومحلفاني تاكلي منه أول واحدة، بس أنا مقدرش مادوقش معاكي.
هزت رأسها موافقة، وقالت:
-خلاص هرص الأطباق وناكله سوا
رد عليها وهو يشير بيده نحو الحمام:
-عقبال ما أكون غسلت إيدي وشي من الطريق.
خاطبته من موضعها وهي تقرب الوعاء من أنفها لتستنشق مجددًا رائحته الشهية:
-أنا حطالك فوطة نضيفة.
أثنى على اهتمامها به قائلًا:
-كتر خيرك.
بغير عجالةٍ أحضرت الأطباق والمعالق، ووزعتها بينهما، ثم راحت تفرغ قدرًا من الملفوف في صحنيهما، بعدmا رصت الطعام الذي أعدته سابقًا ليكون بجانب هدية حمـ.ـا.تها. استطردت "تهاني" محدثة نفسها بتحيرٍ:
-مش بعوايدها تعاملني كده!
تنهدت مليًا، وتابعت:
-سبحانه مغير القلوب.
أمسكت "فردوس" بأول قطعة من الملفوف، تذوقتها على مهلٍ، ثم تكلمت وفمها مملوءٍ بالبقايا:
-الله! طعمه جميل!
ابتلعتها كاملة، وراحت تحادث نفسها مبتسمة قليلًا:
-هي من زمان نفسها حلو في الأكل.
رغمًا عنها تنشطت ذاكرتها بمشاهدٍ قديمة جمعتها مع "بكري"، وهي تسعى آنذاك لفعل كل شيء لنيل استحسان أمه، لتظهر في عينيها بمظهر الزوجة المطيعة، الدؤوبة، والحريصة على ما يسعد زوجها ويرضيه، وفي الأخير كان جزائها الإقصاء والمهانة والتحقير. نفضت ما يـ.ـؤ.لمها من ذكريات، وشـ.ـددت على نفسها:
-مالوش لازمة نحكي في الماضي، اللي راح راح خلاص!
أحست بتأنيب الضمير لاستحضارها مثل هذه الأحداث المؤسفة في عقلها، وأخبرت نفسها:
-انسي يا "فردوس" عشان ت عـ.ـر.في تعيشي!
مرة ثانية تناول قطعة أخرى، والتهمتها بنهمٍ، لينضم إليها زوجها لاحقًا مستطردًا بالكلام وهو يشمر كميه متهيئًا لتناول وجبته بشهيةٍ:
-إنتي كلته على طول؟ طب استنيني!
ضحكت في مرحٍ، وأخبرته وهي تضع في جوفها قطعة ثالثة:
-بصراحة مقدرتش، أصل ريحته تفتح النفس!
شاركها الضحك، وعلق:
-إنتي هتقوليلي، ده احنا زمان كنا بـ.ـنتخانق على مين ياخد أكتر.
توقفت "فردوس" فجــأة عن مضغ ما في جوفها عنـ.ـد.ما شعرت بهذه الوخزة المباغتة والحادة تضـ.ـر.ب معدتها، تجاهلتها في البداية وابتلعت البقايا، لتشعر بعد لحظةٍ بوخزة أخرى أقوى في حدتها، تأوهت بصوتٍ خفيض، وعبس كامل وجهها وامتقع. سألها "عوض" مستغربًا ما أصابها:
-مالك في إيه؟
وضعت يدها على بطنها، وأجابته بملامحٍ مكفهرة:
-في نغصة كده في جانبي!
عاتبها في صوتٍ هادئ متوهمًا أن ما أصابها من إعياءٍ جراء إرهاق نفسها بأعباء المنزل:
-مش أنا موصيكي مـ.ـا.تعمليش حاجة؟
أوضحت له بصوتٍ متقطع:
-والله أنا طول اليوم نايمة، بس آ...
عجزت عن إتمام جملتها لشعورها بدفعة متدفقة من الوخزات الممـ.ـيـ.ـتة، انفلتت منها شهقة عالية أفزعته:
-آآآآآه.
في التو انتفض زوجها، ووقف بجوارها متسائلًا في توجسٍ مرتاع:
-مالك يا "فردوس"؟
انحنت للأمام واضعة قبضتيها على بطنها، صرخت مجددًا وهي تشكو إليه عِظم الألم الذي يجتاحها:
-بطني بتتقطع، مش قادرة.
انتابه المزيد من الخوف وهو يتلفت حوله متسائلًا بتخبطٍ:
-يا ساتر يا رب، طب قوليلي أعمل إيه؟
عجزت عن الوقوف كليًا، فانهارت جاثية على ركبتيها وهي تستغيث به في أنفاسٍ مضطربة، وقد راح جسدها يرتعش ويتصبب عرقًا بـ.ـاردًا:
-الحقني، همـــــوت ..............
↚
(كُتب عليها الفراق)
أزاحت برقةٍ طرف الستارة البيضاء المنسدلة على زجاج الشرفة، لتتأمل الحديقة المورقة أمامها، لفت أنظارها ذلك الصغير الذي كان يركض بتعجلٍ في الأنحاء، وعلى وجهه تكشيرة عظيمة، تعلقت عيناها به إلى أن اختفى عن مدى بصرها، أصاب بدنها نفضة صغيرة عنـ.ـد.ما سمعت صوتًا مألوفًا يأتي من خلفها ليخاطبها بترحيبٍ حار:
-شرفتي بيتي المتواضع يا "ناريمان" هانم، ولو إني زعلان إن "شوقي" بيه مجاش بنفسه.
استدارت لتنظر إليه، وخاطبته في لطافةٍ مماثلة لها:
-كلك ذوق، هو بابي مشغول، وإلا مكانش بعتني!
ابتسم في تهذيبٍ، وعلق بتغزلٍ عفيف وهو يدنو من موضع وقوفها:
-ده عشان حظي الحلو.
تجاوزت عن تلميحه المتواري، معتبرة إياه مجرد إطراء تقليدي، وسألته في قدرٍ من الاهتمام بعدmا تحركت مبتعدة لتجلس على الأريكة الجلدية:
-إنت ناوي تستقر هنا خلاص؟
لم يعطها ردًا قاطعًا حينما أجابها، وهو يجلس مجاورًا لها:
-على حسب الوضع والظروف.
استرعى ذلك فضولها، فانتقلت لسؤالها التالي:
-وأملاك العيلة؟
جاء رده بسيطًا ومباشرًا:
-"سامي" هيتولى المسئولية، وأنا واثق إنه هينجح.
مطت فمها للحظةٍ، ثم أخبرته بهدوءٍ، وهذه النظرة المتشككة تطل من عينيها:
-مع إن في كلام تاني كنت سمعاه بيقول العكس.
تغاضى عن التورية الخفية في كلامها عن وجود خلافات سابقة بين الشقيقين، ورد بدبلوماسية جيدة:
-الناس مابتبطلش كلام، المهم الأفعال في النهاية.
أعجبها رده الاحترافي، ووافقته قائلة:
-معاك حق.
في نعومة ظاهرة على تصرفاتها، أخرجت من حقيبة يدها الصغيرة علبة سجائرها الذهبية، التقطت واحدة، ووضعتها بين شفتيها، فراح "مهاب" يميل ناحيتها بعدmا أخرج ولاعته من سترته ليشعلها لها. أخذت "ناريمان" نفسًا سريعًا، وحررته مثلما استنشقته، لتسأله:
-صحيح، ده ابنك اللي شوفته في الجنينة؟
لاحت ابتسامة لبقة على محياه وهو يرد:
-أيوه، "أوس".
رفعت حاجبها للأعلى، وتابعت:
-فيه شبه منك.
صحح لها بتفاخرٍ:
-هو واخد أكتر من الباشا "فؤاد" الله يرحمه.
هزت رأسها قليلًا، واكتفت بما قامت بتدخينه من سيجارته، لتطفئ طرفها في منفضة السجائر المصنوعة من الكريستال. تساءل بعدها "مهاب" في نبرة مهتمة:
-تحبي تشربي إيه عقبال ما الغدا يجهز؟
أعادت وضع علبة السجائر بداخل حقيبتها، ثم نهضت من موضعها هاتفة في اعتذارٍ منمق:
-ميرسي، مش عاوزة، أنا عاملة ريجيم.
بعبوسٍ زائف ردد وهو ينهض بدوره:
-معقولة تبقي عندي وترفضي أقوم معاكي بالواجب؟ كده هزعل بجد!
مدت يدها لمصافحته تمهيدًا لانصرافها وهي تقول:
-مرة تانية، عن إذنك.
لم يترك يدها، بل رفع أصابعها الناعمة والمضمومة معًا إلى فمه ليطبع قبلة صغيرة عليهم، واستأذن منها:
-اسمحيلي أوصلك.
الرقي الذي كان عليه معها أشعرها باهتمامًا كبيرًا نحوها، وتقديرًا غير عادي لشخصها، رغم كونه يملك أضعاف ما تستحوذ عليه عائلتها، ومع ذلك عاملته بأسلوبها المتعالي، وخاطبته في رسمية:
-السواق منتظرني برا.
استعادت يدها، وسارت نحو الخارج، وهو إلى جوارها يسير على خطاها المتمهلة، نظر إليها متسائلًا:
-هتفضلي هنا؟
أجابته بعد زفير خاطف:
-لأ، هرجع الفندق، وبعدين على المطار.
في تلك الأثناء، كان الصغير يتجول بالبهو المتسع، فناداه والده بصوتٍ مرتفع:
-"أوس"! تعالى!
التفت الصغير إليه، واتجه ناحيته مركزًا كامل نظراته الحادة على الضيفة الغريبة، أشار إليه أبيه ليرحب بها وهو يأمره:
-سلم على "ناريمان" هانم.
استجاب لأمره، وصافحها، فداعبت بيدها الأخرى الطليقة خصلات شعره، وسألته في لطافةٍ:
-هاي، إزيك؟
اكتفى بالإيماء برأسه، وانصرف في هدوءٍ دون أن ينطق بشيء، فاندهشت لطريقته المتجافية معها على عكس بقية الأطفال الفضوليين، ممن يتسببون في إزعاج من حولهم بضجيجهم غير المنقطع، واستحثها ذلك على سؤال "مهاب":
-على كده مين بيهتم بيه؟
ادعى استغراقه في التفكير، ليجيبها بتريثٍ:
-طول ما أنا موجود باخد بالي منه، لكن لو مسافر، بيكون مع مامته، والمربية، يعني بحاول محسسوش إن انفصالنا أثر عليه.
سألته في تسرعٍ نـ.ـد.مت عليه لاحقًا:
-وإنت انفصلت ليه؟
تلك اللمحة من التطفل استغلها ببراعة ليحيك شباكه من جديد، فأخبرها بوجهٍ مال للحـ.ـز.ن، وبتعبير مؤثر:
-مامته اللي كانت عاوزة ده!
حلت بها دهشة أكبر، وانعكس ذلك على نظراتها إليه عنـ.ـد.ما تابع في صوت به رنة شجن:
-وأنا مقدرش أفرض نفسي على حد مش حابب أكون في حياته.
لم تعرف بماذا تعلق، فمارس أكثر ما يجيده وهو اللعب على الأحاسيس المرهفة، استنشق الهواء بعمقٍ ليدعي خـ.ـنـ.ـقه لنوبة بكاء تداعب صدره، وأبدى اعتذاره الحرج:
-أسف، ضايقتك من غير ما أقصد.
قالت في تفهمٍ:
-لأ، عادي، يدوب ألحق أمشي.
أكمل سيره معها للخارج حتى بلغ سيارتها، عندئذ ودعها بنفس الحرارة التي استقبلها بها:
-هنتظر زيارة تانية تكون أطول.
ردت باسمة في رقة:
-أكيد.
لوح بيده لها بعدmا انصرفت بسيارتها، ليدندن بصافرة مغترة وقد استشعر نجاح أول خطوة في الإيقاع بفريسة جديدة، تستحق المثابرة والقـــــــــتال لأجلها!
..............................................
أكاذيب، ومراوغات، وألاعيب، وخدع مقنعة، كانت وسائل المعيشة والحياة مع كليهما، وكأنهم كالماء والهواء، لا يستطيع أيًا منهما العيش بدون اللجوء إلى واحدة من هؤلاء. كان "أوس" موجودًا بالمصادفة عنـ.ـد.ما استرق السمع إلى أبيه وهو يدعي بالكذب على والدته بأنها المتسببة في الانفصـــال، وأنه لم يعاملها يومًا إلا بالحُسنى والمحبة الغالية، أحس بشيء يخـ.ـنـ.ـقه، بالدmاء تغلي في عروقه، فقد شهد بأم عينيه كيف قاست، وعانت الويلات لتهرب من جحيمه، ومع ذلك لم يتركها تنعم بالسكينة والسلام، ما زال حضوره طاغيًا على حياتها، وما زاد الطين بلة أنها تزوجت بشبيهه، لا يختلف عنه كثيرًا سوى في حلاوة لسانه التي ساقتها بإرادتها إلى جنته الزائفة، فمن خلفها تقبع جهنم أخرى، لا نجاة منها!
كان يخشى أن تلاقي نفس المصير مع ذلك البغيض الذي تذوب عشقًا فيه، وخلافاتهما الأخيرة أعطته هذا الانطباع الكبير. انزوى "أوس" بنفسه في غرفته، وحاول سد هذه الأصوات المتداخلة التي تصرخ في عقله ليردد في هسيس متشنج:
-كفاية، مش عاوز أسمع حاجة، كفاية!
على ما يبدو تحولت نبرته لصيحة عالية دون أن يدري، ليأتي والده مقتحمًا الغرفة على إثر هديره الغريب، نظر إليه مدهوشًا، وسأله:
-في إيه يا "أوس"؟
وكأنه لم يبصر قدومه، ظل جالسًا على فراشه، يوليه ظهره، ويهزه في تتابع متـ.ـو.تر، مما أجبر "مهاب" على التحرك صوبه، وإيقاف حركته المريبة تلك وهو يعيد تكرار سؤاله عليه بصيغة أخرى:
-حصل إيه؟
نفض قبضته عنه، وطالعه بهذه النظرة الغريبة الفارغة من الحياة، ليتكلم بعد صمتٍ:
-مافيش، عاوز أنام.
جلس والده على طرف الفراش، وخاطبه في صوتٍ هادئ؛ لكنه جاد كذلك:
-لو كنت شوفت كابوس فمـ.ـا.تخافش، ده مش حقيقة.
ظل الصغير يطالعه مليًا، إلى أن قال في الأخير، كأنما يردد ما سمعه دون أن يعيه جيدًا:
-أه، كابوس.
ربت "مهاب" على كتفه في محبةٍ، وأكد عليه:
-اطمن، محدش يقدر يأذيك، إنت ابن "مهاب الجندي"، وريث العيلة، واللي يفكر في ده همحيه من الوجود.
بدت ردة فعل "أوس" جـ.ـا.مدة، غير مفهومة لأبيه، فما يمر به يـ.ـؤ.لمه نفسيًا لا جسديًا! حينما وجده ساكنًا استحثه على الاستلقاء قائلًا:
-ارجع نام تاني ومـ.ـا.تقلقش.
استجاب له، وتمدد على السرير، تاركًا لوالده مهمة تغطية جسده، فأخبره الأخير كأنما يعلمه:
-أنا مسافر بكرة، فهسيبك مع الناني بتاعتك، وهكلم أمك لو عاوزة تاخدك عندها اليومين دول، ولو إنها مابتصدق تبقى مع "ممدوح"!
وكأن في سيرة هذا البغيض شيئًا محفزًا لاستثارة الأعصاب، لم يستطع كبت مشاعره الكارهة لزوج أمه، وهتف رافضًا الأمر:
-مش عاوز أروح عندها.
عارضه "مهاب" بإصرارٍ، غير مكترث للتحول الغريب الذي ظهر على ملامحه:
-ماينفعش تفضل لواحدك، هما يومين وهرجع تاني!
ظن أن ما يقوم به طفله مجرد تدللًا فارغًا، فأمره في صوت صارم:
-غمض عينك، ونام، وأنا هبص عليك كمان شوية!
كان على وشك الاحتجاج عليه بعنادٍ طفولي؛ لكن قدوم المربية أسكته، فقد وقفت عند عتبة الغرفة ترتدي ثيابًا كاشفة، فاضحة، لا تستر جسدها، لتتحدث في ميوعة وإغراء:
-سيدي، أنا مستعدة لـ...
أخرسها "مهاب" بصوته الآمر والمصحوب أيضًا بإشارة من يده ليصرفها:
-اذهبي من هنا، وانتظريني بغرفتي.
ابتسمت بطريقة مليئة بالإغواء قبل أن ترد:
-سمعًا وطاعة.
عاود النظر إلى طفله، ومسح على جبينه قائلًا:
-أنا هسيبلك نور الأباجورة.
بقيت نظرات الصغير معلقة بأثر طيف المربية التي رحلت، وصوت أبيه لا يزال يرن في أذنه:
-وافتكر إن ابن "مهاب الجندي" ما بيخافش، اتفقنا؟
وقتئذ باعد نظراته عن فرجة الباب ليتطلع إليه، فاكتفى والده بتشجيعه وهو يتأهب للانصراف:
-برافو عليك.
ذهب هو الآخر ليلحق بما يسر نفسه ويبهج جسده، تاركًا إياه يتخبط من جديد في زمرة مشحونة من الخواطر والأفكار المؤرقة.
.................................................
جلس مكللًا بحـ.ـز.نه، وهمومه، وخوفه، وارتياعه، فما أصاب زوجته من إعياء مفاجئ جعله يضطر لأخذها للمشفى الحكومي، خاصة أنها تحمل في أحشائها طفله الغالي. ارتكن بظهره على الحائط رافضًا الجلوس، وثبت عينيه على باب الطوارئ منتظرًا خروج أحدهم من الداخل لطمأنته، لم يتوقف لسانه عن التضرع والدعاء للمولى عزوجل، اغرورقت حدقتاه بالدmـ.ـو.ع، وكفكف ما انسال على وجنتيه بظهر كفه ليستقيم واقفًا عنـ.ـد.ما لمح أحدهم قادmًا في اتجاهه، تساءل في لوعةٍ، وبصوت شبه باكٍ:
-أخبـ.ـارها إيه؟
أجابه الطبيب موضحًا الدور الذي قام به:
-احنا عملنا غسيل معدة للمدام، بس هنسيبها تحت الملاحظة يومين، وخصوصًا إننا مش عارفين تأثير السم إيه على الجنين.
ذعر كليًا حينما علم بالحقيقة القاسية، وردد في ذهول مصدوم:
-سم؟!
أكد له ما سمعه:
-أيوه، العينة الأولية اللي اتفحصت وضحت وجود سم.
لم يجد الطبيب بدًا من حثه على الاستعداد لمواجهة المزيد من المصائب، فأوصاه بكلمـ.ـا.تٍ منتقاة بعنايةٍ:
-عاوزك تشـ.ـد حيلك، وتتوقع أي حاجة.
تهدل كتفاه، وأطرق رأسه في حـ.ـز.نٍ شـ.ـديد، لم يطرأ بباله مطلقًا أن تلجأ والدته لارتكاب جريمة كتلك لمجرد أنها لا تطيق زوجته، راح لسانه يهمهم في تحسرٍ عظيم:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، طب ليه كده؟!!
بقدmين متخاذلتين، سار كأنما يجرجر جسده وهو لا يزال تحت تأثير الصدmة القوية، ويردد لنفسه في غير تصديقٍ:
-ليه يامه؟ إنتي تقــــتـلي روح؟ لأ ومش بس واحدة، اتنين!!!!
.......................................
مدفوعًا بغضبه، وحـ.ـز.نه العميق، قرر الذهاب إلى والدته ومحاسبتها على جريمتها الشنعاء، لكنه لم يذهب خالي الوفاض، بل أحضر معه وعاء الملفوف ليكون دليلًا ملموسًا على فعلتها الدنيئة. تنقل "عوض" بين وسائل المواصلات المختلفة، وتحامل على نفسه الإرهاق، وتأثير الو.جـ.ـع حتى وصل إليها في وقتٍ متأخر من الليل. تفاجأت أمه من حضوره، وسألته في جزعٍ عنـ.ـد.ما وجدته واقفًا بوجهه الغائم، ونظراته القاتمة عند عتبة باب بيتها:
-"عوض"؟ إيه اللي جابك السعادي؟
أجابها في وجومٍ:
-اتخانقت مع "فردوس" وسبتلها الدنيا، وجتلك.
أفسحت له ليمر وهي تخاطبه في نبرة أمومية متحيزة ضدها:
-تعالى يا ضنايا، إلهي تتشك في معاميعها.
ظلت يداه قبضتان على الوعاء المغلف بملاءة قديمة، أجلسه في حجره بعدmا جلس، وأصغى إليها بتعبيره المكفهر وهي تكلمه:
-قولتلك من الأول دي ما يطمرش فيها أي معروف، وإنت برضوه مصمم عليها.
نظر لها بعينيه المحتقنتين، وقال في صوتٍ جاف أجش:
-ما أنا فوقت لنفسي وعرفت غلطتي.
امتدحت تصرفه قائلة:
-أخيرًا سمعت كلامي.
سلط عليها نظراته المحتدة، وتابع في ازدراءٍ:
-ده خسارة فيها اللقمة اللي تعبتي نفسك عشانها.
وقتئذ اسودت ملامحها، وسألته بعينين متسعتين:
-هي مكالتش من المحشي؟
أزاح الملاءة القديمة عن الوعاء وهو يجيبها:
-لأ، خدته منها، ما تستاهلش، وقولت ناكله سوا.
ازداد اتساع نظراتها المصدومة، فأكمل حديثه معها وهي ينزع الغطاء ليمسك بقطعة من الملفوف، استعدادًا لقضمها:
-أصل أنا واحشني طبيخك يامه.
في رعـ.ـب جلي استوقفته قبل أن يدس القطعة في جوفه:
-مـ.ـا.تكلش منه يا "عوض"؟
غامت نظراته، وامتلأت بعلامـ.ـا.ت الاستنكار وهو يسألها:
-ليه يامه؟
ترددت، وارتبكت، وأصبحت في حالة من التـ.ـو.تر الشـ.ـديد وهي تبحث عن الأكذوبة المناسبة لتخبره بها، ما إن وجدت واحدة حتى قالت في الحال بصوتٍ مرتعش:
-آ.. هتلاقي عينها فيه، تحسدك، وإنت مش ناقص.
ادعى عدm مبالاته، ولامس القطعة بشفتيه مرددًا بإصرار صريح على تناولها:
-ولا يهمني، هو في زي عمايل إيدك الغالية.
انتفضت قائمة لتمسك بيده، ثم دفعتها بعيدًا عن فمه وهي تصيح به في صوتٍ مذعور:
-استنى يا "عوض"، ارميه!
حينئذ حدجها بنظرة نارية ممـ.ـيـ.ـتة، قبل أن يقف ويترك الوعاء جانبًا لتندفع الكلمـ.ـا.ت خارجة من بين شفتيه كعاصفة هوجاء:
-يعني عارفة اللي فيه؟
انتفض بدنها مع صراخه، فاستأنف صياحه بنبرته اللائمة:
-سم، مظبوط؟
أطرقت رأسها في خزيٍ، فعنفها بلا هوادةٍ:
-جالك قلب يامه تعملي كده فيها؟
منعت نفسها من الرد عليه، فاغتاظ أكثر لصمتها، وواصل هجومه المُدين عليها:
-طب اللي في بطنها ذنبه إيه؟ ما خوفتيش من ربنا؟
لم تستطع النظر في وجهه، وأولته ظهرها مبدية خوفها من عصبيته، وليس لأنها مُدانة من رأسها لأخمص قدmيها وتشعر بالذنب أو النـ.ـد.م لاقترافها ذلك في حق الأبرياء، بينما استمر "عوض" في تعنيفها:
-ولا قولتي ده سبحانه غفور رحيم، فعادي لما أخلص منهم سوا.
تحرك ليقف في مواجهتها، وأردف في استهجانٍ أشـ.ـد:
-ربنا حرم قـــــتــل النفس، تقومي إنتي تعملي أكبر معصية بالبساطة دي؟
بررت له بفجاجةٍ، وكأنها تستعيد بلسانها السليط شجاعتها الهاربة:
-هي خدتك مني، ومن قبلك أخوك، عاوزني أستنى يجي نسلها الشيطاني يقضي على كل حاجة لسه باقية.
خرجت أنفاسه مع صوته المنفعل ليلومها بقسوةٍ:
-ربنا واحده هو اللي بياخد الروح، ولولا ستره كان زمانك بتقري الفاتحة علينا كلنا.
وجلت من نبرته الغاضبة، وانكمشت على نفسها، مجددًا سدد "عوض" نظرة عدائية لوالدته قبل أن يخبرها بقراره الحاسم:
-إنتي خسرتيني يامه، وأنا مش مسامحك على أذيتك لمراتي واللي في بطنها.
شهقت مصدومة، وحاولت الدفاع عن نفسها، فلم يمنحها أي فرصة، وقال وهو يتجه بخطواتٍ شبه راكضة نحو الباب:
-ادعي ربنا إنه يسامحك، لأنه زي ما بيعفو، فعقـ.ـا.به شـ.ـديد ومُهلك!
فتحه، وأولاها ظهره لينهي كلامه بقوله الفيصل:
-دي هتبقى آخر مرة تشوفيني فيها.
هرولت خلفه لتستوقفه، فلم تتمكن من اللحاق به، ورغم هذا رفعت من نبرتها ليسمعها وهي تخاطبه:
-بكرة تعرف يا "عوض" عملت كل ده عشان مصلحتك.
انتفخت عروقه، واحمر وجهه بغضبه المستعر؛ لكنه لم يتطلع خلفه أبدًا، بقي لسانه فقط يردد:
-لله الأمر من قبل ومن بعد!
.....................................
الوحدة، القـــــاتل الصــامت الذي يسلب الروح رويدًا رويدًا، إلى أن تغادر الجسد وتتركه بقايا محطمة، منكـ.ـسرة، لا يمكن مداواة جراحها بسهولة. لم تستطع "تهاني" استجماع نفسها بعد قرار "ممدوح" بهجرها، كانت تفتقد وجوده، تشتاق إلى قربه، أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار الكلي، كذلك عزز بُعد صغيرها عنها ذلك الشعور الموحش بداخلها، فصارت محاصرة بين أشـ.ـد الأوجـــاع وطأة ومرارة.
أفرغت علبة المناديل الورقية من محتوياتها، وعيناها لا تكفان عن البكاء، تغلغلت فيها مشاعر الاستياء، وشعرت بالسوء من حالها، ظلت تؤنب نفسها على ما اعتبرته عطائها اللا محدود:
-أنا عملت كل حاجة عشان أرضي اللي حواليا، وأنا فين من ده كله؟ ليه بيحصلي كده؟
واصلت معاتبة نفسها بغير رحمةٍ:
-رضيت بالأسوأ، وجيت على كرامتي عشان ابني، وسكت، وفضلت صابرة ...
تجددت نوبة بكائها، وأصبحت أكثر ألمًا عليها وهي تسترسل:
-ولما الحياة ضحكتلي تاني، وعوضتني براجـ.ـل بيحبني بجد، دلوقتي عاوز يسيبني.
اتقدت نظراتها بحممٍ من الغضب حينما محورت الدافع الرئيسي وراء انتكاساتها المتعـ.ـا.قبة:
-وكل ده بسببك يا "مهاب"!!
انتفض كل ما فيها، وكأن صحوة عجيبة قد أصابتها، لتهتف في وعيد مشوب بالتصميم:
-أنا مش هستسلم وأسيبك تدmرلي حياتي، لازم أحمي عيلتي منك مهما حصل!
......................................................
سيطرت عليها انفعالاتها، وتحولت لعاصفة من الجنون، فاتجهت إلى مكتب زوجها بالمشفى الجديد لتتواجه معه، لن تترك الأمور معلقة، ولن تسمح بتخريب مسار حياتها. أباحت لنفسها استخدام كافة الوسائل والسبل لاستعادة ما يتم سلبه منها. اقتحمت "تهاني" الغرفة ليتفاجأ بها "ممدوح" وهو جالس على مقعده، نهض قائمًا لينظر إلى حالتها الفوضوية التي جاءت بها متعجبًا منها، لم تكفكف دmعها، وتركت آثار كحلها المسال تشوه وجهها، تقدmت ناحيته لتضـ.ـر.ب بكفيها في عصبيةٍ على السطح الزجاجي قبل أن تصيح في تشنجٍ:
-كنت دايمًا بتقولي إنك غيره، وعلى أساس بتحبني، وهتعمل كل اللي يسعدني.
همَّ بقولٍ شيءٍ ما؛ لكنه ابتلع الحروف في جوفه عنـ.ـد.ما اتهمته:
-بس الحقيقة إنك مفرقتش حاجة عنه.
نظر لها مبهوتًا، فأكملت في حرقةٍ وألم:
-كل واحد فيكم استغلني بطريقته، وأنا اللي اتحطمت ما بينكم.
خوفًا من الفـ.ـضـ.ـيحة التي يمكن أن تتسبب فيها برعونتها، وهياج مشاعرها، تحرك من مكانه ناحيتها، وأمسك بها من منبتي كتفيها ليحادثها بتعقلٍ:
-"تهاني"، اهدي، الموظفين هيسمعونا.
نفضت يديه عنها، وصرخت في اهتياج:
-يا ريت يسمعوا ويعرفوا ..
انخرطت في نوبة بكاءٍ أشـ.ـد وهي تكمل جملتها:
-جايز حد يكون عنده رحمة ويحس بيا.
أحضر سترته، ولف جسدها بها، ثم طوقها من كتفيها، واستحثها على السير معه وهو يخاطبها في هدوءٍ:
-تعالي هنتكلم بعيد عن هنا.
اشتياقها لأحضانه دفعها للتجاوب معه، فمشت وهي تبكي، وصوته يهمس بالقرب من أذنها:
-إنتي أعصابك تعبانة ومحتاجة ترتاحي، وأنا مش هسيبك في الحالة دي.
ردت عليه بشجنٍ:
-محدش حاسس بالنار اللي جوايا.
لم تخجل من رؤية موظفي الفترة المسائية لحالها البائس، وظلت تردد في تحسرٍ متألم:
-كل واحد بيدور على نفسه، وأنا فين من ده كله؟
النظرات الصارمة التي كان يرسلها "ممدوح" لكل من يقابله –بحكم صلته المباشرة وعلاقته الوطيدة بمدير المشفى- كانت كفيلة بإبعادهم عن طريقه، وأيضًا عدm التجرؤ على اقتحام خصوصية الزوجين، اصطحبها للخارج، وأجلسها في سيارته، ليعود بها إلى البيت.
................................................
ما احتاجت إليه حقًا لتنسى حجم المعاناة القابعة بداخل أعمق أعماقها هو الشعور بالأمان والاحتواء، وليس ذلك المشروب المركز الذي أعده لها، على أمل أن يُذهب تأثيره المُسكر إحساسها بألم الفقد والهجر. ملأ "ممدوح" كأسها مجددًا بجرعة أخرى، وناولها إياه لتشربه على فمٍ واحد وهو يطلب منها بخبثه الماكر بعدmا استقر كلاهما بالبيت:
-اشربي يا حبيبتي.
المقاومة والرفض كانا ممنوعين عنها، فامتثلت بيأس محبط لكل ما يفرضه عليها، ثقلت رأسها؛ لكن انفتحت مشاعرها أكثر، استمعت إليه وهو يخاطبها في أسلوبٍ ودود:
-"تهاني"، إنتي واحدة جميلة، محدش يقدر ينكر ده.
ابتسمت في مرارة لتغزله بها، ما لبث أن تبخر شبح هذه الابتسامة الباهتة عنـ.ـد.ما اعترف لها في صدقٍ غريب:
-كنتي صيدة حلوة بالنسبالنا، ورهان احنا الاتنين صممنا نكسبه، بس بعد فترة بتلاقي الواحد زهق، وبيدور على حاجة جديدة.
بدا لحظتها وكأن صورته تهتز، وجهه يتشوش، وصوته يتباعد وهو يستفيض في اعترافه:
-حظك رماكي في طريق اتنين ما بيعرفوش يحبوا إلا نفسهم وبس، ومش فارق معانا إن كان في حد هيتأذى مننا ولا لأ.
عادت ابتسامتها المريرة تتشكل على زاوية فمها، خاصة عنـ.ـد.ما صارحها:
-مانكرش إني انجذبت ليكي شوية، بس ده لأني بغير من "مهاب"، اشمعنى هو ياخد كل حاجة وأنا البواقي؟
وقتها ردت عليه في صوتٍ ثقيل مغلف بالحـ.ـز.ن:
-أنا حبيتك يا "ممدوح"، سلمتك قلبي وجـ.ـسمي وكل حاجة.
آنئذ التصق بها، وحاوط وجنتها براحة يده، لتشعر بملمس أصابعه على بشرتها الساخنة، وبصوته يهمس في حرارة عند شحمة أذنها:
-وأنا للأسف .. ماحبتكيش!
سالت الدmـ.ـو.ع من عينيها مع طلبه المفطر لقلبها:
-أفتكر فراقنا أحسن الفترة دي.
احتضنت يده بكفيها، وكأنها تتشبث به، لتتوسله بعدها في استجداءٍ:
-مـ.ـا.تسبنيش يا "ممدوح"، أنا بحبك.
حاول استعادة يده برفقٍ؛ لكنها استمرت تستعطفه باستمـ.ـا.تةٍ:
-أرجوك، ما تعبدش عني، أنا من غيرك ولا حاجة.
لن ينكر أن شيئًا بداخله تحرك تجاهها رغم جهده لإقصائها عن حياته، وكان مصحوبًا بتأثير غرائزه، فمال عليها متلمسًا جانب شفتيها بخاصته، ليخفق قلبها بقوةٍ. تنهيدة عميقة تحررت من فمها، وراحت رعشات جسدها المتواترة تستثيره ليصبح على أعتاب الاستسلام لدعوتها المُلحة بإخماد لهيب الأشواق المتأجج في جسديهما. استجاب لندائها المحمل بكل ما يرجوه، وهمهم في صوت بالكاد التقطته أذنيها:
-ده هيكون وداعي ليكي ...............
↚
(تُقى)
حينما استفاقت من سباتها، ظل عقلها للحظات متأرجحًا بين اليقظة والإغفاء، غير مدركة إن كان ما عاشته من أحاسيس تنوعت بين وله، وهيام، وانجذاب، والتحام هي نتاج نسيج خيالها المتعطش لذلك القرب الدافئ، أم أنه حقيقة وقعت وتمتعت فيها بكل لحظة مرت عليها معه.
ما أكد لها أنها لم تكن فريسة أحلامها الجامحة هو آثار رائحة عطره على الفراش، وثيابه الملقاة على الأرضية. راودها الأمل أنه ما زال موجودًا في الحمام، لهذا لفت جسدها بالملاءة، ونهضت عن الفراش، لتهرول بتعجلٍ إلى هناك. انقباضة قوية قصفت بقلبها حينما لم تجده، في التو عادت إلى غرفة نومها، تفتش في الدولاب عن ثيابه، وجدت المعظم متروكًا كما هو، فتنفست الصعداء، ورددت لنفسها:
-الحمدلله، هو موجود.
الطرق الهادئ على باب البيت جعل حواسها تتحفز، لم تعبأ بالخروج لفتحه وهي على تلك الحالة المخجلة، فقد اعتقدت أنه عاد من الخارج، أدارت المقبض، وجذبت الباب لتطل برأسها من الفرجة الصغيرة، تسمرت في مكانها مصعوقة حينما رأت "مهاب" وابنهما متواجدين عند العتبة.
لسوء حظها لم تتمكن من النجاة من هذا الموقف المشين، وتراجعت للخلف في تـ.ـو.تر مرتبك عنـ.ـد.ما استخدm "مهاب" قبضته ليدفع الباب حتى يتمكن من الولوج ورؤيتها. النظرة المهينة التي انبعثت من عينيه أحـــــرقـــتها حية، خاصة حينما أتبع ذلك بكلامه الجارح ليوبخها:
-مفكرة نفسك شغالة في بيت دعـــــارة عشان تفتحي بالمنظر ده؟
أحكمت "تهاني" لف الملاءة حولها، وبررت بتلعثم:
-فكرتك جوزي..
ابتسم في استحقارٍ، فحاولت لملمة كرامتها المبعثرة بمتابعة الرد:
-وهو طبيعي يشوفني بأي شكل.
بنفس الطلة المهيبة، والنظرات المزدرية قال في هدوءٍ، ليزيد من إغاظتها:
-ما إنتي زيك زيه، مـ.ـا.تفرقوش عن بعض.
ابتلعت إهانته المتعمدة بصعوبةٍ، لم ترغب في إثارة المشاكل عبثًا، بينما حدق "أوس" في والدته بنظرات مستنكرة، قبل أن يركض تجاه غرفته ليختفي بها، فما يدور من جدال محتدm بين أبويه كان يـ.ـؤ.لمه كثيرًا. انتظرت "تهاني" ذهاب الصغير لتبدأ في مهاجمته مجددًا وهي تشـ.ـد بقبضتيها على طرفي الملاءة:
-جاي ليه يا "مهاب"؟
قديمًا كانت رؤيتها على هذه الحالة يستثيره، ويحرك غرائزه؛ لكن اليوم بدت في عينيه مجرد امرأة وضيعة، تصلح للمتعة فقط، لا للاستقرار. مجددًا سدد لها نظرة دونية، ليضيف في نفس اللهجة المسيئة:
-ابنك نفسه يشوفك، بس مـ.ـا.تخيلش إنه يلاقيكي بالشكل ده.
لم تطق افتراءه الموحي بفساد أخلاقها، وصاحت مدافعة عن نفسها بضراوة المقـ.ـا.تل الشرس:
-أنا متجوزة يا "مهاب"، سامع متجوزة، مش ماشية على حل شعري.
ثم رفعت إصبعها أمام وجهه لتحذره:
-فبلاش تعبي دmاغ "أوس" بكلام مش مظبوط عني.
ضـ.ـر.ب إصبعها الموجه إليه بكف يده ليخفضه، وقال في جفاءٍ:
-أنا مش فاضي للرغي بتاعك...
كزت على أسنانها حنقًا، باذلة كل الجهد لتمنع نفسها من تصعيد جدالهما لأقصاه. أبصرته وهو يدس يده في جيب سترته ليخرج منها رزمة من النقود، ألقاها في وجهها وهو يأمرها:
-خدي دول، مش عاوز ابني ينقصه حاجة.
شهقت متألمة من الضـ.ـر.بة القاسية وغير المتوقعة لحزمة الأموال، ورمقته بنظرة غاضبة، همَّ بعدها بالمغادرة فتبعته لتخاطبه في صوتٍ محموم ومهدد:
-"مهاب"، قبل ما تمشي، يا ريت تبعد عن "ممدوح"، وتسيبنا نتهنى بحياتنا سوا.
توقف في مكانه دون أن يلتفت نحوها، فأكملت من ورائه بتعصبٍ:
-احنا مش عايزين منك حاجة.
أدار رأسه قليلًا، وأخبرها في سخطٍ متهكم:
-إنتي مفكرة إن "ممدوح" بيحبك، خليكي عايشة في الوهم.
اشتاطت غضبًا على غضب من تشكيكه في مشاعر زوجها نحوها، وهتفت مدافعة عنه باستمـ.ـا.تةٍ:
-أيوه، بيعشقني، وميقدرش يستغنى عني.
استدار كليًا نحوها، ورمقها بنظرة استحقارية شملتها من رأسها لأخمص قدmيها، قبل أن يقصفها بوابل عبـ.ـاراته النارية:
-هو دوره كان مجرد كوبري، اتجوزك بأوامر مني، وقبض التمن، ده طبعًا على اعتبـ.ـار لو فكرت أرجعك...
رأى كيف اِربد وجهها بحمرة حانقة للغاية، فأزاد بقوله المؤلم لها:
-بس ده كان أحسن قرار عملته، إني أتخلص منك.
غلت الدmاء في عروقها، وفارت في ثورة هائجة، أوشكت على تعنيفه:
-إنت...
لكنه انقض على فكها يعتصره بين أصابعه القوية، تأوهت من الألم القارص، فحذرها بلهجةٍ قاتمة، وغير متسامحة:
-أحسنلك تاخدي بالك من "أوس" كويس، وإلا هحرمك منه، ومعنديش مشكلة أنسيه وجودك أصلًا.
ثم دفعها بعدئذ في قسوة للخلف، فكادت تفقد اتزانها وتُطرح أرضًا؛ لكنها تماسكت في اللحظة الأخيرة، انتفض كامل جسدها عنـ.ـد.ما قصف الباب بعنف من خلفه بعدmا خرج من البيت، بصقت في غيظٍ وهي تنعته:
-حقـــــير!
..................................................
التحذيرات جاءت واضحة ومباشرة؛ ضرورة الالتزام بالراحة التامة، طوال الفترة المتبقية من الحمل، تجنبًا لمخاطر الإجهاض، مع إعلام كليهما باحتمالية ولادة طفل مشوه، أو به عيب خلقي، جراء مضاعفات ما تعرضت له، لا أحد يجزم بما هو متوقع حدوثه. على مسئوليتها الخاصة، خرجت "فردوس" من المشفى، وعادت إلى منزلها بصحبة جارتها، كانت الأولى لا تطيق البقاء بقرب زوجها، حيث تملكها الرعـ.ـب من قيامهما بتسميمها مجددًا، ظنت أنه متورطًا في ذلك باتفاقه المسبق مع حمـ.ـا.تها القاسية، وإلا لكان أصيب مثلها، لم يكن من السهل عليها تكذيب مزاعمه ببراءته وكل الدلائل تؤكد شروعه في إقناعها بتناول طعام الملفوف في الحال.
ساعدتها "إجلال" على الاستلقاء على الفراش، ووضعت الوسادة خلف ظهرها وهي توصيها:
-بالراحة يا "دوسة"، على مهلك.
أمسكت الأخيرة بيد جارتها، وشـ.ـدت عليها هاتفة في توجسٍ مرتاع:
-مـ.ـا.تسبنيش يا "إجلال"، أنا خايفة يتعمل فيا حاجة تانية، دول عالم مافيش في قلوبهم رحمة ولا خشى.
تفهمت موقفها المناهض لهما، وقالت في أسفٍ:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، معلش يا حبيبتي، ربنا موجود.
ثم طلبت منها في نبرة خافتة، وهي تسحب الغطاء عليها:
-طب ارتاحي.
بالكاد نجحت في تخليص ذراعها من قبضتها المتعلقة بها، وأخبرتها:
-أنا هعملك شوربة سخنة تتقوتي بيها.
استسلمت "فردوس" لتأثير الإرهاق، وغفت، فانسحبت "إجلال" بهدوءٍ من غرفتها لتتجه إلى الخارج. التقت بزوجها المهموم، فعاتبته بلا هوادةٍ:
-ينفع كده يا سي "عوض"؟ تيجي منك إنت؟
في التو نفى اتهامها المجحف:
-والله ما كنت أعرف.
نظرت إليه بعدm تصديقٍ، قبل أن يعبر لسانها عن ذلك:
-معقولة؟
أطرق رأسه خزيًا، فاستأنفت أسئلتها التشكيكية:
-ليه؟ مكانتش عارفة إنك هتاكل معاها ويجرالك زي ما جرالها؟
أجابها موضحًا لها ما غفلت عنه من حقائق:
-لأ، لأني كنت أصلًا متغدي هناك، والمحشي ده حلفتني على المصحف مـ.ـر.اته تاكله لواحدها، وأنا قولت هبقى أصوم 3 أيام...
نظرت له بتشككٍ، فكرر حلفانه:
-اقسم بالله ما جه في بالي إنها تعمل كده!
ضمت شفتيها معًا في أسفٍ، فظل يردد:
-أنا مش مصدق أصلًا، وقاطعتها نهائي.
لم تعرف بماذا تخبره، فاكتفت بتوصيته:
-خد بالك من مراتك يا سي "عوض"، الدنيا جت عليها جـ.ـا.مد، وهي مالهاش حد غيرك، ولو خسرتها آ...
قبل أن تتم عبـ.ـارتها قاطعها:
-إن شاء الله هعوضها خير.
كلمـ.ـا.ته كانت صادقة، ودmـ.ـو.عه أيضًا، فإن كان مذنبًا لما تكبد العناء لأجل التأكد من تعافي زوجته؟ هزت رأسها في تفهم، وتضرعت لله أن يتجاوز كلاهما هذه الأزمة الطاحنة بخير، وكذلك ينجو الجنين الذي لا ذنب له من الضرر، وإلا لاتخذت الأمور بينهما منعطفًا شـ.ـديد التعقيد، سيصبح فيه الاثنان خاسرين.
..........................................
ما إن وصلت المربية التي استأجرها "مهاب" للمكوث مع ابنهما، حتى خرجت "تهاني" من البيت قاصدة الذهاب إلى زوجها، كانت مخاوفها تقــ,تــلها، ترعـ.ـبها، حياتها تكاد تكون على المحك، فانهيار زواجها لن يكون سهلًا عليها بالمرة لتتخطاه، خاصة أنها عاشقة حتى النخاع في حبه. وصلت إلى غرفة مكتبه، وجدته يراجع بعض الملفات، ويضعها في حقيبته الجلدية. التقطت أنفاسها، واستطردت في صوت ما زال لاهثًا:
-فكرت إنك سبتني.
تفاجأ من حضورها، وتحولت تعابيره للاستنكار هاتفًا:
-"تهاني"، احنا اتفقنا على إيه؟
تقدmت بخطوات سريعة نحو مكتبه، تعلقت بكفيها في ذراعيه، وتوسلته بعينين باكيتين:
-"ممدوح"، اسمعني شوية يا حبيبي...
نظر إليها مليًا، فأكملت بصوتها الناهج:
-أنا مقدرش أستغنى عنك، أنا بحبك، ليه مش حاسس بيا؟
صمت ولم يعقب، فاستطردت في قلبٍ ملتاع:
-اللي بيحصلنا ده بسبب "مهاب"، هو عاوز يخرب علينا حياتنا.
سكوته المريب أفزعها أكثر، فسألته والحـ.ـز.ن يفيض من عينيها:
-مش إنت بتحبني؟
هزته لتستحثه على الرد:
-قول إنك بتحبني؟
أجاب بعد زفرة بطيئة وهو يستل قبضتيها من عليه:
-أيوه...
حينها فقط تسللت إليها قدرًا من الراحة، ومع ذلك ناوشها ذلك الخوف المهلك عنـ.ـد.ما أخبرها بهدوءٍ:
-بس زي ما قولتلك سابق، احنا محتاجين ناخد أجازة من بعض لحد ما نشوف أمورنا هتوصل لإيه.
سألته في لوعةٍ:
-وأهون عليك تبعد عني؟
خفض من يديه ليمسك بكفيها، ضغط عليهما قليلًا، وقال:
-"تهاني"، من فضلك.
انسالت عبراتها بغزارة، فقد أنبأها حدسها أنه لا يزال مُصرًا على هجرها، وهذا ما ينهش في روحها، وجدته يجمع كفيها معًا، ليرفع يده الطليقة ويمسح بها دmعها الساخن، أغمضت عينيها في اشتياق وهي تستشعر ملمس أطراف أنامله على بشرتها الملتهبة، صوته الدافئ تسرب إلى أذنيها وهو يكلمها بهمسٍ:
-أنا مش أد دmـ.ـو.عك دي.
أعادت فتح جفنيها، ونظرت إليه بعتابٍ قبل أن تسأله:
-طب ليه عاوز تحرمني منك؟
صمت كأنه يبحث عن الكلمـ.ـا.ت المناسبة لإقناعها بضرورة فراقهما، حينما لم تسعفه العبـ.ـارات، قال ببساطةٍ:
-بصي أنا مضطر أسافر تدريب كام يوم، اعتبري دي فترة الأجازة بينا، وبعدها هنرجع لبعض.
وكأن هناك بصيص من الأمل لاح في الأفق، لذا سألته في تلهفٍ:
-وعد؟
برزت على شفتيه هذه الابتسامة الماكرة وهو يخبرها:
-أكيد، طبعًا.
ارتمت في أحضانه هاتفة بمشاعر متحرقة:
-بحبك أوي.
ضمها إليه، ووجهه يعكس تبرمًا واضحًا لم تره من زاويتها، حاول إخفائه وراء قناع البرود الهادئ، وذلك الصوت المتذمر يصيح في عقله:
-إيه الشبكة السودة دي؟!
......................................
منذ ذلك اليوم المشؤوم وقلبها لم يعد يرق إليه، كانت تخشاه حد المـ.ـو.ت، فهجرته في الفراش، ونامت بالغرفة الأخرى. زارتها الكوابيس ليلًا، والهواجس نهارًا، مما دفع "عوض" للبُعد عنها قسرًا حتى تلتئم جراح نفسها وتصفى من ناحيته، فتنهي خصامهما المستمر. مجددًا جاءت إليها جارتها لتجلس بصحبتها وتسليها، سألتها في شيء من الفضول:
-برضوه لسه زي ما إنتو؟
عقدت طرفي منديل رأسها معًا بعدmا ارتدته، وردت وهي لا تزال ممددة على سريرها:
-لولا العيبة وكلام الناس كنت اتطلقت منه.
انصدmت لهنيهة، ثم زوت ما بين حاجبيها معلقة عليها في تحيزٍ واضح لجانبه:
-بس ده حلف إنه مكانش يعرف، وكان هياكل معاكي من نفس الطبق.
ظلت على اعتقادها اللائم قائلة:
-هو السبب بردك!
لم تطل في الحديث عن ذلك الموضوع لحساسيته، وزمت شفتيها هاتفة في أسفٍ:
-مش عارفة أقولك إيه غير ربنا يهدي الحال ما بينكم.
نغزة خافتة ضـ.ـر.بت في جانب "فردوس"، فتأوهت من الألم بصوت خفيض، وراحت تدلك موضع الو.جـ.ـع، حتى يسكن، لحظتها تساءلت "إجلال" باهتمامٍ:
-واللي في بطنك؟ الدكتورة قالتلك حاجة عنه!
تنهيدة طويلة تحررت من رئتيها، أعقبها قولها التعس:
-الله أعلم بحالته إيه، بس مش مستبشرة خير.
على عكسها بدت جارتها متفائلة، فأخذت تخبرها بصوتٍ متأمل للأفضل:
-سبيها على الله، إن شاء الله ربنا مش هيضرك فيه، وهيتولد ويبقى زي الفل.
ما أسهل التمني عن تقبل الواقع المرير! استسلمت "فردوس" لهزيمتها باكرًا، وتحديدًا منذ اللحظة التي حُرمت فيها من حق الاختيار، وأجبرت على التأقلم مع ظروفها المفروضة عليها.
.........................................
من المفترض أن تكون عطلته معها مختلفة ومتميزة، حيث وعدته أن تعوضه فيها عن غيابها وتقصيرها في حقه؛ لكنها انزوت بنفسها في غرفتها، تبكي فراق زوجها، وتاركة إياه وحيدًا ومهملًا. راقبها "أوس" من فرجة الباب وهي منكفأة على وجهها الذابل، تضم ركبتيها إلى صدرها، بنظرات سوداوية حادة، كان ناقمًا عليها، وراح يحمل في قلبه الضغينة تجاهها، فكيف لها ألا تحبذ وجوده وهي من كانت تحارب لأجله؟ هل افترت محبتها الأمومية ببساطة لأجل ذلك المقيت المزعج؟ حقًا وضعه في مقارنة معه كان يعـ.ـذ.به، يحـــرقه من الداخل!
لمحته "تهاني" أثناء وقوفه بالخارج، كفكفت دmعها، وسحبت شهيقًا عنيفًا لتخمد به بكائها المتواصل، ثم وضعت على شفتيها ابتسامة مهزوزة، وأشارت له بيدها ليدخل وهي تناديه:
-"أوس"، تعالى يا حبيبي.
استجاب لها، وولج إلى غرفتها ليناظرها عن قربٍ، كانت كئيبة، شاحبة، باهتة الملامح، متورمة العينين، ومنتفخة الأنف، نسخة ذليلة لامرأة مكللة بالأحزان. شعر بالتعاطف نحوها، وتساءل وهو يجلس على طرف الفراش ليجاورها:
-إنتي شكلك بقى عامل كده ليه؟
أجابته وهي تجاهد للحفاظ على ثبات ابتسامتها المُلفقة:
-زعلانة شوية يا حبيبي.
سألها بقلبٍ وجل:
-مني؟
هزت رأسها نافية وهي تعترف له بما ألمه:
-لأ، بس عشان عمو "ممدوح" مسافر.
بدا متحفزًا ضده، استطال وجهه، وانقلبت سحنته للغاية، وقال:
-ما أنا معاكي.
رفعت يدها لتمسح على شعره وهي تخبره:
-أنا عارفة، بس وجوده جمبي كان محلي حياتي..
ما زالت تعابيره متعكرة، غير رائقة، يشوبها الضيق، رغم أنها أكملت عبـ.ـارتها بما ظنت أنه سيسره:
-زيك بالظبط.
رمقها بنظرة مؤنبة قبل أن ينهض فجأة من جوارها، استغربت لابتعاده عنها بهذا الشكل المريب، وسألته في صوتٍ مال للغضب:
-إنت رايح فين؟
لم ينطق بشيء، وأظهر جفاءً غريبًا ناحيتها، فما كان منها إلا أن صرخت في حمئة:
-"أوس"، تعالى هنا، مـ.ـا.تدوخنيش معاك!
غادر غرفتها فاستفزها رحيله غير المبرر، وصرخت به وقد استحوذت عليها نوبة غضبها الهوجاء:
-إنت زي أبوك، دايمًا تحبوا تعـ.ـذ.بوا وتذلوا اللي حواليكم!
مضى في طريقه متجهًا إلى غرفته، وصوت صراخها الحاد لا يزال يرن في أرجاء المنزل، لم يعرف حقًا على من كانت تصب جام غضبها، عليه أم على أبيه؟ لكنها صدقت في وصفها بأنه يشبه أبيه في هدوئه القـــاتل، وتسلحه بالصمت عنـ.ـد.ما لا يعجبه ما يُقال من حوله.
.............................................
تعلقت، وتشبثت، وتمسكت بذلك الأمل، أن يكون القدر رحيمًا بها، ويعطيها هدية غالية، تضمن بها وصل ما انقطع، خاصة مع طول الغياب، واستمرار البعد والفراق. للمرة الثانية أجرت "تهاني" اختبـ.ـارات الحمل لتتأكد من صحة النتائج، ابتهجت وسَرَّ قلبها مع الأنباء المفرحة. ضمت أوراق تحاليلها إلى صدرها وهي تكاد لا تصدق أنها تحمل في أحشائها بذرة حبها المتيم به. أدmعت عيناها من فرط السعادة، وهتفت مع نفسها:
-يا ريتك كنت هنا يا "ممدوح"، أكيد كنت هتفرح زيي.
غمرها الشوق، وراحت تتنهد قائلة:
-إنت وحـ.ـشـ.ـتني أوي.
سرعان ما استبد بها الخوف، فتكلمت بذعرٍ مفهوم:
-بس لو "مهاب" عرف!!
هـ.ـر.بت الدmاء من بشرتها، وتقطع صوتها وهي تكمل حديث نفسها الجاد:
-ده آ.. ده ممكن يأذيني.
غاصت في تفكيرٍ عميق لبضعة لحظاتٍ قبل أن تقول في حسمٍ:
-أحسن حاجة أعملها إني أخبي الموضوع ده لحد ما "ممدوح" يرجع.
ما لبث أن امتلأ وجهها بأمارات الضيق وهي تتساءل في ترددٍ:
-طب و"أوس"؟
اتخذت قرارها الحاسم بشأنه أيضًا:
-مافيش داعي يعرف هو كمان!
خفضت "تهاني" من يدها على بطنها تتحسسه في رفقٍ ممزوج بالمحبة، لتقول بعدها في نشوة بائنة في عينيها:
-إنت هتفضل سري الغالي مؤقتًا.
..................................................
وخزات الألم والنغزات التي تفشت في محيط ظهرها كانت في البداية متفاوتة، متباعدة؛ لكنها صارت تداهمها في أوقات متقاربة. قاومت الصراخ، وكافحت لتصمد، وحاولت الاسترخاء على الفراش، ومع ذلك فشلت، حيث غلبها إحساسها بالو.جـ.ـع الشـ.ـديد، فنهضت من مكانها، ودارت حول نفسها في غرفتها، إلى أن انهارت قدرتها على التحمل، انفلتت منها صرخة مفزعة جعلته يأتي إليها على عجلٍ. أضاء "عوض" مصباح الغرفة لينظر إلى زوجته التي وقفت في المنتصف، تنحني للأمام، ويدها موضوعة على بطنها المتكور، وكأنها تخشى سقوطه، سألها في جزعٍ:
-في إيه يا "فردوس"؟
نظرت إلى الماء المتدفق من بين ساقيها ليشكل بركة متزايدة بعينين متسعتين في رعـ.ـبٍ، استوعبت ما يجري معها، وصرخت بعدها في فزعٍ متزايد:
-الظاهر بولد، إلحقني.
ركض نحوها حتى بلغها، ثم تساءل مدهوشًا، وكأنه لا يصدق مثلها حدوث الأمر:
-دلوقتي؟ ده لسه بدري على ميعادك!
صاحت به في عصبيةٍ وهي تشـ.ـد بأصابعه المتشنجة على بطنها:
-بقولك بولد، ده القرن طش، إنت مش شايف ولا إيه؟
سيطرت عليه حيرة واضحة، وسألها في تخبطٍ:
-طب أعمل إيه؟
لكزته في كتفه، قبل أن تهدر به:
-وديني المستوصف أوام، وفوت على "إجلال" خليها تحصلنا.
هز رأسه هاتفًا في طاعة:
-ماشي.
................................................
أبلغوه في المشفى المتواضع بعدmا تم إدخالها لغرفة العمليات أن ولادتها مبكرة ومتعسرة، وإذ ربما لا ينجو الجنين الذي نما في أحشائها، خاصة مع فقدانها لكميات كبيرة من الماء، وقع الصدmة كان قاسيًا عليه، ومفطرًا لقلبه، لحظتها أحس بانسحاب روحه من جسده، وبكى بكاءً حــارقًا، فكم رجا الله أن يحظى برضيع يعيد الوصال مع زوجته، بل يرأب الصدع الذي أقيم بينهما. حضر الشيخ "عبد الستار" لمؤازرته، فسحبه بتؤدةٍ ليجلس على مقاعد الانتظار بالاستقبال، ثم خاطبه في لهجة لينة مترفقة:
-إنت مش مؤمن يا "عوض" بقضاء الله وقدره؟
أومأ برأسه قائلًا، والحـ.ـز.ن الجسيم يخيم عليه:
-أيوه يا شيخنا، وراضي بالنصيب، ودايمًا حامده وشاكره.
ابتسم محدثه في وداعةٍ وهو يتابع بيقين عظيم:
-ربنا سبحانه وتعالى بيقول أنا عند ظن عبدي بي، فأحسن الظن بالله.
أحنى رأسه على صدره متمتمًا:
-ونعم بالله.
مد الشيخ "عبد الستار" يده نحو كفه المسنود على فخذه، ربت عليه برفقٍ، وأمره في هدوءٍ:
-ادعي ربنا يقومهالك بالسلامة، وخليك عارف إن ربنا رؤوف رحيم.
وكأن بكلمـ.ـا.ته البسيطة أعطاه الحل الناجز، فطبب بجراحه الغائرة، ليرفع بصره بعدها للسماء، ولسانه يتضرع في صوت مهموس:
-يا رب نجيها هي واللي في بطنها، يا رب سمعني كل خير عنهم!
............................................
جاءته البُشرى كنسمة عليلة، هبت في نهار شـ.ـديد الحرارة، لتمحو قساوة أشعة الشمس الحارقة. أخمد الخوف البازغ في نفسه، وازداد يقينًا في قدرة المولى عزوجل ومقدرته على فعل كل شيء وقتما شاء وأراد. استُجيب دعائه، وأبلغته الممرضة بنجاة زوجته، وإنجابها لطفلة صحيحة البدن، لا تشكو علة أو مرض، في سابقة غريبة تشبه المعجزة في حد ذاتها. من فرط سعادته احتضن "عوض" الشيخ الجليل بحماسٍ متقد، وهلل مبتهجًا:
-الله أكبر، الحمدلله يا رب.
ربت الأخير على ظهره بضعة مرات، وخاطبه:
-ربنا عطائه غير محدود.
تراجع عنه ليرفع كفيه للأعلى هاتفًا في حبورٍ عظيم:
-اللهم لك الحمد والشكر.
أوصـاه الشيخ بصوته الهادئ الوقور:
-روح اطمن على مراتك، وخد بـ.ـنتك في حـ.ـضـ.ـنك.
أذعن له في الحال:
-هيحصل يا شيخنا.
قبل أن يهم بالمغادرة شـ.ـدد ليه في نفس النبرة اللينة:
-ومـ.ـا.تنساش تتقي الله في عطيته ليك، وتحافظ عليها، دي أمانة استودعها عندك.
قال بوجه مبتسم، وعينان تضحكان:
-حاضر يا شيخ "عبد الستار"، كلامك كله على راسي.
دعا له الشيخ بصدقٍ ومحبة:
-ربنا يراضيك يا "عوض"، ويعوضك خير في ذريتك.
-يا رب أمين.
قال جملته هذه وهو يهرول ركضًا ليتبع الممرضة التي سبقته نحو الردهة، لم تخبت ابتسامته الراضية، وظل لسانه يلهج بالشكر الكبير:
-الحمدلله يا رب، الحمدلله على كرمك معايا.
........................................................
جلجلت ضحكته بعدmا حمل بين ذراعيه قطعة من الجنة، رائحتها كالمسك، وجمالها يشبه الملائكة. اندهشت "فردوس" من الفرحة العارمة التي أصبح عليها زوجها، فقد توقعت بتفكيرها المحدود أن يحـ.ـز.ن لإنجابها أنثى لا مثلما يرغب غالبية الرجـ.ـال في أن يكون مولودهم الأول ذكرًا. لن تنكر أن ضيقها منه ما زال نابضًا، لكن سعادته الكبيرة غطت مؤقتًا على كل ما تضمره تجاهه. تقلبت على جانبها، لتتطلع إليه وهو يجاور فراشها متسائلة بصوتٍ شبه واهن، معلنة بشكلٍ غير مباشر عن عدm رغبتها في مشاركته ذلك الأمر المصيري:
-هتسميها إيه؟
ظهر التردد على محياه، وقال وهو يهدهد مولودته الحديثة بترفقٍ حذر:
-مش عارف، أنا لسه مش مصدق إني شايل الملاك ده بين إيديا.
وكأنها عجزت عن كتم حنقها أمام سروره المستفز، فسألته في غير احترازٍ:
-ما تقول لأمك عشان تيجي تكتم نفسها وتمـ.ـو.تها، وأهو بدل ما نطلعلها شهادة ميلاد، نخليها وفاة مرة واحدة.
اختفت البسمة من على قسمـ.ـا.ته، وانقشعت السعادة من عينيه، ليسود العبوس في كامل وجهه، نظر ناحيتها وسألها في عتابٍ جلي:
-ليه الكلام ده يا "فردوس"؟
أتى ردها محمومًا بغضبها المكبوت:
-ما هي كانت عايزة تخلص عليا وعليها ...
تقلب على شوك كلامها القاسي، وجُرحت مشاعره وهي لا تزال تضيف:
-ومش بعيد عملت ده بموافقتك!
حاول امتصاص حنقها بترديده:
-بلاش سوء الظن، أنا أقسمتلك مليون مرة إني مكونتش أعرف.
من جديد تعبأ الجو بالتـ.ـو.تر عنـ.ـد.ما باحت "فردوس" بما يستعر في نفسها المكدومة:
-اللي بينا انكـ.ـسر من زمان، من يوم ما غدرتوا بيا، والعَيلة اللي جت دي عمرها ما هتصلحه، ده لو إنت مفكر كده.
لو كان يقدر "عوض" على إعادة الزمن للوراء، لما تردد للحظة، ولسعى لمحو هذه اللحظات المدmرة لحياته، يا ليته لم يقم بزيارة أمه! أو يقبل بهديتها! قاوم عبرات متأثرة تلألأت في حدقتيه ليخاطبها في ودية:
-ربنا واحده قادر يغير اللي في القلوب وينسينا اللي حصل.
أصرت على جفائه بقولها القاسي:
-لو إنت نسيت، فأنا استحالة أنسى.
استعطف مشاعرها الأمومية البازغة باستجدائها:
-طب خلينا نفكر في بـ.ـنتنا دلوقتي.
لاذت بالصمت، فاقترب منها مسافة خطوة واحدة، وسألها مجددًا، كأنما يحاول تذكيرها بهبة الله إليهما:
-يا ترى حابة اسمها يكون إيه؟
بحرصٍ شـ.ـديد دفعت جسدها لتتقلب على الجانب الآخر، ثم أخبرته في غير مبالاة:
-مش فارقة، سميها زي ما إنت عايز.
استاء من معاملتها الجافية معه، ونظر إلى رضيعته بحـ.ـز.نٍ عاجز، فإرضاء أمها كان عسيرًا ومحيرًا. تململها الرقيق بين ذراعيه جعله يتناسى في غمضة عين همومه الثقيلة، تجول بها بعيدًا عن فراش والدتها الحانقة ليخاطبها في همسٍ متشوق:
-أيوه، لاقيتها ...
التمعت عيناه بهذا البريق الحماسي وقد طاف بخلده اسمًا متفردًا، ظن أنه لائق بها، وتستحقه. رفع رضيعته للأعلى قليلًا، ثم انحنى بفمه المبتسم على جبينها، ليطبع قبلة صغيرة عليه، قبل أن يهمس عند أذنها في صوت عـ.ـذ.ب أشبه بالسحر:
-أنا هسميكي "تُقى" ...........................
↚
(لا تعبث مع غريمك)
لم تدخر وسعها في إبداء مظاهر فرحتها بمولودة جارتها العزيزة، وتولت بنفسها مهمة إعداد مشروب المُغات الساخن، لتوزعه على الجيران، وأهالي المنطقة احتفاءً بمرور أسبوع على ميلاد الصغيرة "تقى". أحضرت "إجلال" الأوعية الفخارية التي تحتفظ بها والدتها، وملأتها بالمزيد، لتقوم برصها بحرصٍ في صينية واسعة، وأعطتها لأخرى وهي توصيها:
-شوفي مين ماخدش وقوليلي، عاوزة الحتة كلها تفرح.
حملته الجارة في حرصٍ واضح وهي ترد:
-من عينيا.
نظرت "فردوس" لرفيقتها بامتنانٍ، وقالت بتحرجٍ:
-والله ما كان ليه لازمة ده كله.
ردت عليها باسمة:
-ما تقوليش كده يا "دوسة"، إنتي مش متخيلة أنا فرحانة بيها إزاي، والله ولا كأنها بـ.ـنتي.
زمت شفتيها في شيءٍ من العبوس قبل أن تخبرها:
-خسارة المصاريف والتكاليف، هو إنتي ناقصة؟!
عاتبتها بنظرتها أولًا لتعلق عليها بعدها:
-والله أزعل منك ...
ما لبث أن عادت لابتسامتها اللطيفة وهي تكمل جملتها:
-ما تشليش هم حاجة، وبعدين سبيني على راحتي، أنا عاوزة أفرح الناس كلها، وزي ما بيقولوا، الخير على قدوم الواردين.
مجددًا شكرتها "فردوس" بلا ابتســام، وهي تسلط نظرة فاترة إلى رضيعتها:
-ربنا يخليكي ليا.
................................................
السعادة التي شعر بها منذ اللحظة الأولى التي حملها فيها بين ذراعيه كانت لا توصف ولا تقارن بأي فرحة أخرى مرت عليه طوال سنوات عمره، كان كمن وُهب سعادة أبدية. ولج "عوض" إلى المسجد، وباشر عمله وهو في قمة نشاطه وسعادته، انهالت عليه المبـ.ـاركات والتهنئات من كل من يعرف ومن لا يعرف، التقى بإمام المسجد الشيخ "عبد الستار"، فاستطرد في وقارٍ ممزوج ببسمة هادئة:
-مبروك يا عم "عوض" تتربى في عزك.
احتضنه الأخير في سرورٍ وهو يرد عليه:
-الله يبـ.ـارك فيك.
ربت الشيخ على ظهره مرددًا بنفس الصوت الهادئ، والملامح المبتسمة:
-جعلها المولى مُبـ.ـاركة عليك يا "عوض".
عقب عليه مبتهجًا:
-الله يكرمك يا شيخنا.
خفض "عوض" من ناظريه عنـ.ـد.ما وجده يمد يده بمظروف أصفر مطوي ناحيته وهو يخبره:
-اتفضل.
سأله مندهشًا، والحيرة تسيطر أيضًا على نظراته:
-إيه ده؟
احتفظ الشيخ بملامحه المسترخية وهو يجيبه:
-نقوط المولودة.
في قدرٍ من الحرج اعترض عليه رافعًا المظروف تجاهه:
-ليه بس يا شيخنا؟ مالوش لازمة ده كتير وآ...
قاطعه بإصرارٍ وهو يشـ.ـدد على قبضة يده المضمومة:
-ده رزق ربنا ليها، خده ومـ.ـا.تكسفش.
لم يجد بدًا من مواصلة رفضه أمام إلحاحه الكريم، وقال ممتنًا:
-الله يبـ.ـاركلنا في عمرك يا شيخنا.
أضاف عليه الشيخ بتضرعٍ:
-ويجعلها نعم السند ليك في الدنيا، وسبب دخولك الجنة في الآخرة.
في التو أمن على دعائه:
-يا رب أمين.
دس "عوض" المظروف داخل جيبه، وتابع أداء عمله، كما هو دأبه، وهو لا يكف عن الدعاء بالشكر للمولى عز وجل، راجيًا منه أن يرزقه المقدرة والعون على تربية رضيعته التربية الصحيحة.
............................................
في الفترة التي رحل فيها عن المنزل، كانت والدته الأقرب إليه عن أي وقتٍ مضى، حيث كانت تلازمه ليل نهار وفي كل نشاط يقوم به، تشاركه لهوه، واستذكاره، وفسحته، وحتى تناوله للطعام، وكأنها تعوض عن شوقها إليه بالانخراط أكثر معه في كل تفصيلة دقيقة تخص حياته، ولم يمانع ذلك مطلقًا، أصبحت هذه الأيام هي الأكثر سعادة بالنسبة له، آنئذ شعر بمدى عمق الارتباط الوثيق بينهما، بدا وقتها وكأنه استعادها بعدmا سلبها غيره، كم تمنى أن تدوم هذه اللحظات الثمينة للأبد، وألا يوجد من ينزع أو يفسد هذه الصلة القائمة لأي سبب كان! أنهى "أوس" مسألته الحسابية، وأعطاها لوالدته لتراجع طريقة حله، ظل يتأملها بعينين حانيتين، قبل أن يخبرها في نزقٍ:
-أنا بحبك أوي يا ماما.
ابتسمت لاعترافه المتكرر دومًا على مسامعها، انحنت عليه، وضمته إلى صدرها في عاطفة أمومية جياشة، رمقته بنظرتها الدافئة قائلة:
-وأنا أكتر يا "أوس"...
ثم أشارت إلى بطنها الذي برز بشكلٍ واضح متابعة كلامها:
-وبكرة لما يبقى عندك أخ أو أخت عايزاك تحبه زيي.
سألها في عبوس طفولي:
-إنتي هتحبيه أكتر مني؟
ردت نافية وهي تهز رأسها:
-لأ، إنتو الاتنين زي بعض، في نفس الحب والغلاوة...
ثم وضعت بسمة رقيقة على وجهها وهي توصيه:
-وبعدين إنت هتبقى الكبير، ومسئول عنه، يعني هيسمع كلامك ويعمل اللي إنت عاوزه.
وكأنه استساغ الأمر، فصمت مليًا ليستغرق في التفكير، قبل أن يتساءل بقدرٍ من الحيرة:
-والنونو ده هيعيش معايا عند بابا؟
في التو نفت، وقد غامت تعبيراتها:
-لأ طبعًا...
استغرب لهذا التجهم المريب الذي كسا تعبيراتها، فحاولت "تهاني" التبرير له باختلاق كذبة لحظية:
-حبيبي، أنا مش عايزاك تنسى اللي اتفقنا عليه، مـ.ـا.تجيبش سيرة لباباك إني حامل، دي مفاجأة، خلاص؟
حرك رأسه إيجابًا وهو يرد:
-طيب.
مسدت على رأسها باسمة، قبل أن تواصل مراجعة الجزئية التالية في واجبه الدراسي، وداخلها لا يزال يلتاع لغياب من امتلك قلبها، وارتحل عنها بلا محاولة واحدة للاتصال أو التواصل معها.
...............................................
كأفعى تفح وتلدغ سمها الفتـــاك في دmاء أحدهم، أخبر "بدري" والدة "عوض" بالمستجد من الأحداث، بعدmا زارها في بيتها ببلدتها القاصية. تضرج وجهها بحمرة الغضب، واشتعلت نظراتها وهي لا تكاد تصدق أن تلك المشؤومة نجت، بل وأتت بقطعة منها لهذه الحياة، ظلت تردد في استنكارٍ جلي:
-ولدت؟ طب إزاي؟!
بتلقائية، وبفمٍ ملتوٍ أجابها:
-مشيئة ربنا.
سألته في نوعٍ من الفضول، وداخلها ما زال مستعرًا:
-وجابت إيه على كده؟
بنفس الملامح المتجهمة أخبرها:
-بت.
علقت في ازدراءٍ حاقد:
-يا مجاب الغراب لأمه!
تأهب "بدري" للذهاب، فنهض من مقعده مرددًا:
-أنا جيت أعرفك يا خالة بده، بدل ما تسمعي من الغريب!
قامت بدورها، لتصحبه لباب المنزل، هاتفة في وجومٍ أشـ.ـد:
-وهيفيد بإيه؟ لا عمره "عوض" هيرجع، ولا أنا هرضى بيها!
أوصلته إلى عتبته متابعة شكواها الحانقة:
-كانت وش نحس من يوم ما دخلت حياتنا، أنا عارفة ربنا مخدهاش ليه وريحنا منها.
نجح في مسعاه، وملأ نفسها بالشرور ناحية زوجة ابنها، وكأنه بذلك يقتص لما أصاب كرامته من إهانة وتحقير، فرغم مضي السنوات إلا أنه لا يزال يكن في نفسه ذلك الشعور البغيض تجاه كل من له صلة بـ "تهاني"، وضع على وجهه قناع الوداعة، ليقول في براءة خبيثة:
-عاوزة حاجة تانية مني يا خالة؟
ردت عليه بما يشبه التوصية:
-تعيش، ولو عرفت حاجة تانية بلغني يا "بدري"، أو اتصل على الرقم اللي معاك.
ألصق بثغره ابتسامته اللئيمة قبل أن يرد:
-أكيد يا خالة، سلام عليكم.
اقتضب في الرد عليه بعدmا انصرف:
-وعليكم...
أغلقت الباب من ورائه، وصفقت بيديها قبل أن ترفعهما للأعلى صائحة فيما يشبه الدعاء:
-إلهي يجيني خبرك يا "فردوس" يا بـ.ـنت "عقيلة"!
..............................................
قفز قلبها بين ضلوعها، ورقص طربًا، كما غمرتها موجات متدفقة من السعادة، عنـ.ـد.ما نما إلى مسامعها عودة زوجها من بعد سفر طويل، وغياب مو.جـ.ـع، ظنت خلال مدة بُعاده أنه هجرها بعدmا نجح "مهاب" في التأثير عليه، و.جـ.ـعله يُفارقها جبرًا. هرولت "تهاني" بين الأروقة في خطواتٍ أقرب للركض، لا تتناسب مع انتفاخ بطنها، وآلام الحمل المسيطرة عليها، اتجهت في الحال إلى مكتبه، نادته قبل أن تفتح الباب وتقتحم غرفته دون استئذانٍ:
-"ممدوح"!
في تعابير شبه ذاهلة، حملق ناحيتها زوجها، وكأنه لا يستوعب ما يراه، شلت المفاجأة تفكيره، وتخشب في موضعه بلا أدنى ردة فعل، ارتمت دون مقدmـ.ـا.تٍ في أحضانه، منحته ضمةً عبرت عن شوقها واشتياقها، اختنق صوتها وهي تكلمه في صوت مهموس:
-حبيبي...
ظلت باقية في أحضانه، وصوتها شبه الباكي يردد:
-أنا مش مصدقة إنك موجود هنا.
لم يبدُ بمثل شغفها وتلهفها، كان فاترًا في لقائه بها، لم تشعر بذراعيه يطوقاها، بل كان جـ.ـا.مدًا كالصخر، مصدومًا، في حالة من الدهشة والتعجب، تراجعت عنه لتنظر إليه ملء عينيها، ويداها تنخفضان لتمسك براحتيه، بكت دmـ.ـو.ع الفرحة وهي تخاطبه بأنفاسٍ منفعلة:
-حمد لله على السلامة.
وضعت يديه على بطنها المتكور وهي تسأله في ترقبٍ متحمس:
-إيه رأيك في المفاجأة دي؟
كان لا يزال على دهشته المصدومة حين سألها:
-إنتي حامل؟
ضحكت لسؤاله الساذج، وكأنه لا يرى حجم بطنها المنتفخ، وصححت له:
-قول قربت أولد.
سألها في صوتٍ شبه جاد، ويداه تتحسسان بطنها في حذرٍ:
-ليه ما عرفتنيش؟
أجابته بعد تنهيدة عميقة:
-كنت عايزاك تشوف بنفسك.
صمت للحظاتٍ، قبل أن يعقب بشيءٍ من الغموض:
-حاجات كتير كده هتتغير!
لم تكترث بالمغزى وراء عبـ.ـارته هذه، بل ولم تهتم على الإطـ.ـلا.ق بما قرر فعله أثناء أشهر غيابه، المهم لديها الآن أنها استعادته، وأصبح معها من جديد.
................................................
بناءً على ميعادٍ مسبق ومرتب له، التقى بها في غرفة مكتبه التي بدت أصغر من تلك التي يشغلها شقيقه الأكبر، في المقر الرئيسي لشركات "الجندي"، ومع ذلك لم يكن ممانعًا من هذه المظاهر الفارغة، فحينما تأتي اللحظة المناسبة، سيقوم بتغيير الأوضــاع، وإعادة الأمور لنصابها الصحيح. انتظر "مهاب" ذهاب سكرتيرته الخاصة بعدmا وضعت فنجاني القهوة الساخنة أمامه وكذلك أمام ضيفته، ليصغي إليها مجددًا في انتباه كامل، وهذه البسمة العـ.ـذ.بة تحتل شفتيه:
-تعرف، أنا مش من السهل أتعود على حد.
داعبت "ناريمان" خصلة شعرها المتطايرة على جبينها، وطرحتها للخلف قبل أن تستأنف استرسالها بنبرتها المرحة:
-بس إنت فيك حاجة غريبة، غامضة، مش مفهومة، هي اللي دايمًا بتشـ.ـدني ليك.
طالعها بهذه النظرة المزهوة السعيدة بقرب تحقيق واحدٍ من أكبر انتصاراته، فبعد أشهر من التخطيط والترتيب، وعدm التعجل، استطاع بمهاراته إيقاع هذه الطريدة الجديدة، ذات الطباع المستعصية، وجرها إلى حبائل وهم عشقه. بهدوء الصياد المحنك علق عليها مقتضبًا، وفي جدية مشوبة بالاحترام:
-ده شرف ليا.
ارتشفت القليل من قهوتها، وأضافت في تحمسٍ وهي تعيد وضع فنجانها في موضعه:
-صحيح في دmج جديد هيحصل ما بين فرع شركتنا وشركتكم.
حرك رأسه معقبًا:
-"سامي" بلغني بده.
سألته في فضولٍ، ونظرة حيرى تطل من عينيها إليه:
-إنت ليه مش ماسك معاه الإدارة؟ أو زي ما بيقولوا صلاحياتك تعتبر أقل منه!
جاء رده مثل تعابيره هادئَا:
-الفترة دي مش فاضي، ورايا حاجات تانية أهم.
أبدت اهتمامها بما قاله، فسألته بلطافةٍ لائقة على تدللها:
-زي إيه؟
كالعادة حينما يحب استطالة الحديث مع إحداهن، وإظهار مدى تفرده عن غيره من الرجـ.ـال، أتى جوابه في صيغة تساؤلية:
-كدكتور ولا كرجل أعمال؟
مطت فمها قليلًا، ثم هزت كتفيها هاتفة:
-زي ما تحب.
رفع يده ليمررها في خصلات شعره، ثم أخبرها بما صدmها تمامًا:
-بالمناسبة، أنا مسافر تاني، واحتمال أغيب فترة.
لاحظ بعينيه الثاقبتين تبدل تعبيراتها المرحة إلى قليلٍ من الضيق، رغم محاولتها لإخفاء ذلك، لم تتوقع "ناريمان" مثل ذلك الرد، ابتلعت غصة في حنقها، وسألته كنوعٍ من المزاح لتغطي على شعور الانزعاج الذي تسلل إليها:
-ناوي تتجوز ولا إيه؟
نظر إليها بعمقٍ، فتوردت بشرتها من طريقة تطلعه، ليقول بعدها في مكرٍ، وبكلمـ.ـا.ت موحية، ذات مدلولٍ خطير:
-لو نويت، مش هيكون غير عشان واحدة وبس، ده لو وافقت.
تحفزت في جلستها بشكلٍ مربك، وسألته وهي ترمش بعينيها:
-مين دي؟
في بطءٍ وتمهل أرجع ظهره للخلف، وقال في غموض مثير:
-أفضل أحتفظ بالجواب لنفسي حاليًا، مش حابب أخسرها، وخصوصًا بعد ما بقت أقرب واحدة ليا.
تلميحاته المفهومة لها، جعلتها تزداد اهتمامًا به، حاولت مواراة ما تكنه ناحيته، وردت في ابتسامة رقيقة كعادتها مؤخرًا معه:
-قبل ما تسافر عرفني، جايز أودعك في المطار.
بادلها الابتسام الماكر، وأومئ برأسه مؤكدًا لها:
-حاضر، بالعكس أنا حابب ده.
استمرت على تبسمها الخجل، قبل أن تمسك بفنجان قهوتها لتكمل ارتشاف ما تبقى منه، ونظرات "مهاب" تتفرس فيها كحـ.ـيو.انٍ ضارٍ يتربص بطريدته الشهية.
.............................................
بشكلٍ غير اعتيادي، انتفخت عروق وجهه، واسودت كامل ملامحه، حتى عينيه تحولتا للون القاتم عنـ.ـد.ما أبلغه رفيقه بعد عودته من سفره بمسألة حمل "تهاني"، أحس "مهاب" بالغباء، لكونها نجحت في إخفاء هذا الأمر الجلل عنه تمامًا، فلم يشك للحظة بها، ولم يشعر بأنها تحيك مكيدة من خلفه، اشتاط غضبًا لوضعه في موقف الأحمق الجاهل، وصاح معنفًا صديقه في غيظٍ:
-وإنت إزاي تسمحلها تحمل؟ مش عامل احتياطاتك معاها ولا إيه؟
استغرب "ممدوح" من الانفعال الذي أصبح عليه، وسأله في برودٍ مناقض له، محاولًا سبر أغواره الغامضة:
-وده يضايقك في إيه؟
صاح في تشنج غريب، وكأنه اتخذ الأمر على محمل شخصي:
-أه طبعًا مضايقني، لأن المفروض نخلص من "تهاني"، وجودها مالوش لازمة في حياتنا دلوقتي.
للغرابة استمتع "ممدوح" للمرة الأولى برؤيته على هذه الحالة الحانقة، بدا وكأنه تفوق عليه بعد صراع ممتد معه، استرخى في جلسته، ونظر إليه بقدرٍ من العجرفة قبل أن يخبره:
-بس هي أمرها يهمني.
رمقه بهذه النظرة النارية وهو يسأله في تحفزٍ:
-وده من إمتى؟
ادعى "ممدوح" تثاؤبه، وقال:
-من زمان، بس مكونتش متأكد.
استفزته طريقته في التعامل مع جدية الوضع بهذا القدر من اللامبالاة والاستهتار، فرغبته في التخلص منها ازدادت بعدmا توطدت صلته بـ "ناريمان"، وبطبيعة الحال لم يحبذ أبدًا أن تكون على أي نوعٍ من الصداقة معها، وإلا لكشفت لها الصندوق الأسود لشخصيته الســـــادية، لهذا علق عليه في تعصبٍ أكبر:
-ودلوقتي بقيت مش قادر تستغنى عنها؟ إنت بتستهبل يا "ممدوح"؟
كان الأخير في أوج نشوته، أخبره في لؤمٍ مغيظٍ له:
-أيوه، وخصوصًا بعد ما بقت حامل في ابني...
ثم تصنع الضحك بعدmا رأى هذا التعبير الغاضب متجسدًا على وجهه، ليزيد من سوء الأمر بإتمام جملته:
-كده عيالنا هيبقوا إخوات.
لم يتحمل سخافاته المستفزة، فهدر به في انفعالٍ جلي:
-ما تسكت بقى يا "ممدوح"!
لم يكف عن مضايقته، واستمر يقول في تسلية:
-شوف الزمن والحظ، مين كان يصدق.
حذره "مهاب" بلهجةٍ غير متساهلة حينما ظل على طريقته المستثيرة للأعصاب:
-"ممـــــدوح"!!!
توقف عن إغاظته، فقد نال مبتغاه منه، نهض من مقعده قائلًا بوجه مبتسم على الأخير:
-واضح إن أعصابك تعبانة، أسيبك ترتاح من السفر، وأروح أنا لمراتي وابني...
وقبل أن يغادر أخبره:
-لو عايز أبعتلك "أوس" يومين، خده...
ثم غمز له بطرف عينه متابعًا كلامه العبثي:
-ما إنت عارف الحوامل، بيحبوا الحنية والدلع، وأنا سيد من يدلع!
بالكاد ضبط "مهاب" أعصابه لئلا يستفز أكثر من ذلك، وانتظر انصرافه ليطيح بكل ما على سطح مكتبه في عصبيةٍ مبررة. لم يهدأ داخله، وظل متقدًا ومستثار في انفعالاته، هب واقفًا بعدmا دفع مقعده للخلف، واتجه إلى النافذة محادثًا نفسه في توعدٍ:
-أما إنك ماطلعتيش سهلة يا "تهاني"، بس نهاية الموضوع ده عندي!!!
.....................................................
بعد ليلة حميمة عاصفة، محملة بكل ما كانت تتوق إليه، لتروي ظمأ جسدها، وتطفئ لهيب مشاعرها المتأججة، أراحت "تهاني" رأسها على صدر زوجها، وخللت أناملها في أصابعه لتتشابك يداهما معًا، تأوهت في صوت خافت وهي تشعر بلمسة يده الأخرى على جلد بطنها الناعم، استمتعت بهذه المداعبات الدافئة، وهي غارقة في أحضانه، رفعت رأسها لتنظر إليه عنـ.ـد.ما همس لها بما يشبه التحذير:
-عايزك تاخدي بالك كويس من نفسك الفترة الجاية.
سألته في استغرابٍ، وقد تقلصت المسافة بين حاجبيها:
-ليه بتقول كده يا "ممدوح"؟
أجاب بعد زفرة بطيئة، ليوحي لها بأنه يستصعب الأمر:
-"مهاب" عرف إنك حامل، وده مجننه على الآخر.
تصلب جسدها، وارتفعت بكتفيها عن مستوى رقودها لتتساءل في ضيقٍ:
-وهو ماله؟
أعادها إلى موضع استرخائها الأول، ومرر طرف إصبعه على ذراعها صعودًا وهبوطًا في رقةٍ وخفة، قبل أن يجاوبها:
-غيران يا حبيبتي، إن بقى عندك عيلة، وحياتك مستقرة، مع الشخص اللي بتحبيه.
استسلمت للخدر المغري المصاحب للمساته الرقيقة، واعترفت له بتقاسيمٍ عابسة:
-أنا ما بكرهش في حياتي أد "مهاب"، أبشع إنسان في الكون.
استغل الفرصة ليقول في مكرٍ، قاصدًا بذلك تعميق العداء بينهما:
-ده ممكن يقلب ابنك عليكي.
مرة ثانية انتفض جسدها، وتحفزت وهي تسأله:
-معقولة؟
رفع يده ليحيط بمنحنى عنقها مداعبًا إياه في نعومة وهو يضيف:
-إنتي مش عارفاه زيي.
عاد ذلك الشعور الممتع ليراودها، فاستسلمت إليه وكأنها خدرت، ومع ذلك أتى صوتها منزعجًا:
-استحالة، ده بقى متعلق بيا أكتر من الأول.
نظر إليها قائلًا في لهجة اكتسبت طابعًا جديًا:
-شوفي يا حبيبتي، لو مافيش شوية حزم مننا معاه، صدقيني عياره هيفلت.
دون تفكيرٍ منحته الإذن ليفعل ما يريد بتأكيدها:
-اللي إنت شايفه صح اعمله، إنت ليك كل الصلاحيات معاه!
ثم تقوست شفتاها عن ابتسامة طامعة، بها دعوة مرحبة باستقبال ما يقدmه لها من إغراء احترافي، لتشرئب بعنقها لتقبله قائلة:
-أنا مابقتش بثق في حد غيرك.
برقت عيناه بهذا الوهج الشيطاني الخبيث، وخاطبها بعدmا استدار في خفةٍ لتصبح ممددة أسفل منه، مسح على شعرها بنعومة، وانحنى على شفتيها ليبادلها بأخرى أكثر تأثيرًا، وعمقًا، وشهوانية، ثم همس بأنفاس حارة لفحت شحمة أذنها:
-وأنا هكون أد الثقة دي يا حياتي .................................... !!
↚
(التوأم)
منذ أن عاد إلى المنزل، وكل شيء تغير، أو الأحرى أن يوصف الوضع بأنه بات كما كان من قبل، حتى الوقت الذي كان يقضيه بصحبة والدته تقلص للغاية، وأصبح لبضعة دقائق، تكاد تعد على أصابع اليد، لتشرع بعدها في الالتصاق بزوجها وكأنها ظله، تخشى مفارقته فيهجرها، مجددًا تحول إلى كتلة مهملة، وغير مرئي. انزوى "أوس" في غرفته، مشحونًا بغضبه الداخلي، ومحاولًا تفريغ هذه الشحنات الحانقة في ممارسة لعبة الرماية بالأسهم. في كل مرة يخطئ في إصابة الهدف، كان يجبر نفسه على المران أكثر لإتقانها.
في خضم تركيزه، اقتحم "ممدوح" غرفته لافتعال المشاكل معه كعهده مؤخرًا، من أجل الاستمتاع بتقريعه، وتوبيخه، وكأنه ينفث عن طاقته الانتقامية به. هدر به عاليًا وهو يقف مستندًا بذراعه على الإطار الباب الخشبي:
-مش بنادي عليك؟
لم ينظر "أوس" تجاهه، وعامله بتكبرٍ حين خاطبه:
-ماسمعتش.
رد عليه "ممدوح" في تحفزٍ، قاصدًا تصيد الأخطاء له:
-ولا قاصد تطنشني؟
تجاهله الصغير متابعًا ما يقوم به، فألقى بالسهم تجاه اللوح الخشبي، وأصاب المنتصف، فابتسم في انتشاء لنجاحه في التسديد، اشتاط "ممدوح" غضبًا مما اعتبرها عجرفته المستفزة، وانفـــــجر صائحًا فيه بعدmا اندفع تجاهه ليمسك به من تلابيبه:
-شوف يا ابن "مهاب"، إنت هنا موجود بأمر مني، ولو حبيت أزيحك مش هتاخد في إيدي تكة.
دفعه الصغير بعيدًا عنه، وهدده علنًا بتحدٍ:
-وأنا لو قولت لبابا عنك هتزعل.
ازداد غضبًا من جملته تلك، وهدر به:
-هي حصلت بتهددني بأبوك؟
ثم خفض من يده لينتزع حزام بنطاله الجلدي، قاصدًا تقريعه به، ما إن جذبه حتى ثنى طرفيه معًا ليبدو كالسوط، ثم رفعه وفرقع الهواء به مكملًا تهديده بابتسامةٍ خبيثة:
-إنت فعلًا محتاج تتربى.
قبل أن يدنو منه، صوب "أوس" بالسهم تجاهه، فأصابه في معصمه، فانفلت الحزام من يده، وصرخ "ممدوح" من الألم الشـ.ـديد، ليلعنه بعدها في غيظٍ:
-يا ابن الـ ....
على إثر صرخته جاءت "تهاني"، ووزعت نظراتها القلقة بين الاثنين وهي تتساءل بتـ.ـو.ترٍ متحير:
-في إيه اللي بيحصل هنا؟
وقبل أن يبادر "أوس" بالتفسير ادعى عليه زوجها كذبًا:
-شايفة ابنك؟ بكلمه بالعقل بيعورني بالزفت اللي معاه.
في التو اندفعت تجاه زوجها لتتفقد موضع الإصابة، معتذرة منه عن سوء تصرفه، مما جعل دmاء ابنها تحتقن، بصوت مرتفع ونظرة نارية صاح "أوس" في وقاحةٍ:
-اطلعوا برا.
تفاجأت "تهاني" من سلوكه غير اللائق، ونهرته في نظرة صارمة:
-"أوس"! إيه الأسلوب ده؟
رد عليها في تحيزٍ، وشرارات الغضب تنتفض في حدقتيه:
-مش عاوز الراجـ.ـل ده هنا.
حذرته في جديةٍ:
-اتكلم كويس، ده في مقام بابا.
أخبرها باعترافٍ صريح:
-أنا بكرهه، مش بحبه.
لم يتحمل "ممدوح" طريقته المماثلة لأبيه، فلكز زوجته ليمر وهو يخاطبها باستياءٍ عارم:
-أنا تعبت مع ابنك، اتصرفي.
استوقفته قبل أن يخرج بكلامها الصادm:
-لأ يا "ممدوح"، احنا متفقين، اللي إنت شايفه صح اعمله.
وكأنه نجح مرة ثانية في نيل مآربه، فاستدار ناظرًا إليه بنظرة متشفية شامتة، ثم أطلق سلسلة أوامره المتشـ.ـددة:
-الولد ده هيفضل محبوس، ومالوش أكل، لحد ما يجي يعتذر ليا.
في التو وافقته دون جدالٍ، وعيناها توجهان نفس النظرة المؤيدة لزوجها:
-تمام، طالما ده اللي يريحك.
غادر "ممدوح" منتشيًا بانتصاره الزهيد، في حين ظلت "تهاني" واقفة لهنيهةٍ قبل أن توجه أمرها لابنها بغير مساهلة، رافضة حتى الإصغاء إليه:
-اقعد مع نفسك وشوف غلطك، وأحسنلك تعتذر، لأنك غلطان.
سدد لها نظرة نارية قبل أن يحيد ببصره عنها ليواصل اللعب، وكأنه لم يفعل شيئًا، مما استفزها هي الأخرى، فانصرفت من الغرفة، قاصدة إغلاق الباب عليه من الخارج بالمفتاح، ليبقى حبيس غرفته حتى يدرك فداحة تصرفه، ويأتي للاعتذار، وهذا ما لن يفعله، وإن ظل هنا أبد الأبدين!
...............................................
تابعت من فرجة شباك منزلها حركة سير المارة، إلى أن لمحت إحدى جاراتها المقربات تدني من بيتها، لحظتها تحركت من موضع جلوسها، وأسرعت تجاه الباب لتستقبلها في الحال، فقد أوصتها في لقاءٍ سابق بها بإحضار إحدى هذه المواد الكاوية، تلك التي تستخدm في إلهاب الجلد، وحـــرقه، لتستخدmها في إلحاق الضرر الجسيم بزوجة ابنها، وذلك بعدmا تنجح في إقناع "بدري" بتولي هذه المهمة، تأكدت المرأة من عدm مراقبة أحدهم لها قبل أن تلج للداخل، ثم نظرت إلى "أم عوض" بنظرات مرتابة وقلقة، فسألتها الأخيرة في صوتٍ خفيض حذر:
-جبتي الأمانة ياختي؟
دست المرأة يدها في جيب عباءتها النسائية، وأخرجت من فتحة صدرها علبة زجاجية صغيرة، ملفوفة في قطعة قماشية بالية، ناولتها إياها وهي تجيبها:
-أيوه يا ست "أم عوض"...
التقطتها منها في الحال، وتأملتها بعينين متسعتين في سرور، فأضافت المرأة في كلمـ.ـا.تٍ موحية:
-بس دي كلفتني كتير.
حينئذ تجهمت قسمـ.ـا.ت وجهها، وقالت بفمٍ ملتوٍ:
-احمدي ربنا على اللي خدتيه، بلاش طمع!
اعترضت عليها المرأة بعبوسٍ:
-بس آ...
لتسلم من إصرارها السمج، أعطتها ورقة نقدية صغيرة، وهتفت في حدةٍ:
-مش هزود عن كده.
ارتضت بما ظفرت به منها قائلة بقليلٍ من الابتهاج:
-ماشي، كله نعمة من عند الله.
تأملت "أم عوض" الزجاجة الصغيرة بنظرة براقة تنم عن شيء خطير، تشتت نظرتها عنها عنـ.ـد.ما خاطبتها المرأة بتحذيرٍ صريح:
-خدي بالك بس لأحسن غطاها مفوت شوية.
غامت تعبيراتها إلى حدٍ ما، وعنفتها:
-ملاقتيش حاجة تانية عدلة عندك بدل دي؟
على مضضٍ أخبرتها:
-أهوو اللي كان موجود.
نفخت في سأمٍ، واقتضبت في الرد وهي تقبض على الزجاجة براحتها:
-طيب.
مثلما فعلت مع الزجاجة دست المرأة المال في جيبها النسائي الخاص، وتساءلت في قدرٍ من الفضول:
-بس مقولتيش إنتي محتاجاه في إيه؟
نهرتها "أم عوض" بنظرة صارمة من عينيها:
-إنتي ليكي أكل ولا بحلقة؟
ثم صرفتها بعدها لتغلق الباب من ورائها، وتسير بتؤدةٍ تجاه المطبخ، وعيناها تتفحصان محتويات الزجاجة بوهجٍ خبيث. اشتدت قبضتها عليها، وراحت تُحادث نفسها بوعيدٍ شيطاني لئيم:
-أهوو ده بقى اللي هيخلصني منك يا "فردوس"!!
طافت بناظريها على أدراج ورفوف مطبخها القديم متسائلة في تحيرٍ:
-بس أخبي الإزازة دي فين؟
وقعت عيناها على واحدة من علب الحلاوة القديمة، الموضوعة على رفٍ علوي، به بعض الأشياء القديمة المهملة، ففكرت في وضع الزجاجة بداخلها؛ لكن لسوء حظها حينما رفعت يدها للأعلى لتسحبها، كادت تسقط الأشياء المجاورة للعلبة عليها، فدmدmت بتـ.ـو.ترٍ:
-يا نصيبتي، هو أنا ناقصة.
كردة فعل طبيعية حاولت منعهم من السقوط، بإعادتهم إلى مكانهم، مستخدmة كلتا يديها، فانفلتت الزجاجة من بين أصابعها، وسقط الغطاء غير المحكوم، لتنسكب محتوياتها الكـــــاوية وتتناثر على وجهها وصدرها، وقتئذ صدحت من أعماقها صرخة مدوية، رن صداها المفزع في الأرجاء، قبل أن ترتمي بجسدها على الأرضية وهي تتلوى من الألم الرهيب.
..................................................
نفس نظرة التشاؤم والعبوس، كانت تمنحها لها، كلما نظرت تجاهها، أو حملتها بين ذراعيها. فمنذ أن وضعتها أنثى وهي تشعر بعدm الرضا، وكأنها أنجبت عبئًا، لا رزقت هبةً من الله، يدعوه بها الناس لينالوها! تململت الرضيعة في غطائها، ومطت أطرافها الضئيلة، كأنما تبحث عن حنان أمها بلمسة منها، فأبعدت "فردوس" يدها عنها، رافضة منحها ما تريده، لتشيح بعدها بوجهها، وتردد في إحباطٍ بائس:
-ما إنتي لو كنتي ولد كنت فرحت بيكي، على الأقل كنتي هتبقي سندي لما أعجز وأكبر.
مجددًا التفتت محدقة في رضيعتها بنظرة ناقمة وهي تخبرها:
-بس خلفتك بـ.ـنت، يعني هفضل شايلة همك للممـ.ـا.ت، ويا عالم ممكن يحصلك إيه.
أحست "فردوس" باختناقٍ صدرها، بغصة تنـــهش داخلها، فواصلت الكلام:
-أنا اتبهدلت عشان ماليش لا سند، ولا عزوة ولا ضهر.
أدmعت عيناها وذلك الشعور القوي بالقهر يسيطر عليها، باعدت عينيها عنها وهي لا تزال تندب ما اعتبرته تعاستها الأبدية:
-مش مكتوبلي أبدًا أرتاح، لا في جوازة ولا في خلفة!
...................................................
ابتلعت ما تبقى من ثمرة التفاح قبل أن تلقي بالبقايا غير الصالحة في سلة المهملات، مسحت "تهاني" طاولة المطبخ، ووضعت المنشفة جانبًا، كانت على وشك الذهاب إلى غرفة نومها لتبديل ثيابها لولا أن سمعت قرع جرس الباب، ظنت أن زوجها قد فرغ من عمله، فمشت بدلال لتستقبله في ترحاب ولهفة، سرعان ما تشتت ابتسامتها وتبددت ملامح الوداعة من على وجهها عنـ.ـد.ما رأته واقفًا قبالتها بطلته التي تخشاها، ونظراته التي تثير فزعها، ارتجفت شفتاها ناطقة باسمه:
-"مهاب"!
دفع الأخير الباب بيده ليلج قسرًا وهو يخاطبها في نبرة زادت من شعورها بالفزع:
-عرفتي تلعبيها صح يا "تهاني"!
تراجعت للخلف في ذعرٍ مبرر، محاولة أن تخلق مسافة آمنة بينها وبينه، وهتفت بصوت مرتعش، ويدها تحاوط بطنها المنتفخ:
-إنت إيه اللي جايبك هنا؟ "ممدوح" مش موجود.
نظر لها شزرًا، وباستحقارٍ صريح قبل أن يخبرها بأسلوبه الوضيع:
-ده على أساس إنه هيمنعني أدخل مثلًا؟
كبتت حنقها منه، كانت تعلم جيدًا أنه يحاول استفزازها بطريقته هذه، فلاذت بالصمت تجنبًا لبطشه الأهوج، تحفزت أكثر عنـ.ـد.ما سألها وهو يتجول في صالة منزلها بأريحية تامة:
-فين ابني؟
أجابته باقتضابٍ وهي تشير بيدها:
-جوا.
أمرها بلهجته المعتادة معها:
-هاتيه.
لم تكن قد تحركت بعد عنـ.ـد.ما هرع صغيرها إليه، ارتمى في حـ.ـضـ.ـنه مرددًا في صوتٍ أقلقه:
-بابا.
أبعده عنه ليحتضن وجهه بين راحتيه، فحصه بنظراته الثاقبة، كأنما يفتش عن إصابة خفية به وهو يسأله:
-مالك؟
أجابه بوجه ممتعض، ونظرات قاتمة:
-مش عاوز أفضل هنا.
شعر "مهاب" بالارتياب من طريقته، لم يترك الأمر يحيره كثيرًا، حيث اندفع تجاه "تهاني" لينقض عليها بغتة، أمسك بها من عنقها، ضاغطًا بقساوة على فقرات رقبتها، تفاجأت من هجومه العنيف عليها، ولم تستطع الزود عن نفسها أو الإفلات منه، نظرته المشتعلة المسلطة عليها أرعـ.ـبتها، سألها من بين أسنانه في أنفاسٍ محمومة مهددة:
-إنتي ضايقتيه ولا إيه؟
توسلته في ارتياعٍ متزايد، وهي تجاهد لتحرير عنقها من قبضته المحكمة:
-سيبني يا "مهاب"، هتخـ.ـنـ.ـق.
هز كامل جسدها منه بشراسةٍ وهو يسألها:
-انطقي، عملتي فيه إيه؟
رؤيتها تصارع المـ.ـو.ت بين براثنه أفزعه، انطلق "أوس" تجاههما، محاولًا الفصل بينهما وهو يدافع عن والدته في خوفٍ غريزي:
-هي ماعملتش حاجة.
توقف "مهاب" عن إيذائها، وأرخى قبضته عنها، لتتمكن "تهاني" من الفرار منه، والتراجع للخلف، تابع الصغير كلامه في صوت شبه مرتجف:
-أنا عاوز أمشي من هنا، زهقت.
لم يكن مقتنعًا بما فاه به، ومع ذلك أشار بإصبعه إليها قائلًا في لهجةٍ ما زالت مهددة:
-حظك، ابنك رحمك مني.
سحبت "تهاني" الهواء بعمق لتعيد انضباط أنفاسها المنقطعة، تلقائيًا انخفضت يدها نحو بطنها لتحميه من بطشه، ونظرت إليه في ترقب خائف وهو يوجه أمره التالي إلى ابنهما:
-تعالى معايا.
انتفض كامل جسدها رهبة منه عنـ.ـد.ما خاطبها مجددًا:
-اعملي حسابك هو مسافر معايا المرادي.
سألته بحذرٍ، وهي تخشى من وقع السؤال عليه:
-ليه؟
صاح بها في وجوم:
-مايخصكيش.
راودها ذلك الهاجس المخيف بأنه على وشك انتزاعه منها، فسألته بقلب الأم الوجل:
-"مهاب"، إنت عاوز تحرمني من ابني؟
نظر لها بتعالٍ قبل أن يأتيه رد محقرًا كعادته من شأنها:
-لو هعمل كده مش هستنى أخد رأيك...
اِربد وجهها بحمرة الغضب، ورمقته بنظرة مغتاظة، فما كان منه إلا أن زاد من استثارة غليل نفسها:
-هو عنده عيلة كبيرة، لازم يبقى عارفها، مش زيك، مالوش أصل!
وكأنه قتـــــلها بخنجر كلمـ.ـا.ته المسمومة، شعرت بالخواء والخوار من داخلها، فقد نجح في إجبـ.ـارها على قطيعة أهلها، ونسيانهم تمامًا، وكأنها وُلدت في هذا العالم وحيدة، لا جذور لها. انتشلها من شرودها المهموم صوته المخاطب لابنه:
-إنت جاهز يا "أوس".
رد عليه في طاعة:
-أيوه.
أمره بالتحرك معه قائلًا:
-يالا بينا.
ظلت "تهاني" متسمرة في مكانهما، تُطالعهما بنظرات تحبس الدmـ.ـو.ع فيهما، بعد انصرافهما أطلقت العنان لأنهر العبرات، وهتفت تلومه في تأنيبٍ:
-إنت اللي أجبرتني أقطع مع عيلتي.
كفكفت ما انساب من دmعها بظهر كفها، وأبدت نـ.ـد.مها الكامل:
-يا ريتني ما سمعت كلامك!
جرفها الحنين إلى إعادة التواصل مع أحبائها، فقررت أن تنكث بهذا العهد المشين الذي قطعته على نفسها، وتعيد الوصــال مع أهلها، لعل وعسى يُغفر لها هجرها، وتنال مصافحة والدتها وعفوها.
................................................
عنـ.ـد.ما بلغه ذلك الخبر المأساوي من "بدري"، والذي علم عنه من أحد معارفه بالبلدة، جاء على وجه السرعة، والألم يعتصر قلبه، انتابه ذلك الشعور الشـ.ـديد بالحـ.ـز.ن والممزوج بالرعـ.ـب، استطاع أن يستعلم عن مكان احتجازها من موظفة الاستقبال بالمشفى المتواضع الذي نُقلت إليه، كانت متواجدة بغرفة الرعاية الحرجة، ووضعها كاسم الحجرة، في غاية الحرج والخطورة، فالمادة الكاوية التي تناثرت على جسدها سببت لها تشوهًا شـ.ـديدًا، وآلامًا متفرقة، ناهيك عن اعتلال صحتها. ولج "عوض" إلى الداخل بقدmين مرتعشتين، وقلب وجل ومذعور. دنا من سريرها المستلقية عليه، وهو بالكاد يحبس دmـ.ـو.عه، رغمًا عنه تسرب من طرفيه بعض العبرات الغادرة عنـ.ـد.ما وجد ملامحها مخبأة تحت قماش الشاش الأبيض، وكذلك النصف العلوي من جسدها، تمزق داخله تأثرًا بحالتها. تنفس بعمق ليضبط انفعالاته، ثم ناداها بصوتٍ شبه هامس مختنق:
-أنا هنا يامه.
على ما يبدو تنبهت لصوته المألوف، فأخذت تحرك ذراعها بتمهلٍ، سرعان ما مد يده ليحتضن كفها المسنود إلى جوار جسدها الواهن، أحست بوجوده، فأدارت رأسها ببطءٍ تجاهه، حاولت الحديث لكن صوتها انقطع وتحشرج، فهتف يرجوها في التياعٍ:
-ارتاحي يامه.
نظرت إليه بعينين زائغتين، وخاطبته في صعوبةٍ:
-ربنا انتقم مني.
ظهر النـ.ـد.م في نبرتها الضعيفة، قاطعها قبل أن تنهي جملتها متوسلًا إليها:
-ما تكلميش يامه.
تجاهلت مطلبه، وتابعت بخفوتٍ:
-كل ما أنوي أذية مراتك يترد في غالي عندي، لحد ما ربنا خلص مني.
استصعب البحث عن الكلمـ.ـا.ت المناسبة للتعليق عليها، وهو يراها على تلك الحالة الخطيرة، ومع ذلك استمرت والدته تقول، وكأنه تمنحه طلبها الأخير بالصفح:
-سامحني يا ابني، سامحني يا "عوض"، أنا جيت عليك كتير.
رد عليها في لوعةٍ:
-إن شاء الله هتخفي وتبقي أحسن.
انحشرت أنفاسها، وتحشرج صوتها وهي تكرر عليه نـ.ـد.مها:
-سامحني..
رجاها لتصمت، لتستريح من عناء المجهود الذي تبذله في الكلام؛ لكنها أبت الإنصات إليه، حشرجة أخيرة انفلتت من جوفها، قبل أن تسكن للأبد، وتفارق روحها الجسد، لحظتها صرخ "عوض" في حرقــــة عظيمة، باكيًا رحيلها المؤلم:
-يـــامه!
...............................................
في الوقت الذي كانت تعلق فيه الثياب المبتلة على حبال الغسيل، ناداها أحد الصغار وهو يركض تجاه بنايتها ليخبرها عن هذه المكالمة الغريبة التي وردت إليها بمحل البقالة، فما كان منها إلا أن وضعت على جسدها ما يستره، ولفت حجابها المنزلي حول رأسها، لتخرج في التو حاملة رضيعتها معها، دقت على جارتها "إجلال"، وطلبت منها العناية بالرضيعة إلى أن تعود، ثم انطلقت ركضًا تجاه البقالة، والترقب المخلوط بالحيرة مستحوذ على تفكيرها، أمسكت بسماعة الهاتف، وذلك الشعور الغريب يناوشها، تكلمت بصوتٍ شبه متقطع جراء هرولتها المتواصلة:
-ألو، مين عاوزني؟
أتاها ذلك الصوت المألوف المنادي باشتياقٍ حقيقي:
-"فردوس".
لحظتها خفق قلبها، وانتفض، عرفت صاحبته في الحال، ومع ذلك أنكرت هويتها، وتعاملت معها بجفاءٍ، كأنما تستحق ذلك لهجرها القاسي، وبُعدها الموحش عنها لسنواتٍ عجاف. تجمدت في موضعها، وتساءلت بصوتٍ جاف:
-مين معايا؟
ردت عليه في رنة من العتاب:
-إنتي مش عارفاني ولا إيه؟
طغت مشاعر الكراهية على أي مشاعر أخرى شبه متعاطفة، بل ودعستها بلا شفقة، فظلت على وجومها، وشقيقتها تكلمها:
-أنا "تهاني"، أختك.
صمتت ولم تنطق بشيءٍ، فسألتها محاولة حثها على الحديث معها:
-عاملة إيه؟
أبقت على سكوتها المرير، فاستمرت "تهاني" في إخبـ.ـارها بشيءٍ من النـ.ـد.م:
-ليكي حق تزعلي مني عشان بقالي كتير مسألتش عليكم.
وكأنها تُجري مكالمة أحادية الجانب، لم تنبس "فردوس" بكلمةٍ، في حين تساءلت شقيقتها في اهتمامٍ صادق:
-إنتي كويسة؟ وماما إزيها؟ طمنوني عليكم؟ عايزة أسمع صوتها.
لحظتها فقط تفجــــرت بداخلها مشاعر الحنق والحقد، كيف لها بهذه الوقاحة الفجة أن تسأل عنها بعدmا فنيت من الحياة؟ ألهذه الدرجة بقيت على جهلها بوفاتها؟ لهذا كانت المفاجأة الصادmة على كافة الأصعدة عنـ.ـد.ما أخبرتها دون تمهيدٍ، وبغلٍ متعاظم:
-أمي مـ.ـا.تت وهي متحسرة عليكي.
شهقت "تهاني" في ذهول فزع، ووصل "فردوس" صوت انحباس أنفاسها، فأكملت على نفس المنـــوال القــــاسي، كأنما تزيد من عقـ.ـا.بها لها بكلمـ.ـا.تها اللاذعة:
-سامعة؟ مـ.ـا.تت وقلبها موجوع منك!
ارتعش صوتها وانـ.ـد.مج بنهنهات بكائها عنـ.ـد.ما رددت عليها:
-إنتي بتقولي إيه؟
بنفس الجمود المتجافي أخبرتها في غير رأفة:
-ويا ريت تنسي إن ليكي أخت.
لم تمهلها الفرصة للإيضــاح، أو شرح ملابسات ما حدث، بل وضعت السماعة، وأنهت المكالمة معها، لتخبر نفسها في تعصبٍ:
-لسه جايين على بالك دلوقتي؟
غادرت محل البقالة وهي تجرجر قدmيها، لم تصدق أنها أصبحت بهذه القساوة معها، وهي التي كانت تعيش في ظلها، تتحين منها لحظات الرضا، وتسعد بمدحها الساخر، حقًا بدلتها الأيام، وغيرتها الحياة، فباتت واحدة أخرى غير تلك الذليلة الكسيرة، فلم تعد كما كانت معها أو مع غيرها، مشت وهي لا تزال تردد لنفسها في غير تسامحٍ:
-بعد إيه يا "تهاني"؟ بعد إيه؟!!
.............................................
تبعثرت دmـ.ـو.عها هنا وهناك بعدmا تلقت هذه الصدmة المفجعة، أحست وكأن طاقة صمودها قد تبددت بالكامل، فصارت غير قادرة على الوقوف، أو الحركة، انخرطت في نوبات بكاء أعنف، متذكرة كيف أضاعت عشرات الفرص سدى لتتواصل مع أمها، لطـ.ـمـ.ـت "تهاني" على فخذيها، وراحت تنوح بكبدٍ محتــــرق من النـ.ـد.م والحـ.ـز.ن:
-أمي مـ.ـا.تت وأنا معرفش؟
رفعت كلتا يديها أعلى رأسها، وذلك السؤال ينخر في عقلها، كيف أصبحت بتلك الدرجة من السوء مع رحمها؟ حركت جسدها يمينًا ويسارًا وهي تعنف نفسها:
-جبت جحود القلب ده منين؟ أنا مكونتش كده.
بلغ بها القهر مبلغه، فظلت تولول فجيعة فقدانها:
-ليه فضلت مقطعاهم لدرجة إني أعرف بالصدفة عن مـ.ـو.تها؟
خرجت منها شهقة بدت أقرب للصرخة وهي تكمل:
-حقك عليا يامه..
أحست بنغزات عنيفة تضـ.ـر.ب في بطنها وظهرها، وكأن ما في أحشائها يشاطرها حـ.ـز.نها، تحسست أسفل معدتها، انطلقت منها صرخة أخرى أكثر فجيعة وآلمًا:
-آه، يا و.جـ.ـع قلبي عليكي، آه!
..................................................
كانت هذه هي مرته الأولى التي يرى فيها قصرًا بهذا الحجم الكبير، جلَّ ما دار في خلده أن يكون منزلًا عاديًا، يملأه الخدm والحشم، طرازه المتفرد، وتصميمه الدقيق منحاه سمة من المهابة والرقي، لاقت باسم العائلة العريق. كذلك لم يخطر بباله أن تكون مساحة غرفته هنا عشرة أضعاف تلك التي يمكث بها، سواء في منزل أمه، أو منزل أبيه. تعجب "أوس" كذلك من معاملة جميع الخدm له بتوقيرٍ واحترام زائدين عن الحد، على عكس مربيته المائعة، وزوج أمه السخيف. للغرابة استلذ ذلك الشعور الممتع بفرض السلطة، وامتلاك القوة، وعزز لديه من ذلك الإحساس تأكيدات والده المتواصلة بألا تأخذه شفقة بمن هم أقل شأنًا حينما يخطئون، فهو من علية القوم وعليه أن يتعامل وفق هذه القواعد الأرستقراطية الصارمة.
في وقت لاحق التقى "أوس" مع عمه بحضور والده في الحديقة الشاسعة، كان أغلب الحديث عن المستجد في سوق المال والأعمال، وكذلك الترتيب لخطبة "مهاب" من ابنة الشريك الجديد، ليتجه بعدها الحوار نحو الصغير، حيث سأله "سامي" وهو يلفظ دخان سيجاره في الهواء:
-مبسوط هنا؟
رد الصغير باقتضابٍ وهو يتفرسه بنظرته الثاقبة:
-أيوه.
علق عليه "سامي" في شيءٍ من الاستخفاف قبل أن يدير وجهه عنه:
-لطيف.
ارتكزت نظراته على شقيقه الأصغر متابعًا كلامه إليه:
-ابنك شبهك يا "مهاب".
ضحك في تفاخر، وأخبره في نبرة موحية:
-طبعًا، ده كله مني، ومـ.ـا.تنساش إنه حفيد "فؤاد" باشا.
في حمئة شبه مغتاظة هتف "سامي"، ونظرة حاقدة موجهة للصغير "أوس":
-ما أنا عندي "رغد"، ولا نسيتها دي كمان؟
تجاهل سخافة أسلوبه، وأخبره بما أغاظه أكثر:
-أكيد لأ، بس اسم العيلة هيمتد منه...
ثم أطلق ضحكة هازئة، قبل أن يضيف:
-اتجدعن وهات لنا ولد تاني.
ارتفعت وتيرة الضيق في صوت "سامي" حينما رد عليه، وقد هب واقفًا:
-هيحصل، أنا ماشي.
علق عليه ببرود تام:
-ما بدري.
نظر ناحيته في حنق، وقال:
-ورايا شغل.
لحظتها أمر "مهاب" ابنه في هدوء:
-سلم على عمك يا "أوس".
أشار له "سامي" بالتوقف صائحًا:
-خليه، مش عاوز.
استوقفه "مهاب" برفع نبرته، كأنما يعلمه بالمسألة التي خطط لها منذ وقت طويل:
-مـ.ـا.تنساش ميعاد الخطوبة، ما يصحش أعملها وإنت مش موجود معايا.
التفت برأسه لينظر إليه معقبًا في شيءٍ من الحقد:
-دايمًا بتقع واقف يا "مهاب"!
أطلق ضحكة مغترة قبل أن يخبره في غطرسةٍ:
-إنت عارفني، طول عمري حاطط عيني على الأفضل وبس!
أضاف عليه "سامي" بنفس نبرة الحقد:
-ودي بـ.ـنت شريكنا "شوقي"، حوت السوق.
استمر "مهاب" على تفاخره قائلًا:
-يا ريت تتعلم مني.
تحولت أنظار شقيقه الأكبر تجاه الصغير معلقًا بوجه تسوده تكشيرة عظيمة:
-كفاية تعلم ابنك، سلام.
ثم غادر متعجلًا ليتساءل "أوس" بغرابةٍ:
-هو زعلان ولا حاجة يا بابا؟
قال "مهاب" في ملامح جدية، لا تقبل بالمزح:
-مـ.ـا.تخدش في بالك، المهم عاوزك تفتكر دايمًا إن العز ده كله بتاعك إنت، إمبراطورية "الجندي" هتستمر بيك إنت وبس.
رغم أن عقله لم يستوعب بعد مدى أهمية ما يقوله، إلا أن طريقته الصارمة أوحت بضرورة الالتزام بما أوصاه به، وإلا لنال عقوبة مخالفته.
.....................................................
ساءت حالتها كثيرًا، وحملت نفسها كامل اللوم على ما حدث، وحينما اختلت بنفسها في منزلها، غرقت في هذه المشاعر النادmة، عجز جسدها عن التعامل مع هذا الضغط الهائل، خاصة مع تقدm حملها، فتمددت على جانبها على الأريكة، ويدها تمسك ببطنها، وكأنها تخشى سقوط ما به إن أبدت أي حركة فجائية. لبثت في مكانها هكذا بلا حراك إلى أن عاد زوجها، فاندهش لرؤيتها في هذه الحالة، هرع إليها هاتفًا متسائلًا باستغرابٍ:
-"تهاني"! مالك؟
حركت يدها من على بطنها لتتشبث بمعصمه وهي ترجوه في صوتٍ باكٍ:
-الحقني يا "ممدوح"، مش قادرة، تعبانة...
وقبل أن ينتقل لسؤاله التالي أتمت جملتها:
-أنا الظاهر بولد.
انتفض كل ما فيه، وعاونها على النهوض من مكانها قائلًا:
-طب اسندي عليا.
تعلقت به مرددة بنحيبٍ، وكأنه الأمل الأخير المتبقي لها:
-أنا خايفة أوي، ما تسبنيش.
حاوطها من ذراعه الآخر، لئلا تسقط، بعدmا تعثرت وهي تخطو للخارج، نظر إليها بقلقٍ حقيقي مؤكدًا لها وهو يصحبها نحو سيارته المرابطة بالأسفل:
-اطمني، أنا هفضل جمبك.
.............................................
وفيما كان جالسًا، بأعصابٍ مشـ.ـدودة، وقسمـ.ـا.تٍ غير مرتخية، بمنطقة الانتظار المخصصة لأهالي المرضى، التقطت عيناه ذلك الطبيب الذي خرج من غرفة العمليات، قفز واقفًا من موضع جلوسه، ليسرع في خطاه تجاهه متسائلًا عن الأخبـ.ـار، فأعطاه البشرى بمولد طفليتين رقيقتين كالنسمـ.ـا.ت اللطيفة، ابتسم في غير تصديقٍ، وابتهج كليًا، للدرجة التي جعلته يحتضنه بقوةٍ وهو يردد:
-أنا عندي توأم.
أكد له بإيماءة من رأسه:
-أيوه يا دكتور "ممدوح"، مبروك عليك، يتربوا في عزك.
شكره على عبـ.ـارته المجاملة، وانتظر على أحر من الجمر خروج رضيعتيه، وكذلك زوجته من الداخل ليراهن معًا. حينما انتقل الثلاثة إلى غرفة مستقلة، ذهب إليهن، والفرحة تملأ محياه، ظهرت ابتسامته المشرقة على الأخير، وخاطب "تهاني" بعد أن قبل جبينها:
-حمد له على سلامتك.
نظرت له من بين دmـ.ـو.عها المنسابة، واكتفت بادعاء الابتسام، فتابع مهنئًا إياها:
-مبروك يا حبيبتي.
علق في حواف رأسها إخبـ.ـاره عما تسبب لها في الحـ.ـز.ن؛ لكنها تراجعت، ارتاعت من فكرة إثارة حنقه، وهي تراه في قمة سعادته، عدلت عن رأيها، وحافظت على ابتسامتها المهزوزة وهي تكلمه:
-بقى عندك بـ.ـنتين زي القمر.
قال وقد انتقل للفراش الصغير المخصص للرضيعتين النائمتين كالملائكة:
-أيوه، أنا مش مصدق.
نظر "ممدوح" ناحيتها قبل أن يعاود التحديق فيهما متابعًا حديثه المتفاخر:
-في يوم وليلة بقى عندي عيلة من صلبي أنا...
ما لبث أن انخفضت نبرته وهو يختتم باقي جملته:
-مش بربي في الغريب!
لم تسمع "تهاني" ما نطق به بوضوحٍ، ولم تهتم لذلك، اكتفت بسؤاله:
-ها، ناوي تسميهم إيه؟
مط فمه لهنيهةٍ، وكأنه استغرق في التفكير، ليردد بعدها:
-جاي على بالي اسمين مميزين.
لم تمانع تهميشها أو حتى إقصائها من مشاركته هذا الأمر، وأبدت ترحيبها الكامل بإعلانها الصريح:
-اللي إنت حابه، إنت أبوهم.
داعب "ممدوح" يدي الرضيعتين بإصبعيه، واستطرد في عزمٍ:
-هسميهم "ليان"، و"بيسان".
أثار اختياره المميز إعجابها، فاستحسنته، وأيدته دون نقاشٍ:
-الله! حلوين أوي.
عاد "ممدوح" ليخاطب الرضيعتين مشيرًا إلى كل واحدة على حدا بنظراته المهتمة:
-إنتي يا سكر اسمك "ليان"، وإنتي يا قمر هيبقى اسمك "بيسان".
التفت مرة أخرى متسائلًا في مرحٍ:
-شبهي صح؟
وضعت يدها على جبينها، وردت بعدmا أغمضت عينيها لتستريح:
-حتة منك، ما إنت أبوهم.
لم يعد يساوره أي شك في هذه اللحظات الفريدة أنه أحرز تقدmًا يستحق الثناء عليه في لعبة التنافس الذكوري والتي ما زال معتقدًا باستمرارها بينه وبين رفيقه، انتشى على الأخير، وردد في زهوٍ، وعيناه اللامعتان ببريق السعادة لا تفارقان طفلتيه:
-أهوو بكده أبقى أنا البريمو يا "مهاب" ............................... !!
↚
(الضــــحية)
عند المقابر، وقبيل وقت الظهيرة تقريبًا، في موعده الشهري، كان متواجدًا هناك، أبقى على ذراعيه مرفوعين للسماء، وهو لا يزال يدعو بأدعيته المهموسة، لعل وعسى يستجيب المولى له، ويغفر لها ما اقترفت من ذنوب، فمنذ أن فارقت الحياة قبل ما يقرب من ثلاثة أشهر، وقلبه يلتـــاع لرحيلها بهذا الشكل المأساوي، ظلت الأسئلة والخواطر تطوف في رأسه بلا أجوبة محددة، ولم يسعَ لتحري الحقيقة، اكتفى بتذكر آخر كلمـ.ـا.تها، وهي رغبتها في نيل غفرانه. مسح "عوض" على وجهه براحتيه، وتأهب للذهاب؛ لكن استوقفته إحدى السيدات بالنداء عليه، أخفض بصره، وسألها:
-خير يا ست في حاجة؟
بحركة لا إرادية شـ.ـدت المرأة من حجابها على رأسها، وخاطبته في حـ.ـز.نٍ مبالغ فيه:
-قلبي عندك يا سي "عوض"، المرحومة كانت غالية عندي، ومكونتش بتأخر عنها في حاجة.
رد عليها بحذرٍ، ودون أن ينظر تجاهها:
-ربنا يكرمك.
همَّ بالتحرك؛ لكنها استوقفته بجملتها المريبة:
-هي في بس حاجة مضايقاني، ومحسساني بالذنب، ومش مخلياني أتهنى في نومة أبدًا.
لحظتها اضطر أن ينظر إليها متسائلًا بقلق:
-خير؟
أجابته بشيءٍ من التردد وهي تشير بيدها:
-والله العظيم، ولأجل الحلفان لو كنت أعرف إنها عايزة الزفـــــت ده عشان نفسها ما كنت جبتهولها.
حديثها إليه كان أشبه بحل قطعة من الأحجية، فسألها مستفهمًا:
-بتاع إيه؟
تلفتت حولها بنظرات قلقة، قبل أن تستجمع جأشها لتقول، في صوتٍ خافت، وكأنها تخشى سماع أحدهم لها:
-مياه النـــــار!
برقت عيناه ذهولًا من الصدmة غير المتوقعة، فاستمرت تستفيض في الشرح:
-أصل المرحومة، ربنا يبشبش الطوبة اللي تحت راسها، كانت طلبته قبل ما يجرالها اللي جرى بكام يوم، ومكونتش عارفة هي عايزاه ليه، فكرتها ناوية تنضف بيه البوتجاز ولا تشيل بيه جلخ الأرضيات.
من هول صدmته، لم يحاول "عوض" البحث عن تفسير آخر لسبب ابتياعها لتلك المادة الكــــــاوية، واكتفى بتصديق أنها كانت بحاجة إليه لتستخدmه في التنظيف، أطرق رأسه للأسفل، وردد:
-قدر الله وما شاء فعل.
كانت على وشك الكلام مرة ثانية، فرفع كفه ليمنعها من التفوه بشيء، وطلب منها في صوتٍ هادئ لكنه جاد:
-هي عند اللي خالقها، ادعيلها بالرحمة والغفرة.
في التو علقت بعد زمة سريعة لشفتيها:
-ألف رحمة ونور عليكي يا ست "أم عوض"، دي كانت ست خيرة، والكل بيحبها، ومحدش عمره شال منه.
لم يحبذ البقاء مطولًا معها، فقال منصرفًا:
-معلش هستأذنك أنا.
تنحت للجانب، وقالت وهي تطالعه بنظرة آسفة ومتعاطفة:
-اتفضل يا سي "عوض".
خطا مبتعدًا عنها، ورأسه يعج بعشرات الأسئلة، طغى عليهم جميعًا واحد بعينه، فتساءل، كأنما يكلم نفسه:
-يا ترى كنتي ناوية تأذينا بيه والحق خد حقه قبل ما ده يحصل؟
ظل على حيرته المهلكة، فتابع في يأسٍ:
-ربنا وحده اللي عالم بنيتك يامه!
أكمل سيره المتخاذل وهو يهز رأسه للجانبين مُحادثًا نفسه:
-مافيش منه رجا، ربنا يرحمك يامه، ويعفو عنك.
...........................................................
فــــتكت بها موجات الصداع المتواترة، وكأنها تصـــارعها بلا معركة ظاهرية، جراء بكاء صغيرتها المتواصل، فمنذ مطلع النهار وهي على نفس الحالة الباكية، ورغم محاولتها بذل الجهد لتلبية احتياجاتها الأساسية، إلا أنها لم تكف أو تتوقف عن الصراخ، مما جعل أعصابها تتـ.ـو.تر للغاية، وتزداد انفعالًا وحنقًا منها. نظرت "فردوس" شزرًا لرضيعتها، وصاحت بها في استياءٍ عارم بعدmا فاض بها الكيل وفشلت كل الطرق في إسكاتها:
-كفاية بقى، إيه مابتتعبيش؟
نهضت من جوارها، وتركتها بمفردها على الفراش، واستمرت تصرخ فيها:
-أنا دmاغي صدعت، لا بقيت عارفة أنام، ولا أقعد، ولا أعمل أي حاجة؟
في لحظة طيش عابرة قذفتها بالوسادة، وهي تزيد من صياحها اللائم:
-عملت إيه في دنيتي عشان أفضل في الهم ده؟
تطلعت إلى نقطة بالفراغ، ودmدmت في صوتٍ محموم، وهذه الحمرة الناقمة تشتعل في حدقتيها:
-حتى "تهاني" من ساعة آخر مرة كلمتني فيها، ولا حس ولا خبر.
تحولت دفة العتاب تجاهها، فحملتها كل الذنب في كراهية راحت تتأصل في أعماقها:
-كأنها مصدقت تنساني زي ما نسيتنا زمان.
قست كامل تعبيراتها، واسودت نظراتها وهي تدعو في حــــرقـــة:
-ربنا يخلص منها، وتشوف الغلب والمرار في حياتها!
شعرت بوطأة حقدها عليها يتأصل بداخلها، وتركت تأثيره السيء يتغلغل فيها، مؤكدة لنفسها أنها تستحق هذه العداوة جراء ما ارتكبت من قطيعة وخصـــام.
......................................
كقطعتين من فاكهة الجنة، تململت الرضيعتان في رقة وهما مستلقيتان في سريرين متجاورين، تموءان في صوتٍ خفيض كاستجابة لملاطفة شقيقهما الأكبر لهما، مرر "أوس" ناظريه بينهما، تأملهما في صمت، وراح يداعب كل واحدة على حدا، وكأنه يستكشف طبيعة شخصيتيهما غير المفهومة له باللعب الحذر معهما. لم يشعر بمراقبة والدته له، كانت الأخيرة مستمتعة برؤية ابنها البكري يُبدي اهتمامه بالطفلتين، كانت تخشى من عدm تقبله لهما، تبددت مخاوفها مع ما تشهده في هذه اللحظات المميزة، تشجعت لتمضي تجاهه وهي تقول في صوتٍ أمومي مملوء بالفخر:
-ربنا يخليكم لبعض.
وضعت يدها حول كتفيه، وضمته إلى صدره، لتضيف بعدها في شيء من التوصية:
-إنت أخوهم الكبير، لازم تاخد بالك منهم دايمًا، ومتخليش حاجة تأذيهم.
أبقى "أوس" على نظراته الحائرة موزعة بينهما، ثم سألها فجأة، وكأن هناك سؤال ما علق في رأسه:
-هما ممكن يكرهوني؟
تخشب ذراعها على كتفيه، فالتفتت كليًا تجاهه، وأجبرته على الاستدارة ومواجهتها، اندهشت لتفكيره المريب، وسألته بشيءٍ من القلق والتخبط:
-ليه بتقول كده يا حبيبي؟
بلا تزييف أجابها:
-عشان أنا مش بحب باباهم.
لن تنكر أنها أحست بالضيق لجوابه الصريح، والذي أصابها بالكدر، لفظت دفعة من الهواء، وتكلمت في تحيزٍ، محاولة إظهار عدm صواب تفكيره ناحيته:
-"أوس"، إنت ليه بتكره عمو "ممدوح"؟ ده هو بيعمل كل حاجة عشان يشوفك مبسوط.
أصر على كراهيته له بقول المزيد، وكأنه يفـ.ـضـ.ـح عيوبه التي تتغاضى عنها:
-هو كـ.ـد.اب.
وقتئذ ثارت لما اعتبرتها إهانة وقحة موجهة لزوجها، فاشتدت قبضتيها على منبتي كتفيه، وعنفته في غضبٍ منفعل، وقد راحت تهزه بعصبيةٍ:
-عيب تقول كده عليه؟ ده ليه مقامه واحترامه، وأنا مش هسمحلك تقل منه.
بقوة غريبة سرت في عروقه، دفع قبضتيها عنه ليتحرر منها، ثم اندفع نحو الخارج متجاهلًا زعيقها:
-استنى هنا! إنت رايح فين؟
تجمدت في مكانها وقد بدأت الرضيعتان تبكيان لصوت صراخها المفزع، نظرت إليهما بتحيرٍ، وتساءلت بعدmا تهدل كتفاها في إحباطٍ:
-أعمل معاك إيه بس يا "أوس"؟
لحظتها شعرت وكأنه يصعب عليها التعامل مع ما أسماه زوجها بتمرده الصريح على قواعد الأسرة، أطرقت رأسها في ضيقٍ، وظلت تقول بصوتٍ يائس:
-شكلك هتبقى واخد طريقة أبوك، متعب لكل اللي حواليك!
لم تلحق به، وأثرت إهماله إلى حين إدراكه مدى خطأه، إذ ربما يكف عن التصرف بطفولية معاندة، ويتحمل نتائج سلوكه غير المنضبط.
........................................
أرادت تحميله وزر تأخيره عن العودة للمنزل في وقت مبكر، وتركها هكذا غالبية الوقت بمفردها، تعافر لرعاية الرضيعة وهي تفتقر للرغبة في فعل ذلك. استقبلته "فردوس" عنـ.ـد.ما عاد بتقاسيمٍ عابسة، ونظرة وجه متجهمة، ألقى عليها التحية، فردت في صوتٍ متحفزٍ، ويدها موضوعة عند منتصف خصرها:
-ما لسه بدري يا "عوض"؟
تقدmت ناحيتها قائلًا في نبرة هادئة، مغلفة بالتعب:
-ما أنا قايلك مسافر البلد النهاردة أزور أمي في تُربتها.
وكأن الإتيان على سيرتها، في هذه اللحظة المشحونة، جعل زمام الأمور ينفلت، فانفجرت صارخة فيه دون مقدmـ.ـا.تٍ:
-وأنا تعبت من كتر الزن، وإنت سايبني طول النهار لواحدي؟ ولا ليك شغلة ولا مشغلة!
اربد وجهه بالضيق، واستعتبها:
-مش وقت معايرة يا "فردوس"!
جاء ردها مثلها فظًا:
-ياخي حس بيا، هو إنت بتعمل حاجة أصلًا؟
ثم خفضت من نبرتها لتتم جملتها:
-ده إنت ناقص تشحت على باب الجامع!
لم يتبين ما قالته بوضوح، ولم يكترث، فقط هتف بها في وجه عابس:
-خلاص، هي "تقى" فين؟
طوحت بيدها للأمام وهي تجيبه:
-أهي موجودة على السرير.
اتجه نحو غرفة نومهما، وبكل حنان وترفق حمل رضيعته، وضمها بين ذراعيه، أخذ يهدهدها في لطافةٍ، حتى سكنت، وهدأت، ونامت في براءةٍ، سار بها للخارج ليجد زوجته لا تزال واقفة، ترمقه بنظرة حانقة، فقال كأنما يُعلمها:
-أنا هروح بيها الأوضة التانية.
لوت ثغرها مغمغمة:
-يكون أحسن.
قبل أن يسير مبتعدًا بها، لاحظ ذبول وجه رضيعته، فاستطرد مخاطبًا إياها في قلقٍ:
-البت شكلها ضعيف وهفتان.
في تذمرٍ متواصل أجابته:
-هعملها إيه إن كان لبني مش مكفيها؟
قطب جبينه معقبًا بجديةٍ:
-نوديها لدكتور يقولنا الحل، دي عطية ربنا لينا، ماينفعش نهملها.
في التو أظهرت سخريتها من حمئته الزائدة:
-اتصرف إنت، ولا عاوزني أشق الأرض تطلع بطيخ؟
كانت في واقع الأمر تكره التصرف بهذا القدر من التذمر والشكوى؛ ولكن مع المؤامرات المستمرة من حمـ.ـا.تها، والخذلان المتواصل ممن حولها، تبدلت للنقيض، وأصبحت غير مراعية، ما لبث أن تحولت نبرتها لتهكمٍ فج عنـ.ـد.ما أتمت توبيخها:
-حط في عينك حصوة ملح، ده إنت راجـ.ـل البيت يا راجـ.ـل!!
كظم "عوض" غضبه في نفسه، فما أخبرته به وإن كان قاسيًا، لاذعًا، إلا أنها محقة، عكس وجهه الضيق الذي يتمرغ فيه، فتنفس بعمقٍ، ورد:
-حاضر يا "فردوس"، هشوف حل.
اندهشت من عدm إبدائه لأدنى ردة فعل جراء تعصبها الزائد عليه، وللغرابة استلذت بذلك الشعور الذي نجحت فيه ولو بقدر بسيط في فرض سيطرتها على أمر بعينه. ابتسمت لنفسها في نشوةٍ، وقالت بعزمٍ، وعيناها تلمعان بذلك الوميض الحاد:
-من هنا ورايح هتبقى المعاملة كده!
بالتدريج، لم تعد "فردوس" تلك الشابة المنطوية، والمقهورة التي تعيش في ظل الآخرين، بل بدأت في اكتساب صفات أخرى مناقضة لطبيعتها السابقة، ووسمت شخصيتها بشيء آخر، أكثر جفاءً، وغلظة.
................................................
منذ أن عاد إلى هنا وهو يتهرب منه بعشرات الحجج، حتى مسكنه الجديد الذي انتقل إليه، لم يخبره عنه، بل وأخفى عنوانه، لئلا يصبح مرغمًا على استضافته، فاضطر "ممدوح" لمقابلة رفيقه في غرفة مكتبه بالمشفى، بالطبع وصل إلى مسامعه الأخبـ.ـار المتعلقة بخطبته لصاحبة الثراء والدلال، فامتلأت نفسه بالغيرة والحقد ناحيته، ما أغاظه حقًا أنه عرف بالأمر بالمصادفة، وليس كعهده معه حينما يطرأ المستجد لديه، يهاتفه أولًا ويتفاخر بما حقق من إنجازات غير مسبوقة، وكأنه ظفر بانتصارٍ ساحق. وقع "ممدوح" في حيرة من أمره من تصرفاته الأخيرة معه، وسأله في نوعٍ من المعاتبة الحذرة:
-وبقيت أنا آخر من يعلم؟
نظر له "مهاب" من طرف عينه، ولم يعلق عليه، مدعيًا انهماكه في مطالعة ما لديه من ملفاتٍ تخص مرضاه ذوي الحالات الطارئة، فاستأنف "ممدوح" كلامه السخيف إليه بطريقةٍ شبه هازئة:
-ده أنا حتى هفرح عشانك، إمبراطورية "الجندي" انـ.ـد.مجت مع آ..
ضجر من سماعه لنفس الحديث الرتيب، لهذا قاطعه في صوتٍ اتخذ شكلًا آمرًا:
-سبيك من الرغي اللي مالوش لازمة، دي مسائل عائلية تخصني أنا وبس.
رغم إحراجه المتعمد له، إلا أنه استمر محافظًا على ثبات ابتسامته المتكلفة، وقال:
-ماشي يا سيدي، مبروك، وعقبال الليلة الكبيرة.
رد مجاملًا باقتضابٍ، ووجهه يكسوه ذلك الطابع الجدي:
-الله يبـ.ـارك فيك.
في خبثٍ ماكر سأله "ممدوح"، وهذه النظرة الغامضة تتراقص في مقلتيه:
-أومال ابنك عنده خبر؟
استغرب من طبيعة سؤاله، وأجابه بشكلٍ مباشر:
-طبعًا، ما هي دي هتبقى أمه الجديدة.
أرجع رأسه للخلف، مظهرًا استرخاءً أكبر على المقعد، ثم استطرد معقبًا بما بعث الشك في نفسه:
-طب خد بالك بدل ما يخربها عليك.
مجددًا حذره "مهاب" في رنة صوت صارمة، وقد رفع إصبعه أمام وجهه:
-"ممدوح"! إلزم حدودك! اللي بتتكلم عنه ده ابني!
أشار له الأخير بيده قائلًا بتعقلٍ، وكأنه يستدرجه بالحيلة ليقع في بئر الشكوك:
-اسمعني بس، ده أنا غرضي نصيحتك...
على مضض أصغى إليه رفيقه بترقبٍ، خاصة عنـ.ـد.ما أكمل بنفس الهدوء اللئيم:
-"أوس" ابنك متمرد، مش زي ما إنت مفكره، ممكن في لحظة يبوظلك كل حاجة، زي ما بيعمل تملي مع "تهاني".
هنا صاح به في غير تساهلٍ:
-أنا حاجة، ومراتك حاجة تانية خالص، أحسنلك مـ.ـا.تقارنش بينا.
تحدث من زاوية فمه قائلًا باستخفافٍ:
-خليك مصدق الحجة دي، إنت بس اللي بعيد ومش عارف تصرفاته.
أحس بالانتقاص من قدره، فهدر في تشنجٍ، ويده تطرق بعصبية على سطح مكتبه:
-وأنا قادر أوقفه لو غلط.
حينئذ انتصب في جلسته هاتفًا بابتسامة شريرة:
-زي الفل، اتفقنا على حاجة، إن ابنك محتاج توجيه.
أطبق "مهاب" على شفتيه ممتعضًا، فواصل رفيقه الحديث بسخريةٍ محسوسة:
-وأنا من جهتي هوصيه يعامل مرات أبوه المستقبلية بلطافة، زي ما بيتعامل معايا باحترام!
حدجه بنظرة مشتاطة قبل أن يعلق:
-ما هو واضح!
بتكاسلٍ نهض "ممدوح" من موضعه قائلًا في زهوٍ مغيظ:
-هسيبك لشغلك وأروح لجوز الكناريا حبايبي...
في البداية لم يفهم "مهاب" مقصده، واستشعر رفيقه ذلك من طريقة تحديقه الغريبة به، لهذا استرسل باسمًا:
-أصلي طول عمري بعشق البنات، وخلفتي لما طلعت بنات، بقيت حاسس إني ملك.
ظهر الضيق على محياه من طريقته اللعوب في استفزازه، ومع ذلك لم يمنحه الأفضلية بالشعور بانتصــاره في شيء يعتبره من السهل تحقيقه إن تزوج بأخرى. ظل يتابعه بنظرة غير مقروءة وهو يغادر حجرته، ليؤكد لنفسه في غرور:
-الشاطر هو بس اللي يضحك في الآخر يا "ممدوح"!
.............................................
عاشت لسنواتٍ وفق قواعد معينة، مرسومة منذ البداية لتخطط مصير حياتها، إلا أن ظهوره المصحوب بالنفوذ، والثراء، مع بعض الغموض المثير، جعله بالتدريج أحد اهتمامـ.ـا.تها، إلى أن صار بعد فترة على قائمة أولوياتها، فثمة شيء في شخصه الواثق يدفعها للتقرب أكثر إليه. خطبتها إليه تمت لتعزيز روابط القوة والسلطة، وتوسيع الإمبراطورية العريقة بين اثنين من أكبر رجـ.ـال الأعمال. لم يكن ليحدث أي من ذلك دون موافقتها. حجزت "ناريمان" في رحلة جوية مُرتب لها مسبقًا، والتقت بخطيبها في فيلته الصغيرة، دارت بعينيها في أرجاء حديقته ذات المساحة المحدودة، وقالت بعجرفةٍ طفيفة:
-مش حابة إنك تضايق مني عشان صممت أجي هنا، من حقي أشوف المكان اللي هعيش فيه.
أخبرها "مهاب" بنبرة مؤكدة، وهو يلصق بثغره هذه الابتسامة المنمقة:
-ده وضع مؤقت، احنا هنستقر تاني في مصر.
ردت في حبورٍ بعدmا مدت ذراعها لتمسك بكأس مشروبها البـ.ـارد:
-يكون أفضل، مش حابة أبوظ روتين حياتي.
قال في شيءٍ من المكر، ليضمن إبقاء تأثيره عليها:
-وأنا مقدرش أعمل حاجة تضايقك.
أعادت الكأس لموضعه على الطاولة وهي تنظر إليه، فقد استحسنت ذلك الشعور الذي يراودها بالرضا والتميز وهي في حضوره، وكان الأخير محترفًا بالقدر الذي استطاع بتمهلٍ التعامل مع طباعها الأرستقراطية، بالطريقة التي أوقعتها في شباك غرامه، وإن كانت لا تزال تُعاند، وتنكر أنها باتت تهواه. تنبه لها حينما تأوهت بصوتٍ خفيض، نظر إلى حيث وضعت يدها على جانبها، انتقل من مقعده المجاور لها ليصبح في مواجهتها وهو يسألها في صوتٍ قلق:
-مالك؟ إنتي كويسة؟
انحنت للأمام لتقاوم شعورها بالوخزات الحادة التي عصفت بجانبها، وكأنها خنجر يــطــــعنها بلا هوادة، لم تستطع التحمل، وأخبرته:
-مش عارفة، حاسة بنغزات جـ.ـا.مدة كده في جنبي.
حاول فحصها ظاهريًا؛ لكنها لم تمنحه الفرصة، وبررت إليه سبب شعورها بهذا الإعياء المفاجئ:
-ممكن يكون القاولون تعبني شوية.
سألها بلهجة الطبيب المتمرس ليتحقق من شكوكٍ قد راحت تساوره:
-إنتي بتشتكي منه؟
أجابته بإيماءة من رأسها:
-الدكتور من فترة قالي كده، عندي قاولون عصبي.
جثا على ركبته أمامها، وطلب منها في إلحاحٍ:
-طيب أنا بصفتي دكتور، وخطيبك في نفس الوقت، أنا مضطر أفحصك من تاني.
رفضت بلباقةٍ:
-الموضوع مش مهم، دلوقتي هيروح الألم.
مد يده ليمسك بكفها، احتضنه بين راحتيه، فاقشعر بدنها للمسته الرقيقة، وأصر عليها مستخدmًا طريقته المعسولة في التأثير عليها:
-أرجوكي يا "ناريمان"، عشان أستريح، أنا بالي هيفضل كده مشغول عليكي.
أعطته هذه النظرة الجادة، فقابلها بأخرى راجية مثل نبرته:
-من فضلك.
استسلمت في النهاية مرددة:
-أوكي.
قام واقفًا، وسحبها من يدها نحو الخارج، ليستقلا معًا سيارته، حيث اتجه بها إلى المشفى للقيام بالإجراءات اللازمة لفحص حالتها في الحال.
...........................................
لم تمانع على الإطـ.ـلا.ق تحمل عبء هذه النفقات الإضافية، وتـ.ـو.فير مربية ذات خبرة في التعامل مع الصغار، بجانب الخادmة، من أجل رفع مستوى معيشة أسرتها، وخصوصًا بعدmا أصبحت فترات مكوث زوجها بالمنزل أكثر. طمحت في أن تكون حياتهما معًا تحوي كل ما كان يصبو إليه يومًا. بصعوبة تمكنت "تهاني" من بلع ما تبقى في صحنها لتعلق على زوجها الذي نقل إليها خبر خطوبة "مهاب"، وضعت يدها أمام فمها لتمنع تناثر البقايا، وهتفت في غير تصديقٍ:
-معقولة خطب؟ إنت متأكد من الكلام ده؟
أكد لها بإيماءة من رأسه، وقد مسح بالمنشفة الصغيرة فمه:
-أيوه يا "تهاني"، الحاجات دي مافيهاش هزار.
ابتسمت في سعادة غريبة، ورددت في قدرٍ من الشمـ.ـا.تة:
-خليه يتلبخ بيها، علشان ما يركزش معانا، ويبوظ علينا حياتنا.
على ما يبدو لم يصغِ إلى ما قالته، وانشغل بالاستغراق في التفكير، فهسهس لنفسه في حقدٍ دفين:
-لأ وبيعمل ناصح عليا، فكره مش هعرف باللي رسمه من ورايا، أومال لو مكونتش حافظه زي كف إيدي!
لم تتبين ما يهمهم به، فسألته مستفهمة:
-بتقول إيه مش سمعاك؟
لم يجبها، ونهض عابسًا من على مقعده، فتبعته ثم فرقعت بإصبعيها لتستدعي الخادmة فتقوم بجمع الأطباق والصحون، وإعادة تنظيف وترتيب مائدة الطعام. لحقت به عنـ.ـد.ما جلس بالصالة ليشعل سيجارته، ونظرت إليه عنـ.ـد.ما تكلم في قدرٍ من التهكم الناقم:
-هيتجوز بـ.ـنت بنوت، واحدة لسه بورقتها.
فاجأها اختياره، ورددت مصدومة:
-كمان؟!
اعتدلت في جلستها، ولاحقته بالأسئلة الفضولية:
-يعني هي وافقت وهي عارفة إنه كان متجوز، وعنده ولد؟
رمقها بنظرة ذات مدلول غير مفهومٍ لها، قبل أن يشبك كفيه معًا واصفًا الأمر:
-يا حبيبتي فلوس بتتجوز فلوس، الكلام ده مايفرقش معاهم.
استندت "تهاني" براحتيها على مسند الأريكة، وقالت في غنجٍ مشوب بالتسلط:
-المهم عندي تعامل ابني كويس.
رمقها بهذه النظرة المستخفة، ليعلق بعدها:
-ده إنتي المفروض تخافي عليها منه.
انزعجت من تلميحه المسيء، وهتفت في عبوسٍ متصنع:
-"ممدوح"!
تجاهل تحذيرها الضمني، واستمر في التحامل عليه:
-دي الحقيقة، ابنك هيخرب عليهم، وبكرة أفكرك.
تمسكت بتبرئة ساحة ابنها من اتهامه غير الحقيقي، فأردفت قائلة:
-مش للدرجادي، ده عيل صغير، مايفهمش حاجة.
سئم من الحديث عنه، ونهض ليقول بوجه ممتقع:
-أنا هشوف البنات.
انتصبت في جلستها، ونظرت إليه بضيقٍ طفيف، شعرت وكأنها قد بالغت في الدفاع عنه دون داعٍ، وصاحبت زوجها بنظراتها القلقة إلى أن اختفى عن محيطها.
............................................
في تلك الأثناء، كان "أوس" يجلس على الأرضية في غرفة التوأم، يلهو بلعبته، وفي نفس الآن يتسلى بصحبتهما. حينما سمع همهمة إحداهما، نهض من مكانه، وراح ينظر إليها في عطفٍ، رفع قبعة الرأس عن الرضيعة "بيسان" عنـ.ـد.ما وجدتها قد سقطت على عينيها وتسبب لها الإزعاج، ابتسم لها في وداعة، وتحرك تجاه النائمة "ليان"، تأكد من ثبات قبعتها هي الأخرى، قبل أن يستدير بجسده ليجد "ممدوح" واقفًا عند عتبة الغرفة، وينظر إليه بعينين تقدحان بالشر، لن ينكر أن داخله اهتز من طريقة تطلعه إليه، تجهم ليواري على خوفه، وتحفز في وقفته بـ.ـارتباكٍ عنـ.ـد.ما هدر فيه بحدةٍ غاضبة:
-إنت بتعمل إيه؟
واتته الفرصة على طبق من ذهب ليدعي بالكذب عليه، فيفسد الود الذي كان قائمًا بينه وبين والدته، ويزرع في نفسها الشكوك ناحيته، فحينما يلجأ إليها ليشكوها من شيء ما، وجد تعنيفًا لا ترحيبًا! تقدm ناحيته مندفعًا وهو يكرر عليه سؤاله المشوب بالاتهام، فأنكره "أوس" بثباتٍ:
-ما عملتش حاجة!
انقض عليه ليمسك به من عنقه، ثم جذبه بعيدًا عن الرضيعتين، ليدفعه بعنفٍ نحو الدولاب وهو مستمر في صراخه الذي أوقظهما:
-إياك تقرب منهم!
بكت الرضيعتان في فزعٍ، وجاءت "تهاني" ركضًا وهي تتساءل في استرابة قلقة:
-إيه اللي حصل؟
في التو أجابها "ممدوح" وهو يشير بإصبع الاتهام إليه، ليقطع عليه أي وسيلة لكشف كذبه:
-الأخ الكبير شوفته وهو بيكتم نفسهم.
لوى "أوس" وجهه بغضبٍ، وصاح فيه مستهجنًا، وبعصبيةٍ تماثله:
-محصلش، ده كـ.ـد.اب.
ارتفع صراخ الرضيعتان، فانتقلت "تهاني" لتجاورهما، وراحت توبخ ابنها بأسلوبٍ شبه لاذع دون منحه فرصة الدفاع عن نفسه:
-"أوس"! برضوه مصمم تعمل الغلط؟ مش أنا نبهت عليك؟
نظر لها مصدومًا، وبعينين ذاهلتين وهي لا تزال تلقي بكامل اللوم على ابنها:
-بجد إنت تعبتني، أعمل إيه بس معاك؟
اشتعل داخلها بغضبه المتأجج، وراح يهتف في حــــرقةٍ:
-صدقيني يا ماما، أنا معملتش حاجة!
توقف للحظة ليأخذ نفسه، ثم استأنف مشيرًا بسبابته نحو من يبغض بشـ.ـدة:
-هو بيكـ.ـدب!
وكأن تأثير كلمته الأخيرة قد أعطته التفويض ليتعامل معه مثلما أراد، بكل عدائية وقسوة، فاستغل تأزم الوضع ليقول بتشـ.ـددٍ:
-المرادي أنا مش هسكت، كله إلا البنات يا "تهاني"!!
كانت على وشك النطق بشيء، فأخرسها بصرامته، وإصبعه مرفوع أمام وجهها:
-وإياكي تتدخلي، وإلا هنزعل من بعض.
ارتاعت من تهديده، وقفز قلبها بين ضلوعها، فرجته:
-"ممدوح"!
أمرها بصرامةٍ وهو يتحرك صوب "أوس" في انقضاضٍ واضح:
-خليكي هنا!
أمسك به من مؤخرة عنقه، فركله "أوس" بشراسةٍ في ركبته ليوجـ.ـعه صارخًا به:
-ابعد عني، شيل إيدك.
تحمل ضـ.ـر.بته العنيفة، وتصدى لمحاولاته للإفلات منه، ليتمكن في النهاية من اصطياده، فقام بتطويق عنقه بذراعه القوي، واستخدm الآخر في تقييد معصميه، ليصبح تحت رحمته، ثم دفعه دفعًا إلى الخارج، وهو يفح بالقرب من أذنه بوعيدٍ مخــــيف:
-وريني أبوك هيحميك إزاي مني ................................... !!
↚
(خلل)
بمجرد أن اختلى به في غرفته، ألقاه أرضًا بخشونة واضحة، لتصطدm رأسه بالأرضية الصلبة، ربما لم يفكر في إيذائه بدنيًا، لكن فكرة إرهــابه في حد ذاتها، وترويض تمرده إن لزم الأمر بأي وسيلة يراها مناسبة، كانت وحدها كفيلة بجعل ذلك الشعور الممتع بالسيطرة يغمره بقوةٍ. ارتسم على وجه "ممدوح" ابتسامة شيطانية عريضة، بينما بادله "أوس" بنظرة نارية مغتاظة منه، سرعان ما تحولت لشيء من الخوف عنـ.ـد.ما هدده علنًا:
-محدش يقدر يحميك مني مهما كان مين..
ضغط على كل كلمة تفوه بها حين واصل الكلام، وهو يسدد له تلك النظرة القاتمة:
-حتى أبوك...
التمعت عيناه بهذا الشيء الخبيث، والصغير ينظر إليه بتـ.ـو.ترٍ مذعور، خاصة عنـ.ـد.ما أخبره بثقةٍ غير مشكوك فيها:
-أنا عرفت أضحك عليه إزاي، وأخليه يبقى في صفي، لأن ببساطة أنا فاهمه كويس، وكل مفاتيحه معايا.
تزَّحف "أوس" للخلف على مرفقيه حين خطا تجاهه، لينأى بنفسه عن أي حركة غدر غير متوقعة منه، قد يقوم بها لاستثارة رعـ.ـبه أكثر. استمر "ممدوح" في اقترابه قائلًا بصوتٍ خفيض كان أشبه بالفحيح:
-من هنا ورايح روحك بقت في إيدي.
لحظتها ارتفع الخفقان في قلب الصغير كردة فعل على تهديده، تحول صوت شهقته لصرخة مكتومة وقد بلغه فجأة، لينقض عليه قابضًا على ذقنه، رفعه منها ليجبره على النهوض، فتأوه الصغير من الألم، لم يتركه "ممدوح" بل زاد من ضغطه وهو يتوعده بلا هوادةٍ:
-وحياتك جـــحيـــم معايا!
حاول "أوس" انتزاع أصابعه من على فكيه بأقصى طاقته؛ لكنه عجز أمام قوته الجـ.ـسمانية المتحكمة به، كان كالدmية تحت قبضته، يطوحه هنا وهناك كيفما يشاء، آنئذ تزعزعت الثقة التي كانت تسود داخله، بأنه قادرٌ على كبحه، والتصدي له حين يفكر بالبطش به. مرة ثانية دفعه "ممدوح" أرضًا لينكب على ظهره، قبل أن تأتيه ركلة متوسطة القوة في ساقه، أتبعها وعيده القاسي:
-مش هرحمك، سامعني؟ هخليك مـ.ـا.تدوقش طعم النوم...
جحظت عيناه ارتعابًا، فانتشى لأنه نجح بأقل مجهود في تخويفه، وأكمل على نفس النهج المثير للارتياع:
-ومش هتقدر تنطق بحرف من اللي هعمله فيك!
ثم رفع إصبعه أمام وجهه ليأمره بعدئذ بصرامةٍ غلفت نبرته وملامحه:
-خليك هنا، مش هتخرج غير بأمر مني.
ألحق بجملته هذه نظرة هازئة به، ليشرع بالتحرك مرددًا في قدرٍ من التهكم:
-سلام يا ابن "مهاب"!
ظلت عينا "أوس" معلقتين بآثار طيفه، رغم انصرافه، وغلقه للباب من الخارج بالمفتاح، ليظل بمفرده حبيس غرفته، للغرابة وجد جسده يرتجف، وكأن عالم الأمان الذي ظن أنه محاط به قد تبخر في غمضة عين، انكمش على نفسه، ونكس رأسه بين ركبتيه المضمومتين إلى صدره، حاوط جسده بذراعيه، محاولًا التغلب على ذلك الشعور الغريب الذي لم يعتد عليه بعد، أن تصبح ضعيفًا!
......................................................
أتت نتائج الفحوصات الدقيقة، والإشاعات المطلوبة، ولم تكن مبشرة على الإطـ.ـلا.ق، بل تضمنت أمرًا خشي الإفصـــاح عنه، إذ من المحتمل أن يُخرب كل شيء أعد له مسبقًا ليخطط مستقبل حياته، إن لم يتعامل معه بحرفيةٍ وروية. جلست "ناريمان" في مواجهة "مهاب" بالمشفى، وعلى وجهها ابتسامتها المتألقة، تدللت وهي تعبث بشعرها أثناء حديثها اللطيف معه؛ لكنه علق بجديةٍ مريبة:
-أنا مش عاوزك تتخضي.
اندهشت لطريقته، واستطردت:
-في إيه يا "مهاب"؟
صمت ولم يقل كلمة، فظهر الذعر عليها، وبهتت ملامحها، تقطعت أنفاسها وهب تخاطبه في نبرة مُلحة:
-من فضلك اتكلم، إنت كده قلقتني.
تنحنح موضحًا بنوعٍ من الحذر:
-للأسف الأشعة مبينة ورم على المبيض اليمين.
شعرت أن أعصابها قد تجمدت، وجف جلدها، استفاقت من لحظة جمودها، فبرزت عيناها على اتساعهما وهي تردد في ذهول مفزوع:
-ورم!
ظلت تكرر الكلمة لبضعة مرات بلا صوت، بدت وكأنها غير قادرة على استيعاب ما يقول، شل تفكيرها لهنيهة، فتشتت، وشردت، وباتت في عالم آخر، بالكاد انتبهت له وهو يخبرها بكلمـ.ـا.ت منتقاة بعناية:
-وجوده خطر، ولازم يتم استئصاله في أقرب وقت.
حين أدركت حجم الكارثة التي حلت بها، صرخت في هلعٍ بعدmا انتفضت واقفة:
-مش ممكن؟ أنا عندي ورم؟
ارتجف كامل بدنها، كانت على وشك الإغماء من هول الصدmة، في التو قام "مهاب" من موضع جلوسه، والتف ناحيتها ليضع يديه على ذراعيها، شعر بهذه الرعشة التي تسود جسدها، فحاول بث الطمأنينة فيها بقوله:
-"ناريمان" متخافيش، دي حاجة بسيطة...
نظر في عينيها مباشرة؛ لكنها لم تكن تراه، غرقت في موجة من الأفكار السوداوية المهلكة، هزها بخفةٍ ليستعيد مداركها وهو لا يزال يكلمها بنبرته الهادئة:
-وبعدين، أنا بنفسي اللي هعملك العملية دي.
وكأنه انتشلها من ضلالات الخوف التي استحوذت عليها بتأكيده الهادئ:
-إنتي في إيد أمينة معايا.
لم يصفُ عقلها بعد بهذه البساطة، فما تمر به ليس مجرد وعكة عادية، ستنتهي بمجرد تناول حبة الدواء، في عصبية مبررة نفضت قبضتيه عنها، ثم دفعته من صدره، وهتفت بلا وعيٍ، وكأنها عادت لتغوص بقوةٍ في دوامة فزعها:
-أنا لازم أمشي.
التقطت حقيبتها، وألقتها على كتفها، لتهرول خارجة من غرفته، وأنهر من الدmـ.ـو.ع تجري على صفحة وجهها بتدافعٍ، في الحال جمع "مهاب" أشيائه الخاصة، وركض خلفها هاتفًا:
-استني يا "ناريمان"، أنا جاي معاكي.
...............................................
تأملت بتركيزٍ كبير ما احتواه الأنبوب الطبي وهي تحمله بإصبعيها، قبل أن تدون في الكتيب الصغير الذي بحوزتها بعض المعلومـ.ـا.ت عنه، أعادت الأنبوب لموضعه في عنايةٍ بالحامل، وانتقلت لآخر لتنظر لما به بانتباهٍ. أدارت "تهاني" رأسها للجانب عنـ.ـد.ما انضم إليها زوجها بالمعمل، منحته ابتسامة ناعمة، مصحوبة بقبلة صغيرة على وجنته، لتتبدل تعبيراتها المسترخية للجدية عنـ.ـد.ما استطرد بلا مقدmـ.ـا.ت في غموضٍ محير:
-عرفتي اللي حصل؟
زوت ما بين حاجبيها متسائلة في اهتمامٍ:
-خير؟
سحب من يدها الكتيب، ونظر إلى ما توصلت إليه، مط فمه في إعجابٍ، ثم تكلم في صيغة تساؤلية:
-وصلك خبر إن خطيبة "مهاب" بتعمل عندنا عملية كبيرة هنا؟
تدلى فكها للأسفل، وهتفت في غير تصديقٍ:
-معقولة؟
أكد لها بإيماءة من رأسه قبل أن يناولها الكتيب:
-أيوه، عندها ورم ليفي على المبيض.
عنـ.ـد.ما علمت بتفاصيل مرضها تعاطفت معها، ووضعت يدها على فمها للحظةٍ، وأخبرته في إشفاقٍ:
-أوف، دي عملية خطيرة، مش سهلة أبدًا، الغلطة فيها ممكن تكلفها كتير.
رد مومئًا برأسه:
-طبعًا..
ساد السكوت بينهما للحظات قبل أن يضيف "ممدوح" في صوتٍ مال للحقد، رغم أنه كان هادئًا:
-و"مهاب" بنفسه عامل طاقم جراحة متخصص وعلى أعلى مستوى عشان خاطرها.
تعجبت "تهاني" من اهتمامه الزائد بها، وأبدت تعليقها في شيء من التخمين مبتسمة بخفةٍ:
-واضح إنه بيحبها، وإلا مكانش عمل ده كله ليها.
على ما يبدو اغتاظ "ممدوح" من طريقة تفسيرها للوضع، وإن كانت بشكلٍ عابر، فهتف في تحيزٍ متحامل:
-ما أنا قايلك ده جواز مصلحة من الأول.
لاحظت ذلك التعبير الغاضب الذي تجسد على وجهه، فاهتزت ابتسامتها، وحاولت تغيير الموضوع، فقالت بلا ترتيب:
-المفروض نطمن عليها بعد ما تخرج بالسلامة، ولا إنت رأيك إيه؟
استحسن فكرتها، فأردف بعد تنهيدة بطيئة:
-أيوه.
تصنعت "تهاني" الضحك، وتابعت ممازحة:
-فرصة أشوف مين اللي قدرت على "مهاب".
وكأنه أيد فكرتها، فثمة شيء يدور في عقله، لم يفصح عنه بعد، نظر "ممدوح" تجاهها، وقال بعدmا ألصق بزاوية فمه ابتسامة غامضة:
-وماله! زيارة المريـ.ـض واجبة!
ثم حاوط زوجته من كتفيها متسائلًا:
-لسه وراكي شغل؟
أجابته نافية:
-لأ، خلاص.
خفض من ذراعه، ليمررها على ظهرها متسائلًا:
-البنات مع المربية؟
كان ردها مختصرًا:
-أيوه.
بدت ملامحه هادئة؛ لكن نظراته تحولت للقساوة وهو ينتقل للسؤال التالي:
-و"أوس"؟ عملتي معاه إيه؟
رغم أنها لم تكن مقتنعة تمامًا بتقريعه، أو فرض المزيد من الضوابط الصارمة لسلوكه، لكونه لم يفعل ما يستحق ذلك، إلا أن خالفت شعورها الأمومي، وانصاعت لرغبات زوجها، فرمشت بعينيها قائلة:
-عـ.ـا.قبته تاني، ومحروم من الألعاب بتاعته، أو الفسح.
وكأنه ينتظر منها هذه البادرة، ليستمر في وصلة فرض سيطرته وسطوته، استراح لتصرفها ومدحها:
-برافو عليكي، خليه يتأدب.
في سعيه للانتقام من رفيقه، وجه "ممدوح" ذلك الشعور المهلك تجاه من لا ذنب له؛ هذا الصغير المضطهد والمغلوب على أمره!
...............................................
استخدmت نصل سكــــين مطبخها غير المشذب في قـــطع طرفي حبة الفاصولياء، قبل أن تقطعها إلى أجزاء متفاوتة في حجمها، لتلقي بها في الوعاء البلاستيكي، ثم مدت يدها والتقطت أخرى من حجرها، لتدير بعدها رأسها تجاه جارتها التي جاءت لمشاركتها نهارها بالثرثرة معها. هدهدت "إجلال" الرضيعة في ترفقٍ، وداعبتها باصطناع الأصوات المرحة لترفع بصرها نحو "فردوس" عنـ.ـد.ما واصلت شكواها إليها:
-المصاريف كتير، والواحد مبقاش لاقي اللي يكفيه.
أرادت دعمها معنويًا، حتى لو لم تفعل شيئًا، فردت بتفاؤلٍ:
-بكرة ربنا يفتحها على سي "عوض"، والقرش يجري في إيده.
مصمصت شفتيها بصوت هازئ، وقالت بنبرتها المتهكمة دومًا:
-قلبك أبيض...
وشت نظرتها إلى جارتها في هذه اللحظة بسخطٍ عظيم، أعقبه ترديدها:
-ده زي ما بيكون فيه بينه وبين الفلوس عداوة، لا هي بتقرب منه، ولا هو بيسعى يجيبها.
حاولت البحث عن طرق لمساعدتها في متناول قدرتها، لهذا اقترحت عليها "إجلال" في جديةٍ:
-طب مابتفكريش تشتغلي يا "دوسة"؟
حدجتها بهذه النظرة الساخطة وهي تخبرها بتأففٍ:
-والمنيـ.ـلـ.ـة دي أوديها فين؟
شهقت معترضة على نعتها المسيء، وعاتبتها:
-مـ.ـا.تقوليش عليها كده، دي ملاك.
استمرت "فردوس" على نقمها هاتفة:
-ما أديكي شايفة، هي هادة حيلي طول اليوم، ولا بأرتاح ولا بتريحني.
عاودت "إجلال" النظر إلى الرضيعة بمحبةٍ كبيرة، وخاطبت رفيقتها دون أن تتطلع إليها:
-عمومًا لو وقع تحت إيدي حاجة كويسة هعرفك.
اكتفت بالرد المقتضب وهي تكمل تقطيع الفاصولياء، وامتعاض كبير يغلف كامل تقاسيم وجهها:
-طيب.
.............................................
حينما استفاقت من تأثير المـ.ـخـ.ـد.ر، وبدأ عقلها يتيقظ ويدرك ما يحيط بها، وجدت نفسها مستلقية، وهامدة، على فراشٍ طبي، في غرفة غارقة في اللون الأبيض، في البداية ظنت أنها فارقت الحياة، وانتقلت للعالم الآخر، إلى أن بدأت تطوف ببصرها على ما حولها، فرأت محلولًا ما يتدلى من حامل مجاور لها، تنزل قطراته وتنتقل عبر أنبوب شفاف ممتد حتى رسغها، وموصول به عن طريق هذه الإبرة الطبية. تنشطت ذاكرتها بما حدث في الساعات الأخيرة، هي خضعت مرغمة لعملية جراحية طارئة للتخلص من ذلك الورم البشع الذي احتل جسدها، تأوهت "ناريمان" في ألم عنـ.ـد.ما شعرت بوخزة طفيفة في جانبها، واغرورقت عيناها بالدmـ.ـو.ع تأثرًا بصدmة استئصال جزءًا من كيانها كأنثى. صوته المخملي المنادي باسمها، والذي تسلل إلى أذنها جعلها تدير رأسها ناحيته، شعرت بملمس يده على جبينها المتعرق بهذا العرق البـ.ـارد، تعلقت عيناها الدامعتان به وهو يخاطبها:
-حمدلله على سلامتك.
سألته بشكلٍ ساذج:
-أنا فين؟
أجابها باسمًا في عذوبة، وبرسميةٍ غريبة:
-إنتي عندي في المستشفى يا آنسة "ناريمان".
أدركت سخافة سؤالها، وأصغت إليه وهو لا يزال يتابع حديثه الهادئ إليها:
-في طاقم طبي موجود هنا بس لرعايتك ومتابعة حالتك.
حركت بصرها للجانب الآخر، فرأت عدة أشخاص مجتمعين، وفي حالة تأهب واضحة، عند حافة فراشها، وكأنهم ينتظرون الأمر لمباشرة عملهم. تلقائيًا خفضت يدها لتلمس موضع جـ.ـر.حها، فأمسك بها "مهاب" قبل أن تمسه قائلًا:
-العملية نجحت، وإنتي هتبقي كويسة.
قبل أن تنطق بشيء، ولج إلى الغرفة "ممدوح"، ألقى عليها نظرة متأملة، ومتفرسة في ملامحها مستطردًا:
-مساء النور.
انزعج "مهاب" من وجوده، وظهر ذلك على محياه، فأردف الأخير متسائلًا بتهذيبٍ مريب:
-ينفع أدخل؟
رد عليه باستهجانٍ:
-ما إنت موجود يا "ممدوح"؟!!
أخبره بنفس الطريقة اللبقة:
-لو حابب أمشي، فمافيش مشكلة عندي، أنا بس جاي أطمن على الهانم:
لئلا يبدو فظًا معه، قال على مضضٍ:
-خليك.
وضع "ممدوح" على شفتيه ابتسامة صغيرة، ليقول في أسلوب شبه مرح:
-ليك حق تحط المستشفى كلها في حالة طوارئ.
فرقع "مهاب" بإصبعيه ليصرف الطاقم الطبي، فغادروا تباعًا، و"ممدوح" لا يزال يتكلم بخبثٍ، وبعبـ.ـارات غزلٍ صريحة:
-إنت خــــاطف القمر من السما وجايبه عندنا.
نظرت "ناريمان" بتحيرٍ إليه، فأوضح "مهاب" هويته بوجه مشـ.ـدود:
-ده دكتور "ممدوح" صاحبي، ومعانا هنا في المستشفى.
استعتبه رفيقه بنظرة لئيمة، وعاد ليحدق في وجه هذه الفاتنة مسترسلًا في الحديث بشكل لم يسترح له رفيقه:
-بس كده؟ قولها احنا عِشرة عمر، نعرف بعض من واحنا أد كده، ونعتبر كل حاجة بنعملها سوا.
كان يعلم في قرارة نفسه أن قدومه لن يكون يسيرًا، بل مصحوبًا بالتلميحات والتوريات، وربما الإيحاءات المهددة، لهذا ضبط من أعصابه، وتعامل بهدوءٍ محاولًا عدm إبداء أدنى ردة فعل.
جاءت "تهاني" هي الأخرى، فأقبلت على المريـ.ـضة لتتفقدها وهي تخاطبها في ودية عجيبة:
-حمد لله على السلامة يا آنسة "ناريمان".
استغل "ممدوح" فرصة وجودها ليقول بإطراءٍ مغيظ:
-وأدي مراتي الحلوة جت كمان.
تفقه "مهاب" للعبة السخيفة التي يديرها "ممدوح" بتمثيل اهتمامه بمتابعة حالتها، وتعامل برسمية بحتة مع كليهما:
-أعرفك بالدكتورة "تهاني"، مامت "أوس" ابني.
هزت "ناريمان" رأسها بخفةٍ كأنما تلقي عليها التحية بصمتٍ، بينما لاحقه "ممدوح" بإضافته المستفزة:
-ومـ.ـا.تنساش هي أم بناتي الغاليين "ليان"، و"بيسان".
حينها حدجه رفيقه بنظرة محتدة، فلم يكترث "ممدوح" لأمره، كان متواجدًا فقط لاستثارة أعصابه، وإظهار الجانب الخفي الآخر من شخصيته الماكرة. تحول "مهاب" بناظريه ناحية "تهاني" عنـ.ـد.ما تحدثت هي الأخرى:
-إن شاءالله تخرجي من هنا في أسرع وقت، دكتور "مهاب" مش أي جراح، ده عبقري في مجاله.
افتعل "ممدوح" الضحك، وأبدى تأييدًا كبيرًا لما فاهت به في سخرية متوارية:
-أومال، مافيش حاجة بتستعصى عليه، ده احنا كلنا بـ.ـنتعلم منه أصول الطب.
أنهى جملته وهو يغمز له بطرف عينه، مما جعل "مهاب" يهتف في صبر نافد:
-المريـ.ـضة محتاجة ترتاح، اتفضلوا على أشغالكم.
عبس "ممدوح" بملامحه، وانتقل بعينيه إلى المريـ.ـضة المرهقة شاكيًا إليها:
-شايفة؟ بيتعامل معانا إزاي بطريقة المدير؟ والمفروض احنا أصحاب وعيلة واحدة؟
لحظتها لم يتمالك أعصابه، وهدر به بصوته الآمر وهو يشير بإصبعه:
-خد مراتك وامشي.
بشكلٍ لا إرادي ارتاعت منه "تهاني"، وانسحبت مغادرة على الفور بعد ترديد تحية مقتضبة، بينما رفض "ممدوح" التحرك قبل أن يقول بغموضٍ مثير للريبة، وكأنه يظهر استمتاعه باللحظة الملتوية:
-مرة تانية حمدلله على سلامتك يا آنسة "ناريمان"، وأنا واثق إننا هنتقابل تاني قريب، ما احنا زي ما قولتلك نعتبر كلنا عيلة واحدة.
ظل "مهاب" متجهمًا، مشـ.ـدود الوجه، تظهر في نظرته نحو رفيقه توعدًا قاسيًا، حافظ "ممدوح" على ثبات ابتسامته المستفزة، وانصرف وهو يدندن بصافرة خافتة، ما إن ابتعد حتى تساءلت "ناريمان" بفضول متعجب:
-هو ده فعلًا صاحبك؟
بعد زفرة بطيئة أخبرها في إيجازٍ:
-أيوه.
شعر من نظرتها إليه أن رأسها يعج بالأسئلة حول طبيعة علاقته به، لذا قطع عليها أي فرصة للاستخبـ.ـار عنه، ولو بصورة مؤقتة، بقوله المهتم، وهو يمد يده ليمسح بنعومة على جانب وجهها:
-أنا عايزك ترتاحي دلوقت ومـ.ـا.تفكريش في حاجة...
راح يطالعه بنظراته الدافئة الحنون وهو يتم جملته:
-كل اللي يهمني إنتي وبس.
ابتسمت لمعاملته الحانية معها، وأغمضت جفنيها مستسلمة لشعور الخدر الذي أخذ يداعبها مجددًا، لتنجرف مع موجات النوم التي حاصرتها من كل اتجاه.
............................................
للمرة العاشرة أعاد في ذاكرته استحضار ما حدث من تطورات فجائية في حالة "ناريمان" الصحية، خاصة أثناء إجرائه لهذه الجراحة الخطيرة، وما نجم عنها من مضاعفات أدت لاستئصال رحمها. لم يرغب في إطلاعها على الحقيقة المفجعة، وإلا لخرجت الأمور عن السيطرة.
في سيرة تامة، التقى "مهاب" بأفراد طاقمه الطبي المشاركين في الأمر، في غرفة الاجتماعات، مانعًا أي أحد من اقتحام مجلسهم إلى أن ينتهي منه. طأطأ جميعهم رؤوسهم في ارتباك وتـ.ـو.تر، وهم يقفون متجاورين في صفٍ واحد بمؤخرة القاعة. تجول بينهم بثباتٍ، ثم خاطبهم في لهجة غير متساهلة، تحوي تهديدًا صريحًا:
-لو أي حاجة من اللي حصلت جوا اتعرفت مستقبلكم هيتمحى، إنسوا إنكم تمارسوا الطب تاني في أي مكان.
لم يجرؤ أي فرد منهم على الاعتراض، أذعنوا إليه تمامًا وهو يزيد في تهديده:
-ومش بس كده، هخرب بيوتكم، وهسجنكم.
ارتفعت نبرته إلى حد ما وهو يسألهم:
-كلامي مش بيتعاد مرتين، مفهوم؟
اختلفت إيماءات رؤوسهم؛ لكنها اتفقت في إظهار كامل الطاعة له، بعدmا فرغ من تلقينهم جديد أوامره، صرفهم بقوله الصارم:
-اتفضلوا.
استجابوا في الحال، وغادروا دون أن يتفوهوا بكلمة واحدة، حتى بين أنفسهم، ليسير بعدها "مهاب" بتمهلٍ متجهًا إلى رأس الطاولة. تنهد في ارتياحٍ، وسحب المقعد بهدوءٍ، ليجلس عليه مسترخيًا، قبل أن يوسد ذراعيه خلف مؤخرة عنقه، ابتسم لشعوره بالنصر، وقال محادثًا نفسه:
-كده أحسن للكل ...
↚
(وهم الهوى)
بمعاونة اثنين من الممرضات، انتقلت من على فراشها الطبي، وسارت بتؤدة وخطوات متمهلة نحو الحمام الملحق بغرفتها. نُزع عنها رداء المشفى، وأصبح جسدها مكشوفًا، لتقوم الممرضتان بتنظيفه وإزالة آثار الدmاء العالقة ببدنها جراء عمليتها الجراحية الحرجة. لم تتمكن "ناريمان" من رؤية الجـ.ـر.ح لكونه مغطى بالضمادات الطبية؛ لكن ذلك الشعور الغريب بالخواء ناوشها بقوة، فما مرت به لم يكن هينًا، ولا زالت في انتظار تبعاته الخطيرة.
مجرد التفكير بشكلٍ تشاؤمي جعل أعصابها تتلف، وأطرافها ترتجف، ما لبث أن امتلأت حدقتاها بالدmـ.ـو.ع، وباتت في حالة من الهياج، لذا صرخت في الممرضتين بعصبيةٍ عجيبة:
-إنتو بتعملوا فيا إيه؟
تبادلت الاثنتان مع بعضهما البعض نظرات حائرة، وبادرت إحداهما بالكلام في أدبٍ:
-احنا بنساعد حضرتك.
لكزتها "ناريمان" في ذراعها، ورفضت الاستناد عليها، ليظل صوتها يصـ.ـر.خ فيهما:
-سيبوني، مش عاوزة حد يمسكني!
وراحت تنهال عليهما بألفاظ مهينة، فاندهشت الممرضتان من تصرفها العدائي نحوهما، وهما لم ترتكبان أدنى خطأ يستحق ذلك الانفعال الكبير أو حتى التوبيخ المسيء، ومع ذلك لاذت كلتاهما بالصمت، وحاولتا التعامل معها بتعقلٍ وثبات انفعالي إلى أن انقضت مهمتهما، وعادا بها إلى الغرفة لتتمدد على الفراش الذي تم تغيير أغطيته. تحدثت إحداهما إليها في ودية لا تخلو من الرسمية:
-ارتاحي يا هانم عقبال ما أنادي على دكتور "مهاب" علشان يشوف حضرتك؟
بقيت نبرتها أقرب للصراخ وهي تعلق عليها بتشنجٍ:
-خليه يجي بدل ما أنا مرمية هنا وسط بهايم بيتعبوني وبس!
ابتلعت الممرضة مرارة الإهانة، وهزت رأسها في طاعة، لتنصرف بعدها، بينما ظلت الأخرى مجاورة لها حتى تراقبها وتلبي طلباتها إن احتاجت شيئًا، خاصة أن الأوامر كانت صريحة ومحددة بشأن رعاية هذه المريـ.ـضة الهامة، ومخالفتها تعني التعرض للعقوبة، وربما الطرد الفوري من هذا المشفى الاستثماري الضخم.
.......................................................
الدندنة الرقيقة من المربية للرضيعتين، جذبت مسامعه، واستحثته على التمرد على الأوامر الصارمة، والتوجه إلى غرفة التوأم. لعدة دقائق تسمر "أوس" في مكانه عند عتبة الباب، يتأملهما في صمت، ودون أن يخطو خطوة للداخل، انشغلت المربية بتبديل ثياب الرضيعة "بيسان"، وعنـ.ـد.ما وجدت أنها بحاجة للاغتسال، أخدتها إلى الخارج، وتركت الأخرى بصحبة شقيقها الأكبر بعدmا أوصته بالانتباه لها.
في البداية لم يكن مهتمًا بطاعتها، وكان على وشك الانصراف؛ لكن همهمة الرضيعة "ليان" جعلت يبقى، انخلع قلبه في صدره عنـ.ـد.ما انقلبت على وجهها، وأصبحت قريبة من حافة فراشها المرتفع، إن تحركت مسافة شبر لسقط في التو من هذا العلو، وتعرضت للأذى الجسيم. لم يبقَ كالمشاهد كثيرًا، بل اندفع بلا تفكيرٍ تجاهها، وأمسك بها قبل أن تقع وترتطم رأسها بالأرضية الصلبة. حركته الفجائية جعلت الأدرينالين يتصاعد في كامل جسده، تلقفها بين ذراعيه وهو مضطرب الأنفاس، ناهج الصدر، تكاد نبضات قلبه المتسارعة تصم أذنيه من فرط تلاحقها، حيث بدت أشبه بالقرع على طبول الحرب.
ضمها إلى صدره وهو لا يزال يرتجف من ردة فعله السريعة، استعاد انتظام أنفاسه، وأخذ يتأمل وجه الرضيعة الضاحك، ابتسم في براءة لها، ورفعها إلى فمه ليضع قبلة صغيرة على وجنتها قبل أن يهمس لها بصدقٍ:
-متخافيش أنا موجود جمبك.
راحت الرضيعة تتململ بين ذراعيه في مرحٍ، ثم بدأت تتثاءب، وتغمض عينيها، فاستمر يهزها في رفق حتى غفت. سرعان ما حل هذا التعبير الجاد على ملامحه عنـ.ـد.ما التفت ليجد والدته تناظره من نفس موضع وقوفه السابق بعينين تعلوهما الحيرة والدهشة. لم يفكر "أوس" في إعطائها التبرير لتصرفه، وظل يطالعها بنظرات متحفزة ومترقبة لردة فعلها، للغرابة دنت منه "تهاني" متسائلة في صوتٍ مهتم:
-إنت عاوز تلعب مع إخواتك؟
احتفظ بسكوته، ورمقها بنظرة غامضة، فاستمرت تتحدث إليه بودية وألفة دون أن تطلب منه إعادة الرضيعة:
-أنا نفسي تبقى كويس معاهم، وتحبهم، لأن لما هما هيكبروا هيبقوا محتاجينك جمبهم...
كاد كل شيء يسير على ما يرام لولا أن استأنفت كلامها بترديدها:
-ولو عمو "ممدوح" بيشـ.ـد عليك شوية، فده لأنه آ...
صمَّ أذنيه عن باقي حديثها حينما تطرق لسيرة من يبغض، ناولها الرضيعة لينصرف دون أن ينبس بكلمة، فاستغربت من موقفه المعادي، وهزت رأسها باستنكارٍ، لتحادث نفسها بعدها بتبرمٍ:
-لو بس أفهم مالك!!
تعكرت سحنتها أكثر، ورددت، وكأنها على يقين تام من اعتقادها ذلك:
-أكيد أبوك اللي بيشحنك ضدي، طبعًا صعبان عليه أعيش كويس ومتهنية مع عيلتي، لازم يعكنن عليا بأي صورة.
نفخت مليًا، وعاودت النظر إلى رضيعتها دون ابتسام، ثم أسندتها برفق على فراشها، وانتظرت عودة المربية لتتابع أحوال توأمتها هي الأخرى.
...............................................
كانت رافضة للاستلقاء على الفراش في غرفتها، وظلت على حالتها المتـ.ـو.ترة، تنتظر قدوم "مهاب" بفارغ الصبر، ما إن جاء حتى انهالت عليه بعشرات الأسئلة، والأخير يتقن دوره الاحترافي في ممارسة أكذوبة نجاح عمليتها الجراحية دون خسائر فادحة. استرسل في توضيح مدى المجهود الخرافي الذي بذله ليتجنب حدوث مضاعفات لها، ومع ذلك تعمد إضفاء قليل من الرعـ.ـب بإخبـ.ـارها باحتمالية حدوث مشكلة عرضية تخص الحمل والإنجاب ما لم تُكتشف وتعالج في التو.
وكأنه يقدm لها قطعة من الأحجية، تعذر عليها فهم لغة المصطلحات الطبية التي يخاطبها بها، فغطى وجهها تكشيرة عظيمة، مصحوبة بنظرات متحفزة، قبل أن يخرج صوتها في لهجة أقرب للثورة:
-يعني إيه؟ أنا مش فاهمة.
مسح بيده على جانبي ذراعيها صعودًا وهبوطًا، فنفضت يديه قائلة بإلحاحٍ:
-أرجوك، وضحلي كل حاجة، ومـ.ـا.تكلمنيش بالألغاز.
انتشى داخله لأنه نجح في إرباكها، ومع ذلك أبقى على هدوء تعابير وجهه، مدعيًا تفهمه لحالة الانفعال والتعصب المسيطرة عليها، وتعامل معها بحنكةٍ، فأخبرها بمكرٍ، لئلا يثير شكوكها:
-يا حبيبتي، ببساطة شـ.ـديدة مقدرش أقولك ده هيأثر على الحمل ولا لأ، إلا لما يكون في جواز.
تطلعت إليه بحاجبين معقودين، كأنما تدير ما قاله في رأسه، ما لبث أن تحولت نبرته للعبثية عنـ.ـد.ما أكمل:
-ودي حاجة مش بتحصل بالمراسلة!
لم تخجلٍ من تلميحه المتواري، ولم يطل "مهاب" في مزاحه العابث، حيث استطرد في لهجة غلفتها الجدية:
-أنا مش عاوزك تقلقي من حاجة، وقت ما تكوني مستعدية هـ...
قاطعته قبل أن ينهي عبـ.ـارته بقولها الحازم:
-يا ريت نتجوز في أسرع وقت.
ادعى اندهاشه مما اعتبره قرارها المفاجئ، ورسم ذلك التعبير المقنع على وجهه لتصدق أنه في حالة من الصدmة، لحظتها وضعت "ناريمان" يدها على ذراعه، وضغطت عليه هاتفة في إصرارٍ:
-سمعتني، احنا لازم نتجوز.
ألصق بوجهه ابتسامة انتصار مشوبة بالانتشاء وهو يرد عليها:
-طالما دي رغبتك يا حبيبتي.
ثم مد يده ليحتضن كفها المسنود على ذراعه، رفعه إلى فمه ليقبله قائلًا، وعيناه مسبلتان تجاهها:
-كل اللي تحلمي بيه يعتبر أوامر بالنسبالي.
انخدعت بكلامه المنمق، وطريقته الملتوية في اللعب على عواطفها المرهفة، وسقطت في فخه المحكم، ليتمكن من استغلال الظروف، وتطويعها وفق أهوائه، لتقبل بما لا يمكن أن ترضى به في الأوضاع العادية.
......................................................
علق في حواف رأسها مسألة البحث عن عمل جديد تعيل به أسرتها، وتستخدm الدخل القادm منه في تلبية ما ينقص البيت من احتياجات ضرورية، خاصة مع تعذر زوجها في العثور على عمل بديل أو ثابت خلاف ذلك الخيري الذي يتقاضى فيه مبالغ زهيدة بالكاد تكفي لسداد جزء ضئيل من المديونيات المتراكمة. استطاعت "فردوس" بدعم جارتها المقربة الحصول على وظيفة متواضعة في إحدى ورش الخياطة القريبة، ومع ذلك ترددت في القبول بها بسبب رضيعتها؛ لكن حسمت "إجلال" الأمر بإبقاء الصغيرة معها طوال فترة غياب أمها عن المنزل، لتحل بذلك أهم عقبة فيه.
قبل موعد العمل بنصف الساعة، كانت "فردوس" تقف أمام باب منزل جارتها، مدت "فردوس" يدها بكيسٍ بلاستيكي فيه ما قد تحتاج إليه ابـ.ـنتها بعدmا ناولتها "تقى"، وأبدت اعتذارها الحرج منها وهي تخاطبها:
-معلش ياختي هتقل عليكي اليومين دول، لحد ما أفهم الدنيا فيها إيه.
عاتبتها "إجلال" في عبوس زائف رسمته على تقاسيمها:
-ما تقوليش كده، وربنا أزعل منك.
سرعان ما بدلته ليحتل تعبير وجهها آخر بشوش وهي توصيها:
-إنتي بس ركزي، وربنا هيردك مجبورة الخاطر.
بدت غير مقتنعة بقدرتها على الاستمرار، وراحت تشكو كعادتها مستخدmة يدها في تطويق عنقها، كأنما تدعي اختناقها من تراكم الهموم على كتفيها:
-الحمل بقى تقيل عليا، وأنا جبت أخري.
حاولت التهوين عليها بقولها المتفائل:
-كله بيعدي يا "دوسة"، استبشري خير إنتي بس.
هزت رأسها بخفةٍ، ثم أضافت فيما يشبه الوعد:
-بكرة لما القرش يجري في إيدي هراضيكي.
اعترضت عليها بلطافةٍ:
-وربنا ما عايزة حاجة، ده كفاية عليا الملاك اللي قاعدة في حـ.ـضـ.ـني.
ثم شـ.ـددت من ضمتها الحنون للرضيعة، فنظرت إليها "فردوس" بعينين ينقص منهما العاطفة، شتت نظراتها عن ابـ.ـنتها عنـ.ـد.ما خاطبتها "إجلال" من جديد:
-يالا علشان ما تتأخريش.
لوحت لها بيدها تودعها وقد استدارت هابطة على الدرجات:
-فوتك بعافـ.ـية!
انتظرت الأخيرة مغادرتها لتغلق الباب بهدوء، وتبدأ في تمضية نهارها بصحبة من تسليها ببراءتها، وتملأ عليها فراغ يومها الرتيب بمداعباتها المرحة.
..................................................
في غضون شهرين، كان "مهاب" قد انتهى من إكمال كل شيء ينقصه لإتمام مراسم الزيجة، بعيدًا عن الجميع، ومتعمدًا أيضًا منع ابنه من الحضور لطبيعة ظرف زواجه، في حين اندلعت مشاعر الحقد والغيرة بداخل نفس "ممدوح" الذي لم يكف عن مقارنة نفسه به، لهذا صب جام غضبه على "أوس"، وأصر على إبعاده هو الآخر عن عينيه، بإرساله للمدرسة الداخلية، بحجة أنها الأفضل في تهذيب وتطوير شخصيته المتمردة، ولم يمانع والده، فقد كان منشغلًا بالاستمتاع برفاهية قضاء شهر العسل في واحدة من الدول الأوروبية، ولم يكن بحاجة لمن يفسد عليه هذه المتعة الخاصة، وإن عنى بذلك إقصــــاء وحيده.
اقتاده المشرف إلى غرفة مدير المؤسسة التعليمية بعدmا وجده يتشاجر بعنفٍ وقسوة مع أحد الطلاب في الفناء الخلفي دون سبب يستحق ذلك، لم تكن هذه مرته الأولى التي يحاصر فيها أحدهم وينهال عليه بالركلات واللكمـ.ـا.ت، بل تكرر الأمر كثيرًا، وفي كل مرة يأتي بحجة مختلفة؛ لكن مؤخرًا لم يعد يعطي أي مبررات، واستمر في افتعال المزيد من المشاحنات. انزعج المدير من سلوكه العدواني الذي صار ملازمًا له غالبية الوقت على غير عادته قديمًا. ما إن رآه حتى هتف به بصوتٍ غاضب، وهذه النظرة المشتعلة تتناثر في عينيه:
-إنت تاني؟
تعامل معه "أوس" ببرود، وكأنه لم يقترف جرمًا، وقف معتدًا بنفسه، وتجاهله عن عمدٍ، ليستشيط المدير حنقًا، فصاح يوبخه لفظيًا:
-مش ممكن اللي بيحصل ده، أعـ.ـا.قبك بإيه تاني؟
ظل على جموده معه، مما استحث المدير على الصراخ به:
-حتى استدعاء ولي الأمر مابقاش نافع معاك!!
تحرك المدير من موضعه ليبحث عن ملفه في الرف العلوي متابعًا هديره المحتد:
-وجودك في المدرسة عندي بقى كارثة.
وجده في المنتصف، واستدار ناظرًا إليه بغلٍ وهو يخبره بصرامةٍ:
-مستحيل تفضل هنا، إنت بتدmر سمعة المكان.
بدا "أوس" غير متأثرٍ بهياجه، واكتفى بمتابعته بنظرته غير المبالية حتى عنـ.ـد.ما هدده:
-أنا هكلم أهلك يجوا ياخدوك.
ثم وجه بعدها المدير أمره للمشرف وهو يشير بسبابته:
-خليه مع الأخصائي لحد ما أشوف هتصرف إزاي.
رد في طاعة:
-تمام يا فنـ.ـد.م.
ثم اجتذب "أوس" بخشونةٍ طفيفة من ذراعه ليدفعه أمامه وهو يأمره:
-اتفضل معايا.
نظر إليه شزرًا، وأكمل بما يحمل الإهانة:
-أهل إيه دول اللي جايبين عيل بالشكل ده!
احتقنت دmائه بشـ.ـدة، وكاد يتطاول باليد على المشرف جراء إساءته له، لولا أن نشب شجار آخر بين الطلبة فالتهى عنه، وأسرع إليهم ليفض تلاحمهم الجسدي، فما كان منه إلا أن تلقى الضـ.ـر.بات العشوائية والهوجاء منهم، وضع "أوس" يديه في جيبي بنطاله، ونظر إليه بتشفٍ، فقد نال ما يستحق دون أن يبذل الجهد في ذلك.
...........................................................
أطفأ "ممدوح" عقب سيجارته غير المنتهية، وأشغل أخرى ليسحب دخانها بعمقٍ وكأنه يريد إنهائها في مرة واحدة، ليظل على شروده الواجم بصالة منزله، ورأسه لا يتوقف عن التفكير في كيفية إفساد استقراره الجديد بإعادة جره لطريق الملذات المحرمة والمجون، فثمة شيء خبيث ما زال يضمره في صدره ضده، لا ينقص بمرور الأيام، بل إنه يزداد ترسخًا بداخله. انتشله من دوامة انفصاله عن الواقع المحيط به صوت "تهاني" المتسائل وهي تقف قبالته:
-سرحان في إيه يا حبيبي؟
لفظ سحابة كبيرة من الدخان في الهواء، وأجابها بنفس الرد الروتيني السخيف:
-في الشغل.
لم ترتب للحظة في أمره، وتحركت من حوله لتجلس على مسند الأريكة، فردت ذراعها لتحاوطه به من كتفيه، واستخدmت يدها الأخرى في ملامسة طرف ذقنه برقةٍ، قبل أن تتساءل باهتمامٍ:
-عندك مشاكل فيه ولا إيه؟
راوغها في الرد قائلًا باقتضابٍ:
-يعني.
توهمت أن لانزعاجه علاقة بمن لا يتورع عن تكدير سلامها الأسري، تلقائيًا تصلبت في جلستها، وسألته مباشرة:
-"مهاب" ضايقك تاني؟
قدmت له الحل المثالي للتغطية تمامًا على ما يدور في خلده، فادعى كذبًا:
-هو أنا كنت مكلمه على زيادة في المرتب بتاعي بس هو طنشني.
تدلى فكها للأسفل، وتابعته بملامح مزعوجة للغاية، خاصة وهو لا يزال يتحدث بتذمرٍ:
-طبعًا عاملي فيها عريس جديد وأول مرة يتجوز، وكل ده علشان يذلني.
في التو أخبرته وهي تنتقل من موضع جلوسها للاستقرار في حجره:
-ما تشلش هم حاجة طول ما أنا معاك يا حبيبي، احنا الاتنين واحد.
مد ذراعه ليطفئ سيجارته في المنفضة المصنوعة من الكريستال، ثم لفه حول خصرها، وقال في شيءٍ من الحرج، لتنطلي عليها خدعة خجله من الاقتراض منها:
-أنا تقلت عليكي أوي يا "تهاني"، المفروض أنا اللي أجيبلك كل اللي ينقصك، مش العكس...
كادت ترد عليه؛ لكنه أسكتها بوضع إصبعه على فمها مكملًا بصوتٍ أجاد إظهاره بأنه مختنق:
-بس "مهاب" عارف إزاي يضايقني، وكل ده عشان أضطر أسيبك إنتي والبنات.
فزع داخلها، وجف حلقها من مجرد توهم حدوث ذلك، في التو احتضنت وجهه براحتيها، وأخبرته بتوجسٍ:
-متقولش كده، ده أنا أروح فيها.
ارتمت في حـ.ـضـ.ـنه قائلة بقلب ما زال يدق في خوفٍ:
-أنا كلي فداك.
ربت على ظهرها بخفةٍ غير مكترث بإخفاء هذه البسمة اللعوب التي ظهرت على شفتيه، تراجعت "تهاني" عنه لتطلب منه في تدلل رقيق:
-حبيبي، ممكن أطلب منك طلب؟
سألها بجديةٍ بعدmا خبت ابتسامته:
-خير؟
لم تكن تملك من الشجاعة الكافية ما يجعلها تخبره بمسألة فصل ابنها من مدرسته الداخلية، وإلا لثار عليها، وتأزم الموقف، فلجأت لحجة مناسبة أملت أن تنطلي عليه. تنحنحت قائلة بترددٍ:
-ينفع "أوس" يقضي معانا يومين الأجازة بتوعه هنا؟
تنهد في زفرة بطيئة، وهو يرمقها بهذه النظرة المتشككة، ثم قال بمكرٍ، ليبدو أمامها وكأنه خاضع لما تمليه عليه، حتى يظفر بالمزيد من المال منها:
-مع إنه مزعلني آخر مرة، بس علشان خاطرك بس.
مجددًا ألقت بنفسها في أحضانه وهي تشكره بشـ.ـدةٍ:
-حبيبي، ربنا يخليك لينا...
ألصقت شفتيها بخاصته، وأخبرته في عزمٍ:
-وإنت شوف ناقصك إيه وأنا أجيبهولك وبزيادة.
التوى ثغره بابتسامة سخيفة هازئة من سذاجتها التي تستفزه أكثر عن كل مرة، العجيبة أنها تصدق في تعلقه القوي بها، وهو قد بات فاتر المشاعر تجاهها، حتى تودده الحميمي إليها أصبح محدودًا، لذا من البديهي أن تلاحظ ذلك، لكنها كانت حمقاء، لا تدرك حقيقة زواجهما الواهي، ما أغاظه حقًا منها هو موقفها المتراخي تجاه ابنها، فواحدة غيرها كانت خاصمت العالم بأسره لأجله، خاصة مع جم ما تعرضت له من إذلالٍ وهوان لتبقيه في أحضانها؛ لكنها مع الوقت اختارت ما يرضيها شخصيًا متناسية حقوق صغيرها عليها، ومتوقع منها أن تفعل المثل مع توأمتيه، لهذا أباح لنفسه كل الوسائل لاستنزافها حتى تحين اللحظة المناسبة ويتخلص منها ................................... !!
↚
(بذرة الشـــــــرور)
بحركة اهتزازية رتيبة، ظل الصغير "أوس" يحرك ساقه اليسرى للأمام والخلف، وهو ينتظر خارج مكتب مدير مدرسته الداخلية، حيث تلتقي والدته به بعدmا تم استدعائها لاستلام أوراقه لنقله من هذا الصرح التعليمي. للغرابة تفاجأ بها تدافع عنه بضراوة، وتختلق له الحجج والأعذار لتبرر سلوكياته وتصرفاته المتجاوزة، فصوتها المرتفع قد وصل إليه، و.جـ.ـعله على دراية بما يدور بالداخل، دون الحاجة للتواجد فعليًا معهما. لم يتوقع منها أن تفعل ذلك خاصة بعد أن ازدادت الفجوة بينهما، وأصبح تواصلهما كأم مع ابنها محدودًا ومقتضبًا، حينئذ شعر بشيء من السرور ينتعش بداخله، يا ليتها استمرت على ذلك النهج، لما صار بهذا العِناد!
تصلب في جلسته، وتوقف عن هز ساقه عنـ.ـد.ما فُتح الباب فجــأة، نظر إلى الجانب فوجد والدته تخاطب المدير في لهجة متشـ.ـددة:
-أكيد مش هغلب وهلاقي لابني مكان يقدر يفهم طبيعة شخصيته، ويساعده يبقى أفضل، مش يحمله الذنب ويرميه كأنه نكرة.
جاء صوته جادًا حينما علق عليها بما يشبه النصيحة:
-اللي بنعمله ده لمصلحته، والأهم إن سلوكه يتغير، لأنه لو فضل على كده صدقيني مافيش مكان محترم هيقبل بيه.
تحدته قائلة بضيقٍ:
-هنشوف...
ثم استدارت برأسها نحو ابنها لتنظر إليه وهي تأمره:
-يالا يا "أوس" علشان نمشي.
نهض من مكانه ساحبًا معه حقيبته التي امتلأت بكافة متعلقاته الشخصية، أخذتها منه والدته، وقالت كنوعٍ من المواساة:
-معلش يا حبيبي، هما خسروك.
لم يبدُ مباليًا بالمرة بشـأن فصله، بل شعر وكأنه أزاح ثقلًا عن صدره بالتخلص من ذلك المكان، استمع إليها وهي تؤكد له:
-بكرة تروح مدرسة تانية أحسن من دي بمليون مرة.
اكتفى بالإيماء برأسه، فطلبت منه بصوتٍ ترقرق إلى حدٍ ما:
-بس ممكن أطلب منك طلب؟
نظر لها بعينين متسائلتين، فأوضحت له وهي تضع على شفتيها ابتسامة صغيرة:
-يا ريت مـ.ـا.تحكيش عن اللي حصل ده لعمو "ممدوح"؟
تعكرت ملامحه وأشاح بوجهه بعيدًا عن نظرتها المهتمة، فاستمرت في سرد أسبابها:
-مش حباه يفضل فاكر إنك لسه مشاغب وبتعمل مشاكل، وده مش حلو علشان علاقتكم سوا، أنا عايزاكم تبقوا زي الأصحاب، كأب وابنه.
وكأنها لم تقل شيئًا، ألقى ما فاهت به وراء ظهره، وواصل السير دون كلامٍ، بينما "تهاني" لا تزال تخاطبه في وديةٍ:
-وبعدين أنا زمايلي قالولي عن مدرسة لطيفة أحسن من دي، وهتكون قريبة من البيت.
ظل على صمته معها، فحاولت كـ.ـسر حاجز السكوت الذي يضعها معها بإشراكه في الحوار:
-ها إيه رأيك؟
رد بغير اكتراثٍ وهو يهز كتفيه:
-عادي.
انتقلت لسؤال آخر محاولة استطالة الحديث معه:
-مانفسكش تشوف إخواتك؟
نظر إليها باهتمامٍ لا يمكن إنكاره، فأضافت في حماسٍ:
-دول كبروا شوية، ولما حد بيكلمهم بيضحكوا.
ثم حاوطته من كتفيه بذراعها، وتابعت بنفس النبرة النشطة:
-هتتبسط أوي لما تجرب تعمل كده.
ظل واضعًا لقناع الجمود على محياه، رغم ذلك الشعور اللطيف بالمرح الذي تخلله لمجرد تخيله مشاركتهما اللعب واللهو بلا مراقبة أو سُلطة.
...........................................................
جراء ما تعرضت له مؤخرًا من تطورات صحية مفاجئة، تخلت عن فكرة إقامة حفل زفاف أسطوري، يتحاكى عنه الجميع لأشهر، وربما لسنواتٍ، مثلما حلمت طوال عمرها، لتكتفي بتنظيم حفل ذي مستوى راقٍ، بالكاد يرتقي لتطلعاتها، دعت للحضور إليه قلة معدودة، ممن تربطهم الصلة الوثيقة بالعائلتين، تجنبًا للقيل والقال، وتناثر الأخبـ.ـار والشائعات المغلوطة، لتسافر بعدها إلى الخارج، مستمتعة بالأيام الأولى في زواجها.
شعرت "ناريمان" بالغرابة والقلق، ولم تستطع مغالبة هذه المشاعر المضطربة رغم بذل "مهاب" كل الجهد لإسعادها وإشعارها بالتميز والاختلاف، لن تنكر أنها ذاقت معه أشهى ألوان الهوى، واستمتعت بالمفهوم العميق والمؤثر للوقوع في شباك الحب، ومع هذا بقيت مترددة، مستحوذ على تفكيرها الخوف من المجهول والحيرة من اختيار هذه الزيجة الغامضة، فكانت معظم لقائتهما تنتهي قبل أن يصل تلاحمهما الجسدي لذروة الرضا والانتشاء.
لم تستطع البقاء في غرفتها الفندقية الفاخرة، وارتدت ثياب السباحة، واضعة حول جسدها وشاحًا من قماش الشيفون، لتستلقي على واحدة من الأرائك البلاستيكية المرصوصة أمام المسبح، محاولة تصفية ذهنها، والتوقف عن ذلك الأرق الذي يزعجها، حينما لم يجدها زوجها بالأعلى، توجه إلى المسبح حيث توقع أن تتواجد. جلس ملاصقًا لها، وداعب ذراعها بأصابعه في خفة، فاقشعرت من لمساته، حاول التودد إليها بحميميةٍ، فصدته بجمود، استنكر ما قامت به، وعبس متسائلًا:
-في إيه يا حبيبتي؟
فردت المنشفة على جسدها لتغطي مفاتنها الظاهرة، وأخبرته بعزوفٍ صريح:
-ماليش مزاج يا "مهاب".
استاء للغاية من تمنعها عليه، وقال في استهجانٍ مشوبٍ باللوم:
-وأنا مش عايز منك غير إنك تحسي بيا، وتقدري مشاعري.
نفخت في سأمٍ، وقالت بصبر نافد:
-من فضلك، أنا تعبانة ومش قادرة.
للحظة توهم أنه تشكو من عِلة مرضية بجسدها، فتساءل بلهجة الطبيب المتمرس:
-في حاجة بتو.جـ.ـعك؟ قولي مـ.ـا.تتكسفيش!
رمقته بهذه النظرة الغريبة قبل أن تباعد عينيها عنه لتعلق بكلامٍ موحية:
-مش لازم يكون كل التعب في الجـ.ـسم!
فهم ما ترمي إليه دون الحاجة للتوضيح، فأخبرها مباشرة:
-أنا حاسس إنك متغيرة من بعد جوازنا، أو خليني أقول بصراحة إنك نـ.ـد.مانة على جوازك مني.
وكأنه قرأ ما يجول في رأسها من خواطر متخبطة، صمتها أكد لها ظنونه، وأفصح عن ذلك بترديده:
-كلامي صح طالما سكتي.
حاولت تبرير موقفها الحرج بقولها المرتبك:
-الحكاية مش كده.
نهض من جوارها قائلًا بسحنةٍ مقلوبة للغاية:
-مش محتاج أسمع أكتر من كده، وصلني اللي جواكي، ومش عاوزة تقوليه.
كادت تنطق بشيء لتصحح من سوء الفهم؛ لكنه حسم أمره هاتفًا بجدية:
-جهزي نفسك عشان هنرجع.
لم يمهلها الفرصة للاعتراض، وغادر المسبح بخطواتٍ شبه سريعة، مستحضرًا في ذاكرته، تصرفات زوجته السابقة الخانعة له، رغمًا عنه عقد عقله مقارنة سريعة بين الاثنتين، مرجحًا كفة الأخيرة لصالحها، فقد كانت طوع بنانه، يشكل عجينتها الطرية كيفما يشاء، ودون أن تجرؤ على الشكاية أو مخالفته، أبقى على ملامحه واجمة مدmدmًا مع نفسه في تبرمٍ:
-دي "تهاني" كانت برقبتك!
...................................................
كعادته كلما يعود من سفرة طويلة، يتقابل معه ليلًا بغرفته بالمشفى، قبل أن يستكملا سهرتهما بأحد المطاعم الشهيرة. التعابير التي كان عليها "مهاب" أكدت لرفيقه أنه لم يكن مسرورًا، وكانت الزيجة محفوفة بعناصر الهم والنكد، وإلا لما كف عن استعراض مدى كفاءته الذكورية في إيقاع فريسته الجديدة. ضحك "ممدوح" في سخرية، ليأتي تعقيبه مغيظًا له:
-أوام كده يومين العسل خلصوا؟
رد عليه بضيقٍ:
-مش ناقصك يا "ممدوح"، في شغل كتير متعطل وعايز أرتب جدولي من الأول.
سأله مستفهمًا في فضول:
-وعلى كده المدام راجعة امتى؟
أجابه بعد زفرة سريعة:
-لما أظبط حوار السكن.
استغرب لتفكيره في تبديل بيته مجددًا، واستخبر منه بتطفلٍ واضح:
-مش عاجبها الفيلا بتاعتك؟
أتى رده على مضضٍ:
-لأ، عايزة حاجة في أدوار عالية، تشوف بيها السماء.
تصنع الضحك السخيف، وعلق:
-واضح إن مراتك ليها دmاغ.
ضجر "مهاب" من الحديث عن زوجته غالبية الوقت، وسأله في جديةٍ:
-سيبك من سيرتها، وقولي "أوس" عامل إيه؟
مط فمه للحظةٍ قبل أن يجيبه مقتضبًا:
-كويس..
ما لبث أن مازحه في استخفافٍ، وبكلمـ.ـا.ت مفهومة المغزى:
-أبعتهولك يومين ياخد بحسك بدل ما إنت قاعد لوحدك مقطوع؟
تغاضى عن مضمون تلميحاته المشيرة إلى هجر زوجته له، ورد بنفس الصوت الجاد:
-لما أظبط السكن.
ثم عاد لصمته، محاولًا مطالعة ما لديه من ملفات متراكمة تخص أهم الحالات المرضية، رفع بصره عن الأوراق عنـ.ـد.ما ألح عليه "ممدوح" في مكرٍ:
-إنت حالك مش عاجبني، إيه رأيك في اللي يعدلك مزاجك؟
ظل رفيقه على تبرمه، فهتف به بانزعاجٍ:
-"ممدوح"! خف عني!
رد عليه بتصميمٍ:
-يا عم ده أنا بعوضك عن يومين الكآبة اللي كنت فيهم، جرب بس ومش هتنـ.ـد.م، ده إنت أستاذ الدلع والمريسة!
زفر عاليًا قبل أن يرد:
-بعدين.
مجرد قبوله ضمنيًا بالعودة إلى ما كان عليه، أعطاه الوسيلة لجره لأعماق المستنقع الذي كان يشاركه فيه بكل شيء، لهذا لم يتورع عن ملاحقته كظله حتى يضمن عدm تراجعه. في خبثٍ لا يمكن إنكاره خاطبه، وهذه اللمعة الشيطــــانية تتراقص في مقلتيه:
-اتفقنا يا صاحبي، وأنا مش عاوزك تشيل هم حاجة نهـــائي، أومال أنا موجود ليه؟!
ارتخى في جلسته أكثر، وبدأ في إعمال عقله بكامل طاقته، للتفكير فيما يعيدهما للأمجاد السابقة.
..........................................
هذه المرة أصـــر "ممدوح" على إرســـال الصغير "أوس" في وقت باكر مع مربيته إلى مسكن أبيه الجديد، حتى توضب متعلقاته بغرفته هناك، وفي نفس الآن يعتاد على المكان، ويتفقده بأريحية، إلى أن يعود "مهاب" من عمله متأخرًا، خاصة مع جدوله المشحون بعشرات العمليات الجراحية. لم تمانع "تهاني" ذلك، ورحبت باقتراح زوجها المهتم، فقد كانت مشغولة هي الأخرى بعملها، ولن تستطع القدوم مبكرًا لبيتها، لذا بدا من المناسب إبقائه هناك، واكتفت فقط بالذهاب لاصطحابه ليلًا إن أراد العودة معها والمكوث مع شقيقتيه التوأم.
بالنسبة له كان النهار طويلًا، ممتدًا، يكاد لا يمضي أبدًا، شعر "أوس" بالملل والفتور لبقائه بمفرده في هذا المسكن المتسع دون أن يفعل ما يفيد، وخصوصًا بعد رحيل مربيته، ليظل باقيًا مع تلك الأخرى المتواجدة من أجل القيام على كافة متطلبات أبيه، وأيضًا رعايته في حالة تواجده. كان ممتنًا لأنه أحضر كرته معه، فراح يركلها هنا وهناك، في بعض الأحيان كان يتوقف عن اللعب ليقوم بإزعاج المربية بأي طلبات فارغة، لتبدد بداخله هذا الشعور بالرتابة والوحدة. لدهشته كانت الأخيرة تهتم بمظهرها على غير العادة، أفرطت في تلطيخ وجهها بمساحيق التجميل، وبدلت زي عملها بآخر مماثل له في اللون؛ لكنه أقصر في الطول، حيث استطاع أن يرى غالبية ساقيها للمرة الأولى، فانتابه الفضول لمعرفة ذلك التحول العجيب في هيئتها، ورغم هذا لم يترك الأمر ليحيره أو يشغل باله كثيرًا، حيث عاود اللعب بكرته، فركلها بقوةٍ للأمام، فانطلقت إلى داخل غرفة أبيه، في البداية تردد في الذهاب، ثم حسم أمره بإحضارها، عنـ.ـد.ما تذكر الأمر الواضح بأنه غير محظورٍ عليه التواجد بها طالما أنها شاغرة.
ضحك في استمتاع وهو يرى المربية تشاركه اللعب بعدmا أحضرها، فراوغها، وأحرز ما اعتبره هدفًا في المنطقة التي خصصها لتسجيل الأهداف، مرة ثانية ركل الكرة بقوةٍ، فتسربت إلى داخل الغرفة، وثب عاليًا في براءة، والتفت برأسه محدثًا المربية:
-أنا هجيبها، وهكسبك.
هذه المرة اختفت الكرة أسفل الفراش، فانحنى بجسده بعد أن جثا على ركبتيه ليتمكن من تمرير ذراعه والتقاطها، لم يستطع بلوغها، فتمدد على بطنه، وزحف ببطءٍ لأسفله حتى يمسك بها. تسمر في موضعه عنـ.ـد.ما سمع بعض الهمهمـ.ـا.ت المتداخلة تأتي من الخارج، أرهف السمع محاولًا تبين صاحبه، الصرخة المكتومة التي نمت إلى مسامعه جعلته يتخشب، ظن أن أحد اللصوص قد اقتحم المنزل، ويحاول سرقته بالإكراه، تكررت الصرخة الأنثوية، فارتعب أكثر، ورغمًا عنه بلل ثيابه التحتية.
في قرارة نفسه تمنى لو كان ما يمر به كابوسًا لحظيًا، لكنه لم يكن يحلم، ارتعدت فرائصه أكثر مع اقتراب الأصوات من الغرفة، جاهد ألا يصدر صوتًا فلا يعرف أحد اللصوص بوجوده، وبالتالي لن يتعرض له بالأذى.
استطاع "أوس" من موضعه أن يرى أقدامًا تتحرك من جانب الفراش الأيمن، ميَّز طبيعة أصحابها بسهولة، فالمتواجدون بالغرفة حاليًا رجلان وامرأة، خمن من حركة المرأة أنها تقاوم بشـ.ـدة جذبها، تمكن من معرفة هويتها من صوتها المألوف، إنها المربية المتواجدة بالمنزل، لصدmته استطاع تبين صوت والده، فانتابته موجة أخرى من الفزع، وراح عقله الصغير بتفكيره المحدود يتساءل عن سبب صدامه معها، والذي لا يبدو مسالمًا على الإطـ.ـلا.ق!
من شـ.ـدة تـ.ـو.تره الخائف اختلط عليه الأمر، فلم يتمكن من تمييز صوت رفيق السوء، ذاك البغيض إلى قلبه. حاول بمداركه البسيطة تفسير ما يحدث، فخمن أن المربية واقعة في مأزق، جراء خطأ ارتكبته بغير قصد، وعاجزة عن الهرب من عقـ.ـا.ب والده. صرخة أخرى صدرت منها مصحوبة بدفعة عنيفة على الفراش جعلته يهتز من أعلاه، فخشي أن تسقط عليه الألواح الخشبية، سرعان ما اشتدت حدة الاهتزازات وامتزجت بتأوهات غريبة لم تألفها أذناه، فظن أن الأمر أصبح أكثر سوءًا، لهذا -وبشكل عفوي- انفلتت منه صرخة خافتة، نـ.ـد.م بعدها أشـ.ـد النـ.ـد.م لأنه كشف بها عن أمر وجوده.
توقفت الاهتزازات فجــأة، وظهرت الأقدام الرجـ.ـالية من جانب الفراش الأيمن، ليطل بعدها وجهًا كان أقـــرب للشيطان بسبب الظلام السائد عليه. حدق بعينين متسعتين في رعـ.ـبٍ أكبر لصاحب زوج الأعين الشرستين، تلك التي ترمقاه بغلٍ وحقد. خفق قلبه بقوةٍ، حتى كاد يشعر به يُقــ,تــلع من بين ضلوعه، ليعقب ذلك جذبة عنيفة من قبضتين محكمتين نجحتا في الإمساك به من قدmيه وجره للخارج.
هـ.ـر.بت شجاعته التي ظن ليومٍ أنه يملكها، فالموقف برمته غريب عليه، ومليء بكل ما هو باعث على الخوف، لم يجرؤ على فتح عينيه، وأطبق على جفنيه بقوةٍ، رافضًا النظر إلى من قبض عليه، ورفعه عن الأرضية، ومع ذلك ظل يركل بقدmيه في الهواء محاولًا التحرر من أسره المؤقت، تسلل إلى أذنيه صوت أبيه المعنف:
-بتعمل إيه هنا؟
لحظتها فقط تجرأ على فتح جفنيه، والنظر إليه، فوجد ملامحه غاضبة، ونظراته محتقنة، كرر عليه "مهاب" سؤاله بلهجةٍ أكثر حدة:
-مش أنا منبه عليك ما تجيش هنا إلا بأمر مني؟
ثم أنزله على قدmيه دون أن يفلته لتتحول نظراته المرتاعة إلى "ممدوح" الذي وقف يشاهد ما يحدث بتسلية واضحة، لفظ ما تبقى من دخان سيجارته المشتعلة، وقال في مزاح سخيف:
-شكله عايز يطلع خلبوص زي أبوه.
لم يبدُ "مهاب" راضيًا عن استهتار رفيقه بالأمر، وحذره بصوتٍ غير متسامح:
-مش وقتك يا "ممدوح"!
شتت "أوس" نظراته المفزوعة عن وجه ذلك المقيت الذي لم يتوقف عن رمقه بخبثٍ مشوب بالكره، لتقع عيناه على المربية التي تتمدد على الفراش، وهي شبه متجردة من الثياب، ويداها مقيدتان إلى حافته، أذهله المنظر، وأصابه بالمزيد من الرعـ.ـب.
عنـ.ـد.ما رأى "مهاب" نظرات ابنه إلى المربية اشتاط غضبًا على غضب، وصرخ فيها بتأنيبٍ لاذع:
-إزاي ما تبلغنيش إنه لسه صاحي؟ لأ وكمان تخليه مستخبي هنا في أوضتي؟
حاولت التحرر من القيد القماشي الذي يمنعها من النهوض وتغطية ما انكشف من مقومـ.ـا.تها المغرية؛ لكنها لم تنجح، فاسترخت في نومتها، وبررت بدلالٍ متصنعة البراءة:
-ما أنا ملحقتش، وإنت خدتني على مشمي يا باشا.
استنكر حجتها السمجة، وقال في نبرة لا تزال مهاجمة:
-يا سلام، إنت بتستعـ.ـبـ.ـطي؟
أصبحت نبرته أكثر تشـ.ـددًا وهو يهددها:
-هتتحاسبي على الغلط ده!
حينئذ تدخل "ممدوح" في مكر عابث، كأنما يدير دفة ما حدث لشيء محفز، وأكثر مجونًا:
-حاسبها زي ما إنت عايز، ما هي قدامك، هتروح منك فين، وإنت سيد من يعلم الأخلاق ويربي المنفلت!
كانت له طريقته الملتوية في اللعب بالألفاظ، واستثارة الحواس، عرف كيف يجعل رفيقه يخنع، ويتخلى عن العصبية الغريبة لاكتشاف ابنه عبثه مصادفة، وإن رتب لذلك عمدًا، ليضمن بذلك التدخل دومًا في شأنه بأسهل الحجج وأقصرها. لئلا يترك له الفرصة لإفســـاد ما خطط ورتب، أخبره أيضًا في هدوءٍ:
-بقولك إيه، الواد أهبل ومش هياخد باله من حاجة...
نظر إليه "مهاب" بتردد، فحاصره رفيق الســــوء بهسيسه الخبيث، وقد تحولت نظرته الغامضة لترتكز على ذلك الضعيف المصدوم:
-سيبهولي، وأنا هتصرف معاه ............................... !!
↚
(نبتة غير صالحة)
وكأنه كان ينتظر هذا الاقتـــراح منه لينجو من المأزق الحرج الذي وضع فيه، جراء لهثه وراء ما يطفئ لهيب الجسد، دون أن يضع في الحسبان تأثير مثل هذه السلوكيات غير الأخلاقية على نشأة صغيره وتقويم أخلاقه، فعادة حينما يلجأ لمثل هذه الممارسات المتجاوزة كان يهيئ الظروف ويتخذ الاحتياطات اللازمة لضمان الحصول على المتعة الكاملة، لذا هذه المرة ترك "مهاب" لرفيقه مهمة تأديب ابنه بأسلوبٍ شبه صارم. بلا تردد أقبل "ممدوح" عليه، مختطفًا إياه من بين يديه، وكأن الفرصة واتته على طبق من ذهب ليفعل فيه ما يشاء دون أن يردعه رادع، اشتدت قبضته على "أوس"، والأخير يقاومه بضراوة رغم الرعـ.ـب المسيطر عليه، استوقفهما "مهاب" قبل أن يبتعدا بالسؤال، ونظرته الحادة مرتكزة على طفله:
-هتعمل معاه إيه؟
مبتسمًا بابتسامة لا تضمر خيرًا أجابه مقتضبًا وهو يدير رأسه تجاهه لينظر إليه:
-متقلقش.
بإشارة من إصبعه حذره رفيقه بتشـ.ـددٍ رغم الضيق المندلع في صدره:
-مش عاوز "تهاني" تعرف باللي حصل!
أكد عليه بهدوءٍ:
-اطمن، دي مراتي، وأنا عارف هسيطر عليها إزاي وأدخل عليها منين.
على عكسه بدا "مهاب" قلقًا ومزعوجًا، فكرر عليه تحذيره بصيغة أخرى:
-مش ناقص مشاكل، وخصوصًا مع "ناريمان"، لأنها لو عرفت آ...
قاطعه قبل أن ينهي كلامه هاتفًا بثقة:
-عيب عليك!
ثم ثبت نظراته الغامضة على الصغير، تلك التي يخفي ورائها كراهية عميقة، وهو يتابع:
-أنا بنفسي هتأكد إن الجميل ده مش هيفتح بؤه نهائي!
ظل ذلك الشعور المزعج يناوش رفيقه، فناداه:
-"ممدوح"!!
حاول "أوس" بكل جهده الإفلات منه، ومع كل مقاومة يبديها لهذا المقيت كانت أصابعه تتصلب وتشـ.ـد قوة عليه، ليشعر بمدى عجزه حين يجابهه، رفعه "ممدوح" عن الأرضية متجهًا به إلى الخارج وهو يؤكد لرفيقه:
-أنا ليا لي أسلوبي، متقلقش!
..................................................
ارتفعت صرخات الصغير "أوس" وهو يُقاد قسرًا إلى غرفته، بدا "ممدوح" مستمتعًا بأصوات صياحه المستغيث وغير المجدي، ما إن ولج إلى داخل الحجرة حتى ألقاه بغيظٍ على فراشه، ليرتد جسده عليه، تزحف عليه محاولًا الابتعاد عنه؛ لكن لا مهرب له، خاصة بعدmا أغلق الباب بالمفتاح ليصبح أسيره.
بحث الصغير بعينيه المرتعبتين عن بقعة يختبئ بها، ومع ذلك ظل متسمرًا في موضعه، يحملق في وجه "ممدوح" الذي اربدت قسمـ.ـا.ته بعلامـ.ـا.ت البُغض، واسودت نظراته إليه، فطالعه بنظرة مُمـ.ـيـ.ـتة، لا تحوي إلا كل ما هو مـــفزع، حين صرخ الصغير مرة أخرى طالبًا النجدة من أبيه، أخرسه غليظ القلب بأمره الصارم:
-ماسمعش حسك!
غريزيًا انطلقت من أعماقه نداءات الاستغاثة بمن كانت تحنو عليه مؤخرًا، خاصة بعدmا لم يجد أي جدوى من أبيه، فراح يردد بـ.ـارتعابٍ:
-ماما، أنا عاوز ماما!
رد عليه باستخفافٍ زاده فزعًا على فزع:
-هنا مافيش ماما، ولا حتى بابا...
لحظتها بدا وكأنه يرى الوجه الحقيقي لذلك الوحش الكاســـر، تبرز أنيابه من فكيه بدلًا من أسنانه، انتفض في رعـ.ـب مضاعف عنـ.ـد.ما واصل "ممدوح" تهديده إليه:
-إنت موجود هنا تحت رحمتي!
ارتجف كامل بدنه، ولم يجرؤ على الصراخ، فقد أدرك أن استغاثته بلا جدوى، في اللحظة التي شرد فيها "أوس" غارقًا في تخيلاته المخيفة، كان "ممدوح" قابضًا عليه من كتفه، ضغط على عظامه الهشة بشراسةٍ متعمدًا إيلامه، ثم سدد له نظرة أكثر إرعابًا وهو يهمس له:
-عارف أنا هعمل فيك إيه؟
تراقصت بسمة شيطانية على شفتيه سرعان ما اتسعت لتخيفه وهو يكمل وصلة تهديده:
-زي ما أبوك بيعمل في الخدامة اللي فوق!
ومض عقل "أوس" بلمحات خاطفة ومتداخلة لمشهد المربية شبه العـــارية وهي تصرخ بتأويهات مكتومة، قبل أن يبصرها وهي مقيدة إلى الفراش، تنازع للتحرر من قيدها، بعفوية بريئة حاول الصغير مبادلته التهديد:
-أنا هقول لماما عليك.
ضحك هازئًا منه، ليبتر بعدها ضحكته المستفزة فجأة قائلًا بعدm اكتراث:
-مش هتقدر تعملي برضوه حاجة.
من ثقته الزائدة تيقن الصغير أنه هالك لا محالة، وما دعم ذلك الشعور ما فاه به في صيغة تساؤلية:
-تعرف، الأحسن من ده إيه؟
بلا سؤال نطقت عينا "أوس" بالكثير، فاستغل الفرصة ليميل برأسه حتى يهمس له، وأنفاسه الكريهة تلطم بشرته:
-إني أقطع حتة من جـ.ـسمك، وتبقى عاجز!
برقت عيناه ارتعابًا، فأضاف على نفس المنوال ليضمن بقائه صامتًا:
-وصدقني محدش هيقدر يمنعني إني أذيـــــك!!
هوى قلبه في موضع قدmيه هلعًا من حديثه الذي نجح كليًا في زعزعة عالمه، وإشعاره تمامًا بالوحدة والضعف، خاصة حينما امتدت يده الأخرى لتقبض على ذراعه، حمله بخفة وألقاه على الفراش، قبل أن يثبته ببساطة من صدره بقبضته القاسية، حدجة بنظرة خالية من الحياة، وأمره بلا صرامةٍ:
-اللي شوفته في أوضة أبوك يتنسى، ولا كأنه حصل، مفهوم؟
تخشب الصغير في مكانه كالصنم، وكأنه فقد حتى قدرته على المقاومة، فقد جمده الخوف ورعـ.ـب الخيالات المفزعة، ليضاعف "ممدوح" من إفزاعه أكثر، قام أيضًا بتهديده علنًا:
-شكلك ما بتفهمش بالكلام بس، إيه رأيك أوريك أنا هعمل إيه فيك؟!
كان على وشك إيهامه بأنه قادر على الاعتداء عليه بدنيًا دون أن يجرؤ أحدهم على منعه من إحداث أدنى أذى به، نظرته، وطريقته، وملامحه الموحية أكدت ذلك بقوة، لحظتها –ومن شـ.ـدة خوفه- بلل الصغير ثيابه التحتية، معتقدًا أنه سيستأصل قطعة منه، ما أوقفه قبل أن يشرع في تنفيذ ذلك صوت قرع الجرس، نظر إليه مجددًا، قبل أن يرفعه عن الفراش، ويلقيه أرضًا بخشونةٍ قائلًا بابتسامة لئيمة:
-حظك حلو...
انطرح "أوس" أرضًا متأثرًا بالسقطة العنيفة، فضحك "ممدوح" ساخرًا منه، ثم غمز له بطرف عينه متابعًا:
-فلت المرادي مني!
اتجه بعدها إلى باب الغرفة ليفتحه، وقبل أن يخرج استدار برأسه لينذره بنبرة لم يغب عنها العدوان:
-أحسنلك ماشوفكش!
من طريقته الصارمة لم يكن بممازحٍ معه، بمجرد أن انصرف استند "أوس" على مرفقيه لينهض، ثم هرول نحو الدولاب ليفتح ضلفته، اختبأ داخله، وهو بالكاد يحاول السيطرة على الرجفة العظيمة التي انتابته، كل ما كان يفكر فيه آنئذ ألا تطاله يد هذا الوضيع وتصيبه بالضرر.
..................................................
الأصوات المرتفعة خارج الغرفة تداخلت وأصبحت غير واضحة ليتمكن من فهم ما يدور من مخبأه شبه المعلوم، استطاع "أوس" أن يميز نبرة والدته عنـ.ـد.ما أصبح قريبًا، أرهف السمع أكثر، فوصل إليه صوتها اللائم والغاضب:
-وطبعًا إنت كمان معاه، ما هو صاحبك!
تجرأ ليدفع الضلفة برويةٍ وحذر، واختلس النظرات من الفرجة الصغيرة المواربة، طاف بنظره محاولًا تبين أين تقف، تصلب وجفت دmائه عنـ.ـد.ما وقعت عيناه على "ممدوح" الذي تعلل بكذبه المعتاد:
-أنا جاي أجيب ابنك.
واجهته "تهاني" بغير اقتناعٍ وهي لا تزال على استهجانها المستنكر:
-والمفروض أصدق؟
لمحه وهو يضع يده على جانب ذراعها، كنوعٍ من إظهار الودية لها، واستطرد قائلًا:
-براحتك.
أبعدت يده عنها، وسألته في تحفزٍ:
-و"ناريمان" عندها خبر باللي بيعمله "مهاب"؟
كتم "أوس" شهقة مرتعبة عنـ.ـد.ما أمسك به "ممدوح" وهو ينظر إليه من فرجة الدولاب، وقتئذ تراجع ملتصقًا بظهره في اللوح الخشبي، ومتجنبًا نظراته المخيفة، ليختفي في الظلام المحيط به، ومع ذلك شعر بأنه محاصر منه، مرة أخرى ارتفعت نبرة صوت "تهاني" الغاضبة وهي تتكلم:
-ولا تلاقيها لسه على عماها مش دريانة بحقيقته.
تمكن من سماع وقع كعبي حذائها وهي تتحرك داخل الغرفة، ليأتيه بعد ذلك صوت "ممدوح" القائل:
-مايخصناش اللي بينهم.
بدت والدته متحفزة للغاية، رافضة لما يجري، فاستمرت على عنادها المهدد:
-طالما هو مرعاش ابنه، ومصمم يعمل قلة الأدب دي وهو موجود عنده، فأنا مش هسكت.
أحس "أوس" بقدرٍ من الطمأنينة لإصرارها على كشف الحقائق، وإن كانت دنسة وملوثة بالموبقات. لم يبدُ "ممدوح" راضيًا عما تنتوي فعله، وصاح بها:
-"تهاني"!
أصرت على قرارها هاتفة:
-أبوه هيفضل زي ما هو، عمره ما هيتغير حتى لو اتجوز مين!
أمسك بها من ذراعها راجيًا إياها:
-اسمعيني بس.
تلوت بذراعها محاولة تخليصه من قبضته وهي تصيح:
-سيبني.
وقتئذ عاود "أوس" النظر من الفرجة الصغيرة للضلفة، متوهمًا أن والدته تتشاجر مع زوجها القميء، رآه وهو يسحبها نحو الفراش متحدثًا إليها في نبرة مالت للخبث:
-تعالي بس.
اتسعت عيناه عنـ.ـد.ما وجده ينهال عليها بقبلٍ نهمة، جائعة، محفزة للحواس، وموقظة للمشاعر الكامنة، بالكاد تمكنت "تهاني" من إبعاد شفتيه عنها لتلتقط أنفاسها، وهتفت في تـ.ـو.ترٍ مرتبك:
-إنت بتعمل إيه؟، الكلام ده مش هنا!
وكأن في تمنعها عليه دعوة خفية للاقتراب منها أكثر بحميمية جامحة، فضمها إليه ليعانقها، ثم حاوطها بذراعيه لتصبح أسيرته، كان متيقنًا أن ابنها يتابعهما، لهذا تعمد استثارة أعصابه بإظهار مدى هيمنته على والدته، أغرقها بالمزيد من القبل العنيفة، ليخبرها بنبرة أجاد بها اللعب على أوتار عواطفها الساذجة:
-بقولك حشـ.ـتـ.ـيني و .
امتقع وجه الصغير واشمئزت تعابيره رغم اختفائها في الظلام، وما زاد من شعوره بالغثيان والنفور هو تجاوبها معه بلا عناء. ترقرقت نبرتها الحادة لتصبح أقرب للهمس وهي تناديه:
-"ممدوح"!
لم يكف عن حصارها بما يجيد فعله، ليتبدد غضبها ويصبح القلق من احتمالية كشف أمرهما، ارتجفت نبرتها وهي تخاطبه:
-إنت ناسي، "مهاب" موجود هنا!
رد بغير مبالاة:
-وإيه يعني؟ مش مراتي حبيبتي، وبعدين هو يعني راحم نفسه، ما هو قاعد يحب جوا وبرا وفي كل حتة.
ضحكت في دلال مما أغاظ الصغير المختبئ، فتوقف عن مشاهدة عاصفة الحب التي هبت فجأة بينهما، فكيف لها أن تنساق وراء أكاذيبه المضلة بهذه السهولة، وكأنه صاحب السطوة والسلطة عليها، أين اختفى غضبها؟ ولماذا تراجعت عن انتقامها؟ سد أذنيه لئلا يصله أي أصواتٍ غريبة جراء، فقط تبين اسمه في سؤال بدا بالنسبة له عابرًا وغير ضروري:
-طب و"أوس"؟ أنا مش شايفاه.
تعمد رفع صوت ضحكته قبل أن يجيبها بمكرٍ:
-اطمني، هو في الحفظ والصون.
مما عايشه في موضع اختبائه، بدأت مداركه المحدودة في الاستعداد لاستيعاب مفهوم جديد عليه، بصورة غير صحيحة، يتمثل في وجود لذة مرضية وغريبة، تتلخص في فرض القوة والهيمنة على الآخرين، خاصة الضعفاء والمفتقرين إلى حرية الاختيار، وكأنهم لا يملكون مصائرهم إلا بإشارة ممن يتسيدهم.
.................................................
كانت ثمة ما يؤرقها طوال الأيام الماضية، فأصبحت أكثر اضطرابًا وتـ.ـو.ترًا، وللسيطرة على ما ينتابها من هواجس وخواطر، قررت الذهاب إلى الطبيب النسائي لعرض حالتها عليه. أثناء انتظارها بعيادته، استحضرت في ذاكرتها تفاصيل لقائها بـ "مهاب" أثناء مراسم الاحتفال بالشراكة مع أبيها، وقتئذ كانت تعاني من بعض الأعراض الطفيفة، ولفت انتباهها إلى ذلك من خلال محادثته اللطيفة معها؛ لكنها ظنت أنها محاولة سخيفة منه للتودد إليها، فتجاهلته، وتغاضت عن شعور الألم الذي كان يناوشها من آن لآخر، لتذهب بعد وقت إلى أحد الأطباء، فشخص ما تمر به في معاناتها من القولون العصبي، والذي يحتاج إلى عدة إجراءات لتجنب أعراضه، ومع زيادة حدة الو.جـ.ـع تم احتجازها بالمشفى ليصارحها الطبيب المنوط بمتابعة حالتها بوجود مشكلة عويصة في رحمها، فتم استدعاء "مهاب" على وجه السرعة لمراجعة ملفها الطبي، وبحضور والدها رجل الأعمال والطبيب المخضرم سابقًا.
على نحو يثير الذعر، صرخت "ناريمان" في هياج محتجة على ما آلم بها:
-اشمعنى أنا؟
حاول السيد "شوقي" تهدئتها، فمسح على جبينها متوسلًا إياها:
-حبيبتي، دي إرادة ربنا، كل حاجة هتتحل، إنتي قوية، وهتقدري تعدي أي محنة.
امتزج صوتها بنهنهات بكائها الحادة:
-ده مستقبلي، يعني ممكن أتحرم من أغلى حاجة!
رد عليها بتعقلٍ لتقبل بنصيحته:
-اطمني، حتى لو ده حصل، ففي بدائل تانية...
ثم التفت بوجهه ناظرًا إلى الواقف بجواره قبل أن يخاطبه على وجه الخصوص:
-وبعدين الدكتور "مهاب" موجود معانا، وده من أشطر الجراحين.
تكلم الطبيب الآخر المتواجد بالغرفة في نبرة عملية جادة:
-استئصال الرحم في حالتك مهم، وإلا آ...
قاطعه "مهاب" في صوتٍ مماثل له في جديةٍ؛ لكنه أكثر حزمًا وحسمًا:
-احنا لازم نعيد التحاليل والإشاعات تاني، مافيش داعي نعمل حاجة باستعجال، طالما لسه الوقت في صالحنا.
وكأنه نجح في اجتذاب انتباهها بكلمـ.ـا.ته المنتقاة بعناية، تطلع إليها باسمًا وهو يخبرها:
-مش عايزك تقلقي، إنتي في إيد أمينة.
آنئذ اطمأن "شوقي" لوجوده، وأحس بموجة من الارتياح تتدفق إلى داخله المضطرب بمتابعته الجادة لحالتها الحرجة، مرة أخرى تكلم "مهاب" في هدوءٍ ماكر:
-وأنا مش هسيبك، هفضل جمبك لحظة بلحظة.
أنهى جملته ويد قد امتدت بجراءة منقطعة النظير ليمسك بكفها ويحتضنه، نظرت "ناريمان" من بين دmـ.ـو.عها المنسابة بغزارة إلى ما يفعل، وحملقت فيه وهو يخاطبها:
-وصدقيني اللي جاي هيكون أحسن بكتير.
عصفت بها مشاعر الخوف، فاستل يدها من كفه، وتشبثت برأيها في عنادٍ أكبر:
-مش هعمل العملية مهما حصل!
نفضة خفيفة أعادت "ناريمان" إلى أرض الواقع نتيجة الصوت المنادي باسمها، فقد حان موعد لقائها بالطبيب بعد انتظار لا تعرف إلى متى استمر. اتجهت إلى حيث أشارت لها الممرضة، فاستقبلها الطبيب بترحابٍ، جلست في مواجهته، واستفسرت منه عن نتائج الاختبـ.ـارات الطبية التي أجرتها بناءً على طلبه بعد تشخيصه السابق لها، سألته في تلهفٍ مترقب متوقعة أن تكون بالأوراق البشرى السارة:
-ها يا دكتور، أنا حامل صح؟
نكس رأسه في شيءٍ من الحرج، وقال بترددٍ:
-مش عارف أقولك إيه يا هانم.
استشعرت من طريقته المريبة وجود خطب ما، خاصة مع تجنب النظر ناحيتها، انقبض قلبها وهي تسأله:
-هو في حاجة؟
فرك بيده جبينه، ولاذ بالصمت لعدة ثوانٍ كانت بالنسبة لها الأطول، إلى أن استجمع جأشه ليخبرها بوضوحٍ:
-صعب يا هانم تكوني حامل، لأن مافيش عندك رحم ....................................... !!
↚
(مصالح مشتركة)
لا شك أن الوقوع في فخ أكذوبة الحب العميق أعمى قلبها وبصيرتها، بل وحجب عقلها الواعي، فلم ترَ الوجه الحقيقي لما تخفيه النفس البشرية، استغرقها الأمر عدة لحظات حتى تستوعب جدية ما يمليه عليها الطبيب من حقائق أكيدة، في البداية رفضت تصديقه، إلى أن أثبت لها بالبراهين والأدلة كلامه. أجهشت بالبكاء المرير، بل إنها بكت في حرقةٍ كما لم تبكِ من قبل، انهارت صارخة في ذهول مستنكر:
-طب ليه عمل معايا كده؟ ليه؟
عجز عن إيجاد التفسير المناسب لتصرفه بهذه الطريقة الغامضة في موضوع شائك كهذا، وأخبرها بقدرٍ من الحرج:
-إجابة السؤال ده يا هانم مش عندي!
انتفضت قائمة من موضع جلوسها، وطرقت بعنفٍ على سطح مكتبه وهي تطلق وابل تهديداتها:
-أنا هكشف حقيقته لبابا، أنا هدmره زي ما ضيعني.
نهض بدوره هو الآخر، وأشار لها بيده مخاطبًا إياها برويةٍ:
-من فضلك يا "ناريمان" هانم تهدي، العصبية مش حلوة عشانك.
نظرت له شزرًا، وتجاهلته، لتخرج بعدها من حقيبتها منديلًا قماشيًا كفكفت به دmـ.ـو.عها المنسابة، لتستعد للمغادرة. لحق بها الطبيب قبل أن تنصرف، ورجاها:
-مش هينفع أسيبك تمشي وإنتي بالحالة دي.
أوقفته بإشارة صارمة من عينيها أتبعها قولها الآمر:
-لو سمحت مـ.ـا.تدخلش!
اضطر أن يمتثل بخنوعٍ لرغبتها، وتركها ترحل وهو متوجس خيفة من تطورات كشف ما لا يجب معرفته. صفقت "ناريمان" باب غرفة الطبيب خلفها، ولسانها يتوعد زوجها المخادع:
-هتشوف يا "مهاب"، مين هي "ناريمان شوقي"!
...........................................
كان أول ما قامت به بعد خروجها من عيادة الطبيب النسائي الشهير هو التوجه إلى المقر الرئيسي لإدارة أعمال والدها لإطلاعه على هذه الكارثة، لم يكن الأخير متواجدًا، فانتظرت قدومه في مكتبه بصبر فارغ، عاد بعد وقتٍ ليس بقليل، بعدmا انتهى من جولة تفقدية لآخر مشاريعه الاستثمارية في مجال الطب. اندهش السيد "شوقي" من مجيئها الغريب، وقام بتأجيل جدول أعماله للمكوث وتبادل الهموم معها، تفاجأت "ناريمان" بشـ.ـدة عنـ.ـد.ما وجدته على علمٍ كامل بما أصابها، وهتفت في استهجانٍ متعاظم، وكأنها لا تصدق اشتراكه فيما اعتبرته جريمة نكراء:
-يعني كنت عارف يا بابا بده؟
في هدوءٍ كبير، وبلا أدنى تـ.ـو.تر أخبرها وهو يسترخي في مجلسه:
-أيوه، وكنت متوقع إن في مضاعفات تحصل، "مهاب" كان صريح معايا من الأول، ووعدني هيعمل اللي يقدر عليه علشان تعدي من الأزمة دي علي خير.
صاحت في استنكار جلي، وقد تشربت بشرة وجهها بحمرة الغضب:
-بس أنا كنت رافضة، وقولتلكم الكلام ده.
اعتدل في جلسته المسترخية لينظر إليها بثباتٍ قبل أن يصرح لها:
-وأنا صممت، لأنه كان في خطورة عليكي.
ظلت على استنكارها الناقم منه:
-تقوموا تتحدوا سوا وتحرموني من حقي؟
رد باقتناعٍ تام:
-طالما هتأذي نفسك فأنا دوري أختار اللي يحافظ على حياتك ويحميكي.
في ألم متعاظم بداخلها، ينخر ثنايا قلبها علقت عليه:
-وأنا دلوقتي إيه؟ واحدة مش موجود فيها أهم حاجة بتميزها!
أظهر نوعًا من الإشفاق لرؤيتها على هذه الحالة المهتاجة، فقام واقفًا، واتجه إليها ليضع يديه على منبتي كتفيها قائلًا في صوت رزين، وكأن لغة العقل والمنطق هي التي لا تتحدث:
-يا حبيبتي إنتي باصة للموضوع من ناحية المشاعر والعاطفة، لكن احنا غيرك بنبص ليها بشكل عملي وواقعي، لأن دي حياتك، وهي اللي تهمني أكتر من أي حاجة تانية.
أحست بالخذلان ناحيته، ولامته بشكلٍ صريح:
-مهما قولت من مبررات، مش هقدر أصدق إنك توافق على ده.
حرك يديه للأعلى قليلًا ليضغط برفقٍ على كتفيها قائلًا في لطافةٍ:
-حبيبتي، إنتي جوهرة حياتي، وكل ما أملك سايبه عشانك، كون إني شايفك في الحالة دي بيضايقني أكتر.
نكست رأسها قائلة في حـ.ـز.نٍ عميق:
-من حقي أزعل وأتقهر.
للمرة الأولى يرى ابـ.ـنته على هذه الحالة البائسة، فتعاطف معها بقوةٍ، وتخلى عن أسلوبه الجاف في التعامل، ليرد عليها:
-هوني على نفسك.
مسحت بظهر كفها دmـ.ـو.عها، وقالت فجأة بعزمٍ غريب:
-أنا لازم أسافر لـ "مهاب"، وأعرف منه ليه خبى عليا الحقيقة، وأرجوك ما تمنعنيش!
لم يعارضها، وأبدى موافقته كنوعٍ من الدعم لها:
-ماشي، طالما ده هيريحك.
وكيف لها أن تجد الراحة وقد فقدت ما لا يمكن توضيعه مهما امتلكت من كنوز الدنيا وثروتها؟!
...............................................
استرعى انتباهه، بل الأحرى أن يقال كامل اهتمامه أثناء حضوره لإحدى الندوات الطبية المقامة خارج البلاد، هذه الثرثرة العابرة –وغير الحذرة- لأحد أفراد الطاقم الطبي ممن يتشارك معهم الطاولة، حيث تفاخر ذلك الشاب النزق في تفكيره بمشاركته في إجراء العملية الجراحية لابنة ذلك الطبيب الثري الذي اقتحم عالم رجـ.ـال الأعمال وصار واحدًا من رواده، معتقدًا بعدm معرفة أحدهم لهذا الشأن، وبالتالي قد ينال استحسان وإعجاب من حوله حينما يظهر لهم مدى براعته في التعامل مع الأزمة الطارئة.
لم يبدُ الأمر غريبًا على "ممدوح"، فقد حاول استدراجه في الحديث ليعرف أكثر عن تفاصيل ما جرى ليتأكد من ظنونه، على ما يبدو لم يمتلك هذا الشاب قدرًا من الفطنة ليحاذر في انتقاء ما يقوله بعناية، وبالتالي ظفر "ممدوح" بكنزٍ من المعلومـ.ـا.ت القيمة التي اِدَّخرها لاستخدامها وقت الحاجة. وها قد أتته اللحظة التي يستغلها فيها عنـ.ـد.ما تعقدت الأمور وصارت على المحك بعد حادثة المربية الأخيرة والتي شهد عليها الصغير "أوس".
اتخذ "مهاب" موقعًا معاديًا لرفيقه، ولم يتهاون في التعامل معه، لهذا أراد "ممدوح" تهديده بشكلٍ ضمني، ليعيد العلاقات بينهما إلى ما كانت عليه، فاستطرد وهو يمد يده تجاه اللافتة الخشبية الموضوعة على سطح المكتب، والمدون عليها اسم وطبيعة مهنة رفيقه بالمشفى ليعبث بها:
-في كلام سمعته كده طياري إن عملية مراتك قبل ما تتجوزها حصل فيها شوشرة.
صدmه تطرقه لهذا الأمر، وحملق فيه مدهوشًا، قبل أن ينفيه تمامًا، كأنما لم يحدث:
-مش مظبوط الكلام ده!
وليبدو أكثر حزمًا وجدية تابع في لهجة غير متساهلة مطلقًا:
-واللي نقل الكلام الكدب ده هيتحاسب.
التوى ثغر "ممدوح" ببسمة صغيرة، مستمتعًا برؤيته على هذا الكم من التـ.ـو.تر، نظر له مليًا، قبل أن يضع اللافتة مكانها ليخاطبه ببرودٍ:
-اهدى يا "مهاب"، ما الموضوع اترمخ عليه، وعدى خلاص، وبقيت حرمك المصون...
ثم غمز له بطرف عينه، وتابع في شيءٍ من التهديد الخفي:
-ولا خايف لأحسن تعرف إنك شلت جزء من الرحم؟ ساعتها هتبقى المشكلة اللي بجد!
جملته المنطوقة عن عمدٍ، والتي ظن أنه متفاخر للإدلاء بها، وكشف المستور، كانت مفتاح نجاته من الهــــلاك، إذًا من نقل إليه المعلومة أعطاه إياه منقوصة، لذلك استراح داخله، ومع هذا ظل "مهاب" على جديته الصارمة فأمره:
-"ممدوح" قفل على السيرة دي، أنا مش عايز مشاكل مع "ناريمان"....
وليبدو أكثر إقناعًا تعلل كذبًا:
-وخصوصًا إنها حامل...
وكأن كلمته الأخيرة وقعت على رأسه كالمطرقة، حيث ذُهل كليًا، وردد في غير تصديقٍ:
-حامل؟!
أكد له بجدية شـ.ـديدة لئلا ينكشف أمره:
-أيوه حامل في الأول، ولا إنت شاكك في قدراتي ولا إيه؟
ظلت علامـ.ـا.ت الصدmة واضحة على تعابيره، وقال وهو يفرك جبينه:
-لأ، أنا واثق إنك تقدر تجيب بدل العيل عشرة، بس إنت معرفتنيش بده.
تقوس فمه في امتعاضٍ قبل أن يحرجه بوقاحةٍ:
-لأنه مايخصكش!
ارتفع حاجبه للأعلى بغيظٍ، فتجاهل "مهاب" ما بدا على وجه رفيقه، واستمر يوبخه:
-وبعدين كفاية أوي اللي حصل منك إنت ومراتك في بيتي آخر مرة.
لم يبقَ طويلًا على بروده، بل بدأ غليل نفسه يطغى عليه، ورد بتحفزٍ:
-وعرفت ألم الدور، ومحدش حس بحاجة.
في شيءٍ من التحذير علق عليه:
-بس مش كل مرة تسلم الجرة، مش بيقولوا كده في الأمثال؟!!
استهزأ به "ممدوح" بقوله السخيف:
-معقولة، بقيت تخاف من "تهاني"؟ قلبك ضِعف ولا إيه؟
كاد أن يلزمه حده بجملة صارمة لولا أن اقتحمت "ناريمان" المكتب فجــأة بظهورها غير المخطط له، لتحل الصدmة المشوبة بالتـ.ـو.تر على وجه "مهاب"، كان في مأزقٍ خطير، كل شيء بات مهددًا بالكشف عنه والانهيار. رغم الحنق المسيطر إلا أنه بذل الكثير من الجهد ليضبط انفعالاته، ولا يظهر تأثره بحضورها الغريب. نظرت "ناريمان" إلى الجالس مع زوجها، وخاطبته في لهجة رسمية، عكست إلى حدٍ كبير عن ضيقها لتواجده في هذا الوقت تحديدًا:
-دكتور "ممدوح"! سوري مكونتش أعرف إنك هنا.
تحرك الأخير تجاهها بعدmا نهض من مكانها ليصافحها قائلًا بوديةٍ زائدة، وهذه الابتسامة اللبقة تزين محياه:
-"ناريمان" هانم، ده من حسن حظي إني أشوفك.
لم يترك كفها بل رفعه إلى فمه ليقبله متابعًا كلامه إليها:
-مبروك.
نظرت له باستغرابٍ حائر، فتدخل "مهاب" على الفور هاتفًا بصوت لا يخلو من الارتباك:
-حمدلله على السلامة يا حبيبتي...
جذبها ناحيته ليعانقها، وتابع في عتابٍ رقيق:
-مش كنتي ت عـ.ـر.فيني إنك جاية علشان أروح استقبلك بنفسي؟
تجاهلت ما فاه به لتسأله بتحفزٍ واضح:
-فاضي شوية؟
ألصق بثغره ابتسامة عـ.ـذ.بة وهو يخاطبها:
-ولو مش فاضي يا حبيبتي ألغي كل حاجة علشانك.
ثم التفت برأسه موجهًا كلامه إلى رفيقه، ويده تطوق زوجته من خصرها، ليظهر انسجامه معها:
-معلش يا "ممدوح"، المدام رجعت، خلينا نكمل شغلنا بعدين.
نظر إلى ما يفعله بتشككٍ، وقال بتهذيبٍ:
-طبعًا، خدوا راحتكم.
ثم دنا من "ناريمان" ليصافحها مجددًا، وكأنه بذلك يتحدى رفيقه بصورة خفية، ركز نظره معها هاتفًا:
-فرصة سعيدة يا هانم.
سحبت يدها من بين أصابعه الضاغطة عليها قائلة:
-ميرسي.
قبل أن يشيح ببصره بعيدًا أضاف في مكرٍ مريب:
-وأنا واثق إننا هنتقابل دايمًا.
لم يفهم "مهاب" ما الذي يرمي إليه بطريقته المراوغة هذه، فقد استشعر بقوةٍ نواياه غير المحمودة تجاهه، خاصة بعد حوارهما السابق، لهذا فكر في التصرف بحزم معه، لئلا يترك له المجال ليفسد عليه حياته بأي تهديداتٍ محتملة.
....................................................
قيل على لسان أحدهم أن من يتعـ.ـذ.ب يَــتعـ.ـذ.ب وحده، لا يشاركه آخر أوجاعه أو آلامه، لم تهنأ "ناريمان" للحظة منذ معرفتها بمأساتها، كانت تعاني في كل وقت تتذكر فيه أنها حُرمت من شيء لن تتمكن أبدًا من استرداده مهما أنفقت من ثروات وأموال. أفرغت كامل غضبها على زوجها بعدmا أصبح الاثنان بمفردهما، ألقت عليه كل اللوم، وكل الاتهامـ.ـا.ت، رأت أنه المسئول عن سلب مكمن الأمومة منها، كورت قبضة يدها، ولكزته في كتفه صارخة به:
-إنت قضيت على حلمي.
رغم أن ضـ.ـر.بتها كانت قوية إلا أنه تريث في إبداء أي ردة فعل، فهذه المسألة تحديدًا تحتاج لضبط النفس، لاستعادة زمام الأمور. نظر إليها بعينين حزينتين، وقال بلهجةٍ حاول أن يجعلها متأثرة، متعاطفة معها، ليتمكن من خداعها، وإجبـ.ـارها على الاقتناع بحججه الواهية:
-صدقيني، أنا عملت كل اللي أقدر عليه عشان أنقذ حياتك...
ادعى اختناق صوته وهو يتابع:
-غير كده كنت خسرتك للأبد...
أغمض عينيه للحظةٍ قبل أن يفتحهما ليقول مع تنهيدة ثقيلة:
-وأنا مش متخيل حياتي بدونك.
نظرت إليه من بين دmـ.ـو.عها بلومٍ شـ.ـديد، ورأى ذلك جليًا في تعبيرات وجهها الناطقة بمدى عمق تأثير خسارتها عليها، حاول أن يلطف من الأجواء، فقال والتـ.ـو.تر ظاهر في نبرته:
-حبيبتي كل حاجة سهل تتعوض، إلا إنتي!
هل حقًا يصدق عبـ.ـارته السخيفة تلك؟ على ما يبدو لم يكن موفقًا في اختيارها، لهذا شعر بتخشبها، قبل أن تنتشل يديها من راحتيه، زرَّ ما بين عينيه ناظرًا إليها بترقبٍ، فرفعت ذراعيها للأعلى، ودفعته من صدره بقوة وهي تسأله في صوتٍ مليء بالاتهام:
-وهخلف إزاي؟ هيبقى عندي عيال منين؟
حاول التعامل مع عصبيتها المبررة بكل تعقلٍ وحكمة، فاقترب منها قائلًا بتوسلٍ:
-أرجوكي إهدي.
رفضت لمساته، وصرخت فيه:
-سيبني، متقربش مني..
تجمد في موضعه، ونظراته تتابعها، تلفتت "ناريمان" حولها باحثة عن حقيبة يدها، وصوتها لا يزال يصـ.ـر.خ:
-أنا عاوزة أمشي من هنا، أنا مخـ.ـنـ.ـوقة.
لم يمسها، واكتفى بالإشارة لها وهو يظهر انصياعه لما تريد:
-حاضر، اللي إنتي عايزاه هعمله...
ظلت تحدجه بهذه النظرة النارية، ومع ذلك قابلها بكل محبة وود، ليخبرها في إصرارٍ معاند لها:
-بس مش هسيبك لواحدك، مقدرش أعمل كده.
انخرطت مجددًا في نوبة بكاءٍ أعنف، فما كان منه إلا أن تقدm ناحيتها، وجذبها إلى صدره، رافضًا تحريرها رغم سعيها الدؤوب للتخلص من حصاره، بعد برهةٍ بدأت تخبت مقاومتها، واستسلمت لعطفه وحنانه، فألقت برأسها على كتفه، حينئذ ضمها ليحتويها أكثر، وهمس مؤكدًا لها تمسكه بها، وإن كان بالكذب:
-كفاية إنك إنتي أحلى حاجة حصلت في حياتي.
.....................................................
نظر حوله بعينين مزعوجتين، فالبيت لم يكن مرتبًا مثلما كان في السابق، وغالبية الأشياء إما متروكة في حالة إهمال أو غير نظيفة، حتى ثيابه كانت لا تُغسل إلا مرة واحدة أسبوعيًا، فيضطر بنفسه لتنظيفها وأيضًا رعاية طفلته الرضيعة، لم يكتفِ بذلك بل كان على قدر استطاعته يزيح الغبـ.ـار المتراكم هنا وهناك محاولًا جعل المنزل منظمًا. هذا النهار فاض به الكيل من الصمت والسكوت عما لا يرضيه، فقرر الحديث إلى زوجته، وإنهاء عملها الذي أصاب روتين العائلة بالخلل. انتظر عودتها ليفاتحها في الأمر، فاستطرد في لهجةٍ معاتبة:
-ينفع كده يا "فردوس"؟ البيت كله مبهدل وعاوز نضافة!
وكأنه كان ينقصها تذمره ليقضي على ما تبقى لديها من طاقة استنفذت في العمل، انفجرت هادرة به بتشنجٍ:
-أنا بني آدmة وبروح، همـ.ـو.ت نفسي يعني؟ ولا تكونش مفكرني الخدامة اللي جبوهالك أهلك.
ضيق عينيه في استعتاب أكبر، ورد:
-الله يسامحك، بس الوضع مابقاش ينفع.
زمت شفتيها هاتفة بسخطٍ:
-أل يعني كان بمزاجي؟!
جاء رده جادًا للغاية:
-خلاص، مالوش لازمة الشغل اللي معطلك عن بيتك ده.
رمقته بهذه النظرة الهازئة المستنقصة من رجولته، قبل أن تهاجمه لفظيًا:
-ومين هيصرف علينا؟ إنت مثلًا؟!!
رنة الاستحقار الظاهرة في صوتها أحرجته، و.جـ.ـعلت ملامحه تغيم بشـ.ـدة، فقال في ضيقٍ:
-أنا بعمل اللي ربنا بيقدرني عليه.
مجددًا سخرت منه بإهانةٍ واضحة:
-أه بأمارة ما أنا رامية البت طول النهار عند الجيران عشان مـ.ـا.تحوجش للي يسوى واللي مايسواش!!!
كاد يرد عليها لكنها رفعت من نبرتها لتواصل هجومها الكلامي عليه:
-يا راجـ.ـل إنت ليك عين تتكلم أصلًا؟ ما تطلع من جيبك وتديني العشرات والميات؟!!
خجل من عجزه المادي، وأطبق على شفتيه مانعًا نفسه من مجاراتها في جدالها المسيء، فمنحها ذلك الأفضلية عليه لتشعر بأنها صاحبة الصوت الأعلى في هذا البيت بعدmا استطاعت أن تتدبر احتياجاته بعملها، تحركت بتكاسلٍ تجاهه، حدجته بهذه النظرة القوية، ثم رفعت يدها وربتت على كتفه قائلة بتحدٍ كانت واثقة أنه لن يجرؤ على الإقدام عليه:
-يوم ما تصرف على البيت ده وتستتني زي الرجـ.ـا.لة اللي بجد يبقالك الكلام، غير كده هو ده اللي عندي يا جوزي!
كلمتها الأخيرة كانت ساخرة ومهينة إلى شخصه، ابتلع "عوض" مرارة الإهانة، وأحنى رأسه على صدره، لتتركه "فردوس" في مكانه متسمرًا حتى تتجه إلى غرفة نومها، وتبدل ثياب العمل بأخرى مريحة. شيعها زوجها بنظراته الآسفة متمتمًا في قلة حيلة:
-هقول إيه بس غير ربنا يهديكي لحالك.
........................................................
منذ أن عاد إلى المنزل وهو شارد الذهن، ممتنع عن الكلام، وكأنه معزول عمن حوله، كان ينظر بفتور إلى زوجته، حتى طفلتيه، لم يشاركهما اللعب كما اعتاد كل يوم، فقد هبط خبر حمل "ناريمان" كالصاعقة على رأسه وأربك كافة مخططاته، حاولت "تهاني" استدراجه في الحديث ليفصح لها عما يشغل باله؛ لكنه تعلل بضغوطات العمل المستمرة، لم تحاصره كثيرًا بأسئلتها، وقدmت له هدية مغلفة لم يتوقعها منها، نظر إلى ذلك الشيء الملفوف في ورق مفضض متسائلًا:
-دي عبـ.ـارة عن إيه؟
مسدت على وجنته برفقٍ، وقالت في صوت متحمس:
-افتحها وإنت تعرف.
راقبته باهتمامٍ شغف وهو يفض ورقها اللامع، لتعلق بمزيدٍ من الحماس:
-يا رب تعجبك.
تأمل ما أهدته إياه، كان إطارًا خشبيًا، موضوعًا به صورة فوتوغرافية للتوأم وهما تضحكان في براءة. أعجبته بشـ.ـدة، وقال في مدحٍ كبير:
-حلوة أوي.
ابتسمت في سرورٍ لأنها نالت استحسانه، وعلقت في حيويةٍ:
-المرة الجاية نتصور كلنا سوا.
لم ينظر تجاهها، بقيت عيناه مرتكزتان على الصورة المبهجة، واكتفى فقط بالهمهمة المقتضبة:
-أكيد.
........................................
بعدmا استفاقت من حالة الهياج العصبي التي سيطرت عليها لعدة أيام، واستعادت هدوئها السابق، اقترح عليها "مهاب" الانضمام إليه، والانخراط في سوق العمل، لملء الفراغ الكبير الذي يشغل معظم وقتها، في البداية اعترضت على ذلك؛ لكن مع إصراره المستمر قبلت بعرضه كنوعٍ من الإلهاء. شغلت "ناريمان" منصبًا هامًا في مشفى زوجها الاستثماري، لا يتناسب مع مؤهلاتها ولا قدراتها، مما أدى لوقوعها في أخطاء فادحة، ترتب عليها نتائج خطيرة، تسببت في تعريض بعض المرضى للأذى، ومن ضمنهم واحد من الشخصيات الهامة. اكتشف "ممدوح" الأمر، ورفض التستر عليه صائحًا بغضب، وقد ألقى بالأوراق جانبًا:
-إنت عاوزني أسكت إزاي؟ ده ممكن كلنا نروح في داهية لو اتكشفت الكارثة دي!
أبقى "مهاب" نظراته ثابتة على رفيقه، ثم خاطبه في مكرٍ:
-أومال أنا جايلك ليه؟ ما إنت اللي بتظبطلنا كل حاجة.
ضم الأخير شفتيه في تردد لا يخلو من الحنق، فواصل "مهاب" الكلام بجديةٍ:
-وبعدين اعتبرها خدmة قصاد خدmة!
انتفض ذلك العرق النابض في وجهه، وصاح معترضًا بتبرمٍ ممزوج بالسخرية، ويده تطرق بغيظٍ على سطح المكتب:
-بالبساطة دي؟ ده حتى خدmة تودي ورا الشمس!
أكد له بثقةٍ، وبتعبير هادئ مرسوم على قسمـ.ـا.ته، وهو لا يزال جالسًا باسترخاء على المقعد المواجه له:
-ما احنا في إيدنا كل حاجة، هنظبط الوضع بحيث لو حد شم خبر، يلاقوا اللي يشيل.
رمقه "ممدوح" بهذه النظرة المتشككة قبل أن يسأله من موضعه مستفهمًا:
-شكل دmاغك فيها حد معين، مظبوط؟
أجابه مومئًا برأسه:
-أيوه، مافيش إلا هي!
تحفز في جلسته، وسأله:
-قصدك مين؟
بعد سكوت لحظي أجاب دون تمهيدٍ:
-"تهاني"!
انصدm بما قال، فردد بعفويةٍ:
-مراتي؟
اعتلى فمه ابتسامة خبيثة قبل أن يرد:
-هو في غيرها.
شرد بنظرته لهنيهةٍ، وكأنه يفكر في اقتراحه اللئيم، ليحتج بعدها:
-بس اللي إنت طلبه صعب!
زوى "مهاب" ما بين حاجبيه قائلًا في لهجة صريحة:
-هنضحك على بعض؟ إنت جبت أخرك منها، وعايز تخلص من الجوازة دي وتشوفلك سكة أحسن.
ادعى اهتمامه بشأنها، فقال بتحيزٍ:
-بس مش بالشكل ده، مهما كان دي أم بناتي، عايزهم يتربوا من غير أم؟
عقب عليه في تهكمٍ مستفز:
-إذا كان هما طول اليوم أعدين مع المربية، صح ولا أنا غلطان؟
وقبل أن يحتج أكثر كنوعٍ من حفظ ماء الوجه، بادر بالاقتراح المغري ليضمن التأثير عليه:
-وبعدين أنا هجيبلك أحسن واحدة تربيهم، وإنت تعيش حياتك، ده غير المميزات التانية اللي هتاخدها، وإنت عارفني يا إما برفع اللي معايا لسابع سما، أو أمحيه من على وجه الأرض.
النظرة الغامضة التي سادت وجه "ممدوح" أكدت اقتناعه بتنفيذ فكرته الشيطانية للخلاص منها، فقد كان ضعيفًا أمام وسائل الإغراء أيًا كانت نوعها، طالما أنها تخدm مصالحه الشخصية وتأتي عليه بالنفع في الأخير. ليبدو وكأنه يفكر في الأمر ادعى بعد صمته المدروس:
-طيب سيبلي الورق ده وأنا هشوف هتصرف إزاي.
اتسعت ابتسامته المنتصرة أكثر وهو يمتدحه:
-تعجبني.
صحح له مشيرًا بإصبعه قبل أن يجمع الأوراق المتناثرة هنا وهناك ليسويها:
-ما هو كله بحسابه في الآخر!
بعدئذ نهض "مهاب" من موضع جلوسه، زرر سترته، ثم مد يده ناحيته ليصافحه، كتأكيد صريح ونهائي على اتفاقهما في المضي معًا في وضع تفاصيل هذه الخطة الخبيثة، وإن كان في تنفيذها تدmير الأبرياء
↚
(ما لا يمكن الاحتفاظ به)
كان اليوم مشحونًا منذ مطلع النهار، خاصة مع اعتذار المربية عن القدوم اليوم لممارسة مهامها المعتادة في رعاية الصغار، لهذا اضطرت "تهاني" لاصطحاب أطفالها معها وتركهم بالمكتب، ريثما تنتهي من جدول أعمالها المزدحم. نهضت من خلف مقعدها بعدmا جمعت الأوراق المطلوب إرسالها لمعمل التحاليل، وابتسمت لصغيرها قائلة في صوت حنون لكنه لا يخلو من الحزم:
-حبيبي، خد بالك من إخواتك لحد ما أرجع، أنا مش هتأخر، هما 5 دقايق بس.
اكتفى بهز رأسه وهو يدير رأسه لينظر إلى شقيقتيه التوأم بنظراتٍ جادة، ليعاود التحديق فيها فوجدها تتحرك صوب باب الغرفة، قبل أن تضع يدها على المقبض لتفتحه وجدت زوجها يسبقها، تبسمت لرؤياه، وقالت في سرور لا يمكن إنكاره:
-"ممدوح"! إنت مش كان وراك آ...
قاطعها قبل أن تتم جملتها متسائلًا بوجه جاد التعبيرات، ونبرة أقرب للجدية:
-البنات معاكي؟
عقدت حاجبيها مجيبة إياه:
-أيوه.
سار نحو الداخل متابعًا كلامه، ونظرة مزعوجة سددها نحو "أوس":
-طيب، أنا اتصرفت في مربية معرفة حد من زمايلي، هي هتيجي البيت دلوقتي تقعد بيهم، أنا هاخدهم.
مدت يدها لتستوقفه من ذراعه وهي تسأله:
-و"أوس"؟
انتشل يدها من على ذراعه متعللًا في وجومٍ، وكأنه يرفض بشكلٍ غير مباشر أخذه:
-ما إنتي عارفاه، مابيسمعش الكلام، ولا أنا بقدر أسيطر عليه.
تساءلت في تحيرٍ:
-والعمل؟ هسيبه هنا لواحده؟ ده صغير وآ..
قاطعها للمرة الثانية مرددًا:
-بصي هكلم أبوه يتصرف، وهو عنده بدل الخدامة عشرة!
استحسنت اقتراحه، وقالت في تأييد:
-أوكي، يكون أحسن برضوه.
تقدm "ممدوح" نحو رضيعتيه ليجر العربة التي تضمهما، بعدmا منحهما قدرًا من الحب والاهتمام، ليلقي بعدها بنظرة كارهة إلى الصغير "أوس"، قبل أن يميل برأسه عليه ليهمس له في شيء من الحقد:
-خليك لواحدك، محدش طايقك.
في قرارة نفسه كان ممتنًا لذهابه، فتواجده معه مؤخرًا كان يسبب له الكوابيس والمزيد من مشاعر الخوف والقلق.
ما إن ابتعد حتى تنفس الصعداء وبدا مسترخيًا لرحيله، لم تلحظ "تهاني" ما يصيب ابنها من تبدل أحواله بمجرد أن يصبح قريبًا من زوجها، وظنت كما يدعي الأخير أن ما يدور بينهما نوعًا من العناد الطفولي والاستفزاز الأبله، لذلك لم تعر الأمر الاهتمام الكبير. مرة أخرى عادت إلى ابنها لتخاطبه في وديةٍ:
-حبيبي، أنا رايحة مع عمو "ممدوح" وجيالك تاني.
لم ينبس بكلمة، فداعبت شعره، وتركته لتلحق بزوجها، فظل بمفرده متنعمًا بالبقاء دون الشعور بأنه مراقب وتحت التهديد.
................................................
في سعيه للانتقام والتخلص من الأخطار المحتملة، لم يكف "مهاب" عن التفكير في كافة السيناريوهات المقترحة لتنفيذ الأفضل منها في أقرب وقت. دبر لهذا اللقاء مع أحد أتباعه المخلصين بداخل مكتبه، تناقش معه حول كافة التفاصيل، ليسأله للمرة الأخيرة وهو يحدجه بهذه النظرة المتشككة:
-إنت متأكد إنك هتقدر تعمل كده؟
أكد عليه بيقين واضح:
-أومال يا باشا.
حذره "مهاب" مشيرًا بإصبعه، وبلهجة لم تكن متساهلة:
-أنا مش عاوز شوشرة ولا قلق، ولو اتكشفت أنا معرفكش.
بنفس الثقة الكبيرة أخبره:
-يا باشا اطمن، ولا حد هيدرى بأي حاجة، وحتى لو وقعت أنا اللي هشيل الليلة.
لم يبدُ مقتنعًا تمامًا بذلك، ومع هذا غمغم باقتضابٍ:
-أما أشوف.
ثم مد يده داخل درج مكتبه المفتوح ليخرج مغلفًا أبيض اللون، ناوله إياه وهو يتساءل:
-هتنفذ امتى؟
في التو التقط المظروف منه، وقال في شيء من الابتهاج:
-يدوم يا باشا، وقت ما ألاقي اللي عليهم العين موجودين في المكتب.
حرك رأسه بخفةٍ، وخاطبه بنفس النبرة الجادة:
-اتفقنا، ولما تخلص ليك أدهم.
انتشى داخله، وهتف وهو يطوي المظروف ليضعه في جيب بنطاله الجينز:
-من يد ما نعدmهاش.
أشار له "مهاب" بعدها لينصرف وهو يأمره:
-يالا من هنا، مش عايز حد يشوفك.
طأطأ رأسه قائلًا وهو يلوح بيده في الهواء ليحييه:
-حاضر.
ظل "مهاب" محتفظًا بتعابيره القلقة بالرغم من ذهاب هذا الرجل، فلا مجال للعودة أو الخطأ إن مضى في هذا الأمر.
...........................................
نظرًا لضيق الوقت، وقلة العمالة الخبيرة، تعذر عليها تـ.ـو.فير مربية أخرى جديدة ومتمرسة في مجالها، كبديلة عن تلك التي اعتذرت عن العمل، ورغم إرســال صغيرها إلى أبيه ليمكث معه بضعة أيام، إلا أنه أعاده إليها لانشغاله هو الآخر بواحدٍ من المؤتمرات التي تتطلب سفره للخارج. كعادته جلس "أوس" على الأريكة الجلدية ذات الحجم المتوسط، ينظر بتأمل –وفي صمت- إلى ما أحضرته والدته من معدات وأدوات طبية لم يكن قد رآها سابقًا. شعر بالعطش، وحرقة طفيفة في جوفه، فمد يده ليمسك بكوب الماء، حتى يرتشف منه القليل. غص الماء في حلقه حينما فتح الباب فجأة، لذا سعل، وارتجفت يده، فسقط الكوب، وتناثر محتواه على بنطاله ذي اللون الزيتوني فابتل غالبيته.
انزعج "أوس" لأنه تسبب دون قصدٍ في هذه الفوضى، وقد يتلقى التوبيخ لطيشه، ومع ذلك لم تكن والدته على نفس القدر من الضيق، اندفعت تجاهه، وجثت على ركبتها أمامه بعدmا أجلسته وهي تبتسم، مدت يدها لتمسح على وجنته بنعومةٍ، ثم خاطبته في وديةٍ:
-حبيبي، متخافش، مافيش حاجة حصلت.
كانت هذه واحدة من المرات التي تبدو فيها أمه حانية، لطيفة، مراعية، كم تمنى في أعماقه أن تظل هكذا للأبد! نهضت من جلستها غير المريحة، وقالت وهي تشير بيدها نحو غرفة جانبية صغيرة ملحقة بمكتبها:
-أنا هجيبلك شورت تاني نضيف بدل ده...
ما لبث أن بدت نبرتها شبه محذرة وهي تختتم عبـ.ـارتها:
-بس ما تتحركش من مكانك وما تلعبش في حاجة.
هز رأسه في طاعة، فداعبت رأسه في لطافةٍ، واتجهت إلى الغرفة الأخرى، ليبقى "أوس" جالسًا على الأريكة، سرعان ما تحولت عيناه إلى الباب عنـ.ـد.ما أطل منه أكثر من يبغض وهو يدفع أمامه عربة التوأم. ضاقت نظراته، وزم شفتيه في عبوس صريح. لم يقل حال "ممدوح" عنه، كان مستاءً ومتأففًا لرؤيته هو الآخر، شتت بصره الحاد عنه ليلصق بشفتيه ابتسامة مصطنعة مخاطبًا زوجته بنبرة مرتفعة نسبيًا:
-حبيبتي.
تفاجأت "تهاني" بوجوده، وخرجت إليه متسائلة في دهشة:
-"ممدوح"، إنت بتعمل إيه هنا؟
على حسب ما رتب كلاهما، كانت الرضيعتان تمكثان بصحبة إحدى المربيات في مكانٍ قريب من المشفى طوال فترة النهار، إلى أن تفرغ "تهاني" من عملها، فتذهب إليهما، وتأخذهما إلى المنزل، لذا ظهرت آثار المفاجأة على ملامحها حينما وجدتهما مع زوجها، تدلى فكها للأسفل للحظةٍ، قبل أن تستجمع نفسها وتتساءل بصوتٍ لا يخلو من الدهشة:
-إنت جايب البنات معاك؟ إيه اللي حصل؟
تنهد في سأمٍ، وأجابها:
-اعتذرت ومجاتش.
تعقدت تعبيراتها متسائلة باستغرابٍ قلق:
-ليه؟
أجابها وهو يدفع العربة أكثر للداخل:
-عندها دور برد شـ.ـديد، وخايفة لأحسن تعدي البنات.
تحركت لتقف مجاورة له، فاستمر يكلمها:
-شوفي هتتصرفي إزاي، لأني النهاردة مشغول جدًا.
منحت الرضيعتين نظرة حنون وهي ترد:
-حاضر.
التفت "ممدوح" ناظرًا بنظرة قاتمة إلى "أوس"، وصل مغزاها إلى الصغير، قبل أن يدير رأسه متسائلًا في صوتٍ خافت:
-هو ابنك هيقضي اليوم معانا؟
أجابته وهي تهز كتفيها:
-ما أبوه سافر مع مـ.ـر.اته، ومش هينفع يفضل لواحده.
برطم "ممدوح" في همهمة غير مسموعة:
-أه طبعًا، مصلحته أهم.
من جديد ركز انتباهه مع "تهاني" عنـ.ـد.ما أضافت في لهفة أمومية:
-وبعدين هو وحشني، أنا بقالي كام يوم ماشفتوش، ومصدقت إن "مهاب" وافق يخليه معانا فترة.
قال على مضضٍ، وبابتسامة سخيفة:
-وماله.
سارت بعدها "تهاني" نحو صغيرها لتخاطبه:
-تعالي يا حبيبي أما أساعدك تغير هدومك.
وكأن في ذلك إهانة فجة إليه، رفض عونها، واجتذب منها السروال صائحًا في تذمرٍ:
-أنا كبير، وبعرف لواحدي.
نظرت له بدهشةٍ قبل أن تقول باسمة:
-طبعًا، إنت كبير، بس لو احتاجت أي مساعدة أنا موجودة.
بنفس التجهم الشـ.ـديد قال وهو لا ينظر إليها:
-مش عاوز.
ثم أكمل مشيه المتعجل نحو الغرفة الجانبية ليبدل ثيابه بالداخل، وهذا الشعور الحانق يستعر في صدره، ليس لأنه يبغض زوج أمه فقط، بل لأنه على وشك معايشة شعور الإهمال والإقصاء جانبًا.
.................................................
في تلك الأثناء، دار أحدهم حول محيط غرفة المكتب بضعة مرات ليتأكد من وجود جميع أفراد الأسرة معًا، ما إن تأكد من اجتماعهم، وبقائهم بالداخل لوقت لا بأس به، حتى تلفت حوله ليضمن عدm متابعة أي شخص لما هو على وشك القيام به. اعتلى ثغره ابتسامة مغترة وهو يُحادث نفسه بعزمٍ:
-حلو أوي، الباشا موصيني أظبط كل حاجة، ولو اللي طلبه اتنفذ بالملي هبقى راجـ.ـله ودراعه، وساعتها الدنيا هتزهزه، وهنول الرضا.
تحمس كثيرًا لأداء مهمته المنوط بها، فتوارى عن الأنظار مترقبًا اللحظة المناسبة للتسلل إلى الداخل، والتخلص من الجميع.
...............................................
أكثر ما كان يستثير أعصابه، ويستفزه، هو رؤيته لوالدته تتمرغ في أحضان ذلك الغريب عنه بكل هذا الخنوع والإذلال، خاصة حينما يتعامل معها بقدرٍ من القسوة الممزوجة بالإغراء، وكأن في ذلك نوعًا من الإغواء لها. من فرجة الباب المواربة شاهد "أوس" أمه وهي تستند بمرفقيها على صدر "ممدوح"، والأخير يطوقها من خصرها بذراعيه، ليلصقها به أكثر، ضحكت في دلالٍ، قبل أن يأتي صوتها معترفًا، ونظرات العشق تنير حدقتيها:
-أنا حاسة إني في حلم جميل، كل اللي بحبهم حواليا...
ثم طافت بنظراتها الشغوفة على كل فردٍ على حدا، وكأنها تخصه وحده بالكلام:
-إنت، و"أوس"، و"بيسان"، و"ليان".
ما لبث أن غلف صوتها رنة من القلق عنـ.ـد.ما أكملت:
-خايفة أفوق من الحلم ده على كابوس.
توجس خيفة أن تكون قد استشعر ما رتب له في وقت سابق مع رفيقه لتوريطها فيما لم ترتكب، حاول أن يتسلح بهدوئه، وقال وهو يرفع يده ليمسد على رأسها:
-مـ.ـا.تقلقيش طول ما أنا جمبك يا حبيبتي.
ظلت على تـ.ـو.ترها وهي تسترسل بأريحيةٍ:
-إنت عارف صاحبك، مش بالساهل نديله الأمان، وخصوصًا إننا عارفين كل حاجة عنه، وهو عاوز يفضل بصورته التانية المثالية قصاد مـ.ـر.اته.
التوى ثغره معلقًا:
-مسيرها تعرف حقيقته.
وافقته الرأي قائلة:
-أيوه، معاك حق، هو ما يقدرش يفضل الملاك الطاهر كده كتير.
هز رأسه مؤيدًا جملتها، وزاد عليها بنزقٍ نـ.ـد.م عليه لاحقًا:
-وبعدين "مهاب" بيعمل اللي بنصحه بيه، وهو دلوقتي محتاجني.
ارتابت في قوله، وتساءلت بعينين مستفهمتين:
-ليه؟
تعلل كذبًا بحجة رجا أن تنطلي عليها:
-يعني عاملين سمعة كويسة هنا، وناس كتير بتثق في شغلنا.
وقبل أن تفكر في استجوابه أكثر، طلب منها في نبرة معاتبة ليشعرها بالذنب:
-أنا مش عايزك تفكري فيه، على فكرة ده بيزعلني، وأي راجـ.ـل مكاني بيضايق من كده.
وقعت في فخ خدعة انزعاجه، وهتفت في تـ.ـو.ترٍ:
-حبيبي وأنا مقدرش على زعلك أبدًا...
ثم بررت له في صوتٍ مليء بالأسى:
-بس غـ.ـصـ.ـب عني لما بفتكر سنين شـــذوذه، وقرفه معايا، وإزاي قدرت استحمل ده كله علشان أفضل جمب ابني، كل ده بيأثر فيا.
نظر لها في صمتٍ، فحاولت تبديل الأجواء المشحونة بأخرى رومانسية حالمة، فشبت على قدmيها، ورفعت ذراعيها لتقوم بالتعلق بعنقه، رفعت ذقنها كذلك، وقبلته من وجنته قائلة:
-وفي الآخر ربنا عوضني بيك.
لم تلن ملامحه، واستمر مدعيًا انزعاجه الزائف، فقامت بتقبيل الوجنة الأخرى وهي تداعبه بهذا اللقب اللطيف:
-يا أبو البنات!
لئلا يبدو متشـ.ـددًا، أرخى في قسمـ.ـا.تها، ومنحها ابتسامة راضية قبل أن يخبرها:
-ما تفكريش في اللي فات.
هزت رأسها مستجيبة له، فاستغل الفرصة ليسألها في مكرٍ:
-صحيح عملتي إيه في التحاليل اللي جبتهالك؟
أجابته بتلقائيةٍ، ودون أدنى شك في نواياه:
-لسه هراجعهم يا حبيبي.
رفع حاجبه للأعلى وعاتبها بسؤاله:
-إنتي مش واثقة فيا ولا إيه؟
في التو أخبرته، وكأنها تستنكر سوء ظنه بها:
-معقولة، ده أنا أسلملك حياتي وأنا مغمضة.
لحظتها فقط شـ.ـدد من ضمه إليها، ليحني رأسه عليها قاصدًا تقبيل جبينها وهو يخاطبها:
-هو أنا حبيتك من فراغ؟
استمتعت بلحظة قربهما الدافئة، ليتبع ذلك كلامه شبه الجاد، وهي لا تزال تحت تأثير حصار العواطف:
-وقعي عليهم واختميهم خلينا نسلمهم ونروح بيتنا.
حتى يقضي على ترددها، لجأ إلى حيلته الرخيصة في اللعب على مشاعرها، فمال على أذنها وهمس لها بحرارةٍ ألهبت بشرتها:
-نفسي أخدك في حـ.ـضـ.ـني.
معظم ما قاله استثار دواخلها، فاشتعلت جذوة الحب ببواطنها، وتحرجت من احتمالية رؤية أحدهم للحظات التقارب الحميمي بينهما، بالكاد أبعدته عنها وقالت في شيءٍ من الارتباك:
-"ممدوح"، احنا في المكتب، أي حد ممكن يشوفنا، شكلنا مش هيبقى حلو خالص.
تصنع الضحك، وقال وهو يرخي ذراعيه ليمنحها الفرصة لتتملص من أحضانه:
-طب أوام بقى.
قالت ممتثلة لطلبه وهي تدور حول المكتب لتنهي توقيع هذه الأوراق:
-حاضر.
متابعته في الخفاء لما يجري بينهما جعل شعوره بالنقم والغضب يتضاعف، تراجع ليبدل سرواله في حنق، وهو يتمتم بلا صوتٍ:
-أنا بكرهكم كلكم، بكرهكم!
أولاهما ظهره، وحاول سد أذنيه عما يسمع من عبـ.ـارات غزل، وملاطفات ليست عفيفة، آملًا أن يتوقفا عن ذلك ويدركا وجوده، وإن كان غير مرغوب فيه، انتفض بتأهبٍ في وقفته عنـ.ـد.ما جاء صوت والدته من خلفه ليخاطبه:
-"أوس"، حبيبي، أنا رايحة مع عمو "ممدوح" نخلص شوية شغل، خد بالك من إخواتك لحد ما نرجع.
لم ينظر نحوها، وكأنه يظهر لها نوعًا من الخصام لعدm مراعاتها لمشاعره، فظنت أنه يتدلل عليها، لذا لم تلح عليه، وتركته لتنصرف، واضعة في أمانته شقيقتيه التوأم.
............................................
في حركات دائرية، ذرع الغرفة الجانبية جيئة وذهابًا، محاولًا طرد ما امتلأت به ذاكرته من مشاهد غير محببة إطـ.ـلا.قًا إليه تجمع بين والدته وزوجها البغيض. كوسيلةٍ متاحة أمامه للتنفيس عن انفعالاته المكبوتة، ركل الأرضية بعصبية، وأطلق لعنة خافتة وهو يكز على أسنانه، انتبه لصوت البكاء الخافت لإحدى شقيقتيه، فنفخ في ضيقٍ قائلًا:
-وأنا المفروض أعمل إيه؟
بتكاسلٍ وتأفف تحرك تجاه عربة الأطفال المرابطة في زاوية الغرفة، نظر إلى الرضيعة "بيسان" في حدةٍ، وخاطبها بصوتٍ خفيض، لئلا يوقظ الأخرى:
-مـ.ـا.تعيطيش، دلوقتي ماما هتيجي تشوفك.
جذب أنفه هذه الرائحة الغريبة، والمزعجة، فدار برأسه محاولًا تبين مصدرها، سار بتباطؤ ملحوظ في محيط عربة الأطفال، لحظتها فقط توقف عن المسير، وتجمدت نظراته على ألسنة اللهب المندلعة في الستائر المعلقة بالجانب الآخر من الغرفة، انقبض قلبه وانخلع، أحس بالارتعاب الشـ.ـديد مع ارتفاع الألسنة للأعلى، وكأن هناك ما يستثيرها لتزداد وهجًا وانتشارًا.
ببطءٍ مشوب بالخوف تراجع للخلف، وعيناه لا تزالان معلقتان باللهب المتراقص في قوةٍ، لم يرمش، ولم يصـ.ـر.خ، بل واصل التراجع إلى أن التصق ظهره بعربة الأطفال، لحظتها فقط انحنى ليجلس مجاورًا لها، ويده امتدت لتمسك بالعجلة المطاطية، شـ.ـدها بكامل طاقته ليدفعها خلفه، كأنما يحاول بطريقته حماية من فيها. بقيت نظراته متعلقة بالألسنة المتوهجة، إلى أن غطى الدخان كامل الغرفة، فاختنق صدره، وراح يسعل بقوةٍ جراء استنشاقه لكميات منه، كان يظن نفسه قادرًا على مقاومته والصمود حتى تعود والدته؛ لكن جسده خانه، واستسلم مع أول اختبـ.ـار حقيقي وضُع فيه قبيل الصدفة لاختبـ.ـار مدى تحمله.
......................................................
اعتصر ألم وبأس لا يحتمل قلبها حينما وصلت إليها الأنباء غير المحمودة باندلاع النيران في غرفة مكتبها، خاصة مع تأكدها من احتجاز أطفالها الثلاثة بين جدران الحجرة. هرولت "تهاني" كالمـ.ـجـ.ـنو.نة في أروقة المشفى لتصل إليهم، وكل ما فيها يدعو الله أن ينجيهم، وصل صراخها إلى الحشـ.ـد المجتمع أمام المكتب الغارق في الدخان:
-ولادي جوا، الحقوهم!
حاولت تجاوزهم والمرور وهي تتوسل الحاضرين بصراخها الفزع، ودmـ.ـو.عها تنهمر بغزارة:
-حد ينجدهم، عيالي محبوسين جوا.
راحت تلطم على صدغيها في حرقة وهي لا تزال على عويلها:
-يا ريتني ما خرجت وسبتهم لواحدهم!
مدفوعة بعاطفتها الأمومية حاولت بقوة اختراق الصفوف لبلوغ الغرفة؛ لكنهم حالوا دون وصولها، ومنعوها من إلقاء نفسها في التهلكة، انتبهت لصوت أحدهم حين تكلم بشكلٍ عابر:
-كل حاجة ولعت جوا.
كان كمن سكب الوقود على النار بكلمـ.ـا.ته هذه، حيث برزت عيناها الحمراوين بشـ.ـدة، فالتفتت إليه، واندفعت تجاهه لتمسك به من تلابيبه، صرخت في وجهه وهي تهزه بغضبٍ:
-إنت بتقول إيه؟ ولادي لسه جوا، وعايشين!!!
نبرة "ممدوح" المفطورة صدحت في الأرجاء وهو ينادي من بعيد:
-بناتي، "ليـــــان"، "بيســــان"!
ظهوره في هذه اللحظات الحرجة كان كشعاع من النور بزغ في كهف مظلم، تركت "تهاني" ذلك الرجل الذي تشاجرت معه لتذهب إليه، أمسكت به من ذراعيه، وصاحت في بكاءٍ يقطع نياط القلوب:
-عيالي يا "ممدوح"، الحقوهم، هما جوا!
من هول الصدmة تخشب في موضعه، عاجزًا عن إبداء أي ردة فعل، وكأنها تخاطب صنمًا لا حياة فيه، تجمدت عينا "ممدوح" على الغرفة المحترقة، لا يصدق ما تبصره عيناه، أليس من المحتمل أن يكون ما يراه الآن مجرد كابوس وقتي سينتهي باستفاقته؟ هز رأسه في ذهول غير مصدق ما يحدث، عنـ.ـد.ما لم تجد منه أدنى استجابة بحثت عمن ينجدها، لمحت "مهاب" يقترب من الحشـ.ـد، فلكزت من حولها لتصل إليه، وقفت قبالته، وصرخت في وجهه تستجديه:
-الحق ابننا، هو موجود جوا.
حدجها بهذه النظرة القاسية التي لا يمكن نسيانها مطلقًا، حاولت الإمساك بذراعه لتستعطف قلبه المتحجر ومشاعره التي لا تتأثر بسهولة؛ لكنه صدها، ودفعها قبل أن تمسه قائلًا بنبرة عدائية:
-دلوقتي بتقولي ابنك؟
زادت الرجفات بجسدها من طريقته الجافة في التعامل مع الأزمة المخيفة، لم تعد تستطيع السيطرة على حالها، ولا فهم ما يدور، ما ضاعف من انقباض قلبها وتمزقه قوله الصادm:
-اعتبريه مـ.ـا.ت!
شهقت في فزعٍ كبير، ووضعت يدها على فمها لثانية، ثم هدرت في استنكارٍ رافضة التصديق للحظة لما فاه به:
-إنت بتقول إيه؟
أمسك بها من ذراعها، وشـ.ـدد من قبضته عليه، فأحست بقساوته على جسدها الواهن، نظرت إليه بعينين زائغتين، فقال بلهجةٍ لا تبشر بخيرٍ:
-بعد اللي حصل ده وإهمالك فأنسي إنه موجود.
وكأنه انتزع بغتةً، وبلا مقدmـ.ـا.ت ذلك الجزء النابض من بين ضلوعها، ليتركها في جحيم مستعر بقراره الذي لا رجعة فيه، اندفعت ناحيته في جنون، فتراجع للخلف ليتفاداها، فتعثرت وانكفأت على وجهها، لم تعبأ بالسقطة المهينة، والتفتت باحثة عنه، زحفت تجاهه، وتعلقت بساقه لتستجديه:
-مـ.ـا.تقولش كده يا "مهاب"، دي مش غلطتي، أنا أصلًا معرفش إيه اللي حصل!
ركلها بقدmه ليتحرر منها، ثم قبض على فكها بين أصابعه، أرسل لها هذه النظرة النارية قبل أن يخبرها وهو يطالعها من علياه:
-الأم اللي تهمل في رعاية مـ.ـا.تستحقش تكون أم من الأساس!
من بين الألم الفتاك الذي يعصف بذقنها هتفت:
-لأ متقولش كده، أنا ...
دفعها بخشونة للخلف مقاطعًا إياها بتهديدٍ صريح:
-إنتي هتتحاسبي عن كل حاجة يا "تهاني".
تأوهت من الو.جـ.ـع، واستدارت برأسها باحثة عن زوجها ليغيثها، فنادته:
-"ممـــدوح"، الحقني!
جحظت عيناها على الأخير عنـ.ـد.ما وجدت "مهاب" يسحبه معه بعيدًا وهو يكلمه في شيءٍ من المواساة:
-تعالى معايا يا صاحبي.
شيعتهما بنظرات مذهولة، تعج بسحب من العبرات، ما إن تحركا بعيدًا عن الغرفة، حتى راح دmعها يسح بغزارة غير مسبوقة، تولاها النشيج الممزوج بالصراخ والعويل، ويدها تشير إليهما بالتوقف:
-لأ، مـ.ـا.تسبوش ولادي، هما موجودين جوا
↚
(الطامة الكُبرى)
في لحظة تجلي عابرة، لا تذكر تحديدًا متى حدثت؛ لكن حامت خلالها المشاعر والرغبات الإنسانية، فأطفأت ظمأ الجسد لما يرويه، أتت النتيجة غير متوقعة بالمرة، بل صادmة على كافة الأصعدة! ضـ.ـر.بت "فردوس" على رأسها عدة مرات، وهي تكاد لا تصدق ما سمعته من جارتها كتفسيرٍ منطقي لما تمر به، أعادت عليه سؤالها لتقطع الشك باليقين:
-إنتي متأكدة ياختي من كلامك ده؟
هزت "إجلال" رأسها بالإيجاب وهي توضح لها:
-أيوه، إنتي شكلك حبلى، ولو تفتكري ده كان نفس حالك أيام "تقى".
خفضت من يدها لتلطم على صدغها وهي شبه تنوح في تذمرٍ كبير:
-يادي المصـ يـ بـةاللي مكانتش على البال ولا على الخاطر!!
نظرت إليها باستغرابٍ، و"فردوس" لا تزال على ندبها المستنفر:
-هو أنا هلاحق على إيه ولا إيه؟
ردت عليها قائلة بعتابٍ خفيف:
-ده رزق من ربنا، مـ.ـا.تقوليش كده.
زمت شفتيها في اعتراضٍ ساخط، فتساءلت جارتها في فضولٍ:
-المهم هت عـ.ـر.في سي "عوض"؟
أخبرتها بنفس التجهم العابس:
-مش لما نشوف الدكتورة الأول، بعد كده أبقى أقوله.
ظلت على تبرمها وهي تنظر إلى رضيعتها بنظرات غير راضية، فاستمرت تهمهم في لهجة شاكية:
-أل كانت ناقصة حَبَل من تاني!
................................................
في طرفة عين، سلبته الحياة جوهرتيه، وتركته يعاني ويلات الفراق، وألم الخسارة المو.جـ.ـع. ظن "ممدوح" أن ما حدث مجرد كابوس لحظي، سينتهي فور أن يستفيق من غفوته الفجائية؛ لكن الحقيقة المريرة جعلته يدرك أن ما فُقد لن يعود مهما فعل. حاول "مهاب" مواساته في فجيعته، وقال وهو يربت على كتفه بتعاطفٍ واضح، أثناء جلوسهما في الردهة المجاورة لحجرة المشرحة:
-مش عارف أقولك إيه، بس ده قضاء ربنا.
نظر إليه كالمذهول، تتحجر في عينيه العبرات، لا يجرؤ على البكاء، وكأنه يخشى إن ذرف الدmـ.ـو.ع فإنه يقر بذلك بوفاة غاليتيه، سأله في تعابير ذاهلة، وصوت أجوف:
-إزاي ده حصل؟
وكأن في سؤاله اتهامًا خفيًا له، حاول رفيقه مواراة ذلك التـ.ـو.تر الذي اعتراه، ففرك طرف ذقنه بحركة سريعة، وأجابه متجنبًا التحديق في عينيه، لئلا يكتشف تورطه المتعمد في هذه الجريمة النكراء:
-محدش لسه عارف...
ثم حمحم مضيفًا في نبرة جادة:
-بس أكيد التحقيقات هتبين المسئول، وهيتحاسب.
كان عقل "ممدوح" متأرجحًا بين التصديق والإنكار، في لحظة معينة تدارك ما جرى وحل برضيعتيه، آنئذ عرف معنى أن تسحق الرجاوات على صخرة الواقع المؤلمة، تعلقت نظرته بلافتة الحجرة المقبضة للصدر، وصوت رفيقه يردد على مسامعه بأسلوب المواساة المليء بالرثاء:
-أنا عاوزك تجمد وتشـ.ـد حيلك.
انحبست أنفاسه، واتسعت عيناه، وارتفع حاجباه للأعلى، مستشعرًا مدى الألم الذي يعتصر قلبه لاستيعابه رحيلهما القاسي، تأهب كل ما فيه في استنفارٍ غير مبشر ورفيقه لا يزال يكلمه في هدوءٍ متوهمًا أنه تقبل ما حدث:
-وأنا جمبك مش هسيبك.
استنكر تمامًا فقدانهما، وانتفض قائمًا من على المقعد ليصـ.ـر.خ في وجهه:
-إنت بتتكلم كده ليه؟
طالعه بغرابة وهو ينهض بدوره ليواجهه بصوت العقل، ومع ذلك رفض "ممدوح" الإنصات إليه، وواصل الصراخ المنفعل:
-بناتي لسه عايشين، ودلوقتي هاخش أخدهم في حـ.ـضـ.ـني.
دفعه ليتجاوزه، فمنعه من الدخول محاولًا احتضانه وهو يواسيه:
-قلبي عندك يا صاحبي.
نجح في إيقافه، فتخشب "ممدوح" في موضعه، ليحدق فيه بجمودٍ، ووجهه يبدو كالمـ.ـو.تى في شحوبه، أمسك به "مهاب" من منبتي ذراعه، وهزه برفق وهو يخاطبه:
-أنا عارف الصدmة صعبة، وخسارتك ما تتعوضش.
رفض الإصغاء لما اعتبره لغوًا فارغًا، وهدر في غضبٍ شبه مستعر:
-ولا كلمة زيادة، بناتي ممـ.ـا.توش.
ثم راح يدفعه بخشونةٍ قاصدًا تجاوزه والمرور لداخل الحجرة المشبعة برائحة المــــوت، منعه "مهاب" من بلوغها، وصاح مناديًا في أحد الممرضين:
-شوفلي حد يجيبلي حقنة مهدئة بسرعة.
في التو استجاب لأمره:
-حاضر يا دكتور.
فرقع "مهاب" بإصبعيه ليستدعي آخرين ليساعدوه في إيقاف رفيقه، والسيطرة عليه قبل أن تتأجج نوبة هياجه المنفعلة، تعاونوا معًا ليسقطوه أرضًا، وحاولوا تثبيته رغم مقاومته الشـ.ـديدة، ظل "مهاب" يكلمه في صوتٍ هادئ، ساعيًا لكبح هياجه المبرر؛ لكن الأخير واصل صراخه الثائر:
-أنا مش مـ.ـجـ.ـنو.ن، هما لسه عايشين، وأنا هاخدهم من جوا!
انتفض بقوةٍ ليتخلص ممن يقيدون حركته، ومع ذلك عجز عن الخلاص منهم، بسبب كثرة عددهم، فارتفعت نبرته الغاضبة لتجلجل بين الجدران:
-سامع يا "مهاب"؟ بناتي لسه عايشين.
عاد الممرض حاملًا إحدى الإبر الطبية المملوءة بهذه المادة المهدئة، فأعطى "مهاب" أمره للبقية بإزاحة كم قميصه وتثبيت ذراعه بإحكامٍ، ليتمكن من غرز طرفها المدبب في جلده، وحقن دmائه بما فيها، ليستكين بعد عدة ثواني ويستسلم قسرًا لما ثبط كامل مقاومته.
........................................
مشاحنته معه –بعيدًا عن المتلصصين والأعين الفضولية- كانت لها أسبابها القوية، فبعد تأكيدات مزعومة بقدرته على إزاحة من يشكلون أكبر التهديد له، وجد "مهاب" نفسه موضوعًا في موضع الاتهام والشك، لهذا لم تأخذه رأفة بمن ورطه في هذا الحريق، وراح يتوعده بكل ما مُهلك له لإهماله الجسيم، كاد يقذفه بمنفضة السجائر الكريستالية وهو يعنفه بحنقٍ متزايد:
-إنت بغباوتك كنت هتضيع ابني كمان!
نكس الرجل رأسه في خزي، وحاول التبرير:
-يا باشا آ...
قاطعه قبل أن يسمع ترهاته غير المجدية صائحًا بحزمٍ وهو يترك المنفضة من يده:
-اخرس، ولا كلمة زيادة!
التزم الصمت، فتابع "مهاب" هديره مشيرًا له بإصبعه:
-إنت تختفي خالص، مش عايز ألمح أي أثر، ولا كأن ليك وجود.
بالطبع لم يكن أمامه أي سبيل سوى إطاعته، خاصة بعد فشل الخطة، وتعقد الأمور، لهذا قال في خنوعٍ:
-أوامر سعادتك.
أخرج "مهاب" من درج مكتبه العلوي رزمة من النقود، ألقاها على سطح المكتب معيدًا عليه أوامره المشـ.ـددة:
-خد دول، وما تظهرش تاني إلا لما أقولك.
فور أن رأى الأوراق النقدية ذات الفئة العالية، سال لعابه، وبرقت عيناه في شره طامع، في التو مد يده، وانحنى ليلتقط المال قبل أن يدسها في جيبه هاتفًا بابتسامة خفيفة:
-حاضر يا دكتور.
اغتاظ من ذلك التعبير الذي أبداه على وجهه، فنعته بلفظٍ نابٍ، ثم أمره:
-يالا غور من وشي.
انصرف في الحال، ليجلس "مهاب" على مقعده وهو يحتقن غيظًا من تبعات رعونته، أطلق زفيرًا طويلًا، ثم دmدm في هسيس لا يزال محتدًا:
-غـ.ـبـ.ـي!
شبك كفيه المتشنجين معًا، وأسندهما على سطح المكتب مُحادثا نفسه بعزمٍ شـ.ـديد:
-من هنا ورايح لازمًا أتصرف بنفسي، واتأكد إن كل حاجة هتمشي زي ما أنا عاوز، ساعتها بس هبقى نجحت أعمل اللي أنا عايزه!
..........................................
توالت عليها الصدmـ.ـا.ت المفاجئة كطوفان يجرف في طريقه كل ما يعترضه، ارتعش ذراعاها وهما يحملان هذه الرضيعة الصغيرة التي ألقيت في حجرها، أحست "ناريمان" بموجات من التـ.ـو.تر المشوب بالخوف يغمرها، حملقت بفمٍ مفتوح إلى زوجها وهو يسرد عليها بإيجاز، كيف تمكن من خداع رفيقه، ليوهمه بأنه فقد كلتا ابـ.ـنتيه في حادث الحريق المأساوي الذي وقع بالمشفى جراء استنشاق جرعات مكثفة من الدخان الخانق؛ لكن في الحقيقة نجت إحداهما من المـ.ـو.ت المحتوم، ليأتي بها خلسة إلى بيته، مع ورقة ميلاد زائفة استخرجها بطريقة غير شرعية، تثبت بشكلٍ قانوني أنها ابـ.ـنتهما.
زادت رجفة زوجته وهي تعيد إليه الورقة معترفة له في صوت لا يخلو من الارتعاب كذلك:
-أنا خايفة لنتكشف يا "مهاب".
على عكسها تمامًا كان هادئًا، مسترخي الأعصاب، اختطف نظرة سريعة على الرضيعة المستكينة في حقيبة الأطفال، ثم عاود النظر ناحيتها ليقول مؤكدًا لها بثقة:
-مش هيحصل لو التزمتي باللي قولتلك عليه.
صمتت للحظاتٍ، وغاصت في أفكارها المضطربة، لتستفيق من شرودها المتخبط بسؤالٍ متعجب:
-بس اشمعنى عاوز تسميها "ليان"؟ ليه مش حاجة تانية؟
بشيءٍ من الجدية أجابها:
-باعتبـ.ـار إني صاحبه القريب، فده زي تكريم لبـ.ـنته، وطبعًا مش هيخليه يشك فينا نهائي!!
اندهشت من دهائه وفي نفس الآن ارتابت منه، شعر بما يعتريها من تـ.ـو.تر وارتباك، فزاد في الإيضــاح:
-"ممدوح" دmاغه سم، وسهل يكشف أي ملعوب.
اقتنعت برأيه حينما أمعنت التفكير فيما نطق به، نظرت إليه وهو يدس بعض الأوراق الرسمية في حقيبتها، أصغت إليه بانتباه حين شـ.ـدد عليها بلهجةٍ حازمة:
-إنتي تطلعي من هنا بالبـ.ـنت على المطار فورًا، أنا مرتب كل حاجة هناك.
هزت رأسها في طاعة، فاستمر يملي عليها توصياته الصارمة:
-هتفضلي في البلد دي، وأنا شوية وهحصلك.
على ما يبدو قرأ ذلك السؤال الحائر في عينيها عن سبب اختياره لإحدى البلدان الأوربية النائية، فتولى الإجابة دون أن تسأل:
-أنا قاصد يكون المكان بعيد، محدش يعرفك فيه، علشان نضمن إنه خططتنا تنجح، والكل يصدق إنك كنتي حامل وولدتي.
انزعجت من احتمالية كشف ذلك التزوير الجسيم، فأخبرته بما يقلقها:
-بس شهادة الميلاد بتقول غير كده.
كان متفهمًا لأبعد الحدود لكل ما يساورها، لم تلن ملامحه، وأكد لها وهو يضع يديه على ذراعيها:
-محدش هيدور ورانا، المهم تفضلي مختفية عن الأنظار الكام شهر دول، وبعدها هنرجع لحياتنا الطبيعية.
لأول مرة تتطلع إليه "ناريمان" بشكلٍ مختلف، هكذا كان ولم تدرك، شخص داهية وغامض، لا يعرف أحد ما يدور في رأسه، وإن عاشره لسنواتٍ طوال. تركت مخاوفها جانبًا، هزت رأسها مرددة:
-طيب.
مرر "مهاب" قبضتيه صعودًا وهبوطًا على طول ذراعيها مستأنفًا توصياته الجادة:
-"ناريمان"، أنا عملت كده علشانك، لو حد عرف بالسر ده إنتي أول واحدة هتتأذي.
أكدت له تلك المرة بعدm خوف:
-لأ مش هنطق بحرف.
ابتسم قليلًا وهو يكمل:
-إنتي هتكوني من النهاردة أمها، وأنا أبوها.
بدت لحظتها وكأن عقلها قد ومض بشيء ربما غفل عنه، فتساءلت في ارتباكٍ:
-وابنك؟
بنفس النبرة الثابتة في انفعالاتها أجاب:
-زيه زي الباقي، مش هيعرف حاجة.
ارتفع حاجبها للأعلى، وقالت:
-بس دي أخته، أكيد هيكتشف إنها لسه عايشة، وساعتها "ممدوح" هيعرف وآ...
قاطعها بعدmا اشتدت قبضتيه إلى حدٍ ما على عضديها:
-أنا عامل حسابي ومرتب إني أدخله مدرسة داخلية برا، هسيبه فيها فترة، تكون البـ.ـنت كبرت واتغيرت ملامحها.
استرخت نوعًا ما، وهمهمت:
-أوكي.
تحولت نظراته إلى الرضيعة النائمة بداخل حقيبة الأطفال، وأمرها:
-يالا أوام، مافيش وقت، الطيارة ميعادها قرب.
تحركت صوبها لتحملها بها وهي ترد:
-حاضر.
استوقفها قبل أن تغادر معيدًا عليها إحدى توصياته الهامة:
-خدي بالك من نفسك، وطمنيني أول ما توصلي.
كعادتها المطيعة ردت وهي تومئ برأسها:
-ماشي.
أوصلها "مهاب" للخارج، واطمئن لركوبها السيارة وانطـ.ـلا.قها نحو المطار، كذلك ترك بصحبتها المربية الأجنبية لتتولى رعاية الرضيعة في الفترة الأولى من سفرها البعيد ريثما تعتاد على العناية بها بنفسها.
......................................................
بين حمدٍ وامتنان، ردد "عوض" عبـ.ـارات التضرع والشكر للمولى عز وجل، لأنه –جل وعلا- منحه عطية أخرى بغير حساب، كان مسرورًا بشكلٍ أغاظ زوجته، مما جعلها على غير وفاق معه، بل أقرب للجدال لقبوله بما وصفته كارثة جسيمة. قطب جبينه معاتبًا إياها بلطفٍ:
-وده يخليكي قالبة وشك بالشكل ده؟
تحولت الأجواء اللطيفة المبتهجة التي حاول إضفائها عليها إلى نوعٍ من الاستنكار والتعنيف عنـ.ـد.ما كلمته "فردوس" بعبوسٍ ملتصق دومًا بقسمـ.ـا.تها:
-عايزني أفرح على إيه يا "عوض"؟
أطبق على شفتيه مصغيًا إليها وهي تقذف بوابل كلمـ.ـا.تها السخيفة في وجهه:
-على الهم الجديد اللي بقى فوق كتافي؟
طوحت بيدها في الهواء متابعة وصلة ندبها المتحسر:
-مين هيرضى يشغلني وأنا بطني قدامي؟
لم يلق وزنًا لتذمرها المستمر، وقال في يقين لا يمكن التشكيك فيه مطلقًا:
-الرزق بتاع ربنا، هيجيلنا حتى لو كنا في كهف تحت الأرض.
نظرت إليه شزرًا، قبل أن تلوي ثغرها مدmدmة في اعتراضٍ:
-وإنت هيهمك إيه؟ ما أنا شقيانة ليل نهار علشان أجيب الكوتة.
تنهد قائلًا بعزمٍ:
-يا ستي أنا من بكرة هدور على شغل، وواثق إن ربنا هيكرمني.
وكأنه ألقى بنكتةٍ سخيفة على مسامعها، مصمصت شفتيها هاتفة بغير تصديقٍ:
-أما أشوف ..
ثم خفضت من نبرتها مخاطبة نفسها بسخطٍ:
-ولو إني مش مستبشرة بيك خير!
مجددًا نظرت إليه باستخفافٍ عنـ.ـد.ما عاد إلى تهليله المبتهج وهو يداعب طفلتهما في محبة أبوية عظيمة:
-والله والبيت هيتملى علينا بالعيال، ويبقالنا عزوة وسند في الدنيا.
خبا اهتمامها بما يفعل من سخافات غير مستلذة لها، وراحت تشرد بتفكيرها فيما ينتظرها بعد أشهر، حتمًا لن تكون الراحة الأبدية، ولا السعادة الأزلية!
................................................
في غرفة غريبة، جدرانها مطلية بالطلاء الرمادي الكئيب، استفاقت "تهاني" من إغماءها، وبدأت في استعادة وعيها بالتدريج، كان كل شيء باهتًا، غير واضح المعالم، استغرقها الأمر عدة لحظات حتى تتيقظ كامل حواسها. أحست بمرارةٍ قاسية في حلقها، فبحثت عما يروي جوفها، أدارت رأسها الثقيل إلى الجانب، فوجدت كوبًا من الماء إلى جوارها، مدت يده إليه لتلتقطه؛ لكن قبل أن يصل إلى شفتيها، اختطفه أحدهم منها، نظرت إلى من فعل ذلك، فرأت زوجها يقف بتجهمٍ مظلم على الجانب الآخر من سريرها الطبي. ابتسمت ابتسامة باهتة لرؤيته التي ظنت أنها ستبعث الطمأنينة على نفسها، استطردت تكلمه في صوت متحشرج:
-"ممدوح"، حبيبي..
بلعت ريقًا غير موجودٍ في جوفها، وسألته:
-هو إيه اللي حصل؟
رمقها بنظرةٍ لا يمكن أن تنساها مطلقًا مهما حييت، ليقول بعدها في كراهيةٍ متعاظمة ظاهرة في نبرته:
-أخيرًا فوقتي.
من طريقته المريبة معها أخذت ذاكرها تتنشط بما كان محجوبًا عنها، سرعان ما امتلأ عقلها بلمحاتٍ متداخلة للأحداث المأساوية التي جرت مؤخرًا، وراحت المشاهد تتدافع في قوة جعلت نبضها يتسارع وأنفاسها تتقطع. انهالت عليها اتهامـ.ـا.ته القاســـية كالصفعات وهو يلومها مباشرة ودونًا عن غيرها:
-إنتي أم إنتي؟!!
وَشَت تعبيرات وجهها بعمق الألم الذي أخذ يمزق في ثنايا قلبها بلا هوادة أو رحمة، صرخت بحرقةٍ وهي تمسك بذراعه:
-عيالي فين؟
انتشل ذراعه من بين أصابعها في قسوة متجافية ليصيح بها في نفس اللهجة المليئة بالاتهام المجحف:
-بناتي مـ.ـا.توا، وإنتي زي ما إنتي .. لسه عايشة!
انحبست أنفاسها في صدرها، فعجزت عن التنفس، شعرت لحظتها وكأن أحدهم قد سحق كيانها بقوةٍ مفرطة، انفلتت منها بعدها صرخة محملة بكل ما طواه فؤادها:
-آه يا و.جـ.ـع قلبي.
ظل يسدد لها هذه النظرات النارية الممـ.ـيـ.ـتة، وواصل اتهامها بما ترفض تصديقه:
-هما خسروا حياتهم بسببك، وأنا مش هخليكي تتهني في يوم بحياتك.
هزت رأسها في استنكارٍ، وقد فاضت الدmـ.ـو.ع من طرفيها بغزارةٍ، ارتفعت نهنهات بكائها بشـ.ـدة، وامتزجت بشهقاتها المتقطعة، حاولت الاعتدال من رقدتها لتمسك بزوجها مجددًا من ذراعه، شحذت كامل قواها لتقربه منها وهي تتوسله من بين بكائها الحـــارق:
-"ممدوح"، مـ.ـا.تقولش كده، بناتي عايشين...
في غمرة صدmتها توهمت أنها مجرد خدعة بلهاء منه لتكديرها، فسألته بصوتها المرتعش وغير الواضح:
-إنت بتعمل معايا كده ليه؟
مجددًا انتزع يدها من عليه ليلقي بها كما لو كان يقذف قطعة من القاذورات، امتد كفه الآخر ليقبض على فكها، اعتصرها منه قائلًا بفحيح من بين أسنانه المضمومة:
-كانت أكبر غلطة في حياتي إني وافقت أكمل في الجوازة دي!
تصرفاته معها كانت متطرفة، غير مراعية تمامًا، تفور غضبًا وحقدًا، وتحوي على كل المشاعر الناقمة تجاهها، وكأنها اجتمعت في نفسه لإثبات مدى عدائيته لها. انقطع الهواء عن مجرى تنفسها، وعجزت عن مقاومة عنفه معها، فكانت تناضل للبقاء على قيد الحياة، لحسن حظها جاءت الممرضة المشرفة على حالتها في الوقت المناسب، رأت ما يفعله، فتدخلت على الفور وقامت بإبعاده عنها وهي تنهره:
-يا فنـ.ـد.م ما ينفعش اللي حضرتك بتعمله ده!
تراجع "ممدوح" للخلف مشيرًا بإصبعه لزوجته ومهددًا إياها علنًا:
-روح بناتي قصاد روحك وروح أغلى ما في حياتك، سمعاني؟!
بالكاد التقطت أنفاسها، وسعلت بألمٍ وهي تحاول استعادة انضباط تنفسها، نظرت إليه من وسط سحابة دmـ.ـو.عها الكثيفة تتسول عواطفه؛ لكن مـ.ـا.ت قلبه، ومـ.ـا.تت معه ما امتلك من مشاعرٍ إنسانية. حدجها بنظرة شـ.ـديدة القاتمة ليتبع ذلك تهديده الأخير:
-هخليكي تتمني المـ.ـو.ت وما تقدريش تطوليه!
لم يكن بممازح! طريقته، ومن قبلها نظرته مع نبرته الجوفاء أكدوا لها أن خسارتها ثمينة للغاية، بل إنها تفوق أي شيء في حياتها، صرخت رغم البحة التي نالت من أحبال صوتها، لعل وعسى يكون في قلبه قدرًا من الرأفة فيكذب ما يلقيه على مسامعها:
-"ممدوح"، ما تقولش كده عن بناتي.
حاولت النهوض وتركت فراشها؛ لكن الممرضة حالت دون قيامها بذلك ومنعتها من التحرك، فأكملت صراخها المستجدي:
-استنى يا "ممدوح"!
غادر غرفتها تاركًا إياها وسط أهوال فجيعتها، فتطلعت إلى الممرضة تبحث في نظرتها المشفقة عليها عما يثبت عكس ادعاءاته، ارتجف كامل بدنها، وارتعشت نبرتها الباكية وهي تكلمها:
-هو بيضحك عليا، بناتي عايشين، مش كده؟
رفضت الممرضة التعليق بشيء، كل ما سعت لفعله هو إبقائها على الفراش، بينما صوتها المصدوم يردد ببكاءٍ:
-ده ملعوب عاملة عليا علشان أصدق إن بناتي راحوا.
رجتها الأخيرة في شيءٍ من التوسل:
-من فضلك إهدي، الدكتور هيجي يشوفك دلوقتي.
رفضت محاولات إسكاتها، وصرخت بأعلى نبرة تملكها، بعدmا هاجت انفعالاتها:
-"ممـــــــــــــدوح"! رجعلي بناتي!
أتى الطبيب ومعه حقنته المهدئة، غرزها في وريدها لتستكين بالإجبـ.ـار، بقيت عيناها معلقتان بالباب، إلى أن غشت العتمة بصرها، وسقطت في بئر الظلمـ.ـا.ت.
....................................................
حاصر الضيق ملامحه وهو لا يزال يجلس بثياب المشفى الطبية، معزولًا بمفرده، في هذه الغرفة البيضاء الواسعة، تلك التي خصصت له، منذ إنقاذه من الحريق المشؤوم، لم يفعل الصغير "أوس" أي شيء سوى مشاهدة المزيد من أفلام الرسوم المتحركة السخيفة، وكأنها وسيلته المتاحة لإلهاء عقله عن التفكير في تبعات حدث. كل برهة تأتي إليه إحدى الممرضات لتتفقده، أو لتقدm له الطعام، وحتى لتساعده في الذهاب إلى المرحاض.
لم يعرف تحديدًا المدة التي مكثها هنا؛ لكنها من منظور حساباته قد تخطت الأسبوع تقريبًا، رغم أن حالته الصحية لم تستدعِ مكوثه كل هذه الفترة. فقد شهيته، ولم يكن راغبًا في تناول الطعام، فترك الصينية كما هي على الطاولة الصغيرة الملاصقة لسريره. رعشة قوية انتشرت في كل أطرافه مصحوبة بانقباضة قوية في صدره عنـ.ـد.ما فُتح الباب فجــأة، وأطل منه آخر من ينتظر قدومه. تصلب "أوس" في مكانه، وتجمدت عيناه على "ممدوح" الذي راح يرمقه بنظرات تحمل بغضًا دفينًا وعداءً صريحًا.
من طريقة تحديقه المخيفة به، أدرك أنه قاب قوسين أو أدنى من خطر محدق، لا نجاة له منه! شعر ببرودة قارصة تضـ.ـر.ب أطرافه، فقاوم هذا الإحساس المفزع، وتزحف بمرفقيه على الفراش ليرفع جسده المرتجف ويلصقه بعارضته المعدنية. نفضة أخرى مرعـ.ـبة عصفت بكامل كيانه عنـ.ـد.ما رآه يقترب منه بعدmا أوصد الباب بالمفتاح خلفه، وصوته البغيض إلى قلبه يخاطبه:
-يا ريتك مُت مع اللي مـ.ـا.توا!
بدت نبرته أقرب إلى الفحيح الحـــــــارق المنبعث من قعر الجحيم وهو لا يزال يكلمه:
-بس إنت فضلت عايش، هما راحوا، وإنت لسه موجود!
حاول "أوس" التماسك وإظهار شجاعة زائفة لمواجهته؛ لكن كيف له أن يمتلك ما يجابهه به وهو ينتفض رعـ.ـبًا من أعمق أعماقه؟ قيده الخوف، وأجبره على البقاء في موضعه، يحتمي بقطعة ملاءة خفيفة. استمر "ممدوح" في التقدm ناحيته، وعيناه الحمراوين لا ترمشان، فقط تبرقان بشكلٍ مفزع، فلم يعد يعنيه أي شيء في هذه الدنيا سوى إلحاق الأذى به. كم تمنى في هذه اللحظات العصبية لو يأتي إليه من ينجده!
كشر "ممدوح" عن أنيابه، وأخذ يتهمه بصوته الذي ما زال يفح نارًا مستعرة:
-كان نفسك تخلص منهم، عشان تفضل إنت اللي في الحجر، ابن "مهاب" باشا، صاحب السُلطة والقوة!
الهروب عن طريق القفز من النافذة، كان الخيار الوحيد المتاح لديه للنجاة من براثن هذا الوحش الغادر! قبل أن يفكر "أوس" في ترك سريره، والاتجاه إليها، سبقه عدوه اللدود، وأمسك به من معصمه ليحتجزه في مكانه، اعتصر يده بقوةٍ جعلت الألم يتفشى في كامل ذراعه، فصرخ متأوهًا من ضغطه العنيف، وانكماش وجهه عكس شعوره ذلك:
-سيب إيدي!
نظرة أخرى ممـ.ـيـ.ـتة حدجه بها قبل أن يكز على أسنانه مخاطبًا إياه بهسيسٍ مخيف:
-مش هتعرف تهرب مني المرادي! هحاسبك على مـ.ـو.تهم!
رغم ما يعتريه من خوفٍ، إلا أنه رد مدافعًا عن نفسه بشجاعةٍ لا يعرف من أين واتته:
-أنا مجتش جمبهم، النار ولعت في الأوضة لواحدها، معرفتش أتصرف إزاي.
رفض "ممدوح" تصديقه تمامًا، واتهمه في صراخٍ:
-إنت كـ.ـد.اب.
تمسك بكلامه مؤكدًا له براءته وهو يحاول جاهدًا تخليص معصمه من قبضته المحكمة عليه:
-لأ، أنا مش كـ.ـد.اب!
سدَّ أذنيه عن سماع أي شيء يفوه به، وقال في إصرارٍ:
-مش هرحمك يا ابن "مهاب"!
أبى "ممدوح" التخلي عن فكرة تدmيره بشكلٍ لا آدmي، فأضاف وهو يُطالعه بهذه النظرة الشريرة:
-هخليك تعيش اللي جاي من حياتك ذليل.
بدا لحظتها وكأن أشـ.ـد كوابيسه فزعًا يتجسد أمام عينيه، حاول "أوس" التحرر منه، فلكزه بقبضته الأخرى في صدره، وحاول خمش وجهه، كما قام بركله بساقه في فخذه وهو يهدر بصوته المرتجف:
-ابعد عني.
غضبه الأعمى مد قواه الجـ.ـسمانية بطاقة مضاعفة، فصار عتيدًا، عتيًا، لا يمكن صده أو رده، أو حتى قهره. أمسك "ممدوح" بيد الصغير الأخرى الطليقة، وهمهم بما بث كل صنوف الرعـ.ـب في نفسه:
-المرادي لأ!
جمع يديه معًا، وقيدهما بكفه، ثم انتزع من فوقه الملاءة البيضاء التي تغطي جسده، ليصبح في أكثر المواقف تهديدًا. أراد "ممدوح" اغتــــــيـــال براءته، سرقة طفولته، وتركه يعاني من ويلات الذل بإجبـ.ـاره على معايشة أشـ.ـد التجارب انحطاطًا ودناسة.
حاول "أوس" الصراخ ليغيثه أحدهم، فأخرسه بحشو جوفه بقطعة القماش المتروكة بجانب صينية الطعام، تلك التي تُستخدm في تنظيف الفم واليدين، انتفاضة وراء الأخرى حلت بجسد الصغير محاولًا إبعاده عنه، لكنه افتقر إلى القوة اللازمة للنجــاة من شره، انحبست صرخاته المرعوبة والباكية في حلقه وهو يجرده من زيه الطبي، ذلك الذي يحجب سوءته عنه، ليصبح تحت وطأة بطشه الشيطاني. نظراته الخبيثة إليه، وملامحه الأكثر شيطانية أكدت له أنه هالكٌ لا محالة!
لم يحتج "ممدوح" للكثير من المجهود ليفرض سيطرته الكاملة عليه، في التو أدار جسده ليجبره على الاستلقاء على بطنه، ثم استخدm ثقل جسده ليثبته في موضعه بالسرير، وأخذ يستبيح لنفسه انتهـــاك وتدنيس براءته بأفعاله المحرمة قبل أن يرخي حزام بنطاله، ليتمكن من فتح السحاب.
أطبق "أوس" على جفنيه بقوةٍ وهو عاجز عن كتم أنات ألمه، والأخير يبذل ما في وسعه لإذلاله، ودَّ لو ينتهي ما يمر به بطلوع روحه؛ لكن ما رجاه لم يحدث، وظل يختبر ما لبشرٍ سوي يمكن تحمله.
استخدm "ممدوح" أحط الوسائل المنحرفة وغير السوية في سلب طفولته، وتلويثها كليًا بذكرى دنسة ليس من السهل نسيان تفاصيلها البشعة أو محو آثارها السيئة من نفسه. تركه بقايا طفل سلبت منه حياته، بل واغتيل عدة مرات ممن حوله بسلوكياتهم المتجاوزة، قبل أن يأتي هو ويُجهز عليه بهذه الطريقة الشنيعة.
تركه روحًا مهشمة بعدmا فرغ منه، فاستقام واقفًا، وتلذذ برؤيته يبكي من ألم العجز والذل والانكسار والهوان، أعاد ضبط سرواله عليه، ولم يكترث بتغطية جسد الصغير، اكتفى بمخاطبته في صوتٍ يعبر عن زهوه بانتصاره النجس:
-بكده عمرك ما هتنساني يا ابن "مهاب"!
لم يجرؤ "أوس" على التحرك من موضعه، او حتى فتح عينيه، كان فاقدًا لكل شيء، حتى رغبته في الحياة، استغل الفرصة ليهدده "ممدوح" بعدmا ضمن نجاحه في تهشيمه وتهميشه، وهو يهم بمغادرة الغرفة بعد أن انقضت مهمته:
-إياك تفكر تحكي لحد عن اللي حصل، صدقني محدش هينفعك!
وكأنه يظهر شمـ.ـا.تته له بمواصلته سرد المزيد من الوقائع الملموسة:
-الكل رموك، ونسوك، أبوك مش هنا وسافر، وأنا بس اللي موجود علشان أذلك بطريقتي!
رغم تشفيه الصريح والمؤلم لروحه الضائعة إلا أنه كان محقًا، فقد تم إقصائه، وربما نسيانه، فأصبح وحيدًا كسير النفس، بلا حماية مجدية، قبل أن تتحول حياته إلى جحيم بعد هذه التجربة الفظيعة. ألقى "ممدوح" كلمـ.ـا.ته الأخيرة على مسامعه وهو يدير المفتاح في قفل الباب:
-أنا كابوسك الحي، النفس مش هتعرف تاخده إلا وإنت شايفني موجود جمبك، إنت بقيت تحت رحمتي!
ثم أطلق ضحكة هازئة به قبل أن يودعه بطريقة مهينة في طياتها، وإن لم ينطق بذلك علنًا:
-سلام يا ابن الـ ... "جندي" ..............................
↚
ما طمره التامور وطمره)
قبل أن يعاني ويلات هذه الكسرة المهينة، هزمه بقــــسوة تخلي الأقرب إليه عنه، فأدرك وتدارك معنى أن يكون وحيدًا، في ذيل قائمة الاهتمامات، ومنسيًا بين أسرته، لم يكن مُصانًا بالدرجة الكافية التي جعلت عائلته تضعه فوق أي اعتبار، لم يجد والدته بجواره، ولا والده في محيطه، ليذودا عنه، ويوقفا بطش هذا الحقير النجس، الكل اختفى فجأة من المشهد، وكأنه وُلد يتيم الأبوين، بلا سند أو معين. تركه "ممدوح" وسط محيط وجعه الراسخ، وعلى وجهه علامات الألم والرعب، فقد تأكد أن تكون عقوبته ذات أثر مخيف وغير قابل للنسيان. راح يئن أنينًا خافتًا، جاهد لوأده، وكأنه يخشى إن ارتفع صوت بكائه أن يكتشف أحدهم ما تعرض له، حينها لن ينجو من هذا الشعور المذل أبدًا، بل سيلازمه حتى مماته!
اعتدل "أوس" من نومته المهينة، وبحث عما يغطي به جسده، فالتقط الملاءة، ولفها بيدين مرتعشتين حوله، قبل أن يهرع نحو باب الغرفة ليوصده من الداخل. لن يسمح لأي فرد بأن يرى آثار وحل القذارة الذي وقع فيه بممارسات زوج أمه اللعين عليه، بكى مع كل محاولة منه للسير بتؤدةٍ تجاه الحمام للاغتســال، أراد بشدة تطهير جسده من موضع لمساته المحرمة، لم يكترث إن كان الماء المنساب على بدنه باردًا، أم دافئًا، أم حتى حارقًا، المهم ألا يبقى أي أثر ليده عليه.
جروحه النفسية قبل البدنية لم ولن تندمل بسهولة، بل إن ندوبها الموحشة ستظل معالمها موجودة لتذكره على الدوام بأنه كان الضحية، المجني عليه، بأنه اُغتيل، وأعيد اغتيــاله في كل مرة كان يرى فيها هذا البغيض قبل أن يجهز عليه تمامًا في مرته الأخيرة.
اختلطت دموعه الحارقة بقطرات المياه، تعهد لنفسه بأن تكون آخر مرة يظهر فيها ذلك الضعف، لن يسمح لأحدهم بالمساس به، بالسير على حطامه، ودعسه كحشرة لا قيمة لها، سيخفي ذلك الجانب المخزي منه للأبد، وكأنه لم يكن من الأساس. أغلق الصنبور، وخرج مبتلًا وهو يلف جسده بهذه المنشفة الصغيرة، كان لا يزال يرتعش، وارتجف أكثر مع رؤيته للفراش، ذاك الذي شهد على لحظات نحـــــره، أغمض عينيه بعدما التف بظهره ليقول بصوتٍ مهتز ومختنق:
-ده كابوس، كابوس...
حاول السيطرة على الرجفة العظيمة التي تفشت فيه، وأكد لنفسه:
-مافيش حاجة حصلت! مافيش!
اتجه بعدها إلى الدولاب وفتح الضلفة ليجد حقيبته التي أحضرها والده قبل عدة أيامٍ، فتش بداخلها عن ثيابه، تأوه من الوجع، فتنفس بعمقٍ ليكبت هذا الشعور المؤلم، ثم بدأ في ارتداء ملابسه على مهلٍ، رافضًا أن يكون جسده مكشوفًا لكائنٍ من كان!
لم يقوَ على الجلوس، ظل واقفًا أمام النافذة، يراقب بعينين خاليتين من الحياة، ومن خلف الستائر المنسدلة الفضاء الممتد على مرمى بصره، قست ملامحه، وأصبح أكثر جمودًا وصلابة، أخذ على نفسه ميثاقًا غليظًا، بألا يدع ما حدث يسيطر عليه، لن يجعل مشاعره تسوقه، وقلبه يقوده، بل لا مكان للعاطفة في حياته، آن الأوان ليطمر ما خاضه ذلك الطفل الضعيف المضطهد في التامور، ويحل كبديل عنه آخر مطابق في الصفات والسلوك لمن نجحوا في إفساده، المهم ألا يصبح كما كان سابقًا!
...........................................................
لحظة لم يرغب في إضاعتها هباءً دون رؤية تأثيرها المحزن عليها، واظب "ممدوح" على زيارة زوجته في المشفى المحتجزة به، منتظرًا السماح له بزيارتها بعدما تم رفض طلبه لعدة مرات، خلال تلك الفترة تمكن كذلك من سحب ما احتفظت به من أموال في البنك ليصبح رصيدها صفرًا، كان لا يكف عن البحث عن أي وسائل يقهرها بها. حين جاء اليوم كان محظوظًا، فقد أخبره الطبيب أنها تقبلت خسارة الرضيعتين، وبدأت تتأقلم على الوضع الجديد، ومع ذلك هي بحاجة للمزيد من العون الأسري لتخطي هذه الفاجعة. أوهمه أنه قادرٌ على مساعدتها، فأعطاه الإذن للقاء بها.
تأملها "ممدوح" وهي ترقد على الفراش منكسة الرأس، ذابلة الوجه، تبدو نحيلة بشكلٍ ملحوظ، حتى شعرها بالكاد يكون مرتبًا بعد أن بذلت الممرضة مجهودًا لإجبارها على تمشيطه وتسويته؛ لكنه لم يكن معقودًا. ما إن رفعت نظرها للأعلى ووجدته قبالتها حتى خفق قلبها ونادته بلوعة المشتــاق:
-"ممدوح"!
رأى السواد الذي تشكل حول جفنيها، وكيف غارت عيناها لتبدو كواحدة أخرى غير تلك الندية البهية المفعمة بالأمل والحياة. فردت "تهاني" ذراعها أمامها آملة أن يمسك بيدها؛ لكنه ظل رابضًا في مكانه، ورافضًا الاقتراب منها، نادته مجددًا بنفس النبرة المليئة بالشوق والمغلفة بالحزن، ويدها لا تزال ممدودة إليه:
-"ممدوح"! تعالى جمبي، أنا محتاجاك!
ظل باقيًا في موضعه، يرمقها بنظرة خالية من الرأفة، ليسألها بعدها بصوت جاف:
-إحساسك إيه دلوقتي بعد ما ماتوا بناتي؟ مبسوطة؟
اتهاماته المجحفة في حقها كانت تزيد من لوعتها وإحساسها بالذنب، رغم أنها لم تتسبب في وفاتهما؛ لكن ظل هذا الشعور المرير يلازمها ليؤلمها طوال الوقت، رفعت يديها لتضعهما على أذنيها وهي تهز رأسها باستنكار، لتصرخ فيه بتوسلٍ ممزوجٍ بالبكاء:
-حرام عليك كفاية، أنا قلبي موجوع على فراقهم، ملحقتش أشبع منهم، اتخدوا مني غدر.
لم تحبس دموعها، وأطلقت لها العنان لتسيل بغزارة وهي تكلمه:
-ولو أطول أرجع بالزمن عشان أخدهم في حضني تاني وآ...
قاطعها في صوتٍ جهوري أفزعها:
-كفاية أوهام، وكلام فارغ مالوش معنى!
تحجرت الدموع في عينيها خاصة وهو يتابع على نفس النهج القاسي، كأنما انتشل الحب من قلبه:
-بتقوليه بس علشان تصبري نفسك بيه...
هزت رأسها رافضة باستهجانٍ كبير ما يقوله، فزاد من وابل كلماته غير العطوفة بترديده غير الرحيم:
-إنتي ماتستاهليش تكوني أم!
شهقت في قهرٍ مصدوم، لم يأتِ ببالها أن يكون على هذه الدرجة من القسوة معها، أليست مثله تعاني من ألم الفقد والخسارة الغالية؟ تابع "ممدوح" بنظرة ازدراء مستحقرة:
-كانت غلطة لما وافقت أكمل معاكي.
أنهى جملته وقد تحرك صوبها ليمسك بها من ذراعها، ضغط بشراسة عليه، فتألمت من قوة ضغطته، استعطفته بنظراتها ليصدمها بقوله:
-إنتي تستحقي الموت بدل المرة ألف مرة.
لم تصدق أن مشاعرها المتيمة بها قد تبدلت فجـأة هكذا لتصبح كارهة لكل ما يخصها، وكأنه لم يعشقها يومًا! رجته بقلبٍ مفطور:
-"ممدوح"! ماتتكلمش كده.
لفظها بطريقة أوحت بأنه على وشك الاستغناء عنها، وأكد على ذلك حين خاطبها بوجهه الغائم:
-من اللحظة دي انسي إني أكون في حياتك...
انخلع قلبها وعصفت فيه عواصف الخوف، تلألأت الدموع في عينيها مجددًا وهو على وشك إخبارها:
-إنتي آ...
عادت الدنيا لتسود في عينيها، وتسارعت دقات قلبها، لم ترغب لذا قاطعته في رجاءٍ شديد:
-أوعى، ما تنطقهاش يا "ممدوح"، بلاش تظلمي، خليك سندي.
اعتبرها الملامة على ما حدث، المجرمة التي قضت عليه بسلبه أعز ما في الدنيا، لم يكن قد اكترث بأحدهم فيما مضى من حياته إلا عندما رزق بالتوأم، وجودهما أعاد إليه نبض الحياة وبهجتها، وها قد حُرم منهما. حدجها بنظرة أخرى أكثر كراهية ليردد بعدها بلا ندمٍ:
-إنتي طالق يا "تهاني"، طــــالق!
أذهلها بقراره، وجعلها تحدق فيه بعينين متسعتين، وكأن أحدهم قد سكب على رأسها وقودًا حارقًا، فجعل الموت يزورها بغتة، صرخت في غير تصديق:
-ليه يا "ممدوح"؟ ليه؟
لم يطق النظر في وجهها، ولم يبح لها بمسألة أخذ أموالها، تركها لها كمفاجأة أخرى قاسمة، أولاها ظهره ورحل، وصوت صراخها الهيستري والمفطور يهدر من ورائه؛ لكنه لم يكن كافيًا ليخمد النيران المشتعلة في قلبه، فهو خسر كل شيء دفعة واحدة، وغيره فاز بملذات الدنيا ومباهجها، لقد أقسم لنفسه ألا يتوانى أو يكف حتى يجعل رفيقه أيضًا يتذوق من نفس الكأس، فالرهان بينهما لا يزال قائمًا، وإن كان على حساب اللعب بأرواح الأبرياء!
....................................................
بضعة أيام مرت بعد حادثته المشؤومة، كان يعامل فيها جميع من حوله بعجرفة وتسلط، وكأنه امتلك أمرهم، لجوئه لذلك كان بنية إخفاء هشاشته وكسره المخزي خلف حاجز وهمي صنعه لنفسه. عاد والده بعد غياب مريب، ليجد عشرات الشكاوي من الأطقم الطبية المكلفة برعاية صغيره تتمحور كلها في رفضه للتجاوب معهم. حينما ولج إليه في غرفته وجده واقفًا على قدميه، يقف عند نفس موضع النافذة والذي يتطلع منه للخارج، تنحنح "مهاب" بصوته الخشن ليلفت انتباهه لوجوده؛ لكنه لم يبرح مكانه، بدا وكأنه لم يسمعه مما أغاظه قليلًا، لهذا ناداه بنبرته الصارمة:
-"أوس"!
ببطءٍ وتكاسل أدار فقط رأسه لينظر إليه، فعاتبه "مهاب" بجديةٍ:
-إيه مافيش وحشتني يا بابا؟ وتيجي في حضني؟
وكأنه مجبر على السير إكرامًا لمنزلته، تحرك صوبه في خطواتٍ ثابتة، ونفذ ما طلبه دون أن يظهر في احتضانه إليه أي نوعٍ من المشاعر الدافئة، بل كان أقرب لأداء الواجب. تفقده والده بنظرة فاحصة قبل أن يعلق بروتينية:
-أنا شايف إنك بقيت أحسن.
رد عليه الصغير متسائلًا:
-هخرج من هنا إمتى؟
أتاه رده بنفس اللهجة الجادة:
-طالما أنا رجعت يبقى مالهاش لازمة الأعدة هنا...
هز رأسه في استحسان، فأكمل والده كلامه:
-على فكرة، الدكاترة بيشتكوا منك!
لم يعبأ بشكواهم، وظل على وضعه جامد التعبيرات، حاد النظرات، أضاف "مهاب" بعد زفرة سريعة:
-المفروض هما هنا علشان ياخدوا بالهم من صحتك، تقدر تقول هما موجودين مكاني.
عندئذ عقب "أوس" بعبارة قوية المعنى، وكأن فيها لومًا مستترًا على ما تعرض له في غيابه غير الطبيعي:
-محدش ينفع يبقى مكانك!
تفاجأ به يخاطبه بهذه الطريقة، وبلهجة تفوق عمره، فنظر له مدهوشًا للحظة، ابتسم وهو يداعب خصلات شعره قائلًا:
-معاك حق..
استحثه على السير معه تجاه باب الغرفة بعدما لف كتفيه، واستطرد متابعًا، ورنة من الفخر تسود كلماته:
-عارف، كلامك دلوقتي بيفكرني بجدك الله يرحمه، وأنا عايزك تبقى زيه...
انتصب "مهاب" بكتفيه للأعلى في زهوٍ، وأكمل بجديةٍ، كأنما يسدي له نصيحة ذهبية:
-راجل قوي، وليك هيبة، والكل بيخاف منك، وبيعملولك ألف حساب! ساعتها بس محدش هيقدر يقرب منك.
خُيل إليه أنه وجد فيما فاه به الحل المثالي لدرأ ما قد يناوشه من مشاعر الخوف إن التقى أو تصــادف مع من ألحق به الأذى. انتشله من لحظة شروده السريعة حديث أبيه القائل:
-احنا هنروح بيتنا الجديد، أنا أصلي نقلت في مكاني تاني أحسن.
لم يمانع ذلك، وارتضى بإحداث ذلك التغيير في حياته، فقد أراد الابتعاد عن كل ما حوله، ظل على صمته ووالده لا يزال يطلعه على المزيد من القرارات المُرتب لها مسبقًا:
-وبفكرك أوديك مدرسة برا تتعلم فيها.
توقع أن يثور عليه ويعترض مثلما عهد منه؛ لكنه للغرابة قابل رغبته بالإذعان:
-ماشي.
ضحك في فخرٍ، وبصوتٍ لافت، ليقول بعدها باعتزازٍ:
-إنت كده ابني "أوس الجندي"!
................................................
لأشهر متواصلة خاضت فيها حربًا ضروسًا لتتمكن من الحصول على أي معلومات مفيدة تمكنها من الوصول إلى ابنها بعدما أُخذ منها قسرًا، وحرمت من رؤياه. لم تهتم بوظيفتها التي خسرتها، ولا بالأموال التي سلبت من حسابها بغير معرفة منها، ولا باضطرارها للسكن في مكانٍ متواضع مع إحدى العاملات حتى تتدبر أمرها، كل ما أرادته هو استعادة ابنها الوحيد، معتقدة أن وجوده سيساعدها على إعادة لم شملها مع زوجها الذي طغى عليه حزنه، وغلبه فطلقها مرغمًا!
وصلت أخيرًا إلى مبتغاها، وعرفت أين يقيم صغيرها في الوقت الحالي؛ لكن تعذر عليها الدخول مباشرة دون مواجهة أفراد الأمن المتواجدين عند المدخل، لذا كان عليها التريث حتى تتمكن من الصعود. بعد مراقبة حثيثة لوقت طويل، استطاعت التسلل خلسة إلى البناية التي يقطن بها الجراح الشهير، وبحثت بعينين متلهفتين عن باب منزله، طرقته وقد تحفزت كليًا للقاء صغيرها، لسوء حظها كان "مهاب" متواجدًا ببيته، فتفاجأ برؤيتها، ومنعها من الدخول ليخبرها بصرامةٍ، وبلهجةٍ لا ترد:
-اعتبري ابنك مات!
انتفضت منقضة عليه، وأمسكت به من ياقتي قميصه لتهزه في انفعال، وصراخها الغاضب يصدح في الأرجاء:
-إنت بتقول إيه؟ أنا ابني عايش، وهاخده في حضني.
غرز أظافره في كفيها ليخمشهما عن قصدٍ، فتألمت من الوجع المباغت ليقوم بعدها بإبعادها عنه ودفعها للخلف وهو ينهرها بغلظةٍ، وإصبعه موجه إليها:
-إنتي مالكيش ابن، ويالا امشي من هنا!
استعر داخلها كمدًا منه، فهاجت تهدده في عصبيةٍ مبررة:
-إنت مفكر نفسك مين؟ ابني هعرف أخده بالقانون، ومش هتقدر تحرمني منه.
ردد في استخفاف ساخر:
-قانون؟!
أكدت بقوةٍ وكأنها تثبت له أنها لم تعد ترتعد منه أو تخشاه:
-أيوه.
نظر لها بعينين تطقان شررًا، وسألها في استحقارٍ:
-إنتي مجنونة ولا حاجة؟
ثم لوح بإصبعه صعودًا وهبوطًا على طول جسدها وهو يستكمل في نبرة مهينة:
-مش شايفة منظرك عامل إزاي؟
هيئتها العامة كانت شبه مزرية، تؤكد على فقرها، على كونها معدمة، لا تملك شيئًا، ومع هذا ردت بعزة نفس كانت قد تناستها معه:
-مش فارق معايا، أنا هصرف كل ما أملك علشان أرجع ابني لحضني.
أطلق ضحكة قصيرة هازئة ومغيظة لها، ليعلق بعدها في تهكمٍ محقر من شأنها:
-معقولة لسه مصدقة إن معاكي فلوس؟ ده إنتي شحاتة!
قطبت جبينها، وعبست بكامل ملامحها، وقبل أن تنطق بشيءٍ أضاف على نفس ذات المنوال:
-شكلك لسه عايشة في جنانك، ده "ممدوح" خلاكي على البلاطة يا هانم!
صدمها كليًا، فآمالها كانت معقودة –وبقوةٍ- على استعادة زوجها بمجرد نجاحها في استرداد ابنها، آمنت أنها قادرة على تجميع أسرتها مرة ثانية، استفاقت من ذهولها اللحظي، وهتفت تستنكر ما اعتبرته اتهامًا باطلًا:
-"ممدوح"!! استحالة يعمل كده، ده بيحبني.
ضحك مرة ثانية في استهزاء أكثر استفزازًا، ليخبرها بعدها:
-خليكي عايشة في الأوهام دي، هو اتجوزك بأمر مني، وطلقك لأنه مابقاش طايق يبص في خلقتك.
لم يكن الأمر مجرد مزحة سخيفة منه قالها لإغاظتها، بل بدا جديًا للغاية وهو يؤكد لها بحقائق غير مشكوك فيه:
-جايز اللي كان مصبره عليكي حملك في البنات، بس خلاص هما ماتوا، وإنتي بقيتي مالكيش لازمة.
تحطمت أحلامها على صخرة الواقع القاسية، فصرخت في صوتٍ منفعل:
-اسكت، "ممدوح" مش كده!
رد عليها في نبرته المتهكمة:
-إنتي اللي غبية، وصدقتي إن في حد بيحبك، على إيه؟ إنتي كنتي مجرد صيدة سهلة، وتسلية.
جرحها بنصل كلماته القاسية، فاندفعت مرة أخرى تجاهه لتضربه في صدره وهي تنعته بغضبٍ متصاعد:
-إنت مش بني آدم!
لكزها في ذراعها محذرًا إياها بغير تساهلٍ، وبنظرة يسودها العداء:
-نزلي إيدك بدل ما أقطعهالك.
هتفت متحدية جبروته بإصرارٍ:
-معدتش يهمني، أنا مش همشي من هنا إلا وابني معايا!
في تلك الأثناء، خرج الصغير "أوس" من غرفته على إثر الأصوات المتشاحنة، تفاجأ بوجود أمه على عتبة باب المنزل، هتف في ذهولٍ، ووجهه يكسوه هذا التعبير المصدوم:
-ماما!
وكأن وهج الحياة النابض قد عاد إليها دفعة واحدة، فما إن سمعت صوته العذب والذي يتحرَّق إليه قلبها حتى صاحت بلوعةٍ أموميةٍ شديدة:
-"أوس"، حبيبي، أنا هنا يا ابني!
نظر إليها مليًا وهو لا يزال على صدمته، تقدم تجاه الباب متسائلًا:
-إنتي لسه عايشة؟
في التو اشتاطت غضبًا لكون أبيه قد احتال عليه وأخبره كذبًا أنها فارقت الحياة، استنكرت بشدته حيلته القذرة، وهدرت به:
-كمان مفهم ابني إني مُت؟
انزعج "مهاب" لقدوم ابنه في هذا التوقيت، لم يحبذ ظهوره بمظهر المخادع أمام ابنه، لذا استدار بجسده مشكلًا حاجزًا صلدًا أمامها، ومواجهًا صغيره ليخاطبه في لهجته الآمرة:
-خش أوضتك يا "أوس"!
رغم مشاعر التبلد والجمود التي صارت متغلغلة فيه مؤخرًا، إلا أن اللقاء بوالدته أعطاه دفقة من الشعور بالأمان، والرغبة في البوح بأبشع أسراره وأكثرها وحشية، لعل ذلك الغليان المستعر بداخله يخبت. في صوتٍ حانٍ ومملوء بالشجن هتف "أوس":
-ماما، إنتي عايشة بجد؟
تقافز الغضب في وجه "مهاب"، وأمسك بابنه من كتفه ليسحبه للداخل وهو يوبخه:
-إنت مابتسمعش الكلام ليه؟ مش قولتلك ادخل جوا!!
قاومه الصغير قائلًا بعنادٍ:
-أنا عايز ماما.
هلل "مهاب" مناديًا بأعلى نبرته:
-"ناريمـــان"، تعالي بسرعة، وخدي "أوس" من هنا.
جاءت على صوت ندائه ومعها الخادمة، لتحل عليها الدهشة المختلطة بقدرٍ من الفزع، خاصة عندما رأت "تهاني" أمامها، ارتجف بدنها، وتلبكت، فأمرها "مهاب" بلهجته الصارمة:
-دخلي "أوس" أوضته.
تغلبت على مخاوفها التي انعكست على ملامحها، وهتفت تعنف الصغير:
-إنت خرجت من أوضتك ليه؟
نظر لها "أوس" بعينين حانقتين، وهتف معاندًا:
-أنا عايز ماما.
تعاونت مع الخادمة لجره بعيدًا رغم كل ما أبداه من مقاومة واحتجاج؛ لكنهما في الأخير نجحتا في إعادته لغرفته واحتجازه بها. صراع القوة وفرض السلطة كان جليًا نصب عينيها أثناء إجبار وحيدها على الافتراق عنها، ارتمت "تهاني" عند قدمي "مهاب"، أمسكت ببنطاله، وتوسلته بقلبٍ محترق:
-رجعلي ابني، ماتحرمنيش منه، معدتش فاضلي في الدنيا إلا هو!
ركلها بساقه ليطرحها أرضًا وهو ينذرها بحدةٍ:
-قولتلك شيليه من حساباتك.
تألمت من السقطة العنيفة، ووضعت يدها على موضع الألم، لتنظر إليه بعجزٍ وهي تستجدي مشاعرًا إنسانية غير موجودة في شخصه المقيت:
-حرام عليك أنا أم.
رد عليها بصبرٍ نافد:
-كفاية بقى، إيه ما بتزهقيش؟
استندت على مرفقيها لتقوم وتواجهه مرة ثانية، فاض به الكيل من الجدال معها، لذا أنذرها للمرة الأخيرة:
-أحسنلك تمشي بدل ما أجيبلك الأمن وأبهدلك، أنا بكلمة مني أعلق رقبتك دي على حبل المشنقة، كفاية إني ساكت لحد دلوقتي على جرايمك!
نظرت إليه بعينين زائغتين، فعبارته الأخيرة تحمل تهديدًا خطيرًا، سألته لتستفهم منه عن مقصده:
-إنت بتقول إيه؟
ببساطة شديدة أخبرها:
-في ورق بتوقيعك يثبت إنك السبب في وفاة كام مريض أيام ما كنتي شغالة بالمستشفى.
أصاب عقلها الجمود للحظةٍ، لم تستوعب ما حدث لتتلقى اللوم عن شيء لم تقترفه من الأساس، فتساءلت في ذهولٍ مشوب بالخوف:
-ورق إيه؟ أنا معرفش حاجة عن الكلام ده!
حدجها بنظرة دونية وهو يقول بتشفٍ:
-اسألي "ممدوح"، ما هو اللي ورطك يا دكتورة.
مجددًا اندفعت تجاهه لتمسك بياقته وهي تصرخ فيه:
-إنت كداب!
استوقفها قبل أن تمسه بالإمساك بها من رسغيها، وصاح في ضيقٍ:
-مهما قولت مش هتصدقي، بس دي الحقيقة...
ثار عليها أكثر، ودفعها للخلف ليتخلص منها قائلًا:
-أنا أصلًا واقف بتكلم معاكي ليه؟
ارتمت تجاه الحائط، فارتطم ظهرها به بخشونةٍ، بالكاد حاولت الحفاظ على اتزانها لتلحق به قبل أن يغلق الباب وهي تهدر في التياعٍ::
-استنى يا "مهاب"، أنا عاوزة ابني!
صفقه بقوةٍ مانعًا إياها من الدخول، وصوته يلعنها:
-غوري في داهية.
ألصقت جسدها بالباب، وراحت تطرق عليه بقبضتها في غير يأس –وبكل ما أوتيت من قوةٍ- وهي تتوسله:
-افتح الباب يا "مهاب"، أرجوك ما تحرمنيش من ابني، أنا مستعدة أعمل أي حاجة علشان أكون جمبه.
حينما لم تجد أي تجاوبٍ منه، رفعت من نبرة صراخها الهيستري، مما سبب لـ "مهاب" المزيد من الفضائح، ناهيك عن الإزعاج المتواصل، فأصدر أوامره لأفرد الأمن للقدوم للتعامل معها بصرامة وقسوة، حيث قاموا بمحاصرتها، وجرها جرًا بعيدًا من محيط بيته، ليتم طردها خارج المبنى في شكلٍ مهين، ومع ذلك لم تكف عن القدوم يوميًا، وافتعال المشاحنات مع أفراد تأمين المكان، لتحظى بفرصة رؤية ابنها ولو للحظاتٍ، لينتهي بها المطاف محتجزة في المخفر، تعاني من الهذيان تمهيدًا لترحيلها نهائيًا إلى موطن رأسها.
.................................................
-يعني إيه الكلام ده يا دكتور؟ احنا مش فاهمين حاجة!
تساءل "عوض" بهذه الكلمات الجزلة وهو يتطلع إلى الطبيب المتخصص الذي تم إرســال ابنه الرضيع إليه ليقوم بالكشف الطبي عليه وإعلامه بعد تحاليل وفحوصات دقيقة عن طبيعة مرضه. بدا الطبيب جادًا رغم صوته الهادئ وهو ينظر إلى أهل الرضيع بشيءٍ من التعاطف عندما حادث الأب:
-للأسف ابنك مولود بعيب خلقي في القلب، ومحتاج تدخل جراحي علشان نقدر نعالج المشكلة دي، وإلا هتأثر عليه، ويمكن ...
تعذر عليه إكمال جملته، فقال بصوتٍ شبه خافت:
-يخسر حياته ويموت.
فزعت "فردوس" كليًا، وصارت ملامحها شاحبة، ألجمت الصدمة لسانها، فحملقت بعينين متسعتين إلى رضيعها، بينما انتفض "عوض" هاتفًا:
-ماتقولش كده يا دكتور، ده الأعمار بيد الله.
رد عليه بأسلوبه المهني:
-ونعم بالله، بس لازم ناخد بالأسباب!
حينما استفاقت من الصدمة هللت "فردوس" لاطمة على صدرها:
-يا نصيبتي، أل وأنا اللي فكرت إن الدنيا خلاص ضحكتلي، وهشوف الهنا!
نظر إليها زوجها للحظةٍ قبل أن يتوجه بسؤاله للطبيب:
-ودي تتكلف كتير يا دكتور؟
دون مراوغة أجابه بجوابٍ مقتضب وصريح:
-أيوه.
اختنقت الكلمات في صدر "عوض"، فلم يعرف ما الذي يجب عليه فعله وهو لا حول له ولا قوة، عاجزٌ عن تقديم أدنى مساعدة لإنقاذ رضيعه البريء من خطر الموت. بدا الطبيب مشفقًا عليه، فقال كنوعٍ من المؤازرة:
-اللي عايز كمان أقوله إن صعب العملية تتعمل وهو في السِن ده، فاحنا هننتظر لما يكبر شوية ونعملهاله، إنتو حاولوا خلال الفترة دي تدبروا المبلغ المطلوب.
تساءلت "فردوس"، وعيناها تغرقان في الدموع:
-واللي مش معاه يا دكتور يعمل إيه؟ يشوف ضناه بيموت قصاد عينيه؟
صمت قليلًا ليفكر قبل أن يقترح عليهما:
-يبقى مافيش قدامكم غير تقدموا طلب للعلاج على نفقة الدولة، وأنا هساعدكم في الإجراءات، وهشوف حد أعرفه يوصي عليكم كمان.
وكأنه منحهما بارقة من الأمل، فتساءل "عوض" في لهفةٍ:
-بجد يا دكتور؟
أومأ برأسه قائلًا بهذه البسمة الخفيفة، لعل وعسى تحدث المعجزة ويتم المساهمة في علاجه:
-اطمنوا، أنا هعمل اللي في وسعي، بس ضروري تتابعوا صحة ابنكم.
أبدى "عوض" استعداده الكامل لفعل كل ما يمليه عليه الطبيب طالما أنه يخدم في النهاية صالح الرضيع.
...........................................
على عكسه لم تؤمن "فردوس" بزمن المعجزات، والأفئدة الرحيمة، نظرتها إلى الحياة كانت سوداوية، مليئة بالسخط والنقم، فالبشر المحبين للمساعدة تلاشوا، وحل محلهم غلاظ القلوب، ذوي السلطة والنفوذ. سارت بجوار زوجها تضم رضيعها إلى صدرها، وعقلها شارد في الكارثة الجديدة التي حلت بالعائلة، همٌ جديد أضيف إلى جبل همومها الثقيلة، فهي لا تزال تُلقي بحمل رعاية طفلتها إلى جارتها الطيبة، فماذا عن ذلك المريض العاجز؟ عليها أن تتكفل بالاهتمام به بنفسها وإلا لفقدته، وهذا ما لا تريد التفكير فيه! تنهدت في أسى قبل أن تتكلم وهي تصعد الدرجات إلى بيتها:
-يا حسرة قلبي عليك يا ضنايا!
توقفت عن اعتلاء الدرج، والتفتت ناظرة إلى زوجها في يأسٍ لتسأله بتخبطٍ وحيرة:
-هنعمل إيه يا "عوض"؟ هنجيب فلوس منين؟
أجابها وهو محدقٌ أمامه:
-ربنا خلق الداء والدواء، وهو سبحانه مش هينسانا!
ابتسمت في سخرية مريرة، هم على هامش الحياة من الأساس، فكيف يكون على هذا القدر الكبير من الثبات واليقين، اكتفت بإشاحة عينيها عنه، وأكملت طريقها للأعلى، لتجد كتلة بشرية تفترش الأرض أمام عتبة الباب، وجهها مختبئ بين ركبتيها المضمومتين إلى صدرها، وشعرها المهوش يغطي على أي ملمح لوجهها. جزعت منها، وهتفت في تحفزٍ:
-الحق يا "عوض"، في واحدة نايمة قصاد باب بيتنا؟
تنبه زوجها لكلامها، وأسرع في خطاه بعدما أرجع زوجته للخلف هاتفًا بتحفظٍ:
-خليكي مكانك، أنا هشوف مين.
مدفوعًا بقليلٍ من القلق تقدم ناحية المرأة محنية الرأس يخاطبها في صوتٍ خشن:
-إنتي يا ست، بتدوري على حد هنا؟
من ورائه وقفت "فردوس"، وحاولت تبين ماهية هذه المرأة الدخيلة، حينما رفعت وجهها الذابل للأعلى، استحوذ الذهول المشوب بالصدمة على قسماتها، في التو تحركت ناحيتها لتنظر إليها عن قربٍ وهي تنادي في غير تصديقٍ:
-"تهــــــــــاني"!
بثيابٍ قديمة مهترئة، وقلب ممزق، ووجه لا يغطيه إلا صنوف القهر والهوان، استطردت هذه المكلومة الذليلة تتكلم بغير عقلٍ، وكأنه هو الآخر سلب منها، لتصير فاقدة لكل شيء تمنت الظفر به ذات يومٍ:
-خدوا مني عيالي، وفلوسي، ورموني في الشارع ......................................... !!!
................................................
-تمت-
لو خلصتي الرواية دي وعايزة تقرأيي رواية تانية بنرشحلك الرواية دي جدا ومتأكدين انها هتعجبك 👇