رواية حرر هواك فالحب بات معلنا هي رواية رومانسية والرواية من تأليف الكاتبة تسنيم المرشدي
رواية حرر هواك فالحب بات معلنا من الفصل الاول للاخير بقلم تسنيم المرشدي
في أحد الأحياء الهادئة، يقف أمام مرآته يضبط ربطة عنقه بقامة منتصبة شامخة، انتهى من عقد نهايتها عِند حلقه فبات وسيم المظهر أكثر جاذبية عن ثيابه المعتادة.
رفع أنامله وتخلل بها خصلات شعره السوداء الناعمة ليعيد انتصابها من جديد، مد يده والتقط قنينة عِطره، دعس على جزء منها فتناثر العطر على أنحاء متفرقة من حُلته السوداء.
أعاد وضعها على "التسريحة" ثم اختلس النظر إلى مظهره للمرة الأخيرة قبل خروجه من الغرفة، أخرج تنهيدة قبل أن يولي صورته فى المرآة ظهره وتوجه نحو الباب، أدار مقبضه على مهلٍ فشيء ما يمنعه من الخروج وكأنه مقيد بالأصفاد.
حرر أصفاده بفتحه للباب الذي أصدر صريراً عالياً فانتبهت له والدته وبخطوات راكضة توجهت ناحيته، اتسعت شفتيها مُشكلة ابتسامة عـ.ـذ.بة حين رأته يطل عليها بتلك الجاذبية المبالغة.
رفعت ذراعها وملست على كتفه بكف يدها مبدية إعجابها الشـ.ـديد به:
_ بسم الله ما شاءالله، ربنا يحميك من العين يا حبيبي
تشـ.ـدق فظهرت ابتسامته الهادئة التي أسرت قلب والدته من فرط جمالها، أراد مشاكستها فهتف:
_ دا أنا أتغر على كدا
بنبرة سريعة عفوية ردت على كلمـ.ـا.ته بحُب:
_ ويليق بيك الغرور يا حبيبي، ويكون معاك الحق كمان، أنت مش شايف طلتك ولا إيه، شبه البدر في تمامه ربنا يسعد قلبك يارب
انحنى على يدها التي تناولها وطبع قُبلة عليها ثم عاد لفرد قامته، جاب المكان من حوله وعاد بأنظاره على والدته المنحنية لكِبر عمرها وبفضولٍ قام بسؤالها:
_ العريس فين؟
أشارت بعينيها إلى بابٍ ما وأردفت:
_ لسه مخرجش من أوضته، تحب أستعجله؟
أبدى رفضه بإيماءة من رأسه كما أوضح عِلته:
_ لأ، سبيه على راحته، المأذون لسه موصلش
أولاها ظهره وصوب بصره على باب غرفةٍ أخرى، حرك قدmيه ناحيتها بخُطى مُتريثة، وقف أمام الباب ثم كور أصابعه فاختفت في كفه وبهدوءٍ طرقه ووقف في إنتظار فتحه.
تقوس ثغره بإبتسامة عـ.ـذ.بة حين رآها تظهر من خلف باب غرفتها بفستانها الأبيض الرقيق، اتسع ثغرها فور رؤيته وبحماس شـ.ـديد إستدارت بجسدها حول نفسها لتريه معالم الفستان كاملاً متسائلة بتلهف لسماع رأيه:
_ إيه رأيك؟
وقف يتابع تصرفها وكأنه يراها بالتصوير البطيء، لمعت عيناه بوميض مختلف فـطلتها كانت مُزهرة تليق بكونها عروس.
حدجها بنظراته التي يشع منهما السعادة العارمة قبل أن يهتف بنبرته الرخيمة:
_ مكنتش عارف إن القمر هيزورنا النهاردة!
عضت هي على شفاها السُفلى بحياء كما أخفضت رأسها راسمة بسمة لا تتعدى شفاها فجذب هو انتباهها بسؤاله:
_ جاهزة؟
رفعت بصرها عليه وكأنه أسقط أعلاها حجارة هائلة الحجم، أخرجت زفيراً قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة..
غمز إليها مع حركة سريعه من رأسه وهو يردد بعدm فِهم:
_ المأذون على وصول
خفق قلبها بتوجس، لم تشعر بذاك الخوف الذي اجتاحها من قبل فهي على حافة العزوبية، سوف تبدل حياتها السابقة كاملةً بحياة أخرى وهي حياة الزوجية!!
شعرت بغصة مريرة في حلقها فابتلعت لعابها لعلها تتخلص منها، انتبهت على صوت من خلفها يهتف بحميمية:
_ إزيك؟
غض بصره عنها ثم استأذن بلطافة وغادر بينما استدارت هي بجسدها ورمقت صديقتها بنظرات مشتعله وبإقتضاب هدرت بها:
_ أنتِ مالك بيه يا رخمة؟ بتحرجيه ليه؟
انفجرت الآخرى ضاحكة بميوعة وأجابتها مازحة:
_ بحب أشوفه وهو مكسوف
احتقن وجهها بغيظ ولم تسمح لها بافتعال المزيد من السخافات حيث صاحت بها مندفعة:
_ ملكيش دعوة بيه، أنتِ فاهمة؟!
تشـ.ـدقت الأخرى بفمها قبل أن تردف مستاءة:
_ في إيه؟ مغلطتش في البخاري يعني وبعدين دا مجرد...
قاطعتها محذرة إياها:
_ هااا
وضعت صديقتها راحة يدها على فمها مانعة لسانها من استرسال الحديث الذي يسلب رونقها فتوجهت الأخرى إلى مرآتها تتفحص فستانها ووجها الذي إزداد جمالاً بتلك الزينة التى لا تعتاد وضعها إلا لو استحق الأمر.
في الخارج،
رحب بالمأذون بحفاوة وكذلك بعض الحضور الذي قام بدعوتهم، دعا المأذون لأريكة ما تتوسط الردهة، أشار لوالدته على باب إحدى الغرف فتفهمت ما يشير إليه وبخُطى متعرقلة سارت إليها، طرقت الباب قبل أن تدلف لغرفتها التي وضع ولدها يده عليها اليوم حتى يتجهز بحرية لتخبره بحضور المأذون:
_ المأذون وصل يا حبيبي، يلا أخرج مش عايزينه يستنى كتير
استدار بجسده ليظهر مظهره الحسِن الذي خفق قلب والدته إثره، اقتربت منه وعينيها تلمع بمزيج من المشاعر المختلفة في تلك الأثناء، قامت بتقبيله وهي تردد بشجن:
_ ربنا يحميك يابني، استنى لما أرقيك قبل ما تخرج
وضعت كف يدها على رأسه وبدأت تتلوا بعض الآيات أسفل ضحكاته التي لا تتوقف على تصرفها، انتهت من تلاوة الآيات ثم تراجعت للخلف سامحه له بالذهاب:
_ والوقتي تقدر تخرج
حرك رأسه بإستنكار، ثم أخذ بيدها لترافقه للخارج، اقترب منه الجميع فور ظهوره حيث تلقى التهنيئات من الأصدقاء والأقارب وكذلك الجيران، نهض شقيقه عن مقعده سامحاً له بالجلوس بينما توجه هو إلى باب غرفة العروس وطرقه فظهرت هي بعد ثوانٍ قليلة فأخبرها قائلاً:
_ يلا إحنا مستنينك..
بوجهٍ جـ.ـا.مد خالي من المشاعر أماءت له بقبول ثم إستدارت بجسدها مولياه ظهرها وأخذت شهيقاً أزفرته على مهلٍ، دنت منها صديقتها وربتت على يدها داعمة لها:
_ متخافيش، أنا جنبك
تبادلا نظرات الإمتنان ثم خرجن كلتاهن برفقة بعضهن البعض، جلست هي إلى يسار المأذون تاركة مساحة بينهم بينما جلس العريس على يمينهما وعيناه لم تُرفع من عليها كما أن ابتسامته لم تختفي من على محياه منذ ظهورها
لم يشعر أحدهم بالعيون التي تراقب ما يحدث على بُعد، شعور مقيت يليه شعور بالفقد وكأنهم يسلبون روحٍ من جسدها، العيون تبكي في صمت فلا لهما الحق في إظهار آلامهم وليس من حقهم فعل أي شيء سوى مراقبة الأجواء في صمت..
***
في ظُلمة الليل الحالك لا يضيء المكان سوى ضوء القمر ونجوم السماء بالإضافة إلى النيران المتقدة من صُنع هذان العسكريان، يتوسطون صحراء سيناء الحبيبة يحاولون تدفئة أيديهم الممدودة بقُرب الحطب المشتعل، يعلوا أكتافهم أغطية ثقيلة.
تحدث أحدهم بتلعثم من بين أسنانه التي تحتك ببعضهم مُصدرة سيمفونية قوية تدل على حرارة جسده المنعدmة لشـ.ـدة برودة الطقس:
_ وأخيراً هنخلص من الممرمطة دي بكرة
تجلى الحـ.ـز.ن معالم وجه الآخر كما أنه أبدى نـ.ـد.مه بكلمـ.ـا.ته:
_ خلصنا خدmتنا ومعملناش حاجة نفتخر بيها، هخرج من هنا زي ما دخلت، محصلش اللي اتمنيته
قطب صديقه جبينه بغرابة فما الذي يمكنه فعله بجانب تأدية خدmة وطنه، سأله مباشرةً حين لم يصل إلى ما يعنيه:
_ وأنت عايز تعمل إيه أكتر من اللي عملناه؟
رفع نظريه إلى الأعلى رامقاً السماء بأمنية لطالما
كانت حُلمه ودافعه الأساسي لتأدية واجبه الوطني:
_ الشهادة!، اتمنيت أنولها قبل ما خدmتي تخلص
فغر فاهه وطالعه بأعين جاحظة، لم يستوعب أمنيته، لقد تفاجئ حقاً بها، حرك رأسه مستنكراً تلك الأمنية الغريبة وعاتبه بإزدراء:
_ أحمد، أنت اتجننت؟ بتتمنى المـ.ـو.ت؟
عدل "أحمد" على كلمة "مـ.ـو.ت" وشرح له اعتقاده:
_ عايز الشهادة، فيه فرق وفرق كبير كمان، زي السما والأرض كدا، على الأقل كنت هضمن دخول الجنة بدل العيشة في حياة بتجبرنا نمشي في طريق المعاصي والفِتن، بندخل معاها في سباق طويل إما أزهق وأستسلم أو تدوس عليا من غير رحمة، ونفضل كدا في سباق إسمه الحياة، صراع مش بينتهي، أنا مش عايز كل المعاناة دي، أنا عايز أقابل ربنا وأنا شهيد عشان يسامحني على أي حاجة عملتها، حد يكره إنه ينول الشهادة؟
رمق "أحمد" صديقه بطرف عينيه وسأله مواصلاً:
_ أنت تكره إنك تمـ.ـو.ت شهيد يا يوسف؟
أسرع "يوسف" في نفي سؤاله معللاً أسبابه:
_ طبعاً لأ، المسألة بس إني عندي عيلة، كل ما يخطر على بالي إني ممكن أمـ.ـو.ت وأسيبهم بخاف، وأدعي ربنا إنه يبـ.ـارك في عمري عشانهم، بسأل نفسي إزاي هيقدروا يعيشوا من غيري، أمي وأخويا الصغير اللي يدوب ١٢سنة هيقدر يسد مكاني لو مت؟ هيشيل مسؤولية كبيرة زي دي وهو في عمره دا؟
بخاف يشقوا لو مكنش موجود بينهم، عشان كدا بخاف من المـ.ـو.ت جداً
تفهم "أحمد" سبب "يوسف" في عدm توافقه مع أعتقاده لكنه لن يقتنع وعارضه برزانة:
_ ما أنا كمان عندي عيلة، أمي وإخواتي التؤام، يدوب عندهم عشر سنين، بس ربنا موجود دايماً، مش هينساهم وهما في أمانته حتى لو كنت حي أو مـ.ـيـ.ـت
لوى "يوسف" شفتيه للجانب ساخراً على حديثهما:
_ عارف إنك نكدت عليا والنهاردة عيد ميلادي!
اتسعت حدقتاي "أحمد" بذهول، شكل إبتسامة نادmة وطلب منه السماح:
_ بجد، أنا آسف يا جو مكنتش أعرف، كل سنة وأنت طيب، تمـ.ـيـ.ـت كام سنة؟
أجابه صديقه وهو يحرك العصا التي بيده في الرمال مدوناً عليها عُمره:
_ وأنت طيب يا أبو حميد، تمـ.ـيـ.ـت الـ ٢٣سنة
كاد "أحمد" أن يتابع حوراهما إلا أن "يوسف" قد مد ذراعه له موحياً إليه بإشارة تحثه على الإمتناع عن الحديث، صمت أحمد حين شعر بشيء مريب يحدث، صغى كليهما إلى صوت أقدام على بعد مسافة قريبة منهم.
أشار يوسف بعينيه إلى كتيبة الخدmة التي يقومون بحراستها، فاستشف الآخر ما يريد فعله، عادا كليهما إلى الكتيبة زاحفين لكي لا يراهم الدخلاء، تابع "يوسف" زحفه بخفة وكذلك فعل "أحمد" الذي تبعه في هدوء.
اتسعت حدقتاي أحمد حين شعر بشيء صلب قد لامس كعب قدmه، ابتلع ريقه وتجرأ على الإلتفاف ليرى من هذا، جحظت عينيه بصدmة حين رآى رجلاً عريض المنكبين له لحية طويلة مبالغة وشارب يغطي فمه، يطالعه بسودتاه بتقزز مرسوم على تقاسيمه.
_ "أحمد"
هتف "يوسف" بإسمه حين لم يجد صديقه خلفه، تفاجئ بتلك العربة الربع نقل التي تستقل على مقربة منهما ناهيك عن ذاك الرجل الذي يقف أمام صديقه المستلقي أرضاً حتماً إنهما من يتحدثون بإسم الدين وهم لا يفقهون عنه شيئاً.
وجه "يوسف" سلاحه نحو ذلك الرجل لكن هيهات لسرعة بنيته فلقد سحب سلاحه من على كتفه وصوبه نحوه يوسف، ثوانٍ قليلة كادت أن تُنهي بحياته إلا أن "أحمد" قد ركل الرجل بقدmه فسقط السلاح من يده.
وقف بقامة منتصبة وداهم الرجل، قيد حركته بوضعه لذراعيه خلف ظهره، عاد برأسه للخلف قليلاً ثم بعزم ما يملك من قوة لكمه برأسه، أوسعه ضـ.ـر.باً فسألت الدmاء من فم الرجل، اقترب منهم "يوسف" لكنه فوجئ بتحرك السيارة نحو صديقه فصاح محذراً:
_ أحمد، خد بالك
التفت أحمد لينظر إلى السيارة فاستطاع الرجل فك قيده ثم تنحى مهرولاً إلى الجانب فتابع شريكه قيادته للسيارة بأقصى سرعة لديه ولم يؤثر به الطلقات النارية التي يطـ.ـلقها يوسف على سيارته.
صدر صوت يقشعر له الأبدان حين دعست الإطارات على جسد "أحمد"، لم يتوقف السائق عن القيادة بل فر هارباً ومن معه الذي قفز في صندوق السيارة الخلفي محتمياً بجدارها.
لم يتوقف "يوسف" عن إطـ.ـلا.ق النيران حتى نفذت ذخيرته، ألقى ما معه أرضاً حين تأكد من هروبهم وصوب بصره على تلك البقعة الحمراء التي حاوطت صديقه، انتزع قلبه في تلك الأثناء ورجف جسده بشـ.ـدة.
ضعفت ساقيه ولم يقدر على الوقوف فانحنى ببدنه حتى عانق رمال الأرض وعينيه مازالت على صديقه، يريد الوصول إليه لكنه لا يعلم كيف؟!
يسمع صدى أنفاسه المتهدجة وكأنها تتردد في المكان بسبب هدوئه وفرط قوة أنفاسه، جمع جزءً من قوته ورفع جسده عن الأرض قليلاً باستناده على كفوف يده وركبيته، تابع حبوه حتى وصل إلى صديقه الذي ينازع المـ.ـو.ت.
حمداً لله أنه لازال على قيد الحياة، فقد ازدهر أملاً داخله حين استمع لوتيرة أنفاسه، انحنى عليه بخوف شـ.ـديد لتلك الحالة التي كان عليها وهمس بنبرة تكاد تُسمع:
_ أحمد، أنت كويس؟
يشعر بالألم الشـ.ـديد في كل أنش وثغره بجسده، روحه تسلب منه بتهمل، يشعر بالإنزعاج المفرط فهو يريد أن يقابل خالقه سريعاً حتى يشكره على تحقيقه لأمنيته الوحيدة.
_ "أهلي"
كانت تلك آخر كلمـ.ـا.ته وكأنه يوصي صديقه بعائلته، عادت الروح إلى بـ.ـارئها فصرخ يوسف بألم الفراق:
_ لأ لأ، لسه بدري أوي، متمشيش أبوس إيدك، قوم يا أحمد عشان خاطري، عيلتك مستنية رجوعك ليهم بكرة، مينفعش تمشي وتسيب و.جـ.ـع فراقك يا أحمد
طيب قولي هبلغهم بمـ.ـو.تك إزاي؟
هقولهم اللي كنتوا بتستنوه مـ.ـا.ت؟
قوم أحمد قوم
***
_ "يوسف ذكريا الراوي"
_ "بنادي عليك يا عسكري"
أنتبه يوسف على مناداة أحد الظباط له، وقف بقامة منحنية وعبوس مشكلاً على تعابيره ورد عليه:
_ "نعم"
بعملية وحزم أمره الظابط:
_ اللوا أيمن عايزك
أماء له "يوسف" بقبول ثم ولج الظابط غرفة اللواء، تبعه "يوسف" إلى الداخل ولم يستطيع النظر في عيني من بالغرفة، فكان الحـ.ـز.ن يعم قلبه وينعكس على وجهه.
سمح له اللواء بالجلوس بهدوء فلا يريد أن يزيد من همه:
_ اتفضل أقعد يا يوسف
جلس "يوسف" ولازال منكس الرأس، وزع اللواء نظريه على الظابط الكائن معهم وبين "يوسف" ووجه حديثه إليه:
_ البقاء لله، أكيد صاحبك في مكان أحسن دلوقتي
فرك "يوسف" أصابعه بإرتباك وأجاب على تعزية اللواء بآسى:
_ اللي مهون فراقه يا فنـ.ـد.م إنها كانت أمنيته، بس و.جـ.ـع الفراق صعب أوي، أحمد مكنش مجرد زميل..
فرت دmعة على مقلتيه أسرع يوسف في مسحها قبل أن يراها أحد لكن لم يستطيع النجاح فكان قد رأه اللواء وحاول التخفيف من عليه:
_ متخبيش دmـ.ـو.عك يابني، إحنا في الآخر بشر وعندنا مشاعر لازم نخرجها سواء كانت حلوة أو وحشة، وبالنسبة للي اتعلمته هنا أنك لازم تمسك مشاعرك خلاص انساه، أتمنالك التـ.ـو.فيق في حياتك الجاية
باختصار أجابه:
_ شكراً لحضرتك
استأذن منه حين تأكد أنه ليس بحاجة إليه، عاد إلى عنبره ولملم أشيائه في حقيبة ظهره ثم وجه بصره على فراش صديقه الذي بات فارغاً، تقوس ثغره بإبتسامة متحسرة على ما قضاه سوياً.
حضر زملائه حين علموا بعودته، اقتربوا منه وقاموا بتعزيته ودعوا الله أن يصبر قلبه ويلهمه الصبر والسلوان، ودعهم جميعاً ثم غادر الكتيبة مع صديقه "الشهيد" في سيارة أُحضِرت خصيصاً لنقله إلى بلدته.
***
في أحد القرى الريفية البسيطة، قامت بأداء صلاة الفجر ثم بدأت في تحضير ما لذ وطاب لفلذة كبدها، إبنها البكري رب منزلهم، صنعت له جميع الأطعمة التي يحبها وتشتهيها نفسه، كما أنها أوصت أحد شباب البلدة بحضور فرقة موسيقية التى تحيي حفلات الزفاف لكي تستقبل غاليها استقبال حافل.
انتهت من الأعمال التي رتبت لفعلها ثم جلست على الأريكة الهذيلة التي جار عليها الزمن وترك أثره في خشبها وباتت ضعيفة هاشة، مالت برأسها على راحة يدها مستندة بمرفقه على جدار الأريكة في انتظار عودة ولدها.
" أحمد جه يا ماما؟"
تسائلت الصغيرة ذات العشر أعوام متلهفة لعودته، أعدلت السيدة من ميل رأسها مجيبة إياها بفروغ صبر:
_ لسه موصلش يا حبيبتي، روحي دوري على أخوكي "علي" ومترجعيش إلا بيه، عشان يكون في استقبال أخوه أول ما يوصل بالسلامة
أماءت لها بقبول فهذا ما تريده "التسكع" بعيداً عن المنزل، فذلك من الممنوعات هنا في القرية، وأن تُحرم الفتيات من اللعب منذ عمر التاسعة لاعتقادهم أن هذا عار لعائلتها وفي المستقبل لن يتقدm أحد لخِطبتها.
بعد مدة غفت السيدة مكانها فلقد طال الإنتظار كثيراً، انتفضت من مكانها حين صغت إلى سؤال إحداهن:
_ أحمد لسه موصلش يا خالة إجلال؟
تشـ.ـدقت "إجلال" متهكمة وأجابتها بنفاذ صبر:
_ لا يا سعاد لسة، ربنا يرجعه بالسلامة يارب
انتبهت كلتاهن على مكابح سيارت الشرطة التى لم تتوقف صافرتهم مُعلنا عن وصولهم، نهضت "إجلال" عن مقعدها وقد شعرت بالريبة داخلها ناهيك عن تلك الوخزة في قلبها فزدات رعـ.ـباً، لا تعلم لما هي باتت مذعورة لكنها تشعر بعدm الراحة فور رؤيتها لسيارات الشرطة.
خرجت من شرودها على صوت "سعاد" وعينيها مازالت معلقة على السيارة التي تقترب منهن وكأن منزلها المقصود:
_ يا تري دول جاين لمين؟
لم تجيبها فلم يكن لديها الشجاعة الكافية لتجاريها في الحديث، وضعت يدها على قلبها في انتظار سماع ما هو الأسوء على الإطـ.ـلا.ق، توقفت السيارت أمام المنزل ثم ترجل منها بعض الظباط متسائلين عن منزل ما.
اجتمع أغلب أهالي القرية إثر وجود الشرطة في المكان ليعلموا سبب وجودهم، توجهت الأنظار جميعها على السيدة "إجلال" التي رجف جسدها وقُبض قلبها حين رأتهم يقتربون بخطاها منها.
وقف أمامها أحد الظباط ذات الرتُبة العالية والمكانة المرموقة وبهدوءٍ يسبق العاصفة أخبرها:
_ أنتِ إجلال السيد والدة العسكري أحمد نعمان فاضل؟
بصعوبة بالغة قابلتها في الحركة أماءت له مؤكدة هويتها فتابع هو ما عليه إخبـ.ـاره:
_ أنا اللوا أيمن البسيوني، البقاء لله يا أمي، إبنك نحتسبه شهيد بإذن لله
صراخ دون غيره دوى في رأسها، تريد العويل لكن لسانها قد شل تماماً، توقف عقلها فور تلقيها الخبر وشعرت بأن حركة جسدها قد تقيدت، تجمدت مكانها فقط تطالع من هم حولها في سكون مريب لم يشعر به البعض من خلف أقاويل الواقفين مثل:
_ لا حول ولا قوه إلا بالله ربنا يرحمه
_ دا كان طيب أوي
_ يا حبة عيني يابني، دا لسه صغير أوي على المـ.ـو.ت
_ ربنا يستر على أمه
_ نحتسبه شهيد إن شاء الله
شعرت السيدة "إجلال" بهزة قوية لم تعلم هوية فاعلها، فقط كلمـ.ـا.ت القائد يتردد صداها داخل عقلها لا تسمع أياً مما يتناولوه من حولها، تحاول ابنتها اختراق جدار عقلها لتأتي بإجابة تطمئنها لكنها تفشل في جذب انتباه والدتها فتابعت هزها بقوة أكبر:
_ مين دول يا ماما، في إيه؟
ارتفع صراخ الفتاة بتوجس شـ.ـديد حين سقطت والدتها مغشي عليها:
_ ماما، قومي
تدخل شقيقها هاتفاً بذعر تملكه فور سقوط والدته:
_ ماما ردي عليا يا ماما
اقترب منه أحد أهالي البلدة مبعداً إياه عن والدته:
_ تعالى معايا يا علي نستلم جثة أخوك الشهيد، والحريم هتساعد الست إجلال
"جثمان وشهيد"
ماذا يهذي هذا الرجل، دفعه علي بقوته الصغيرة وظل يطالع من هم حوله بذهول، فعقله الصغير مازال لا يستوعب عن ماذا يتحدثون، اقترب منه القائد وأحاطه بذراعه وبهدوءٍ قال:
_ تعالى معايا
سار معه علي وهو لا يعلم وجهته لكنه ارتاب هيئته وخصيصاً زيه الرسمي بينما اقتربت بعض النسوة من السيدة "إجلال" يحاولون إيفاقتها بشتى الطرق.
أشار القائد إلى "علي" بالصعود إلى أحد السيارات القاطنة في المكان، أمر عسكري كان يجلس بجوار الصندوق الخشبي أن يفتحه وبالفعل امتثل لأمره ووضع غطاء الصندوق جانباً فظهرت ملامح "أحمد" جيداً.
وضع "علي" كلتى يديه على فمه مانعاً خروج شهقاته القوية أمام الجميع، بأعين جاحظة ظل يطالع شقيقه وهو لا يصدق أنه بالفعل قد مـ.ـا.ت، أنه جثة كما أخبره ذلك الشرطي.
زم شفتيه التي ترتجف بشـ.ـدة محاولاً السيطرة على عبراته لكن ألمه كان أكبر من أن يمنع بكائه في الخروج، سقطت عبراته على مقليته ومازالت عينيه مثبتة على أخيه، لا يقدر على فعل شيء سوى مطالعته دون إبداء ردة فعل.
في الخلف يحاول "يوسف" الصمود قدر المستطاع أمام ما يجري أمام مرأى عينيه دون أن يبكي، مشهد الفتاة وهي تجسي على ركبتيها تتوسل والدتها أن تنهض يـ.ـؤ.لم قلبه، وقوف توأمها أمام شقيقه الأكبر مصدوماً من حاله يزيد من ألم جوفه، شعر بالإختناق يجتاجه بسبب بكائه الذي يحشره داخله، كتم أنفاسه بصدmة كبيرة اعتلت وجهه حين هتفت إمرأة من النسوة المحاوطين للسيدة "إجلال":
_ لا حول ولا قوه إلا بالله الست إجلال مـ.ـا.تت!!
حالة من السكون حلت لبرهة، فالجميع الآن بين ذهولاٍ وعدm استيعاب، مزيج من الخوف والرغبة في أن يكون ذلك كابوساً لا أكثر.
أخرجهم عويل الصغيرة وهي تهز والدتها بقوة تتوسلها بألا تتركها وحيدة، لم تكف عن النواح ولم ينجحن النسوة في تهدئتها بل كانت تزداد تمرداً كلما حاولوا إبعادها عن والدتها.
ترجل "علي" من السيارة بعدmا أيقن أنه عليه مسايرة ما يحدث لكونه الرجل الوحيد الأن وعائل شقيقته، على الرغم من صِغر عمره إلا أنه عزم أن يكون جديراً بهذا الدور المفاجئ.
توجه ناحية شقيقته وأحاط كتفيها بذراعه ثم توجه بها داخل المنزل ومنه إلى غرفتها، أرغمها على الجلوس على الفراش وأشار إليها بالصمت فلم تطيل فيما تفعله وامتثلت لأمره دون مجهود منه.
عاد إلى الخارج وقام بمساعدة رجـ.ـال الشرطة وبعضاً من أهالى البلدة في توصيل أحبته إلى مثواهم الأخير ومن ثم عاد برفقة القائد الذي حرص على عدm مغادرة المكان قبل أن يسلمهم لأحد أقاربهم.
"عايزين نسلم الأولاد لأهلهم، هما فين؟"
صاح "أيمن" غاضباً حين لم يرى من الأقارب حاضرين، توجه إليه الحاج "حسان" من كبـ.ـار البلدة وقام بالرد عليه:
_ عندهم خال ودا مكنش على علاقة كويسة معاهم، كان بينهم مشاكل كتيرة على الورث، وعندهم عمين بس واحد فيهم متـ.ـو.في والتاني مسافر برا
نفخ "أيمن" بضجر بائن وحاول الوصول إلى خالهم بقوله:
_ حد يعرفني مكان بيت خالهم، وأنا هروح له بنفسي أتكلم معاه وأسلمه الأولاد
أعطاه "حسان" عنوان خالهم فانصرف "أيمن" برفقة رجـ.ـاله ويوسف متجهين إلى المنزل المقصود، توقفت السيارات خلف بعضهم أمام المنزل ثم ترجلا "أيمن" و"يوسف" وسارا خلف بعضهم نحو الباب الذي طرقه "أيمن" بقوة.
فُتح الباب بعد لحظات من قِبل رجل سمين يرتدي سُترة بيضاء وسروال قطني واسع بعض الشيء، حدجهم بنظرات مرتابة حين رأى سيارات الشرطة وكذلك الزي الذي يرتديه أيمن، حمحم وسألهم بتلعثم ونظراته تمرر بين الواقفين:
_ في إيه يا باشا؟
بحزم ونبرة جادة عرف "أيمن" عن هويته:
_ أنا اللوا أيمن البسيوني، الست إجلال أخت حضرتك اتوفت النهاردة وأبنها أحمد استشهد إمبـ.ـارح وبناءً عليه جاي أسلمك الأولاد بما أنك خالهم الوحيد
الأن فهم الأمر، حرك رأسه حين أطمن قلبه لعدm وجود أمراً يدينه ثم فرد قامته المنحنية وبجمودٍ أبدى لامبالاة لحديثه:
_ آه لا الله يرحم الجميع، بص يا باشا أنا معنديش اخوات ومعرفش أنت بتتكلم عن مين، هما ميهمونيش وأنا مش هستلم عيال حد
كاد أن يغلق الباب في وجههم إلا أن "أيمن" لحق به وبملامح غاضبة انفعل عليه:
_ أنت بني آدm حقير، فين شهامتك ومروءتك؟، دا أنا بقولك أختك وابنها مـ.ـا.توا وأنت تقولي ميهمونيش؟!
قلب الرجل عينيه بإزدراء وحدثه بفتورٍ:
_ أيوة ميهمونيش، خدهم أنت وربيهم
لم يستطيع "أيمن" كبح غضبه تلك المرة، اقترب منه وكاد أن يفتك به إلا أن تَدخُل "يوسف" منعه من الوصول إليه، وقف "يوسف" حائلاً بينهما وحاول تهدئة روعه:
_ أهدى يا أيمن بيه، مينفعش اللي حضرتك بتعمله دا
نهره أيمن بعصبية بالغة:
_ أنت مش سامع الحقير دا بيقول إيه؟
انتبه أيمن لخروج سيدة في مقتبل الثلاثينات تبدوا أنها زوجته، قامت بترديد بعض الكلمـ.ـا.ت في أذنه وبعد ذلك لاحظ الجميع هدوء الرجل وتحول حالته:
_ رجعت في كلامي، خلاص هاخد العيال
لم يطمئن يوسف لتلك الموافقة المفاجأة فمن يراه قبل ثوانٍ يظن أنه بلا قلب فما حدث في تلك الدقائق المعدودة لكي يبدي موافقته برعايتهم حتماً هناك ثمة حقارة ستُحاك ما إن أطمئن ذلك الرجل بذهاب رجـ.ـال الشرطة.
انسحب أيمن ورجـ.ـاله بينما لم يبرح يوسف القرية قبل أن يتأكد بنفسه من رعاية الرجل للأطفال، انتظر حتى تأكد من ذهاب السيارات وعاد إلى المنزل لا يعلم كيفية الوثوق في ذاك الرجل، في النهاية هما وصية صديقه وواجب عليه الإطمئنان عليهم.
شعر بالتعب ينهال منه بسبب عدm نومه مدة طويلة ناهيك عن كل الأحداث التي سلبت طاقته كاملة، جلس أرضاً أسفل نافذة المنزل ولم يشعر بعينيه التى زاغت في النوم، قلق على نبرة غاضبة تصيح عالياً:
_ أنا مش عارف بس إزاي سمعت كلامك وأخدت العيال دول، أنا هعمل بيهم إيه دلوقتي؟
أخفضت زوجته من نبرتها وبدهاء ماكر أردفت:
_ كان لازم توافق عشان الظابط يمشي من هنا، ودلوقتي تخرجهم من بيتي حالاً، أنا مبربيش عيال حد، خدهم وروح أرميهم قدام أي مـ.ـيـ.ـتيم وتعالى بسرعة من غير ما حد يشوفك
ظهرت إبتسامة خبيثة لدهاء زوجته اللامحدود وتمتم مفتخراً بها:
_ بحسدك على أفكارك الخبيثة دي يابت، أنا هروح أرميهم في مكان بعيد عن هنا وأرجع قبل ما الشمس تشرق ويشوفني حد من أهل البلد
كان يصغي لحوارهما بذهول شـ.ـديد أهناك بشر بتلك الأخلاق المتدنية؟، حمد الله على عدm ذهابه وبقائه في الوسط، تخفى يوسف خلف أحد الأشجار المجاورة للمنزل، انتظر خروج ذلك الرجل البغيض وتبعه حارصاً على عدm انتباه الآخر له، بعد سير بالأقدام ما يقرب على الثلاثون دقيقة وصلا الرجل إلى مرداه.
"دار البدور لإعالة الأيتام"
قرأ يوسف المدون على اليافطة الورقية التي تعلو باب ذاك المبني العريق، شعر لوهلة بأنه سيهدm إن مرت عليه ريح عاتية بسبب قِدmه.
سحب الرجل يديه من بين كفوفهم الصغيرة ثم أولاهما ظهره ليعود حيثما جاء، تبعته الصغيرة متسائلة في خوف:
_ أنت رايح فين يا خالي وسايبنا لوحدنا في الضلمة دي؟
لم يتعب نفسه في النظر إليهم وألقى مافي جوفه على نفس وضعه:
_ هرجع مكان ما جيت، استنوا أنتوا هنا لما حد يلاقيكم أو كلاب السكك تيجي وتاكلكم، أنتوا مصـ يـ بـةوأنا مش مستعد أستحمل قرفكم
أنهى جملته وتابع سيره عائداً إلى منزله بينما جهشت الفتاة باكية بمرارة الفراق مختلطة بالخوف فالمكان شـ.ـديد الظلام من حولهما، هدوء مخيف خشيته كثيراً، حاول "علي" تهدئة روعها على الرغم من خوفه الشـ.ـديد هو الآخر، عانقها بقوة وملس على خصلاتها بحنو دون حديث.
صرخت الفتاة عالياً حين شعرت بظلام داهمهما، استدار "علي" بمروءة لكي يحمي شقيقته من ذاك الدخيل، أوقفها خلفه ونظر إليه فشعر بأنه سبق ورأى تلك الملامح من قبل، نعم لقد تذكره أنه كان برفقة رجـ.ـال الشرطة على ما يبدوا أنه واحد منهم.
_ "تعالوا معايا"
أردفها يوسف بعدmا حسم بألا يعود من دونهما، قابل جمودٍ مصحوب بالخوف في ملامحهما فأراد طمأنتهم ناحيته:
_ متخافوش أنا صاحب أخوكم أحمد الله يرحمه، وهو اللي قالي أهتم بيكم لو حصله أي حاجة، يلا تعالوا معايا هنرجع مع بعض للبيت عندي
شهقت الفتاة بذعر وكأنه اقترف خطأ فادح، اقتربت من أخيها وهمست له لكن نبرتها كانت واضحة ليوسف:
_ أمي قالتلي مروحش مع حد غريب ولا أطلع بيتهم
أسرع يوسف في توضيح سوء الفهم الحادث بقوله:
_ متقلقيش أنا مش قاعد في البيت لوحدي، معايا أمي وأخويا الصغير في نفس سنكم، وبعدين أخوكي معاكي دا مش كفاية؟
اختبئت الفتاة خلف أخيها بخوف فلم يجد يوسف ما يفعله ليطمئن قلبها، أولاهما ظهره وطالع السماء لعله يأتي بفكرةٍ يمكنها إقناعهما، تنهد بضجر بائن فلا أفكارٍ مناسبة لديه في تلك الأثناء.
بعد مرور عدت دقائق راودته فكرة تمنى نجاحها وبدأ على الفور في تنفيذها، بحث عن هاتفه في جيبه، كان مغلقا حتماً أثار القلق في قلب والدته الآن، لكنها بالتأكيد ستلتمس له العذر إن علمت بما مر عليه منذ البـ.ـارحة.
هاتفها على الفور حين أعيد تشغيل الهاتف، جائه صوتها القلق من الجانب الآخر:
_ أنت فين يا يوسف؟ وقافل موبايلك ليه؟ أنا قلقت عليك وخوفت يكون حصلك حاجة
أخذ نفساً قبل أن يردف بنبرة مرهقة:
_ أنا كويس يا أمي، هحكيلك اللي حصل لما أرجع إن شاء الله
اقترب من الصغيران وتعمد فتح مكبر الصوت وتابع استرساله وعينيه معلقة على الفتاة حتى يبث فيها الطمأنينة:
_ بالمناسبة يا أمي، معايا ضيوف وبقترح عليهم يرجعوا معايا البيت وهما محرجين ومش عارف أعمل إيه الوقتي عشان أقنعهم؟
أسرعت والدته هاتفة بإسيتاء واضح:
_ إحراج إيه بس، دا لو الأرض مشالتهمش أشيلهم فوق راسي، ناولهم الموبايل لما أتكلم معاهم أنا، بس قولي الأول مين دول أنا أعرفهم؟
شعر يوسف بالراحة من خلف كلمـ.ـا.ت والدته العفوية التي نجحت في تبخر القلق من عيناي الفتاة، لقد استشف ذلك حين أزاحت يدها من على ذراع شقيقها .
أعاد وضع الهاتف على أذنه كما أغلق المكبر وأجابها ممتناً:
_ لا مت عـ.ـر.فيهمش يا أمي، بس أنتِ هتحبيهم أوي، أنا هقفل دلوقتي متقلقيش عليا، قدامي حوالي ساعتين وأوصل إن شاء الله
أنهى الإتصال وأعاد النظر إليهما، مد يده لهما وشجعهم على العودة معه:
_ عرفتوا إني مش لوحدي، يلا بينا نمشي قبل ما القطر يفوتنا
اقتربت الفتاة أولاً فكانت دوماً ما تتحدث هي وتبادر في فعل كل شيء عكس أخيها تماماً، صامت لا يتحدث منذ أن رآه، حتماً من أثر الصدmة، عزم يوسف بأن يحادثه لكن أولاً عليهما العودة إلى الديار ليكون معه على انفراد.
أمسك كليهما بيديه فصاح يوسف وهو لا يدري وجهتهم الصحيحة:
_ أنا مش عارف الطرق هنا، لو ممكن تعرفوني الطريق اللي نرجع منه لبيتكم عشان نلم هدومكم قبل ما نمشي
سحب "علي" يده من بين يدي يوسف وتقدm بخطوات راكضة إلى الأمام، أسرع يوسف في اللحاق به لكي لا يفقده محذراً:
_ استنى يا علي، ممكن نتوه من بعض
أنتبه على صوت الفتاة وهي تحلل سبب ركض أخيها:
_ هو هيرجع بينا للبيت، علي عارف الطرق كلها، أنا معرفش كتير زيه
أماء لها يوسف بتفهم ثم أسرع من خطواته لكي يلاحق خطوات الفتى، عادوا إلى ديارهم فوقف يوسف يطالع الباب بخيبة أمل أخرى، فكيف سيفتحه الآن بالتأكيد لن يكـ.ـسره!
تأفف بضجر فكلما شعر بأنهما قد اجتازا خطوة يعود إليها من جديد، صاح متسائلاً لربما يملكون حلاً:
_ هنفتح الباب إزاي؟
هرولت الفتاة نحو البساط الكائن أمام الباب وسحبت من أسفله مفتاح المنزل ثم قامت بإعطائه ليوسف مرددة:
_ ماما بتحط مفتاح تحت المشاية عشان لو نسينا المفتاح في البيت
رمقها يوسف بنظرات مشفقة على حالهم الذي تبدل تماماً، حاول ألا يتأثر كثيراً فهناك قطار عليهم لحاقه قبل أن أن يمر ميعاده، أسرع ناحية الباب وقام بفتحه ثم استدار إليهما وحثهم على الإسراع:
_ هاتوا اللي هتحتاجوه معاكم بس ياريت بسرعة
هرولت الفتاة أولاً إلى غرفتها بينما لاحظ يوسف عدm تحرك الصبي وعينيه مصوبة على نقطة ما خلفه، التفت برأسه ليرى على ماذا ينظر فتفاجئ بالأطعمة الموضوعة على الطاولة، يبدوا أنه كان هناك استقبال حافل ينتظر صديقه رحمة الله عليه.
شعر بغصة مريرة في حلقه كما شعر بحرارة العبرات التى سقطت كالشلال على مقلتيه حـ.ـز.ناً على رفيقه، لقد كان عاماً فقط من وقت تعارفهم إلا انه التمس فيه مروءة وشهامة أحمد، لقد كان حقاً خير صديق.
مسح عبراته بأنامله ثم أعاد النظر إلى علي، دنى منه وربت على كتفه مآزرا إياه في محنته:
_ عايزك تعتبرني أخوك، أنا موجود على طول لو كنت محتاج تتكلم
اكتفى علي برمقه بنظرات جـ.ـا.مدة، حاول يوسف مساعدته فقال:
_ يلا وريني أوضتك فين عشان أساعدك في تحضير شنطتك
توجه علي إلى غرفته فتبعه يوسف، طالعها بآسى وحسرة حين اكتشف أنها غرفة مشتركة له ولأخيه، ساعده بما استطاع فعله وكان يختلس النظر على الصورة الفوتوغرافية الموضوعة أعلى الكومود من حين لآخر وهو يدعوا له بالرحمة.
أنهى ثلاثتهم تجهيز مستلزمـ.ـا.تهم ووقفوا في منتصف الردهة يطالعون المنزل للمرة الأخيرة، ابتسم يوسف حين جائته فكرة ما وعزم على تنفيذها لكن لن تحدث إلا بمساعدة الصِغار.
تنهد وبنبرة متحمسة وجه حديثه لهما:
_ عايز منكم تساعدوني في لم الأكل قبل ما يبوظ
تدخلت الفتاة متسائلة في فضول:
_ هنعمل بيه إيه؟
وضح لها يوسف ما يريد فعله مختصراً:
_ خدوا اللي عايزينه من الأكل عشان تاكلوه وإحنا راجعين في القطر، والباقي هنوزعه على المحتاجين
تحمست الفتاة لما أخبرها به وهللت عالياً:
_ ونطلب منهم يدعوا لماما وأحمد؟
تلألأت العبرات في عيناي يوسف مشفقاً عليها، أخذ شهيقاً عميق وحاول استعادة نفسه سريعاً وأعاد ترديد كلمـ.ـا.تها كتأكيد لها:
_ ونطلب منهم يدعوا لمامتك وأحمد الله يرحمهم
ابتسمت له برقة ثم شرع ثلاثتهم في وضع الأطعمة في أكياس بلاستيكية وقاموا بوضع جميعها في حقيبة قماشية تعود للسيدة إجلال كانت تستخدmها لوضع الخضراوات والفاكهة فيها حين تقوم بشرائهم حتى يسهل عليها حملهم.
أحكم يوسف من إغلاق باب المنزل جيداً ثم تابع سيره متجهاً إلى محطة القطار التي دله على طريقها "علي" دون حديث فقط يسبقهم بخطواته وهم يتبعانه.
حل الصمت مدة طويلة قبل أن تقطعه الفتاة بسؤالها:
_ ليه خالي سابنا في نص الطريق ومشى؟ مش هو اللي فاضل لينا والمفروض يحمينا؟
توقف يوسف عن السير والتفت برأسه إليها وطالعها لوقت، لقد ذكرته بسؤالها عما غاب عن ذهنه، فغر فاهه وقام بسؤالهم مستفسراً:
↚
" كان فيه واحد قال للوا أيمن إن ليكم عم عايش برا، صح؟"
كان سؤال يوسف للصغار وبالأخص الفتاة لأنه على عِلم بأنها أول من ستجيبه، أماءت له مؤكدة وأردفت:
_ أيوة، كان أحمد بيخلينا نكلمه على النت في السايبر
أزهر أملاً داخل يوسف بعد كلمـ.ـا.تها، حتماً العلاقة بينهما قوية لطلاما حرص أحمد على ودِه من آن لآخر، تنهد بـ.ـارتياح شـ.ـديد حين شعر أنه على حافة تسليم أمانته لصاحبها.
حمحم ووزع أنظاره بينهما قبل أن يردف متسائلاً بجدية:
_ فين مكان السايبر دا؟
اكتفت الفتاة برفع كتفيها مبدية عدm عِلمها بينما صوب يوسف نظريه على الفتى الذي تابع سيره فاستشف أنه ذاهب إلى هناك، أمسك بيد الفتاة وأسرع خطاه خلفه وبعد مرور دقائق معدودة وصلا إلى المكان المطلوب.
تأفف يوسف بضيق ولعن سذاجته بحدة:
_ أكيد مقفول، الساعة تلاتة الفجر كنت مستني إيه يعني؟!
أوصد عينيه للحظات قبل أن يواصل أسئلته:
_ طيب فين بيت صاحب السايبر؟ قريب من هنا؟
رفع "علي" رأسه للأعلى كما رفع ذراعه وأشار إلى المنزل المقابل لهم فتفهم يوسف أنه نفسه منزل مالك الصالة الإلكترونية، حاول التحلي ببعض الجرأة أو ربما الوقاحة، بالله كيف سيطرق أبواب العالم في تلك الساعة المتأخرة من الليل؟، لكنه مضطر لفعل ذلك وللضرورة أحكام.
أخذ نفساً عميق ثم أمرهم بنفاذ صبر:
_ تعالوا معايا بس من غير دوشة لو سمحتم عشان منزعجش الناس
وافقوه فسبقهم هو إلى الدور الكائن به الرجل، لا يعلم كيف سيتحلى بتلك الوقاحة لكنه ذكر نفسه بأنه مضطر ولولا ذلك لم يكن ليفعلها، ابتلع ريقه ثم كور يده وطرق الباب بخفة وأزاد من طرقه بقوة أكبر.
انتظر عدة دقائق حتى رأى إضاءة خافتة قد تسللت من زجاج الباب فعلم أن أحدهم قد استيقظ من غفوته، كتم أنفاسه إستعداداً لتلك المواجهة الصعبة، زفر أنفاسه حين ظهر شاباً في أواخر العشرينات من عمره بملامح جـ.ـا.مدة إرتخت رويداً رويداً حين رأى الصغار.
عاد ببصره على يوسف وسأله مستفسراً:
_ نعم، أساعدكم إزاي؟
حمحم يوسف وعرف عن هويته أولاً قبل أن يطلب مراده:
_ أنا يوسف زمي..
قاطعه الشاب بقوله:
_ عارف أنت مين، شوفتك النهاردة في الجنازة، أكيد أنت واحد من الظباط اللي كانوا حاضرين
لم يعارضه يوسف وفضل تركه على اعتقاده فربما هذا يساعدهم في الوصول أسرع إلى مرادهم، بآسف معانق للخجل تحدث يوسف:
_ أنا بعتذر جداً عشان جاي لحضرتك في وقت متأخر، بس هما قالولي إنهم بيتواصلوا مع عمهم من عندك، وأنا محتاج أوصله ضروري
تفهم الشاث الوضع لكنه شرح له صعوبة الوصول إليه:
_ ولا يهمك مفيش مشكلة، بس الموضوع مش سهل زي ما أنت فاكر، أحمد الله يرحمه كان بيتواصل معاه على الفيس بوك وطبعاً أنت عارف إن الإيميل بيحتاج باسورد وبريد إلكتروني عشان يفتح وأنا معرفهمش، كنت أتمنى أساعدكم بس أنت شايف مش في أيدي حاجة
نكس يوسف رأسه بحـ.ـز.ن شـ.ـديد ثم شكره ممتناً:
_ ولا يهمك، بعتذر منك مرة تانية على الإزعاج
أولاه يوسف ظهره موجهاً حديثه للصغار:
_ يلا بينا عشان نلحق القطر قبل ما يمشي
هبط ثلاثتهم درجتين من السُلم ثم توقفوا وعادوا بنظرهم إلى الشاب حين تذكر شيئا:
_ استنوا، أوقات الأجهزة عندي بتحفظ البريد الإلكتروني والباسورد، يارب نلاقيهم، استأذن منك بس لحظة أغير هدومي وأرجع لك
تقوس ثغر يوسف ببسمة لم تتعدى شفتاه فلم يريد خلق أملاً جديد داخله ويتخبر إن لم يصل إلى شيء، ارتدى الشاب ثيابه سريعاً ثم هبط معهم، ولج صالته وأشار لهم على إحدى الأجهزة هاتفاً:
_ دا الجهاز اللي أحمد كان بيستخدmه على طول
قام بتشغيل الحاسوب ثم ردد حين دَوُن كلمة فيسبوك وردد قبل تجربة دخوله:
_ بسم الله الرحمن الرحيم
دَون بداية إسم أحمد فاتسعت حدقتيه حين رأى كلمة السر والبريد الإلكتروني مازالوا محتفظان على الحاسوب، هلل في سعادة بالغة:
_ الكمبيوتر لسه محتفظ بالبريد الإلكتروني والباسورد
أوصد يوسف عينيه في سعادة دقت طبول قلبه وحمد ربه داخله على وصوله لأول الطريق، قاموا بفتح صفحة المرحوم أحمد وبعد بحث طال لمدة نجحوا في التعرف على صفحة عمهم الإلكترونية، قام يوسف بتصويرها على هاتفه لكي يصل إليها بسهولة فور عودته إلى المنزل كما أنه أخذ رقم الشاب لربما يحتاج إليه لاحقاً.
شكره مراراً وتكراراً على نُبله ثم غادروا المكان ليتجهوا إلى المحطة مهرولين بخطاهم فلم يعد هناك سوى عشر دقائق على تحرك القطار وإن فاتهم سيضطرون إلى الإنتظار للصباح حتى يأتي ميعاد القطار الآخر.
قطع يوسف التذاكر فور وصولهم وركض ثلاثتهم إلى القطار الذي ارتفعت صافرته معلنا عن تحركه، قفز الفتى في أول باب رآه فتفاجئ بسرعة القطار التي تضاعفت، خفق قلبه رعـ.ـباً أن لا يلحق به يوسف وشقيقته.
أسرع يوسف من ركضه لكي يصل إلى الباب بينما لم تنجح الفتاة في مسايرة خطواته السريعة، أضطر إلى حملها وتابع ركضه، مد "علي" يده ليُمسك بشقيقته فرفضت هي إعطائه يدها خشية أن تسقط أسفل عجلات القطار.
شعرت بالذعر من الموقف ولم يكن أمامها سوى التشبث في عنق يوسف ثم دعت العنان لعبراتها في السقوط متوجسة خيفة بألا يلحقوا بـعلي، تمزق قلب يوسف إرباً حين شعر بنبضاتها القوية التي وصلت إليه وعزم على فعلها من أجل أن يعيد لها أمانها مجدداً.
ركض وركض حتى بات أمام الباب مباشرةً، أمسك به وشـ.ـد من قبضته عليه لكي لا يفلت يده وباليد الأخرى وضع الفتاة على حافة الباب فأسرع "علي" في التقاطها من بين يده جاذباً إياها للخلف حتى يسهل عليه الصعود دون عائق أمامه.
صمد يوسف وهو يصارع حياته بقرب عجلات القطار، فقط يريد الوصول من أجلهم، تفاجئ بالفتاة تشير إليه ونظريها في جانب معاكس له ثم ظهر شابان قاما بمساعدته في الصعود، استند يوسف برأسه على خلفية المقعد يلتقط أنفاسه التى هـ.ـر.بت من رئتيه.
أنتبه إلى سؤال أحد الشباب الواقفين أمامه:
_ أنت كويس؟
رفع نظريه إليهم وأردف ممتناً:
_ الحمد لله شكراً جداً ليكم
هتف أحدهم ماحياً التكلف:
_ على إيه دا واجبنا
عادوا إلى أماكنهم بينما نظر يوسف إلى الفتاة التي لها الفضل في إنقاذ حياته، زم شفتيه ممتناً لها ثم فرد ذراعيه ووجه حديثه لهما:
_ تعالوا..
جاءوه راكضين واستكانوا بين أضلعه، شعور الأمان ليس إلا قد راود ثلاثتهم في تلك الأثناء حتى غفوا على نفس وضعهم دون مجهود فاليوم كان طويل ومتعب للغاية.
***
"التذاكر لو سمحت، التذاكر يا أستاذ "
هتف الكُمثري عالياً ليثير انتباه يوسف، فتح عينيه ببطئ فتفاجئ بمن أمامه، لوهلة لم يعلم أين هو، انتفض فجاءة من مكانه فتسبب في ذُعر الصغار.
وزع يوسف أنظاره عليهم وهو يعيد آخر شيء يتذكره، زفر أنفاسه على مهلٍ يهدئ من روعه فذعر مرة أخرى لصياح الكُمثري:
_ يلا يا أستاذ ورايا ناس غيرك
رمقه يوسف بإزدراء هاتفاً بحنق:
_ أنت عايز إيه؟
بإقتضاب وملامح عابسة أجابه:
_ التذاكر
حرك يوسف رأسه بتفهم ثم ناوله التذاكر التي كانت سبباً في ذُعر الجميع، تأكد من صحوة التوأمان وسألهم باهتمام:
_ جعانين؟
أماءا له فحثهما على تناول الطعام بنبرة مرحة:
_ وأنا كمان جعان أوي، وروني معاكم إيه؟
سحبت الفتاة حقيبتها الخاصة وقامت بفتحها، أخذت منها بعض الأطعمة وبدأت توزعها بينهما بالتساوي، شرع ثلاثتهم في الأكل حتى فرغت جميع الأطعمة لديهم، توقف القطار في آخر محطته وكانت تلك وجهة يوسف المقصودة.
نهض من جلسته وأعاد وضع حقيبة ظهره في الخلف وكذلك فعلوا التوأمان، اصطحبهم خارج المحطة ثم أوقف سيارة أجرة وأخبره عن وجهته المقصود الوصول إليها.
مرت خمسة عشر دقيقة حتى وصلا إلى الحي القاطن به، ترجل من السيارة ودفع الأجرة للسائق ثم ألقى نظرة سريعة على منطقته ومن ثم رفع رأسه يطالع منزلهم القديم وعلى الرغم من أنه يعتبر تراثاً إلا أنه بحال أفضل عن منازل حديثة الصنع.
هدوء دون غيره ينتشر في الأجواء، لم يستيقظ أحداً بعد فالوقت مازال باكراً للغاية، صعد الأدراج حتى توقف في الطابق الثاني فكان الأول يعود لجيرانهم، قرع الجرس ووقف في إنتظار فتحه من قِبل والدته التي تفاجئ بسرعة إجابتها عليه.
قطب جبينه بغرابة، ولاحظ عينيها المنتفخة فألقى بسؤاله بتوجس:
_ مالك يا أمي، عنيكي مالها وارمه كدا ليه؟
ابتسمت له لكي تطمأنه على حالها موضحة سبب تورم عينيها:
_ متقلقش يا حبيبي، دا بس من قلة النوم، معرفتش أنام وأنت لسه مرجعتش
وجهت بصرها على الصغار بغرابة من خلفه، فالتفت يوسف برأسه إليهم مشكلاً بسمة عـ.ـذ.بة على محياه وقال:
_ علي و...
توقف من تلقاء نفسه حين لاحظ أنه يجهل إسم الفتاة فأسرعت هي هاتفة بإسمها:
_ لينة
رفع يوسف حاجبيه مبدي إعجابه بلطافة الإسم:
_ لينة! أسمك جميل أوي
بحياء رددت:
_ شكراً
أعاد النظر إلى والدته ومن ثم أردف:
_ علي ولينة ضيوفنا يا أمي، اللي قولتلك عنهم في الموبايل
رحبت بهم والدته بحفاوة على الرغم من فضولها الذي إزداد أضعافاً لمعرفة هويتهم، دعتهم للدخول ثم أشار لهم يوسف للجلوس مستأذناً منهما بأخذ بعض المساحة له، ولج غرفة والدته التي انهالت عليه بالأسئلة القلقة:
_ مين دول يا يوسف وإيه الشنط اللي في أيديهم دي؟ وبيعملوا إيه في بيتي؟
تفاجئ يوسف بهذا الكم من الأسئلة، أستقلى على الفراش بتعب بائن وبدأ يقص عليها بدايةً من استشهاد رفيقه إلى لحظة وصولهم إلى المنزل وأنهى حديثه بقوله:
_ لسه بقى هكلم عمهم بس لما أنام شوية، يارب ميطلعش ندل هو كمان
دخلت السيدة في حالة لا يرثى لها بعدmا أخبرها عن الفجعة التى حدثت وقلبت حياة التوأم رأساً على عِقب، بالله لن يكون هناك أعظم من ذلك ابتلاء لهم، لا تعلم ماذا دهاها لكنها تشعر بحُطام بقايا قلبها الذي كُسر حـ.ـز.ناً على ما أصاب الصِغار.
لم تستطيع منع عبراتها التي تحولت إلي بكاء مريرة متحسرة على حالهم:
_ يا حبايبي، كل الو.جـ.ـع دا كان من نصيبكم، فجاءة كدا لقوا نفسهم لوحدهم من غير أهل، ربنا يصبر قلوبهم يارب، دا أنا اللي مقربش ليهم لا من قريب ولا من بعيد قلبي واجعني لما حكيت لي اللي حصلهم، أومال هما بقى يعملوا إيه وهما شافوا مـ.ـو.ت أخوهم وأمهم في نفس الوقت؟
أستقام يوسف وطالعها بآسى شـ.ـديد، فهو نادm على إخبـ.ـارها بكل ذلك فهي شـ.ـديدة التأثر بأقل الأشياء سوءًا، لكنها في النهاية كانت ستعلم، تنهد ثم طلب منها بلطف:
_ لو سمحتي يا أمي، شوفيهم لو كانوا محتاجين حاجة لأن أنا معتش قادر أقف على رجلي، بقالي ٣ أيام منمتش
أخذت طلبه على الرحب والسعة، خرجت من الغرفة وتوجهت ناحيتهم مع رسمها لإبتسامة حزينة لما أصابهم، وقفت أمامهم وأردفت بحنو أمومي:
_ يوسف قالي إنكم ضيوف، معلش أعذروه لقلة ذوقه، أنتوا مش ضيوف أنتوا صحاب البيت
تفاجئ يوسف بسب والدته له فور خروجه من غرفتها، عقد ما بين حاجبيه وهتف بإقتضاب زائف:
_ سيبتك معاهم دقيقة بالظبط طلعت قليل الذوق، أومال هتعملي إيه لو كملتي عشر دقايق يا ميمي أكيد هتطرديني
انفجرت الفتاة ضاحكة على داعبته، ابتهج يوسف لضحكتها التي كان المتسبب بها، فهو يشعر اتجاههم بالشفقة الشـ.ـديدة ويريد فعل أي شيء لكي يسعدهم فقط، ها هي الفتاة قد نجح في رسم الضحكة على وجهها، ماذا عن حال الفتى الذي لم يتبدل كثيراً، مازال ملتزم بصمته ولابد أنه سيطول معه ذاك الوضع.
تابعت والدته بتعريف نفسها:
_ أنا إسمي ميمي، وممكن تنادوني ميمي من غير أبلة
ذُهل يوسف من كلمـ.ـا.تها فلم تسمح لهما يوماً بمناداتها دون لقب، هدر متعجباً مما وقع على مسامعه:
_ إيه؟ لا بقى دي تفرقة عنصـ.ـر.ية وأنا مش هقبل بيها أبداً
بمزاح شاكسته:
_ مش مهم يا حبيبي تقبل..
توجهت الأنظار على لينة التي قهقهت عالياً، رفع يوسف إحدى حاجبيها مستاءً:
_ عجبتك للدرجة دي؟
أماءت له مؤكدة فحرك رأسه في استنكار مصطنع، أخذ شهيقاً وأخرجه على مهل قبل أن يهتف:
_ تعالى معايا يا علي
نهض الفتى وتوجه ناحيته، بتلقائية عابثة نهضت توأمه لكن يوسف عارض تقربها بلطف:
_ خليكي يا لينة أنتِ مع أمي، إحنا شباب زي بعضينا
غمز إليها ليمحي أى حرج قد سببه لها أمامهم فعادت هي إلى جلستها بهدوء بينما أحاط يوسف كتف علي بذراعه واصطحبه إلى غرفته، أعتلى يوسف طرف الفراش، وأشار على الملاءة بجواره مشيراً إليه بالجلوس.
تقدm علي نحوه وجلس إلى جواره، تنهد يوسف قبل أن يخبره بما يريد:
_ اعتبرني أخوك من اللحظة دي، بس أنا عايز أطلب منك طلب..
التفت علي برأسه نحو يوسف الذي تابع مسترسلاً:
_ لازم تخرج اللي أنت كاتمه جواك، خرج مشاعرك، سكوتك دا مش هيحل حاجة بالعكس هيخـ.ـنـ.ـقك أكتر، عيط يا علي عشان ترتاح
مد يوسف ذراعه خلف علي وربت على ظهره بحنو وبهدوءٍ جذبه إلى حـ.ـضـ.ـنه وحثه على التفاعل معه لكي يكون في حال أفضل مما هو عليه:
_ عيط يا علي..
أحتاج الأمر إلى عشر دقائق لنجاحه لإخراج بكائه، ضمه يوسف بشـ.ـدة شاعراً بشهقاته القوية التي هزت كيانه، لم يحاول تهدئته قبل أن يخرج آلامه بنفسه.
حالة سكون حلت تدريجياً إلى أن هدأ علي تماماً، تراجع يوسف للخلف ناظراً إليه وسأله مهتماً:
_ حاسس إنك أحسن دلوقتي؟
أماء له الفتى فاعترض يوسف تصرفه هادراً:
_ متهزش راسك وتسكت، كلمني عايز أسمع صوتك
بعد تردد طال لبرهة همس:
_ أنا كويس..
إلتوى ثغر يوسف بإبتسامة سعيدة ثم ربت على كتفه مردداً:
_ أنا تعبان جداً ومحتاج أنام، تحب تنام جانبي؟
لم يكن هناك مجالاً لاعتراض علي فجسده منهك للغاية، لكنه أراد الإطمئنان أولاً على شقيقته فنظر تلقائياً نحو الباب، استشف يوسف ما يرمي إليه بنظراته وأردف مطمئناً إياه:
_ متقلقش هي مع ولدتي يعني هي في أمان
لم يبدي الولد ردة فعل فاستلقى يوسف على الفراش ومن ثم حث "علي "على النوم بجانبه، توجه نحوه وفي ثوانٍ قليلة قد بات كليهما في ثُبات عميق.
***
في الغرفة المجاورة، تجلس السيدة ميمي على طرف الفراش بينما تجلس الصغيرة أرضاً بين قدmيها موصدة العينين مستمتعة بتلك القشعريرة الناتجة عن تمشيط السيدة لخصلاتها الكستنائية المموجة
انتهت السيدة من صنع جدائل خصلاتها، ثم هتفت متسائلة في حماس:
_ قوليلي بقا إيه رأيك؟
ركضت لينا ناحية المرآة لتنظر إلى جديلتها حديثة الصُنع، اتسع ثغرها بإبتسامة رقيقة وهللت بسعادة طفولية:
_ جميلة أوي، شبه الضفيرة اللي كانت ماما بتعملهالي
أشفقت السيدة ميمي على حالها ثم فردت ذراعيها لها مشجعة إياها على أخذ عناق دافئ:
_ تعالي يا لينة
تقدmت الفتاة بخطوات راكضة نحوها إلى أن استكانت بين أضلعها، أوصدت عينيها وأطلقت العنان لعبراتها في السقوط هاتفة بحـ.ـز.ن:
_ليه ماما مشيت وسابتنا؟ هي مش عارفة إن معتش لينا غيرها
لم تستطيع السيدة ميمي التماسك أمام جملتها وجهشت باكية بألم شـ.ـديد قد شعرت به من خلف كلمـ.ـا.تها البريئة، حاولت استعادة رونقها لكي لا تزيد من عبئ الفتاة وهتفت محاولة التخفيف من عليها:
_ كلنا هنروح لربنا يا لينة، بس الفرق الوحيد إن فيه ناس مشيت قبلنا، وإن شاءالله نقابلهم في الجنة، ت عـ.ـر.في إن الجنة ربنا وصفها لينا إنها جميلة أوي، ادعي ربنا إنه يرزقنا دخولها يا حبيبتي
رفعت الفتاة رأسها لتقابل عيناي السيدة ميمي وهتفت داعية:
_ يارب ندخل الجنة عشان أشوف ماما وأحمد
زمت ميمي شفتيها بحـ.ـز.ن مصحوب بالتأثر الشـ.ـديد، لم يكن في مقدرتها سوى مأزرتها بإعادتها إلى صدرها وهتفت بنبرة حنونة:
_ إن شاءالله يا حبيبتي، بلا نامي شوية أكيد أنتِ تعبانة
لم تعارضها الفتاة بل حبوت على الفراش حتى وصلت إلى الوسادة واستندت عليها برأسها ثم أوصدت عينيها لكنها سرعان ما انتفضت من مكانها فتسائلت ميمي عن سبب ذعرها:
_ في إيه يا لينة بتجري كدا ليه؟
أخبرتها الفتاة وهي تبحث في حقيبتها عن شيء ما:
_ عروستي..
لم تفهم عليها السيدة ميمي إلا بعد أن رأت دmيتها ذات الشعر الذهبي التي كانت تمسك بها، عادت إليها لينة وقامت باحتضان دmيتها ثم جذبت يد ميمي ووضعت على رأسها وهمست لها:
_ اقرأيلي قرآن عشان أنام بسرعة زي ما ماما كانت بتقرأ لي
تشكلت إبتسامة عفوية على شفتي ميمي ورحبت بفكرتها للغاية، بدأت تتلوا بعضً من الآيات الكريمة التي تحفظها إلى أن شعرت بسكون وتيرة أنفاس الصغيرة فتأكدت أنها قد غفت، قامت بدسر الغطاء أعلاها ثم أخفضت من إضاءة الغرفة وانسحبت إلى الخارج بهدوء.
سارت نحو غرفةٍ ما وولجت إليها حتى وقفت أمام الفراش الكائن في آخرها، مالت بجسدها على ذاك النائم وقامت بهزه برفق إلى أن تمتم بنعاس:
_ سبيني أنام شوية كمان، لسه بدري
رفضت تركه معللة أسبابها:
_ قوم يا زياد، كفاية نوم، هتتأخر على المدرسة
لم يكترث لها فتوجهت بخطاها نحو النافذة وقامت بإزاحة الستائر من عليها أولاً ثم قامت بفتحها فتسلل الضوء عمودياً على عيناي زياد الذي تأفف بحنق:
_ بكره المدرسة، مش عايز أروح النهاردة، سبيني أكمل نوم
هتفت بصرامة لكنها حافظت على مستوى صوتها لكي لا تزعج من في المنزل:
_ لأ قولت لأ، قوم كفاية عليك كل النوم اللي نمته، أنا بجد زهقت مش معقول كل يوم كدا، أنا خارجة أحضر لك الفطار على لما تلبس هدومك بسرعة
أغلقت الباب فور انتهاء جملتها وتوجهت إلى المطبخ لكي تحضر له فطور، نهض الآخر متذمراً فلا يريد الذهاب بتاتاً، النوم أفضل بكثير من ذاك التعليم التي لا فائدة منه بالنسبة إليه.
بدل ثيابه إلى الزي المدرسي ذات القميص الأزرق والبنطال الجينز وكذلك قام بـ.ـارتداء جوربه الأبيض ثم انحسب من غرفته إلى الخارج فكانت والدته في إنتظاره أمام باب المطبخ حاملة بإحدى يدها شطيرة شهية وباليد الأخرى كوب من الحليب.
تأفف الولد بتزمجر، أوصد عينيه لبرهة ثم أعاد النظر إليها معاتباً بسخرية:
_ إيه دا يا ماما؟! شيفاني عيل صغير قدامك عشان تعمليلي سندوتشات وكوباية لبن؟، يا ماما أنا كبرت بقيت في إعدادي لو كنتي ناسية يعني
بلا مبالاة ونظرات يتوهج فيهما الإصرار:
_ مش هتروح في أي مكان قبل ما تاكل سندوتشاتك..
رفعت كوب الحليب وتابعت وعينيها يشع منهما التحدي:
_ وطبعاً كوباية اللبن، ولو طولت في الكلام هقوم أسلق لك بيضة زي ما كنت بعملك وأنت صغير
أسرع زياد في الركض نحوها ثم لَقِفَ منها كوب الحليب وقام بإحتساءه دفعه واحدة، أنزل يده ومسح على فمه بإهبامه ثم تمتم عالياً وهو يتناول منها الشطيرة:
_ هاكلها في المدرسة
حذرته بحزم:
_ لو مأكلتهاش العصفورة هتقولي
التفت زياد برأسه معلقاً بسخرية:
_ آه، ونسيتي تقوليلي إنها هتجري ورايا يوم القيامة
أكدت والدته بعفوية:
_ دا أكيد
انفجر زياد ضاحكاً ثم انسحب سريعاً بعدmا التقط حقيبة ظهره وغادر قبل أن ينال نصيباً من الترهات الصباحية التي لا تنتهي، عادت السيدة ميمي إلى المطبخ وقامت بإخراج دجاجة سمينة من الثلاجة لكي تقوم بطهيها حتى تُشبع بطون الصغار.
***
بعد مرور بضعة ساعات، استيقظ يوسف من غفوته ولازال يشعر بالنعاس مسيطراً عليه لعدm كفايته من النوم، تثائب بصوت عالٍ قطعه فور انتباهه لنوم علي بجانبه، نهض بحذر ثم خرج من غرفته باحثاً عن هاتفه الخلوي.
فرك عينيه فمازال النوم ينتابه، لم يصل إلى هاتفه بالسرعة التي ظنها فنادى بصوته الأجش على والدته:
_ مشوفتيش موبايلي يا أمي؟
أخرجت رأسها من باب المطبخ وأجابته بنبرة بعيدة:
_ أنت سيبته في أوضتي يا حبيبي
حرك رأسه متذكراً مكانه، توجه نحو الغرفة واقتحمها دون تردد فلا يتذكر أن هناك من ينام في الغرفة، توجه نحو الفتاة وأعاد دسر الغطاء أعلاها ثم وقف يطالعها بشفقة وآسى شـ.ـديدين، فالفتى سَيُصلب جزعه يوماً ويكون رجلاً قادراً على تحمل مسؤولياته بنفسه، لكن ماذا عنها؟ فتاة يتيمة وحيدة بمفردها في الحياة، حتماً سيكون الله لطيفاً بها فإنها مؤنثة غالية.
زم يوسف شفتيه للجانب بتهكم فلا يملك فعل أي شيء يستطيع تعويضهما بها عن فراق أعزتهم، فأي عوضاً سيسد تلك الفجوة التي حدثت فجاءة وقلبت حياتهم الهادئة التي يملئها لعب الصغار ورائحة طعام الذي يُطهى بحب وفرحة لقاء الأخ أياماً من بين شهور عدة.
أخرج تنهيدة مهمومة ثم عاد للبحث عما جاء لأجله، أخذ هاتفه وبهدوءً أغلق باب الغرفة، استلقى على أقرب أريكة قابلته وهتف بالبسملة قبل أن يحاول التواصل مع عم الصغار.
أرسل له رسالة كان محتواها كالآتي:
( السلام عليكم، أنا يوسف الراوي زميل أحمد ابن أخوك، ياريت تتواصل معايا في أقرب فرصه عندك لضرورة الأمر )
أغلق هاتفه ووضعه جانباً ثم رفع نظريه للأعلى متمنياً بأن يجيبه في أقرب فرصة حتى يسترد أمانة شقيقة، أنتبه على صوت والدته المتسائلة:
_ إيه كل الأكل دا يا يوسف؟
نهض عن مقعده وبخطوات راكضة توجه إلى المطبخ، ضـ.ـر.ب جبينه براحة يده مستاءً من تناسيه الأمر:
_ أوف، نسيت خالص
رفع بصره على والدته بتزمجر مواصلاً بملامح غاضبة:
_ والدة أحمد الله يرحمها كانت طبخاه وأنا أخدته عشان نوزعه على المحتاحين في المحطة بس نسيت
رمقته ميمي شاعرة بكم الإحباط الذي سيطر عليه، تنهدت قبل أن تحاول التخفيف من على عاتقه:
_ متلومش نفسك يا حبيبي أنت ملكش ذنب، ومتزعلش كدا، إن شاءالله أعملك أحلى أكل وتوزعه زي ما كنت ناوي
شكل بسمة ممتنة على محياه وبحرج سألها:
_ منين بس يا أمي، معاش أبويا بيكفينا بالعافـ.ـية، هتجيبي الفلوس منين عشان الأكل؟
اقتربت منه وملست على كتفه بحنو أمومي وردت عليه بنبرة راضية:
_ الفلوس بتكفي وبيفيض كمان، متحملش هم أنت بس لحاجة وإن شاءالله ربك يدبرها
نكس رأسه بخجل وبعزيمة هتف:
_ أنا لازم ألاقي شغل بسرعة حتى لو كان عامل نضافة
ضـ.ـر.بت ميمي على صدرها فسببت الذُعر في قلب يوسف الذي هلل متسائلاً:
_ في إيه يا أمي؟
بعبوس أجابته بحنق:
_ عامل نضافة ايه يابني اللي بتتكلم عنه، أنت مكانك في شركة مش أي شغلانة كدا وخلاص، أنت دارس إدارة أعمال عشان تشتغل في الآخر أي حاجة؟!
تشـ.ـدق يوسف قبل أن يردف مقللاً من شأنه:
_ بالله عليكي يا أمي شهادتي هتنفعني بإيه؟ أنتِ مش شايفة اللي حواليكي، محدش بيشتغل بشهادته الأيام دي
تشكل التقزز على تقاسيم ميمي بسبب استسلامه وهدرت به شزراً:
_ دي حجة الكُسالة اللي زيك، اللي محاولوش أصلا ولا بيحاولوا مرة واتنين وتلاتة لغاية ما يوصلوا للي هما عايزنه في الآخر، أنت يا حبيبي مميز، بسم الله ما شاءالله عليك ذكي وعندك كاريزما مختلفة، أنت نسيت إنك كنت من الأوائل على دفعتك طول سنين الكلية؟
زفر يوسف أنفاسه على مهل ناهياً الحوار بقوله:
_ ربنا يسهل يا أمي
جذب انتباههم رنين هاتف السيدة ميمي التي أمرت ولدها قائلة:
_ لو سمحت يا يوسف ناولني الموبايل
أولاها ظهره ثم هرول بقدmيه خلف مصدر الرنين إلى أن جاء به فسألته بفضول:
_ مين اللي بيتصل؟
أجابها وهو يقلب عينيه:
_ هتكون مين يعني، الست إيمان!
غمزت إليه معدلة على تلقيبه بمكر:
_ إسمها مراتي المستقبلية
رفع يوسف شفتيه العُليا مستاءً مما تفوهته وصاح بإزدراء:
_ خدي يا ميمي موبايلك كدا، أنا غلطان أصلا إني وقفت أتكلم معاكي
مسحت ميمي يديها المتسخة في المنشفة التي تركتها على الطاولة الرخامية وأجابت على المتصلة بترحيب حار:
_ مونة حبيبتي، حشـ.ـتـ.ـيني و أوي يا قلب عمتك، أخبـ.ـاركم إيه
طالعت يوسف المستند على الباب بإبتسامة تشكلت فجاءة ومن ثم عادت لترد على الطرف الآخر:
_ أيوة يا حبيبتي وصل بالسلامة
صمت حل لبرهة تلاه ترحيب حافل:
_ البيت هينور بوجودكم، بلغي رمضان وهادية وأسامة سلامي على لما أشوفكم
أنهت الإتصال لتخبره بما دار بينهن فتفاجئت به يلحقها بكلمـ.ـا.ته:
_ خالك هيجي هو والأولاد يطمنوا عليك
أماءت له عدة مرات مؤكدة حديثه فرفع كتفيه بفتور وهو يتمتم بنذق:
_ إيه المتوقع بالله عليكي بعد المكالمة دي؟، حاسس إنهم في مرة هيجوا يتقدmولي رسمي
انفجرت والدته ضاحكة وتمتمت من بين ضحكها المستمر:
_ والله وأنا كمان حاسة كدا، مش بعيد عليهم
بالكاد سيطرت على نوبة ضحكها واسترسلت متابعة حين لم ترى في الأمر عائقاً:
_ وإيه المشكلة في كدا بس يا يوسف؟، كلنا متأكدين إنها بتحبك، فيها إيه لو اتقدmنا لها وعملنا خطوبة دلوقتي والجواز بعد ما تخلص دراستها، هي لسه قدامها سنتين تكون أنت قدرت تخلص حاجتك وكونت نفسك، والبنت مننا يعني مش هتطلب كتير
طالعها بأعين متسعة لا يصدق أنها رتبت الأمور بتلك السهولة، وبذهول شـ.ـديد هدر:
_ أيوة أيوة مننا وزيتنا في دقيقنا عارف أنا الأسطوانة دي، يا أمي أنتوا مش قادرين تشوفوا وجهة نظري، بنت أخوكي دي عمري ما شوفتها غير أختي، ولو كنتم مش مهتمين لكدا فدي مشكلتكم مش مشكلتي، وبعدين أنا لسه قدامي كتير أوي أعمله قبل ما أخد خطوة الجواز، أول حاجة محتاج شغل يناسبني، وبعد كدا أكون نفسي على مهلي وقبل ما أعمل الحاجتين دول مش هخضع للجواز من بنت أخوكي أو غيرها، ثم إن فيه حاجة أهم من كل دا أصلاً
أجبرت ميمي حواسها على الإنتباه جيد فتابع هو:
_ هعمل إيه لو مقدرتش أوصل لعم العيال اللي برا دي؟
لم تستطيع الرد عليه في اللحظة ذاتها بينما حرك رأسه مستنكراً تلك الظروف التي دقت بابه دون سابق إنذار فهتفت هي بقلة حيلة:
_ والله يا يوسف مش عارفة أقولك إيه، بس اللي أنا متأكدة منه إن لو إيمان مكنتش من نصيبك فدا خير ليكم أنتوا الاتنين، ومتحملش هم العيال إحنا نتكفل بيهم لو مقدرتش توصل لعمهم، إن شاء الله خير، رب الخير لا يأتي إلا بالخير
"يارب"
دعى يوسف ربه بينما أردفت هي بحنو:
_ أنا خلصت الأكل تحب أجيب لك تتغدى؟
بحماس حرك يوسف يده على بطنه بحركات دائرية شاعراً بالجوع:
_ ياريت، أنا واقع من الجوع
أشارت إليه بإصبعها قبل أن تخبره:
_ دقيقة بالظبط ويكون الأكل جاهز على السفرة
انسحب هو إلى الخارج وتفقد هاتفه على أملاٍ أن يكون هناك إجابة من الرجل، لكن تفقده بات دون فائدة، لم يستهين بالأمر وظل ممسكاً بهاتفه حتى لا يفوت وصول الرسالة إن جائته من الأساس.
***
انتهى يوسف من أداء صلاة العصر ثم تفاجئ باليد التى حاوطت عنقه، التفت ليرى هوية الفاعل فأبتسم عفويا ظاهراً غمزة وجنته اليُسرى مرحباً به:
_ حمدالله على سلامتك يا زيزو
بمشاكسة أجابه أخيه:
_ الله يسلمك يا دُفعة
قهقه يوسف ودعى له باللحاق به عاجلاً:
_ بكرة تدور الأيام والأدوار تتبدل ووقتها مش هرحمك تريقة، أصبر وأنت تشوف
شكل زياد بسمة سمجة على محياه وأخبره عما ينوي فعله:
_ أنا أصلا مش هروح الجيش
لكزه يوسف في صدره بقوة هاتفاً بحنق:
_ هه، على أساس إنه بمزاجك
غمز إليه زياد بتحدٍ وإصرار متوهجان في عيناه:
_ هتشوف وقتها
فر زياد هارباً من أمامه فلحق به يوسف وأرغمه على التوقف مستفسراً عن نواياه الخفية:
_ يعني إيه الهبل اللي أنت بتقوله دا، الجيش بيعملك راجـ.ـل يالا، وبعدين تعالالي هنا أنت مش عايز تبقى راجـ.ـل وتفضل طول عمرك عيل مراهق ولا إيه؟
تملص زياد من بين يدي يوسف وهو يصيح عالياً بازدراء بائن:
_ خلاص بقى يا يوسف
صُوبت حدقتاه على نقطة ما خلف يوسف وردد متسائلاً:
_ مين دي؟
توجهت الأنظار على النقطة ذاتها الذي يسير إليها زياد بحدقتيه، ابتسم لها يوسف وحثها على المجيء:
_ تعالي يا لينة لما أعرفك على أخويا
لكزه زياد في كتفه بخفة هامساً بفضول:
_ بقولك مين دي؟
بدأ يوسف في تعريف هويتهم لبعضهما البعض وهو يشير عليهم بالتناوب:
_ لينة، زياد
مد زياد يده إليها ليصافحها فتراجعت للخلف ثم اقتربت من يوسف واختبئت خلف ساقيه فهي لا تعتاد التعامل مع الجنس الآخر من خلف تحذيرات والدتها المستمرة، قطب زياد جبينه بتهكم لفعلتها كما أنه لوى شفتيه للجانب معلقاً بالسخرية:
_ مالك كشيتي كدا؟ مش هاكلك يعني
نهره يوسف بحزم:
_ بطل قلة أدب يا زياد وروح على أوضتك وأنا جاي وراك حالاً، عايز أتكلم معاك
تجهمت تعابير الآخر وبعناد ساحق ردد:
_ أنا نازل ألعب تحت
أمسكه يوسف من ذراعه وشـ.ـد عليه بقوة لم يتحملها زياد فآنة بألم:
_ سبيني أنت بتعمل إيه؟
أعاد يوسف تكرار أمره بإصرار وشـ.ـدة:
_ أعمل اللي قولتلك عليه
تأفف زياد بنزق من تلك اللهجة الآمرة أمام فتاة في عمره، توجه إلى غرفته مطلقاً زمجرة واضحة لم يبالي لها يوسف فتلك هي مرحلة المراهقة وعليه أن يتعامل معه بحرص وحذر.
استدار بجسده نحو الصغيرة وأردف بنبرة هادئة عكس الذي يتحدث بها لتوه:
_ جعانة؟
ترددت كثيراً قبل أن تومئ برأسها مؤكدة سؤاله فنادى يوسف بنبرته الرخيمة على والدته وطلب أن تحضر للفتاة طعام حتى تُشبع معدتها بينما هو تقدm إلى غرفة شقيقه متوعداً لعدm احترامه أمام الفتاة حتى وإن كانت صغيرة العمر فعليه احترامه أمام نفسه أولاً قبل أن يحترمه أمام الجميع.
أغلق الباب بعدmا ولج إليه وبأعين يتوهج فيهما الوعيد هتف بحنق:
_ لو الموضوع دا اتكرر تاني ومسمعتش كلامي متبقاش تزعل من اللي هيحصل، لازم تحترمني قدام أي حد
لم يجيبه زياد بل ظل منكس الرأس وهو يعتلي الفراش عاقد ذراعيه معلناً تمرده، فصاح الآخر بغضب:
_ بكلمك رد عليا
"أسف، هعمل اللي أنت عايزه"
هتف بها زياد بعدm رضاء بينما توجه يوسف إليه وجلس أمامه ثم قص عليه مقتطفات مما حدث له في اليومين الماضيين معللاً وجود الصغار في منزلهم وأنهى جملته بتحذيره:
_ وطول ما هما موجودين هنا تعاملهم بذوق وأسلوب كويس، مش عايز مشاكل مفهوم؟
أماء له بقبول هاتفاً بتأثر لسماعه قصتهم:
_ مفهوم
أنتبه كليهما إلى قرع الجرس فتمتم يوسف مستاءً:
_ غزو التتار وصلوا
انفجرا كليهما ضاحكين ثم انسحب واحد تلو الآخر خارج الغرفة ليكونوا في استقبال خالهم وعائلته.
" أهلاً بيك يا رمضان ياخويا نورت، البيت نور بيكم والله يا هادية، نورتوا يا ولاد"
هتفت ميمي مرحبة بهم بحفاوة بينما علق يوسف ممازحاً:
_ إيه كل الأنوار دي، البيت هيفرقع من كتر النور يا أمي
اتسعت حدقتي ميمي عليه معاتبة إياه بنظراتها بينما لم يكترث هو لها فأجابه خاله بمرح:
_ لولا إن هزارك واحشني كنت رديت عليك، حمدالله على سلامتك يا يوسف
بإمتنان رد عليه:
_ الله يسلمك يا خالي
دعتهم ميمي إلى الجلوس في الصالون بينما رحبت به هادية بمبالغة لم يهضمها يوسف:
_ البيت نور مرة تانية برجوعك يا يوسف، عقبال ما تفاجئنا بخطوبتك قريب
أراد يوسف قطع أي ذرة تفكير لديها في خطب إبنتها المصون بقوله:
_ يبقى هتستنوا كتير، أنا مش بفكر في الجواز دلوقتي، في حاجات أهم تستحق أعطيها اهتمامي أكتر من الجواز في الوقت دا
علقت هادية مازحة:
_ فهمت وجهت نظرك يا يوسف، أنت مش عايز تستعجل وتقع في مصيبة
حاول يوسف التحلي بالقليل من الصبر لكي يواصل ذاك الحوار الغير مرحب به:
_ أكيد هتكون مصـ يـ بـةلو اتجوزت واحدة مش بحبها
تعمد النظر إلى إبنة خاله موحياً إليها رسالة بكلمـ.ـا.ته وتابع مالم ينهيه:
_ أنا يوم ما أنوي أتجوز عمري ما هتجوز غير اللي قلبي يدق لها وعقلي يختارها عشان تكون شريكة عمري وأحلامي، ودي أكيد مش هتكون مصـ يـ بـةزي ما بتقولي يا مرات خالي، ولغاية ما تظهر هي هعمل كل اللي في ايدي عشان يليق بمرات يوسف الراوي!
حديثه ألجم ألسنة هادية وإبنتها المبجلة، لم يعرفا مجالاً للرد عليه بعد أن أظهر إليهن أنها بعيدة كل البعد عن مخيلته، طالعته والدته بنظرات مشتعلة معاتبة لكلمـ.ـا.ته التي لم ترأف بالفتاة، وكعادته لم يكترث كثيراً فالأمر لا يعنيه.
بعد قليل جاءت لينا راكضة إلى السيدة ميمي وهتفت في حماس:
_ أنا خلصت الأكل..
توقفت عن الحديث حين رأت أناس تجهل هويتهم، شعرت بالحرج الشـ.ـديد فاحمرت وجنتيها خجلاً استشفه الجالسين، أرادت ميمي محي الخجل عنها حيث قالت مشجعة:
_ بالهنا والشفا يا حبيبتي، تعالي معايا اغسلي ايدك
وجهت بصرها علي أخيها ومن معه وقالت معتذرة:
_ بعد إذنكم ثانية
خرجت مع الفتاة بينما تسألت إيمان بفضول أنثوي:
_ مين البنت دي يا يوسف؟
_ "دي أخت واحد صاحبي*
تابعت إيمان بقية أسئلتها التي تدور في عقلها وتريد إجابات واضحة لهما:
_ وبتعمل إيه هنا؟
كز يوسف أسنانه بضيق لتدخلها فيما لا يعنيها، طالت مدة انتظار إجابته فتولى زياد مهمة الرد حيث أردف بعفوية:
_ يوسف جابها هي وأخوها لما عيلتهم مـ.ـا.توا
شعر رمضان بالشفقة لحالهم وسأله مستفسراً:
_ وأنت هتعمل معاهم إيه يا يوسف؟
أخبره يوسف ما ينتظره بفروغ صبر:
_ ليهم عم مسافر انجلترا هتواصل معاه وهبعتهم عنده
أومأ رمضان بفهم وردد بنبرة سوية:
_ ربنا يجازيك خير على اللي بتعمله يابني
حضرت الفتاة برفقة ميمي فتوجهت تلقائياً إلى يوسف الذي تنحى جانباً تاركاً لها مساحة كافية لتشاركه الأريكة، لم ترفع إيمان بصرها من عليهما فتلك الفتاة لم تروق لها مطلقاً.
رفعت لينة رأسها ناظرة إلى يوسف وألقت سؤالها باهتمام:
_ فين علي يا يوسف؟
أجابها بلُطف:
_ لسه نايم
أماءت له والتزمت الصمت بينما تدخلت إيمان بعدmا أصدرت شهقة قوية انتبه لها الجميع:
_ يوسف! إزاي تناديه كدا من غير أبيه، دا أكبر منك ولازم تحترميه ولا أنتِ متعلمتيش كدا في بيتكم؟!
تفاجئ يوسف بثورة إيمان التي لا داعي لها على الصغيرة ولم يستطيع منع نفسه دون أن يرد عليها يفحمها:
_ لينة تناديني زي ما تحب وبعدين أنا مش كبير لدرجة أبيه يعني
اتسعت مقلتي إيمان بصدmة حين عارضها يوسف فلم تحسب لذلك، حمحمت بحرج شـ.ـديد وحاولت تغير الحوار:
_ لو سمحتي يا لينة ممكن تجبيلي مية
أسرعت ميمي في النهوض فلحقتها لينة بقولها:
_ أنا عارفة طريق المية، هجيبها أنا
قابلتها ميمي بإبتسامة عفوية ورددت بخوف:
_ طيب يا حبيبتي بس خدي بالك وأنتِ راجعة بيها
أسرعت لينة إلى الخارج وعادت بعد ثوانٍ قليلة حاملة لزجاجة المياه بـيُمناها وبالأخرى كوباً زجاجياً، توجهت مباشرةً ناحية إيمان وأردفت:
_ اتفضلي يا أبيه
شهقت إيمان بصدmة ورددت بحنق مصحوب بالإستياء الشـ.ـديد:
_ نعم! إيه أبيه دي؟
شاكستها لينة قائلة:
_ أنتِ مش قولتيلي أنادي اللي أكبر مني أبيه
انفجرا يوسف وزياد مقهقهين عالياً كذلك لم تستطيع ميمي منع ضحكاتها على ما اقترفته الصغيرة، تجهمت تعابير إيمان وازدادت حنقاً من خلف ضحكات الجميع الذي يتناولنها سوياً.
انتفضت من مكانها ورفعت ذراعها للأعلى قاصدة صفعها لقلة احترامها فتلقت هي الصفعة الأقوى حين أمسك يوسف بيدها قبل أن تمس لينة، رمقها بنظرات احتقارية متوعدة فهتفت ميمي قبل أن يقع مكروهاً:
_ يوسف..
دفع يوسف بيدها بعيداً ثم جذب الفتاة من يدها وأولى الجميع ظهره وغادر دون استئذان، حمحمت ميمي وحاولت تلطيف الأجواء بخذى من تصرف ولدها الأرعن:
_ أعذروا يوسف معلش، هو لسه متأثر بمـ.ـو.ت زميله، دا اتقــ,تــل قدام عنيه وحضر مـ.ـو.ت أمهم لما يا حبة عيني عرفت إن ابنها مـ.ـا.ت، ومفضلش غير لينة وتوأمها اللي بقوا يتامى بين يوم وليلة..
لم يريد رمضان إلقاء اللوم عليه بمفرده حيث قال:
_ إيمان اللي بدأت بالغلط والمفروض مكنتش تعمل كدا، في الآخر دي طفلة ومينفعش بنتي الكبيرة العاقلة تمد إيدها عليها
تعمد رمضان النظر في عيني ابنته وهو يلقي اللوم معاتباً إياها، لاحظت هادية الأجواء المشحونة بينهما فحاولت تهوين الأمر:
_ خيراً إن شاء الله، هما كلهم في الآخر عيال في بعض
بوجه عابس ونبرة صارمة أمر أبنته:
_ لازم تعتذري ليوسف، إحنا مش جاين عشان نزعله
لم يكن هناك مجالاً للرفض فهذا أمر واجب تنفيذه وإلا حتماً ستُعـ.ـا.قب بحرمانها من إحدى هواياتها، لم تطيل إيمان الوقوف مكانها وانسحبت من بينهم إلى الخارج بخطى مهرولة غير مستقيمة، لم تبحث عنه طويلاً فكان جالساً برفقة الفتاة في الخارج.
حمحمت لتجذب انتباهه فامتعض يوسف حين لمح طيفها يقترب منه، وقفت أمامه وبنبرة جـ.ـا.مدة اعتذرت:
_ أنا آسفة، مكنتش أقصد
رفع يوسف بصره عليها وبجمودٍ في ملامحه أمرها:
_ متعتذريش ليا، المفروض تعتذري لـ لينة
صاحت إيمان مهللة بعدm استعياب لطلبه:
_ نعم؟ أعتذر لمين؟
لم يجيبها يوسف بل فضل رمقها بتحدٍ وإصرار إلى أن تجرأت إيمان هاتفة على مضضٍ:
_ أنا آسفة..
أولاتهما ظهرها فور اعتذارها وعادت إلى عائلتها بغضب مرسوم على تقاسيمها هاتفة بنبرة آمرة:
_ يلا نمشي..
نظر إليها والدها بعتاب لنبرتها الغير ملائمة فأخفضت من حِدة صوتها معللة أسباب ذهابها:
_ عندي جامعة بكرة بدري ولازم أنام بدري
لم يحب رمضان أن يطيل الزيارة بعد المشادة التي حدثت وفضل المغادرة، نهض أمراً زوجته أيضاً بالرحيل فصاحت ميمي بخجل واضح:
_ مرواح إيه بس، أنتوا لسه جاين حتى لسه مضايفتكوش
"إحنا صحاب البيت يا ميمي يختي مش ضيوف، كنا جاين نشوف يوسف والحمدلله اطمنا عليه، بالإذن إحنا
لم تعترض ميمي فإن كان هذا يريحهم فليكن، ودعتهم بحرج إلى الباب بينما انسحب يوسف إلى غرفته حين رأى الرد المنتظر قد وصل للتو.
تحدث مع الرجل في الهاتف وأخبره بالأحداث التي حدثت في الآونة الأخيرة ثم هدر مطالباً:
_ حضرتك هتبعت تاخدهم عندك امتى، عايز أسلم الأمانة اللي صاحبي وصاني عليها
أجابه الطرف الآخر قائلاً:
_ بس فيه شرط..
↚
"أنا مش هقدر أتحمل مسؤولية طفلين، فلوسي بتكفيني انا ومراتي وابني بالعافـ.ـية لدرجة إننا درسنا الموضوع واكتفينا بإبن واحد عشان نقدر نوفر له حياة مستواها كويس، بس ممكن أدبر أموري لرعاية طفل كمان لكن أكتر من كدا مقدرش، لو أخدت الإتنين هيكون ظلم ليهم وليا"
لحظة من الصمت سادت حين وقعت كلمـ.ـا.ته على آذان يوسف، طالع الفراغ أمامه محاولاً استيعاب ما يطالبه به، بائت محاولات استيعابه بالفشل الذريع فهو يرفض أطفالاً صغيرة خشية من عدm استطاعته للإنفاق عليه كأنه هو من يرزقهم!!
كادت أعصابه أن تنفلت لكنه صمد لكي يقنعه حتى وإن كلف الأمر التوسل إليه:
_ إيه اللي حضرتك بتقوله دا؟ أنا مش بقدm لك سلعة هتقبل تشتريها أو ترفضها، دول ولاد أخوك وأنت المسؤول قدامي عنهم، مفيش مجال إنك ترفض حد فيهم، وفي الآخر ياسيدي ربنا اللي بيبعت الرزق مش أنت زي ما أنت فاكر
قاطعه الآخر بعملية غير مقتنع بوجهة نظره:
_ أنا فاهم كويس اللي بتحاول توصله، بس البلد هنا ليها حسابات تانية غير اللي اتعودنا عليها في مصر، عندكم لو واحد احتاج لمساعدة هيلاقي اللي يمد له إيده ويساعده ومش واحد بس هيلاقي كتير أوي ساندينه وواقفين في ضهره لغاية ما يرجع زي الأول ويمكن أحسن، لكن هنا مفيش الكلام دا، تقدر تقولي وقتها إيه العمل لو مقدرتش أوفر لهم تعليم وآكل وشرب؟
أخذ يلتقط أنفاسه وتابع:
_ أنا بشتغل ليل نهار عشان ميجيش يوم مقدرش أوفر فيه أقل الحقوق لعيلتي، إحنا في عالم مختلف تماماً عنكم، مفيش مساعدة مفيش دعم حتى لو شافوك بتسف التراب، هنا تشتغل تاخد مقابل غير كدا مفيش مقابل تحت مسمى المساعدة، لو سمحت حاول تفهمني، أنا مش رافضهم بس أنا مش هقدر أعول طفلين زيادة فوق عيلتي، الوضع هيكون فوق طاقتي
بهجوم ونبرة صارمة صاح يوسف:
_ مش موافق حضرتك في الرأي نهائي، المسائل دي مش بتتشاف من منظورك دا، بتتشاف من منظور تاني إسمه صلة الرحم، هما عيلتك وولاد أخوك، وكل اللي يخصهم المفروض يهمك، أنت واجب عليك تحميهم وتفكر فيهم وفي مصيرهم لو اتفرقوا عن بعض بعد مـ.ـو.ت والدتهم وأخوهم، هما ملهمش غير بعض وأنت بعد ربنا، أنت آخر أمل ليهم، حضرتك ليه مش شايف كدا؟
صمت يوسف وحاول التحلي بالهدوء قدر المستطاع، أخفض من نبرته الحادة واسترسل متابعاً:
_ بعيداً عن كدا لنفترض إنه أي كلام من وجهة نظرك، أنت ناسي إن ربنا اللي بيرزق، بأي وجه حق ترفض واحد فيهم كأنك أنت اللي بتبعت رزقهم؟
بلا مبالاة قـ.ـا.تلة أردف الآخر:
_ لسه مش قادرين نوصل لنقطة مشتركة، واللي اتكلمنا فيه بنعيده تاني من غير حل في الآخر، أنا بعتذر منك بس مضطر إني أقفل لأن عندي شغل ضروري، ياريت تتفهم وضعي وأنا هستنى منك مكالمة تبلغني فيها قرارك، وعايز أعرفك إني متكفل بمصاريف سفر الطفل اللي هتبعته عندي
حالة من الذهول وعدm الإستيعاب تملكت يوسف وحاول إقناع عقله أن ما يتسامران به حقيقي، تابع الطرف الآخر حديثه قبل أن ينهي المكالمة بقوله:
_ آه قبل ما أقفل ياريت تبعت لي الولد عشان أنت عارف طبعاً إن مينفعش بنت وولد في نفس المكان، أكيد أنت فاهم بتكلم عن إيه؟ سلام..
انتهت المكالمة، شعر يوسف بنيران تأجج داخله من خلف كلمـ.ـا.ت ذاك المختل، كيف يتحدث بإسم الدين وهو بعيد كل البعد عنه، يخشى مكوث الفتاة مع ولده ولا يخشى مكوثها مع رجل غريب عنها، ألقى يوسف الهاتف أرضاً من فرط غضبه، في تلك الأثناء اقتحمت والدته غرفته بوجه ثائر على ما تسبب به:
_ أنت إزاي تتعامل مع بن.....
توقفت عن الحديث حين رأت حالته المذرية، قطبت جبينها بغرابة من أمره وأخفضت من نبرتها متسائلة عن سبب ثورته:
_ مالك في إيه؟
لم يجيبها فكان في حالة لا تمسح له بالنقاش، ظل يحرك قدmيه بضيق شـ.ـديد ناهيك عن أسنانه التي تحتك ببعضما بشـ.ـدة حتماً سيفتك بهم إن زاد من ضغطه عليهم لحظة أخرى، اعتلت ميمي الفراش بجواره وحاولت فهم الأمر منه:
_ قولي حصل إيه؟ على الأقل عرفني كنت بتتكلم مع مين؟
ابتلع ريقه وهو يعيد كلمـ.ـا.ت ذاك المختل في عقله، وبهدوءٍ يشوبه الغضب أخبرها:
_ دا عم لينة وعلي، بيقول إنه مش هيبعت ياخد غير علي بس..
التفت برأسه ناظراً إلى والدته والشر يتوهج من بؤبؤتيه وتابع بصدmة جلية على تعابيره ولهجته:
_ بيقول إنه مش هيقدر ياخد الإتنين، مش هيقدر يوفر لهم اللي محتاجينه، مش مهم مصير البنت إيه حتى لو اتشردت، بس المهم إنه يوفر حياة مستواها كويس ليه ولعيلته!!
عاد يطالع الفراغ الماثل أمامه وعقله يكاد يجن، تابع هتافه بتجهم يشوبه الإستياء:
_ الناس دي ملتهم إيه؟
خالهم ورماهم في الشارع ورجع لبيته عادي ومهتمش ممكن يحصلهم إيه، مأنبوش ضميره لحظة وحس بنـ.ـد.م ورجع لهم، والتاني فاكر إن وظيفته هي اللي بترزقه مش ربنا!
أكيد الناس دي متربوش على كلام ربنا اللي كبرنا عليه،
ميعرفوش قوله تعالى {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}
مش معقول يكونوا عارفين إن كل حاجة بإيد ربنا ويعملوا كدا
تشـ.ـدقت ميمي فكانت قليلة الحيلة لا تملك حتى مواسته، فهناك أناس بقلوبٍ جاحدة وتصرفات ظالمة لا يبرر لهم غلظتهم وعدm رحمتهم على الآخرين، أخرجت ميمي تنهيدة مهمومة فكم كان قلبها يعتصر حـ.ـز.ناً على الصغار وما أصاب رؤوسهم في عمرٍ صغير للغاية.
بعد تفكير لم يأخذ وقت طويل، حسمت أمرها فلن يكون هناك حلاً سوى ما يدور في عقلها، بكامل قواها هتفت بنبرتها الحنونة:
_ انا اتمنيت كتير إن ربنا يرزقني ببنت، بس حكمة ربنا إني أخلف ولدين والحمدلله رضيت، مش عارفة يمكن يبان كلامي غريب شوية بس حاسة إن اللي حصل للبنت دا سبب إني اعتبرها بنتي، عايزاها يا يوسف، لينة اللي اتمينتها كتير مش عايزاها تمشي، خليها تعيش وسطنا
لوهلة ظل يوسف يحدق بما هو أمامه دون وعي، فكيف يتخذونها بنتاً لهم وهناك من يعولها من أقاربها؟
عاد بأنظاره إلى والدته التى ابتسمت له تستحث قلبه على القبول، فما كان منه سوى الرضوخ لطلبها، فلن يسمح لها بالتشرد في النهاية هي أمانة صديقه وسيفعل ما في وسعه حتى يُأمن لها حياة كريمة طيبة.
أستند يوسف بكفيه على ساقيه ناهضاً عن مقعده وهتف بحسم:
_ لازم أرجع بلدهم عشان أجيب كل أوراقهم اللي هحتجاها لسفر علي، وعشان كمان أقدm لـ لينة في المدرسة، مش عايزها تفوت أكتر من كدا
وافقته الرأي وهتفت وهي تربت على كتفه:
_ الله المستعان يا حبيبي
تركته وغادرت المكان بينما عاد يوسف بأدراجه إلى الفراش ولازالت كلمـ.ـا.ت ذاك الرجل تتأرجح ما بين الذهاب والإياب في عقله، لا يصدق أنه بالفعل استطاع التميز بين الأخوين بتلك السهولة دون النظر إلى مشاعرهم وإلى حالة الذُعر التي ستنتابهم ما أن تفرقا.
حاول إفراغ عقله من أي أمور قد تضايقه فيكفي ما مر به في الآونة الأخيرة لا يريد المزيد، أخذ نفساً عميق قبل أن يعيد التفكير في كيفية إخبـ.ـارهم بذلك الأمر، كيف سيواجه أعينهما وهو يخبرهما بافتراق أحدهما عن الآخر، ألا يكفي من فارقهما؟!
حك يوسف مؤخرة رأسه بعصبية شـ.ـديدة فلا يملك قدرة التحدث عن ذلك، عاد بجسده إلى الفراش مطالعاً السقف بحدقتاه البنية لعله يأتي بفكرةٍ ما..
بعد مرور بعض الدقائق على وضعه لم يراوده سوى حلاً واحد وعزم على تنفيذه فلا يوجد سواه من الأساس.
***
استيقظ يوسف على آنين خافت على مقربة منه، يبدوا أن أحدهم يتألم، كان هناك ضوءًا ساطعاً يحجب رؤياه لما يتمثل أمامه، فرك عينيه لعله ينجح في رؤية مصدر الصوت بوضوح لكن الوضع كما هو عليه لا يرى سوى إضاءة شـ.ـديدة السطوع بالكاد يستطيع فتح عينيه.
_ "لينة يا يوسف"
عقد يوسف ما بين حاجبيه فتلك اللهجة يحفظها جيداً، إنه أحمد!
حاول يوسف النهوض من مكانه لكنه يفشل لا يدري أين هو، لا يشعر بشيء يستطيع ملامسته وكأنه يحلق في الفراغ، لازال آنين صديقه يدوي في شحمتي أذنه فهتف هو بإسمه:
_ أحمد، أنت فين أنا مش شايفك
أعاد يوسف تكرار ندائاته التي لم تتوقف قط ولم يبادله الآخر أي إجابه وفي ثانية اقتحم أحمد تلك الظُلمة التي تحولت إلى ملامحه مردداً أمام وجه يوسف:
_ "لينة يا يوسف"
انتفض يوسف من مكانه مشهوراً بشـ.ـدة، طالع أمامه بأعين جاحظة، ارتفع تدفق الدmاء في نبضات قلبه بشـ.ـدة من فرط الخوف، رجفت يده التي يستند بها على الفراش فاستقام في جلوسه وطالع المكان من حوله يتأكد من غرفته.
أوصد عينيه حين استشف أنه كان حُلم، تنفس الصعداء ثم تمتم مترحماً على صديقه بحـ.ـز.ن:
_ ربنا يرحمك يا أحمد
نهض عن فراشه وتوجه إلى الخارج لكي يطمئن بنفسه على الصغار، كان المنزل يتمتع بسكون مخيف قاطعه صوتٍ ما صدر من غرفة "زياد".
توجه يوسف بخُطاه إليها، طرق الباب ثم ولج داخلها فتفاجئ بوجود زياد برفقة علي، اتسع ثغره بإبتسامة مطمئنة وسألهم مستفسراً:
_ بتعملوا إيه متأخر كدا؟
أسرع زياد في الرد عليه بحماس يشوبه التردد من ردة فعله:
_ كنا بنلعب بابجي..
قطب يوسف جبينه مستاءً منه وبهدوء عاتبه:
_ لعب ودلوقتي! أنت ناسي إنك عندك مدرسة بكرة بدري؟ أقفل الكمبيوتر ويلا على سريرك بسرعة
وجه نظريه إلى علي متابعاً استرساله:
_ وأنت كمان يا علي، بطل لعب ونام عشان هنصحى بدري، هنروح مشوار مع بعض
أماء له بقبول فانسحب يوسف من الغرفة موصداً بابها خلفه، توجه إلى غرفة والدته وبتردد شـ.ـديد في فعل ذلك طرق الباب بخفة فلا يوجد لديه حل غيره لكي يطمئن على التؤام الآخر، تنهد وأدار مقبض الباب بحذر ثم مال برأسه من خلف الباب حتى وقع نظره عليها غافية بجوار والدته، أغلق الباب وعاد إلى غرفته وصاح عالياً حين رأى إضاءة الغرفة المجاورة لازال مضئ:
_ قولت ناموا
جائه الرد على الفور:
_ نمنا خلاص..
عاد لغرفته وحاول مراراً أن يعود إلى النوم لكن النعاس قد جفى عينيه، يبدو أن هناك ليل سيطول ساعاته إلى أن يمر.
تذكر شيء ما فنهض عن كرسيه وتوجه إلى الكومود خاصته والتقط إحدى الروايات الرومانسية التي يقوم بقرأتهم باستمرار، استلقى على فراشه واضعاً ذراعه الأيسر خلف رأسه وظل يهمهم بالكلمـ.ـا.ت التي يقرأها بخفوت وغرق بين صفحات الكتاب الذي بيده غير آبِه لما يدور حوله.
***
سطعت الشمس فتناثرت أشعتها على البنايات وغيرها من الأشجار لتضيف لأوراقها الخضراء لمعة ساحرة كصفاء لمعة البحر التي تنقلب مع موجاته منتجة منظراً عظيماً تطمئن النفس له.
أنتبه يوسف على رنين منبه هاتفه فأغلقه وقام ليتجهز حتى يلحق ميعاد القطار قبل أن يفوته، خرج من غرفته فهاجمته تلك الرائحة الذكية التي تغلغلت داخل أنفه دون استئذان.
توجه نحو مصدرها فتفاجئ بهذا الكم من الطعام الموضوع في عُلب ورقية، جذبت والدته انتباهه بإلقائها التحية عليه:
_ صباح الخير يا حبيبي
رد عليها متعجباً مما يحدث فالأمر مريباً له بعض الشيء:
_صباح النور يا أمي، مين اللي هياكل كل دا؟
أجابته بتلقائية عابثة:
_ الأكل دا بدل اللي باظ امبـ.ـارح، مش أنت قولتلي إنك عايز توزع أكل علي المحتاجين وأنت رايح محطة القطر، وبيكون هناك ناس كتير محتاجة للأكل
لمعت عينيه ممتناً لها، فكيف لا يحبها وهي عشقه، أخذ نفساً وحرك قدmيه ناحيتها ثم قام بعناقها هاتفاً بنبرة مُتيمة:
_ ربنا يخليكي ليا يا أمي
ربتت علي ظهره بحب شـ.ـديد وهي تجيبه بحنو أمومي:
_ ربنا يرضيك يابني ويرضى عنك، ويكتب لك الخير في كل خطوة
آمن على دعائها وهو يتراجع للخلف:
_ آمين، هروح أصحي علي الأول وبعدين أغير هدومي على لما يخلص هو كمان
أولاها ظهره وقام بإيقاظ علي وأمره بتبديل ثيابه وكذلك قام هو ثم ساعد ميمي على تعبئة العُلب في الأكياس البلاستيكية ومن ثم هموا بالمغادرة سريعاً قبل أن تستيقظ لينة.
وصلا كليهما باكراً إلى محطة القطار، قسم يوسف الأكياس بينهما لكي يساعدان بعضهما البعض وينهيا الأمر سريعاً، أعطى يوسف أول عُلبة طعام لأول سائل قابله فشكره الآخر ودعا له بطيب نفس، ثم تابع يوسف ما يفعله لكنه أنتبه على الفتى حين ناول إحداهن عُلبة وقال لها:
_ ادعي لماما وأخويا بالرحمة
انهالت المرأة بالدعوات لهما فتبسم علي بسعادة بالغة مما شجعه على إعطاء الآخرين الطعام حتى يجمع أكبر قدراّ من الدعوات لأحبته، تشكلت ابتسامة مشفقة على شفتي يوسف لحالته، ثم قام بمواصلة ما يفعله مطالباً ممن يعطيه الطعام بالدعاء لأحمد ووالدته.
بعد مرور وقت ليس بقصير، انتهوا من توزيع جميع الأطعمة، أعطى يوسف كفه للفتى الذي قام بصفع كف يوسف فرحين بذاك الإنجاز الذي أضاف ليومهم مزيج من البهجة والحماس.
استقل يوسف مقعده داخل القطار وكذلك رافقه علي المقعد المجاور ثم سأله بفضول:
_ إحنا رايحين فين؟
علم يوسف أن تلك اللحظة قد حانت وعليه إخبـ.ـاره فكم سيخفي عنه الأمر؟، شهيقا وزفيراً قد فعل يوسف ثم مال بجسده للأمام ونظريه على علي يتابع ملامحه وبدأ يخبره:
_ أنا قدرت أتواصل مع عمك امبـ.ـارح..
استشف من علي عدm الضيق حين رأى تشـ.ـدق شفتيه للجانب فسرها بالقبول لحديثه فواصل مردفاً بتردد:
_ وافق على كلامي بس بشرط إن واحد بس منكم اللي يسافر عنده، وفي الآخر المكالمة قالي إنه عايزك أنت..
قطب علي جبينه وسأله مستفسراً:
_ ولينة؟ مش هتيجي معايا؟
زم يوسف شفتيه واكتفى بتحريك رأسه نافياً سؤاله فهتف الآخر حاسماً الأمر:
_ يبقى أنا مش هروح في مكان من غيرها
لم يعلم يوسف ما عليه قوله تلك الأثناء، حاول التفكير معه بصوت عالٍ لعله يصل إلى نقطة ترضيهم:
_ وأنا معنديش أي مانع إنكم تقعدوا معانا، ومن الوقتي أنا متكفل بيكم، بس لو سألتني عن رأيي هقولك أقبل وسافر، هناك هتلاقي ألف فرصة عمرك ما تحلم بربعها هنا، هتلاقي تعليم كويس ونضيف، وهتعيش حياة مرفهة، ولما تكبر إن شاء الله هتلاقي وظيفة تليق بيك وفي سياق دراستك
طالع يوسف الخارج بحـ.ـز.ن وواصل ما لم ينهيه بعد:
_ هعطيك مثال يمكن تفهم كلامي، أنا أهو قدامك درست واجتهدت واتخرجت وفي الآخر مش عارف أشتغل في مجال دراستي
وبرده القرار في الآخر يرجع ليك، دا مجرد رأي لا أكتر ولا أقل، لو قررت تسافر هبدأ في إجراءات سفرك من النهاردة ولو قررت تقعد هنا فأهلاً بيك أنت ولينة في عيلتنا
طالع علي الفراغ أمامه وعينيه تتلألأ فيهما العبرات التي تهدد بالسقوط مردداً بنبرة متحشرجة:
_ مش عايز أبعد عن لينة، هتبقى لوحدها وأنا مش موجود
ربت يوسف على كتفه بآسى وحاول التخفيف عنه:
_ أختك في أمانتي يا علي، أنت عاشرتني يومين قولي أنت شايفني واحد ميعتمدش عليه وميقدرش يشيل مسؤولية عشان تخاف على أختك معايا؟
التفت علي برأسه ناظراً إليه وقد سقطت على مقلتيه العبرات التي حاول جاهداً إخفائهم وأردف بمزاج غير سوي:
_ مفيش غيرك اللي ساعدنا يا يوسف!
انعقد حاجبي يوسف تلقائياً متأثراً بحديثه، جذبه من ذراعه وعانقه بقوة فردد علي من بين بكائه:
_ هتخلي بالك عليها، مش كدا يا يوسف؟
تراجع يوسف ليطالعه وأخذ وعداً أمامه:
_ أقسم لك إني هعمل كل اللي أقدر عليه عشان متكنش محتاجة لحاجة، وطلاما لسه فيا النفس عمري ما هخليها تحس بنقص أبداً، هي بس تشاور وأنا أنفذ قبل ما ترمش، متقلقش يا علي هي هتكون في حمايتي على لما أنت ترجع لينا بالسلامة.
حرك علي رأسه مراراً وتابعا كليهما سفرهما إلى البلدة، نجح يوسف في استعادة جميع أوراقهم وعاد بعلي إلى منزله بعد غياب الشمس.
في غصون عِدة أيام، استطاع يوسف إنهاء جميع الأوراق اللازمة لسفر علي، وقف يشير إليه من بعيد مودعاً إياه، فرت دmعة من عينيه حين اختفى علي خلف باب الطائرة.
عاد يوسف بأدراجه إلى منطقته بعد أن أطمئن بتحليق الطائرة، لم يود مواجهة لينة باكراً كما أنه لم يفضل العودة قبل أن يطمئن بوصول الفتى أولاً.
جلس على مقهى قريبة من منزله ولم يبعد الهاتف عن عينيه ثانية، فلقد أوصى عمه بأن يخبره فور لقائهما، تمر الثوانِ عليه وكأنها دهراً، لا يستطيع التحمل كل هذا الوقت، كاد أن ينهض إلا أن اقتحام صديقه قد منعه حين عاتبه بقوله:
_ كل ما أسأل عنك يقولولي مش موجود، أسبوعين بحالهم يا يوسف متسألش عن صاحبك؟
اعتذر منه يوسف بلهجة مشحونة بالتـ.ـو.تر:
_ معلش يا بلال، بس كنت واقع في ظروف انشغلت فيها شوية، هحكيهالك بعدين..
أعتلى بلال المقعد المجاور له متسائلاً بفضول حول تلك الظروف الغامضة:
_ وليه بعدين، أحكي دلوقتي
أسبق يوسف بالرفض فمزاجه لا يمسح له بالنقاش حالياً:
_لا لا مش النهاردة، مش رايق أتكلم في حاجة
نهض عن كرسيه تحت نظرات بلال المتعجبة من حالته، توقف عن الحركة حين شعر بإهتزازة هاتفه معلناً عن وصول رسالة، أسرع في فتح هاتفه ليتمعن الرسالة الواردة.
تقوس ثغره بإبتسامة عريضة ناهيك عن شعور الراحة الذي راوده حين رأى صورة علي برفقة عمه، أغلق الهاتف وأعاد وضعه في جيبه ثم التفت إلي بلال الذي مازال يطالعه مندهشاً لما هو عليه.
جلس يوسف حيث كان هاتفاً بنبرة أكثر راحة:
_ خلاص هحكيلك، متبصليش كدا
بادله الآخر ابتسامة عفوية، فبدأ يوسف في قص ما مر به من البداية تحت نظرات بلال المذهولة لما يقع على أذناه.
انتهى يوسف من الحديث رافعاً كتفية للأعلى مع زمه لشفتيه مردفاً:
_ شوفت بقا اللي حصل لصاحبك!
أخرج بلال تنهيدة مهمومة فلديه هو الآخر نصيباً من المصائب يجهلها يوسف:
_ والله يا صاحبي مش عارف أواسيك ولا أنت اللي تواسيني؟
ضاق يوسف بعيناه عليه متسائلاً بقلق قد تمكن منه:
_ عندك إيه أنت كمان؟
تشـ.ـدق بلال وهو يقلب عينيه ثم بدأ حديثه بتأفف:
_ الصبح لقينا أختي جاية بتعيط، جوزها ابن ال*** مد أيده عليها، من وقتها ودmي محروق وكنت هروح أقــ,تــله لولا إن أبويا مانعني إني أتعرض له، ولغاية دلوقتي لسه مهدتش وبتعصب أكتر كل لما أفتكر منظرها
انتفض يوسف من مكانه فأثار الذعر في نفس بلال وسأله مستفسراً:
_ في إيه يابني؟ وقفت فجاءة كدا ليه؟
بلهجته الحادة التى لا تريد نقاش هتف:
_ قوم، هنروح مكان
نهض بلال عن مقعده وهو يكرر سؤاله الفضولي:
_ قولي هنروح فين؟
"هنروح نجيب حق أختك "
هتف بهم يوسف ونبرته لا تبشر بالخير، لحق به بلال وأمسكه من ذراعه مرغماً إياه على التوقف وقال محذراً:
_ استنى بس أنت ناوي على إيه، أبويا حذرني مقربش منه، وأكيد لو حصله حاجة أنا اللي هلبسها
حرر يوسف ذراعه من بين قبضتي صديقه وببرودٍ يشوبه السخرية قام بتوبيخه:
_ يا دلوعة أبوك، الراجـ.ـل ضـ.ـر.ب أختك وأنت خايف من أبوك!
حرك رأسه باستنكار مختلط بالإستهزاء وتابع سيره إلى الأمام، تسببت كلمـ.ـا.ته في إشعال نيران المروءة لدى بلال الذي احتقن وجهه وفارت دmائه، وعزم على أن يكـ.ـسر ضلوع شبيه الرجـ.ـال هذا.
تحرك خلف صديقه بخطوات مهرولة لا يرى أمامه سوى القصاص لشقيقته التى هانها زوجها وألقنها ضـ.ـر.باً مبرحاً بكت بغزارة إثره.
وصلا كليهما إلى البناية التي تعود إلى ذاك الدنئ، كاد بلال أن يهم بالصعود إليه إلا أن يوسف تريث ومنعه فنظر إليه متعجباً من أمره:
_ وقفتني ليه؟
شرح له يوسف خطته بهدوء وهو يتابع المكان من حولهما:
_ أكيد مش هنروح نتخانق معاه في بيته، مش عايز حد يشوفنا، إحنا هنستنى لما سيادته يظهر وبعدين هنمشي وراه وأول ما نلاقي فرصة هنعلمه درس يفكر بعده ١٠٠مرة قبل ما يمد ايده على أختك تاني
كز بلال أسنانه بعصبية فلا يطيق الإنتظار حتى يلقن ذاك المعتوه درساً لن ينساه طوال حياته، مر الكثير من الوقت حتى ظهر مرادهم وهو يتغنج بجسده مع تغريداته التى تدل على رونقه صفوه.
تبعوه إلى حيث يذهب ومن حُسن حظهم أنه ذهب من زقاق جانبي من بين البنايات، استغلوا تلك الفرصة الثمينة وحاصروه، أحدهما قد ظهر له من الأمام والآخر من الخلف لكي لا يمكنه الهروب من بينهما.
اقترب منه يوسف أولاً وعيناه ينطق منهما الشر، لم يبذل مجهوداً في الصراخ عليه فكان دوماً يستعمل أسلوباً مبسطاً لكن الجميع يهابه، هدوء يشوبه التهديد في نبرته أردف وهو يلاصق صدره:
_ الإيد اللي تتمد على الحريم متستحقش يتكتب في بطاقتها دكر يا... ربع دكر أنت
هتف كلمته الأخيرة باستهزاء ثم ضـ.ـر.به برأسه فسقط الآخر أرضاً هاتفاً بحنق:
_ أنتوا بتعملوا إيه يا أغـ.ـبـ.ـية، أقسم بالله لو ما...
قاطعه يوسف بنبرة صارمة:
_ متقدرش تعمل حاجة، عارف ليه يا قذر أنت؟
صمت حين جذب انتباهه ثم سحب هاتفه وقام بالعبث فيه لثوانِ وتابع ما لم ينهيه مهدداً بعد أن وضع الهاتف أمام نظري الرجل:
_ شايف كل الأسامي دي، كلهم مصادر أمنية ورُتب عالية، أقل واحد فيهم يقدر ينفيك من على وش الدنيا، وأنا متمناش حتى لأعدائي إنهم يتعاملوا معاهم أبدا، لأنهم مش بيحبوا الغلط ولو وقع في أيديهم واحد زيك كدا بيسفروه لفوق، فوق أوي
ارتاب الرجل تهديد يوسف وسأله بنبرة مرتجفة:
_ أنت عايز إيه الوقتي يا يوسف؟
حاول يوسف منع ضحكاته من التسرب من شفتيه حتى لا تضيع هيبته التي فرضها عليه، أخذ نفساً ليواصل الحوار أمامه على نفس نبرته الحازمة:
_ تروح عند مراتك تتأسف لها وتراضيها، وخليك متأكد إنك لو فكرت تعيد عملتك دي تاني أنا مش هجيلك تاني هروح للناس اللي شوفت أساميهم بعنيك وأبعتهملك هما يتعاملوا معاك، وأنت عارف كويس هما هيقدروا يعملوا فيك إيه؟!
أماء له بتفهم فانسحب يوسف برفقة بلال الذي انبهر من طريقة صديقه في تهديد الرجل، انتظر بلال حين ابتعدا كليهما قدراً كافياً عنه وهتف معجباً به:
_ إيه اللي حصل حالاً دا؟ أنت خرسته ومعتش قدر ينطق بكلمة قدامك، أنت بقيت مهم وأنا معرفش ولا إيه؟
قهقه يوسف على حديث بلال وعلق ساخراً:
_ الموضوع مش زي ما أنت فاكر، دول مجرد صحابي في الجيش كنت مسميهم بألقاب مهمة عشان لو وقعت في موقف يحتاج مساعدة زي اللي إحنا كنا فيه دا
ضـ.ـر.ب بلال كفاً على الآخر لا يصدق أنه افتعل كل ذلك من خلف اكذوبة وضيعة لا يصدقها عقل، عادوا إلى حيث جاءوا فتفاجئ يوسف بهرولة زياد نحوه، وقف أمامه وتحدث فور وصوله بأنفاس لاهثة:
_ إلحق لينة يا يوسف..
"لينة اضـ.ـر.بت يا يوسف"
هتف بهم زياد بينما انتفض يوسف من مكانه مذعوراً، تحولت ملامحه ولم يستطيع كبح جِماح غضبه الذي ظهر في نبرته المنفعلة:
_ مين اللي عمل كدا؟
أخبره زياد من بين أنفاسه اللاهثة بسبب ركضه إليه:
_ كنا بنلعب بالكورة قدام البيت مع صحابي، ولينة وهي بتلعب خبطت واحد منهم بالكورة فالتاني اتغاظ منها وضـ.ـر.بها بالقلم، بس أنا مسك....
لم ينتظر يوسف سماع المزيد بعد، فتوجه بخُطاه عائداً إلى منزله ووجه يميل إلى الإحمرار من فرط غضبه، تفاجئ بجلوس الفتاة أمام بوابة البناية خاصتهم تبكي.
اتسعت حدقتاها حين رأت يوسف يتقدm منها، نهضت عن مقعدها وهرولت نحوه ثم هتفت وهي تعانق ساقيه:
_ متسبنيش تاني..
ملس يوسف على خصلاتها بحنو، أوصد عينيه لبرهة يحاول استعادة رونقه لكي لا يخيفها بحدته الطاغية الآن، زفيراً قوياً أخرجه على مهل وردد بنبرة أكثر هدوءً:
_ مش هسيبك متقلقيش، تعالى معايا
مد لها يده فاختفت يدها ما أن وضعتها داخل كفه، أغلق عليها يوسف وتقدm إلى الأمام وهو يتسائل عمن فعل ذلك بها:
_ مين اللي ضـ.ـر.بك فيهم يا لينة؟
أجابته وهي تشير بإصبعها على فتى ما يلعب على مقربة منهم:
_ اللي هناك دا، إسمه أمجد
حرك يوسف رأسه بتفهم وتابع سيره حتى وصل إلى الفتى، وضع يده على كتفه من الخلف وأرغمه على الإلتفاف إليه، ومن بين أسنانه المتلاحمة صاح به بنبرة أرعـ.ـبته:
_ أنت إزاي تمد إيدك عليها؟
دفع الفتى يد يوسف بعيداً عن كتفه وهتف بعدm احترام:
_ هي اللي بدأت ودا عقـ.ـا.بها
رفع يوسف حاجبيه مستاءً من وقاحته، التفت برأسه حيث تقف لينة وأمرها قائلاً:
_ أضـ.ـر.بيه زي ما ضـ.ـر.بك يا لينة..
تفاجئت لينة بأمره، كذلك تفاجئ الجميع مما يريده يوسف، تدخل بلال محاولاً حل تلك المسألة بقوله:
_ إهدى بس يا يوسف دا عيل صغير زيها بالظبط
أعاد يوسف تكرار ما قاله وكأنه لم يصغي إلى حرف مما تفوهه صديقه:
_ قولتلك اضـ.ـر.بيه يا لينة..
نظرت إليه الفتاة بذهولٍ تام وبتردد كبير رفعت ذراعها، ثم دوت صفعة قوية تركت أثراً على وجه الفتى، الذي احتقن وجهه من الغضب، تراجعت لينة للخلف محتمية في يوسف حين خشيت رد الأذى من الفتى، أنتبه الجميع إلى عويل إمرأة تتقدm نحوهم بخطى مهرولة:
_ مين دا اللي اتجرأ ومد أيده على ابني؟
تصدى لها يوسف بأعين يتوهج فيهما الشر وأجاب على سؤالها بجمودٍ قاسِ:
_ أنا اللي قولتلها تعمل كدا
تفاجئت المرأة من جرأته الوقحة دون احترام لها، وهتفت بحنجرة غليظة معنفة إياه:
_ دا ولد صغير إزاي تخليها تضـ.ـر.به، أنت بتحط عقلك من عقل عيل يا يوسف؟
حرك رأسه مستنكراً سخريتها التي أنهت بها حديثها، رد عليها بفتورٍ يشوبه التقزز:
_ ابنك اللي بدأ بضـ.ـر.ب البنت، وعشان كدا أنا اللي خليتها تضـ.ـر.به
رفعت المرأة حاجبها الأيسر وهي تحدج الفتاة بنظراتها المشتعلة، تمتمت من بين شفتيها ساخرة:
_ ومين دي إن شاءالله؟ السفيرة عزيزة وإحنا منعرفش؟
بثقة عمياء قام بالرد عليها باستهزاء:
_ لأ، دي تبقى السفيرة لينة، وطول ما أنا فيا النفس مفيش حاجة تقدر تمسها، سواء كان بسبب ابنك أو غيره!
أولاها يوسف ظهره وحدج من يتناثرون على النواصي وتابع هتافه محذراً:
_ الجميع سواسية واللي اتقال للست عواطف حالاً نفسه اللي ساري على الكل، أنا بحترم الصغير قبل الكبير وعشان كدا أنا عايزكم تحترموا البنت زيها زيي بالظبط، ومن النهاردة هي من عيلتي وأنا مش هسمح أبداً إن يحصلها حاجة، اللهم بلغت
لم ينتظر يوسف سماع إجابة من أحدهم يكفيه نظراتهم التي تتأجج فيهما الريبة، أمسك بيد الفتاة ثم توجه عائداً إلى منزله، تبعه زياد وهو يسير رافعاً رأسه بعجرفة فخوراً برد أخيه على الجميع، فلن ينكر أن تصرفه سيعود إليه بالإيجاب ولن يقدر أحدهم على التطاول عليه منذ ذلك الحين.
تقدm يوسف برفقة الفتاة إلى المنزل وتوجه نحو الأريكة التى تقربه، جلس أعلاها وأرغم لينة على الوقوف أمامه وبنبرة واثقة حثها على عدm الخوف بعدmا رفع رأسها المنحنية إلى الأعلى وأردف:
_ متحنيش راسك تاني يا لينة، مكانها يبقى مرفوع كدا دايماً، اوعديني إنها تفضل مرفوعة مهما شوفتي ومر عليكي
ابتلعت لعابها ورمقت أهدابه الكثيفة التي تحيط بعينيه البُنية لبرهة قبل أن تسترسل بنبرة واثقة:
_ أوعدك إني مش هحنيها تاني خالص
إلتوى ثغر يوسف للجانب فظهرت غمازته التي انتبهت عليها لينة، مشكلاً ابتسامة سعيدة عـ.ـذ.بة وهو يرفع كفه لها:
_ كفك يا لولي
ابتهجت لينة من ذلك اللقب الفريد من نوعه، فكان أول من ناداها بدلال بذاك الإسم، رفعت ذراعها اليُمنى وقامت بصفع كفها الصغير في كفه المرفوع فهتف يوسف ممازحاً:
_ Good girl
اختفت إبتسامة الفتاة تدريجياً وهي تجول بنظريها في المكان متسائلة بقلق:
_ علي فين؟ هو مرجعش معاك ليه؟ أنا مشوفتوش خالص من وقت ما كنا تحت..
↚
حل السكون بين الجميع، لقد حانت اللحظة الذي يخشاها يوسف، يجدر عليه أن يأتي برد في الحال، مرر يوسف أنظاره بين الواقفين فاستشف تأثر والدته بموقفه، حتماً تشعر بما يجول في خاطره تلك اللحظة.
قطع ذلك الصمت يوسف باسترساله المتـ.ـو.تر من ردة فعلها:
_ علي مشى..
قطبت جبينها فلم يعي عقلها الصغير تفسير معنى رحيله وهتفت متسائلة ببراءة:
_ مشى فين؟
نهض يوسف عن مقعده فحركت لينة رأسها عفوياً معه، حمحم قبل أن يردف موضحاً لها بنبرة مهزوزة:
_ سافر، سافر عند عمكم
تجهمت ملامحها تدريجياً حين استشعرت حقيقة ما قد قيل، وقبل أن تثور بطفولة لفظت سؤالها بنبرة تهدد بالبكاء التي تحاول كتمه:
_ سافر وسابني؟
زم يوسف شفتاه ولم يقدر على مواجهة عينيها التي لم تُرفع من عليه في إنتظار إجابة صريحة منه، اقتربت منها السيدة ميمي حين شعرت بوضع ولدها الذي لا يحسد عليه، حاولت التدخل والتخفيف من عليه، جلست على الأريكة وجذبت الفتاة من ذراعها قبل أن تردف كلمـ.ـا.تها الحنونة:
_ في حاجات مينفعش نسأل فيها، هو نصيب مقدر من ربنا ولازم نرضى بيه، أنا عارفة إنك كبيرة وعاقلة وأكيد فاهمة معنى كلامي، وعارفة كمان إنك مصدومة ومتفاجئة من الحياة اللي اتشقلب حالها بين يوم وليلة، بس بصى كدا حواليكي، هتلاقي كتير بيتمنوا سعادتك وإنهم يشوفوا ضحكتك، أنا أهو ويوسف وزياد كمان، كلنا جانبك ومش هنسمح أبداً إنه يحصلك أي حاجة وحشة طول ما إحنا فينا النفس
فرت دmعة خفية من عيناي لينة فرفعت ميمي يدها ومسحتها على الفور بأناملها، شكلت بسمة على ثغرها فظهرت بعض الكرمشة في وجهها وقالت:
_ من هنا ورايح تناديني بماما زي يوسف وزياد
شعر يوسف بأن وقته قد حان للتحدث، ابتلع ريقه ورتب كلمـ.ـا.ته قبل أن يسترسل بصوته الرخيم:
_ وكمان تقدري تعتبرينا إخواتك، إحنا هنا في خدmة السفيرة لينة
التفت يوسف برأسه حيث يقف زياد وحثه على تأكيد حديثه:
_ مش كدا برده يا زياد؟
وزع زياد أنظاره بين يوسف ولينة وداخله يرفض البتة اعتبـ.ـارها شقيقته، فهي في الأساس ليست كذلك كيف وهي فقط دخيلة، كيف سيرغم عقله على الإقتناع بهذا الهراء؟
اتسعت حدقتي يوسف موحياً إليه بالتحدث لكنه لم يأبى لما يريده يوسف فعله، تقدm ناحيتهم وقال بحدة باغتة وهو يرمق لينة بطرف عينيه:
_ لأ دي مش أختى، ومش هعتبرها كدا أبدا
فر هارباً إلى غرفته ما أن أنهى جملته، تفاجئ يوسف والسيدة ميمي بتصرفه الغريب، فلم يجدوا له تفسير واضح، تنهد يوسف مستاءً فموقف شقيقه قد ضاعف للوضع تعقيداً، فكيف سيطالبه بما كان يجول في خاطره الآن بعد رفضه الصريح لقبول الفتاة؟!
لم تكترث لينة كثيراً لكلمـ.ـا.ت زياد، فيوجد ما يشغل عقلها ويلهيها عن التفكير في شأن آخر، كادت أن تهم السيدة ميمي خلف صغيرها إلا أن يوسف ألحق بها بقوله وعينيه معلقة على باب غرفة أخيه:
_ خليكي أنتِ يا أمي مع لينة، أنا هتكلم معاه
توجه بخطاه اتجاه غرفة زياد ثم طرق بابه وولج إليه قبل أن يسمح له الآخر، لم يتفاجئ زياد من وجوده، فهو كان يعد داخله في انتظار مجيئه المعتاد، توقف عند الحادية عشر حين رأى يوسف أمامه وأسبق بالحديث لينهي أي توبيخ قد يمسه:
_ قبل ما تزعق سـ...
قاطعه يوسف بنبرة عكس التي كان يتوقعها زيادة، كانت أكثر هدوءًا ورزانة:
_ قبولك بيها أو رفضك ميهمنيش، كل اللي يهمني إنك تحترمها ومتفكرش تطاول عليها ودا أنا واثق منه، أنا متأكد إنك راجـ.ـل وهتقدر تشيل مسؤوليتها وقت غيابي زي ما أنا متأكد إنك هتحميها سواء كنت موجود أو لأ، بس فيه حاجة كنت عايز أقولهالك..
لم تهتز لزياد خصلة بل ظل يطالعه منتظراً مواصلة حديثه ببرود، هرب يوسف بعينيه بعيداً عنه وعرض طلبه قائلاً:
_ الأوضة دي لازم نسيبها لـ لينة
صعق زياد وحملق به مذهولاً من قراره المفاجئ، لم يخضع بسهولة وصاح عالياً مبدياً رفضه:
_ إيه؟ ليه إن شاءالله؟ سيب لها أوضتك أنت، ليه مفكرتش في كدا؟
لم يعرف يوسف أن تفكير شقيقه ساذج إلى ذلك الحد، وليكن ليوضح له حقيقة ما يتعمد التغافل عنه:
_ يمكن لأن أوضتي مساحتها أكبر من أوضتك فنقدر ننام فيها إحنا الاتنين مرتاحين، إنما أوضتك أخداك بالعافـ.ـية
برفض واضح في لهجته هتف زياد:
_ قولتلك لأ، مش هسيبها لحد
على ما يبدوا أن التهاون لن يجدي نفعاً مع ذلك العنيد، عليه وضعه أمام الأمر الواقع حينذاك لن يقدر على معارضته، تنهد يوسف وببرودٍ يشوبه الأمر أردف بلهجة صارمة:
_ لم حاجتك بسرعة عشان الليلة دي لينة تنام في أوضتها الجديدة
كاد زياد أن يعيد رفضه إلا أن يوسف منعه بحركه من إصبعه محذراً:
_ خلصنا يا زياد
أولاه ظهره وخرج من الغرفة تاركاً الآخر يثور غضباً بسبب أمره الحاسم، ضـ.ـر.ب زياد قدmيه في الأرض بتذمر شـ.ـديد وبعناد نظر أمامه وتمتم بغيظ:
_ والله لتشوف أنا هعمل فيها إيه
خرج من شروده وبدأ في لملمة جميع أشيائه الخاصة وهو يتأفف من حين لآخر، ناهيك عن توعده المستمر للفتاة، في الخارج بحث يوسف عن والدته والصغيرة فلم يراهن حيث تركهن.
أنتبه إلى ضجة محدثة يأتي أثرها من المطبخ فتوجه نحوه لكن قدmاه قد توقفت من تلقاء نفسها حين وقع على مسامعه نحيب الفتاة الذي يتسلل من غرفة والدته، تراجع للخلف برأسه ناظراً داخل الغرفة فإذا بها جالسه على الفراش مكورة في نفسها تعانق دmيتها وتبكي بألم واضح.
لم يتردد في الدخول إليها فتفاجئت به ومسحت عبراتها على الفور، تابع يوسف تقدmه منها إلى أن جلس مقابلها، بهدوءٍ في نبرته سألها:
_ بتعيطي ليه يا لينة؟ مش إحنا اتكلمنا برا وقولنا إننا عيلتك الجديدة، رجعتي تعيطي تاني ليه بقى؟
لم تجيبه بل فضلت عدm الرد فهي محرجة منه، حاول يوسف اختراق ذلك الحاجز الذي شكلته بصمتها فلم يوجد أفضل من الدُمية لكي يتحدث عنها:
_ عروستك جميلة، مين اللي جبهالك؟
رفعت رأسها بتهمل ورمقته بأعين لامعة، مرت ثانيتين قبل أن تخبره مختصرة بنبرة متحشرجة إثر البكاء:
_ أحمد
زم يوسف شفتيه بتأثر، وبعد لحظات أنتبه على صوت من خلفه فالتفت برأسه يعلم هوية الدخيل فإذا به والدته، بوجه بشوش قالت:
_ إحنا جمعنا اللي قدرنا عليه من الأوضة، هنكمل بكرة إن شاء الله
بادلها يوسف إبتسامة عـ.ـذ.بة وعاد بأنظاره إلى لينة وبأمر قال وهو يمد يده لها:
تعالي ورايا يا لينة
بعد تردد أمسكت يده وخرجت برفقته دون علم لها بوجهته، وقفوا على باب غرفة زياد الذي خرج حاملاً لحقيبة ظهره والغضب لا غيره مرسوم على تقاسيمه، تعمد لكزها بكتفه ربما يقلل هذا شعور الغيرة داخله.
لم تعقب لينة على فعلته، لكنها تابعت بنظراتها هرولته الغاضبة إلى غرفة يوسف، رفعت بصرها على يوسف وسألته بفضول:
_ هو ماله؟ مضايق كدا ليه؟
فعل يوسف حركة برأسه تعني لا أن تكترث له، ولج الغرفة وطالع الخزانة التي باتت خالية ثم استدار إليها وأردف بنبرته الرخيمة:
_ هاتي شنطتك ووضبي دولابك، دي بقت أوضتك خلاص، أعملي فيها اللي تحبيه ويريحك
تفاجئت لينة بما قاله، الآن فهمت سبب ثورة زياد، تراجعت للخلف قليلاً وهتفت رافضة:
_ لأ دي أوضة زياد، وأنا مش عايزة أخدها منه، أنا هنام مع ماما ميمي في أوضتها
حرك يوسف رأسه رافضاً ما تقوله وأوضح لها قائلاً:
_ متهتميش لزياد هو هياخد وقته ويرجع لطبيعته تاني، تاني حاجة أنتِ بنوتة وليكي خصوصية مختلفة عن اللي اتعودنا إحنا عليه، عشان كدا لازم يكون ليكي أوضة لوحدك، فهمتي ليه لازم تاخديها؟
أماءت له متفهمة فربت هو على كتفها مشجعاً إياها:
_ طيب يلا وضبي دولابك
توجهت أنظارها إلى الخزانة وكأن طاقتها على توضيبها معدومة، استشف يوسف ما يوجد خلف نظراتها وأراد مساعدتها فهتف بمرح:
_ تحبي أساعدك يا لولي؟
أماءت له بخجل، ثم أخبرها يوسف بإحضار حقيبتها، عادت إليه بعد ثوانٍ معدودة ثم فتحتها وقامت بإخراج بعض الفساتين لتعلقها في الخزانة، كذلك فعل يوسف وساعدها في وضع بقية الثياب داخل الخزانة.
كان يبتسم من حين لآخر حين يقابله فستان وردي فهو يفضل ذلك اللون في ثياب الفتيات الصغيرات، حمحم وأبدى إعجابه معلقاً:
_ أكيد اللون دا بيكون حلو عليكي
أجابته بمشاغبة وهي تتابع ما تفعله:
_ لا لون عادي يعني، أنت بتحبه؟
أكد على سؤاله بقوله:
_ بحسه لايق أكتر على البنات عن أي لون تاني
لم تعقب على حديثه فتعجب يوسف من صمتها لكنه لم يعلق أيضاً، كاد أن يسحب ثياب أخرى لكنه تفاجئ ببعض القطع الخاصة فتراجع للخلف دون أن يطيل النظر إليهم وهتف بحرج:
_ معتش فيه كتير، وضبيهم أنتِ وأنا هكلم واحد صاحبي، لو احتجتي لحاجة أنا في أوضتي نادي عليا
"ماشي"
أجابته مختصرة فخرج على الفور وعاد إلي غرفته، لم يتفاجئ من تذمر زياد وحالته المذرية، سيعتاد لا يملك سوى ذلك، تجاهله يوسف لكي لا ينشب شجاراً بينهما وتوجه إلى فراشه، اعتلى طرفه ثم شعر بإهتزازة هاتفه فقام بالرد على صديقه:
_ عايز إيه، مكتفتش مني؟
تشـ.ـدق بلال بفمه متهكما لتلك الثقة التي يحادثه بها يوسف ورد عليه ساخراً:
_ طبعاً، أصل أنا واقع في حبك
حرك رأسه مستنكراً وتابع بلهجته الساخرة:
_ أنت مشيت قبل ما تفهمني إيه اللي أنت عملته تحت دا، تطلع مين البنت دي عشان تقف قدام أهل منطقتك عشانها يا يوسف؟
تنهد يوسف مستاءً وهو يقلب عينيه، وأجابه بجمود:
_ لو كنت شوفت اللي أنا عيشته كنت هتعرف أنا مهتم بيها كدا ليه، أخوها اتقــ,تــل قدامي، ووالدتها مـ.ـا.تت برده قدامي وغير سفر توأمها، كل دا مش سهل أبداً عليها
بحاول أعمل أي حاجة يمكن دا يعوض لها ولو جزء بسيط من اللي راح منها، ودا مش هيحصل طول ما أنا مش بشتغل، لازم ألاقي شغل بسرعة عشان أعرف أقدm لها في المدرسة، كفاية اللي فاتها لغاية دلوقتي
أخرج يوسف تنهيدة أخرى مهمومة فالأمور ليست في صالحه، ولا يعلم كم الوقت سيستغرق لكي يجد عملاً، أنتبه إلى صديقه حين قال:
_ أبويا كان محتاج واحد يقف عنده في معرض العربيات بتاعه، روح له هناك بكرة، الشغل بتاعك من دلوقتي
اتسعت حدقتي يوسف وانتفض من مكانه بسعادة عارمة، كاد أن يهلل فرحاً إلا أنه تريث، ضبط من نبرته فباتت غير مبالية وأردف:
_ بس لازم تعرف أبوك الأول يمكن يكون حاطط مواصفات معينة للي عايزه يقف عنده
هتف بلال بثقة ملحاً:
_ قولتلك الشغل بتاعك من دلوقتي، متزيدش في الكلام، يلا أشوفك بكرة
أنهى بلال المكالمة وزفر أنفاسه براحة، بالكاد استطاع قول كلمتين وهو يكذب، عليه الآن التفكير جيداً في كيفية إخبـ.ـار والده بذلك فهو حاد الطباع ويكره أن يجبره أحداً على أمر.
ألقى يوسف الهاتف على الفراش والسعادة قد غمرت قلبه، شعر بأن الله يرضيه لانه تكفل بالفتاة، إلتوى ثغره للجانب بسعادة ثم قام بخلع ثيابه واكتفى ببنطال قطني يريحه، استلقى على الفراش لعله يذهب في النوم، لكن هيهات لسعادته التى تقطع أي سيبل للنوم.
لم يشعر بالضجر تلك المرة بسبب عدm نومه بسهولة، فهناك أمراً يستحق ذلك، لم يشعر بعينين أخيه التي تطالعه بغيظ شـ.ـديد فهو إلى الأن لم يهضم فكرة سحب غرفته من تحت يديه ولا يحق له الرفض فلقد قرر يوسف وأمر بالتنفيذ.
***
تجمعت بعض الطيور المتفرقة في مجموعات حتى باتوا في سِرب يجذب الناظرين إليهم، رفع بصره إلى السماء فاذا بالسواد قد اختلط بزُرقتها إثر الطيور المحلقة أسفلها.
أخذ شهيقاً عميق وهو موصد العينين، شاعراً بتلك البرودة التي تخللت أنفه، فالوقت مازال باكراً، لقد أدى فريضة الفجر، ولم يشعر بالنعاس لطالما يتدفق الحماس في الأدرينالين خاصته.
لم يبذل مجهوداً حتى واستطاع إيجاد فرصة عمل لن تتكرر مرة أخرى بفضل صديقه، هو على علم جيد بمستواهم المادي، ويدرك أن الحياة ستصبخ أفضل أمامه ما أن أتقن تلك الوظيفة، ناهيك عن حبه الشـ.ـديد للسيارات النادرة التي يعمل بها والد "بلال".
أخرج زفيراً ثم ظهرت ابتسامة عفوية على محياه لتلك الفرصة الثمينة، تنهد وأخذ يستدير بجسده ودخل من شرفة غرفته التي قام بغلق بابها حتى لا يقلق أخيه.
صغى إلى صوتٍ ما في الخارج فتعجب، فليس من المعتاد استيقاظ أحدهم في ذلك الوقت خصيصاً أن ميعاد صف أخيه لم يحين بعد، قرر الخروج ومعرفة مصدر الصوت لعل أحدهم بحاجة إلى مساعدة.
أنتبه على عودة الصغيرة إلى غرفتها حاملة بيدها زجاجة ماء، تنهد براحة وكاد أن يعود إلى غرفته إلا أنه تريث حين سمع همهمـ.ـا.ت مصدرة من غرفة "لينة"، شعر بالغرابة حيال ذلك فهو يعلم أنه لا يوجد معها أحد، مع من تتحدث إذاً؟
اقترب بخُطاه إلى الغرفة دون أن يصدر ضجيجاً عالياً، توقف أمام بابها وألقى أذنيه باتجاه الباب، تحولت تعابيره إلى التعجب البالغ حين كُشف أمر الهمهمـ.ـا.ت وبات يسمعها بوضوح وهي تدندن بصوتها الطفولي، لكنه كان أكثر جُرأة، وجمالاً، نبرتها تأسر قلبه كلما أطال الإستمتاع إلى كلمـ.ـا.تها وكأن في صوتها آلة تعزف بمفردها.
بعفوية مفرطة تشكلت إبتسامة سعيدة على ثغره، عاد إلى غرفته غير مصدق أنها تمتلك حنجرة ذهبية متميزة كالذي سمعها قبل قليل، بدل ثيابه بعد أن أدى فريضة الشروق فكان يوسف حريصاً على ألا يفوت أي صلاة.
خرج والحماس دون غيره يتغلغل داخله بكثرة، لم ينتظر استيقاظ الآخرين ورحل من المنزل، فهو لا يطيق الإنتظار حتى يبدأ في عمله الجديد.
***
استيقظ "بلال" باكراً اليوم على غير عادته، فمعروف عنه الكسل وعدm الإلتزام بأي مواعيد خصيصاً لو كان الوقت مبكراً، آثار فضول عائلته حين رآوه يخرج من غرفته يصيح من مكانه:
_ صباح الخير
أجاباه والديه في آن واحد:
_ صباح الخير يا بلال
اقتربت منه والدته عاقدة حاجبيها بغرابة وقلق وسألته وهي تتحسس جبينه:
_ أنت كويس يا حبيبي، حاسس بتعب؟
ضاق بلال بعينيه متعجباً من أمرها، تراجع للخلف وهو يجيبها:
_ أنا كويس، بتسألي ليه؟
أخبرته وهي تطالعه مستاءة من تصرفاته:
_ صاحي بدري النهاردة، مش عادتك يعني فاستغربت!
أماء برأسه وردد موضحاً سبب استيقاظه مبكراً:
_ كنت عايز ألحق بابا قبل ما يروح الشغل، عايز أتكلم معاه في حاجة
أتاه صوت والده من الخلف متسائلاً بفضول:
_ وإيه هي الحاجة اللي خليتك تقوم من بدري كدا؟
قلب بلال عينيه بضجر، فهما يعطيان الأمور أكبر من حجمها، أخرج زفيراً وتوجه ناحية والده الذي ترأس طاولة الطعام للتو، جلس بجواره ولا يعلم كيفية البدء فيما يريد التحدث به معه.
الأمر بات صعباً حين واجهه وجهاً لوجه، حاول الإسترخاء فالأمر لا يحتاج كل ذلك التـ.ـو.تر، حمحم ورفع نظريه على والده فتفاجئ بانتظاره لقول ما يريد، شجع نفسه وهدأ من روعه وقال بلهجة سريعة:
_ عايز منك خدmة صغيرة، تشوف ليوسف أي شغل عندك في المعرض
أظهر والده مدى استيائه من الأمر حيث هتف بتهكم:
_ والله يابني أنا عندي عمالة زايدة، لو عايز منهم شوية خد مش هبخل عليك
تفاجئ بلال برد والده الذي ألجم عقله ولسانه، فهذا ليس بوقت رفض لقد وعد صديقه وعليه أن يفي بوعده، تنهد وحاول استعطاف والده متوسلاً:
_ عشان خاطري يا بابا شوف له أي شغل بسرعة، أنا وعدته إني هشغله عندك، ومش عايز أبان صغير قدامه ومش قد كلامي
ترك والده الخبز من يده، فارت الدmاء في عروقه بغضب ثم التفت إلى الجانب مطالعاً بلال شزراً، لم يمنع صوته الذي كاد أن يسحقه من شـ.ـدته:
_ نعم، قولت إيه؟
وعدته! وأنت إزاي تعمل حاجة زي دي من غير ما ترجع لي؟
صاح بهم السيد سمير بينما تدخلت الأم في محاولة منها على تهدئة الأجواء المشحونة بقولها:
_ إهدى يا سمير مش كدا، بعدين ضغطك يعلى وإحنا في غنى عنه ياخويا
طالعها بغيظ عارم وعاد لهتافه بتزمجر:
_ أنتِ مش سامعة إبنك بيقول إيه؟!
ربتت على ذراعه وتابعت مسترسلة بحكمة:
_ إهدى بس وأكيد هنلاقي حل، أنت مش كنت مش قولتلي قبل كدا إن في واحد عندك تعب وطلب إجازة لمدة شهر، يعني في مكان فاضي، قصدي يعني إنك محتاج فعلاً ليوسف على الأقل الفترة دي
اعترض سمير بتجهم وعبوس:
_ وإيه اللي هيحصل بعد ما الشهر بعدي؟ هتصرف إزاي أنا مع الإتنين وقتها؟
نظرت إلى الأمام حيث ولدها ورمقته بنظرات معاتبة، أخذت نفساً قبل أن تعود بنظريها إلى زوجها مجيبة إياه:
_ أنت متعرفش بكرة فيه إيه، يمكن شغل يوسف ميعجبكش ويبقى ليك عذرك لو رفدته، أو مثلاً ممكن التاني ميجيش من أساسه
ضاق بعينيه عليها مستاءً من تفكيرها المحدود الذي لم يقنعه فهتفت هي لتنهي الحوار:
_ سيبها أنت بس على ربنا وهي هتتحل، إحنا منعرفش بكرة مخبي لنا إيه
تدخل بلال مؤكداً لحديث والدته:
_ أيوة يا بابا، الله أعلم بكرة إيه اللي ممكن يحصل، وافق يا بابا بالله عليك ومتصغرنيش
بعد تفكير طال حسم سمير رأيه في الأمر وأدلى به قائلاً:
_ قوله يجي النهاردة يقابلني
فغر بلال فاهه بسعادة مفرطة فتابع والده حديثه محذراً:
_ بس لو شغله معجبنيش مش هقول صاحبك وهمشيه، تمام؟!
أماء له بلال وردد ببلاهة:
_ اللي تشوفه يا بابا
نهض عن كرسيه بسرعة قصوة فصاحت والدته متسائلة:
_ مش هتفطر يا حبيبي؟
هلل عالياً وهو يعود إلى غرفته:
_ لأ، مش دلوقتي بعد ما أصحى
حركت والدته رأسها مستنكرة تصرفاته الخرقاء، قطع حبال أفكارها قول زوجها:
_ عاجبك تصرفاته دي؟ا دا منظر واحد عنده ٢٣ سنة؟ دا بيتصرف كأنه مراهق عبـ.ـيـ.ـط مش عارف يشيل مسؤولية نفسه حتى، فاكر إني هعيش له كتير وبيتكل عليا بالجـ.ـا.مد من غير ما يخاف ويفكر إني في يوم مش هكون موجود
أسرعت زوجته مستنكرة حديثه الذي سبب الحـ.ـز.ن لقلبها:
_ ربنا يبـ.ـارك في عمرك، متقولش كدا تاني، أنا مش بقدر أسمع الكلام دا
أوصدت عينيها لبرهة ثم تابعت ما لم تنهيه:
_ هو بس بيدلع عليك لأنه الولد الوحيد على البنتين، متزعلش نفسك والأمور هتمشي زي ما أنت عايز، أدعي له أنت بس بالهداية، أنت أب يعني دعاك مستجاب
بنبرة أهدى عن ذي قبل دعى سمير قائلاً:
_ ربنا يهديه يارب
تراجع بكرسيه للخلف ثم نهض عنه متمتماً:
_ ربنا يديم علينا نعمته
رافقته زوجته إلى الباب، أنهى ارتداء حذائه وأمرها قبل أن يرحل:
_ متسيبهوش يطول في النوم يا شهيرة، نص ساعة وصحيه، خليه يجي لي المعرض
أماءت له بقبول ودعت له بقلبٍ حنون:
_ ماشي، ربنا يستر طريقك يارب
أغلقت الباب ما أن اختفى خلف درجات السُلم وعادت للبدء في أعمالها المنزلية كالمعتاد.
***
كان يجلس أمام معرض السيارات في انتظار وصول والد بلال، فلم يريد الدخول قبل منه، بعد إنتظار طال لوقت، وصل السيد سمير بسيارته الفاخرة ( مرسيدس )، فهو رجل عاشق للسيارات والدراجات الغير معروفة إلا لديه، لقد نجح في بناء إسماً مميزاً له في تجارة السيارات.
أستقام يوسف من جلسته وبقامة منتصبة انتظر قرب سمير نحوه، رحب به بحفاوة مبالغة وهو يصافحه بود:
_ إزيك يا يوسف
" الحمد لله، إزاي حضرتك يا عمي"
هتف بها يوسف بمزيج من الخجل والحماس،
بينما ردد السيد سمير:
بخير الحمد لله
ولج سمير بقامته المنتصبة إلى مكانه برفقة يوسف التي وقعت عليه الأنظار متسائلين من هذا؟
فمن يريد مقابلة سمير يأخذ موعداً قبلها بفترة حتى يتمكن من رؤيته، فمن يكون ذلك الشاب الذي نال شرف مرافقته كتفاً بكتف؟!
ولج سمير مكتبه الزجاجي الذي يشاهد منه ما يدور في المكان بكل سهولة، نظر خلسة إلى الشاشة الكائنة أمامه، والتي تُجمِع كاميرات المكان، عاد بنظره إلى يوسف وسأله بلُطف:
_ تحب تشرب إيه، شاي، قهوة، ولا حاجة تانية؟
أسرع يوسف في الرد عليه بحرج بائن:
_ شكراً يا عمي، مش عايز أشرب حاجة
أصر سمير علي شربه لشيء فقال يوسف تحت ضغط:
_ الشاي يكون كويس
أمر سمير عامله بإحضار كوبان من الشاي لهما ثم حل الصمت الذي ارتبك يوسف إثره، ابتلع ريقه وحاول فتح معه أي مناقشة لكن دون جدوى، لا يدرى ماذا أصابه؟ ربما هدوء الرجل السبب في حالته.
خرج سمير عن صمته هاتفاً بهدوء يشوبه البرود:
_ بلال قالي أنك محتاج شغل، وأنا فعلاً محتاج لشاب يعرف يتعامل كويس مع الزباين، أول حاجة لازم تقعد مع عبد الرحمن، هو اللي بيستلم العربيات من برا وعنده خلفية كبيرة عن أنواع العربيات ومميزاتها وكل حاجة تقريباً عنها، لازم تعرفهم وتحفظهم كويس عشان أنت اللي هتعرف المشتري بكل اللي يخص العربية اللي يختارها، فهمت؟
اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه، فلم يريد أن يجادله فمن الممكن أن يستهزء به إن أخبره بمعلومـ.ـا.ته الكافية عن السيارات وأنواعها وكذلك مميزات كلٌّ على حِدَة، نهض عن مقعده حين حضر عبد الرحمن الذي لبى نداء مديره على الفور، وجه سمير حديثه إليه بنبرة عملية:
_ يوسف زميلك هنا لسه متعين جديد، عايزك تعلمه كل اللي يخص العربيات عشان يبدأ شغله بسرعة
أوماء عبد الرحمن برأسه مراراً وأجابه بلُطف:
_ تمام
وجه نظريه على يوسف وبإبتسامة هادئة هتف:
_ تعالى معايا
تبعه يوسف بعد أن استأذن من سمير، كان يحدج بالسيارات الفخمة الكائنة في المكان بحماس مختلط باللهفة لتجربة إحداهما، إلتوى ثغره للجانب بتهكم، فهل من الممكن تجربتهم حقاً؟!
أنتبه على صوت عبد الرحمن حين أشار إلى إحدى السيارات وبدأ يشرح له مواصفاتها وبعض المميزات التي تمتلكها السيارة، أخطأ عبد الرحمن من بين شرحه فعقب يوسف معدلاً على خطئه.
نظر له عبد الرحمن بتهكم وردد ساخراً:
_ أنت عايز تعرفني إنك عارف في العربية دي؟
شعر يوسف بالإهانة من خلف كلمـ.ـا.ته وبإستياء واضح بدأ يشير إلي بعض السيارات المتفرقة عن بعضها ويخبره كل ما يخصها بطـ.ـلا.قة وأسلوب سلِس، انبهر عبد الرحمن به للغاية، من الأقلاء أن يرى أحدهم يهتم لتلك السيارات الفاخرة، فمن ينظر إليها ويقوم بشرائها من رجـ.ـال الأعمال ذو المكانة الاقتصادية المرموقة.
حمحم عبد الرحمن بحرج وأبدى إعجابه به قائلاً:
_ طيب أنت كدا مش محتاج لمساعدة، ارجع للحاج سمير وعرفه إنك جاهز تبدأ في الشغل من الوقتي
دنى منه عبد الرحمن وهمس إليه بقُرب أذنه:
_ ومتقلقش مش هقول في حقك كلمة وحشة لو سألني عنك
تراجع عبد الرحمن للخلف وغمز إليه بعينه اليُمنى، ثم عاد إلى عمله، بينما صعد يوسف إلى مكتب السيد سمير لكي يخبره بأنه جاهز لتولي الوظيفة، تفاجئ سمير بعودته بتلك السرعة وسأله مستفسراً:
_ فيه حاجة صعبة عليك؟
استنكر يوسف سوء ظنهم به، لكنه حاول أن يكون أكثر لطافة فأردف مجيباً إياه:
_ لأ، بس أستاذ عبد الرحمن قالي أعرفك إني جاهز أشتغل من الوقتي
قطب سمير جبينه بعدm تصديق وردد مستنكراً حديثه:
_ بالسرعة دي قدرت تحفظ اللي المفروض تعمله؟
أستقام يوسف في وقفته حيث بات أكثر انتصاباً وبثقة تملكت منه قال:
_ لو حضرتك مش مصدقني، تقدر تكلم أستاذ عبد الرحمن بنفسه يقولك
"أكيد هكلمه، أنتوا بتهزروا؟!"
هتف بهم سمير وهو يهاتف عبد الرحمن الذي أجابه على الفور، فقام سمير بسؤاله بطريقة غير مباشرة عن يوسف، رُفع حاجبيه تلقائياً حين تلقى الرد الذي فاجئه، تنهد يوسف براحة حين تأكد من خلف ملامحه أنه سينال تلك الوظيفة حتماً.
تقوس ثغره ببسمة لم تتعدى شفاه حين أعاد السيد سمير الهاتف إلى مكانه ونظر إليه وأردف بعمليه:
_ مبروك عليك يا يوسف ياريت متخذلنيش، أنا بثق في عبد الرحمن جداً ومش هشكك في اللي قالوا عنك، بس أنا عايز أشوف الكلام دا بعيني
اتسع ثغر يوسف بإبتسامة هادئة لا تشبه الحماس الذي نشب داخله وأردف:
_ إن شاءالله أكون عند حسن ظنك يا عمي
حرك سمير رأسه وأشار بيُمناه إلى الباب مردداً بنبرة حازمة:
_ ودلوقتي تقدر تبدأ في شغلك
اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه ثم أولاه ظهره وغادر مكتبه، وقف بقُرب سيارته المحببة إلى قلبه، كم آراد امتلاكها وبشـ.ـدة، شعر لوهلة أنه اقترب من تحقيق هذا الحلم، فاليوم هو يقف بجوارها وغداً حتماً سيكون سائقها.
انتبه على دخول صديقه بلال الذي هلل متباهياً بصديقه:
_ حلال عليك الشغل الجديد
غمز له وواصل ممازحاً:
_ ألا قولي، بيعت كام عربية لغاية الوقتي؟
لكزه يوسف في ذراعه بقوة وهو يهاجمه مستاءً:
_ بيع إيه اللي بتتكلم عنه، أنا لسه مستلم الشغل حالاً
نظر كليهما إلى الأعلى حين جذب انتباههم صوت سمير من نافذته الزجاجية:
_ بلال، سيب يوسف في حاله وتعالى عايزك
مال بلال على يوسف وهمس له بضجر زائف:
_ لو كنت فاكر إنك ممكن تلعب أو تكسل هنا، فأنا بعرفك أهو، الراجـ.ـل اللي فوق دا مش بيحب كدا أبداً
دفعه يوسف بعيداً عنه وصاح فيه بتهكم:
_ اللعب والكسل بيجوا لما أنت تيجي يا بلال، وأكيد لما أنت تمشي هما هيمشوا معاك
اتسعت حدقتي بلال على رد صديقه الذي أفحمه، لم يعلم للرد سبيل، اكتفى برمقه بذهول بينما عاود والده ندائه مرة أخرى بانفعال:
_ بلال قولتلك سيب يوسف في حاله وتعالى عندي
تقوس ثغر يوسف بإبتسامة عريضة وطالع بلال بتشفي، فلم يرضى بلال نظراته المتشفية به وهتف بأمر:
_ يلا، ارجع لشغلك يا موظف ومتلعبش
حرك يوسف رأسه مراراً بينما صعد الآخر إلى والده الذي وبخه بقوله:
_ مش فالح غير في توظيف الناس عندي، لكن مبتبصش لنفسك يمكن تشغلها هي كمان، أنت معندكش دm؟، جحش في عمرك ولغاية دلوقتي بياخد مصروف من أبوه من غير ما يتكسف على دmه!
كاد بلال أن يبدي تزمره كسابق مـ.ـر.اته إلا أن والده ألحق به وتابع بنبرة صارمة:
_ بس أنا صبرت عليك كتير، ومش هقف أتفرج عليك أكتر من كدا من غير ما أعمل حاجة، من هنا ورايح رجلك على رجلي في أي مكان أروحه ومش هتمشي من هنا قبل ما أنا أمشي، مفهوم؟!
حمحم بلال وفغر فاهه ليعقب على ما قيل لكن والده قد أشار له بالتوقف، تعجب بلال من شرود أبيه في نافذته وتقدm نحوه حتى يعلم سر ما جذب انتباهه، تفاجئ بصديقه يوسف يتشارك الضحك مع أحد المشترين فظل يتابع مع والده مع ما يحدث في صمت.
تشـ.ـدق بلال بفمه للجانب مشكلاً إبتسامة إعجاب حين قام الرجل بشراء السيارة دون مجهود كبير من يوسف مثلما يفعل غيره من العاملين، لم يشعر بنفسه سوى وهو يردد عالياً بفخر:
_ قولتلك حلال عليك يابني والله
التفت يوسف برأسه ناحية بلال وأظهر ابتسامة هادئة على محياه عكس المشاعر المضطربة التي اجتاحته، عاد برأسه إلى الرجل الذي دس يده في جيبه وأخرج منه نقوداً ثم صافح يوسف مردداً:
_ دول علشانك
رفض يوسف أخذ المال، وتراجع عدة خطوات للخلف، خشية أن يُساء فِهمه من قِبل السيد سمير، قطب الرجل حاجبيه بغرابة فلم يرفض عامل مثله نقود من قبل، رفع رأسه وصاح موجهاً حديثه إلى السيد سمير:
_ يا حاج سمير قوله ياخدهم مني
أمر سمير يوسف بعملية باغتة:
_ خد منه الفلوس يا يوسف، معلش يا سالم بيه هو لسه مستلم الشغل جديد
شكل سالم إبتسامة رخيمة على ثغره ومد يده إلى يوسف مرة أخرى، فتردد يوسف في أخذهم لكنه امتثل لأمر رب عمله وتناولهم منه ثم بلُطف قال:
_ شكراً
ربت سالم على كتفه ثم صعد إلى مكتب سمير لكي ينهي إجراءات شراء السيارة بينما نزل بلال إلى صديقه وهو يهتف بسعادة:
_ إيه يابني دا؟ دا أنت أقنعت الراجـ.ـل يشتري العربية في أقل من خمس دقايق، قولتله إيه عرفني
إلتوت شفتي يوسف بثقة وأجابه بعجرفة وهو يضبط ياقة قميصه:
_ دا سر المهنة يا صاحبي، مش هتزعل طبعاً لو مقولتلكش
فغر بلال فاهه كما اتسعت مقلتيه بذهولٍ، حرك رأسه مستنكراً وصاح متهكماً:
_ شكلي كدا غلط لما عملت لك معروف، أنت ناكر للجميل يالا
ضم يوسف سبابته داخل إبهامه في شكل دائري، رافعاً بقية أصابعه في حركة تعني أنه كذلك بالفعل، توجه إلى المرحاض ثم رفع يده الممسكة بالنقود وتردد في معرفة كم عددهم لكنه حسم أمره وقام بعدهم، ابتسم حين رأى ورقة مالية قدرها مئتان جنيهاً.
دسهم في جيبه في حركة سريعة حين صغى لكلمـ.ـا.ت صديقه من الخارج:
_ يوسف تعالي أبويا عايزك
خرج على الفور وذهب إلى السيد سمير الذي شكره ممتناً ثم أنهى حديثه بإعجاب لشخصيته:
_ شكلك شاب ذكي ودا أنا شوفته بعيني، ومش بعيد عليك تخلق ليك مكانه خاصة هنا
فتح أحد أدراج مكتبه وأخرج منها ورقة قدرها مئتان جنيهاً ثم ناولها إليه وأردف:
_ كل ما بيعت عربية هتاخد زيهم، ومتقلقش هي خارج مرتبك
بإبتسامة خجولة عـ.ـذ.بة قال يوسف ممتناً له:
_ شكراً لحضرتك، عن إذنك لو مكنتش محتاجني في حاجة تاني
أشار إليه سمير بالخروج فخرج يوسف على الفور وهو يشعر بالسعادة لكونه امتلك ذلك المبلغ في أقل من ستون دقيقة، تنهد براحة وشعر بأن الأيام المقبلة ستضحك في وجهه وسيكفي حاجة عائلته بكل ما يلزمهم وخصيصاً تلك الفتاة اليتيمة.
أنتبه على اهتزازة هاتفه في جيبه فسحبه وإذا بها والدته، ابتسم تلقائياً وأجاب على الفور بنبرة سعيدة:
_ حزري يا أمي أخدت كام من أول ساعة
أجابته بنبرة هادئة استحث منها يوسف قلقها أو ربما خوفها حين قالت:
_ تتهنى بيهم يا حبيبي
عقد ما بين حاجبيه بغرابة وتسأل في قلق تملكه:
_ في حاجة حصلت يا أمي، صوتك مش عاجبني
حمحمت وبتردد مبالغ أخبرته:
"لينة مش بتبطل عـ.ـيا.ط يا يوسف"
أردفتهم السيدة ميمي ونبرتها حزينة لفشلها في إرضائها، اضطرت إلى اللجوء لمهاتفة ولدها ربما يجيد التعامل معها، قلق يوسف مما سمعه للتو وسألها بلهفة:
_ بتعيط ليه يا أمي، إيه اللي حصل؟
↚
بتردد شـ.ـديد في إخبـ.ـاره، أرغمت ذاتها على التحدث وهي تحدج "زياد" الجالس أمامها منكس رأسه بنظرات تحمل المعاتبة:
_ هقولك، بس الأول اوعدني إنك مش هتتعصب
لقد بلغ يوسف ذروة تحمله، فهو لا يحب المماطلة في الحديث، ناهيك عن كُرهه لأخذ الوعود قبل أن يعلم بحقيقة الأمور، فكيف له أن يعطي وعداً على شيء لا يعلم مدى خطورته؟!
تأفف بصوت مسموع وبنبرة تحمل من الغضب قدراً قال:
_ يا الله، يا أمي أنتِ عارفة كويس إني مش بحب المماطلة في الكلام ولا أخد وعود قبل ما أعرف السبب!
توقف عن الحديث، وأوصد عينيه مع أخذه لشهيقاً زفره على مهلٍ، عاد لمواصلة المكالمة بنبرة هادئة عكس التي كان عليها:
_ عشان خاطري يا أمي، عـ.ـر.فيني إيه اللي حصل وإن شاءالله أحاول متعصبش لو الموضوع ميستاهلش
علمت ميمي أنها لن تأخذ منه وعداً كما حثته، كما علمت أن عليها إخبـ.ـاره لا مجال من الهرب بعد، بهدوء حاولت لملمة الأمر فأردفت:
_ أخوك مقصدش إنه يقطع عروسة لينة..
حسناً، الأن علم الحقيقة كاملة دون أن تكمل والدته، هز رأسه بتفهم وبهدوء مخيف أردف كلمـ.ـا.ته:
_ ناولي الموبايل لـ لينة عايز أكلمها
ثوانٍ معدودة ثم وصل إليه نحيب الفتاة التي بات واضحاً للغاية لأذنيه، فتحدث بنبرته الرخيمة:
_ لينة، أنتِ معايا؟
أجابته من بين بكائها بنبرةٍ متحشرجة:
_ آه
تنفس بعض الهواء وتابع مكالمته:
_ متعيطيش لو ليا خاطر عندك، عايزة تزعليني؟
ردت عليه بعد محاولات فاشلة في التوقف وهي تطالع دُمـ.ـيـ.ـتها الممزقة بين يديها:
_ مش عارفة، دي هي اللي فضلالي، هي كمان مشيت زيهم..
أغلق يوسف عينيه حين وقعت كلمـ.ـا.تها على مسامعه، لقد شعر بوخزة قوية في قلبه إثرهم، ابتلع ريقه وحاول أن يعود لرشـ.ـده فلا مكان للتأثر الآن، عليه تهدئتها فقط، هذا ما عليه فعله في ذلك الحين.
عاد إليها ولا يدري أي من الحديث يقول، هـ.ـر.بت كلمـ.ـا.ته ولا يعلم سبيل لهم، فلم يشعر بنفسه سوى وهو يقول:
_ طيب متعيطيش، أنا موجود جانبك يا لينة، يعني مفيش داعي للزعل، طلاما فيه يوسف يبقى فيه حل دايماً
أنتبه يوسف لنزول السيد سمير برفقة بلال فحاول إنهاء المكالمة على الفور حيث قال:
_ أنا هقفل دلوقتي لأن عندي شغل، بس اوعديني الأول إنك هتبطلي عـ.ـيا.ط
بعد وقت ليس بطويل أجابته بمزاج غير سوي:
_ هبطل عـ.ـيا.ط..
أنهى الإتصال فور إعطائها وعداً له، وضع هاتفه في جيبه سريعاً، شكل ابتسامة وهو يتابع خروج السيد سمير من المكان، اقترب منه بلال حيث لكزه في كتفه وهتف ممازحاً:
_ كنت عارف إن دmاغك هتعجب أبويا، بس أنا مال أهلى بيك، أتهزأ كأني عيل صغير بسببك ليه؟
ببرودٍ أراد يوسف مشاكسته فهتف:
_ دي الحقيقة فعلاً، إيه الجديد؟
تفاجئ بلال من رده ولم يعقب عليه، فلن يكون لديه ما يكفي للرد عليه، تنهد مستاءً فسأله يوسف وهو ينظر إلى الساعة المعلقة أمامه:
_ هو مفيش هنا وقت للراحة؟
أجابه بلال وهو ينظر إلى وجهته ذاتها:
_ أكيد فيه، بس لسه بدري أوي عليه
عاد ببصره إليه وتابع استرساله:
_ بيكون حوالي الساعة ٢ بعد الضهر
قطب بلال جبينه بغرابة وسأله بفضول لمعرفة ما خلف سؤاله:
_ بتسأل ليه؟
باختصار شـ.ـديد أخبره يوسف مردفاً:
_ عايز أشتري حاجة وأنت هتيجي معايا
مازحه بلال كعادته:
_ والله دي حاجة ترجع ليك، هتدفع كام؟
طالعه يوسف باحتقار وصاح بالسُباب:
_ مشوفتش مادي حقير زيك قبل كدا
انحنى بلال بجسده إلى الأمام كالذي يرحب بجمهوره هاتفاً بفخر:
_ شكراً يا قليل الذوق
انفجر يوسف ضاحكاً على تصرفه الأخرق، هز رأسه باستنكار ثم تركه ومر بخطاه في المكان لكي يرى معالمه كاملة، رافقه بلال وبدأ يعرفه على بقية العاملين وأيضاً كان يعرفهم بيوسف بسعادة وفخر.
***
دقت عقارب الساعة وحانت الثانية ظهراً، كان يوسف يعُد الثوانِ بفروغ صبر حتى أتت ساعته المنتظرة، بحث عن صديقه ثم أسرع ناحيته، حاوط ذراع بلال بيده متمتماً:
_ يلا عشان نمشي
تأكد بلال من الوقت ثم سأله بفضول:
_ أنت مش هتقولي إحنا رايحين فين؟
رفض يوسف إخبـ.ـاره بوجهتهم لغرض ما في عقله وأجابه مختصراً:
_ هتعرف لما نوصل
ذهب معه بلال والفضول يزيد داخله عن ذلك المكان المجهول، بعد دقائق قليلة قد وصلا إلى السوق، صاح يوسف عالياً حين وقع نظريه على مراده:
_ استنى، أوقف هنا
صف بلال السيارة الذي استعارها من المعرض جانباً، ترجل منها وتابع خطواته خلف يوسف الذي يسبقه بسنتميرات قليلة، انعقد حاجبيه تلقائياً حين وقف يوسف أمام متجر ألعاب.
التفت إليه يوسف وحثه على القدوم بقوله:
_ تعالي يلا
بالتأكيد يمازحه، دوى سؤال بلال في الوسط قائلاً:
_ إيه دا؟ أنت مش كبرت على الحاجات دي يا يوسف، ولا أنت عندك طفولة متأخرة؟
قلب يوسف عينيه بضجر واضح، توجه إليه وأمسك بذراعه مستاءً من سخريته وأردف بتهكم:
_ هشتري عروسة عشان لينة
ازداد انعقاد حاجبي بلال وردد ساخراً:
_ يسلام! إيه كل الإهتمام دا يا بني، من امتى وأنت حنين كدا؟
نفخ يوسف عالياً بتزمجر، نـ.ـد.م لوهلة أنه اصطحب ذلك المتنمر معه، عاد لينظر إليه وبنفاذ صبر هتف:
_ عشان كدا أنا مردتش أعرفك إحنا رايحين فين، عشان عارف إنك مش هتبطل تريقة، وبعدين كام مرة هقولك إنها أمانة صاحبي، وغير كدا أنا وعدت علي إنها مش هينقصها أي حاجة طول ما أنا موجود، والبنت بتعيط عشان عروستها اتقطعت، مش المفروض أجيب لها غيرها؟
استند بلال بمرفقه على حائط المتجر مستند بوجه على كفه وطالع يوسف بأعين متأثر وبسخرية ردد:
_ مكنتش عارف إن قلبك رقيق كدا يا يوسف، شكلي هخبط عربيتي أنا كمان عشان تجيبلي غيرها
تجهمت تعابير يوسف فلقد فاق بلال الحماقة، أزاح يده من على ذراعه وتابع سيره إلى الأمام وهو يتمتم بغيظ:
_ أبقى غلطان لو أخدتك في مكان تاني
قهقه بلال عالياً، فكانت ضحكته مرتفعة فأثارت أنظار المارة، أسرع من خطاه إلى الداخل حين رأى الجميع ينظرون إليه، وقف خلف يوسف وحاول إرضائه بشتى الطرق لكن محاولاته بائت بالفشل الذريع، فيوسف كان صعب الإرضاء، ولا يقبل الإعتذار بسهولة، كان هذا المتعارف عنه.
شعر بلال بأنه مغفل كبير بعدm نجاحه في إرضاء صديقه مثلما نجح بجدارة في تعكير صفوه، إلتوي ثغره للجانب بسعادة حين أتى بفكرة ربما تصلح الأمر بينهما.
بحث في المكان بعناية عن مراده، وقام بانتقاء أكبر الدُمى وأغلاهم ثمناً، عاد إلى يوسف الذي كان يقف يحاسب على ثمن الدُمية التي قام باختيارها من بين جميع الدُمى على الرغم من أن هناك أجمل منها، لا يعلم بلال ما سبب اختيار تلك تحديداً، لكن حتماً هناك أمراً خلف ذلك الاختيار.
خرج يوسف من المكان دون أن يلتفت، استقل السيارة ثم أغلق الباب ولازال ينظر أمامه في انتظار عودة بلال، مرت دقيقتين وخرج بلال من المتجر، توجه إلى الأمام وهو يكاد يرى أمامه لحجم الدُمية الهائل.
أنتبه يوسف على ركلات خارجية على الباب، التفت برأسه فتفاجئ بوجود دُمية ضخمة يحملها بلال، صاح بلال بنبرة مرتفعة من خلف الدُمية:
_ بطل تتفرج على خلق الله وانزل افتح لي الباب اللي ورا
لم يبرح يوسف مكانه، بل اكتفى بفتح الباب الخلفى له من الداخل، هز بلال رأسه في استنكار شـ.ـديد، على ما يبدوا أنه مازال غاضباً منه، وهو لا يفعل سوى سكب البنزين على النيران بكلمـ.ـا.ته التي تزيده غضباً، عليه أن يصمت قليلاً.
تنفس الصعداء حين وضع الدُمية في المقعد ثم قام بغلق الباب بصعوبة قابلها لوقت بسبب حجمها، استقل كرسيه ونظر إلى يوسف وقال بمشاكسة:
_ جبت الباندا دي عشان لينة، قولها إني جبت لها هدية لما شوفت عروستك الصغيرة اللي أكيد مش هتعجبها
تعمد بلال النظر إلى الدُمية التي يمسك بها يوسف وضحك باستهزاء، ازداد تجهم تعابير يوسف أضعافاً وكاد أن يترجل من السيارة إلا أن بلال قد لحق به وحاول الإعتذار منه:
_ في إيه يابني، بهزر معاك، من امتى وأنت حساس وبتزعل من أقل حاجة كدا؟
رد عليه باقتضاب وعبوس:
_ أنت لسه محفظتش إني مش بحب المبالغة في التريقة والهزار؟
زفر بلال أنفاسه، شعر بالخجل الشـ.ـديد يجتاحه من قِبل كلمـ.ـا.ت يوسف، نظر إليه بنـ.ـد.م وأردف نادmاً:
_ خلاص هحاسب على كلامي بعد كدا، متزودهاش أنت كمان
بجمودٍ حدثه يوسف:
_ ماشي، ارجع بينا على البيت عندي
أمسك بلال بالطارة أمامه ثم عاد لينظر إلى يوسف، حاول انتقاء كلمـ.ـا.ته بعناية حتى لا يغضبه ثانيةً، لكنه لم يمنع ضحكته من التشكل على ثغره وأردف وعينيه مصوبتان على الدُمية:
_ هسألك سؤال، بس متتعصبش، بس بجد اشمعنا العروسة دي، كان في أجمل منها هناك
تنهد يوسف وأخبره عما وراء الدmية:
_ لأن دي العروسة اللي شبه عروستها اللي اتقطعت
أومأ بلال بتفهم ثم نظر أمامه وانطلق بالسيارة ليعودان إلى منزل يوسف.
بعد مرور ما يقرب الثلاثون دقيقة، وصل بلال إلى حييهم وصف السيارة أسفل البناية العائدة ليوسف وعائلته، ترجل من السيارة سريعاً وفتح الباب الخلفى وحاول سحب الدُمية وبصعوبة بالغة نجح في إخراج نصفها.
تشنجت عروقه بغيظ لعدm مساعدة يوسف له، نظر إليه حيث يقف مستند على باب البناية يشاهده دون مد يد العون له، فصاح به بغيظ عارم:
_ لو مش هتعب سيادتك يعني ينفع تساعدني
قلب يوسف عينيه بضجر فهو لم ينسى بعد تصرفاته الحمقاء، تنهد باستياء ثم توجه إليه، ترك ما معه على سقف السيارة ثم انحنى بجسده داخلها ليدفع الدmية إلى الأمام فيقوم بلال بسحبها للخارج.
جذب انتباه بلال تلك الطلة التي خفق لها قلبه، ازدادت نبضات قلبه بصورة مضاعفة حين رآها تتقدm منهما، ابتلع ريقه ولم يرفع نظريه عنها، تشكلت إبتسامة عفوية على محياه ونسى أمر الدmية تماماً.
"واقف عندك مش بتتحرك ليه، أسحبها يلا عشان نخلص"
صاح بهم يوسف باندفاع فقطع على بلال لحظته الخاصة، نفض أفكاره سريعاً ثم أمسك بطرف الدmية وقام بسحبها إلى الخارج فكان الوضع أسهل عن ذي قبل بمساعدة يوسف له.
أستقام يوسف فتفاجئ بمن تقف خلفه وردد إسمها بغرابة مختلطة بالضيق:
_ إيمان!
مرر أنظاره خلفها وعاد إليها متسائلاً بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ أنتِ جاية هنا تعملي إيه؟
طالعته إيمان بأعين جاحظة، فلقد أخجلها بسؤاله وأسلوبه الفظ، حمحم يوسف حين شعر بأنه كان فظاً أكثر مما ينبغي وأردف بنبرة هادئة:
_ قصدي يعني فيه حاجة حصلت؟
هزت رأسها نافية أي سؤاله وأخبرته عن سبب وجودها بنبرتها الرقيقة:
_ جاية أشوف عمتي وأطمن عليها
أومأ يوسف بتفهم ثم دعاها للصعود قائلاً:
_ اه تمام اتفضلي
نظر إلى صديقه الذي لم يرفع بصره عنها ويتبع تحركاتها باهتمام، أشار له بيده لإعادته إلى الواقع وقال:
_ Hi, أنت بتبص على إيه؟
نظر إليه بلال وقد تملكه التـ.ـو.تر وبنبرة مرتبكة أجابه:
_ مش ببص على حاجة، ينفع نطلع بقى..
وجه أنظاره إلى الدُمية وتابع حديثه:
_ عشان تقيلة أوي
أولاه يوسف ظهره وصعد الأدراج سريعاً، تبعه بلال ويكاد قلبه يخرج من مكانه بسبب قوة تدفق الدmاء به، صعد السُلم إلى أن وصل إلى الطابق المراد الوصول إليه.
دعاه يوسف إلى الداخل فلم يتردد في ذلك، ولج وعيناه تبحث عنها، كانت جالسه برفقة عمتها تتبادلن الضحك، توقفن حين رآوه، نهضت السيدة ميمي ورحبت به بحفاوة:
_ يا أهلا وسهلاً يا بلال البيت نور
بإبتسامة ونبرة رخيمة قال:
_ دة نورك، أخبـ.ـار حضرتك إيه؟ يارب تكوني بخير
بإمتنان شـ.ـديد ردت عليه:
_ أنا بخير الحمدلله
عقدت ميمي حاجبيها حين وقع بصرها على الدُمية التي يمسك بها بلال وبمعنى آخر يعانقها وسألته بحرج:
_ إيه كل دا يا بلال، جايبها لمين؟
أجابها على استحياء وارتباك شـ.ـديدان، فبندقيتي إيمان تطالعه، شعر لوهلة بعدm معرفته للوصول إلى رد مناسب، حمحم وقال مختصراً:
_ أشتريتها عشان لينة، عرفت من يوسف إن عروستها اتقطعت
شعرت ميمي بالحرج بسبب تصرف صغيرها الأرعن وشكرته ممتنة:
_ تعبت نفسك يا بلال، مش عارفة أقولك إيه
تدخل يوسف وهو يبحث عن الصغيرة في الأرجاء:
_ لينة فين يا أمي؟
ارتخت ملامح السيدة ميمي وأخبرته بهدوء يشوبه الحـ.ـز.ن:
_ في أوضتها، مخرجتش من فترة
أومأ يوسف بتفهم وتوجه ناحية غرفتها دون تفكير، بينما دعت ميمي بلال للجلوس بلطف:
_ اتفضل أقعد يا بلال، متقفش كدا
بادلها بلال ابتسامة هادئة ثم ترك الدُمية جانباً وتوجه إلى أقرب أريكة قابلته وكانت أبعدهم عن إيمان، كان منكس الرأس لكنه يختلس النظر إليها من حين لآخر، شعر باحتياجه لخـ.ـنـ.ـق أنفاسه التي تكاد تفضح أمره.
كلما حاول الهروب بعيناه بعيداً يعود إليها من جديد، حاول تشتيت عقله لكن دون جدوى في النهاية تفشل محاولاته ولا يستطيع السيطرة على عينيه التي تعود إليها في نهاية المطاف.
دق يوسف باب غرفة لينة ثم ولج إليها حين سمحت له، أخفى الدmية خلف ظهره وتقدm نحوها بإبتسامته الجذابة، تأثر من وضعها التي كانت عليه، فقط كانت جالسة في منتصف الفراش تحتضن ما تبقى من دmيتها الممزقة.
زفر أنفاسه على مهلٍ، جلس أمامها فلم ترفع نظريها عن الفراغ أمامها، تتساقط عبراتها في صمت، بهدوء قام يوسف بوضع الدُمية الجديدة أمامها، مرت ثانية تلاها أخرى بدأت تهتم الفتاة لما وضعه يوسف أمامها.
اتسعت مقلتيها بذهول حين رأت التشابه الكبير بينها وبين دmيتها الحبيبة، رفعت بصرها على يوسف الذي كان يتابع انعكاس ملامحها وأردفت متسائلة:
_ هي دي ليا؟
أماء لها بتأكيد، فأسرعت لينة في التقاطها، قامت بسحبها من العُلبة الكرتونية وهللت في سعادة:
_ دي شبه عروستي بالظبط، أول لما شوفتها فكرتها هي
نظرت إليه وقد تحول حـ.ـز.ن عينيها إلى سعادة وحماس، استشفهما يوسف بسهولة، ببراءة ونبرة مليئة بالحيوية قالت:
_ شكراً
إلتوى ثغر يوسف للجانب فظهرت ابتسامته وأردف بنبرة رخيمة:
_ أنا قولتلك طلاما فيه يوسف يبقى فيه حل، من هنا ورايح مش عايزك تفكري في أي حاجة طول ما أنا موجود، تمام
أماءت له عدة مرات مجيبة إياه بحماسة:
_ تمام
خرج يُوسف من الغرفة بعد أن تأكد من رضاء لينة التام عن الدُمية، تبعته هي إلى الخارج والسعادة دون غيرها قد سكنت قلبها وأعادت الحيوية لروحها كما أشرق وجهها من جديد.
نهضت السيدة ميمي حين رأت هطول يوسف وقالت بعفوية:
_ بما إننا كلنا موجودين، هروح أحضر الغدا ناكل مع بعض
كان بلال أول من عارض اقتراحها وأبدى رفضه وهو ينهض عن كرسيه:
_ لا متعمليش حسابي، أنا لازم أمشي
أصرت ميمي على اقتراحها وبنبرة لا تحتمل النقاش هتفت:
_ أنا مش بقولك عشان ترفض أو تقبل أنا بعرفك بس
أولاتهم ظهرها دون إضافة المزيد، فشعر بلال بالخجل وحاول أن يقنع يُوسف من جانب آخر:
_ أتكلم يا يوسف ساكت ليه؟
قلب يُوسف عينيه وهو يخبره بعدm قدرته على فعل شيء له:
_ مفيش في أيدي حاجة أقولها، ميمي صدرت الأمر خلاص
نفخ بلال بإزدراء ثم وقعت عيناه على لينة الواقفة خلف يُوسف وبيدها دُمـ.ـيـ.ـتها الجديدة، شكل بسمة على ثغره وقال بعجرفة:
_ تعالي يا لينة، شوفي عمك بلال جاب لك إيه؟
تقدmت الفتاة حين حثها يُوسف على ذلك فتوجه بلال إلى الدُمية الكبيرة وسألها متلفهاً لسماع إجابتها:
_ إيه رأيك فيها؟
طالعتها لينة بإنبهار شـ.ـديد، فلم ترى ذلك الحجم من قبل، ابتسمت وهي توزع أنظارها بين بلال والدُمية وهتفت بإعجاب:
_ دي كبيرة أوي، مشوفتش باندا كبيرة زي دي قبل كدا
رفعت كتفيها كما ازداد تقوس ثغرها وعادت إلى بلال بأنظارها متسائلة:
_ دي عشاني؟
حماسه أجابها بسرعة دون تفكير:
_ أيوة جيبتها عشانك
فغرت لينة فاها بذهول، ركضت مهرولة نحوها وهي تتمتم بفرحة واضحة:
_ جميلة جداً
التفتت برأسها إلى بلال وبامتنان قالت له:
_ شكراً
انحنى بلال بجسده للأمام قليلاً وهو يجيبها:
_ أي خدmة يا لولو
استقام بلال في وقفته ونظر إلى يُوسف الذي يتابع ما يدور بينهما في صمت، أراد مشاكسته فوجه سؤاله الساخر إلى الفتاة قائلاً:
_ بس قوليلي يا لينة مش هي أجمل من العروسة اللي يوسف جايبها؟
"أكيد لأ، عروسة يوسف مفيش أجمل منها حتى لو مكنتش كبيرة زي بتاعتك دي''
هتفت بهم لينة بتلقائية ونبرة مليئة بالثقة، اتسعت حدقتي بلال بذهول مصحوبة بالصدmة فلم يتوقع ردها ذاك، بينما قهقه يُوسف بعجرفة وهو يرى حالة صديقه الملحوظة.
تأففت إيمان بضجر بائن، فلم يعجبها إهتمام الجميع بتلك التعيسة الصغيرة، لقد جاءت ونالت اهتمام يُوسف بكل سهولة، فكم تمنت الحصول على ذرة اهتمام بسيطة منه، ناهيك عن توقعها بنجاحها في جذبه إليها ما أن ينهي خدmته العسكرية، لكن مجئ تلك الغـ.ـبـ.ـية قد خرب جميع مخططاتها.
انتفضت من مكانها بضيق، ولجت إلى عمتها لتساعدها في تحضير الطاولة، بينما لاحظ بلال زمجرتها وفسره بأنه غيرة على يُوسف لاهتمامه بالصغيرة بدلاً عنها.
نكس رأسه في حـ.ـز.ن قد تبدد في قلبه، فكم هو صعب شعور الحب الغير متبادل، وأن تكِن مشاعر لقلب يكِن مشاعر لغيرك.
انتهوا من تحضير الطاولة التي ترأسها يُوسف وبجواره والدته وإلى الجانب الآخر لينة، وكان لبلال نصيب لأن يجلس مقابل إيمان، لم يهدأ قلبه لحظة، شعر باحتياجه لخـ.ـنـ.ـق أنفاسه التي تكاد تفضح أمره.
لم يستطيع الصمود لوقت أكثر ونهض مستأذناً منهم:
_ سفرة دايمة، معلش أنا لازم أمشي، أكيد أبويا بيسأل عني، لأن أنا مقولتلوش إني هتأخر
لم تعترض ميمي فهي لا تحب أن ينال توبيخاً من خلفها، نهض يُوسف هو الآخر مردفاً وهو يمسح على فمه بالمنشفة:
_ تمام، يلا نرجع مع بعض
نهضت إيمان موضحة سبب نهوضها بتلك السرعة:
_ أنا كمان لازم أمشي يا عمتو، عندي مذاكرة كتير ولازم أخلصها النهاردة
"تعالي نوصلك في طريقنا"
توجهت الأنظار نحو بلال الذي هتف بهم، رمقه يُوسف بنظرات مشتعلة فرفع بلال كتفيه بقلة حيلة، لم يرتب لما قاله مطلقاً، ولا يعلم كيف تجرأ وقال ذلك..
***
يا ترى إيه ردة فعل يوسف بعد اقتراح بلال؟
مستنية رأيكم وتحاليلكم وريفيوهاتكم ♥️
«حرِر هَواكَ فَالحُب بَاتَ مُعلنَا»
«الفصل السادس»
***
بسم الله الرحمن الرحيم
حاول تهدئة روعه وزفر أنفاسه على مهل فتدخلت السيدة ميمي مرحبة بذلك الإقتراح:
_ تسلم يا حبيبي، المواصلات هنا صعبة أوي
نفخ يُوسف متزمجراً، وصل صوته إلى أذني ميمي فقالت له:
_ يوسف تعالي معايا
استأذنت منهم ودخلت إلى المطبخ، تبعها يُوسف إلى الداخل فأسرعت هي موبخة إياه:
_ أكيد مش هتسيب بنت خالك تروح مع صاحبك لوحدها!
تأفف يُوسف بصوت مسموع وهو يضـ.ـر.ب الحائط بغيظ عارم ورد عليها بغضب:
_ أكيد مش هعمل كدا، بس ليا كلام تاني مع الغـ.ـبـ.ـي اللي ورطنا الورطة دي
هرول يُوسف إلى الخارج بوجه جـ.ـا.مد، ودون أن ينظر إلى أحدهم خرج من المنزل فتبعه بلال الذي علم بحجم المصـ يـ بـةالتي اقترفها، حمحم بحرج ونظر إلى إيمان التي كانت تجلب حقيبتها وقال:
_ هستناكي تحت
نظرت إليه بحيرة فعدل حديثه قائلاً:
_ قصدي هنستناكي..
أولاها ظهره وهرول بخطاه إلى الخارج، بينما ودعت هي عمتها ثم غادرت، ركب ثلاثتهم السيارة وكان الصمت رابعهم، لم يُنطق حرفاً منذ ركوبهم السيارة، فكان يُوسف يطالع الخارج من النافذة والغضب يتأجج داخله، بينما كان بلال يختلس النظر إلى المرآة ليرى وجهها الخجول، لكنه كان يرى ما لا يسُر خاطره فنظراتها لم تُرفع من على يُوسف قط.
وصل بلال إلى منطقتها وأوقف السيارة تحت بنايتهم وسألها بلُطف:
_ البيت هنا، صح؟
انتبهت له إيمان وأجابته ممتنة:
_ أيوة هنا، شكراً
لم يرد عليها سوى بلال وكان لطيفاً للغاية معها:
_ معملتش حاجة، دا واجبي
بادلته ابتسامة هادئة ثم ترجلت من السيارة وألقت نظرة سريعة على يُوسف الغاضب ثم صعدت إلى منزلهم، التفت يُوسف إلى بلال الذي كان يخشى انفرادهما لتلك المواجهة وصاح بإزدراء:
_ أنت إيه اللي خلاك تقولها نوصلك؟ أنا مش عايز أكون معاها في أي مكان، أنت مش عارف كدا يعني؟! أنا مش بديها ريق حلو وهي مش شايفة غيري، تخيل بقى لو إديتها! أكيد هتقول إني واقع في حبها مش بعيد عليها والله
حرك يُوسف رأسه مستنكراً ما حدث، عاد لينظر إلى الخارج لكنه لم يتوقف عن توبيخه:
_ مش مصدقك بجد، ليه تقولها كدا وأنت أكتر واحد عارف إني رافض قربها مني، عملت كدا ليه يا بلال بجد مش لاقي تفسير؟
التفت يُوسف برأسه ثانيةً إليه وتابع أسئلته التي لم تنتهي بعد بنبرته المشحونة:
_ قولي، عرفني يلا، أمي اتفقت معاك تعمل كدا؟
بهدوءٍ مريب أجابه بلال:
_ لأ، الموضوع مش كدا خالص
نظر أمامه هارباً من عيناي يُوسف، فصاح الآخر متسائلاً بحُنق:
_ أومال؟ لو مكنش الموضوع كدا هيكون إيه؟
ابتلع بلال ريقه، لا يعلم هل إخبـ.ـار يُوسف عن مشاعره سيكون صائباً أم لا، أصر يُوسف إلى معرفة حقيقة الأمر فأردف بنبرة متحشرجة:
_ أنا بحبها يا يوسف!
حرك بلال رأسه لليمين ليستشف تعابير صديقه، فلم يرى سوى جمودٍ لا غيره، وأخيراً قد نطق يُوسف وردد بعدm استيعاب:
_ إيه؟
تبادلا كليهما النظرات وبدأ بلال في قص متى شعر بمشاعر نحوها، وكان يُوسف يصغي إليه باهتمام يشوبه الذهول فلم يتوقع ذلك البتة، حيث قال بلال باستحياء شـ.ـديد:
_ مش فاكر بالظبط الموضوع بدأ إزاي، بس فاكر كويس الكام مرة اللي كانت بتزوركم فيها وأنا مكنتش بقدر أشيل عيوني من عليها، وكل مرة كنت ببقى مركز معاها بطريقة غريبة، لغاية ما بدأت أستنى زياراتها ليكم بفارغ الصبر، كنت بعد الأيام وأوقات كمان الساعات لغاية ما أشوفها تاني، مكنتش عارف إيه اللي بيحصل دا إيه ولا إسمه إيه بس عرفت النهاردة!
أوصد بلال عينيه لبرهة وبحرج شـ.ـديد تابع استرساله وهو يحدج بعيني يُوسف:
_ عرفت إيه هو لما اتفاجئت بيها قدامي النهاردة، وقلبي دق جـ.ـا.مد، محستش بالإحساس اللي حسيته دا قبل كدا، عرفت لما لساني نطق لوحده وقالها نوصلك في طريقنا، صدقني مكنتش مرتب لكدا أبداً، حسيت إني عايز أفضل قريب منها أكتر وقت ممكن، واتاكدت برده لما غرت من نظراتها عليك، اتمنيت لو كنت مكانك عشان تكون نظراتها دي ليا أنا مش أنت!
تجهمت تعابير بلال وانعكست نبرته حيث مالت إلى الشـ.ـدة في قوله:
_ ولما اضايقت من أسلوبك معاها، مش عيب عليك تعامل واحدة بالرقة دي بأسلوبك الوقح دا؟
ذُهل يُوسف بل صُعق من حديث بلال وخصيصاً آخر ما قاله، ظل يطالعه بعدm تصديق حتماً يمزح فكيف سيكون إن لم تكن مزحة؟!
"أنت بتهزر، صح؟"
سأله يُوسف في انتظار تأكيد سؤاله، لكنه تلقى عكس ما أراد سماعه:
_ هو فيه هزار في المواضيع دي يا يوسف، فين الهزار في إني بحبها؟ أنا قولتلك لأني متأكد إن مفيش مشاعر ليها جواك..
توقف بلال عن الحديث فجاءة، وحدجه بطرف عينيه لثوانٍ قبل أن يعيد سؤاله بتردد:
_ أنت مش بتحبها، مش كدا يا يوسف؟
تفاجئ يُوسف من سؤاله الساذج، هز رأسه باستنكار شـ.ـديد، فكيف يكون داخلة ذرة شك به وهو على علم بما يدور في عقله، زفر يُوسف أنفاسه وبإستهزاء هدر به شزراً:
_ أنت بجد بتسألني! أنت مش شايف رفضي الواضح ليها من دقايق بالظبط عشان متفهمش هي إني عايزها تقربها مني؟!
نظر يُوسف في الفراغ أمامه يستوعب على مهل ما أخبره به بلال، شيهقا فزفيراً فعل ثم أردف بنبرة ساخرة:
_ وهو يجي ويأمرني إني أبطل أسلوبي الجـ.ـا.مد معاها!
عاد يُوسف بأنظاره إليه وتابع ساخراً:
_ يابني البنت مفيش وراها غيري وأنا بعاملها بالطريقة دي، ما بالك بقى لو حسنت معاملتي معاها؟ تخيلت للحظة إيه اللي ممكن يحصل وقتها؟
ارتخت ملامح بلال تدريجياً، انعكس حـ.ـز.ن قلبه على تعابيره، حاول يُوسف تخفيف الأجواء المشحونة، فلكمه في رأسه بخفة وهو يهلل ممازحاً:
_ إبننا وقع في الحب وإحنا منعرفش!
ابتسم بلال بحرج فقهقه يُوسف عالياً وواصل مزاحه:
_ لا وبيتكسف كمان، صفتين يظهروا فجاءة كدا، بجد مش قادر أصدق، مش متعود عليك كدا، بس أنا أوعدك إني من هنا ورايح مش هبطل تريقة عليك، والله وجالك يوم يا بيلو
حدجه بلال مذهولاً فقطع حبال ذهوله يُوسف بقوله:
_ ارجع بينا يلا على الشغل، إحنا اتاخرنا يا أبو قلب رقيق
لم يعقب بلال وفضل الصمت في تلك الأثناء، أعدل من جلسته ثم دعس على محرك السيارة وانطلق بها مبتعداً عن المكان عائداً إلى عملهما.
***
قُضي اليوم في سلام وفي صباح اليوم التالي، استيقظ يُوسف باكراً عن بقية أيامه، بدل ثيابه سريعاً ثم خرج من غرفته باحثاً عن أخيه الذي يهرول إلى الخارج بُخطى متعرقلة فتفاجئ زياد بصياح يُوسف:
_ استنى عندك، فاكر نفسك هتقدر تهرب مني زي ما هـ.ـر.بت إمبـ.ـارح طول اليوم، ولما رجعت من الشغل عملت نفسك نايم!
تعرقل زياد في الحديث على الرغم من لباسه لثوب الجُرأة:
_ وههرب منك ليه؟
تقدm يُوسف بقامة منتصبة توجس زياد خيفة إثرها، لكنه صمد لكي لا يظهر ضعيفاً أمامه، وقف يُوسف مقابله وتحدث بنبرة حادة صارمة:
_ ممم نقول مثلاً إنك خايف تقابلني..
ابتلع زياد ريقه وسأله مستفسراً:
_ وأنا هخاف منك ليه برده، أنت عايز توصل لإيه يا يوسف؟
علم يُوسف أنه سيماطل في الأمر ولن يعترف بسهولة، حرك رأسه ثم مد يده إليها وقال ببرود:
_ هات مصروفك
قطب زياد جبينه بغرابة وقبل أن يسأله عن السبب، أعاد يُوسف تكرار طلبه بغضب:
_ قولتلك هات مصروفك
دس زياد يده في جيب بنطاله وأخرج منه نقوده ثم ناولهم إلى أخيه وتابع ما يفعله باهتمام وخوف، تفاجئ بأخذه بعض الورقات المالية ثم أعاد القليل منهم إليه موضحاً سبب فعلته:
_ من أتلف شيء عليه إصلاحه، وأنت قطعت العروسة بتاعت لينة ودا عقـ.ـا.ب اللي عملته، وكل يوم هتيجي تديني جزء من مصروفك لغاية ما تمن العروسة الجديدة اللي اشتريتها يكمل، ومن هنا ورايح لو عملت أي حاجة هاخد منك مصروفك كله، مفهوم؟
كان يطالعه زياد بصدmة كبيرة، فلم يسبق ليُوسف وأن فرض عليه عقـ.ـا.ب كهذا، فما الذي تغير الأن
استشف يُوسف ما يدور في عقل زياد وأراد تأكيد حديثه حيث هتف بتجهم:
_ لو أنت فاكر إني سيبتك قبل كدا تدلع براحتك فدا عشان افتكرتك راجـ.ـل يعتمد عليه، لكن اللي ظاهر لي إنك لسه عيل صغير بتغير من البنات!
صعق زياد من حقيقة ما قاله يُوسف المؤسفة، طالعه بأعين جاحظة ولم يتحمل تلك الإهانة فهلل معترضاً:
_ أنا مش بغير من البنات، وأنت لو مش شايفني راجـ.ـل تبقى دي مشكلتك مش مشكلتي، أنا ماشي
استدار زياد بجسده وهرول نحو الباب بخطوات غاضبة، خرجت السيدة ميمي من غرفتها بعدmا تأكدت من انتهاء حوارهما، وأردفت بنبرة طيبة:
_ هو غيران من اهتمامك بيها، متقساش عليه يا يوسف، صعب عليه يتخيل إن حد تاني يشاركه فيك
زفر يُوسف أنفاسه بضجر ورد عليها باستياء:
_ يعني عاجبك اللي عمله؟
أسرعت هي نافية سؤاله بقولها:
_ أكيد لأ معجبنيش، وخير ما عملت يا حبيبي، تصرف حكيم، بس أنا بعرفك إنه عمل كدا من غيرته، متنسهوش هو كمان، سيب له نصيب من الدلع عشان تقدر تقوي علاقتهم ببعض
أومأ يُوسف بتفهم، انتبهت والدته من ارتدائه لثياب أخرى فسألته بفضول:
_ قولي الأول، أنت رايح فين من بدري كدا؟
أخبرها يُوسف مختصراً:
_ هقدm لـ لينة في المدرسة عشان مايفوتهاش أكتر من كدا، كفاية اللي فاتها لغاية دلوقتي
ربتت ميمي على كتفه بحنو ودعت له بقلبٍ حنون:
_ ربنا يعينك يا حبيبي ويجعلك في كل خطوة سلامة
آمن يُوسف على دعائها ثم قبل كفها وغادر لكي لا يتأخر عما ينوي فعله.
***
حل الليل سريعاً، عاد يُوسف إلى المنزل بعد أن أنهى عمله اليوم كما نجح في إلحاق لينة بالمدرسة، أخبرها أنها ستدوام بصفها ابتداءً من الغد، سعدت الفتاة كثير بهذا الخبر وهللت عالياً:
_ أخيراً هروح المدرسة
تدخل يوسف قائلاً:
_ بس الأول لازم نذاكر اللي فاتك، تعالي وأنا هشرحلك
جلست لينة على الطاولة البيضاوية الذي ترأسها يُوسف وبدأ ينشط ذاكرته بقراءة بعض الدروس التي سيقوم بشرحها لها، بدأ الشرح فور انتهائه من القراءة وهي تصغي إليه باهتمام شـ.ـديد.
وقف يُوسف في أحد المسائل الرياضية التي يجهل حلها، فقام بالإستعانة بالإنترنت لعله يفهم كيفية حلها.
على جانب آخر كان يتابع زياد ما يفعلاه، فكان يشاركهم الطاولة ذاتها يحل واجباته المدرسية، حمحم بحرج وبتردد مد يد المساعدة لهما فأردف:
_ أنا ممكن أساعدكم..
شعر يُوسف بالإمتنان له وكاد أن يشاركه أمرهما إلا أن لينة قد تدخلت واعترضت بنبرة حازمة:
_ مش عايزين مساعدتك، يوسف هيشرح لي هو
عاد يُوسف إلى نقطة البداية، وعلم أن عليه إفهامها مهما كلف الأمر وطال الوقت، بعد مرور بعض الوقت شعر أنه جاهز لشرحها لها، فطالعها مستاءً قبل أن يردف:
_ تمام يا غلبوية، ركزي معايا
قابلته لينة بإبتسامة عفوية حين لقبها بالمشاغبة وأرغمت عقلها على الإنتباه جيداً لكي تفهم سريعاً ولا تتعبه ويضطرون للجوء إلى زياد البغيض الذي كانت تأجج النيران داخله غيظاً من ردها ورفضها لمساعدته.
***
"منمتيش لغاية دلوقتي ليه؟"
صدح صوته التي باتت تحفظ نبرته جيداً، فقطع عنها حبال ذكرياتها، انتبهت لإقترابه، فنهضت عن الأريكة ووقفت مقابله مُشكلة بسمة رقيقة على ثغرها الوردي الصغير مرحبة به بنبرتها الأنثوية التي أكتسبتها مؤخراً:
_ كنت مستنياك ترجع، مش ناوي تغير معادك المتأخر دا بقى؟
وضع حقيبته الرياضية على الأريكة التي يستند على جدارها بمرفقيه وأجابها بعدmا تنهد بإرهاق:
_ دا الوقت المناسب ليا، الصبح عندي شغل ومش بلاقي وقت أروح الجيم غير متأخر كدا
أومأت بتفهم وأردفت بمشاغبة:
_ شكلك تعبان، لو مش قد الرياضة والجيم بتروح ليه؟
زم شفتيه مستاءً من سخريتها ورد عليها بتهكم:
_ أنتِ اللي مش قدها يا غلباوية مش أنا
قهقهت عالياً فأسرع هو بتحذيرها قائلاً:
_ وطي صوتك هتصحي اللي في البيت
قلبت عينيها بتهكم تشكل على تعابيرها ورددت ساخرة:
_ مين اللي في البيت؟ مفيش غير ماما ميمي، زياد لسه مرجعش
نفخ هو بيأس فمهما تحدث معه عن تأخيره لا يجدي نفعاً معه أي حديث، حمل حقيبته وتوجه إلى غرفته مردفاً بنبرته الرخيمة:
_ ممم، تصحبي على خير يا غلباوية
ابتسمت وهي تجيبه بعفوية:
_ وأنت من أهل الخير يا يوسف
وجهت بصرها على ساعة الحائط، إلتوى ثغرها للجانب مشكلة إبتسامة حماسية ثم توجهت إلى المطبخ فتفاجئت بخروج يُوسف من غرفته عاري الصدر، اعتادت هذا المنظر منذ زمنٍ ولم يعد يخجلها.
توقفت قدmيها تلقائياً أمامه، وحدجت عضلاته العريضة التي برزت مؤخراً وزادته وسامة، طالعت عينيه البنية وكذلك ذقنه التي أنبتت في الآونة الأخيرة مما جعلته جذاباً للغاية عن سابق أيامه.
فقط ثانيتين قد نجحوا في قلب كيانها بالكامل، تراجعت للخلف وتركته يمر من أمامها حتى اختفى خلف باب المرحاض، ثم صغت إلى ارتطام قطرات الماء في أرضية المغطس الرخامي، فهرولت إلى المطبخ ثم قامت بالتقاط كعكة مزينة من الثلاجة ووقفت في الممرر منتظرة خروجه بفروغ صبر.
بعد مرور دقائق قليلة، أخيراً اختفى صوت المياه مما يؤكد خروجه الوشيك، أوصدت عينيها لبرهة حين تضاعفت نبضات قلبها متمنية أن يسير كل شيء على ما يرام كما رتبت له تماماً.
ثم تمتمت داخلها قائلة بحماس:
_ ١ ٢ ٣..
انتبهت لمقبض الباب الذي انخفض ورُفع في اللحظة ذاتها، فظهرت طلته المثيرة وهو يميل برأسه يميناً ويساراً ينفض ما تبقى من المياه المتناثرة في خصلاته إلى أن وقع بصره عليها، تقف حاملة بيديها كعكة مزينة يتوسطها رقم ثلاثون.
" كل سنة وأنت طيب يا يوسف"
قالتهم هاتفة بحماس واضح، كز يوسف أسنانه بعصبية حتى كاد أن يفتك بهم من فرط الضغط عليهم، تجهمت تعابيره وظل يطالعها دون إبداء ردة فعل، تقدmت هي نحوه وبنبرة هادئة أردفت:
_ Happy birthday..
خرج يوسف عن صمته رغم ذلك خرجت نبرته هادئة مختلطة بالجمود:
_ قولتلك قبل كدا مبحتفلش بعيد ميلادي، مش عارف هتفهمي امتى؟
مر بجوارها وولج غرفته تاركها واقفة مكانها، راودها الشعور ذاته كمثله من الأيام الماضية من كل عام، شعور ناتج عن عدة مشاعر تجتاحها حينها، لنقل مثلاً شعور الفضول حول عدm احتفاله بيوم مولده، الحـ.ـز.ن واليأس لمحاولاتها الكثيرة معه للإحتفال بيومه ذاك والنتيجة ذاتها لا جديد وغيرهم من المشاعر المضطربة التي تعصف بها.
"متزعليش يا لينة، بس يوسف مش هيتغير، لسه محفظتيش طبعه؟"
هتفت بهم السيدة ميمي من خلفها بنبرة يملئها الشجن لحالتها المذرية التي باتت عليها، استدارت إليها لينة وقالت بهدوءٍ حزين:
_ أنا بس كنت حابة أكون أول حد يحتفل بعيد ميلاده..
أخذت شهيقاً عميق وزفرته على مهلٍ، وعادت لتتابع استرسالها بشجن يشوبه الفضول حول رفض يوسف الدائم:
_ أنا لو أعرف بس ليه بيرفض كدا كنت هحترم رغبته، هو فيه حد ميحبش يحتفل بيوم مميز زي دا؟، عشان خاطري يا ماما قوليلي، أنا متأكدة إنك عارفة السبب
شعرت ميمي بمحاصرتها بالأسئلة التي باتت تكره ذلك اليوم من خلفهم، لن تكف لينة عن السؤال حتى تعلم السبب وراء رفض يوسف للاحتفال بيوم مولده، لكنها ليست بتلك الشجاعة لتخبرها عن ذلك السبب المفجع، حتماً ستتسبب في فتح جروح لن تنغلق بسهولة.
أخرجت تنهيدة مطولة وحاولت الهروب منها فقالت:
_ مينفعش أنا اللي أقولك يا لينة، يوسف لو مقالكيش بنفسه فأنا معنديش حاجة أقولها يا حبيبتي، يلا تصبحي على خير ومتزعليش منه مش هينام قبل ما يصالحك
ابتسمت لها ميمي وربتت على كتفها بحنو ثم عادت إلى غرفتها، بينما التفتت لينة ناظرة إلى غرفة يوسف بحـ.ـز.ن تبدد داخل قلبها، دلفت بخطاها إلى المطبخ وأعادت وضع الكعكة في الثلاجة كما كانت ثم عادت إلى غرفتها تجر خيبة أمل أخرى خلفها.
كانت عروق يده بـ.ـارزة بصورة مخيفة بسبب ضمه لها بقوة، مشهد صديقه وهو يُقــ,تــل يُعاد من جديد أمام مرأى عينيه، لم تنجح تلك الأعوام السبع في إخماد غضبه ولا تضميد جروح تلك الليلة.
يكره يوم مولده لتلك الحادثة الفاجعة، لا يعلم متى سيتأقلم عليها، إن لم تعالج الأيام جـ.ـر.ح فراق أحمد الذي قُتل غدراً فمن سيداوي تلك الفجوة؟
تذكر وصية صديقه ولعن أسلوبه الحقير الذي تسرع وعاملها به، عليه إصلاح ما اقترفه، أليس هذا شعاره الذي يطبقه على الأخرين؟!
نهض عن فراشه والتقط قميصاً من خزانته وأيضاً سروال قصير ثم خرج وتوجه ناحية غرفتها، وقبل أن يطرق بابها صغى إلى صوتها العـ.ـذ.ب الذي أصبح ذو لذةٍ عن ذي قبل، بات أقوى وأكثر جُرأة، حيث تمكنت من الغناء بشكل رائع.
استند برأسه إلى الجدار الذي يفصل بينه وبين غرفتها وفضل الإستماع لغنائها أولاً قبل إرضائها، ظهرت ابتسامة عفوية على محيا يُوسف، طرق بابها بخفة ولازال مستنداً على الحائط.
ارتدت هي سريعاً حجاب رأسها الذي خلعته للتو وفتحت الباب، لم تتفاجئ به، بل هي كانت في انتظاره من الأساس، كادت أن تبتسم له إلا أنها تراجعت في اللحظة الأخيرة، فتلك المرة لن تكون متهاونة معه.
شـ.ـدت ملامح وجهها فبدت أكثر حدة وسألته مستفسرة:
_ عايز إيه؟
فوجئ يوسف بنبرتها الحازمة، استقام في وقفته وردد بنـ.ـد.م:
_ أنا آسف، بس أنا قولتلك كتير إني مش بحب احتفل باليوم دا يا لينة، ياريت تحترمي رغبتي
عقدت لينة ذراعيها أعلى صدرها بتذمر وهدرت به:
_ مش هبطل أعمل كدا طول ما أنا مش عارفة إيه سبب رفضك يا يوسف!
تأفف يوسف وقلب عينيه، ابتعد عنها بضعة خطوات وهتف لعله يستطيع إنهاء الحوار بينهما:
_ متزديش فيها ويلا عشان أنام
صاحت به لينة متزمجرة:
_ محاولتك المرة دي منفعتش، أنا لسه مضايقة منك
أوصد يوسف عينيه لبرهة قبل أن يعود إليها:
_ لينة، لو سمحتي...
قاطعت محاولاته التي لن تأثر بها تلك المرة بإصرارها:
_ متتعبش نفسك كتير، أنا مش هرضى وهفضل زعلانة لغاية ما تعرفني الحقيقة، أنا معتش صغيرة عشان تضحك عليا كل مرة بكلمة أنا آسف وكلام كدا ميقعنش طفل أصلاً، بس المرة دي مش هتعدي زي كل مرة يا يوسف!!
ألقت آخر جملتها بتحدٍ، طالعها يوسف بذهول فلم تكن شـ.ـديدة الإصرار هكذا من قبل فما العمل الآن، كيف سيخبرها وهو متأكد أنها لن ترحب بذاك اليوم من بعد الآن، إن لم تكرهه!.
تأفف بضجر فعنادها ذاك سيقحمهما في طريق لا يود الوصول إليه، تركها واقفة بمفردها وتوجه للخارج وهو يتمتم بحنق:
_ مش عارف أنتِ مش بتريحي نفسك وتريحيني معاكي ليه؟
ذهبت خلفه وهي تجيبه بإصرار:
_ أنا هرتاح لما أعرف سبب رفضك وأكيد أنت كمان هترتاح من زني
جلس يوسف على الأريكة المستطيلة فجلست هي على الأريكة ذاتها تاركة مساحة كافية بينهما، شعرت أنه يلين شيء فشيء فأرادت أن تحثه على قول ما تريد سماعه بقولها:
_ يلا بقا يا يوسف قولي...
اقتربت منه قليلاً وتابعت توسلاتها بنبرة مُلحة رقيقة:
_ عشاني...
حمحم يوسف وطالع الفراغ أمامه لثوانٍ قبل أن يعود بنظريه إليها ثم أردف بنبرته الرجولية التي تميل إلى الحـ.ـز.ن:
_ اليوم دا مـ.ـا.ت فيه اتنين غاليين، كل حاجة اتغيرت في اليوم دا، مبقتش يوسف نفسه، عشت حاجات عمري ما عشتها، شوفت اللي عمري ما اتمنيت أشوفه، حسيت بالخوف لأول مرة في حياتي، اليوم دا كان صعب أوي عليا لدرجة إن حتى بعد ما عدى ٧سنين لسه متأثر بيه وبخاف منه، ولو سمحتي يا لينة بلاش الموضوع دا يتفتح تاني..
نهض عن مقعده ظناً أنه أخبرها كل شيء وتوجه ناحية غرفته، توقفت قدmيه تلقائياً حين وقعت كلمـ.ـا.تها على مسامعه:
_ الاتنين دول ماما وأحمد؟
أوصد يوسف عينيه لاعناً ضعف قدرته التي أخبرتها بهذا ولم يصمد، فكم هي فتاة ذكية وحتماً ستفهم ما خلف حديثه، كز أسنانه بعصبية ولم يكف عن تأنيب ذاته، التفت إليها وطالعها بجمود شكله هو عكس ضعف حيلته الذي يطغي على خلاياه، اقتربت هي منه بأعين لامعة تتلألأ فيهما الدmـ.ـو.ع.
ابتلع يوسف ريقه في محاولة منه على ارتداء ثوب الشجاعة والتماسك أمامها لكن هيهات لقلبه الذي انخلع فور هروب إحدى العبرات على مقلتيها.
اقتربت منه وهي تجمع شتات الأمر:
_ مش محتاج تكذب عليا وتقولي لأ مش هما، أنت أصلاً مش راضي تعرفني هما مـ.ـا.توا يوم إيه فأكيد هو نفسه يوم عيد ميلادك بما إنك مش راضي تحتفل بيه، أنا ازاي مفهمتش كدا من زمان؟
أخرجت تنهيدة وواصلت:
_ اليوم دا أنا بقيت فيه يتيمة، بس برده ربنا جبر بخاطري وإداني عيلة تانية بدل اللي راحت واللي أنا متأكدة منه إن عمرهم ما كانوا هيعملوا معايا اللي أنتوا بتعملوه!
قالتهم لينة بنبرة متحشرجة إثر البكاء، تفاجئ يوسف من ردها، لم يتوقع رد رزين كهذا، لقد لطف الله بقلبه وبكل شعور سيء شعر به حينما كان يتهرب من أسئلتها التي لا حصر لها عن رفضه لذلك اليوم.
خرجت لينة عن صمتها وهي تمسح عبرانها بأناملها الصغيرة وهتفت وهي تطالع عينيه التي لا تكف عن معاتبة نفسها:
_ أنا كنت صغيرة أوي يا يوسف فكان سهل إني أبدأ من جديد، ويمكن عشان أنت كنت موجود كل حاجة كانت أسهل، كل و.جـ.ـع هان وخف و.جـ.ـعه بسببك أنت، صدقني علي نفسه لو كان لسه معانا مكنش عمل اللي أنت عملته طول السنين اللي فاتت دي، أنا مش زعلانة على أي حاجة حصلت لأن عوض ربنا كان جميل أوي
تقوس ثغر يوسف بإبتسامة عفوية، فلقد شعر بالراحة النفسية التي عصفت به حينما تأكد أنه لم يفتح لها جـ.ـر.حاً وأنها ممتنة له ولعائلته، تنهد وقال بثقة:
_ ت عـ.ـر.في إن لو كان ليا أخت من دmي مكنتش هعمل معاها كدا؟!
دون تردد أجابته:
_ أنا متأكدة من دا
ازدادت إبتسامة يوسف بسعادة، تثائب رغماً عنه ففرد ذراعيه في الهواء شاعراً بالنعاس يتملك منه رويداً رويداً فأردف بكسل:
_ إذا كان كدا بقى هروح أنام لأني مش قادر، تصبحي على خير
باختصار مخالط بالإمتنان أردفت:
_ وأنت من أهل الخير
أولاها ظهره وعاد إلى غرفته لكنها أوقفته قبل أن يهم بالدخول قائلة:
_ يوسف..
التفت برأسه إليها فتابعت هي بإبتسامة عـ.ـذ.بة:
_ شكراً
قلب يوسف عينيه كما لوى شفتيه بعدm إعجاب لما قالته، لم يعيرها اهتمام فهو لا يحب تلك الكلمة وخصيصاً منها هي، دلف غرفته ثم ألقى ببدنه على الفراش، مرت ثانية ولم تمر الآخرى إلا وكان غافياً.
***
عادت لينة إلى غرفتها، أوصدت بابها ثم توجهت إلى المرآة ووقفت أمامها، طالعت صورتها المنعكسة بآسى وحـ.ـز.ن شـ.ـديدان، تذكرت مشهد سقوط والدتها أمامها ثم بعد ذلك تبدلت الأحوال ولم تراها بعد ذلك، لن تنكر أنها قد اشتاقت إليها، مهما مرت الأعوام دوماً تفتقد إليها وإلى ابتسامتها الصافية، حتى صعوبة أسلوبها وحدته معها قد اشتاقت إليه.
حاولت طرد أفكارها التي لن تأتي بالخير، حتماً ستنعكس عليها جروحها بصورة لا تحب أن تصل إليها، رفعت يدها وسحبت حجابها على مهل، ثم حررت قيود خصلاها التي كانت تندسر أسفل الحجاب فوقع كالشلال إلى آخر ظهرها.
كان مموج الشكل بصورة جذابة، لم تكن لتصففه البتة، فكانت تحبه هكذا، تحب لونه البندقي الذي يتخلله بعض الخصلات الذهبية، فتحت درج تسريحتها وأخرجت منه علبة التجميل خاصتها.
أخذت منها أحمر شفاه داكن وقامت بوضعه على شفاها بإتقان دون الإنحراف عنها، كما وضعت بعضاً منه على وجنتيها وقامت بتوزيعه بقطعة اسفنجية ناعمة الملمس حتى بات حسِن المظهر.
كذلك رسمت عينيها بأحد الأقلام الكاتمة فبدت عينيها قريبة الشبه من كليوبترا وغيرها من اللواتي كنا يعيشن في عصور قديمة.
مشطت خصلاتها جيداً وقامت بجمع بعض الخصلات ثم صنعت بهم دائرة في منتصف رأسها تاركة ثلثه محرراً كما كان.
وضعت سماعات الأذن خاصتها وبدأت تتمايل بجسدها مع بداية الأغنية التي قامت بتشغيلها للتو، كانت خصلاتها تشاركها الرقصة في التمايل والتغنج وكأنهما فريقاً مدرباً على ما يفعلانه.
كانت تلك طريقة لينة في الهروب من أحزانها، وكانت تجدي نفعاً معها دوماً في أكثر الأوقات انطفائاً لروحها.
***
في أحد الشوارع المظلمة، لا ينير المكان سوى تلك الإضاءة الخافتة التي تصدر من مصابيح السيارة الأمامية، المكان يشوبه هدوء مريب يخشاه من يمر به.
يصدر هو صوت لحوح من داخل السيارة قائلاً بنبرة رقيقة:
_ جبتك في مكان بعيد أهو، سبيني أمسك إيدك بقى
نظرت إليه الفتاة التي تجلس أمامه بريبة وتردد، حدجت المكان من حولها بتفحص ثم عادت إليه عنـ.ـد.ما شعرت بالطمأنينة لعدm وجود مارة، ابتسمت بعذوبة وخجل فأسرع هو بمسك يد وانهال عليها بالقبلات فبادرت الأخرى بسحب يدها وعاتبته مستاءة:
_ إيه اللي بتعمله دا يا زياد؟ مش معنى إني قبلت أخرج معاك تفكرني هقبل باللي بتعمله، أنت فاكرني إيه؟
قطب زياد جبينه بتهكم وصاح ساخراً:
_ نعم يختي، واحدة راكبة مع واحد متعرفوش العربية لوحدهم وش الفجر، عايزاني أفكر فيكي إزاي؟
شهقت الآخرى بصدmة وأردفت بنبرة مذهولة من حديثه الذي فجائها به:
_ دا جزائي عشان وثقت في واحد ندل زيك، أنتوا كلكم زي بعض محدش يثق فيكم أبداً
طالع زياد الفارغ أمامه وببرودٍ يشوبه الإهانة هدر بها شزراً:
_ محدش قالك تمشي معانا كلنا..
شعرت الأخرى بالغيظ الشـ.ـديد فلم تتردد لحظة وترجلت من السيارة وهي تتمتم بالسُباب:
_ الله يلعن أشكالكم القذرة
حرك رأسه باستنكار شـ.ـديد غير مصدق تلك المثالية الزائفة وردد بإهانة:
_ عملالي فيها شريفة أوي، ياستي غوري
دعس على محرك السيارة وانطلق بها مبتعداً عن المكان غير آبه لتلك الفتاة التي تسير بمفردها في شارع لا تطير في سمائه جناح عصفور.
أنتبه لإهتزازة هاتفة الموضوع على وضعية الصامت، سحبه من خلف المقود وأجاب بضجر:
_ خلاص ياعم أمجد أنا راجع أهو، مش هاكل العربية أنا
جائه الرد من الطرف الآخر بنبرة هادئه مليئة بالغضب:
_ ياعم زياد أبويا لو صحى يصلي الفجر وملقاش العربية في مكانها أنا اللي هشيل الليلة
تأفف زياد لعدm صبر صديقه وهتف بحنق:
_ خلاص أنا اتحركت أهو وراجع، عشر دقايق وأكون عندك، سلام
أغلق الهاتف وألقاه أمامه، أعيد تكرار الإتصال فصاح زياد بتجهم وعبوس:
_ يخربيت دي عربية اللي هتقرفني في عيشتي
أمسك بالهاتف وأجاب على الإتصال ونبرته لا تبشر بالخير:
_ ما خلاص يا عم أمجد قولت راجع أهو
صمت من تلقاء نفسه حين صغى إلى الصوت الصادر من الطرف الآخر، أبعد الهاتف عن أذنه ليتأكد بعينيه من الإسم جيداً قبل أن يعود ليجيب فردد:
_ ماما..
نهرته بأسلوب فظ رغم ذلك كانت محافظة على مستوى نبرتها لكي لا يصل لأذان الآخرين:
_ أنت فين لغاية دلوقتي يا زياد؟، الفجر خلاص هيأذن وأخوك هيصحى يصحى البيت كله، شوف أنت بقى لو ملقكش موجود هيعمل إيه
ببرودٍ قال:
_ أنا جاي داخل على البيت خلاص، سلام
أغلق الهاتف وألقاه بعيداً عنه وهو يعد الثوانِ لكي يصل إلى المنزل قبل أذان الفجر، وصل إلى منطقته وصف السيارة أسفل بناية مالكها وترجل وهو يهرول عائداً إلى منزله بينما سأله صديقه مستفسراً عن حالته الغريبة:
_ في إيه بتجري كدا ليه؟
رد عليه مختصراً:
_ مفيش مفيش
صعد الأدراج في درجتين، فتح الباب بتهمل لكي لا يصدر صريراً عالياً يفـ.ـضـ.ـح أمره، أغلق الباب ووقف خلفه يلتقط أنفاسه بصعوبة وهو موصد العينين.
"حضرتك لسه جاي"
اتسعت حدقتي زياد حين سمع تلك النبرة وحملق به لبرهة مذهولاً، ثم ردد بتوجس:
_ يوسف!
↚
صاح بنبرة حازمة مختلطة بالضيق لحالته التي لا تتغير مهما أعطاه قدراً من النصائح:
_ كنت فين لوش الفجر كدا؟
ابتلع ريقه بتوجس، حتماً تلك نهايته لا محال، حمحم ثم أجاب بنبرة مهزوزة:
_ كنت مع صحابي، هكون فين يعني؟
رفع يوسف حاجبه الأيسر بعدm تصديق وهدر به معنفاً:
_ صحاب إيه لحد الفجر يا زياد؟ يابني أنا عايزك تبطل سهر وتركز في السنة اللي لسه باقي منها شهور دي وتخلص، خلص المعهد الأول وبعدين ابقى أسهر زي ما أنت عايز، لكن دلوقتي لأ، دلوقتي فيه مذاكرة عشان تعدي السنة صافي مش زي السنة اللي فاتت، عديت منها بـ ٣ ملاحق!
_ عاتبه زياد بغلظة فلم يحب إهانته تلك وكأنه الجاني:
_ متنساش إنك أنت اللي أجبرتني أكمل في حاجة أنا مش حاببها، كار التعليم دا مش كاري، أنا دخلت صنايع عشان أخدها من قصيرها وأريح دmاغي بعد ما أخد الـ ٣ سنين، أنت اللي روحت وقدmت لي في المعهد من غير حتى ما تاخد رأيي!
زفر يوسف أنفاسه بضيق في محاولة منه على تهدئة روعه ومحي عصبيته التي لن تجدي نفعاً معه وتابع بنبرة هادئة لعل وعسى يستجيب إليه:
_ يا زياد أنا عايزك إنسان محترم الناس تحترمه، يالا أنت ابني وأخويا الصغير، يعني مستقبلك يهمني، مش هتفهم معنى كلامي دلوقتي بس متأكد إن هيجي يوم وتشكرني إني كنت وراك دايما
ربت يوسف على كتف أخيه بحنو، ثم أنتبه لأذان الفجر، ردد مع المأذن وحين انتهى الآذان أمر زياد بلهجة لا تحمل النقاش:
_ يلا روح اتوضى عشان ننزل نصلي
أماء له بقبول ثم تخطاه إلى أن وصل إلى المرحاض لكي يتوضأ، بينما ذهب يوسف إلى غرفة والدته وطرق بابها بخفة منادياً إياها بصوته الأجش:
_ اصحي يا أمي، الفجر أذن
أتاه صوتها المتحشرج من الداخل قائلة:
_ صحيت يا يوسف
تنهد ثم توجه إلى الأمام قليلاً حيث غرفة لينة المقابلة لغرفة والدته، وطرق بابها هي الأخرى منادياً عليها:
_ قومي يا لينة، الفجر أذن
لم يأتيه رد منها فكرر منادته قائلاً:
_ لينة الفج...
صمت حين فتحت له الباب بأعين يسيطر عليهما النعاس، أخفض يوسف بصره سريعاً وقال بعتاب:
_ متبقيش تفتحي الباب بعد كدا إلا لما تظبطي طرحتك كويس
قطبت لينة جبينها بغرابة، ثم رفعت يدها وملست على حجابها فتفاجئت ببعض الخصلات الشاردة فقامت بسحب حجابها للأمام خافية خصلات شعرها الظاهرة ورددت بصوت ناعس:
_ ظبطها خلاص
رفع يوسف نظريه ليتأكد من عدm ظهور أي خصلة من شعرها ثم انتبه إلى قدوم زياد الذي شكل إبتسامة على محياه وهتف:
_ صحاكي من النوم الظالم
قهقهت لينة ورددت ساخرة:
_ حكم القوي
غمز زياد إلى أخيه ساخراً منه:
_ شوفت أنك قوي عشان تصدقني
تشـ.ـدق يوسف مستهزءًا منهما وأردف بنبرة غليظة:
_ قوي آه بس باخد ثواب في الآخر مش زيكم
نظر إلى أخيه بحدة وأمره بنبرة صارمة:
_ يلا قدامي
تقدmا كليهما سوياً ثم توقف يوسف والتفت إلى والدته ولينة وهتف مؤكداً عليهن:
_ متصلوش قبل الإقامة
أماءت له والدته قائلة:
_ عارفين يا حبيبي
خرج من المنزل برفقة أخيه الذي بادر في سؤاله مستفسراً:
_ ميصلوش ليه قبل الإقامة؟
رمقه يوسف مستاءً وأجابه على مضضٍ:
_ ما أنت لو بتركز معايا كل مرة كنت بقولهم فيها مكنتش سألتني، مينفعش نصلي يا سيدي قبل الإقامة لأن الفجر مش متحدد وقته بالظبط فممكن يبقى فجر كاذب فلازم نستنى شوية بعد الأذان اللي يعني تقريباً لغاية مدة الإقامة وبعدها نصلي عشان نبقى متأكدين إن صلاتنا صحيحة، فهمت؟
دون تفكير أجاب:
_ لأ
أوصد يوسف عينيه لثانية وهو يحرك رأسه باستنكار ثم هدر:
_ كنت هستغرب لو قولت غير كدا
ولج كليهما المسجد وشرع في الصلاة تابعين للمأذن، انتهوا من الصلاة ثم عادوا إلى المنزل وفي خلال خمسة عشر دقيقة كان جميع من في المنزل في ثُبات عميق.
***
في الصباح، استيقظت على تغاريد العصافير التي لا تكف ولا تنتهي، فتحت عينيها بتهمل وهي تتثائب بكسل، نهضت رويداً رويداً وارتدت حذائها المنزلي ثم توجهت إلى النافذة وفتحت أبوابها وتمتمت بنشاط قد تغلغل إلى خلاياها:
_ Günaydın
(صباح الخير باللغة التركية)
ابتسمت لذلك العصفور الذي يأكل من زهرتها التي قامت بزرعها وأردفت معاتبة كأنه شخصاً يفهم عليها:
_ كدا أزعل منك، وردتي متجيش جنبها، جعان هجيب لك أكل لكن متاكلش وردتي، خليك عندك وأنا راجعة لك حالاً
أولاته ظهرها وهرولت راكضة إلى الخارج، كادت أن تدلف بخطاها إلى المطبخ لكنها توقفت قبل أن يلمحها أحدهم، عادت بأدراجها سريعاً إلى غرفتها باحثة عن حجابها التي نسيته تماماً ووضعته على رأسها ثم خرجت لتأتي بالطعام الخاص بالطيور.
توقفت قدmيها قبل أن تولج للمطبخ حين صغت إلى إسم تلك الفتاة مجدداً، يا تُرى لماذا يتردد اليوم من الصباح الباكر حيث قالت السيدة ميمي محدثة يوسف:
_ والله يابني بس لو تريحني وتقولي مالها إيمان، طيب إيه عيبها؟ البت بقالها سنين مستنياك يا يوسف وأنت مش بتاخد خطوة أبداً
تأفف يوسف فذلك الموضوع لا ينتهي الحديث فيه مطلقاً، لقد بلغ ذروة تحمله، كم يتمنى أن تختفي إيمان حتى لا يسمع إسمها من فاه والدته مرة أخرى، تنهد وحاول لبس ثوب البرود وهتف:
_ مين اللي قالك أنها مستنياني يا أمي؟
تركت ميمي ما بيدها جانباً وجلست أمامه على الطاولة الصغيرة التي تتوسط المطبخ وأجابته بنفاذ صبر:
_ تفسر بإيه كل العرسان اللي بترفضها دي؟ وكلهم بسم الله ما شاءالله حاجة تشرح القلب، مفيهمش غلطة واحدة، كل دا عشان مستنية حضرتك تتقدm وأنت واقف محلك سر، قبل كدا قولتلي عايز تكون نفسك فسكت وقولت عنده حق، بس دلوقتي حجتك إيه؟
الشقة وأنت خلاص الشهر الجاي هتكون خلصت آخر قسط فيها، العربية وصاحب الشغل مديلك كل الصلاحيات تستخدm أي عربية تحبها، الشغل وبسم الله ما شاء الله بقيت مدير المعرض، قولي لسه مستني إيه تاني، إيه اللي معطلك يابني قولي وريح قلبي
قضم آخر قطعة من شطيرة الجبن التي بيده وردد مختصراً:
_ لأنه مينفعش يا أمي، مينفعش إيمان بالذات تبقى مراتي!!
قطبت جبينها بغرابة وكادت أن تسأله عن سبب ذلك إلا أنهما صمتَ حين صدر صوت من الخارج، لعنت لينة قدmيها التي تحركت رغماً عنها فأصدرت صوتاً مسموعاً، لم يكن هناك داعٍ لأن تقف أكثر مكانها لكي لا يفـ.ـضـ.ـح أمرها، تابعت تقدmها وكأنها جائت للتو.
شكلت بسمة رقيقة على محياها ورحبت بهم:
_ Günaydın
ردت عليها السيدة ميمي بنفس لهجتها:
_ Günaydın canım
( صباح الخير يا عزيزتي )
تفاجئ يوسف برد والدته ورمقها بذهول شـ.ـديد، مرر أنظاره بينهما وهتف دون تصديق:
_ المسلسلات التركي عاملة عمايلها
انفجرن ضاحكتين فأسرعت لينة مؤكدة:
_ tabiki canım
( بالطبع عزيزي )
نهض يوسف عن مقعده ناهياً نقاشه معهن بقوله:
_ أنا كنت فاكر التركي كله بيتخلص في جملة "مراد بيك لا تتركني هيك"
لم تستطيع لينة الصمود وانفجرت ضاحكة، أجبرت من يقفون معها على الضحك، توقفت حين سمعت قرع الجرس، انسحب يوسف من بينهما ليفتح الباب فتبعته ميمي وكذلك لينة.
تسائل يوسف عن هوية الطارق وهو يقترب بخطواته من الباب:
_ مين؟
جائه صوت أنثوي من الخارج معلنة عن هويتها:
_ أنا شهيرة أم بلال
فتح لها يوسف الباب واستقبلها بترحيب حار:
_ أهلاً وسهلاً يا أم بلال اتفضلي
بإمتنان قالت:
_ يزيد فضلك يا حبيبي
رحبت بها السيدة ميمي بحفاوة قائلة:
_ يا أهلاً بالغالية اتفضلي يا حبيبتي
صافحن بعضهن البعض ناهيك عن القبلات التي تبادلنها ثم دعتها ميمي للجلوس في الصالون فحضرت لينة مرحبة بها بعد أن قامت بإطعام العصفور ثم شاركتهن الجلسة.
حمحمت شهيرة وأردفت لما جاءت من أجله:
_ معلش يا أم يوسف إني جاية بدري كدا، بس كنت جاية أخد أطقم الزينة أنتِ عارفة إن الفرح بكرة ولازم أروح أفرشهم دلوقتي، لأن مش هكون فاضية طول اليوم أنتِ عارفة الحنة ومشاغلها
ابتسمت لها ميمي وقالت بحرج شـ.ـديد:
_ أنا اللي آسفة والله إني اتاخرت عليكي بس شغل الزينة بياخد وقت عن الأطقم العادية، ثواني وهجيبهملك
باختصار رددت:
_ خدي راحتك يا حبيبتي
نهضت ميمي وابتعدت عنهم لكي تحضر لها الملائات التي قامت بصنعهم لإبنتها، بينما وجهت شهيرة حديثها إلى لينة قائلة:
_ متتأخريش النهاردة عن الحنة، أنتِ بالذات لازم تيجي بدري ترقصي مع أختك هدى
تفاجئت لينة بإفصاح شهيرة بذلك أمام يوسف، وجهت بصرها نحوه ثم نكست رأسها بخجل شـ.ـديد، بينما حمحم يوسف بحرج واستاذن منهما قائلاً:
_ عن إذنك يا أم بلال، صحيح هو فين؟
التفت برأسها إليه وأجابته بتلقائية:
_ تحت مستنيني في العربية عشان يوصلني شقة أخته
أماء لها بتفهم ثم انسحب إلى الخارج في هدوء، حينذاك استطاعت لينة رفع رأسها بعد أن تأكدت من مغادرته، زفرت أنفاسها براحة وتناولت بعض الأحاديث مع السيدة شهيرة التي لا تتوقف عن الحديث إذا بدأته.
في الأسفل، طرق يوسف بيده على نافذة السيارة حين لم ينتبه له بلال فجذب انتباهه، ترجل من السيارة واستند بظهره علي بابها وأردف:
_ على فين؟
أجابه مستاءً:
_ على معرض أبوك يا ظريف
أماء له بلال بتفهم واسترسل:
_ أنا يدوب أروح المعرض أقفل حسابات الأسبوع دا، وأروح أشوف الراجـ.ـل خلص لي البدلة ولا لأ، طبعاً أنت معايا
حرك يوسف رأسه بتأكيد:
_ أكيد، يلا سلام عشان ألحق أقفل الحسابات أنا كمان، مش عارف أبوك غاوي يمرمطنا ليه، ما يجيب ناس فاهمة تقفله حساباته
أخبره بلال عن وجهة نظر أبيه بقوله:
_ مشكلته إنه مبيثقش في حد بسهولة، دا أنا حتى سمعت إنه هيفتح معرض تالت ومأجل الموضوع على لما يشوف حد ثقة يقف فيه
لم يعقب يوسف على ما أخبره عنه بلال، بل حلق في سماء خياله بعيداً، تعجب بلال من شروده وأشار إليه بيده لكي يجذب انتباهه إليه مردداً بغرابة من أمره:
_ بتفكر في إيه يابني؟
قطع عليه بلال حبال أفكاره بسؤاله، بينما رد عليه يوسف مختصراً وهو يربت على كتفه:
_ هقولك بعدين، سلام
تركه واقفاً بمفرده واستقل إحدى السيارات الفاخرة وتحرك بها بعيداً عن المنطقة حتى اختفى طيفه تماماً، استدار بلال ورفع رأسه إلى الأعلى رامقاً تلك البناية وهتف بحنق:
_ ما يلا بقى، عارفك لما تفتحي في الكلام مش هتخلصي النهاردة
سحب هاتفه من جيب بنطاله وهاتفها، كان ينتظر إجابتها بفروغ صبر حتى تفاجئ بظهور من سكنت فؤاده على مقربة منه، خفق قلبه بشـ.ـدة، لم تفشل مرة في سلب عقله وتهيج نبضانه كأنه يراها للمرة الأولى.
أنتبه إلى صوت والدته الصادر من الهاتف:
_ يا بلال، خلاص نازلة أهو يا حبيبي
أسرع بلال في لحاقها بقوله:
_ لا لا خليكي، بقولك في بنت طالعة عندكم دلوقتي اعزميها على فرح هدى
قطبت جبينها بغرابة وعدm فهم، لم تستطيع سؤاله بعناية عن هوية الفتاة ومن أين يعرفها ولماذا تقوم بدعوتها كما طلب منها.
أغلقت الهاتف أثناء مجيء إيمان، التي رحبت بها ميمي وكذلك لينة، ثم قامت ميمي بتعريف هوية إيمان للسيدة شهيرة حيث أردفت:
_ دي إيمان بنت أخويا، ودي شهيرة جارتي من زمان
تصافحن وبادرت إيمان بالترحيب:
_ أهلاً بحضرتك
بادلتها شهيرة إبتسامة عريضة وردت علي لطفها:
_ أهلاً بيكي يا حبيبتي، اللهم صل على النبي قمر ١٤
تفحصتها شهيرة جيداً، ثم وجهت حديثها إلى ميمي ولازالت تحدج إيمان بنظراتها:
_ خليها تيجي معاكي الحنة والفرح يا ميمي
تدخلت إيمان قائلة:
_ ألف مبروك بس حنة وفرح مين؟
أجابتها شهيرة موضحة:
_ بنتي، هدى بنتي حنتها النهاردة وبكرة بإذن الله الفرح، هستناكي يا قمراية تيجي مع عمتك، يلا فاتتكم العافـ.ـية
ردت ميمي عليها بلطف:
_ الله يعافيكي
تابعتها إلى الخارج ثم ودعتها وأغلقت الباب، عادت إلى الفتيات وتبادلن المزاح بينما هبطت شهيرة الأدراج وأسئلتها تزداد فضولاً كلما تخطت درجة من السُلم وعزمت على معرفة الأمر كاملاً.
انتبه بلال لوالدته فور ظهورها أمام مدخل البناية، أسرع نحوها وأنهال عليها بعشرات من الأسئلة:
_ ها شوفتيها؟ قولتلها تيجي ولا قعدتي تتكلمي ونسيتي؟ ها يا ماما عملتي إيه؟
استنشقت بعض الهواء لكي تضبط من أنفاسها اللاهثة وأردفت بهجوم:
_ اصبر عليا، أخد نفسي الأول
هدأ بلال من لهفته قليلاً وساعد والدته على ركوب السيارة، التفت إليها في انتظار إجابتها على أسئلته، تعجبت هي من حالته تلك، فلم يكن ملهوفاً كهذا من قبل، عقدت ما بين حاجبيها وسألته بفضول أمومي:
_ مين دي واشمعنا عايزني أعزمها؟
طالعها بلال بأعين جاحظة غير مصدق ما استشفه من وراء كلامها وردد بتجهم:
_ يعني أنتِ معزمـ.ـيـ.ـتهاش؟!
رفعت شهيرة حاجبيها ونظرت أمامها لتجيبه بنبرة متهكمة:
_ عزمتها، عزمتها
عادت بأنظارها إليه ثم تابعت:
_ على الحنة والفرح
تفاجئت بتلك الإبتسامة التي غزت شفتي بلال ثم حاول إخفائها بعضه على شفتيه السفلى وهو يطالع الخارج أمامه، فقطعت عليه لحظته بقولها:
_ للدرجة دي واقع؟
اختفت إبتسامته فور تلقيه سؤالها، حمحم بحرج وأردف محاولًا الهروب منها وهو يطالعها بذهول:
_ واقع! البنت قريبة يوسف وتهمه فأنا حبيت نعزمها بس مش أكتر
مالت شهيرة بجسدها بالقرب منه وبنبرة مريبة تعجب لها بلال هدرت:
_ بقا هي تهم يوسف قولتلي، طيب وهو مش ناوي يخطبها على كدا
دهشت شهيرة بسرعة رد بلال بلهجته الرافضة لاقتراحها:
_ لأ مفيش خطوبة ولا الكلام دا
رفعت حاجبيها الأيسر ولم تستطيع منع ابتسامتها التي حاولت جاهدة إخفائها وسألته لتتاكد من حدسها:
_ مش بتقول يابني إنها تهمه، يعني أكيد هيخطبها
تنهد بلال على الرغم من اختناقه لمجرد التخيل في ذلك وأوضح لها حقيقة ما تجهله:
_ تهمه زي أخته كدا، زيها زي لينة بيعتبرهم اخواته
هزت رأسها بتفهم ورددت:
_ آه كدا فهمت، يلا ربنا يبعت لها عدلها قريب
حافظ بلال على هدوئه لكنه لم يمنع شفتيه من الترديد بنبرة خافتة:
_ آمين
أسرعت شهيرة في النظر إلى الخارج لكي لا يرى ابتسامتها التي تشكلت حين آمن على دعائها، حمحمت ثم صاحت به متزمجرة:
_ طيب يلا عشان نلحق نروح شقة أختك ونرجع قبل ما الست بتاعت الحنة تيجي
أماء لها بقبول ثم دعس على محرك السيارة وابتعد عن المنطقة قاصدين منزل العروس.
***
في منزل السيدة ميمي التي تركت الفتاتان بمفردهن لتحضر الطعام قبل أن يحين موعد ذهابهم إلى حفل الحناء.
ولجت لينة غرفتها ورافقتها إيمان مستمعة لما تريد فعله في الغرفة:
_ عايزة أغير اللون، أوضة ولادي خالص، عايزة أدهنها أوف وايت وأدهن الأوضة بينك وأجيب مرايا اللي فيها لمبات كتيرة، آه وعايزة أحط في الزاوية دي مرجيحة من اللي بتكون نازلة من السقف وجنبها أرفف أحط عليها كل الروايات والكتب اللي قرأتها، ها إيه رأيك؟
تقدmت إيمان من الفراش وجلست أعلاه، وجهت نظريها إلى لينة التي تنتظر إجابتها بحماس، فلم تستيطع إيمان مجراة حماسها وأردفت ببرود:
_ بس كل دا مكلف جداً، هتعمليه إزاي؟
زمت لينة شفتيها بإحباط قد عصف بها، تقدmت هي الأخرى واعتلت الفراش بجوار إيمان وقالت بقلة حيلة:
_ مش عارفة، بفكر أقترح على يوسف أفكاري و...
قاطعتها إيمان بحدة:
_ معتقدش إن دي فكرة كويسة يا لينة، يعني يوسف في الوقت دا المفروض يجهز شقته اللي هيتجوز فيها والكلام دا كله مش وقته خالص
قطبت لينة جبينها بغرابة فلم تستوعب حديثها ورددت بعدm فهم:
_ شقة إيه اللي يجهزها مش لما يشوف عروسة الأول!!
"ولو، يمكن العروسة موجودة والطلبات دي اللي منعاه ياخد خطوة عشان خايف ميقدرش يفتح بيتين"
هتفت بهم إيمان موحية إليها برسالة متمنية أن تكون قد فهمت مضمونها، تنهدت ثم تسائلت دون استحياء:
_ مش جايز برده ولا إيه؟
طالعت لينة الفراغ أمامها وهزت رأسها دون اقتناع مما تحدثن به وتمتمت بنبرة خافتة:
_ جايز...
نهضت إيمان مبتعدة عن الفراش وأردفت موضحة:
_ هروح أشوف عمتو لو محتاجة حاجة أساعدها، تعالي لو حابة
رمقتها لينة لبرهة ثم اعترضت بلطف:
_ لا أنا هجهز حاجتي عشان ورايا دروس
أماءت لها إيمان بتفهم ثم خرجت من الغرفة موصدة الباب خلفها وذهبت إلى عمتها لربما تكون بحاجة إليها بينما جلست لينة تفكر في كلمـ.ـا.ت إيمان وقد شعرت بالإختناق يتملك منها رويداً رويداً كلما تصورت أنها السبب في عدm سير حياة يوسف كما ينبغي وعزمت على التأكد منه حتى يطمئن جوفها.
***
ارتفع رنين الهاتف معلناً أنه قد حان الوقت المطلوب التي قام بضبطه يوسف، أغلق الهاتف ونظر إلى ساعة الحائط ليتأكد من تمام الساعة الثانية ظهراً ثم عاد ليجمع تلك الملفات المبعثرة أمامه على المكتب سريعاً وخرج منه بعد أن التقط مفتاح سيارته وهاتفه الجوال.
هبط السُلم مهرولاً إلى الخارج ثم استقل سيارته وانطلق بها عائداً إلى منطقته، وصل بعد دقائق بسيطة فمكان عمله يبعدها بمسافة قريبة، صف السيارة أسفل منزله ثم قام بعمل مكالمة هاتفية.
آتاه صوتها الرقيق من الطرف الآخر:
_ يوسف..
رد عليها بصوته الأجش:
_ أنا تحت يلا انزلي عشان أوصلك دروسك
تذمرت لينة في قولها:
_ يا يوسف مفيش مرة تنسى وتسيبني أروح لوحدي، صحابي كلهم بيروحوا كل مكان لوحدهم، اشمعنا أنا؟
أجابها دون تفكير:
_ ربنا ابتلاكي بيا هنعمل إيه بقى، استحمليني لحد ما الأجل يـ...
قاطعتها مستنكرة كلمـ.ـا.ته التي لم تتحمل سماعها:
_ بعد الشر عليك متقولش كدا تاني، ربنا يخليك لي...
توقفت عن الحديث مانعة لسانها من إكمال ما لم تنهيه خشية أن يتم فهمه بسوء فأوضحت قائلة:
_ لينا، كلنا
بنبرة لا تتحمل النقاش أمرها:
_ طيب يلا انزلي
مر ما يقرب الخمس دقائق حتى ظهرت لينة أمام مرأى عينيه، ركبت بجواره بهدوء دون أن تتناقش معه في أمراً فهذا ليس المعتاد، التفت يوسف برأسه ونظر إليها بعد أن قطع مسافة ليست بقصيرة متعجباً من صمتها:
_ مش معقول مفيش رغي النهاردة؟!
تنهدت لينة فتابع هو ممازحاً:
_ للدرجة دي الموضوع كبير؟
طالعته بلهفة وسألته بتوجس:
_ عرفت منين؟
قطب يوسف جبينه، فهو لم يقصد ما أصاب، فقط كان يمازحها، حمحم وأردف موضحاً:
_ معرفش حاجة، أنا بهزر معاكي، بس الظاهر إن فيه حاجة فعلاً؟
طالعت لينة الطريق أمامها بضيق لعدm قدرتها على السيطرة على لسانها، تأففت بخفوت لكي لا يسمعها يوسف، انتبهت على سؤاله الذي يحثها على البوح بما تخفيه:
_ ها، فيه إيه؟
ابتلعت ريقها وتحلت بالشجاعة قدر المستطاع، التفتت إليه وهي تعض على شفاها السفلى بحرج شـ.ـديد ثم ألقت بسؤالها في الوسط قبل أن تتراجع:
_ أنت ليه مش متجوز لغاية دلوقتي؟
تعجب يوسف كثيراً من سؤالها ولم يستطيع مواصلة القيادة دون أن ينظر إليها ليستعلم عن سبب سؤالها المريب، صف السيارة جانباً واعتدل في جلسته حيث يكون مقابلها واسترسل مستفسراً:
_ إيه السؤال الغريب دا؟
تنهدت بقوة قبل تعيد سؤالها بحزم:
_ جاوبني الأول، ليه متجوزتش لغاية دلوقتي؟
قلب يوسف عينيه لعدm إتيانه بإجابه تريح فضولها، زفر أنفاسه بصوت مسموع ونظر إلى الخارج يفكر في سبب ما لربما يحصل على إجابة لسؤالها، كانت تطالعه لينة بفروغ صبر، تنتظر إجابته حتى تريح عقلها من فرط التفكير.
انتبهت له حين هتف بعدm توازن في حديثه:
_ مش عارف، هو ليه الإنسان ممكن مـ.ـيـ.ـتجوزش، يمكن لأنه مفكرش في كدا قبل كدا؟
رفعت لينة حاجبيها بعدm رضاء لتلك الإجابة الناقصة ورددت دون تصديق:
_ هو فيه حد مش بيفكر في الجواز، أو مثلاً خطط مأجلها بعد ما يتجوز، أفكار مـ.ـجـ.ـنو.نة سايبها عشان ينفذها مع شريك حياته؟ فيه حاجات كدا مينفعش تتعمل في الوقت دا أو لوحدنا، لازم تتعمل مع شريك! إزاي مفكرتش على الأقل مرة في الجواز؟!
حاول التفكير بصوت عالٍ لعله يصل إلى نقطة ترضيها:
_ بجد مش عارف، مفكرتش قبل كدا، يمكن لأن مفيش وقت عندي، يومي كله مشغول
نكست لينة رأسها بحـ.ـز.ن جلي، وانعكست تعابيرها إلى الخذي وتمتمت بنبرة بحـ.ـز.ن مصحوب بالخجل:
_ مشغول بيا، مشغول بدراستي ودروسي، ومشاكلي وكل حاجة تخصني، أنا السبب يا يوسف..
استنكر يوسف ظنونها حتى وإن كانت صحيحة لكنه لم يشعر بالملل يوماً، إنه يفعل ذلك بكل حب وصدق، أسرع في الرد عليها موضحاً:
_ وإيه يعني لو مشغول بيكي؟ حد قالك إني مضايق؟ أنا الكبير يعني المسؤول عنك وعن زياد حتى ميمي مسؤول عنها لأني الراجـ.ـل، الرسول صل الله عليه وسلم قال "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"
يعني دا دوري مش مفروض عليا، ثم مين قالك إنك السبب؟ أنا حلمي لسه موصلتلوش، وبسعى عشان أوصل له، ولغاية ما أوصله مش هفكر أبدا في الجواز، وبطلي تلومي نفسك وتفكري كدا تاني عشان المرة الجاية هزعل بجد، تمام؟!
أماءت له ورددت بحياء:
_ تمام
كاد أن يعيد تشغيل السيارة إلا أنه توقف وعاد إليها ليسألها مستفسراً:
_ أنتِ ليه سألتيني السؤال دا؟
إلتوت شفتيها للجانب فهي تخجل إخبـ.ـاره، وكان هو يعلم ما وراء ذلك التصرف فقال:
_ ممم، شكل كدا فيه حوار ويارب ميطلعش اللي في بالي..
ترددت كثيراً في إخبـ.ـاره عن الحقيقة، لم يكن هناك مفر فيوسف لن يتراجع قبل أن يلم بالأمر كاملاً، حمحمت وهتفت:
_ إيمان..
قاطعها يوسف هاتفاً بحنق:
_ إيمان، كنت متأكد
عاد بنظريه إليها وأردف بعبوس قد تشكل على تعابيره:
_ ها، كملي مالها ست إيمان
قصت عليه لينة ما دار بينهما وأنهت حديثها قائلة:
_ بس فحبيت أسألك أتأكد منك وكدا
هز يوسف رأسه بتفهم وبغيظ واضح في أسلوبه وأردف من بين أسنانه:
_ قولي لها هـ ولا أقولك سبيها مفاجأة
عقدت لينة ما بين حاجبيها عفوياً حين لم تفهم ما وراء حديثه وسألته بفضول أنثوي:
_ مفاجأة إيه؟
أجابها وهو يتحرك بالسيارة:
_ بعدين هت عـ.ـر.في..
انطلق بها إلى المكان المقصود الوصول إليه، التزم كليهما الصمت إلى أن وصلا إلى هناك.
***
حل المساء وكان يوسف برفقة بلال، مرت خمس دقائق على اختفائه خلف الستار ثم ظهر بعد أن ارتدى حِلته السوداء التي لاقت به، كانت متناسقة مع جسده الرفيع وطوله اليافع.
نهض يوسف عن مقعده وأصدر صفيراً عالياً مبدياً إعجابه بمظهر صديقه، اقترب منه بلال ليتفحص ذاته في المرآة المجاورة ليوسف الذي هلل بإعجاب:
_ مظبوطة عليك بالملي، بس قولي إيه المنظر اللي أنا شايفه دا، أومال لو مكنتش بتروح جيم؟
رمقه بلال من خلال المرآة، وكأنه أصاب فيما يشغل تفكيره، استدار بجسده إليه وردد:
_ يا أخي والله أنا نفسي أعرف ليه، المدة تقريباً زيك وشوف أنت شكلك إيه..
أشار بلال بيديه إلى جسده وتابع بإسيتاء:
_ وأنا شكلي إيه؟
أسرع يوسف بوضع كفه أمام عيني بلال هاتفاً بتوجس:
_ خمسة خمسة، أهدى كدا أنا مش ناقص
رفع بلال طرف شفتيه للأعلى مبدي استيائه منه وقال بحنق:
_ أنا برده عايز أفهم ليه؟
فكر يوسف لبضعة دقائق ولم يصل إلا لإجابة دون غيرها:
_ ما يمكن بتلعب غلط
قطب بلال جبينه بغرابة وسأله مستفسراً:
_ غلط إزاي، أنا بعمل اللي كابتن بيعمله بالحرف
بادر يوسف في توضيح ما يقصده بقوله:
_ لا أقصد يعني في نوع الرياضة ممكن تكون مش زيي
عقد الآخر حاجبيه وتمتم ببلاهة:
_ هي أنواع؟!
ضـ.ـر.ب يوسف وجهه براحة يده، ثم وضعها على كتف صديقه وأردف:
_ اللي وداك جيم ظلمك، خلص يلا عشان نمشي
تركه يوسف واقفاً مكانه وتحرك مبتعداً عنه، بينما عاد بلال لغرفة تبديل الثياب ليخلع عنه حِلته ويرتدي ثيابه ثم يعودان إلى حيث جاءا.
***
في المنزل المُقام به حفل الحِناء، صعدت أدراجه لينة بعد أن أنهت جميع دروسها برفقة إيمان الصامتة كعادتها، تتبعهم السيدة ميمي بخطوات متهملة عكس خطواتهم المليئة بالحيوية.
وصلا إلى الطابق الكائن به الحفلة، ثم طرقت لينة باب الشقة فأتاها الترحيب بعد لحظات من قِبل السيدة شهيرة، قبلتها من وجنتيها للمرة الرابعة ثم فعلت التصرف ذاته مع إيمان وميمي.
رفعت لينة يدها ومسحت على وجنتيها بتقزز، فهي تكره تلك القبلات التي تترك أثر لُعاب البعض على وجهها، أعادت وضع يدها إلى جانبها حين رأت هطول شقيقة بلال الكُبرى، شكلت إبتسامة على محياها ورحبت بها وكذلك فعلت هي ثم لاحظت لينة اهتمامها البالغ بإيمان وخصيصاً حين تأكدت من إسمها وكأنها كانت في انتظارها.
جلسن ثلاثتهن على مقربة من الحفل الذي بدأ للتو، كانت الفتيات والنساء يملئن المكان، لم يكن هناك أنش في الردهة تستطيع إحداهن الوقوف به من كثرة الحاضرات.
اقتربت الأخت الكبرى لبلال من لينة ودعتها للرقص بقولها:
_ تعالي يا لينة، دا إحنا مستنينك من بدري
شعرت لينة بالخجل فشجعتها ميمي على النهوض فلم تعترض ونهضت في هدوء، لكنها تفاجئت بدعوتها لإيمان هي الأخرة للرقص، لكنها بادرت بالرفض فور تلقيها الدعوة موضحة:
_ لا لا معلش اعذريني، مش بعرف ومليش في الجو دا خالص
صممت الآخرى على اصطحابها لكنها بقدر ما صممت تلقت رفض واضح من إيمان، تدخلت شهيرة لتنهي الأمر فأردفت:
_ خلاص يا هدير سبيها على راحتها، يمكن تاخد على الجو دلوقتي وتقوم من نفسها
أماءت هدير برأسها ثم توجهت نحو الدائرة التي شكلنها الفتيات حول العروس، ودفعت لينة بداخل تلك الدائرة مشجعة إياها:
_ يلا يا لولو
تفاجئت لينة بهتاف الأخريات مشجعين إياها فلم تطيل هي في خجلها وبدأت بالفعل تتمايل حتى استحثت الإعجاب في نظرات الواقفات، كما كانوا يدعون بعضهن البعض للمجيء ومشاهدة تلك الرقصة المثيرة للإعجاب.
لم تكف لينة عن الرقص فكانت جديرة بفعل ما يبهر الجميع، على جانب آخر اقتربت شهيرة من السيدة ميمي ورحبت بها مرة أخرى ثم انتقت كلمـ.ـا.تها بعناية حتى لا تفهم ميمي شيء:
_ بنت أخوكي باينها هادية أوي
هتفت ميمي مؤكدة:
_ أيوة هي فعلاً كدا، البنت الوحيدة ومنطوية مع نفسها يعني بعد ما خلصت جامعتها مبقتش تخرج من البيت غير ليا أنا وبس
شكلت شهيرة إبتسامة على محياها واسترسلت متسائلة:
_ مش مخطوبة؟ أصل مش شايفة في إيديها دبلة
زمت ميمي شفتيها مستاءة ورددت بحـ.ـز.ن وهي تتذكر المرات التي حاولت بها إقناع يوسف بخطبتها:
_ بيجيلها كتير والله يا شهيرة وبترفض كله، ربنا يبعت لها نصيبها يارب
آمنت شهيرة على دعائها وهي بالكاد تخفي ابتسامتها:
_ آمين يارب آمين
استأذنت منها وابتعدت عنها لترحب بالحضور جميعاً، بينما انشغلت ميمي في مشاهدة لينة وابتسامتها لم تختفي قط على تصرفاتها العفوية، وكانت تتناول بعض الأحاديث من حين لآخر مع إيمان.
انتهت الحفلة في وقت متأخر فاستأذنت ميمي ومن معها في الذهاب، شكرتهم شهيرة على الحضور ثم انحنت على أذن ميمي وهمست لها:
_ استني يا ميمي لما أجيب لك تمن المفارش
أسرعت ميمي بالرفض بذوق:
_ خليهم الوقتي يا حبيبتي، أنا مش مستعجلة عليهم، أنتوا في أيام محتاجين فيها كل جنيه
ردت عليها شهيرة ممتنة لذوقها البالغ:
_ الخير كتير يا ميمي الحمدلله ودا حقك ولازم تاخديه، استني هرجع على طول
أولاتها شهيرة ظهرها وأدلفت بخطاها نحو غرفة نومها، التقطت مطوية ورقية من أحد الأدراج ثم عادت بها إلى ميمي التي دعت لها بالبركة وإتمام الزيجة ثم غادرت.
تحدثت إيمان فور وصولهم إلى الطريق:
_ أنا هروح بقى يا عمتو عشان الوقت أتأخر وبابا رن عليا
أبدت ميمي رفضها بلهفة:
_ لا لا استنى بس نشوف يوسف فين يروحك، متمشيش متأخر كدا لوحدك
كادت إيمان أن تعترض إلا أن ميمي تدخلت بإصرار:
_ مش هسيبك تمشي لوحدك
صعدن الأدراج معاً إلى أن وصلا إلى الشقة، فتحت ميمي الباب وولجت للمنزل، تابعتها إيمان ولينة التي عقدت ما بين حاجبيها بغرابة حين وقع بصرها على مصباح غرفتها المنير.
اتجهت بخطاها ناحية غرفتها وهي تتسائل بغرابة:
_ مين اللي منور أوضتي؟
أصدرت صرخة قوية حين وقفت أمام باب غرفتها فهرولن الأخريات إليها مذعورات، اتسعت حدقتي إيمان وطالعت الداخل بصدmة جلية حلت على وجهها حين رأت...
↚
لم تقف مكانها وهرولت إلى الداخل بسعادة عامرة حين رأت يوسف يقف على سُلم خشبي، وبيده فرشاة ويقوم بطلاء الجدار باللون الأبيض تماماً كما أخبرته.
وقفت لينة تضـ.ـر.ب الأرض بقدmيها، فالسعادة لا تسعها، هللت عالياً بسعادة واضحة:
_ أنت، أنت بتعمل إيه؟
مررت أنظارها على الغرفة ثم عادت إليه وتابعت أسئلتها بحماس شـ.ـديد:
_ أنت وديت الأوضة فين؟
أجابها يوسف بعد أن مسح حبات عرقه التي تجمعت على جبينه:
_ الأوضة بتدهن، مش كنتي عايزاها بينك باين؟!
غمز إليها بعينيه فصاحت الأخرى بفرحة عارمة:
_ أنت أحلى يوسف في الدنيا كلها
هبط يوسف درجات السُلم وردد وهو يعيد الفرشاة في الدلو المليء بالطلاء:
_ ممم ماشي يا غلباوية، ها هي دي الدرجة اللي أنتِ عايزاها، كنت بجرب على الحيطة على لما ترجعي
شكلت لينة بسمة عريضة على ثغرها الوردي الصغير وطالعت الحائط بلهفة وقالت:
_ حلو أوي كدا
أماء لها يوسف بتفهم ثم عزم على البدء على الفور:
_استعنا على الشقى بالله
وقعت عينيه على إيمان التى تحاول إخفاء غيظها لكنها كانت محاولة فاشلة، حمحم وطالعها ببرودٍ وسألها قائلاً:
_ إيه رأيك يا إيمان في اللون؟
بعد وقت طال أجابته مختصرة:
_ حلو..
تدخلت السيدة ميمي ملقية حديثها بتلقائية عابثة:
_ وكان إيه لزومه ما كانت الأوضة حلوة يا يوسف
نظر يوسف إلى لينة وأردف بثقة:
_ ست لينة تؤمر، وإحنا ننفذ على طول
ابتسمت ميمي بفرحة وتمتمت بنبرة حنونة:
_ ربنا يخليك ليها ولينا يارب
لم تتحمل إيمان الوقوف لأكثر وسماع تراهات سخيفة وبنبرة تسيطر عليها الغيرة قالت:
_ أنا مروحة يا عمتو عايزة حاجة
كادت ميمي أن تدعو يوسف لتوصليها إلا أنه لحق بها وتحدث هو:
_ زياد مستنيكي تحت يا إيمان هيوصلك
رمقته ميمي بنظرات معاتبه وهي تزم شفتيها بعدm إعجاب، فكم ودت لو ينفردا ببعضهما البعض لربما يحدث ما يتمناه قلبها، أولاتهما ظهرها ثم تبعت إيمان إلى الخارج وودعتها قائلة:
_ سلمي على رمضان وهادية وأسامة
"الله يسلمك يا عمتو، تصحبي على خير"
هتفت بهم إيمان مجيبة عمتها ثم غادرت بينما عادت ميمي
إلى غرفتها لكي تبدل ثيابها.
كان يوسف يقف حائراً يطالع الجدران، يقرر بأي جهة يبدأ، لم يشعر بتلك العينين التي لم تُرفع من عليه، تطالع ذراعيه الذي يستند بهما على خصره، رافعاً أكمام قميصه للأعلى، تحدق ببنيان جسده التي بات أكثر جاذبية منذ ظهور تلك العضلات البـ.ـارزة من أسفل قميصه، ناهيك عن خصلاته المرتبة بشكل يجعله وسيماً، لم هناك أثراً لذاك اليوسف التي تعرفت عليه منذ سنوات، لقد بات رجلاً مختلفً في شكله وطباعه، لكن مالم يتغير إلى الآن طريقة تعامله معها، وكأنها أميرة كما ادعى مسبقاً.
لم يرفض لها طلباً قط، يؤجل ما يحتاجه الجميع لوقت يراه مناسباً لفعل تلك الحاجة، إلا لها فقط قبل أن تشير بإصبعها يهرول مجيباً لطالباتها.
انتبهت عليه وهو يستدير بجسده نحوها، فحاولت أن تبدوا طبيعية، حمحم هو وردد:
_ هتنامي اليومين دول مع ماما ميمي على لما الأوضة تدهن وتيجي
أومأت له بقبول ثم تابع وهو يشير بأنظاره إلى الخارج:
_ يلا روحي شوفي أنتِ رايحة فين، عايز أخلص الأوضة دي
لم تعقب وتركته بمفرده، صعد يوسف الأدراج مرة أخرى ليواصل عمله حتى ينتهي منه قبل بزوغ الفجر، تفاجئ بعودتها إليه بعد تبديلها الثياب، والأحر أنها صعدت للجانب المقابل له من السُلم، أسرع هو في رفض وجودها عليه خشية أن تفقد توازنها:
_ لينة انزلي وسبيني أخلص
هزت رأسها برفض تام وبإصرار يتوهج في عينيها هدرت:
_ أنا هدهن معاك، عشان ننجز ونخلص أسرع
ابدى رفضه مستاءً:
_لا يا لينة لو سمحتي انزلي، اتنين على السلم ممكن حد يقع وطبعاً سهل إنك أنتِ اللي تقعي عشان أضعف، عايزة تقعدي هاتي كرسي واقعدي بس متخلنيش مشغول بيكي، كدا مش هننجز ولا حاجة
قلبت عينيها شاعرة بمدى مبالغته بالأمر، وضعت كلتى يديها في خصرها وتراجعت للخلف بحركة عفوية ودون أن تشعر انزلقت قدmيها، صرخت بخوف عارم لولا أن لحق بها يوسف وحاوط خصرها بيمناه وباليد الأخرى أمسك الجدار لكي لا يحدث خلل في توازنه ويسقط هو الآخر.
تمسكت لينة في ياقة قميصه خشية السقوط، أعادها إلى وضعها فكان الوضع مريباً بعض الشيء، فهي باتت بين أحضانه لا يفرقهما سوى خشبة السُلم الفاصلة بين أدراجه، شعر يوسف بتلك الرجفة التي سرت في أوصاله، تقابلت أعينهم سوياً فراوده شعور مختلف لم يذقه من قبل.
أنتبه لذاك الوضع الذي باتوا عليه، فسحب يده بهدوء من حول خصرها وهرب بعينيه بعيداً عنها حيث أولاها ظهره، وأردف كلمـ.ـا.ته بصوت متحشرج:
_ قولتلك انزلي، مبتسمعيش الكلام!
لم تطيل في عنادها فهي بحاجة للهروب من تلك الغرفة، توخت أدراج السُلم بحذر، ورددت بخفوت:
_ أنا هنام
لم تنتظر إجابته وانطلقت مسرعة إلى الخارج، ومنه إلى المرحاض، تريد الانفراد بذاتها قليلاً، وقفت تستنشق الصعداء ما أن أوصدت بابها، رفعت يدها ووضعتها على يسار صدرها فلمست تلك النبضات العنيفة، لم يسبق وأن تعرضت لذلك الموقف من قبل.
وكذلك يوسف لم يكن في حالة يرثى لها، فكان تجتاحه مشاعر لم يستطع تفسيرها هو، تأفف بضيق فلم يستطيع مواصلة ما يفعله، استقام في وقفته وأوصد عينيه للحظات يضبط بها أنفاسه المضطربة ثم ردد داخله:
_ يلا عشان تخلص قبل الفجر..
استعاذ بالله من الشيطان الرجيم ثم عاد ليواصل عمله، بينما عادت لينا إلى غرفة السيدة ميمي على أمل أن تغفو سريعاً ولا تدع فرصة لأفكارها بالسيطرة على عقلها، لكن هيهات لضعف قدرتها أمام تلك الأفكار اللعينة حتماً لن تتركها وشأنها.
***
مر ما يقرب الساعة حتى انتهى يوسف من طلاء جدران الغرفة، فكانت صغيرة المساحة وهذا ما ساعده على الإنتهاء في وقت قياسي، خرج من الغرفة وهو يشم رائحة عرقه التي تخللت أنفه، كاد أن يولج للاستحمام إلا أنه توقف حين رأى الباب يفتح.
كز أسنانه بضيق وانتظر قدوم أخيه إليه حتى ينفجر به، ولج زياد المنزل وهو يهاتف أحدهم، أنهى المكالمة فور رؤيته ليوسف قائلاً:
_ ماشي خلاص بكرة نكمل في المعهد، أنا تعبت النهاردة ومعتش شايف قدامي، أقول إيه بس في اللي دبسني في المعهد دا، يلا سلام
عقد يوسف ذراعيه وسأله بنبرة مرهقة:
_ كنت فين؟
أسرع زياد في الإيجاب على سؤاله بلهفة:
ما أنت سامعني وأنا بتكلم، كنت بذاكر مع صحابي لما معتش _ شايف قدامي
بهدوء يتخلله التحذير أردف يوسف:
_ كلها شهرين ونشوف التأخير دا سببه المعهد فعلاً ولا حاجة تانية
_ أولاه ظهره وتقدm بخطاه نحو المرحاض فبادر زياد بسؤاله:
_ إيه ريحة الدهان دي؟
باختصار يشوبه الجمود أجاب:
_ كنت بدهن أوضة لينة
اختفى جسده خلف باب المرحاض، تبعه زياد وألقى بأذنيه على الباب، استمع إلى صوت مياه الصنبور فتأكد من عدm خروج يوسف على الفور
أسرع بخطاه إلى غرفتهما وأعاد وضع هاتفه على أذنه فهو لم ينهي المكالمة بعد، وردد وعينيه مصوبتان على الباب يراقب بهما طيف يوسف إن ظهر أمامه:
_ إيه يا قلبي، كنا بنقول إيه؟
***
في الصباح، استيقظ يوسف باكراً، وصنع له فنجان من القهوة ثم عاد لغرفته، استعار إحدى الروايات من مكتبته الصغيرة وجلس على أريكته المتحركة التي قام بشرائها مؤخراً، تسللت أشعة الشمس من النافذة وانعكست على يديه الممسكة بالكتاب فأضاءت له كلمـ.ـا.ت الرواية.
ظل يرتشف ويقرأ حتى شعر باكتفاء حاجته من القراءة، أعاد وضعها إلى المكتبة وخرج من الغرفة بعدmا ارتدى جلبابه ناصعة البياض استعداداً لصلاة الجمعة.
في تلك الأثناء، خرجت لينة من الغرفة هي الأخرى وألقت عليه التحية قائلة:
_ صباح الخير، خلصت امتى امبـ.ـارح
أجابها وهو يحاول أن يتلاشي ما حظي البـ.ـارحة:
_ صباح النور، مختش وقت طويل
أماءت له ثم سألته بفضول:
_ نسيت أسألك امبـ.ـارح، هي الأوضة راحت فين؟
استند بمرفقه على الحائط وهتف مجيباً إياها:
_ لا سألتي وقولتلك مش كنتي عايزة لونها pink باين!!
بحماس شـ.ـديد أظهرت ابتسامتها وهللت في سعادة:
_ آه سوري نسيت، أنا مش مصدقة بجد، مكنتش أعرف إنك أخدت بالك من التفاصيل دي؟
صدح صوت القرآن في المآذن، استقام يوسف في وقفته وقال بصوته الأجش:
_ نتكلم بعدين، أنا نازل
أماءت له دون تعقيب، مر بجانبها حتى تخطاها بعدة خطوات ثم استدار إليها فوقعت أنظاره على جسدها الذي شعر بتغيره الواضح، كأنه سمِن قليلاً عن ذي قبل، حمحم وحاول النظر إلى وجهها متسائلاً:
_ هي ميمي فين؟
أجابته مختصرة:
_ بتقطف ملوخية، هناكل النهاردة ملوخية بأرانب
هز رأسه ثم تابع سيره إلى الخارج وما رآه لا يريد الإقلاع عن عقله، ظل يستغفر ربه داخله لعله يتناسى الأمر.
أدى صلاة الجمعة بعد سماعه الخُطبة، تعجب من عدm ظهور بلال في الأرجاء فلم يفوت صلاة جمعة من قبل، خرج من المسجد يصافح الجميع ببشاشة وجه ثم ابتعد عن المسجد عدة أقدام وهاتف صديقه ليطمئن عليه:
_ أنت مجتش تصلي ليه؟
أجابه الآخر وهو يبتعد عن تلك الضجة:
أنا في الفندق يابني، العيلة الطويلة العريضة دي كلها مفيهاش غيري، وصاحبك متمرمط مرمطة محدش اتمرمطها قبل كدا، روح هات خالتك، لأ روح هات عمتك، صحابي يا بلال روح جيبهم، بنت بنت خالي جاية روح استقبلها، لأ بنت بنت عمي ست كبيرة ولازم تساعدها، أنا طهقت طلب كمان وهطلع من هدومي
قهقه يوسف عالياً ثم عاتبه بلطف:
_ مكلمتنيش ليه؟
لم يصل بلال إلى إجابة بعد فردد بملل يشوبه نفاذ الصبر:
_ مش عارف بقى مجتش في دmاغي، يمكن عشان مفيش وقت أفكر أصلاً
دون تفكير مد يوسف يد المساعدة بحسم للأمر:
_ هطلع أغير واجيلك، قولي اسم الفندق إيه؟
أخبره بلال عن إسم الفندق بينما أغلق يوسف الهاتف وعاد إلى المنزل، قابل أخيه بعبوس وبنبرة جـ.ـا.مدة هاجمه:
_ منزلتش تصلي الجمعة ليه؟
ببرودٍ وعدm اكتراث أجابه:
_ راحت عليا نومة
هز يوسف رأسه فلم يتفاجئ، هذا الرد المتوقع منه، تنهد ثم حاول كبح جماح غضبه الذي لو ثار لن يهدأ قبل أن يقلب المنزل رأساً على عقب:
_ قولتلك ١٠٠ مرة قبل كدا إلا الصلاة يا زياد، ممكن أتهاون عن أي حاجة إلا الصلاة، دي أول حاجة ربنا هيسألك عنها وأنت واقف قدامه، هتتسئل عن كل صلاة لوحدها، لما تتسأل مصلتش الجمعة ليه هتقوله راحت عليا نومة؟
ارتاب زياد لمجرد تخيله وقوفه أمام ربه وهو لا يعلم طريق للإجابة على سؤاله، ابتلع ريقه ولم يبدي عناده في تلك المسألة وأردف بنبرة مهذبة:
_ إن شاء الله تبقى آخر مرة
"يارب"
دعى يوسف متمنياً أن يصدق تلك المرة وتكون الأخيرة، تنهد ثم قال بنبرة هادئة عن ذي قبل:
_ يلا اتفضل روح صلي الضهر
رفع زياد كفه عند رأسه كأنه تلقى الأمر من أحد الضباط مجيباً إياه بانضباط مبالغ:
_ تمام يا فنـ.ـد.م
نجح في اضحاك يوسف الذي لكزه في كتفه بقوة فآنة الاخر بألم وردد معاتباً وهو يوليه ظهره:
_ آه إيدك جـ.ـا.مدة، جيم بقى وعضلات يلا الله يسهلك
أسرع زياد من خطاه إلى الداخل حين رأى اقتراب يوسف منه، تقابل مع عصفورة المنزل في الممر الذي يفصل بين الغرف وهي تغرد كعادتها، بينما استند يوسف على جدار غرفتها يستمع إليها باهتمام:
ولمّا تلاقينا على سفح رامة
وجدت بنان العامرية أحمرا
فقلت خضبت الكف على فراقنا
قالت معاذ الله ذلك ما جرى
ولكنني لما وجدتك راحلاً
بكيت دmاً حتى بللت به الثرى
مسحت بأطراف البنان مدامعي
فصار خضاباً في اليدين كما ترى
اعتدل يوسف في وقفته وردد ممازحاً إياها:
_ نفسي أعرف إيه حبك في الأغاني اللي مش مفهومة دي؟
في حد يسمع أغاني بالفصحى؟
بتستمتعي ازاي؟
أجابته بنبرة مليئة بالشغف تجاه ذلك النوع من الأغاني:
_ دي أحلى حاجة أصلاً، الكلمـ.ـا.ت كدا بتدخل على القلب عدل، وبعدين كفاية إن محمد عبد الرحمن اللي بيغنيهم دا يخليني أحبهم حتى لو مش دا لوني
رفع يوسف حاجبيه بعدm تصديق وسألها قائلاً:
_ للدرجة دي بتحبيه؟
أخرجت لينة تنهيدة مطولة ثم استندت بذراعها على الجدار وأسبلت عينيها في عيناي يوسف وأجابته بنبرة رقيقة ناعمة:
_ دا أنا واقعه في حبه..
شعر يوسف بشيء غريب حينها، فقط أخبرته بمدى حبها لذاك الرجل فلم تشعر ماذا فعلت به، لا يعلم ماذا يحدث الآن داخله، لا يستطيع وصف ذلك الشعور الغريب، أطال النظر إليها لعله يفهم ماذا يجري لكنه لم يصل إلى شيء.
قطع عليه محاولاته البائسة في فهم حالته، صوت أخيه الذي يغني بصوت عالٍ لحظة خروجه من المرحاض:
_ ناس مني ومن دmي
محدش فيهم شال همي
محدش كان خيره عليا
صرخ عالياً وهو يتابع غنائه المنفر:
_ فين خالي وفين عمي
انفجرت لينة ضاحكة على تصرفاته الحمقاء، كان يلوح بيديه في الهواء تحت مسمى الرقص، حرك يوسف رأسه مستنكراً تصرفاته الخرقاء، وعلى الرغم من مدى استيائه بما يحدث لم يستطيع منع ضحكته التي رُسمت على شفتيه.
صاحت لينة متسائلة بفضول وهي تنظر إلى يوسف:
_ متقولش إن الأغاني دي اللي بتعجبك؟
أسرع يوسف في نفي حبه لذاك النوع من الأغاني موضحاً:
_ لأ طبعاً، الأغاني اللي تستمتعي وأنتِ بتسمعيها زي أم كلثوم، وردة، نجاة، عبد الحليم، محمد عبد الوهاب كدا يعني
أؤمـ.ـا.ت لينة بتفهم بينما رفع زياد شفتيه العليا باستهزاء وقال:
_ أم كلثوم إيه وعبد الحليم إيه، دا أنا بنام والأغنية لسه مبدأتش
نهره يوسف باقتضاب:
_ أنت بتفهم حاجة أنت، خليك في رضا البحراوي وعصام حاحا بتوعك
أولاهما زياد ظهره وواصل غنائه أو ربما صراخه:
_ أنا مش مرتاح، أنا كل مشاعري وأحاسيسي مليانة جراح.....
وضع يوسف راحة يده على وجهه بتهكم، فلن يتغير ذلك الصبي المراهق، يتسائل متى ستنتهي فترة مراهقته تلك، لقد طالت أكثر من المعتاد، انتبه على صوت والدته التي وجهت حديثها لهما:
_ الغدا خلص يا ولاد تعالوا عشان تأكلوا أنتوا مفطرتوش
رفض يوسف بلطافة فلا يريد أن يتأخر عن صديقه أكثر من ذلك، لقد وعده بالقدوم إليه ومساعدته:
_ معلش يا أمي كلوا أنتوا أنا لازم أغير وأروح لبلال بسرعة، محتاجني معاه النهاردة، هبقى أجيب أي حاجة أكلها
تذمرت ميمي وهتفت بنبرة غير راضية:
_ مش هيحصل حاجة لو اتاخرت عشر دقايق يا يوسف أنت مش هتقعد تاكل لنص اليوم
أوضح لها بكلمـ.ـا.ت لطيفة:
_ أنا أصلا متأخر بسبب ابنك ورغي لينة اللي مش بيخلص، معلش بقى كلوا أنتوا
أسرع خطواته نحو غرفته حتى لا يواجه ضغط آخر، بدل ثيابه سريعاً ثم خرج ونظر إلى ثلاثتهم وهم يلتفون حول المائدة، ودعهم وكاد أن يغادر المنزل إلا أن سؤال لينة قد أوقفه:
_ أنت رايح لبلال فين؟
أجابها بنبرة سريعة وهو يرتدي حذائه:
_ في الفندق، العروسة حاجزة هناك
صرخت لين عالياً مما سببت الذعر في قلوب الجميع:
_ واو، نفسي أحضر فرح كدا أوي
"نبقى نعملك فرحك كدا إن شاء الله"
بإختصار ردد يوسف ثم أغلق الباب وهبط درجات السُلم سريعاً ومنه إلى سيارته ثم إلى الفندق المقصود.
كان الذراع اليمين لبلال، شاركه نصف المسؤولية التي وقعت على عاتقه اليوم، فباتت أسهل بوجوده، انتهوا مما يفعلاه في وقت متأخر، استند يوسف على سيارته وقد شعر بالجوع الشـ.ـديد لدرجة أنه سمع صوت بطنه التي تتوسله أن يطعمها.
نظر إلى بلال وأردف بخفوت:
_ أنا جعان مأكلتش حاجة من الصبح
رد عليه بلال بصوت يكاد يُسمع:
_ والله وأنا، تعالى ندخل نتغدى، المطعم هنا اوبن بوفيه يعني مش هنستنى أكل يتحضر
ضغط يوسف على زر إغلاق في مفتاح السيارة وهرول إلى المطعم فتبعه بلال وهو يقهقه على ركضه الغير متوقع، دخلا كليهما المطعم وبدأ في وضع كميات كبيرة من الطعام في الصحن الذي بيدهم ثم جلسَ ليتناولا بشراهة.
أنهى يوسف طعامه كاملاً، شعر باكتفائه التام من الطعام اليوم، عاد بظهره إلى الخلف وقال وهو يمرر يُمناه على بطنه:
_ أأأه أنا كلت لسنة قدام
ضحك الآخر على داعبته، ثم رفع يده ليتفحص ساعة يده، شرق حين رأى أنهما متأخران عن ميعادهم، ساعده يوسف على ارتشاف القليل من الماء، نهض بلال عن كرسيه حين شعر أنه في حال أفضل الآن، حث يوسف على النهوض بقوله:
_ قوم يابني اتأخرنا
سأله يوسف وهو يسحب هاتفه:
_ على فين؟
أجابه وهو يواصل هرولته إلى الخارج:
_ حاجز أوضة، يعني بعد المرمطة دي ومحجزش ليا أوضة كمان
تذمجر يوسف وعاتبه قائلاً:
_ مقولتش ليه؟ أنا مجبتش هدومي
توقف بلال عن السير فجاءة فارتطم به يوسف، التفت إليه وردد مستاءً:
_ بتهزر يا يوسف!!
صاح الآخر به شزراً:
_ وأنت كنت قولت يعني يا بلال؟!
تأفف بلال بصوت مسموع، حاول يوسف تهدئة الأجواء التي انعكست عليهم بالسلب، فهذا ليس بوقت جدالهم الأخرق، زفر أنفاسه وأردف حاسماً للأمر:
_ خلاص أنا هرجع أنا وألبس في البيت وأبقى أحصلك
لم يكن هناك مجالاً للرفض، أماء له بلال بقبول ثم سار كليهما في طرقات مختلفة، عاد يوسف إلى المنزل فاستقبلته والدته بوجه بشوش:
_ أهلاً يا حبيبي
جاءته لينة راكضة فتفاجئ يوسف بكم الأسئلة التي سألتها دفعة واحدة:
_ عملت إيه؟ الفندق شكله إيه؟ عملوا الفريست لوك ولا لأ؟ ولو أه العريس كان رد فعله ايه لما شافها؟
قاطعها يوسف حينما لم تتوقف عن السؤال عن أشياء يجهلها:
_ حيلك حيلك، أنا مدخلتش الفندق أصلاً دا أنا حتى دخلت المطعم الخارجي عشان آكل
لوت شفتيها مستاءة لأنها لم تخرج باجابات ترضي فضولها، قلب يوسف عينيه ثم مرر أنظاره عليهن حين لاحظ عدm استعدادهن بعد وصاح متزمجراً:
_ أنتوا لسه ملبستوش؟!
بتهزروا بجد، أنا هدخل ألبس تكونوا خلصتوا عشان نمشي، لازم أكون مع بلال من بدري
اتجه ناحية غرفته وقام بطرد أخيه منها لكي يبدل ثيابه، ارتدى قميصاً أبيض اللون يعلوه سترة لونها زيتي، وبنطال ذو اللون البيج، وحذاء رملي قاتم
كذلك لم ينسى ساعة يده الذهبية، ومن ثم نثر عطره ذو الرائحة الذكية على سترته، مشط شعره حتى بات بصورة جذابة مثيرة.
تراجع خطوتين للخلف لتظهر هيئته كاملة أمام المرآة، ألقى نظرة سريعة على صورته المنعكسة، شعر بالرضاء التام بمظهره الوسيم.
استدار بجسده والتقط مفاتيح سيارته وهاتفه الذي صدح رنينه فور سحبه من على الفراش، كان بلال من يهاتفه، أجابه بنبرة رخيمة:
_ إيه يا بلال أنا خلصت ونازل
"تمام إحنا مشينا ورايحين على لوكيشين التصوير حصلنا على هناك"
هتف بهم بلال أثناء خروج يوسف من غرفته، تقابل مع لينة التي خرجت للتو من غرفة السيدة ميمي، لم يستطيع إشاحة نظره على تلك الطلة المميزة، ابتسمت لينة بحياء حين رأت عينيه يحدجان بها، دارت حول نفسها فحلق فستانها الزيتي في الهواء ظاهراً حذائها ذو الكعب المرتفع الذي يتماشى لونه مع لون حجابها الرملي القاتم.
تنهدت ثم سألته متلهفة لسماع رأيه:
_ إيه رأيك؟
"أنت يابني روحت فين كدا؟"
أنتبه يوسف على سؤال بلال الذي مازال هناك على الخط، حمحم واسترسل ونظراته مازالت عليها:
_ لا سلام أنت يا بلال دلوقتي
أغلق الهاتف قبل أن يسمع رد الآخر الذي تعجب من حالته المفاجئة، بينما قهقهت لينة عالياً وأردفت من بين ضحكاتها:
_ قفلت في وشه..
اقترب خطوات بسيطة منها وهتف مبدياً إعجابه:
_ سيبك منه، أنتِ مطقمة معايا؟!!
تصنعت لينة الذهول، ووجهت نظريها على ثيابه كأنها لم تلاحظها وهتفت بدهشة زائفة:
_ إيه دا مختش بالي، دا نفس الألوان بالظبط!!
ضاق يوسف بعينيه عليها فلم يصدق أنها لا علم لها أنه سيرتدي ثيابه تلك، أسرعت لينة نافية ما يدور في عقله بقولها:
_ وأنا أعرف منين يعني إنك هتلبس الألوان دي؟
ظهرت السيدة ميمي من خلف باب غرفتها وهي تقول بنبرة لاهثة:
_ أنا خلصت ياولاد
طالعت نقطة ما في قميص يوسف ثم عادت بنظريها على لينة قائلة:
_ مكوتيش الياقة كويس ليه يا لينة؟
صعقت لينة مما تفوهت به ميمي للتو وطالعتها بأعين جاحظة بينما حاول يوسف حشر أنفاسه داخله لكنه فشل وانفجر ضاحكاً، لم تتجرأ لينة على مواجهته بعد فضح أمرها، هـ.ـر.بت من بينهما معللة ذهابها:
_ هكلم شهد صحبتي أشوفها مشيت ولا لسه
هرولت إلى الخارج دون أن تلتفت بينما تمتمت ميمي متعجبة من شأنها:
_ مالها دي، أنا قولت حاجة غلط؟
نفى يوسف بإيماءة من رأسه ومازالت ابتسامته لم تختفى من على شفتيه، تعجبت ميمي أيضا من ضحكه دون سبب وسألته مستفسرة:
_ أنت مالك بتضحك على إيه؟
حاول يوسف إلهاء عقلها بعيداً عن مجرى حوراهما بقوله:
_ مفيش يا أمي
تلفت ينظر من حوله وتسائل بفضول:
_ هو زياد فين؟
أجابته وهي تضع حقيبتها على كتفها:
_ زياد سبق هو وقال إنه هيروح مع صحابه
اومأ لها يوسف بتفهم ثم انطلق إلى الخارج ولم يستطيع المرور بجوار لينة دون ضوع بصمته فقال وهو يطالعها ووجهه يبتسم بمكر:
_ ها شهد راحت ولا لسه؟
أجابته دون أن تنظر إلى عينيه من شـ.ـدة خجلها:
_ لا لسه..
حرك رأسه قبل أن يردف:
_ تمام يلا بينا لو جاهزين
نزل ثلاثتهم خلف بعضهم، ثم استقلوا السيارة، انطلق بهم يوسف الذي أنتبه لحديث والدته:
_ هنروح نجيب إيمان الأول
" إيمان!!"
نطق بإسمها يوسف وهو يدعس على فرامل السيارة، التي أصدرت حكة شـ.ـديدة إثر وقوفها المفاجئ الذي سبب الذعر لكلتاهن
استدار يوسف بجسده ناحية والدته وصاح بنبرة غاضبة:
_ أنتِ برده يا أمي مُصرة تـ..
قاطعته ميمي بتوضيحها لسوء الفهم الحادث:
_ أم بلال شافتها لما كانت عندي وعزمتها، أنا مقولتش حاجة..
نفخ يوسف بصوت مسموع، خبط يديه على الطارة بعصبية واضحة ثم دعس على المحرك مرة أخرى وتحرك بالسيارة متجهاً إلى منزل خاله.
وصل إلى الحي الذي يسكن به خاله، صف السيارة أسفل البناية وردد بإقتضاب:
_ كلميها استعجليها عشان متأخرين
"حاضر"
أردفتها السيدة ميمي ثم سحبت هاتفها وكادت أن تهاتف إيمان لكنها توقفت حين رأتها تقترب منهم، شكلت بسمة على ثغرها وكذلك بادلتها الآخرى ثم استقلت بجانب لينة، رحبت بهم إيمان بحميمية ثم انتبهت على كلمـ.ـا.ت لينة اللطيفة:
_ الدريس بتاعك جميل جداً
شكرتها ممتنة:
_ شكراً، دي عيونك الجميلة، الدريس بتاعك حلو برده بس ليه مختارة لون غامق كدا مغمق بشرتك؟!
تفاجئت لينة بردها الوقح بينما تولى يوسف مهمة الرد عليها بعدmا أعدل المرأة على وجهها مباشرةً:
_ تقريباً أنتِ محتاجة نضارة يا إيمان!!
كان رداً أفحم إيمان ولم تجرأ على التعقيب من فرط صدmتها المختلطة بالخجل، طالعته والدته بغضب ثم حمحمت لكي يصلح ما اقترفه في حقها، بادلها يوسف النظرات وبنبرة غير مبالية أردف:
_ مش كان خالي قال حاجة زي كدا تقريباً؟! كنت بسأل يعني هتعملها امتى؟
أعاد يوسف أنظاره في المرآة ليرى وجه إيمان الذي أسود من كظم غيظها وتابع متسائلاً:
_ ها هتعمليها امتى؟
حمحمت إيمان بحرج بائن ثم رفعت بصرها على المرآة ذاتها لترى عينيه التي تطالعها، وبصوت متحشرج أجابته بهدوء:
_ أنا مش محتاجة الحمدلله، يمكن أنت فهمت غلط ولا حاجة
حرك يؤسف رأسه بعدة إيماءات وهو يتمتم:
ممم يمكن كان يقصد أسامة بقى..
أسندت لينة رأسها على نافذتها الزجاجية ولم تمنع تشكل ضحكتها السعيدة على شفتيها الوردية اللامعة، لم ترى عينيه التي ابتسمت تلقائية فور رؤيته بإبتسامتها.
ساد الصمت بين الجميع حتى وصلا إلى المكان المقام به حفل الزفاف، صف يوسف السيارة في أحد الأماكن الخالية وكان هذا يبعد عن مكان الحفل عدة أمتار قليلة لعدm وجود مكان خالٍ بالقرب من مكان الزفاف.
تقدm يوسف أولاً لكي يأمن لهم الطريق لكي لا تؤذيهم أي سيارة قد تمر بسرعة عالية، انتبهت لينة على اكسسوارها الذهبي الذي لم يكن في يدها كما وضعت، توقفت عن السير في منتصف الطريق ونظرت خلفها باحثة عن اكسسوارها ولم تلاحظ تلك السيارة التي تقود نحوها بسرعة فائقة
لم يراها أحد سوى يوسف الذي كان يتابع مرورهن من خلفه من حين لآخر كلما تخطى مسافة بسيطة، لم يشعر بقدmيه التي أعادته إليها ثم لَقِفها بين ذراعيها مبعداً إياها عن السيارة التي شعر بحكتها في جانبه الأيمن.
صرخت السيدة ميمي بذعر شـ.ـديد حين رأت احتكاك السيارة بيوسف، هرولت نحوه راكضة وكذلك تبعتها إيمان بتوجس شـ.ـديد خشية مكروه قد أصابه.
أوقف السائق السيارة وترجل منها ثم هرول نحوهم ليتأكد من أنه لم يصيب أحدهما بسوء، وسألهم بنبرة لاهثة:
_ أنتوا كويسين، حد حصله حاجة، أنا بجد متأسف بس هي وقفت قدامي فجاءة و...
فشل في مواصلة حديثه فلم يكن هناك كلمـ.ـا.ت قد يقولها يمكنها أن تشفع له، أزاح يوسف يديه من على لينة التي تجمدت مكانها وكأنها باتت كالحجارة لا تنطق ولا تتحرك، حدجها بخوف وسألها بنبرة مهزوزة:
_ أنتِ كويسة
لم تجيبه من صدmتها التي لم تخرج منها بعد، أحاطها يوسف بيديه وهو يردد:
_ امشي نرجع العربية..
بصعوبة بالغة قابلتها لينة حركت قدmيها ببطئ شـ.ـديد حتى وصلا جميعهم إلى السيارة، فتح يوسف الباب الخلف لها وساعدها على الجلوس، ثم جلس القرفصاء أمامها، يريد الإطمئنان عليها فحسب، فسألها بهدوء:
_ خلاص مفيش حاجة حصلت، أنتِ كويسة
جذب انتباهه يديها المرتجفة فأعاد النظر إليها ليطمئنها مرة أخرى:
_ الموضوع عدى يا لينة خلاص اهدي
ازدادت رجفة يديها فصاحت ميمي بخوف:
_ أصل تكون دي الحالة اللي بتجيلها يا يوسف
فكانت تأتيها حالة من عدm الإستيعاب لبضعة ثوانِ ولا تصغي لما يقال من حولها، لقد اكتشفوا هذا الوضع بعد سفر تؤامها مباشرةً كلما حـ.ـز.نت، وعملوا كثيراً على إنسائه لها لكنه دوماً يعود إليها في أوقاتها الأكثر خوفاً وحـ.ـز.ناً، التفت يوسف برأسه وطالع والدته لبرهة ثم عاد بنظره إلى لينا التي باتت رجفة جسدها واضحة للجميع، حاول أن يهدئ من روعه ثم أمسك بكلتى يديها وربت عليهم بقوة وهتف:
_ لينة، أنا هنا محصلش حاجة، بصيلي يا لينة
بعد محاولات كثيرة من يوسف حركت لينة بؤبؤتيها عليه فابتسم هو لها، ثم هتفت ميمي متسائلة بتوجس:
_ أنتِ كويسة يا لينة، نوديكي المستشفى؟
حركت لينة رأسها رافضة وقالت بنبرة تكاد تُسمع:
_ لأ، أنا كويسة..
أخفضت بصرها على ذلك الجالس أمامها وطالعته بأعين لامعة، انتبهت تلك يديه التي تحتضن يديها الصغيرة فلم تمنع إبتسامتها من التسلل والرسوم على ثغرها ثم شـ.ـدت على يده ممتنة لوجوده.
قطعت إيمان تلك اللحظة الحميمة التي أشعلت نيران الغيرة داخلها بهتافها الغاضب:
_ مش فاهمة أنتِ إزاي تجازفي بحياتك وحياة يوسف بالشكل دا، كنتي بتفك....
هاجمها يوسف معنفاً إياها بعدmا سحب يديه واستقام في وقفته:
_ خلاص..
لم تصمت إيمان تلك المرة، يكفى سخافة إلى هذا الحد، فتابعت هتافها بتذمر:
_ لا مش خلاص، أنت كان ممكن يحصلك...
قاطعها للمرة الثانية بنبرته المنفعلة:
_ لما أقول خلاص يبقى خلاص، متدخليش أنتِ
طالعها بوجه عابس يحوي من الغضب قدراً، لم تتحمل إيمان نظراته وإهانته فهي لا تريد نظرات غاضبة كتلك وأخرى بـ.ـاردة كأسلوبه معها، أولاتهم ظهرها وعادت حيث جائت فانهالت والدته عليه بالكلمـ.ـا.ت المعاتبة:
_ والله عيب تكلمها كدا قدامنا، مش فاهمة أنت بتعامل البنت دي كدا ليه، يا أخي دا حتى هي بنت خالك مش من الشارع!!
وقعت كلمـ.ـا.ت ميمي على آذان لينة كالصاعقة، رفعت لينة رأسها وطالعتها بأعين مصدومة، تكاد تجزم أنها سمعت صوت تحطيم قلبها الذي تفتت إلى أشلاء ترى بالعين المجردة.
رمشت بعينيها مرات عديدة ولازالت تنظر إليها لعلها تعيد إصلاح ما تفوهت به للتو، أولاتهما السيدة ميمي ظهرها وتوجهت إلى إيمان لكي تطيب خاطرها حتى لا يحدث سوء تفاهم بينها وبين شقيقها من خلف حماقة يوسف المتكررة.
وقفت لينا الذي انتبه لحركتها يوسف واستدار إليها مشكلاً إبتسامة عـ.ـذ.بة على محياه رغم بركان غضبه الثائر داخله ففجائته هي بسؤالها:
↚
"هي تقصد إيه"
خرجت الكلمـ.ـا.ت من فاه لينا متسائلة بنبرة مرتجفة تخشى سماع الإجابة، على الجانب المقابل قطب يوسف جبينه بعدm فهم، فلم يستشف الذي يدور في عقلها حول ذلك السؤال فأجابها بتلقائية عابثة:
_ معرفش، هي بتتكلم عن معاملتي لـ...
توقف من تلقاء نفسه حينما تجمعت الصورة بوضوح في عقله، مال برأسه قليلاً وحدجها بنظراته الثاقبة ثم ردد متسائلاً بنبرة بـ.ـاردة:
_ أنتِ.. تقصدي إيه بسؤالك دا؟
شعرت لينة بالخجل الشـ.ـديد، فتراجعت خطوة للخلف ونكست رأسها، فهي لا تجرأ على مواجهته والإعتراف بما استحثته من كلمـ.ـا.ت ميمي.
أرخى يوسف أعصاب وجهه فباتت ملامحه هادئة ثم لوى شفتيه ساخراً من سذاجتها، لم يحب أن يطيل في الأمر الذي لا معنى له، حمحم وهو يحك مؤخرة رأسه وأردف بإقتضاب:
_ يلا ندخل القاعة، ملهاش لزوم الواقفة هنا
رفعت عينيها عليه فتفاجئ يوسف بتلألأ العبرات فيهما، ابتلع ريقه فلم يستطيع مقاومة تلك العبرات، تعجب من تلك الوخزة التي شعر بها في يسار صدره، لم يتحملهم فأولاها ظهره وحثها على السير قائلاً:
_ يلا..
سارت إلى جواره وتوجها معاً إلى مكان الحفل، كانت لينة تختلس النظر إليه دون أن يلاحظها، لم تعتاد ذلك الهدوء مطلقاً، دخلا كليهما القاعة ثم بحث يوسف عن والدته وتابع سيره نحوها فلم تعطيه وجهاً، لقد كانت ضجرة من تصرفاته.
سحب يوسف كرسي لتلك الواقفة وأشار إليها بالجلوس، ثم أولاهن ظهره وغادر باحثاً عن صديقه، أو ربما الهروب منهن، فعقله يكاد ينفجر من كثرة التفكير.
لم يشعر بتلك الأعين التي تتابع خطواته بدقة، لم يرفعن أعينهن عنه سواء كانت إيمان أو لينة، فإيمان ترمقه بنظرات بها مزيج من الغضب والحب، تثور لعدm اهتمامه بها، فقط تتمنى أن ينظر في عينيها، تجزم أنه سيستشف عشقها المهيمن به، سيرى عبـ.ـارات الحب الذي تكنه له، سيفهم مشاعرها التي تلومه في كل لحظةٍ عاملها بقسوة، سيسمع قلبها الذي ينبض فقط حين تراه عينيها، فقط لو ينظر إليها مرة واحدة، مرة واحدة فقط حتماً سيتغير كل شيء!.
على الجانب الآخر، كانت تطمح كثيراً في أن تنهض وتشاركه وقوفه، أو ربما تساعده في البحث عما يريد، كانت تختنق من جلوسها هكذا ومطالعته من بعيد، تشعر بالحاجة الشـ.ـديدة لإقترابها منه، فقط كل حُلمها أن تحيا بجواره، هو دون غيره، لكن هل يراها هو؟
هل يشعر بها؟
لن تكذب أنها شاغله الأساسي، لكن هل يكِن لها حباً غير حبه الأخوي؟! هل يمكن أن تنعكس مشاعره يوماً وتتحول إلى حب كالذي يخلق بين الحبيبان؟!
إنه حلم جميل للغاية، تتمنى أن يصبح حقيقة.
تنهدت لينة بضجر فلم تستطيع الجلوس مكانها وهي تراه يقف بمفرده، نهضت وتوجهت نحوه دون تردد، شعرت بضيق ملامحه فخمنت أنها السبب، وقفت إلى جواره وانتظرت انتهائه من مكالمته الهاتفية الذي أنهاها بقوله:
_ تمام أنا مستنيك على الباب
حمحمت وسألته بعفوية كوسيلة لإخبـ.ـاره بقدومها:
_ دا بلال؟
التفت يوسف برأسه وتفاجئ بها ثم سألها بعبوس:
_ أنتِ قومتي من مكانك ليه؟
أجابته وهي ترمق المكان من حولها بملل:
_ الجو رخم والعروسة لسه مجتش وبصراحة حسيت إنك زعلان، فجيت أشوف مالك
ببرودٍ ردد يوسف وعيناه على الباب في انتظار حضور صديقه:
_ لا مش زعلان، هزعل ليه؟
اقتربت منه خطوة وشبكت كفوفها في بعضهما، ثم أردفت بنبرة خجولة:
_ عشان سؤالي برا و..
قاطعها يوسف بجمود:
_ أنتِ شايفة إني مش من حقي أضايق لما أحس إنك شيفانا مش عيلتك؟!
نكست لينة رأسها وعضت على شفاها السفلى بحرج شـ.ـديد، حاول يوسف أن يهدئ من عصبيته، أخرج تنهيدة وعاد إليها بنظره وهتف:
_ روحي أقعدي يا لينة، نتكلم بعدين
رفضت أن تغادر قبل أن تقوم بمصالحته، رسمت إبتسامة رقيقة على محياها وأردفت بنبرة مختلفة كلياً، كانت تستخدmها في بعض الأحيان إن تطلب الأمر، لكنها تستعمل فقط من أجل يوسف دون غيره:
_ طيب ولينة لو قالتلك إنها مكنتش تقصد بجد هتقول إيه؟
في تلك الأثناء حضر بلال الذي سمع ما قالته لينة، انتظر مكانه حين شعر أن هناك ثمة أمر ربما يكون كبيراً، زفر يوسف أنفاسه فخرجت عصبيته مع أنفاسه وتبخر حـ.ـز.نه، شكل بسمة على شفتيه وبنبرته الرخيمة قال:
_ هقولها محصلش حاجة
اتسعت إبتسامة لينة بسعادة فوجه يوسف لها أمراً بلطافة:
_ يلا ارجعي مكانك
أماءت له بقبول وعادت إلى مكانها ولم تكترث لنظرات إيمان المشتعلة، بل كانت تغمرها السعادة لنجاحها في محي أي خلاف بينهما.
لم يستطيع بلال الوقوف مكانه لوقت أكثر، وجاور صديقه بعينين جاحظتين، وبنبرة مذهولة ردد:
_ إيه اللي حصل دلوقتي دا؟!، هو إيه اللي لينة لو قالتلك إنها مكنتش تقصد فترد تقولها محصلش حاجة، بالسهولة دي اترضيت!
دا أنا محتاج أقعد معاها بقى عشان تعلمني بتعمل كدا إزاي بدل عمري اللي مقضي نصه أصالحك فيه دا
انفجر يوسف في الضحك، لم يستطيع السيطرة على قهقهته التي استمرت لما يقرب الدقيقة تحت نظرات بلال المذهولة لما شاهده بأم عينيه، فلقد عانى كثيراً معه إن تسبب في مضايقته بدون قصد، فما هذا الهراء الآن.
وضع يوسف يده على ظهر بلال وربت عليه ثم هتف وهو يطالع نقطة ما خلفه:
_ تعالى نبعد من هنا، أختك وصلت
لم يلتفت بلال ولم يثيره شيء سوى يوسف الذي تهاون في محي خلافه بتلك السهولة، لم يكف يوسف عن الضحك كلما رأى نظرات بلال عليه، وقفا بعيداً عن الممر التي ستسير منه العروس وشاهدا لحظة استقبالهم في صمت يشوبه الإعجاب بما يحدث أمام مرأى عينيهم.
***
نهضت لينة عن مقعدها ثم انحنت بقرب أذن السيدة ميمي وقامت بالهتاف إليها:
_ هخرج أرد على شهد، لأني مش سمعاها من هنا
وافقت السيدة ميمي ثم نبهت عليها قبل أن تذهب:
_ متتأخريش
أماءت لها لينة بقبول ثم ابتعدت عن المكان، قاصدة الخروج لكي تجيب على هاتفها بعيداً عن تلك الضجة، لمحها يوسف الذي كان يتابع الطاولة خاصتهم من آن لآخر فتوجه نحوها دون تردد ليعلم إلى أين هي ذاهبة.
وقفت لينة أمام مجموعة من الشباب، في انتظار تنحيهم جانباً لكي تمر لكن المكان كان مزدحماً ولم يستطيع أحدهم التحرك من مكانه، شعرت لينة بالفزع حين شعرت بهمس أحدهم من خلفها:
_ بتعملي إيه هنا؟
وضعت راحة يدها على صدرها تطمئن قلبها حين عرفت هويته من نبرة صوته، ثم استدارت إليه موضحة بصوت عالٍ لكي يسمعها:
_ هرد على شهد، المكان هنا دوشة أوي ومش سمعاها
تفهم يوسف الوضع فتخطاها بجسده وأزاح بيديه الشباب الواقفين أمامه، لم يتجرأ أحدهم على التطاول والإعتراض، بل كانوا يتنحون جانباً حتى بات هناك مكان يمكنها السير فيه، تقدmت بخطوات سريعة حتى أصبحت خارج المكان وأجابت على هاتفها:
_ الو، أنتِ فين يا شهد؟
جائها الرد من الطرف الآخر التي أخبرتها أنها ستصل في غضون دقائق معدودة، أغلقت لينة الهاتف ونظرت إلى يوسف الذي تحدث وهو يكتم ضحكاته ما أن وقعت عينيها عليه:
_ لا بس الـ matching (التطابق) فظيع
شعرت لينا بالخجل يجتاحها من كلمـ.ـا.ته التي يثير بها وتر حساس للغاية لديها، عضت على شفاها السفلية شاعرة بتلك الحرارة في وجنتيها، حتماً من فرط الخجل.
قهقه يوسف قاصداً ذلك، ولن يطيل في الأمر فأخبرها بحضور صديقتها بلهجة مازحة:
_ ريا وصلت
رفعت لينة رأسها ورمقته متعجبة فأوضح ذلك وهو يشير بعينيه خلفها:
_ قصدي صاحبتك وصلت
حمحم ثم تابع:
_ أنا هقف على الباب عشان أعديكي يلا متطوليش في وقفتك هنا
أولاها ظهره وتوجه ناحية الباب ووقف ينتظر عودتها كما أمرها، بينما التفتت الآخرى لتستقبل صديقتها، رحبت بها وبعائلتها التي تركوا لهن المساحة للحديث وولجوا هم للداخل.
تبادلن العناق ثم حضر على ذهن لينة لقب يوسف لصديقتها فانفجرت ضاحكة مما أثارت الفضول داخل شهد التي بادرت في سؤالها عن سبب ضحكها المفاجئ:
_ أنتِ بتضحكي على إيه؟
حركت لينة رأسها يميناً ويساراً نافية أن هناك أمراً، وأردفت حين تحكمت في ضحكاتها:
_ مفيش، تعالي ندخل يلا
لمحت شهد طيف يوسف الذي يختلس النظر فصاحت مهللة:
_ روميو واقف هناك أهو
لكزتها لينة بقوة في كتفها وعاتبتها معنفة:
_ ملكيش دعوة بيه ومتبصيش نحيته تاني
حركت شهد فمها بحركة ساخرة وهي تردد ما قالته لينا:
_ ملكيش دعوة بيه ومتبصيش نحيته تاني
لكزتها لينة للمرة الثانية لكن بقوة أشـ.ـد فآنت شهد بألم وهي تملس على كتفها:
_ حـ.ـر.ام عليكي إيدك جـ.ـا.مدة
في تلك الأثناء أنتبه يوسف لدخول شقيقه بصُحبة بعض الشباب، اعتدل في وقفته ونصب عينيه على الفتاتان جيداً، على الجانب الآخر هتفت لينة حين رأت زياد مع أصدقائه:
_ أخوكي جه
التفتت شهد برأسها ثم عادت إليها ورددت:
_ طيب يلا ندخل بدل ما يتعصب عليا
قلبت لينة عينيها ساخرة:
_ أنتِ بتخافي منه بجد، دا أمجد يابنتي!!
شبكت شهد يدها في ذراع لينا وحثتها على السير ثم أجابتها بإزدراء:
_ آه صعب أوي في قلبته
تقوس ثغر لينة بابتسامة عريضة حين راودتها ذكرى تلك الصفعة التي لازال صوتها يدوى في أذنها من شـ.ـدته، رفع أمجد يديه وتحسس وجنته بغضب حينما رأى لينة، فكان يشعر بالألم في كل مرة يراها بها، إلى الأن لم يشفى من صفعتها، مهما مرت السنين يزداد غضبه منها لكن ما باليد حيلة، أنه على علم بما سيصيبه إن تجرأ واقترب منها، فإن كانت صفعة واحدة لا تُنسى فماذا سيفعل أمام ردة فعل يوسف؟!
"مالك يابني، وقفت كدا ليه؟"
خرج أمجد من شروده على سؤال زياد، طالعه لبرهة ثم ردد بتجهم:
_ مفيش..
تابعا سيرهما للداخل والغضب داخل أمجد يزداد كلما مرت الأيام ولم يأخذ بثأره من تلك الفتاة التي تركت بصمتها على وجهه، كيف لا يستطيع الإنفراد بها وتلقينها درساً لربما يشعر ببعض الراحة حينذاك..
على الرغم من تنقله المستمر من مكان لآخر إلا أن عينيه كانت مسلطة عليها طوال الوقت، فقط ينتظر اللحظة المناسبة حتى ينفرد بها ويرد لها الصاع أضعاف.
***
مر وقتاً كان ممتعاً للبعض والبعض الآخر كان ثقيلاً مملاً، ضجرت لينة من عدm فعلها لشيء وذلك كان المعتاد، فانسحبت من بينهن بعدmا أخذت إذناً لذهابها إلى المرحاض من السيدة ميمي.
أشارت لينة إلى صديقتها الجالسة مع عائلتها لكي تلحق بها فأماءت لها الأخرى بقبول ثم نهضت لتلحق بها إلى الخارج، كان يتابع ما يحدث في صمت وشعر أنها فرصته للانتقام منها، نهض ولحق بشقيقته قبل أن تصل إلى الخارج، شـ.ـد على ذراعها وبنبرة غاضبة أمرها:
_ ما تقعدي بقى كل شوية رايحة جاية والشباب بيبصوا عليكي، ارجعي مكانك
حاولت شهد أن توضح له الأمر ومافيه بلطافة حتى لا يمنعها:
_ أنا بس هشوف لينة عايزة إيه وهر...
قاطعها أمجد بحنق وبعصبية مبالغة هتف:
_ قولتلك ارجعي مكانك، أصل والله أقول لابوكي وأنتِ عارفة ممكن يعمل فيكي إيه
تأففت شهد بضجر بائن ثم أولاته ظهرها وعادت إلى الطاولة، والعبوس دون غيره قد تشكل على وجهها، بينما خرج هو حينما تأكد من جلوس شقيقته، بحث عنها فلمح طيف فستانها يختفى خلف باب المرحاض، وقف يفكر في فكرة ما تطفئ من لهيب غضبه المشتعل، فلم يجد سوى تلك الفكرة التي راودته لحظتها.
ظل يتلفت ويتفحص المكان من حوله جيداً، وعنـ.ـد.ما لم يرى أُناس بالقرب منه، توجه إلى المرحاض الخاص بالسيدات واختلس النظر سريعاً من حوله مرة ثانية ثم أوصد الباب وغادر سريعاً قبل أن يراه أحد.
انتبهت لينة لصوت غلق الباب، فتوجهت إليه ظناً أن صديقتها قد حضرت، لكنها لم تجد أحد، بحثت جيداً والنتيجة ذاتها، وقفت أمام الباب وأدارت مقبضه والمفاجأة أنه لم يُفتح، انقبض قلبها لحظتها بذُعر سيطر عليها، لكنها حاولت أن تهدأ فالأمر لن يخرج عن صديقتها، حتماً تمازحها كعادتها.
هتفت لينة عالياً متوسلة إياها:
_ شهد بلاش هزار سخيف، افتحي الباب
تأففت لينة بضجر فالأمر قد فاق الحماقة، طرقت الباب بعنف وصاحت بنبرة ضجرة:
_ يا شهد مبحبش كدا، بجد هقفش
أسندت رأسها على الباب بقلة حيلة وهي تتمتم:
_ يا شهد..
لقد تأكدت أن الأمر خارج صديقتها، فهي لن تبالغ هكذا، أغمضت عينيها في محاولة منها على تهدئة روعها، شعرت بالإختناق يعصف بها وكأن الجدران تطبق على صدرها.
لم تمر ثوانٍ الا وقد استمعت إلى ذاك الصوت الذي صدح، ابتعدت عن الباب وحاولت فتحه ففُتح تلك المرة، تنفست الصعداء وهمت بالخروج سريعاً، شاهدته وهو يهرول راكضاً مبتعداً عن المكان.
ركضت خلفه وهي تناديه بصوت عالٍ:
_ استنى، أقف كلمنى، أنت اللي فتحت لي؟
لم يجيبها بل تابع هرولته إلى الخارج فتبعته هي بإصرار واضح لمعرفة ما أن كان هو أم لأ، ثم أعادت محاولاتها مراراً لإيقافه متوسلة إياه:
_ لحظة بس، طيب أنت عرفت منين إني جوا؟
جمعت لينو الأحداث فأدركت حينها أنه من فعل ذلك، فهروبه دليل على فعلته، فلم يكن أمامها سوى تحذيره لكي يقف وتتأكد من حدسها:
_ لو موقفتش هقول ليوسف..
توقفت قدmيه فور تلقيه تحذيرها، ابتلع ريقه بتوجس، فهو يخشى مواجهة يوسف، في الماضي عنـ.ـد.ما كان صغيراً أمر بضـ.ـر.به دون رأفة لعمره الصغير، فماذا سيفعل معه بعدmا أصبح رجلاً بقدر الحائط؟!
استدار إليها وملامحه تبدو خائفة، اقتربت لينة منه وسألته باستفسار:
_ أنت عملت كدا ليه؟
لم يجيبها على الفور، بل ظل يطالعها في صمت مريب، أعادت هي سؤالها بنبرة حادة:
_ ها، سمعاك
هرب أمجد بعينيه وبصعوبة بالغة هتف:
_ كنت عايز أخوفك، بس مقدرتش..
تعجبت لينة من تصريحه، فلما يريد إخفاتها؟، قطبت جبينها بغرابة من أمره ورددت بعدm فهم لما صرح به:
_ تخوفني! أنا بيني وبينك إيه عشان تخوفني؟
لم يرفع نظريه عليها بل ظل منكس رأسه وهو يجيبها بخذي واضح:
_ أنا لسه منستش القلم، لسه مكانه بيوجـ.ـعني كل ما بشوفك، وكنت عايز أعمل حاجة تخليني أهدى شوية، بس حتى فشلت إني أنتقم منك..
لم تصدق لينة ما وقع على مسامعها، انتقام ماذا حباً في الله الذي يحدثها عنه، حركت رأسها بعدة إيماءات لا تستوعب حقاً سذاجة حديثه، لم تمنع نفسها من السخرية في استرسالها:
_ إحنا كنا عيال!!
بس تقريباً أنا كبرت لوحدي وأنت لسه زي ما أنت عشان تفكر كدا!
رفع أمجد بصره عليها بذهول فرمقته هي بنظرات احتقارية وهدرت به شزراً:
_ مقرف..
كادت أن توليه ظهرها إلا أنه توسلها قائلاً:
_ وغلاوة شهد عندك متقوليش ليوسف حاجة
انقبض قلبه حين رأى خروج زياد، لم يقف لثانية أخرى وأسرع خطاه إلى الخارج هارباً من صديقه، بينما تعجبت لينة من هروبه المفاجئ وظلت تتابعه بعينيها إلى أن اختفى من أمامها.
"أنتِ كنتي بتتكلمي مع أمجد ولا أنا بيتهيقلي؟"
حشرت لينة فزعها داخلها إثر سؤاله المفاجئ، أوصدت عينيها لثانية تعود إلى صوابها ثم التفتت إليه وأردفت ببرود:
_ بيتهيقلك..
تخطته فأسرع زياد في محاوطة ذراعها فحررت هي ذراعها من بين قبضته وحذرته معنفة:
_ إلزم حدودك معايا يا زياد، وإيدك تاني مرة متلمسنيش
أولاته ظهرها وعادت إلى الحفل بوجه عابس لاحظه الجميع، لكن لم يعقب أحد فليس بوقت سؤال، نهضت إيمان مبتعدة عن مقعدها واقتربت من عمتها ثم انحنت على أذنها وهتفت بصوت مرتفع لكي تسمعها الأخرى:
_ عمتو أنا همشي لأني أتاخرت
لحقت بها السيدة ميمي قائلة وهي تبحث بعينيها على أولادها:
_ استني حد يوصلك م...
قاطعتها إيمان وهي تشير إلى الهاتف:
_ لا لا أنا طلبت عربية وخلاص على وصول مش هينفع ألغيها، خليكم أنتوا هبقى أطمنك عليا لما أوصل
اضطرت ميمي للقبول، ثم نهضت لتوديعها، قبلتها بحرارة ثم غادرت إيمان دون أن تعير لينة أي إهتمام، كذلك الأخرى لم تنتبه على ذهابها من الأساس.
لمح بلال طيف إيمان التي تجاهد للمرور بين الجميع لكي تصل إلى الخارج، لم يتردد في اللحاق بها لعله يحظى بحديث معها حتى وإن كان عابراً.
تعجب من وقوفها دون فعل شيء سوى مطالعة الهاتف من آن لأخر، تردد كثيراً في التدخل لكن قلبه قد تغلب على معتقدات عقله وذهب إليها.
حمحم قبل أن يردف سؤاله بنبرة رخيمة:
_ مستنية حد؟
تعجبت إيمان من تلك النبرة الغريبة، التفتت برأسها وقد شعرت بالغرابة المختلطة بالخجل، وأجابته بصوت متحشرج:
_ مستنية أوبر
عقد بلال حاجبيه مبدى استيائه من ردها، ثم أردف بعتاب:
_ أوبر وأنا موجود، ميصحش
إزدادت غرابة إيمان منه، فما هذه الثقة التي يحادثها بها، فلم تراه سوى مرات معدودة، اعترضت طلبه الذي سيليه عرضه لتوصيلها بلطف:
_ متشكرة جداً، بس أنا خلاص طلبت العربية، مش حابة أتعبك
بعفوية مبالغة قال:
_ يا خبر تعب إيه بس، ثواني هجيب العربية وأجي
كادت إيمان أن ترفض عرضه الصريح فالسيارة التي قامت بطلبها على وشك الوصول، لكنه لم يعطيها فرصة لقد اختفى من أمامها على الفور، وضعت أصابعها على وجهها وهي تحاول فهم ما يحدث لكنها فشلت.
وأخيراً وصلت السيارة فأسرعت إيمان نحوها لكي تهم بالمغادرة قبل مجيئه، فتحت بابها لكنها تفاجئت بترجل بلال من سيارته التي أوقفها في الإتجاه المعاكس لهما، واقترب من السائق ثم انحنى بجسده مستنداً على نافذته لكي يحادثه:
_ بقولك يا باشا بكام الرحلة اللي بدأتها للأنسة؟
طالعه السائق بغرابة وردد بدون استيعاب:
_ نعم؟!
وضح له بلال ما يوجد خلف سؤاله بقوله:
_ الآنسة خلاص هتروح معايا، وأنت أكيد بدأت رحتلك على الأبليكشن فقولي كنت هتاخد كام وأنا أحاسبك عشان متخسرش
أخبره السائق بالمبلغ المطلوب فأعطاه له بلال ثم انطلقت السيارة بعيداً عنهما تحت نظرات إيمان المذهولة، لم ترى في جُرأته من قبل، ابتسم لها بلال بعذوبة ثم أشار على سيارته وأردف بلطف:
_ اتفضلي..
لم تبرح إيمان مكانها فالدهشة كانت سيدة الموقف، تحاول فهم تلك الشخصية القاطنة أمامها لكنها لم تصل لشيء، تفهم بلال الوضع وحاول وضع حلاً يقنعها:
_ كدا كدا كنتي هتروحي مع واحد غريب، اعتبريني أوبر..
تحركت إيمان نحوه واستقلت المقعد الخلفي، لم يعقب بلال على ذلك يكفيه أنها سترافقه في سيارته ويكونان بمفردهما.
كان يختلس النظر إليها من المرآة من حين لآخر، لا يعرف وصف تلك السعادة التي تغلغلت داخله، أراد خلق حديث معها فبدأ بإعتذار على سخافة تصرفه:
_ أنا آسف على اللي عملته، بس مش بقدر أشوف حد أعرفه ومساعدوش، وخصوصاً إنك تبع يوسف، وطلاما هو بيعتبرك أخته، يبقى أنتِ في اعتبـ.ـار أختي برده.
صعقت إيمان من كلمـ.ـا.ته، حتماً يوسف من أرسله إليها ليخبرها بتلك الكلمـ.ـا.ت الغـ.ـبـ.ـية، بينما لعن بلال لسانه الذي صرح بأنها في اعتبـ.ـار الشقيقة، شعر بالإختناق يجتاحه من خلف حماقته.
التزم الصمت إلى أن وصل إلى منطقتها، شكرته إيمان مراراً ثم ناولته ورقات نقدية وأردفت ممتنة:
_ شكراً ليك بس أنت ملكش ذنب تدفع لي تمن أوبر
اعترض بلال ورفض أخذ أي نقود منها وعاتبها قائلاً:
_ لا والله مش هاخد حاجة، خلاص كدا خالصين
لم تنجح إيمان أمام إصراره على عدm أخذ النقود، شكرته مرة أخرى ثم ترجلت من السيارة وصعدت إلى منزلها، بينما كان يحرك هو رأسه متابعاً إياها حتى اختفت تماماً.
ضـ.ـر.ب الطارة بعصبية شـ.ـديدة وصاح محدث نفسه بإزدراء:
_ أختك! يا أخي منك لله
تأفف بضجر ثم حرك السيارة بسرعة فائقة لكي يعود سريعاً إلى الحفل أن يفوت شيئاً.
بعد مدة كافية انتهى الحفل بسلام، انسحب يوسف بمن معه أولاً قبل إزدحام الجميع على بوابة الخروج، فتح لهن السيارة ثم انتبه على نداء أخيه من خلفه، استدار إليه فأشار إليه زياد بالإقتراب.
توجه يوسف إليه وسأله بفضول:
_ عايز إيه؟
اقترب منه زياد وانحنى على أذنه فقامته كانت أطول من يوسف وهمس إليه ببعض الكلمـ.ـا.ت فاحتدت تعابير يوسف إثرها، ابتعد عنه زياد حين انتهى من إخبـ.ـاره بما لديه فتفاجئ بأمر يوسف:
_ طب يلا اركب
"لا أنا هرجع مع صحابي"
هتف بهم زياد معارضاً لأمر أخيه فطالعه يوسف بنظرات لا تحتمل النقاش وهدر من بين أسنانه بعصبية:
_ مش هعيد كلامي تاني
أولاه يوسف ظهره وتوجه إلى السيارة بينما تمتم زياد بحنق:
_ يعني هي تغلط وأنا أشيل الليلة
توجه إلى السيارة وبدل مكانه مع والدته التي جاورت لينة في الخلف، لاحظ الجميع انعكاس حالة يوسف الواضحة، لكنهم فضلا الصمت لحين عودتهم.
***
دفع يوسف الباب فكان آخر من دلف الشقة، تنهد ثم صدح سؤاله الذي اهتزت له أعمدة المنزل:
_ كنتي واقفة مع أمجد ليه يا لينة؟
صعقت لينة من سؤاله الذي فاجئها، استدارت لتنظر إليه وقبل أن تجيبه تابع هو بحدة:
_ ومتكذبيش عليا..
وقفت ميمي تتابع ما يحدث بتعجب، بينما كان يرمقها زياد بتشفي، فإن حاولت الكذب عليه فلن تستطيع أمام يوسف.
شهيقاً وزفيراً فعلت لينة ثم أجابت على سؤاله وهي تطالع زياد بنظرات مشتعلة:
_ أنا كنت في التويلت واتقفل عليا الباب..
حركت رأسها باتجاه يوسف الذي ينتظر متابعة الحديث، فواصلت هي قائلة:
_وهو اللي فتح لي..
حالة من التعجب المصاحب للغرابة قد تملكت من الجميع، فالحديث ناقص ولا يتماثل مع بعضه، هناك ثمة شيء مريب يجهلوه، تدخل يوسف مرة أخرى بعشرات من الأسئلة:
_ وهو عرف منين إنك في الحمام؟! وعرف منين إن الباب مقفول ويعني إيه أصلاً الباب يتقفل عليكي؟!
ابتلعت لينة ريقها فإجابتها حتماً ستتسبب في كارثة، لكنها أهون من نظرات الإتهام في عيناي يوسف، زفرت أنفاسها ثم أخبرته بالحقيقة:
_ هو اللي قفل الباب عليا، تقريباً كان متابعني واستغل فرصة إني لوحدي وعمل كدا، بس مقدرش وجه فتح لي الباب، كنت عايزة أعرف هو إيه اللي حصل وخمنت أنه هو اللي عمل كدا فهددته اني أقولك عشان يتكلم..
كان الجميع يصغي لكلمـ.ـا.تها بعدm تصديق ودهشة واضحان، اقترب منها يوسف بعض الخطوات وقال متسائلاً بهدوء مخيف:
_ وعمل كدا ليه؟
نكست لينة رأسها فمواجهته عن قرب باتت أصعب، لكن لا مفر ولابد من الإعتراف بالأمر كاملاً فتابعت بإسيتاء:
_ كان عايز ينتقم مني عشان ضـ.ـر.بته بالقلم زمان!!
تفاجئ يوسف بذلك، شـ.ـد على يده بقوة فبرزت عروقه التي كادت أن تنفجر، أولاها ظهره وهو يتوعد داخله لذلك الفتى الذي جنى على نفسه، فتح الباب فلحقت به لينة وقامت بغلق الباب ثم وقفت أمامه فكانت حاجزاً منيعاً بينه وبين الباب وهتفت متوسلة:
_ عشان خاطري متعملش حاجة، هو عقل وعرف غلطه مش مستاهلة نكبر الموضوع
حاول يوسف منعها بنبرته القاسية وهو يمسك بمقبض الباب بيده:
_ ابعدي من قدامي يا لينة
رفضت أن تبتعد ثم وضعت كلتي يديها على صدره مانعة إياه من الخروج:
_ عارفة إني خاطري عندك كبير، مش عايزة مشاكل، تخيل إننا ربيناله عقدة بسبب قلم وإحنا كنا لسه مجرد عيال صغيرة، ما بالك لو حصلت مشكلة وهو كبير صدقني هنربي له عقدة تانية والمشاكل مش هتخلص..
رققت لينا من نبرتها وواصلت توسلها:
_ عشان خاطري يا يوسف
طالعته في انتظار رجوعه عما ينوي فعله، بادلها يوسف النظرات ثم أخفض بصره على يديها الموضوعة على صدره، شعرت لينة بالحرج وسحبت يديها بهدوء وهـ.ـر.بت بنظريها بعيداً عنه لكنها لم تستطيع الإبتعاد قبل أن تتأكد من رجوعه وأنه لم يمسسه بسوء.
تدخلت ميمي قائلة:
_ خلاص يا يوسف طلاما عرف غلطته، متكبرش الموضوع يابني وتخلق بينا عداوة، إحنا في الآخر أهل وجيران
لم يرفع يوسف عينيه من على لينة الخجولة، لم يشعر بتلك الإبتسامة التي كادت أن تتشكل على ثغره إلا أنه لحق بها وحد من ملامحه فعادت كما كانت، انسحب من بينهم وولج لغرفته، اعتلى طرف الفراش وطالع الفراغ أمامه لبرهة، ثم رفع يُمناه ووضعها على صدره موضع يدي لينة، ثم أوصد عينيه وهو لا يدري ما الذي يحدث له.
في الخارج، استغل زياد فرصة أن الجميع قد دلفوا غرفهم وخرج هو ليبحث عن عديم الشرف ذاك ليلقنه درساً يجبره أن يعيد التفكير مراراً قبل أن يقترب من عائلته مرة أخرى.
***
صباحاً، ارتدى يوسف ثياب عمله والتي كانت بنطال جينز وقميصاً أسود، خرج من غرفته فتقابل مع والدته، ألقى التحية عليها ثم استرسل:
_ متزعليش مني يا أمي عشان إمبـ.ـارح
تنهدت ميمي وهي تطالعه بقلة حيلة وأردفت بدون مماطلة:
_ تفتكر يعني أقدر أزعل منك، بس البنت بتصعب عليا من تصرفاتك معاها يا يوسف، عاملها كأنها أختك حتى لو مفيش أمل تشوفها زوجة
حرك يوسف رأسه بقبول وتمتم:
_ ربنا يسهل يا أمي، زياد فين مش موجود في الأوضة
أشارت ميمي بعينيها على الخارج وأجابته:
_ برا، بيفطر بيقول عنده امتحان
صمتت ثم تذكرت شيئاً فأوقفته قبل أن يبتعد بقولها:
_ استنى يا يوسف، عايزاك
نظر إليها فتوجهت إلى غرفتها وعادت إليه في غضون ثوانٍ، مدت يدها إليه فظهرت بعض النقود التي كانت تمسك بهم وأردفت موضحة:
_ دول فلوس المفارش اللي عملتها لأم بلال، خليهم معاك المصاريف زادت عليك أوي
مد يوسف يده وأطبق على يدها قائلاً بإمتنان:
_ خليهم معاكي ياست الكل، الحمدلله أنا مش محتاج
أصرت ميمي على أخذه النقود بقولها:
_ أنا مش بعمل بيهم حاجة، أنت مش مخليني محتاجة لحاجة، فخليهم معاك يا حبيبي، مصاريف زياد على مصاريف لينة والبيت وأنا كتير أوي
شكل يوسف بسمة على محياه وقال بنبرة راضية:
_ والله يا أمي لو ت عـ.ـر.في ربنا مسهلها معايا إزاي، الحمد لله، أنا فعلاً مش محتاجهم أعملي بيهم أي حاجة دا تعبك أنتِ، ولو مُصرة يعني ممكن تشتري بيهم هدوم بيتي لـ لينة
عقدت ميمي حاجبيها بتعجب وسألته مستفسرة:
_ هي قالتلك إنها محتاجة حاجة
أسرع يوسف في نفي سؤالها وأعاد توضيح حديثه:
_ لا لا، مقالتش حاجة، بس مش هنستنى لما تقول يعني يا أمي، شوفي وقت كدا تكون هي فاضية فيه ومفيش وراها دروس وانزلوا اشتروا كل اللي تحتاجه
ربتت ميمي على كتفه ورددت بإبتسامة راضية عنه:
_ ماشي يا حبيبي، بإذن الله
أولاها يوسف ظهره لكن سرعان ما عاد إليها وبحرج بائن هدر:
_ ياريت يا أمي تجيبوا الهدوم واسعة..
تعجبت ميمي مما قاله وسألته بفضول:
_ ماشي بس هو فيه حاجة؟
حمحم يوسف وبتردد واضح أخبرها:
_ عشان تكون مرتاحة فيهم، بس يعني..
على الرغم من أن كلمـ.ـا.ته لم تقنعها إلا أنها لم تطيل وذهبت لإحضار الفطور له، بينما خرج يوسف وهو يزفر أنفاسه براحة لأنها لم تعقب على هرائه.
سحب كرسي وجلس بجوار شقيقه وهو يهلل عالياً غير مصدق:
_ عجايب الدنيا بقت ٨ بصحيانك بدري
ضـ.ـر.ب زياد جبينه براحة يده وهو ينفخ بنفاذ صبر:
_ عجايب الدنيا هتبقى ٩ لو عديت صافي السنة دي
هتف يوسف مشجعاّ إياه ببعض الكلمـ.ـا.ت:
_ لا اتجدعن كدا مش هقبل بدرجات أي كلام
رفع زياد يديه للأعلى داعياً ربه:
_ ربك يسهل
حضرت ميمي ومعها صحنان من الشطائر ووضعت إحداهما أمام يوسف ثم توجهت إلى غرفتها فتسائل يوسف بفضول:
_ أنتِ رايحة فين؟
باختصار أجابته:
_ هدي الفطار لـ لينة
قطب يوسف جبينه وأعاد سؤالها بقلق قد راوده:
_ هي تعبانة ولا إيه؟
أومأت السيدة ميمي برأسها مؤكدة سؤاله وقالت:
_ شوية..
نهض يوسف عن مقعده ثم أعاد الشطيرة التي كانت بيده في الطبق واقترب من والدته وهو يقول:
_ مالها في إيه؟، خليها تلبس ونروح للدكتور
أسرعت ميمي في تهدئة روعه وطمأنته بكلمـ.ـا.تها:
_ أهدى يا يوسف الموضوع مش مستاهل
وكأنها لم تقل شيء، لم يكترث وهتف متلهفاً:
_ قولي لها تلبس بس
لم تنجح ميمي في السيطرة على قلقه فاقتربت من أذنه وأخبرته عن سبب مرضها لكي يهدأ، شعر يوسف لوهلة بالحرج الشـ.ـديد ولعن إصراره لمعرفة ما بها.
لم يعقب على حديث والدته وسرعان ما أولاها ظهره هارباً من نظراتها ثم عاد لمقعده يتناول فطوره لكي يفر هارباً من ذلك المنزل.
استغل زياد فرصة أنه لا يوجد سواهم، فانحنى بالقرب من أخيه وهمس إليه بنبرة رجولية:
_ بقولك أنا اتعاملت مع أمجد خلاص، متتكلمش معاه أنت بقى
تعجب يوسف من ثقة زياد في حديثه وسأله بنبرة حادة:
_ اتصرفت معاه إزاي؟
عاد زياد بظهره للخلف وبعجرفة حاول إنهاء الحوار:
_ خلاص يا يوسف اتصرفت، متشلش همه بعد كدا
لم يعقب يوسف، بل نهض حين انتهى من فطوره وأمره:
_ طيب يلا عشان متتأخرش على امتحانك
أماء له زياد بقبول ثم نهض وتابع يوسف إلى الخارج إلى أن افترق كليهما في طرقات مختلفة.
وصل يوسف إلى مكان عمله، وأمر أحد العاملين وهو يصعد درجات السلم:
_ناديلي أستاذ عبد الرحمن يابني
توقف يوسف حين أخبره العامل أنه مريـ.ـض منذ يومين ولم يأتي، لم يتابع يوسف صعوده بل عاد بأدراجه للأسفل ثم وجه حديثه للعامل وهو يتوجه إلى الباب:
_ هروح مشوار نص ساعة وراجع
استقل خلف مقود السيارة وانطلق بها قاصداً منزل عبد الرحمن لكي يطمئن على صحته، كان الطريق سريعاً بسبب قرب المسافة بين منزله ومكان عمل يوسف.
صف السيارة في زقاق على يمين البناية ثم ترجل منها وصعد إلى الشقة المقصودة، حمحم وتردد لبرهة، فهو لم يعطي خبراً بمجيئه وهذا عيب في حقه، لكنه فقط أراد الإطمئنان عليه.
طرق الباب بخفة ووقف جانباً ليعطي مساحة لمن سيفتح الباب بمعرفته دون أن يسبب حرج له، مرت دقيقة ثم فتحت الباب فتاة في ريعان شبابها، كانت ممسكة بحجابها الذي وضعته سريعاً أعلى رأسها ثم شـ.ـدت عليه بقوة حين رأت يوسف.
أخفضت بصرها بحياء ورحبت به بنبرة رقيقة:
_ أهلا يا أستاذ يوسف، اتفضل
حمحم يوسف وسألها وهو منكس الرأس:
_ أستاذ عبد الرحمن موجود، كنت حابب أطمن عليه
أجابته بلطف:
_ أيوة موجود، اتفضل
لم يرفع يوسف نظريه عن الأرض، بل تحرك وهو على نفس وضعه، ولج المنزل فأخبرته هي بعدmا أخذت الإذن من والدها:
_ اتفضل هو مستنيك
أدلف يوسف بخطاه للغرفة، ثم رفع رأسه وشكل إبتسامة على ثغره فور رؤيته لعبد الرحمن وأردف بذوق:
_ ألف لا بأس عليك يا راجـ.ـل يا طيب، لسه عارف حالاً، متأخذنيش إني مسألتش عليك
أردف عبد الرحمن كلمـ.ـا.ته لكي يمحي الحرج في نبرة يوسف:
_ الله يخليك يا يوسف، ولا يهمك من غير ما تقول أنا عارف إنك أول ما هتعرف هتيجي جري
بنفس إبتسامة يوسف الهادئة هتف متسائلاً باهتمام:
_ طمني عليك، روحت لدكتور ولا لأ؟
تشكلت بسمة متهكمة على شفتي عبدالرحمن ثم ردد بحـ.ـز.ن جلي في نبرته:
_ روحت، الظاهر إن العمر خلاص بينتهي يا يوسف
لم يتقبل يوسف شؤمه ودعى له بحب:
_ متقولش كدا، ربنا يبـ.ـاركلنا في عمرك
فرت دmعة من عيني عبد الرحمن وهو يقص عليه بنبرة مرتجفة:
_ العمر خلاص، معتش فيه حاجة وأقابل وجه كريم، المرض خلاص أتملك مني ويمكن الروح تروح للي خالقها وأنا بكلمك
مزيج من الدmـ.ـو.ع المختلطة بالإبتسامة الراضية وهو يتابع حديثه:
_ عرفت إن معتش فيه أمل خلاص، المرض في المرحلة الأخيرة
رفع عبد الرحمن بصره على يوسف الذي لم يبدي ردة فعل، فاستشف ذهوله المرسوم على تعابيره، بالكاد يصدق يوسف ما سمعه منه، شعر بوخزة في قلبه آلامته بشـ.ـدة، لم يكن لديه ما يقوله ليواسيه، فأي مواساة ستهون د ذلك المرض؟!
أي كلمـ.ـا.ت ستطيب مرضه وتداويه؟!
أخذ عبد الرحمن شهيقاً عميق وأخرجه بتهمل وأردف وعيناه مصوبتان على يوسف:
_ أنا مش فارق معايا، الحمدلله أنا معملتش حاجة لحد النهاردة إلا في سبيل ربنا ورضاه، بس خايف على البنتين اللي هسيبهم ورايا، يا ترى هيعملوا إيه من غيرى وهما يتامى من غير لا أب ولا أم؟!
الموضوع دا تاعبني أوي يا يوسف، أصلهم في الآخر ولايا، لو كانوا شباب كنت هقول هيقدروا يصلبوا جدورهم ويعتمدوا على نفسهم، نفسي أطمن عليهم قبل ما ربنا يسترد أمانته
انحنى عبد الرحمن للأمام قليلاً وربت على يد يوسف فكان الأمل الوحيد أمامه، التوسل دون غيره يتوهج في عينيه وبنبرة تخشى ردة الفعل أردف:
↚
استشعر يوسف ما يجري خلف كلمـ.ـا.ت عبدالرحمن، فلم يعطيه فرصة لإكمالها، فهذا بعيداً كل البعد عنه، حمحم وأسبق بالحديث وهو يربت على يدي عبد الرحمن الموضوعة على يده:
_ أنا مش عايز حضرتك تقلق من حاجة، أنا متكفل بيك وببناتك، صدقني أنتوا في عنيا، مرتبك هتوصلك وكأنك موجود، وكل اللي أقدر أعمله معاكم مش هتردد لحظة إني أعمله، أطمن.
رده كان رفضاً قاطعاً لطلب عبد الرحمن قبل أن يطالبه به، استشف عبد الرحمن ذلك جيداً، فهو على علم بذكاء يوسف وحتماً هو قصد كلمـ.ـا.ته تلك.
لم يكن له عين يطالبه بما تمناه وفكر فيه طويلاً، على الرغم من أنه لن يطمئن على ابنتيه إلا معه، فهو يخشى الله، ومن يتقى الله في تصرفاته لا خوفاً على بناته معه.
تنهد عبد الرحمن وتبسم في وجهه ممتناً له ثم شكره بلطف:
_ فيك الخير يا يوسف، ربنا يجازيك خير يارب
بادله يوسف الإبتسام ثم تفحص ساعة يده وأستاذن منه:
_ عن إذنك، مضطر أمشي لأني لسه مروحتش المعرض،لو احتجت أي حاجة متترددش تكلمني
شكره عبد الرحمن مراراً ثم غادر يوسف الغرفة، فتقابل مع إبنة عبد الرحمن الكُبرى، تعجبت من سرعة زيارته وقالت على استحياء:
_ حضرتك لسه مشربتش الشاي
رد يوسف بإحترام وهو يغض بصره عنها:
_ معلش مضطر أمشي، المرة الجاية أشربه
تقدm خطوات من الباب ثم توقف عن سيره وعاد برأسه إليها وأردف بحرج:
_ آنسة فاطمة، بعد إذنك لو احتجتم لحاجة كلميني، هتلاقي رقمي مع والدك
أماءت له بقبول وشكرته ممتنة لذوقه:
_ أكيد، شكراً
_"عفواً، على إيه بس"
أردفهم يوسف ثم غادر وعاد إلى عمله، جلس على كرسي مكتبه وأسند رأسه على حافته وظل يعيد ما قاله لعبد الرحمن خشية أن يكون قد أخطأ وجـ.ـر.حه دون قصد.
فزع حين اقتحم بلال مكتبه بأسلوب غير حضاري، ألقى ما معه من أوراق وهو يوضح له ماهم بنبرة مريبة:
_ دول أوراق عربيات جديدة عايزين نخلصهم من الجمارك
ألقى كلمـ.ـا.ته وأولاه ظهره لكي يخرج لكن يوسف أوقفه بسؤاله:
_ استنى، فيه إيه مالك على الصبح
أراد بلال الهروب فقال بتجهم وعبوس:
_ مفيش حاجة
أسرع يوسف في اللحاق به، أمسكه من ذراعه مجبراً إياه على التوقف ثم بهدوء هتف:
_ تعالى أقعد بس كدا
سار بلال معه ثم جلس على الكرسي بإهمال، باتت تعابيره عابسة كلما تذكر ما اقترفه، جلس يوسف مقابله وسأله بقلق:
_ حصل إيه لكل دا؟
مال بلال بجسده للأمام مستنداً بمرفقيه على فخذيه، شهيقاً وزفيراً فعل مراراً لعله يتمالك أعصابه التالفة لكنه لم يستطيع فصاح عالياً بعصبية شـ.ـديدة:
_ أصل أنا غـ.ـبـ.ـي، جيت أكحلها عمـ.ـيـ.ـتها..
حاول يوسف تهدئته فهدر بنبرته الرزينه:
_ طيب إهدى يا بلال عشان تعرف تتكلم، فهمنى بالراحة، إيه اللي حصل؟
عاد بلال بظهره إلى الخلف ثم وضع قدmيه على الطاولة الزجاجية أمامه، طالع سقف الغرفة لبرهة قبل أن يقص عليه ما حدث البـ.ـارحة:
_ إمبـ.ـارح روحت إيمان و...
قاطعه يوسف بسؤاله:
_ إيمان مين؟
طالعه بلال بنفاذ صبر وهدر به مستاءً:
_ بنت خالك..
عقد الآخر حاجبيه متعجباً مما يقوله فاستشف بلال نظراته وأوضح له:
_ شوفتها وهي خارجة من القاعة وكنت عايز أتكلم معاها بأي طريقة، طلعت طالبة أوبر، المهم مشيت العربية وقولتلها أعتبريني العربية اللي طلبيتها، قمت أنا بعقليتي الفذة قولت لما أقولها إنك بتعتبرها أخوها يمكن تحل عنك، أقوم قايلها يوسف بيعتبرك أخته تبقى في اعتبـ.ـار أختي أنا كمان!
إعتدل بلال في جلسته ونبرته باتت حادة وتابع بإستهزاء:
_ قولتلها إنها أختي يا يوسف!!
طالعه يوسف لبرهة قبل أن تدوي ضحكاته في المكان، حاول التوقف لكن دون جدوى، كلما حاول السيطرة على قهقهته ينفجر مرة أخرى بقوة أكبر، استاء بلال للغاية من ضحكاته التي استفزته، انتفض بعصبية وهو يتمتم بلوم:
_ أنا غلطان إني قولتلك حاجة
لحق به يوسف وهو يحاول جاهداً بألا يضحك:
_ خلاص خلاص، معتش هضحك، أقعد
رفض بلال طلبه معللاً أسبابه:
_ لا مش فاضي ورايا شغل
أصر يوسف على جلوسه مرة أخرى، فعاد بلال عنـ.ـد.ما رأى إلحاحه، جلس يوسف وبالكاد يستطيع تمالك ضحكاته، تأفف بلال بضجر وضيق واضحين، حرك رأسه مستنكراً تصرفه الساذج حتماً لديه حق للضحك.
وضع بلال يده على وجهه لثوانٍ ثم انفجر ضاحكاً وهو يتمتم:
_ قولتلها إنها أختى..
شاركه يوسف الضحك وبات كليهما لا يعرفان طريق للتوقف، بعد دقائق قضاها يضحكان على فعلة بلال الغـ.ـبـ.ـية هتف بنفاذ صبر:
_ ما تتجوز بقى يا يوسف خليها تفقد الأمل فيك
هدأت ضحكات الآخر تدريجياً وهو يتذكر عبد الرحمن، تنهد ثم قال مستاءً:
_ بمناسبة الجواز، روحت أشوف أستاذ عبد الرحمن لأنه تعبان، وعرفت أن عنده كانسر
احتدت ملامح بلال متأثراً بما أخبره به يوسف الذي واصل مالم ينهيه:
_ قالي إنه خايف على بناته وعايز يطمن عليهم، الكلام كله كان بيدور عليا طبعاً
فغر بلال فاهه بذهول وررد بدهشة:
_ طلبك للجواز؟!
_ كان هيطلب فعلاً، بس أنا مدتلوش فرصة، بس وعدته إني متكفل بيهم، لكن جواز لأ صعب أوي
فكر بلال بصوت عالٍ مع صديقه وهو يجيب المكان من حوله بنظراته:
_ بس أنا عارف بناته، محترمين أوي والكبيرة مبترفعش وشها من الأرض طول ماهي ماشية، أوقات كنت بشوفها وهي جاية له هنا
نهض يوسف من مكانه وتوجه إلى كرسي مكتبه واعتلاه ثم هتف بوجهة نظره:
_ ما أنا عارفهم يابني، بس لأ، مش هتجوز عشان أرضي حد دي هتبقى مراتي بقيت عمري، يعني لازم أكون أنا اللي مختارها، لما أشوفها أقول أيوة هي دي اللي تنفع مراتي
طالع يوسف الفراغ أمامه وهو يواصل حديثه بتهكم يشوبه الغرابة من تفكيره:
_ أنا الموضوع مكنش شاغلني بجد، بس هو فيه حد مش بيفكر في الجواز؟
على الأقل يرسم حياته اللي جاية في أفكاره، أنا مفيش خلاص، أنا بدأت أقلق على نفسي
عاد يوسف بأنظاره على بلال وتابع ساخراً:
_ لا بجد بدأت أقلق، يعني واحد تافه زيك يحب ويبقى عايز ياخد خطوة زي دي وأنا مبفكرش إزاي؟!
قلب بلال عينيه لعله يأتي بفكرة لتلك العقدة، زم شفتيه وهو يقترح عليه:
_ يمكن بسبب لينة؟
_ "إزاي؟"
تسائل يوسف بفضول فهتف بلال موضحاً:
_ يعني تقريباً هي اللي أخدة كل وقتك، بسبب مسؤولياتها ودروسها، أنت يومك كله ليها يا يوسف عايز تفكر في حد تاني إزاي؟
أخرج يوسف تنهيدة مطولة ثم مال للأمام واستند بساعديه على مكتبه الخشبي وأردف برضاء تام:
_ وعمري ما اضايقت، ولا حسيت في مرة إني زهقت، أنا حابب أعمل كدا، بحس إني صاين الأمانة كويس مش أي كلام
قاطعه بلال بإسيتاء:
_ أيوة يا يوسف بس دي أنانية، لازم تفكر في نفسك شوية، إيه المشكلة إنك تعطي نفسك حقوقها زي أي شاب، فيه شباب في سننا دا وعندهم عيال!
تشـ.ـدق يوسف وهو يحك ذقنه وأردف وجهة نظره:
_ ما أنا خايف اللي تيجي متتقبلش الوضع، أو تغير منها أو مثلاً أتلهي معاها وأنسى لينة ودا مش هيريح ضميري، خليني مستني بقى لما تقدر تعتمد على نفسها وهي اللي تقولي خلاص اكتفيت منك ووقتها أبقى أشوف حالي
جحظت عيناي بلال وصاح بتزمجر:
_ وأنا هفضل أستناك وأستناها إن شاء الله؟!
_ "ما تروح تتقدm لها وتخلصني"
يريد يوسف الخلاص فحثه على أخذ خطوة رسمية بينما شهق بلال بذهول كأن يوسف قد قام بسبِه:
_ أنت عايزني أروح أتقدm لها وأنا عارف إنها بتفكر في راجـ.ـل غيري؟!!
ضاق يوسف بعينيه فحماقته حقاً لا تصدق، هرب بلال من عيناي يوسف ووضح له الأمر الحاضر:
_ تفرق يا صاحبي، أنا الوقتي لسه على البر ومستني يحصل جديد، لكن إني أخد خطوة رسمية كدا مبقاش راجـ.ـل
تنهد يوسف وحاول تعديل مفاهميه الخاطئة:
_ متحسبهاش كدا، فكر فيها إنك بتعوضها مثلاً، هتلاقي الوضع اختلف، وبعدين يلا اتفضل مع السلامة عشان أنا قايم أودي لينة دروسها
انسحب بلال دون إضافة المزيد فهو تأخر على عمله أيضاً وحتماً سيتلقى توبيخاً بهذا القدر من والده، بينما التقط يوسف مفتاح السيارة وغادر.
***
بعد مرور بعض الساعات، أدى يوسف فريضة العشاء ثم ذهب لأخذ لينة ليعود بها إلى المنزل، كان يلاحظ صمتها طيلة اليوم، لم يعتادها هادئة هكذا، فالمشاكسة خلقت فقط لأجلها.
حمحم ليجذب انتباهها إليه، فنظرت إليه متسائلة بفتور:
_ في حاجة يا يوسف؟
_ "مالك، مش متعود عليكي كدا؟"
سألها بفضول فأجابته هي مختصرة:
_ عادي، مليش مزاج واليوم كان طويل وتعبانة وكدا
حرك رأسه ثم تذكر شيئاً عزم على فعله، استدار بالسيارة عند أول منعطف قابله وسار في وجهته المقصودة.
بعد دقائق قد وصلا إلى وجهته، مررت لينة نظريها على المكان بين يوسف وبلهجة مرهقة سألته:
_ إحنا جايين هنا ليه؟
بإختصار أردف:
_ هعمل حاجة فوق، انزلي تعالي معايا
رفضت طلبه بإيماءة من رأسها معللة:
_ لا سيبني أنا هنا
صمم يوسف على رأيه فقال:
_ أنا ممكن أطول فوق ومينفعش تقعدي لوحدك في العربية في وقت زي دا
زفرت لينة أنفاسها بملل مختلط بالضجر، امتثلت لأمره ورافقته لحين وصولهم إلى الشقة المقصودة، طرق يوسف بابها وانتظر حتى فتحت له زوجة خاله، قابلتهم بوجه بشوش ورحبت بهم بحفاوة:
_ البيت نور، لا البيت إيه دا الشارع كله نور والله أهلاً وسهلا اتفضلوا
بادلها يوسف الإبتسام والترحيب:
_ منور بأهله يا مرات خالي
اكتفت لينة بإبتسامة لم تتعدى شفاها، دعتهم هادية إلى الصالون ثم استأذنت منهما لتخبر إيمان بوجود يوسف، حتماً ستأسرها السعادة إن علمت بحضوره.
لم تتطرق هادية باب غرفتها بل ولجت على الفور، وجهها خير دليل على تلك الحماسة التي تملكتها، تعجبت إيمان من دخولها المفاجئ وتصرفاتها المريبة وسألتها بفتور:
_ في إيه، ومين اللي جه؟
بنبرة متحمسة أجابتها:
_ يوسف برا!!
بعدm استيعاب لهوية يوسف ذاته سألتها إيمان:
_ يوسف مين؟
قلبت هادية عينيها بتهكم وصاحت مستاءة من سذاجة سؤالها:
_ إحنا نعرف كام يوسف؟
انتفضت إيمان من مكانها، تريد التأكد من حدسها، اقتربت من والدتها وقلبها يكاد يخترق ثيابها من فرط تدفق الدmاء به وهتفت متسائلة بنبرة مرتجفة:
_ يوسف مين؟ يوسف إبن عمتي؟
أماءت لها هادية مؤكدة، طالعتها إيمان بأعين متسعة ثم أردفت وهي تدفعها للخارج:
طيب اخرجي عشان أغير هدومي بسرعة
ضحكت هادية على تصرفاتها ثم عادت إلى ضيوفها لحين حضور إيمان، اختارت إيمان من الثياب أجملهم ثم وقفت أمام المرآة تضع مورد على وجنتيها ثم أضافت بعضاً منه على شفتيها.
نظرت إلى صورتها المنعكسة نظرة متفصحة قبل أن تهم بالخروج، كانت تتعرقل قدmيها لسيرها العفوي إلى أن وصلت إلى الصالون الخاص بهم.
أخذت شهيقاً وأخرجته بتهمل ثم خطت إلى الداخل وعينيها لا تريان سوى يوسف، رسمت بسمة سعيدة على ثغرها ورحبت به قائلة:
_ إزيك يا يوسف؟
بنبرة لطيفة عكس المعتاد منه قال:
_ بخير يا إيمان، أنتِ أخبـ.ـارك إيه؟
السعادة دون غيرها تتراقص داخلها، تنهدت ثم أجابته بنبرة حيوية:
_ أنا كويسة الحمدلله
حمحمت هادية وأشارت بعينيها إلى لينا التي تجاورها فهتفت إيمان مرحبة بها وعينيها مازالت مُسلطة على يوسف:
_ إزيك يا لينة معلش مختش بالي
بفتور يشوبه الضيق أجابتها:
_ كويسة..
أنتبه الجميع ليوسف حين أصدر صوتاً ليعيروه اهتماهم، نظر إلى إيمان وبإبتسامة هادئة وجه حديثه لها:
_ ممكن نتكلم شوية..
وكأن دلو من المياه البـ.ـاردة قد سُكب على الجميع في آن واحد، ذُهلت لينة بطلبه الجرئ أو ربما الوقح أمامها، خشيت أن يكون قد أطاع والدته في طلبها المتكرر، لن تحتمل تلك المفاجئة بل ستقضي عليها حتماً.
لم ترفع إيمان نظريها عنه مذهولة من طلبه، وكأن أمنياتها لطلاما دعت بتحقيقها ستتحقق الآن، التفتت حيث والدتها وأشارت إليها بالخروج فامتثلت الأخرى على الفور برفقة لينة التي لم تستوعب إلى الأن طلب يوسف.
اعتدلت إيمان في جلستها، وانتظرت ما يود قوله بفروغ صبر، بينما تـ.ـو.تر يوسف قليلاً فالمواجهة حتمياً ليست بتلك السهولة التي ظنها.
حمحم ثم بدأ حديثه قائلاً:
_ إيمان أنتِ بنت ذكية، وطيبة وتستاهلي اللي يقدرك، اللي يكون شبهك ويحبك..
لمعت عيناي إيمان بفرحة عارمة، فكل ما دعت به على وشك الإستجابة، ازدادت نبضاتها بقوة ناهيك عن أنفاسها التي ازداد معدلها، شعر يوسف بكل ما يدور في عقلها الآن، لكن عليه إستكمال الأمر حتى وإن جاء على غير هواها.
تابع كلمـ.ـا.ته المنتقاه بعناية لكي لا يجـ.ـر.ح قلبها:
_ أنا بتكلم معاكي كأخت ليا وعايز مصلحتك...
توقف عقلها عند تلقيبه لها بالشقيقة مرة ثانية، لا يهم ما سيقال بعد ماقيل، لم تصغي لحرفٍ واحد بعد ذلك، أخفضت رأسها في إنتظار انتهائه مما جاء لأجله لكي تنهض وتعود إلى غرفتها.
استشعر يوسف رفضها لسماع المزيد، لكنه لن يتوقف قبل أن يردف جميع ما لديه:
_ مش عايزك توقفي حياتك عشان حد، بصي لنفسك وإنك تستاهلي تعيشي زي أي بنت، تحب وتتحب في إطار علاقة شرعية، حاولي تبصي لنفسك شوية هتشوفي الدنيا بشكل تاني، هتلاقيها تستحق، فكري في كلامي كويس ولو عايزة نصيحتي خدي اللي بيحبك مش اللي بتحبيه، اللي بيحبك هيديكي مشاعره وقلبه ووقته وفلوسه وهيتقي ربنا فيكي، على عكس اللي بتحبيه ممكن يتقي ربنا فيكي بس مش هيديكي مشاعره ولا قلبه، الحياة هتبقى جافة أوي وملهاش طعم..
نهض يوسف وهو يتمتم:
_ أنا كدا خلصت اللي عندي، ربنا يكتب لك الخير يارب
لم ينتظر رداً بل توجه إلى الخارج على الفور، استأذن من زوجة خاله وغادر برفقة لينة التي تشتعل غيظاً من تلك الجلسة المنفردة.
لم تستقل السيارة بعد فسألته بنبرة حادة:
_ هنشرب الشربات قريب؟
توقف يوسف عن تشغيل السيارة ونظر إليها بغرابة وهو يردد ما قالته بعدm استعياب:
_ شربات إيه اللي هنشربه؟
التفتت لينة بكامل جسدها إليه وبهجوم أردفت:
_ طلبت تقعدوا لوحدكم، أكيد فيه سبب كبير
ابتسم يوسف بتهكم وهتف معللاً تصرفه:
_ شوفي أنا مكنتش حابب حد يعرف بس هقولك، بس إياكِ ميمي تاخد خبر
أماءت له فاستكمل حديثه:
_ كنت بقولها تشوف نفسها ومتستناش حد، مش هفضل شايل هم إنها قاعدة مستنياني وعمرها بيضيع على الفاضي
فغرت لينة فاها بذهول شـ.ـديد ورددت بعدm تصديق:
_ أنت قلت لها كدا؟
أسرع يوسف في نفي سؤالها موضحاً:
_ لا طبعاً أنا بقولك أنتِ بس أنا عملت كدا ليه
بالكاد أخفت لينة ابتسامتها السعيدة بصعوبة، تصنعت الحماقة وأعادت سؤاله بنبرة ماكرة:
_ وأنت ليه قولتلها كدا، أقصد يعني فيها إيه مش عاجبك؟
هز يوسف رأسه باستنكار شـ.ـديد، نظر أمامه ثم أشعل محرك السيارة وأجابها باختصار:
_ هو مش لازم الجواز يتبنى على دوافع؟!، سواء بقى حب أو إعجاب أو حتى راحة، التلاتة مش حاسسهم يبقي أكيد مش هروح أتجوز لمجرد إن حد عايز كدا
_ "حتى لو كان الحد دا مامتك؟"
تسائلت بتوجس خشية سماع إجابته فأردف بثقة دون تفكير:
_ حتى لو كانت أمي، في قاعدة للعلماء بتقول "ليس من الحقوق عقوق " حقي إني أختار شريكة حياتي لأنها حياتي أنا ولو رفضت طلب ليها ميبقاش عقوق أبداً بس طبعاً مش هجيب واحدة متكنش مش موافقة عليها برده، فهمتي؟!
اكتفت بإيماءة من رأسها، طالعت الطريق أمامها ولم تستطيع منع ابتسامتها تلك المرة، الآن أطمئن قلبها، ياليته يعلم بمشاعرها، ياليته يقرأ عبـ.ـارات الغزل التي في عينيها، ياليته يرى نفسه من عينيها هي ليعلم مدى غلاوته.
إنه الصديق والحبيب، والأهل والسكن، إنه دوماً كان ملجئها الوحيد لطالما لم يتبقى غيره، كان الملاذ الأمن لها يوم تركهما خالهما دون رحمة، كان الكتف الحنون التي مالت عليه منذ سبعة أعوام حين خشية سرعة القطار والكثير من المشاعر التي اكتسبتها بفضله..!
أخرجت تنهيدة وكذلك ذكرياته من عقلها، وبحماس واضح أردفت:
_ شغلنا حاجة نسمعها
برفض واضح أردف يوسف:
_ لا إحنا خلاص هنوصل أهو
بنبرة لحوحه رقيقة هتفت:
_ Lütfen (أرجوك)
لم يعقب يوسف بل اكتفى بإبتسامة فاستشفت الأخرى قبوله وأسرعت في اختيار أغنية قبل أن يصلا إلى منطقتهما.
قطع يوسف نصف المسافة فاقترحت لينة شيئاً ما خطر على بالها:
_ يوسف، ممكن تقف عند أي ماركت
لم يمانع يوسف طلبها وعند رؤية أول بائع صف السيارة أمامه، أخذ نفساً ونظر إليها وقال:
_ ها هتجيبي إيه؟
اتسعت إبتسامتها بمبالغة فاستشف يوسف ما ترمي إليه وهلل ممازحاً:
_ يا فلوسك اللي هتطير يا يوسف
عضت لينة على شفتيها بخجل فتابع يوسف ساخراً:
_ بتتكسفي أوي
بنبرة مائعة أردفت وهي تميل رأسها بدلال:
_ طبعاً مش بنوتة
"وأحلى بنوتة"
هتف يوسف بعفوية، فلمعت عيناي لينة كبريق ثغرها المبتسم، ترجل يوسف أولاً فتبعته هي والأدرينالين خاصتها في أذهى سعادته.
هرولت للداخل كالطفل الذي لقى مأواه، سار خلفها يوسف ولم يعلق على اختياراتها، بل انتظر حتى فرغت من متطلباتها ثم حاسب عليهم وغادرا عائدين إلى منزلهما.
أسبقت لينة في صعود درجات السُلم، قرعت الجرس مرات متتالية فلم يجيب أحدهم، استدارت وطالعت يوسف بحيرة وتسائلت بقلق:
_ ماما ميمي نامت ولا إيه؟
استبعد يوسف تلك الفكرة وجاء بفكرة بديلة:
_ أكيد لأ لسه بدري، ممكن تكون بتصلي قيام
_ "ممكن"
هتفت بها لينا فاقترح عليها يوسف وهو يستدير بجسده ليعطيها جانبه الأيسر:
_ طلعي مفتاحي وافتحي
تفاجئت لينة باقتراحه وبتردد مدت يدها في جيب بنطاله وحرصت بألا تنظر في عينيه في تلك اللحظة، أتت بالمفتاح ثم قامت بفتح الباب وإذا بالسيدة ميمي تهرول من غرفتها، تمهلت حين رأتهما قد دلفا إلى المنزل.
اعتذرت منهما معللاً عدm استقبالهما:
_ كنت بصلي ياولاد معلش
هتف يوسف ماحياً حرجها بقوله:
_ مفيش حاجة يا حبيبتي
حدجت ميمي الأكياس البلاستيكية التي في يدي يوسف وسألته بفضول:
_ دا إيه كل دا يا يوسف؟
نظر يوسف إلى يمينه حيث تقف لينة وأجاب والدته بمزاح:
_ لا دي لينة نوت تفلسني بس
انفجرت لينا ضاحكة ثم عاتبته مازحة:
_ محدش بيسمع صوتك وأنا بشتري يعني؟!
رد عليها بدون تفكير:
_ الماركت كله مش كتير عليكي
رفعت لينة كفوفها مشكلة إياهم على هيئة قلب مع ابتسامتها العـ.ـذ.بة، انسحبت من بينهما لتبدل ثيابها ويبدأوا سهرتهما.
توقفت عن السير لتذكر شيء فوجهت حديثها ليوسف:
_ كلم زياد يجي
أماء لها بقبول وهاتف أخيه لكي يهم بالمجيء على الفور، بينما انشغلت لينة في تحضير بعض الحلوى لقضاء سهرة سعيدة معاً.
***
"يابنتي بقالي ساعة بتحايل عليكي تتكلمي، هو قالك إيه عشان كل العـ.ـيا.ط دا؟"
هتفت هادية بنفاذ صبر وعدm تحمل لكثرة بكائها التي تجهل سببه، تأففت بضيق واضح ثم صاحت منفعلة:
_ خلصي قولي في إيه قبل ما أبوكي وأخوكي يرجعوا
مسحت إيمان أنفها المسيل بظهر يدها، ابتلعت ريقها وأجابتها بنبرة مرتجفة:
_ جاي عشان يقولي إني أبطل أستناه، وأشوف نفسي، وموقفش حياتي عشان حد مبيحبنيش، وأخد اللي بيحبني عشان دا اللي هيسعدني، وأنا أستحق أحسن منه!!
بذهول تام تمتمت هادية:
_ هو قالك كدا؟!
أعادت إيمان مسح عبراتها بعصبية وهي تجيبها:
_ هو متكلمش عن نفسه، قال الكلام بصيغة نصيحة، بس لا هو أهبل ولا أنا غـ.ـبـ.ـية عشان مفهمش الكلام عليه، أنا بعد كل السنين دي يرفضني بالشكل دا؟
نهضت عن مقعدها وجابت الغرفة ذهاباً وإياباً وتابعت تمتمتها بحنق ونـ.ـد.م شـ.ـديدان:
_ أنا اللي غلطانة فعلاً، فكرت إن فيه أمل، فكرت إني لو استنيت كل حاجة هتتغير، مفيش حاجة اتغيرت، محاولش يبص لي لو لمرة، والمرة اللي بص فيها في عيني كان عشان يقولي أنسيني وشوفي حياتك بعيد عني، أنا اللي أستاهل اللي حصلي، أنا اللي أستاهل!!
اقتربت منها والدتها وربتت على ظهرها مآزرة إياها، طالعت الفراغ أمامها وهي تكز أسنانها بعصبية، زفرت أنفاسها وصاحت من بين أسنانها المتلاحمة:
_ يبقى تشوفي نفسك، مع أول عريس هيتقدm لازم نوافق، عشان تثبيتله إن الحياة مش واقفة عليه والرجـ.ـاله غيره كتير، وكانوا بس يتمنوا رضاكي!
هدرت إيمان عالياً وهي تحرر جسدها بعيداً عن والدتها:
_ بس أنا مش عايزة إلا هو، مش شايفة راجـ.ـل غيره ينفعني، مش هقدر أضحك على نفسي وأنا عارفاني كويس
لم تتحمل هادية المزيد من السخافة وصاحت بها مندفعة:
_ فين كرامتك من كل دا يا إيمان، دا داس عليها بأقذر جزمة وأنتِ تقوليلي مش شايفة غيره!
لم تقتنع إيمان بكلمـ.ـا.ت والدتها وهتفت معارضة:
_ مفيش كرامة في الحب
فغرت هادية فاها بذهول، فلم تتوقع رد وضيع كردها ذاك، لم تستطيع مجاراة الحوار قبل أن تعدل مفاهيمها الخاطئة:
_ مين اللي قال كدا، الحب لو مصانش الكرامة وحافظ عليها مـ.ـيـ.ـتساهلش يتقال عليه حب، الراجـ.ـل اللي معاكي لو محترمكيش وزعلك مفرقش معاه، ميستاهلش يتقال عنه راجـ.ـل، الرجـ.ـا.لة بتصون وتحافظ وتغير ولو غلط يعتذر ويصلح غلطه، وتكوني أبقى عنده من نفسه، لكن أنتِ مش فارقة معاه يبقى هو كمان ميفرقش معاكي، وأنا بعد كدا مش هسمع لك تاني، ولو جه عريس محترم أنا أول اللي هيوافقوا طلاما أنتِ مش عارفة مصلحة نفسك
تركتها هادية بعدmا انتهت من قول ما يحتم عليها قوله، لعلها تعود إلى رشـ.ـدها وتنظر إلى مصلحتها، لم تقتنع إيمان بذلك الهراء بسهولة، فكيف تبدله برجلاً غيره بتلك البساطة وكأنه مزهرية ستغير مكانها.
ألا تعلم والدتها ما عاشته فيما مضى؟، ألم ترى كم عانت لأجل نظرة منه، ألم تشعر بقلبها المحطم في كل مرة يقسو عليها بها، شاهدت رفضه المستمر ولم تستطيع كرهه، فكيف تنساه الأن لأن والدتها من أرادت ذلك؟
جلست إيمان على طرف الفراش بإهمال ورددت من بين بكائها الغزير:
_ هو اللي عايز كدا، هو اللي طلب مني كدا..
طالعت الفراغ أمامها معيدة جميع ذكرياتها المؤلمة معه فتملك الغضب منها حتى ظنت أنها كرهته حينها..!
***
عادت راكضة بعدmا أحضرت دفتراً وقلم، وقفت أمام ثلاثتهم وبدأت تشرح اللعبة التي اقترحتها بحماس:
_ كل واحد هيكتب كلمة توصف أنت شايف اللي قدامك إزاي، وليكن ماما ميمي هتكتب لزياد وزياد يكتب لها وأنا أكتب ليوسف والعكس، بعد كدا هنلزقها على جبينا والمفروض نشرح للي هنبتدي بيه كل حاجة معناها نفس معنى الكلمة وهو المفروض يعرفها من نفسه.
وافقوها ثم بدأوا في تدوين الكلمـ.ـا.ت لبعضهم البعض، انتهوا مما يفعلونه ثم قاموا بلصق الورقة على جبهتم.
اقترحت لينة اختيار السيدة ميمي أولاً لأنها تكبرهم عمراً، بدأ يوسف في شرح ما دونه زياد على جبينها:
_ حاجة بتساعد المرضى إنهم يمشوا
عقدت ميمي حاجبيها وهي تفكر جيداً في تفسير ما قاله يوسف، اتسعت عينيها وهي تهلل:
_ العكاز؟
صفقوا لها جميعاً فتعجبت من ذلك اللقب ووجهت لزياد سؤالاً قبل استكمال لعبتهم:
_ اشمعنا عكاز يا زياد؟
على الرغم من خجله الذي كان ظاهراً للجميع إلا أنه لم يدعه يسيطر عليه، وأجابها بأسلوبه الساخر:
_ ياستي مدققيش
أصرت ميمي على معرفة اختياره لتلك الكلمة التي وصفها بها بنبرة ملحة:
_ خلاص مش هكمل طلاما مش هتقول
تذمرت لينة وصاحت بحنق موبخة زياد:
_ لا قولها بقى عايزين نكمل
أخفض زياد رأسه وحدج كفوفه التي كان يفركها بتـ.ـو.تر ثم أردف بنبرة هادئة لا تشبه قط:
_ عشان أنتِ اللي شيلتي البيت بعد ما بابا الله يرحمه مـ.ـا.ت، إحنا كبرنا وبقينا في العمر دا بسببك...
شعر زياد بحماقته، فلم يعتاد البوح بتلك الصراحة ناهيك عن نبرته الرقيقة، بالله شعر بالإهانة في حقه فتراجع ساخراً كما كان:
_ وكفاية كدا عشان حسيت إني أهبل أوي
انفجرا جميعهم ضاحكين، وعلى الرغم من المرح الذي تسبب به زياد، إلا أن والدته قد غمرتها السعادة بكلمـ.ـا.ته، واستحثت مدى حبه لها رغم أنه لم يعترف لها من قبل.
تابعوا لعبتهم باختيار لينة ليوسف، فبدأت هي موضحة ما دونته خصيصاً من أجله:
_ طبعاً أنا اللي لازم أوضح، مش عارفة ليه بس مش مهم
ابتسمت بعفوية فأجبرت يوسف على الإبتسام لذلك الغموض المريب، ثم واصلت استرسالها:
_ حاجة مينفعش البيت من غيرها، بيتبني البيت على أساسه، ومن غيره البيت يتهد
حاول يوسف مراراً الوصول إلى معنى كلمـ.ـا.تها فلم يستطيع، هز رأسه نافياً لمعرفته بالكلمة وقال:
_ مش عارف، أنتِ كاتبة إيه
ردت عليه بتلقائية:
_ فكر شوية يا يوسف، طيب بص هسهلها عليك، عندنا منه ٣ في البيت، يبقى إيه؟
_بعد لحظات ردد يوسف ما أخبرته به في عقله ثم هتف غير متأكداً من إجابته:
_ عمود؟
صاحت لينة بفرحة:
_ برافو
تشـ.ـدق يوسف مع عقده لحاجبيه متسائلاً بفضول:
_ اشمعنا عمود؟
هـ.ـر.بت لينة منه بإرتشافها بعضاً من كأس العصير وأجابته دون أن ترفع عينها عليه:
_ إجابتي في كلامي اللي قولته في الأول
لم يعقب يوسف وأعاد كلمـ.ـا.تها وشعر بالسعادة تغلغلو داخل قلبه، تدخل زياد بقوله:
_ دوري أنا بقى، هقول لينة مكتوب لها إيه؟
حمحم وهو يعتدل في جلسته ليكون مقابلها، ثم فكر قليلاً فيما سيخبرها به قبل أن يردف باستخفاف:
_ حاجة بند.بـ.ـحها في العيد
صعقت لينة مما قاله ورمقت يوسف بذهول وهي تردد:
_ خروف يا يوسف؟!!
كاد يوسف أن يوضح لها إلا أنها أسرعت في إزالة الورقة لكي تتأكد بنفسها، ارتخت ملامحها حين قرأت المدون بها وتمتمت:
"أمانة"
أخرجها زياد من حالتها بضحكه الذى دوى في الأرجاء، رفعت لينة نظريها إلى يوسف بنظرة خجولة نادmة لتصديقها ألاعيب زياد، بادلها يوسف إبتسامة هادئة لكي يمحي خجلها البائن، تحدثت السيدة ميمي معاتبة زياد:
_ بطل رخامة ياواد، دوري أنا بقى أقولك مكتوب لك إيه
ابتسمت بعفوية ثم قالت مازحة:
_ والله ما أنا عارفة أقولك إيه، الكلمة ملهاش معنى تاني
تدخل يوسف ساخراً منه:
_ معناها مبتريحش نفسك
قطب زياد جبينه، ولم يستطيع صبراً حتى أزال الورقة ليقرأ المدون بها، رفع شفتيه العُليا باستهزاء وهو يقرأ:
_ شقاوة!!
طالعته لينة بتهكم وهي تردف مشاكسة إياه:
_ دي الشقاوة دي ثغره في قاموسك
ضحك جميعهم عدا زياد الذي قلب عينيه ضجراً من كلمـ.ـا.تها، وكعادته لن يمرق الليلة دون أن يتصرف بحماقة، صوب عينيه على الكأس خاصتها وبحركة سريعة لم ينتبه لها أحدهم، سرقه من على الطاولة ثم ارتشف قدراً منه.
انتبهت له لينة فصرخت وهي توبخه:
_ أوف على الرخامة، مبحبش حد يشرب من مكاني، بقرف..
هدر به يوسف بغضب:
_ زياد، هات الكاس، ودي آخر مرة تعمل كدا تاني
ناوله زياد الكأس وهو يطالع لينة بنظرات متشفية، نهض يوسف عن أريكته وتوجه إلى المطبخ ثم أحضر كأساً آخر من العصير، كاد أن يهم بالخروج، إلا أن قدmيه توقفت وعاد ينظر إلى الكاس الذي ارتشف منه أخيه.
شيء ما داخله يحثه على أخذ رشفة، فما المانع؟، رفع الكأس ونظر إليه بغرابة فحاجته المُلحة على تذوقه تبدوا مريبة، لم يمانع من أخذ رشفة واحدة، رفع الكأس عند فمه ثم تراجع وبحث عن المكان نفسه التي شربت منه لينة وقام بأخذ رشفة سريعة.
لا يعلم سبب تلك الإبتسامة التي تشكلت على محياه، ولا عن ذلك الشعور الذي راوده، أعاد وضع الكأس على الطاولة الرخامية وعاد حيث يجلس الجميع.
توسط أريكته بعدmا ناول لينة الكأس فشكرته بلطف، صدح رنين هاتفه فتعجب من ذلك المتصل في وقت متأخر، تفاجئ برقم السيد عبد الرحمن، فأجاب على الفور:
_أستاذ عبد الرحمن!
جائه صوتاّ باكي متحشرج:
_ أستاذ يوسف، بابا مـ.ـا.ت!
↚
قُضيت ثلاثة أيام العزاء، لقد قام يوسف بدوره على أكمل وجه بمساعدة بلال، كان ثلاثة أشخاص في آن واحد، يتابع عمله ويقف في العزاء مع أهل المتـ.ـو.في وأخيراً لم ينسى لينة من يومه.
لقد عانى للغاية في تلك الأيام، فلقد وقع على عاتقه مسؤوليات عديدة وكان جديراً بها.
ولج لمنزله بعد منتصف الليل، فكان لديه بعض الأعمال في المعرض عليه إنهائها أولاً قبل عودته، ألقى بجسده المنهك على أقرب أريكة قادته قدmيه إليها.
تراجع برأسه للخلف وأوصد عينيه، لقد شعر لوهلة أنه لن يتخلص مما كان فيه، اخترق سؤالها أذنيه بنبرتها الأنثوية الرقيقة:
_ يوسف.. أنت كويس؟
فتح عينيه بتمهل وهو يجيبها بصوته الخافت:
_ كويس، أنتِ لسه صاحية ليه؟
ابتسمت بعفوية ناظرة لدفترها الذي بين يديها وأردفت بحماس:
_ كنت بتعلم تركي
اعتدل يوسف في جلسته ورمقها بنظرات معاتبة قبل أن يردد مستاءً:
_ دا وقت تعليم تركي يا لينة؟، أنتِ ناسية أنك تالتة السنة دي، يعني مفيش وقت عشان يضيع..
تفهمت معاتبته لها، اقتربت منه وجلست على الأريكة المجاورة له، تنهدت قبل أن تخبره:
_ متقلقش والله أنا عاملة اللي عليا وزيادة، بس مش طبيعي يعني أقعد للساعة ٢ أذاكر يا يوسف، كفاية دروس طول اليوم والمذاكرة اللي بعدهم، بسلي نفسي عشان مزهقش من كتر المذاكرة
تفهم يوسف موقفها ولم يعقب، أخفض بصره على دفترها ثم قال بنبرته الرخيمة:
_ وريني اتعلمتي إيه؟
ناولته لينة بحماسة شـ.ـديدة، بينما لم يفهم يوسف ما دونته فأعاد النظر إليها وحاجييه معقودان:
_ إيه الكلام دا، مش فاهم حاجة
قهقت لينة بعجرفة فهي فقط من تفهم ما دونته، أخذت دفترها ومالت بجسدها لليمين لكي تكون أقرب إليه، لم يكن هناك ما يفرقهما سوى سنتيمترات قليلة، بدأت تشير إلى بعض الكلمـ.ـا.ت بسبابتها وهي تنطقها:
_ دي مثلاً معناها "ماما" بتنطق "annem"،
"آ نيـ م"
ردد يوسف الكلمة خلفها فاتسعت ابتسامتها لإستجابته معها، فنطقت كلمة أخرى وهي تردد بتهمل لكي ينطقها صحيحة:
_ دي معناها "أخي" بتنطق "kardeşim"، " "كـارديشم"
رددها يوسف نطقها الصحيح فازدادت لينة تلهفاً لإخبـ.ـاره المزيد، فتوقف قليلاً لتستمد بعض الشجاعة قبل أن تنطق كلمة بحد عينها، زفرت أنفاسها ثم أشارت على كلمةٍ ما ونطقتها بهُيام:
_ دي بقى "Seni seviyorum"، "سيني سيڤ يورم"
تعجب يوسف من أسلوبها الذي انعكس عن بدايته، فكانت تخبره بمعنى الكلمة قبل نطقها، التفت إليها متسائلاً عن معناها بفضول:
_ معناها إيه؟
ابتلعت لينة ريقها ونظرت في سودتاه مجيبة إياه بنبرة مُتيمة:
_ "بحبك"
خفق قلب يوسف بشـ.ـدة، وكأنه اعتراف صريح إليه، لم يشعر بتلك الإضطرابات من قبل، ماذا يحدث لقلبه، إنه مجرد توضيح لمعنى الكلمة، فما كل تلك الضجة الحادثة؟!
شعر يوسف بافتضاح أمره أمامها إن مكث لثانية أخرى، انتفض من مكانه وهو يهرب بنظريه بعيداً، معللاً سبب هروبه:
_ معلش بقى معتش قادر أفتح عيني، يلا تصبحي على خير
_ "وأنت من أهل الخير"
قالتها هامسة وهي تتابع طيفه الذي اختفى خلف باب غرفته، تنهدت ثم ولجت لغرفة السيدة ميمي راجية النوم، فمن كان السبب في إبقائها مستيقظة قد عاد ولم يعد هناك مجالاً للهرب بعد.
على الصعيد الآخر، كان يحاول تهيئة عقله أن الأمر عادياً، ولا يوجد به شيء مريب، فهي لينة ودوماً ما يصدر منها تصرفات غريبة، الأمر لا يستحق كل ذلك التفكير.
بدل ثيابه سريعاً فلم تكن لديه القدرة على أخذ استحمام، استلقى على الفراش بهدوء لكي لا يسبب الإزعاج لأخيه، لكنه كلما أغفل عينيه يُعاد الموقف في ذاكرته ناهيك عن قلبه الذي يخفق بشـ.ـدة وكأنه مازال أمامها.
تأفف حين فشل في استخراج تلك الذكرى من عقله، سحب الوسادة من أسفل رأسه ووضعها أعلاها لربما تنجح في سلب كل أفكاره حتى يستطيع النوم.
***
أشرقت الشمس فسقط عموداً ذهبياً على غرفة السيدة ميمي، متسللاً من زجاج النافذة على عيناي لينة المتناثر شعرها الكستنائي على الوسادة.
فركت عينيها حينما ضجرت من الضوء ثم مدت يدها حاجبة الضوء عنها، استقامت بجسدها فانسدل بعضاً من خصلاتها على وجهها، رفعتهم بأناملها ونهضت باحثة عن إسدالها.
ارتدته ثم خرجت من الغرفة باحثة بعينيها عن الجميع، لمحت ذلك الجالس هناك يرتشف كوباً من الشاي، عضت على شفتيها ولم تتردد في الإقتراب منه.
حمحم بصوت عالٍ فانتبه لها يوسف، ألقت تحية الصباح وهي تجلس جواره:
_ صباح الخير
"صباح النور"
قالها يوسف وهو يضع الكوب أعلى الطاولة، صدح رنين هاتفه فعقد حاجبيه متعجباً حين قرأ الإسم المدون، تنهد ثم أجاب بصوته الأجش:
_ آنسة فاطمة..
انتبهت حواس لينة بالكامل بعد نطقه إسم إمرأة، حرصت على سماع صوتها لعلها تعرف هويتها، لكن صوتها كان منخفض للغاية ولم تستطيع معرفة من تكون.
"أنا كنت محتاجة أقابل حضرتك ضروري النهاردة"
أردفتها فاطمة بينما أجاب يوسف بتلقائية:
_ بس أنا مش هينفع أجي البيت
اتسعت مقلتي لينة بذهول لما وقع على مسامعها، سيطرت عليها الغيرة فلم تشعر بتعابير وجهها التي احتدت وهي تطالعه بغيظ في انتظار انتهائه من تلك المكالمة، بينما تابع يوسف حواره مع فاطمة التي قالت باستحياء:
_ أنا متفهمة طبعاً، وأكيد مينفعش تيجي لأني لوحدي، لو ينفع أجي أنا المعرض؟
لم يعترض يوسف على اقتراحها فهذا أنسب حل، زفر أنفاسه ثم رد عليها بجدية:
_ تمام هستناكي هناك، بس ياريت لو قبل الضهر عشان بعد كدا مش بكون موجود
"بإذن لله هكون عند حضرتك الساعة ١١"
أخبرته بموعد مجيئها قبل أن تغلق، لاحظ يوسف نظرات لينا المشتعلة، كاد أن يسألها عما بها لكنها بادرت بسؤاله:
_ مين دي؟ وعايزاك تقابلها في البيت إزاي يعني؟
تعجب يوسف من اهتمامها المبالغ، ابتسم بخفة وأجاب على أسئلتها بتلقائية:
_ دي بنت أستاذ عبد الرحمن الله يرحمه، عايزة تتكلم معايا
بدون تفكير سألته بغيرة واضحة:
_ تتكلم معاك في إيه؟
بتهكم شـ.ـديد أردف يوسف:
_ معرفش، لسه مقابلتهاش
طالعته بأعين ضائقة ثم هتفت بآخر أسئلتها أو ربما هناك المزيد بعد:
_ ممم وهتتقابلوا فين؟
باختصار هدر:
_ في المعرض
أنهى جملته ثم نهض ليذهب إلى مكان عمله، تابعته لينة بخطوات مهرولة، تتآكلها الغيرة حتى كادت أن تقــ,تــلها من شـ.ـدتها.
أدار يوسف مقبض الباب فتفاجئ بوقوف "شهد" خلفه، ابتسمت بسماجة ثم رددت:
_ إزيك يا يوسف؟
حد يوسف نبرته حتى بات صوته خشن وقال:
_ كويس
لم يضيف المزيد وغادر، فتملقت الأخرى من أسلوبه البـ.ـارد معها، وعادت بنظراتها إلى صديقتها قائلة:
_ يا باي دmه سم، بتحبي فيه إيه دا؟!
لم تتحمل لينة كلمـ.ـا.ت شهد السخيفة وهدرت بها شزراً:
_ أوف، مليون مرة أقولك ملكيش دعوة بيه
تعجبت شهد من عصبيتها المبالغة، طالعتها لبرهة قبل أن تتسائل بفضول:
_ في إيه مالك، مش معقول كل العصبية دي عشان كلمته!!
تأففت لينة ثم أولاتها ظهرها وتوجهت للداخل، تبعتها شهد ورحبت بالسيدة ميمي التي ظهرت للتو ثم ولجت خلف لينة الغاضبة.
جلست على طرف الفراش وسألتها باهتمام:
_ ها قولي مالك؟ أكيد الموضوع مش هيخرج عن سي روميو!!
رمقتها لينة بنظرات مشتعلة فتأكدت الأخرى من حدسها، قهقهت بسماجة ثم اقتربت منها حتى أصبحت ملاصقة لها وأردفت بحماس:
_ احكي بقى..
زفرت لينة أنفاسها بضجر ثم بدأت تقص عليها ما أثار غيرتها بعصبية مبالغة..
***
في تمام الساعة الحادية عشر ظهراً، طُرق باب مكتب يوسف فسمح للطارق بالدخول، فُتح الباب من قِبل فاطمة بزيها الأسود حداداً على أبيها، ابتسمت بإستحياء ثم تعمدت ترك الباب مفتوحاً.
نهض يوسف ورحب بها باحترام:
_ اتفضلي يا آنسة فاطمة
جلست الفتاة فبادر يوسف متسائلاً بذوق:
_ تحبي تشربي إيه؟
رفضت مسرعة:
_ شكراً، أنا مش جاية أشرب، ياريت تسمعني وتقدر تساعدني في مشكلتي..
عاد يوسف بأدراجة إلى كرسيه، وكلمـ.ـا.تها تتأرجح في عقله، يا تُرى ماذا تريد، حمحم قبل أن يهتف مع مراعاته عدm إطالة النظر إليها:
_ اتفضلي، ولو في إيدي حاجة مش هتردد
أخذت فاطمة شهيقاً عميق قبل أن تبدأ في قص ما جاءت لأجله:
_ يمكن الكلام دا مش وقته بس مضطرة أقوله، فيه واحد كان متقدm لي في حياة بابا، وهو للأسف رفض، وأنا متعلقة بالشاب دا جداً وبصراحة رجع يكلمني تاني بعد وفاة بابا وعايز يتقدm تاني، وأنا خايفة أقول لحد من أعمامي لأنهم كانوا عارفين إن بابا رفضه يعني أكيد هيرفضوا هما كمان، كنت عشمانك فيك تكلمهم وتقنعهم بيه، هما عارفينك وعارفين غلاوتك عند بابا الله يرحمه يعني كلامك هيفرق جداً..
ضاق يوسف بعينيه أمامه لدقيقة دون تعقيب، ثمة
أموراً لم تخبره بها، هناك الكثير يجهله، رفع عينيه عليها وسألها مستفسراً:
_ معلش اعذريني، بس طلاما أنتِ طلبتي مساعدتي وعايزاني أدخل في الموضوع فأنا مش هقدر أتكلم من غير ما أعرف شوية تفاصيل كدا، أولهم ليه أستاذ عبد الرحمن رفضه؟
ترددت الفتاة كثيراً في إخبـ.ـاره، لكن ما عليها سوى ذلك وإلا لن يساعدها، أخفضت رأسها ونظرت إلى كفوفها التي تفركهم بشـ.ـدة ثم بدأت تخبره بهدوء:
_ معندوش شقة، ومعندوش دخل ثابت..
رفعت عينيها على يوسف وواصلت متلهفة:
_ بس هو بيحبني و..
قاطعها يوسف بسؤاله من منطلق العقل:
_ حبه دا هيأكلكم وهيعشكم؟!
طالعته فاطمة بخجل اجتاحها وتشكل على وجنتيها فباتوا حمرواتين، أخرجت زفيراً قبل أن تجيبه:
_ هنعيش في بيتنا مؤقتنا على لما يجيب شقة..
تفاجئ يوسف مما قالته، لم يستطيع رفع بصره عنها مذهولاً من حديثها الوضيع، استشف ضعف شخصيتها وأنه قد نجح في اللعب بها، حمحم وبهدوء حاول أن يريها الأمر من منظور آخر:
_ آنسة فاطمة أنتِ زي أختي، وأنا لو واحد اتقدm بالمواصفات اللي أنتِ قولتيها دي مش هوافق، أستاذ عبد الرحمن كان عنده وجهة نظر إنه يرفضه، أنتِ للأسف مضحوك عليكي بكلمتين حلوين ودا اللي هو بيسعى ليه عشان يوصل لبيتكم، والدليل أنه محترمش حرمة المـ.ـيـ.ـت وكلمك أول ما عرف أن والدك توفى، رغم أنه هو لو راجـ.ـل كان أتقدm لعمامك وأقنعهم بأسباب منطقية مش يكلمك أنتِ، الراجـ.ـل يتفق مع راجـ.ـل زيه، إنما اللي يدخل للحريم دا بنقول عليه نطع!
هو عارف إنك متأثرة بيه وبكلمتين هتوافقي بيه تاني!
أخذ يوسف نفساً عميق قبل أن يسترسل ما تبقى لديه:
_ تقدري تقوليلي أختك هتروح فين؟ هتعيش معاكم إزاي؟ طيب أنتِ تقبلي إن راجـ.ـل غريب يكون معاها في نفس البيت؟!
تدخلت فاطمة موضحة:
_ دا مش غريب، دا هيبقى جوز أختها!
بإبتسامة هادئة هتف:
_ جوزك أنتِ، إنما هيفضل غريب عنها ودا حـ.ـر.ام
جادلته فاطمة بعظم اقتناع:
_ حـ.ـر.ام إزاي وهو هيبقى من محارمها؟!
أوضح لها يوسف بنبرته الرزينة:
_ في حديث للرسول صل الله عليه وسلم بيقول
"إياكم والدخول على النساء. فقال رجل من الأنصار يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال: الحمو المـ.ـو.ت."
الحمو دا شامل أختك!! نهى الرسول عن الخلوة بيها حتى لو في وجودك، أنتِ مت عـ.ـر.فيش جوزك نيته إيه؟ ولا بيبص لها إزاي، وأنتِ عايزة تقعديهم في بيت واحد!!
احتدت ملامح فاطمة وهي تلقي كلمـ.ـا.تها بإقتضاب يشوبه الإتهام:
_ على حد علمي إنك مقعد بنت عندك في البيت ولا هي قريبتك ولا فيه بينكم اللي يخليها قاعدة في بيت فيه شابين!!
فارت الدmاء في عروق يوسف، فهو لن يتحمل إهانة لينة بشتى الطرق، كز أسنانه وحاول إخماد غضبه، فهي في النهاية وصية شخص عزيز عليه، طالعها بجمودٍ قبل أن يردف كلمـ.ـا.ته البـ.ـاردة:
_ أنا واثق من نفسي، وواثق من أخويا، لكن مش واثق من اللي أنتِ جيباه!
لم يروق لفاطمة ما أردفه يوسف، نهضت عن مقعدها ونظرت إليه بحسرة:
_ أفهم من كدا إنك بترفض تساعدني
نهض يوسف وأوضح لها نواياه:
_ أساعدك بالأصول يا آنسة فاطمة، باباكي نفسه رفضه، أنا هوافق إزاي؟، يوفر لك سكن ويشتغل شغلة كويسة ووقتها أقدر أساعدك وأتكلم مع عمامك، لكن أروح أقولهم إيه؟ واحد متقدm لبنت أخوكم وطمعان يعيش معاها في بيت والدها!!
دا كلام يُعقل يطلع من راجـ.ـل لرجـ.ـا.لة؟!
شعرت فاطمة بغصة مريرة في حلقها، تلألأت العبرات في عينيها، فلقد تبخر آخر آمالها، فكيف ستقنعهم بهذا الشاب إن رفض يوسف؟
بصعوبة تحدثت قبل أن تجهش باكية:
_ شكراً لحضرتك وأسفة على الإزعاج
أولاته ظهرها وتوجهت إلى الباب فأوقفها يوسف بندائه:
_ آنسة فاطمة..
التفتت إليه بأملاً قد خلق داخلها فواصل هو:
_ ياريت تسيبي لي رقمه، ومعتيش تكلميه، متخونيش ثقة والدك عشان أي حد
لم يراودها الخجل تلك المرة بل دهسها وكأن سيارة نقل هائلة قد دهستها، ابتلعت ريقها وعادت إليه فكان قد أحضر يوسف قلماً ودفتر، دونت به الرقم ثم هرولت إلى الخارج سريعاً دون أن تنظر إليه.
طالع يوسف الرقم بنظرة مطولة وهو يرتب لمكالمة هاتفية لذلك الشاب، أنتبه لرنين هاتفه فأجاب على الفور:
_ رمضان باشا بيكلمني بنفسه!
في تلك اللحظة قد دلف بلال إلى المكتب وبيديه بعض الأوراق فأشار إليه يوسف بالجلوس، بينما أشار بلال إلى ساعة يده يحثه على التعجل لكي يذهب.
_ "عريس!"
هتف بها يوسف وهو يطالع بلال بصدmة، بينما علم بلال أن المكالمة سوف تطول مدتها فنهض لكي يغادر فأشار إليه يوسف مرة أخرى بالجلوس مجيباً على خاله:
_ وإيمان موافقة عليه؟
تجمدت حواس بلال حين صغى لكلمـ.ـا.ت يوسف ولم يستطيع الجلوس، بل اقترب منه لعله يسمع ما يخبره خاله به، كان يقف على أحر من الجمر ينتظر إنهاء يوسف المكالمة.
_ "ماشي يا خالي، هسألك عنه وأرد عليك"
أنهى يوسف المكالمة بجملته، فصاح بلال غاضباً لا يصدق ما سمعه:
_ هو إيه دا اللي هسألك عليه؟
عريس!!
وهي موافقة؟
أسرع يوسف في توضيح سوء الفهم:
_ اصبر يابني، لسه مفيش حاجة حصلت، دا واحد متقدm وخالي عايز يسأل عنه قبل ما يدخله البيت عشان لو حصل نص...
قاطعه بلال بهجوم شـ.ـديد:
_ بس يا يوسف أنت بتقول إيه؟!
جن جنون بلال، جاب الغرفة ذهاباً وجيئاً بخطى مهرولة وهو يردد بعدm تصديق:
_ وهو كل عريس بيتقدm بيقولك أسأل عليه؟
هز يوسف رأسه نافياً سؤال بلال الذي ازداد حنقاً، لقد وضحت الصورة أمام عينيه الآن، جلس على المقعد بإهمال ورفع نظريه على يوسف مردداً بعصبية:
_ معنى إنه يخليك تسأل عليه، يعني موافق، وإلا كان رفض زي اللي قبله، دا غير إنها هي نفسها مرفضتش، عن كلامك هي اللي بترفض مش أبوها!!
دار يوسف من حول المكتب وجلس مقابل بلال، حاول تهدئته قدر المستطاع:
_ ممكن تهدى..
لم يهدأ بلال بل هتف عالياً غير متقبل أمر يوسف:
_ أهدى! أهدى إزاي بعد اللي سمعته دا؟
تأفف يوسف ورفع من نبرته لكي يجبر بلال على سماعه:
_ أيوة تهدى لأن مفيش حاجة تخليك متعصب كدا، هو قالي أسأل عليه يعني لسه موافقوش..
قاطعه بلال بحنق:
_ومرفضوش!
تأفف يوسف تلك المرة بصوت عالٍ وصاح به شزراً:
_ يابني أفهم بقى، أنا قصدي إن الموضوع كله في إيدي، خالي مستني أسأل عليه يعني في إيدي أطول المدة على قد ما أقدر، وفي إيدي برده أكلمه يا بلال عنك، ومش كلام على إنك عريس زي أي حد، لا خالص أنا قادر إني أخليكم تتجوزوا آخر الشهر دا لو تحب!!
تفاجئ بلال من كلمـ.ـا.ت يوسف الواثقة، طالعه بأعين جاحظة فتابع يوسف بتهكم:
_ وكنت أقدر أعمل كدا من زمان، بس أنت اللي كنت رافض..
شعر بلال بضياعها منه، ولن يتحمل ذلك قط، مال للأمام ليكون أقرب ليوسف وقال:
_ يعني إيه، المفروض أعمل إيه دلوقتي؟
بهدوء أخبره يوسف:
_ مش هتعمل حاجة أنا اللي هعمل
"متأكد إني مش هترفض؟"
سأل بلال بتوجس، فهو على علم بمشاعرها تجاه يوسف، بثقة أجابه يوسف:
_ يابني عيب عليك دا أنت بتكلم يوسف الراوي..
تقوس ثغر بلال بإبتسامة عريضة ثم نهض مردداً:
_ ماشي يا إبن الرواي، ورينا هتعمل إيه
كاد أن يغادر إلا أنه تريث حين تذكر ما جاء لأجله، عاد إلى المكتب ودفع الأوراق بيديه أمام يوسف موضحاً ماهما:
_ بص على العربيات دول مش حاسسهم وأبويا مُصر يجيبهم، قولت أكيد أنت اللي هتقنعه لو فيهم حاجة
اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه بينما غادر بلال على الفور، سحب يوسف الأوراق ليتفحص السيارات جيداً قبل أن يبدى رأيه فيهما.
***
حل المساء، فعاد يوسف ليصطحب لينة ويعودان إلى المنزل، لم تحظى لينة بسؤاله طيلة اليوم عن مقابلته مع فاطمة، فكانت شهد مرافقة لهما اليوم.
لم تطيق الإنتظار بعد، التفتت إليه وبنبرة مليئة بالغيرة سألته:
_ كانت عايزة منك إيه؟
عقب يوسف على سؤالها دون أن يلتفت إليها:
_ هي مين؟
"اللي كلمتك الصبح"
قالتها لينة بصوت حاد فأجبرت يوسف على التعجب من أسلوبها، حدجها لبرهة قبل أن يردف:
_ اه، فاطمة..
ازدادت غيرة لينة وكزت أسنانها بعصبية، لم تخفض نظرها عنه قط، تنتظر استكمال حديثه الناقص، لكن لا تدري هل ستصمد وهو يحادثها عن إمرأة أخرى أم ستقلب الوسط رأساً على عقب؟
قطع يوسف بكلمـ.ـا.ته حبال أفكارها:
_ فيه واحد متقدm لها وعايزاني أقنع اعمامها بيه..
شعرت لينة ببعض الراحة داخلها، تنهدت ثم بفضول تابعت أسئلتها:
_ واشمعنا أنت، ما تروح تقولهم هي
حاول يوسف إنهاء الحوار سريعاً، فلا يحب التحدث عما لا يعنيه فقال:
_ عادي يا لينة، أنا كنت قولتلها لو محتاجة حاجة كلميني
عقدت ذراعيه لأعلى صدرها وبتذمر واضح صاحت:
_ وأنت متعود بقى تساعد كل واحدة كدا؟!!
بهدوءٍ يشوبه الريبة من أمرها أردف:
_ بساعد أي حد محتاجني يا لينة..
نطق اسمها وهو يطالعها بغرابة، ثم عاد ناظراً أمامه لكي يسير من ذلك الطريق القريب منهما، انتهبت لينة لتغير سيرهما فتسائلت بملل:
_ أنت جايبنا هنا تاني ليه؟
صف السيارة وهو يجيبها:
_ عايز أتكلم مع خالي في موضوع مهم
قلبت لينة عينيها فهدر هو متعجباً:
_ أنتِ بتضايقي ليه لما بتيجي هنا؟
تـ.ـو.ترت لينة من سؤاله، حتماً لن تخبره السبب الحقيقي، ابتلعت ريقها لتعطي فرصة لعقلها في إيجاد عِلة تخبره بها، نظرت إليه ثم وضحت بكلمـ.ـا.ت زائفة:
_ مش بضايق، بس أنت كل مرة بتيجي هنا بليل وأنا بكون تعبانة من الدورس، بس كدا
هز رأسه وهو يتمتم داعياً:
_ إن شاءالله منطولش
صعدا كلاهما ثم قرع يوسف جرس المنزل، فُتح له في خلال ثانيتين، تقوس ثغر يوسف بإبتسامة حين رآى إبن خاله ورحب به:
_ دا أنا حظي حلو بقى عشان أشوفك
بادله أسامة الإبتسام مع ترحيبه الحار:
_ واحشني يا جو والله
_ "وأنت كمان أخبـ.ـار الكلية إيه"
سأله يوسف بينما أجاب أسامه بتذمر:
_ أهو ماشية..
صوب أسامة عينيه على لينة الواقفة خلف يوسف ورحب بها:
_ إزيك يا لينة؟
باختصار مصاحب للحياء أردفت:
_ الحمد لله
دعاهم أسامة للداخل، ثم نادى على والده الذي جاء على الفور عند علمه بوجودهما، رحب بهما بحفاوة شـ.ـديدة على عكس هادية التي كانت بـ.ـاردة معهما.
اختفت من أمامهم مسرعة، ولجت لغرفة إيمان وحذرتها بألا تخرج، يكفي تقليل من شأنها لهذا الحد، ثم عادت هي لمضايفتهم على مضضٍ.
بعد أحاديث تبادلاها الرجـ.ـال، حمحم يوسف قبل أن يطالب خاله بما يريد:
_ لو سمحت يا خالي، كنت محتاج أتكلم معاك في موضوع كدا..
مرر رمضان نظراته على الجميع فانسحبوا خلف بعضهم، رافقت لينة هادية بينما دلف أسامة إلى غرفته.
قلق رمضان من طلب يوسف وسأله بتوجس:
_ مش خير يا يوسف؟
شكل يوسف بسمة على شفتيها لكي يبث فيه الطمأنينة، وقال بصوته الرخيم:
_ كل خير إن شاء الله، فيه عريس متقدm لإيمان..
تفاجئ رمضان بهذا الخبر، فهو قد أخبره في الصباح بوجود خاطب فمتى ظهر الآخر، قطب رمضان حاجبيه بغرابة مردداً بذهول:
_ عريس!! دا غير اللي قولتلك عليه؟
أماء يوسف برأسه مؤكداً قبل أن يوضح له:
_ دا بلال صاحبي، أكيد عارفه
أبدى رمضان معرفته ببلال قائلاً:
_ أيوة أعرفه عز المعرفة
اتسعت إبتسامة يوسف وتابع حديثه:
_ الرسول صل الله عليه وسلم قال "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج"
وقالنا برده "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه"
تمم رمضان على ما قاله يوسف بقوله:
_ صدق رسول الله صل الله عليه وسلم
عاد يوسف لمواصلة حديثه:
_ وبلال خلق ودين، وجدع وصاحب صاحبه، دا لولاه مكنتش وصلت للمكانة اللي أنا فيها دي،
راجـ.ـل يعتمد عليه وبيتقي ربنا في شغله وحياته
دا غير إن مادياً كويس جداً جداً وهيقدر يعيشها في مستوى مرفه، أنا أضمنهولك براقبتي يا خالي.
شعر رمضان بالحيرة، فلم يقع في أمراً هكذا من قبل، طالع في الفراغ أمامه للحظة قبل أن يهتف متسائلاً:
_ طيب والعريس التاني دا أقوله إيه؟
تدخل يوسف باقتراحه:
_ أعتقد يا خالي إن مش صعب رفضه، أنا فهمت من كلامك الصبح إنكم لسه موفقتوش عليه
أكد رمضان على حديث يوسف بصوته الأجش:
_ فعلاً، أنا كنت عايز أسأل عليه الأول ولو شخص كويس كنت هحاول أقنع إيمان
أسرع يوسف في الحديث متلهفاً:
_ يبقى تقوله كل شيء قسمة ونصيب زي اللي قبله، طلاما كدا كدا إيمان مش موافقة، وبدل ما تقنعها بيه أقنعها ببلال!!
أخفض رمضان نظريه ليفكر في كل ما قيل، لم يجد صعوبة في رفض الخاطب، فهو ليس أول من
رفضوه، هو يثق في يوسف كثيراً وحتماً لن يتدخل في الأمر إلا لمصلحة إبنة خاله.
رفع رمضان بصره على يوسف وبهدوءٍ هدر:
_ مبدأياً يابني طلاما أنت شايف أنه مناسب ووكويس أنا مش هراجع وراك، بس اديني مهلة أتكلم مع هادية وإيمان وأرد عليك
وافقه يوسف في رأيه لكنه حاول التأكيد عليه بقوله:
_ براحتك يا خالي، بس حاول تقنعهم بلال فرصة مش هتتكرر تاني، أنا واثق من كدا.
"إن شاء الله يابني، اللي فيه الخير يقدmه ربنا"
أنهى رمضان حوارهما بكلمـ.ـا.ته، نهض يوسف مستأذناً منه:
_ استأذن أنا بقى، تصبح على خير
نهض رمضان غير موافقاً على ذهابه:
_ لا لا تمشي إيه، لسه هتتشعى معانا
رفض يوسف بلطف:
_ لا معلش يا خالي مرة تانية، لينة تعبانة طول اليوم من الدورس وبتبقى عايزة ترتاح
لم يطيل رمضان، فخرج يوسف إلى الخارج فتفاجئ بجلوس أسامة برفقة لينة بفردهما يتسامران، لم يشعر بأسنانه التي كادت أن تُفتك.
حمحم وبصوت غاضب صاح:
_ لينة..
ذعرت لينة من نبرته فنهضت تلقائياً عند رؤيته، اقترب منها وأردف أمراً:
_ يلا عشان نمشي..
أماءت له بقبول وخوف معاً، لا تعلم من أين أتى ذاك الرعـ.ـب الذي تملك بخلاياها، أوقفهما أسامة بسؤاله الذي وجهه إلى لينة:
_ لينة عندك انستجرام؟
كادت ليناة أن تجيبه إلا أن يوسف قد أسبق بالإجابة بحدة:
_ لأ، معندهاش
أرخى يوسف من ملامحه المشـ.ـدودة وابتسم على مضضٍ قبل أن يوجه حديثه للآخرين:
_ تصبحوا على خير
رد جميعهم في آن واحد:
_ وأنت من أهله
نظراته كانت كفيلة لإرهاب لينة، ابتلعت ريقها وتابعت خطواته السريعة، إلى أن استقلا السيارة،
ثم لم يتحمل يوسف لثانية أخرى وسألها مستفسراً بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ أنتِ إيه اللي قعدك مع أسامة لوحدكم؟
لم تتفاجئ لينة من السؤال، فكانت على استعداد له، حركت رأسها ناحيته وهي تجيبه بهدوء:
_ آبلة هادية دخلت المطبخ، معرفتش أعمل إيه
"وكان بيتكلم في إيه؟"
هتف يوسف بسؤال آخر بحدة فأجابت لينة بتلقائية:
_ معرفش، مركزتش، سيبته يتكلم وخلاص..
لم يعقب يوسف، تعجب من انفعاله المبالغ، فماذا يمكن أن يحدث إذا تحدثا قليلاً، إنها لينة اخر، أكثر من يثق فيها، لكن مشكلته إنه لا يثق فيمن يقفون أمامها.
هدأ رويداً رويداً لكنه لم يتناول الأحاديث معها إلى أن وصلا إلى منطقتهم، ترجلت لينة أولاً بخطوات مهرولة فهي متعبة للغاية، تريد فقط الإستلقاء لتنعم ببعض النوم.
كانت رؤيتها مشوشة بعض الشيء لركضها بتلك السرعة الذي أدى إلى إلتواء قدmها اليمنى، فآنت بألم شـ.ـديد ثم أمسكت بسور الدرج لكي لا تفقد توازن جسدها.
حاولت الصعود لكنها لا تتحمل الضغط على قدmها، في تلك اللحظة قد تابعها يوسف وتعجب من وقوفها، اقترب منها متسائلاً بحيرة:
_ مالك، واقفة كدا ليه؟
أخبرته بما حدث فحاول تشجيعها على الصعود بقوله:
_ طيب امسكي في الطرابزين واطلعي براحة
بنبرة مرتجفة تهدد بالبكاء تمتمت:
_ مش عارفة أضغط عليها، بتو.جـ.ـعني..
هتفت آخر جملتها ثم بكت من الألم، فلم يتحمل يوسف بكائها المفاجئ، مسحت لينة عبراتها بأناملها سريعاً، رفعت عينيها للأعلى لا تدري كيف ستصعد بتلك الحالة إلى الطابق الثاني.
حشرت أنفاسها حين شعرت بذراعه الذي حاوط به خصرها، التفتت ناظرة إليه لتتأكد مما هما عليه، ازدادت دهشتها حين قال:
_ اسندي إيدك على كتفي
طالعته لينة لبرهة غير مصدقة ما يحدث، حثها هو بإشارة من عينيه فامتلثت على الفور، أصبحت بين أحضانه دون سابق إنذار، شاعرة بنبضاته التي تعزف خلف كتفها.
كان يرفعها يوسف من آن لآخر حتى تخطوا جميع الدرجات، طرق يوسف الباب فلن ينجح في فتحه وهي بين ذراعيه.
فتح له أخيه الذي تعجب من وضعهما وتسائل بريبة من أمرهما:
_ في إيه؟
هاجمه يوسف مستاءً:
_ وسع ندخل الأول
تنحى زياد جانباً فأدلف يوسف أولاً ليساعد لينة على الدخول، ثم مال بها بحذر عند وصوله للأريكة حتى اعتلتها، كانت تخرج منها آنة كلما حاولت تحريك قدmيها، فحذرها يوسف بقوله:
_ معتيش تحركيها، هدخل أشوف لو فيه مرهم هنا ينفعك
انسحب يوسف من بينهما باحثاً عن شيء يضمد به آلامها، عاد زياد بنظريه عليها وتسائل باهتمام:
_ إيه اللي حصل لرجليكي؟
أجابته بنبرة خافتة:
_ اتلوت وأنا طالعة على السلم
خرجت السيدة ميمي من غرفتها بعدmا أدت ركعتان قيام ليل، ذعرت حين رأت دmـ.ـو.ع لينة على مقلتيها، هرولت إليها متوجسة خيفة خشية أن مكروه قد أصابها، بخوف واضح سألتها:
_ مالك يا لينة، بتعيطي ليه؟
أخبرها زياد من خلفها:
_ رجليها اتلوت وهي طالعة السلم..
"يا حبيبتي، وريني رجلك كدا"
هتفت ميمي بآسى وحـ.ـز.ن ثم جلست القرفصاء لكي تتفحص قدmها، شهقت بذعر حين رأت تورم كاحلها وتمتمت بحـ.ـز.ن:
_ رجليكي وارمة خالص
حضر يوسف الذي وقعت كلمـ.ـا.ت ميمي على أذنيه فرد عليها:
_ أنا ملقتش حاجة هنا تنفعها، هنزل أشتري من الصيدلية
اختفى يوسف فور إخبـ.ـارهم بذهابه، بينما نهضت السيدة ميمي قائلة:
هروح أجيب مية دافية أعملك كمادات عليها
اختنقت لينة من ذلك الحجاب الذي لم تخلعه منذ عدة ساعات، تريد التحرر منه بأي ثمن، حاولت النهوض لربما تستطيع التوجه إلى غرفة السيدة ميمي وتعطى خصلاتها بعض الحرية.
لم تنجح في الوقوف بمفردها، يزداد الألم كلما دعست على قدmها، أشفق زياد على حالتها المذرية فأراد مساعدتها، اقترب منها ثم مد يده لها وهو يهتف:
_ تعالي وأنا أساعدك..
لم تفكر لينة ثانية بل أبدت رفضها بتعب:
_ لأ شكراً..
حاول زياد مرة أخرى، فهو يرى معاناتها ويريد فقط تقديم العون لها:
_ يابنتي تعالي هدخلك الأوضة
هزت رأسها رافضة ثم مالت على جدار الأريكة وأوصدت عينيها لحين حدوث أمراً يهدئ من آلامها، أطلقت صرخة قوية حين لامست تلك المنشفة المبللة بالماء الدافئ قدmها.
آزرتها ميمي وحثتها على التحمل:
_ معلش يا لينة، استحملي عشان تهدى شوية
كررت السيدة ميمي فعلتها حتى عاد يوسف، أقترب منهم وخصيصاً لينة، وضع ما معه جانباً ثم وقف أمام لينة وانحنى عليها، ثم أحاطها بذراعيه وهو يردد:
_ قومي معايا براحة
تشبثت لينة في ذراعيه ثم نهضت بصعوبة بالغة، رفع زياد حاجبيه متعجباً من أمر تلك الفتاة، لقد رفضت مساعدته منذ دقائق لكنها لا تبدي أي ردة فعل أمام يوسف!!
ولم تكن المرة الأولى، بل منذ دلوفها من ذلك الباب ترفضه دوماً، شعر زياد بغرابة تصرفاتها معه، كز أسنانه وهو يتابعهم بغضب تأجج داخله.
ساعد يوسف لينة على دخول غرفة والدته ومن ثم ساعدها على الاستلقاء، نظر إلى والدته وأمرها بلطف:
_ شوفي يا أمي عندك مراهم ادهني لها أنتِ، أنا برا لو احتجتوني
أماءت له ميمي ثم جلست بجوار قدmي لينة وبدأت تملس على كاحلها المتورم بحذر لكي لا تؤلمها.
بينما ولج يوسف لغرفته، فك أزرار قميصه الذي ألقاه على الفراش، كاد أن يتابع تبديل ثيابه إلا أن رنين هاتفه قد منعه، توجه نحو الفراش واختلس النظر إلى هاتفه الموضوع أعلاه، عقد حاجبيه تلقائياً فور رؤيته لاسم المتصل.
جلس على طرف الفراش ثم تناول الهاتف وأجاب:
_ إيمان!
↚
"أنا هسألك حاجة وأقفل على طول"
قالتها إيمان فشعر يوسف بالغرابة حول سؤالها، تنهد وانتظر مواصلة حديثها التي تابعته بنبرة مهزوزة:
_ سبق وقولتلي إني أختك ومصلحتي تهمك، أنا عرفت من بابا إن أنت جيت النهاردة، أنا عايزة أعرف رأيك..
قطب يوسف جبينه، فما أهمية رأيه في ذلك، حالة من السكون طالت مدتها حتى أجاب يوسف مختصراً:
_ رأيي قولتو لخالي
_ "وأنا عايزة أسمعه منك"
قالتها إيمان مُصرة على سماع إجابته بينما أخرج يوسف تنهيدة مطولة، على الرغم من نفوره من تلك المحادثة إلا أنه سيواصل من أجل صديقه:
_ لو فعلاً عايزة رأيي، فأنا قولتلك رأيي قبل كدا
بعدm استيعاب سألته:
_ قولت إيه؟
نهض يوسف من على الفراش وسار في الغرفة ثم استرسل:
_ قولتلك خدي اللي بيحبك هيديكي مشاعره وقلبه ووقته وفلوسه وهيتقي ربنا فيكي، ووقتها كنت أقصد "بلال"
أنا كدا قولت كل اللي عندي، فكري كويس قبل ما تبلغي خالي برأيك
كلمـ.ـا.ته كانت بمثابة إنهائه للمكالمة، لم تطيل هي وكادت أن تغلق إلا أن يوسف لحق بها:
_ إيمان..
أجابته بلهفة:
_ نعم
بهدوء أردف:
_ لو سمحتي لو حصل نصيب بلاش المكالمـ.ـا.ت دي تاني..
تشـ.ـدقت إيمان بسخرية، لم تعقب بل أنهت المكالمة على الفور ثم ألقت هاتفها على الفراش بعصبية وهي تهتف بعدm تصديق:
_ بلاش المكالمـ.ـا.ت دي تاني!!
نظرت حيث تمكث والدتها أمامها وقالت من بين بكائها وهي تشير على نفسها:
_ أنا حاسة إنه طلب من صاحبه يتقدm لي عشان يخلص مني!
نهضت هادية بوجه عابس وصاحت هاتفة لإعادتها لصوابها:
_ يبقى تنـ.ـد.ميه، تثبتي له إن صاحبه مشافش النعيم غير على إيدك، وإنه دخل الجنة لما خطبك!
بكت إيمان كثيراً، لا تستوعب ما تطالبها به، وكأن الأمر بتلك السهولة، توجهت نحو الفراش واعتلت طرفه وأردفت وهي تطالع الفراغ أمامها بنبرة مهزوزة:
_ محسساني إن فيه زرار هدوس عليه أعرف أتعامل مع حد تاني
حركت رأسها ناحية والدتها وتابعت بتحسر شـ.ـديد:
_ دا أنا معرفتش أعمل صاحبة واحدة طول الـ السنين اللي فاتت دي، معرفتش راجـ.ـل حتى على سبيل الزمالة، مبعرفش أتعامل مع أي حد غريب عني، كل دا عشان كنت مركزة مع واحد وبس، واحد مفكرش مرة إنه يبصلي بنظرة مختلفة، محاولش يديني فرصة يمكن نظرته ليا تتغير ويحبني، دا أنا ضيعت عمري وشبابي كله بتمناه، برسم وبخطط لحياتي معاه، كل دا ضاع!
أنا حاسة إني كنت نايمة وصحيت فجاءة على عالم مش بتاعي، عالم معرفوش، مطلوب مني أتعامل مع ناس معرفش إزاي أتعامل معاهم، اتأقلم على راجـ.ـل تاني غيره!
إزاي هقدر أعمل كدا؟
أنا مقهورة أوي على كل اللي ضاع من عمري عشان واحد ميستاهلش ربع حُبي، أنا كنت مغفلة لما أقنعت نفسي إن الدنيا وردية والأحلام بتحقق
مفيش حاجة بتتحقق يا ماما
والمصـ يـ بـةإني كنت شايفة دا بعيني، بس عاندت وفي الآخر عِندي مكـ.ـسرش غيري.
ربتت والدتها على ظهرها بحنو وأردفت بعض الكلمـ.ـا.ت المشجعة:
_ يبقى تعملي اللي قولتلك عليه، تثب...
قاطعتها إيمان بتحركها من مكانها وصاحت بإنفعال شـ.ـديد:
_ بس أنا مش عايزة أثبت لحد حاجة، أنا عايزة أعيش لنفسي وأعوضها عن اللي اتسببت فيه
وقفت هادية أمامها ولم تعترض ما تريده بل وافقتها الرأي حيث قالت بهدوء:
_ خلاص يا حبيبتي، اعتبري العريس دا هو العوض ليكي..
جهشت إيمان باكية بحرقة، لا يتقبل عقلها ذلك التغير المفاجئ، كيف عليها السير في طريق لا تعلم إن كانت ستنجح في تخطيه أم لا، كيف تتقبل رجلاً آخر غير الذي سكن فؤادها، كيف ترسم طريقاً جديد لحياتها مع غيره بعدmا اجتازت طريقها مع يوسف في عقلها، كيف ستفعلها؟!
ضمتها والدتها بقوة لعلها تضمد جروحها وتدواي آلامها.
***
أنتبه يوسف لدخول شقيقه فترك الملف الذي كان يتفحصه، لاحظ جمود الآخر فسأله مستفسراً عما به:
_ في إيه مالك؟
شكل زياد بسمة لم تتعدى شفتيه وهو ينفي وجود أي شيء مريب:
_ مفيش، عايز أنام
حرك يوسف رأسه متفهماً أمره ثم انسحب إلى الخارج ليكمل قراءة ملف السيارات التي أحضره بلال في الصباح.
"بلال!"
ردد يوسف إسمه حينما تذكره، كاد أن يهاتفه إلا إنه تريث، فالوقت كان متأخراً، ولابد أن يكون قد غفى، ففضل مراسالته بدلاً عن مهاتفته، أرسل إليه رسالة على الواتساب مضمونها كان
"أنا عملت اللي عليا، الباقي عليك، ورينا شطارتك"
تقوس ثغره للجانب مشكلاً إبتسامة حين تخيل ردة فعله عنـ.ـد.ما يقرأ رسالته، لم تمر دقيقة إلا وهاتفه بلال الذي هلل غير مصدق:
_ أحلف
قهقه يوسف مؤكداً:
_ والله خلصت لك الموضوع، الدور عليك
بحماسة شـ.ـديدة هلل:
_ يعني المفروض أعمل إيه؟
أخبره يوسف قائلاً:
_ تتكلم مع أهلك وتروحوا تتقدmوا
أوصد بلال عينيه لبرهة وهو يعض على شفتيه السُفلى يحاول استيعاب الأمر، زفر بعض الأنفاس قبل أن يواصل استرساله بتردد:
_ قول إنك مش بتهزر يا يوسف وغلاوة لينة عندك
حالة من الذهول تملكت يوسف حينما ذكر بلال اسم لينة، تعجب من انتقائه لها خصيصاً دون غيرها، لكنه لم يريد أن يفسد تلك اللحظة الفريدة من نوعها على صديقه فأجابه دون تعقيب عما قاله:
_ والله ما بهزر، شوف اليوم اللي يناسبكم وعرفني أظبط مع خالي
صاح بلال الذي أسرت قلبه السعادة:
_ يا أخي ياريتك كنت قدامي، كنت بوستك
شعر يوسف بالتقزز منه وهتف مستاءً:
_ دا الحمد لله إني مش قدامك
انفجر بلال ضاحكاً بينما أردف يوسف بخبث:
_ وفره لبعدين..
لحظة إدراك ما يدور خلف كلمـ.ـا.ته الجريئة، نهره بلال غير مصدق وقاحته:
_ اتلم يالا، تصبح على خير
"وأنت من أهله"
هتف يوسف قبل أن ينهي المكالمة، واصل قراءة الملف الذي شعر بالغرابة حيال تلك السيارات الحديثة، يجب عليه الإنتباه جيداً قبل أن يقبل دخول تلك الصفقة معرضه.
بعد فترة ليست بقصيرة، استمع لأحد الأبواب الذي فُتح فرفع نظريه تلقائياً مع سماعه صرير الباب، خفق قلبه بشـ.ـدة حينما رأى تلك الطلة التي لم يرى مثلها من قبل.
لم يتوقف قلبه عن الخفقان بصورة مضطربة لرؤيته لخصلاتها الكستنائية المموجة التي تنسدل بعضاً منها على عينيها خافية جزءاً من وجهها، مظهراً جذاباً لم يتمكن من غض بصره تلك المرة.
لم يتحلى بتلك القوة التي يمتلكها أمام النساء فيغض بصره عنهن، شعر بنفسه الضعيفة التي أطالت النظر باستمتاع كأنه يشاهد فيلماً سينمائياً.
اختفت لينة خلف باب المرحاض، لم ترتدي حجابها ظناً أن الجميع نيام، فهي تكرر فعلتها من حين لآخر إن كانت في وقت متأخر متأكدة أنه لن يراها أحدهما، لكنها لم تحسب لتلك المرة مطلقاً.
جمع يوسف أوراقه سريعاً ثم هرول نحو الغرفة قبل خروجها لكي لا يسبب لها الحرج إن رأته، كان في حالة لا يرثى لها، مازال قلبه يخفق بقوة، تمايل خصلاتها لا يريد الإقلاع عن عقله.
لا يستطيع تفسير ما يحدث له، فقط عليه النوم لكي ينسى ما رآه، فلم يكن عليه رؤيتها في تلك الحالة الخاصة، التفت برأسه ناظراً إلى شقيقه النائم، راودته عشرات الأسئلة حينها وكان الأهم من بينهم "ماذا إن كان رأى أخيه تلك الطلة من قبل؟"
نفخ بضيق قد تملكه، شعر باختناق صدره، المزيد من الأوضاع التي تجتاحه دون أن يلم بمعناها، تشتت عقله ففضل النعاس ليجبر عقله على عدm التفكير بعد الأن.
لم يجافيه النوم إلا بعدmا تأكد من عودة لينة إلى غرفة والدته وأن أخيه لن يراها على تلك الحالة، أغمض عينيه فتشكلت صورتها في ظلامه، تسللت إبتسامة عفوية على ثغره لكنه سرعان ما أخفاها معاتباً نفسه الأمارة ثم حاول جاهداً أن ينام.
***
في الصباح الباكر، وخصيصاً في مطبخ المنزل، يجلس يوسف برفقة والدته التي هتفت بعدm تصديق:
_ بلال!
أماء لها يوسف مؤكداً:
_ أيوة يا أمي بلال، مالك استغربتي كدا ليه؟
جابت ميمي المكان من حولها بنظريها، في محاولة منها على هضم ما أخبرها به يوسف للتو، أجابته وهي تتشـ.ـدق، لا يستوعب عقلها بعد:
_ مستغربة إن بلال اللي يطلبها، مش عارفة ليه بس حاسة الموضوع غري...
صمتت ميمي من تلقاء نفسها حينما جمعت الحقيقة في عقلها، عادت ببصرها إلى يوسف ورددت بأعين ضائقة:
_ أنت عشان كدا مكنتش موافق تتقدm لها؟!
حرك يوسف رأسه بتأكيد ثم أوضح بعض النقاط التي تجهلها:
_ دا سبب من الأسباب، أول سبب إني مش حاسسها، ومش هروح أتجوز واحدة لمجرد إنك عايزاني أتجوزها يا أمي، وتاني سبب كان بلال، وقت ما أعترف لي أنه بيحبها رفضت الكلام عنها معاكي، مينفعش أتكلم على واحدة ممكن في يوم تبقى عرض صاحبي.
للحظة أعادت ميمي أفكارها ثم تشكلت بسمة على ثغرها ورددت برضاء تام:
_ بس والله فرحت، بلال كويس وإيمان تستاهل كل خير
تنهدت قبل أن تواصل:
_ ربنا يتمم لهم على خير يارب
نهض يوسف عن كرسيه وهو ينهي آخر قضمة من شطيرته ثم تحدث بفاه ممتلئ:
_ أنا ماشي عشان أتاخرت
اكتفت ميمي بإيماءة من رأسها، بينما دعت له بالتـ.ـو.فيق، توقف يوسف حين رأى خروج لينة من غرفة السيدة ميمي، قابلته هي بإبتسامة خجولة.
لم يرفع عينيه قط من عليها، يتذكر خصلاتها المموجة التي لمست شيء به، يعاتب ذلك الحجاب الذي يمنع رؤيته له مرة أخرى.
لعن ذاته لأنها تفكر بتلك الوقاحة، منذ متى ولينة كانت محور تفكيره بهذا الشكل، حمحم وسألها باهتمام:
_ رجلك عاملة إيه النهاردة؟
اتسعت عينيها وهي تجيبه مستاءة:
_ هي مش أحسن حاجة بس أحسن من إمبـ.ـارح، أنا مش هقدر أروح النهاردة دورس هشوف مجموعة بكرة وأحضرها
حرك يوسف رأسه متفهماً وضعها ثم قال بلطف:
_ سلامتك يا لي لي
"لي لي!!"
_ بربك ماذا قلت للتو، تفاجئ كليهما بما قاله يوسف، لم يرتب لذلك قط، ابتلع ريقه وهو يطالع عينيها المصوبتان عليه بذهول، لا يستطيع تفسير ما يوجد خلفهما، أهذه نظرة إعجاب لتلقيبه الجديد، أم صدmة لأنها لم تتوقع منه ذلك؟
طالت إجابتها عليها فهرب يوسف من أمامها سريعاً معللاً سبب هروبه:
_ أنا نازل ورايا شغل كتير، لو احتجتي حاجة كلميني
ابتعد عنها بضعة خطوات ثم أوقفته لينة بندائها:
_ يوسف..
التفت برأسه فأردفت هي ببسمة عـ.ـذ.بة ونبرة رقيقة:
_ الله يسلمك
بادلها إبتسامة ثم تابع خطواته إلى الخارج، لم ترفع لينة نظريها عن الباب الذي اختفى خلفه، قلبها يطرب فرحاً لذاك اللقب الجديد والفريد من نوعه، فكان أول من يناديها "لي لي" وبالطبع لن تسمح لغيره بقوله.
قرع رنين الجرس فتقدmت نحوه لتفتحه، فإذا بها شهد صديقتها جاءت للإطمئنان عليها قائلة بشفقة:
_ سلامتك يا روحي
" الله يسلمك يا شهد، تعالي"
قالتها لينة مجيبة إياها ثم حضرت السيدة ميمي مرحبة بها:
_ إزيك يا شهد، وإزاي مامتك أخبـ.ـارها إيه؟
بحرج شـ.ـديد ردت عليها:
_ بخير يا طنط الحمد لله، معلش جيت بدري، بس كنت عايزة أطمن على لينة قبل ما أروح دروسي
تشكل الإستياء على وجه ميمي، وهتفت معاتبة:
_ دا بيتك يا حبيبتي تيجي في الوقت اللي تحبيه
هدرت شهد ممتنة:
_ ربنا يخليكي يا طنط
استأذنت كلتاهن لدخول الغرفة، اعتلت لينة طرف الفراش بحذر لكي لا تؤلمها قدmها ورددت بملل:
_ اليوم لسه طويل أوي، هقعد أعمل إيه كل دا لوحدي
تأففت بملل شـ.ـديد ثم تحولت تقاسيمها إلى الحيوية وبنشاط واضح في نبرتها أمرت صديقتها:
_ بقولك إيه هاتي لما نحط ميك آب أهو أي حاجة تغير لي مودي
فحصت شهد المكان من حولها باحثة عن مستحضرات التجميل ثم تسائلت ساخرة:
_ مش شايفة أي ميك أب خالص
أشارت لينة إلى إحدى الحقائب ذات اللون الوردي وقالت:
_ في الشنطة البينك اللي على التسريحة دي
اتجهت شهد ناحيتها ثم أحضرتها وبدأن في وضع المساحيق المبالغة، فلا تسنح لهن الفرصة في وضع الكثير منه في الخارج، رفعت لينة المرأة البيضاوية الصغيرة التي بيدها وتفحصت ملامحها، ثم أغلقت شفتيها على بعضهما البعض لكي توزع أحمر الشفاه عليهما كاملاً.
أخفصت المرآة ثم وجهت سؤالاً إلى صديقتها التي لازالت تضع اللمسات الأخيرة:
_ ها إيه رأيك؟
نظرت إليها شهد بطرف عينيها ثم أرغمت على ترك ما معها لتتفحص ملامح لينة جيداً، ابتسمت بعفوية وهي تخبرها عن رأيها بلهجة صعيدية:
_ يا بوي على الحلاوة يولاد، دي أني لو راجـ.ـل كنت اتچوزتك يابه
قهقهت لينة عالياً وهتفت من بين ضحكاتها:
_ ربنا يحرسني لشبابي
شاركتها شهد الضحك ثم قضين وقتاً ممتعاً معاً.
***
اقتحم بلال مكتب يوسف الذي لم يتفاجئ بطريقة دلوفه، حرك رأسه مستنكراً عادته التي لن تتغير وردد ساخراً:
_ حاسس إنك لو دخلت باحترام مرة واحدة الكوكب هينتهي
قهقه بلال ثم لم يكترث كثيراً لما قال، فالحماس دون غيره يسيطر عليه الآن، اقترب من يوسف ثم أخفض نظريه عليه وسأله وهو يفتح العُلبة التي بيديه:
_ إيه رأيك، بس بصراحة، لو وحش قولي عشان أرجعه
نظر يوسف لما تحتويه العلبة، ابتسم حين رأى خاتم رقيق، وأبدى إعجابه به:
_ جميل أوي، دا لمين دا؟
قلب بلال عينيه مستاءً من سؤاله الساذج، أولاه ظهره وذهب ليجلس على أحد المقاعد وأجابه:
_ لإيمان، هيكون لمين يعني؟
عقد يوسف ما بين حاجبيه متعجباً من رده، ثم حاول ألا يعطي الأمر أكبر من حجمه وسأله مستفسراً:
_ أنت حددت معاد خلاص؟
بتلقائية أردف بلال وهو يطالع الخاتم باهتمام:
_ ولا حد يعرف لسه
ضـ.ـر.ب يوسف وجهه براحة يده غير مصدق تصرفه الأرعن، تنهد قبل أن يلقي بكلمـ.ـا.ته المستاءة:
_ وشاري خاتم وبتسألني عن رأيي وأنت أصلاً مفاتحتش أبوك في الموضوع؟!
أغلق بلال العُلبة بإبهامه ثم التفت إلى يوسف ودون تكلف في الحديث هتف بعجرفة:
_ دي سهلة دي، هما كلهم يتمنوا أشاور بس على واحدة، بنت خالك هتشوف دلع عمرها ما شافته
تقوس ثغر يوسف ساخراً وهو يسأله بفضول عما وراء كلمـ.ـا.ته:
_ إزاي يعني؟
وضع بلال العلبة على طاولة المكتب واستند بمرفقيه عليه قبل أن يجيبه بتكبر:
_
دلع هتلاقي، فلوس، هدايا، وحب هتلاقي كل حاجة تتوقعها هتلاقيها عندنا
لم يتأثر يوسف بعقلية بلال الساذجة وأردف بحكمة:
_ كل دول صدقني ولا يفرقوا قصاد إنك تتقي ربنا فيها
قطب بلال جبينه وصاح متسائلاً بإقتضاب:
_ وأنت عندك شك في كدا ولا إيه؟
حرك يوسف رأسه نافياً ثم أكد بقوله:
_ عارف، بس بأكد عليك، عارف يا بلال إيه اللي ممكن ينجح أي علاقة؟
استند بلال بذقنه على راحة يده وطالع يوسف بنظرات ساخرة مجيباً إياه:
_ إيه يا روميو؟
رمقه يوسف بنظرات متهمكة ثم تابع بنبرته الرخيمة:
_ إنك في الزعل تفضل زي ما أنت، تتعامل بطبيعتك وطريقتك بس تتجنبوا الكلام في الموضوع اللي زعلانين فيه، وتحددوا له وقت تتعاتبوا فيه
بعدm استيعاب بعد لحديث يوسف تسائل بلال باستفسار:
_ يعني إيه أفضل زي ما أنا؟!
أوضح له يوسف ما يقصد بسلاسة دون تعقيد:
_ يعني متاخدش جنب وتتجنبها وتقوم بالدور اللي هي بتقوم بيه، متحسسهاش إنك تقدر تعمل كل حاجة بنفسك ومش محتاج لها، أنت كدا بتعمل حاجتين
رفع يوسف إصبعيه وأشار على الأول وتابع استرساله:
_ أول حاجة إنك بتقولها ملكيش لازمة
انتقل إلى إصبعه الثاني وواصل:
_ وتاني حاجة بتكبر الفجوة اللي بينكم وفعلاً بتقدر تستغنى عنها لو مش دلوقتي فبعدين
صاح بلال ساخراً:
_ قول يا نزار يا قباني قول وأطربني
بحث يوسف بعينيه سريعاً على شيئاً يمكنه إلقائه عليه، أمسك بمزهرية صغيرة الحجم وألقاها عليه بغيظ شـ.ـديد هاتفاً بحنق:
_ أنا غلطان إني بتكلم مع واحد زيك
لَقِفها بلال قبل أن تسقط أرضاً وأعادها إلى موضعها وهو يردف متسائلاً:
_ وأنت عرفت الكلام دا منين يا حنين؟
أشار يوسف بيده على الأرفف الخشبية خلفه والتي تضم بعض الكتب وقال موضحاً:
_ من القراية يا ظريف
حقاً ينتابه الفضول حول ذلك اليوم الملئ من الأمور التي ينهيها في فترة وجيزة، تنهد ثم سأله بفضول شـ.ـديد:
_ أمـ.ـو.ت وأعرف بتجيب وقت منين لكل دا، شغل وقراية ومننساش البرنسيس لينة
نهره يوسف بإقتضاب:
_ ملكش دعوة بيها يا خفيف وقصر
حرك بلال راسه لا يصدق رفضه المستمر في الحديث عنها، ابتلع ريقه وبحنق صاح:
_ لا أنا بدأت أغير منها، دا أنت مبتهتمش بصاحبك نص الإهتمام دا
تأفف يوسف ثم قلب عينيه وردد مستاءً:
_ أنت عبـ.ـيـ.ـط يا بلال، أنت يا حبيبي حاجة وهي حاجة، أنت صاحبي وأخويا
صمت يوسف وكأن الحوار انتهى، بينما لم يكتفي بلال بتلك الإجابة الناقصة وأردف سؤاله:
_ وهي إيه يا صاحبي؟
بتلقائية أجابه:
_ أمانة صاحبي.
أستاء من إجابته التي لم تتغير منذ سبعة أعوام، لم يستطيع أن يمرق الأمر كسابق مـ.ـر.اته وقال:
_ أنت ليه عمرك ما شوفتها مثلاً أختك، دايماً بترد إنها أمانة، يعني إيه أمانة دي؟ مكانتها إيه يعني؟
فكر يوسف لوقت قبل أن يجيبه:
_ مفكرتش قبل كدا في مكانتها، أصل هتفرق إيه يعني، المعاملة والأسلوب والمسؤولية عمرهم ما هيتغيروا
نهض بلال ليهم بالمغادرة، ثم التقط علبة الخاتم وهو يردد بحماسة:
_ طب سلام يا حنين
"سلام يا بـ.ـارد"
قالها يوسف ثم هاتف السيد سمير لكي يخبره بما توصل إليه حديثاً في مجموعة السيارات التي تفقدها جيداً.
***
مالت برأسها على كتف صديقتها متسائلة عما تفعله:
_ بتعملي إيه؟
تأففت لينة بضجر ثم ألقت بهاتفها على الفراش بعدmا فشلت في الوصول إلى مرادها، تنهدت شهد وطالعتها بشفقة وهي تقول:
_ أنتِ لسه بدوري عليه؟!
أوصدت لينة عينيها لبرهة في محاولة منها على التماسك لكي لا تتلف أعصابها وأردفت بنبرة مهزوزة:
_ مش لاقية حاجة عنه خالص، معقول في بني آدm في العمر دا معندوش أي صفحة تواصل؟!
أخرجت تنهيدة مهمومة قبل أن تواصل بحـ.ـز.ن شـ.ـديد:
_ مفكرش حتى يسأل فيا ولا يدور عليا، سبع سنين من غير ما أسمع صوته، من غير ما يطمن عليا معقول موحشتوش، أومال لو مكنتش توأمه؟!
والمفروض يبقى حاسس بيا، بس الظاهر إني مش في دmاغه أصلاً، إنجلترا نسيته أهله
صمتت لينة ثم رددت ساخرة:
_ تقريباً اعتبرني مُت مع اللي مـ.ـا.توا!
شعرت شهد بالشفقة حيالها، أدmعت عينيها متأثرة بمشاعرها التي تفيض بيها، اقتربت منها وضمتها بقوة لعل فعلتها تنجح في تضميد جـ.ـر.حها.
بعد مدة ابتعدت عنها لينة وأخبرتها بإمتنان:
_ شكراً عشان أنتِ موجودة مش عارفة من غيرك كنت هعمل إيه
اتسع ثغر شهد بإبتسامة وهي تشاكسها:
_ روميو موجود برده يسد مكاني
غمزت لها بعينها فابتسمت الأخرى بحياء، تلونت وجنتيها بالحُمرة فهللت شهد غير مصدقة:
_ بتتكسفي يا لينة مش ممكن
لكزتها لينة في ذراعها ومن ثم اختفت ابتسامتها وبدأت تردف ما يكمن بداخلها:
_ أوقات بحس إني غلط ومينفعش أعمل كدا، بس بجد غـ.ـصـ.ـب عني، يوسف هو مصدر الحماية والأمان بالنسبة لي، أنا ببقى مطمنة وهو موجود، البيت والدفا والعيلة بيتمثلوا فيه هو، هو اللي عطاني كل دول تاني بعد ما راحوا مني، ت عـ.ـر.في بحب ملامحه أوي..
تقوس ثغرها ببسمة عـ.ـذ.بة متذكرة ملامحه الرجولية الجذابة:
_ بحبه يضحك عشان أشوف غمزاته، بحب حتى النقار بينا، كل حاجة فيه حلوة، لكن أنا حلوة بيه وبوجوده، أنا بحبه أوي يا شهد...
زفرت دmعة على مقلتيها مناقضة حديثها السابق:
_ وفي نفس الوقت بحس إني أنانية أوي، أنا وقفت له حياته كلها، مش مهتم غير بيا وبمصلحتي وبرضايا، مأجل جوازه عشاني، مأجل مستقبله كله بسببي، والمشكلة إني مش مضايقة أنا مبسوطة بكدا عشان مش عايزاه يكون لحد تاني، عايزاه يوم ما يفكر في مستقبله يبقى معايا أنا وأكون جزء منه.
اقترحت عليها شهد وهي تطالع الفراغ أمامها:
_ ما يمكن أنتِ اللي شايفة كدا بس، يعني يمكن هو اللي عايز يأجل حياته ومستقبله، مش يمكن يكون بيح....
قاطعتها لينة بنبرة مهزوزة:
_ أنا بالنسبة له أمانة وصاه صاحبه عليها قبل ما يمـ.ـو.ت!
استنكرت شهد تفكيرها الساذج وهتفت بمعتقداتها:
_هو فيه حد بيعمل كدا لمجرد وصية؟ دا أنتِ خالك نفسه سابكم ومهتمش بيكم، واحد غريب هيصون الأمانة بالطريقة دي؟
عارضتها لينة قائلة:
_ أيوة يوسف يعمل كدا، يوسف بيتقي ربنا في أهله مش أنا بس، وفي شغله كمان، بيدي لكل حاجة حقها وزيادة وصاحب صاحبه أوي، وبما إني أخت صاحبه اللي وصاه عليا أنا وعلي فأنا شايفة اللي بيعمله دا طبيعي جدا لشخصية زي يوسف!.
شعرت شهد بأنها لم تعد تعي شيء، تفحصت ساعة يدها ثم شهقت بذعر حين رأت تأخر الوقت، انتفضت من مكانها وهي تردد:
_ أنا اتاخرت أوي
هرولت إلى الخارج بخطوات سريعة، تابعتها لينة بتهمل بعدmا التقطت حجاب رأسها، فهي بالكاد تستطيع الضغط على قدmها، ودعتها شهد بحرارة ثم أغلقت الباب.
تفاجئت لينة بفتح الباب مرة أخرى وإذا به يوسف، تعجبت من قدومه فهو لا يأتي في مثل ذلك الوقت، قطبت جبينها بغرابة وسألته مستفسرة:
_ أنت كويس، أصل مش بتيجي في الوقت دا
اقتربت منها يوسف وهو يجيبها بإبتسامة لا تعلم سببها:
_ جيت أطمن عليكي وراجع تاني..
كان يطالعها بنظرات مريبة، وابتسامته تزداد كلما مر الوقت عليهما، ابتلعت لينة ريقها بخجل وهـ.ـر.بت بعينيها بعيداً عنه، بينما لم يرفع يوسف نظريه عليها، يطالعها بإعجاب شـ.ـديد فلم يراها على تلك الحالة الجريئة من قبل.
حمحم يوسف قبل أن يردف متسائلاً:
_ ميمي فين؟
أجابته باختصار:
_ في المطبخ..
حرك رأسه متفهماً ثم همس لها وهو يمر بجوارها:
_ المكياج حلو أوي..
تركها وتابع تقدmه نحو المطبخ بينما اتسعت مقلتيها بذهول، مدت يدها وتحسست شفتيها فتفاجئت بذلك اللون الأحمر الذي ترك أثره على إصبعها، أخرجت زفيراً عميق وهو تعود إلى الغرفة حتى تمسح آثار المساحيق التي نسيتها تماماً.
وقفت أمام المرآة ثم سحبت أحد المناديل الدائرية من علبتها الإسطوانية، كادت أن تمسح زينتها إلا أنها تراجعت، طالعت ملامحها وكلمـ.ـا.ت يوسف تتردد في عقلها، تدفقت الدmاء في عروقها فشعرت بالحرارة في ثائر بدنها وخصيصاً وجنتيها.
ابتسمت بحياء يشوبه السعادة التي أسرت قلبها، تنهدت ثم أعادت المنديل القطني إلى علبته، قررت أن تترك زينتها بضعة من الوقت بعد، لربما يعيد كلمـ.ـا.ت الغزل خاصته ثانيةً.
استدارت بجسدها وأمسكت بمقبض الباب، زفرت بعض الأنفاس قبل أن تنسحب إلى الخارج، فتحت الباب أثناء خروج يوسف والسيدة ميمي من المطبخ، كذلك أنتبها ثلاثتهم إلى مجيء زياد من الخارج.
أعاد يوسف النظر إلى لينة التي مازالت على زينتها واقترب منها قبل أن تخطوا خطوة إلى الخارج وأمسك بمقبض الباب أمراً إياها:
_ امسحي اللي على وشك دا
أغلق الباب وتوجه ناحية أخيه متسائلاً عن أحواله:
_ ها عملت إيه في الإمتحان؟
بإقتضاب أجابه:
_ ماشي حاله
أوقفه يوسف بوضع يده على كتفه ثم أردف بنبرة هادئة:
_ كفاية إنك تعمل اللي عليك وبس
ابتسم زياد له مردداً:
_ بعمله يا يوسف متقلقش
بادله يوسف الإبتسام قبل أن يسأله مرة أخرى:
_ هتخلص امتى؟
تنهد بنفاذ صبر فهو يريد الخلاص من تلك الدوامة التي لا تنتهي:
_ كمان يومين
"وأنا هبدأ"
قالتها لينة من خلفهم بنبرة يملئها التـ.ـو.تر والخوف، استشعر يوسف خوفها، وحاول تشجعيها ببعض الكلمـ.ـا.ت:
_ أنتِ قدها يا لي لي ولا إيه؟
تلألأت العبرات في عينيها ثم انسحبت إلى الغرفة عنـ.ـد.ما فشلت في مجارة الحوار معه كما تفعل دوماً، تحدثت السيدة ميمي وهي تطالعها حتى اختفت من أمامهم:
_ مأصليش شوفتها خايفة كدا
شهيقاً وزفيراً فعل يوسف وهو يفكر في شيء يمكنه محي تـ.ـو.ترها ذاك، ابتعد عن الجميع بينما ولج زياد غرفته ليبدل ثيابه، كما انتهزت السيدة ميمي فرصة تواجدهم جميعاً وذهبت لتحضر الغداء.
أنهى يوسف مكالمته التي طالت لبضعة دقائق بقوله:
_ بس أكيد النهاردة، تمام شكراً، مع السلامة
جلس أربعتهم حول الطاولة وبدأوا يتناولون طعامهم، كما لاحظوا حالة لينة المضطربة، فهي في العادة لا تكون هكذا لكنهم لم يعقبَ.
***
حل المساء، الجميع في غرفهم، عدا يوسف الذي يقف في نافذة الردهة في انتظار أحدهم، لفت انتباهه إحدى السيارات التي وقفت أسفل بنايتهم، ومن ثم صدح رنين هاتفه.
أجاب وهو يعود إلى الداخل:
_ تمام، إحنا الدور التاني
وضع هاتفه على الطاولة ثم توجه إلى غرفة والدته، طرق بابها بهدوء، جاءته السيدة ميمي فأخبرها بنبرة خافتة:
_ الأوضة بتاعت لينة جت متخرجوش من الأوضة غير لما العمال يمشوا
أماءت له بقبول ثم أغلقت الباب بينما نادى هو بصوت جهوري على أخيه ليساعدهم، نقل العمال الغرفة بمساعدة يوسف وزياد وقاموا ببنائها، ثم ذهب يوسف إلى غرفته وعاد مرة أخرى بعدmا أحضر تلك الأرجوحة التي كان يخبئها في مكان بعيد عن الأعين.
قام بتعليقها في زاوية مناسبة لها، ثم قام بوضع الأرفف الخشبية على أحد الحوائط المجاورة للأرجوحة، وأخيراً وضع المصابيح الصغيرة في الفراغات الدائرية في المرآة، انتهى من عمله وجاب الغرفة بعينيه متفحصاً كل ركن بها باهتمام.
تنهد بـ.ـارتياح وخرج منها ولم يصبر ثانية ليرى وجه لينة عنـ.ـد.ما ترى غرفتها الجديدة لطالما حلمت بكل ثغرة فعلها هو بها.
طرق باب غرفتهما وهو يردد بحماس:
_ ممكن تخرجوا دلوقتي
فتحت ميمي الباب أولاً ثم تابعتها لينة التي سألته بملل فمزاجها ليس في محله:
_ أنت كنت بتعمل إيه كل دا؟
بإبتسامة هادئة أجاب:
_ تعالي وأنتِ تشوفي بنفسك
قرع رنين هاتف السيدة ميمي فاستأذنت منهما قائلة:
_ أنا جاية أهو ياولاد
عادت إلى غرفتها بينما توجه يوسف إلى غرفة لينة التي تبعته، ولج كليهما إلى الغرفة ثم فتح يوسف الإضاءة فظهرت معالم غرفتها الجديدة بوضوح.
اتسعت مقلتي لينة بذهول، لوهلة لم تصدق ما رأته، الغرفة تماماً كما كانت تتخيلها في عقلها، اختلست النظر إلى كل أنش بها، خفق قلبها بقوة كما ارتفع ادرينالها فتسبب في حماسة زائدة داخلها، ارتفعت ضحكاتها التي أسعدت قلب يوسف للغاية.
فهذا كان مراده من البداية، رؤية بشاشة وجهها وإعادة حيويته، تنهد ثم وقف يتابعها، بينما عادت إليه بسعادة غامرة لا تسعها، وبدون ترتيب مسبق عانقته ممتنة له:
_ شكراً
صعق يوسف من تصرفها المفاجئ، طالع أمامه بعينيان جاحظتان، لا يجرأ على التحدث أو إبداء أي ردة فعل وكأن حركته شُلت تماماً، تسارعت نبضات قلبه التي تستند عليه برأسها.
هناك مشاعر متناقضة داخله، فجزء يرفض البتة وضعهما ذاك، والآخر يتمنى لو لا تنتهى تلك اللحظة مطلقاً.
انتبهت لينة على سخافة تصرفها، تراجعت للخلف بهدوء وقد تلونت وجنتيها بالحمرة الصريحة، حمحمت بحرج وأردفت بنبرة متحشرجة:
_ أنا آسفة بس أنا اتحمست و...
"دا كأن الأوضة لسه جديدة"
قالتها ميمي مقاطعة كلمـ.ـا.ت لينة التي لم تنتهي، لم يرفع يوسف نظريه عنها بينما لم تحاول لينة النظر إليه قط، ظلت منكسة الرأس تعقب فقط إذا حدثتها ميمي.
انسحب يوسف من الغرفة وعاد إلى غرفته، لقد تملك الغضب منه، كز أسنانه بضيق شـ.ـديد، فالأمر لم يروق له بالمرة، جرأتها معه لم يحبها، بل أحبها لذلك لم يحب إعجابه للوضع.
هي تصرفت بتلقائية غير مرتب لها، لكن ماذا عنه؟ لماذا لم يمنعها؟ ما تفسيره عن ضعف شخصيته حينها، لماذا خفق قلبه بتلك القوة لحظتها؟ رفع رأسه وطالع سقف الغرفة وهو في حالة ضياع تام، أخرج تنيهدة غاضبة لاعناً تقبله للأمر.
"مالك؟"
سأله زياد باهتمام حين ولج للغرفة ولم يشعر به يوسف، حرك رأسه يميناً ويساراً نافياً وجود ماهو هناك، نهض وقال بإقتضاب:
_ مفيش، تصبح على خير
بدل ثيابه ثم اعتلى الفراش، دسر الغطاء أعلى رأسه لكي لا يواجه أخيه، لم يكف عن تأنيب ذاته عما حدث، وظل يذكر نفسه بأنها وصية صديقه ولابد أن يحافظ عليها ولا يسمح بحدوث شيء كهذا مرة أخرى.
في الغرفة المقابلة، انسحبت ميمي تاركة لينة تعيد كل ما يخصها في أماكنها كما كانت، أغلقت لينة الباب بعد ذهاب السيدة ميمي ووقفت خلفه لاعنة تصرفه الأرعن الذي حتماً تسبب في مضايقة يوسف.
بالتأكيد تضايق، فهو لم يردف حرفاً منذ ذلك الحين، تأففت بصوت عالٍ وضـ.ـر.بت رأسها بخفة متذمرة:
_ أنا غـ.ـبـ.ـية
***
شهيقاً وزفيراً فعل للمرة العاشرة، ثم ابتلع ريقه مراراً، يشعر بالتـ.ـو.تر الممزوج بالحرج، لكن إصراره على الأمر كان خير داعم له.
تنهد وهو يمرر أنظاره بين والديه، فقط يريد البداية وبعد ذلك سينطلق بالكلمـ.ـا.ت دون توقف، لا يدري كيفية البدء، تأفف حينما فشل، منذ متى وهو يفشل في إخبـ.ـارهما عما يريده؟!
يمكن لأنه يخشى رفضهم؟! ستكون فيها هلاكه حتماً، أوصد عينيه لبرهة طارداً أفكاره الغـ.ـبـ.ـية، فهم يتمنون زيجته اليوم قبل الغد، إذاً فاحتمالية رفضهم ضعيفة.
لاحظت والدته تصرفاته المريبة التي كان عليها منذ جلوسه معهما، قطبت جبينها وسألته مستفسرة:
_ مالك يا بلال، مش على بعضك كدا ليه من وقت ما قعدت معانا
ابتسم لها، فتلك هي البداية، شكرها داخله ثم بدأ حديثه بلهجة حيوية:
_ بصراحة عايزة أتكلم معاكم في موضوع كدا
سحب سمير جهاز التحكم ثم أخفض صوت التلفاز، التفت إلى بلال ناظراً إليه في انتظار ما سيخاطبهما فيه، أخرج بلال تنهيدة وبنبرة يسيطر عليها التـ.ـو.تر أردف:
_ أنا عايز أتقدm لـ بنت خال يوسف
دقت أسارير السعادة قلب شهيرة، فهذا الخبر الذي تنتظره بفروغ صبر، هذا وحيدها وتريد أن تراه في بيته مع شريكته، نهضت عن أريكتها وصاحت زغاريدها التي دوت في المكان.
تفاجئ كليهما بتصرفها وأسرع سمير في نهرها معنفاً إياها بحنق:
_ بس بس، أنتِ بتعملي إيه، دا لسه بيقول عايز يتقدm
توجهت شهيرة إلى بلال وجلست بجواره، طالعته بأعين لامعة وبنبرة سوية قالت:
_ دا أنا مستنية اليوم دا من زمان أوي
اتسعت إبتسامة بلال ثم أنتبه لأسئلة والده الذي
إنهال بها عليه:
_ إسمها إيه ومن عيلة إيه، أبوها شغال إيه و...
قاطعه بلال بإحترام:
_ إيه يا بابا كل دا، بقولك بنت خال يوسف يعني مش محتاج تسأل أصلاً
رمقه سمير بنظرات متهكمة لسذاجته وهتف مستاءً:
_ دا زياد أخو يوسف نفسه مش شبهه، والاتنين من نفس البطن، كل واحد فيهم مختلف، ما بالك ببنت خاله؟
لم يتحمل بلال سوء ظنه بها وأوضح له بنية حسنة:
_ لا يا بابا البنت محترمة جداً، أنا أعرفها
تدخلت شهيرة بقولها:
_ وأنا كمان، أينعم أنا متكلمتش معاها كتير، بس ارتحت لها وكفاية إنها بنت أخو ميمي
قلب سمير عينيه متزمجراً من عقليتهم المحدودة وصاح غاضباً:
_ برده هتقولي بنت أخو ميمي، أنا مليش دعوة هي قريبة مين، ليا دعوة بيها وبالبيت اللي اتربت فيه، هي وأهلها كويسين ومحترمين يبقى تمام
لم يرحب بلال بكلمـ.ـا.ته، شعر بالضيق يجتاحه، لكنه لن يستلم، زفر أنفاسه قبل أن يردف:
_ يعني هنتقدm امتى؟
بنفاذ صبر أجابه:
_ لما أسأل عليهم الأول قبل كدا لأ
أعاد صوت التلفاز وتابع إلى ما كان يشاهده، بينما نهض بلال متذمراً، فلم يتوقع رد كهذا مطلقاً، ظلت شهيرة ترمق زوجها بنظرات مشتعلة فهي استشعرت ضيق بلال وهذا آخر ما تحب أن تراه.
↚
في الصباح الباكر، نهض يوسف محاولاً التغاضي عما حدث البـ.ـارحة، مشاعر مختلطة تتخبط به، فهناك النفور وعدm الرضاء بما فعلته تلك المشاكسة العفوية وشعور آخر الإعجاب بما فعلته، ولن ينكر أن هذا الشعور كان الأقوى من بينهما، وهذا ما يضايقه.
تناول شطيرة سريعاً قد أعدها بنفسه لكي يفر هارباً من المنزل قبل أن يواجه ساكنيه، تفاجئ بصوتها العـ.ـذ.ب الذي ناداه من خلفه:
_ يوسف..
توقف عن السير ثم استدار إليها فتفاجئ بوضعها، عقد ما بين حاجبيه بغرابة متسائلاً عن سبب حالتها:
_ أنتِ لابسة كدا وراحة فين؟
اقتربت منه والحُمرة تكسو وجنتيها ثم أجابته برقة:
_ المسيو عاملنا إمتحان، فلازم أروح بدري قبل معاد الدرس
رفع يوسف حاجبيها متفهماً الأمر، كان متعجباً من ابتسامتها المرسومة على ثغرها الصغير، شعر بعلامـ.ـا.ت استفهام خلفها لكنه لم يعقب، حمحم ثم أردف وهو يعود مارً بجوارها:
_ ثواني وراجع
تابعت لينة سيرها إلى الخارج لكي ترتدي حذائها لحين عودة يوسف، تفاجئت به يحمل شطيرة بيده ويناولها لها قائلاً بإختصار:
_ كلي حاجة قبل ما نمشي
اتسعت إبتسامتها وشكرته بمشاكسة:
_ تشكولار
(ترجمة: شكراً)
لم يمنع يوسف ضحكته التي تشكلت على شفتيه رغماً عنه، هز رأسه مستنكراً لغتها التركية التي تنطقها من آن لآخر ثم هتف:
_ مش عارف التركي دا آخرته إيه؟!
أجابته بتلقائية:
_ على تركيا أكيد، أومال أنا بتعلم كل دا ليه؟
رمقها يوسف بأعين ضائقة، فإجابتها مبهمة بعض الشيئ فقال بفضول:
_ ودا هيحصل إزاي يعني؟!
فكرت لينة لثوانٍ قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة تحديداً، يمكن رحلة أو يمكن أكمل تعليمي هناك، الله أعلم
حملق بها يوسف لبرهة، لوهلة لم يستوعب حديثها المراهق وصاح بعدm رضاء:
_ مفيش الكلام دا، تعليمك هنا إن شاء الله
قلبت لينة عينيها وبميوعة هتفت:
_ حضرتك بترفض بصفتك إيه؟ خطيبي؟ جوزي؟ مرتبطين؟!
تفاجئ يوسف من ردها الذي ألجم لسانه، طالعها لوقت ثم أبدى رفضه لحوارها السخيف بنبرته المحذرة:
_ لينة..
انفجرت ضاحكة وهي ترى عينيه يتأجج فيهما الغضب المصاحب للرفض التام وأردفت ممازحة:
_ بهزر معاك يا "سوفي"
"سوفي!!"
رددها يوسف وهو يطالعها بطرف عينيه لا يصدق تلقيبها له، من أين أتت به تلك؟
"طب بزمتك مش حلو؟"
قالتهم لينة متعمدة جرأتها معه، لعله يشعر بمشاعرها نحوه، كان الآخر متفاجئاً من جرأتها معه منذ البـ.ـارحة، لم يستطيع مجراتها كما يفعل، يشعر وكأن هناك خطأ في الأمر، ما الذي بدل أحوالها هكذا بين ليلة وضحاها؟
نظر إلى يدها التي مُدت له متعجباً فأوضحت هي مازحة:
_ أنتِ طمعان في السندوتش اللي جايبهولي ولا إيه؟
انتبه يوسف إلى الشطيرة التي لازالت بيده، أعطاه لها ثم حاول الخروج من عدm استيعابه لتصرفاتها التي باتت مبهمة بقوله:
_ يلا عشان متتأخريش
أغلق باب شقتهم وهبط درجات السُلم سريعاً، متجاهلاً تصرفاتها المريبة التي تفعلها، استقلا في السيارة دون حديث لكن الأجواء لم تخلوا من دندنة لينة بصوتها العـ.ـذ.ب:
"روق مبقاش في ما بينا فروق، ولا فـغلاوتك مخلوق يامعلي في قلبي الشوق،
يوم.. يوم ندي الدنيا طناش، لسه أنا وأنت معشناش، فك ومتحكبهاش"
ثم انتقلت إلى أغنية أخرى بخفوت:
"والشوق بيبات يا حبيبي في حـ.ـضـ.ـني ساعات وساعات لو زاد الشوق مينيمنيش،
لا نهار ولا ليل ملكش في خيالي بديل ولا من أيامك يوم مبيوحشنيش"
التفت يوسف حيث تجلس مستفسراً عن حالتها الغريبة اليوم:
_ مالك يا لينة؟!
طالعته بأعين لامعة مجيبة إياه بهدوء:
_ مفيش، بدندن..
أماء برأسه كأنه لم يكن يعلم أنها تدندن، عاد بنظريه متابعاً الطريق أمامه مشكلاً إبتسامة على محياه بسبب عودتها لمواصلة غنائها دون اكتراث لسؤاله كأنه لم يُسأل.
صمتت من تلقاء نفسها حين صدح رنين هاتف يوسف الذي أجاب بجدية بعدmا أوصله بسماعة أذنيه:
_ إيه يا عمار؟
أجاب الآخر بعملية:
_ معلش يا أستاذ يوسف بس عايزينك تيجي الوقتي
بإقتضاب قال يوسف:
_ أنا ورايا مشوار وجاي، قدامي حوالي نص ساعة وأوصل
أصر عمار علي مجيئه موضحاً السبب:
_ معلش يا أستاذ يوسف بس بنت سيلمان المحمدي هنا وطلباك بالإسم
شـ.ـد يوسف تقاسيمه معاتباً عقله على نسيانه مردداً بضيق:
_ دا أنا نسيت خالص، فعلا والدها كلمني وقالي إنها جاية النهاردة تغير عربيتها، بس أنا برده مش هعرف أجي قبل ما أخلص مشواري خليها تستنى شوية
وجه عمار نظريه على الفتاة التي تتأفف وتجوب المكان بعجرفة ثم أردف بقلة حيلة:
_ أمري لله هحاول ألهيها بأي حاجة على ما توصل، مع السلامة
كانت تتابع المكالمة بآذان صاغية، فهناك إمرأة يتحدثان عنها فكيف لن تصغي جيداً، حمحمت بتردد قبل أن تهتف:
_ أنا معايا وقت ممكن تروح تشوف شغلك وبعدين توصلني
نظر إليها يوسف لبرهة ثم أبدى رفضه قائلاً:
_ لا لا هوصلك الأول تستنى هي..
أصرت لينة علي ذهابه إلى عمله فهي تريد رؤية تلك المرأة:
_ بجد والله لسه معايا وقت متقلقش
بعد تفكير وإلحاح من لينة وافق يوسف الذهاب إلي عمله وإنهاء تلك المقابلة سريعاً حتى لا يخسر التعامل مع والدها الخلوق، ومن ثم يقوم بتوصيل لينة لاحقاً، على الجانب الآخر فرحت لينة بذهابها معه فقط لترى من يتعاملن معه.
بعد مدة قصيرة، وصل يوسف إلى مكان عمله، ترجل من السيارة بعدmا صفها أمام المعرض، ترجلت لينة أيضاً لترافقه إلى الداخل.
استقبل عمار يوسف بفرحة عارمة شاكراً إياه بداخله على وصوله سريعاً وإنقاذه من بين أسنان تلك الفتاة:
_ كويس أنك جيت يا أستاذ يا يوسف والله
"هي فين؟"
تسائل يوسف فلم يكن هناك فرصة لإجابة عمار، فكان ظهورها خير إجابة:
_ أخيراً وصلت يا جو
فغرت لينة فاها حين وقعت عينيها عليها، حدجتها كلياً بصدmة، بدايةً من خصلاتها البنية المحررة إلى تلك التنورة القصيرة التي تظهر بشرتها الحليبية المثيرة، ناهيك عن قميصها ذو الفتحة التي تبرز مفاتنها الواضحة للغاية، وحذائها الشفاش بحبال ملتفة حول كاحلها.
شهقت لينة بداخلها، الأمر كان صعب تصديقه، أشبه بالحلم، أهذه وأشباهها يتعاملن مع يوسف!
شعرت بغصة مريرة في حلقها، تابعت اقتراب الأخرى وانتبهت جيداً لأي تخطي في حدودها مع يوسف فهو ملكية خاصة ولا يمكن لأحد ملامسته أو الإقتراب منه.
"واحشني يا جو بجد"
أردفتهم الفتاة بحميمية وهي تصافحه، لكنها سرعان ما تراجعت معتذرة:
_ I'm sorry نسيت إنك مش بتسلم
بإبتسامة مقتضبة تحدث يوسف:
_ إزيك يا آنسة يُمنى، أستاذ سيلمان كان مبلغني إنك عايزة تغيري عربيتك، ياريت نبدأ نتفرج بسرعة لأني ورايا مشوار ضروري
اتسع ثغرها بإبتسامة ساخرة، ناظرة للأعلى بتهكم ثم هتفت مستاءة:
_ لا مشوار إيه بس أنت مش عارفني، لازم أخد وقتي في اختيار شريكتي الجديدة، أنت نسيت اخر مرة جيت هنا قعدت حوالي ٣ ساعات
لعن يوسف عقله الذي قبل عرض لينة وجاء لهذا المكان قبل أن يقوم بتوصيلها أولاً، تنهد في محاولة منه على كسب بعض الهدوء، ضغط على شفتيه السفلى مردداً بفتور:
_ بقول نبدأ نتفرج عشان نكسب وقت
بميوعة مبالغة هدرت:
_ Sure يلا..
شعرت لينة لوهلة أن رائحة حريق تفوح منها، هي تحترق فعلياً من الداخل، لا يوجد عضو لا يثور ويتآكل غيظاً من تلك المدللة، انتبهت إلى أمر يوسف الذي وجهه لها وهو يشير إلى زواية ما:
_ معلش لينة أقعدي في الصالون على ما أخلص
ببرودٍ معاكس تماماً لثورتها التي نشبت داخلها قالت:
_ لو سمحت بسرعة عشان متأخرش
رمقها يوسف بنظرات معاتبة فهي من أصرت على مجيئهم إلى هنا، لم يعقب على كلمـ.ـا.تها وتركها ليتبع الأخرى، بينما لم تستطيع لينة الإبتعاد عنهما، ظلت واقفة على مسافة قريبة منهما لكي تكون ملمة بما يحدث.
لم تتوقف عن سب الفتاة داخلها، فكانت تتعمد لمس يوسف في أي فرصة تسنح لها، تتدلل بخطواتها كـطفلة ذات عشر سنوات، تركض تارة وتقفز تارة وتتصنع حـ.ـز.نها الشـ.ـديد تارة أخرى إن لم يعجبها سيارة قامت بتجربتها.
تأففت لينة بضجر، فالصبر لديها بلغ ذروته ولم تعد تحتمل تلك السخافة التي تدور أمامها، كم ودت كثيراً أن تنقض عليها تنتف لها خصلاتها التي تداعبهن من آن لآخر.
على جانب آخر، تصنعت يُمنى الإرهاق ثم أردفت بتعب:
_ لا بجد تعبت، هاخد بريك خمس دقايق ونرجع نكمل
فقط كان يطالعها يوسف والغيظ يتآكله، فهي فتاة مدللة للغاية وهو يكره التعامل مع ذلك النوع من الفتيات، خرج من شروده على صوتها العـ.ـذ.ب:
_ هروح التويلت أعدل الروج وأجي تاني
ودعته بأصابعها البيضاء الرفيعة ظاهرة طلائها الأحمر الفاقع، أوصد يوسف عينيه حينما ابتعدت عنه، بينما هرولت لينة خلفها ودلفت إلى المرحاض بخطوات مهرولة متوعد لتلك المدللة.
وقفت يُمنى أمام المرآة تعيد وضع أحمر الشفاه خاصتها، ثم وضعت أعلاه مادة شفافة أضافت لشفتيها رونقاً خاص.
وقفت لينة بجانبها ثم وضعت حقيبتها على الحوض، التفتت بجسدها حيث تقف الفتاة وطالعتها لوقت، تفكر جيداً فيما تنوى فعله، مالت برأسها يميناً ويساراً مصدرة صوت طقطقة عنقها، كذلك قامت بقرع أصابع يديها مصدرة صوت فرقعة قوية انتبهت له يُمنى التي اختلست النظر إليها من خلال المرآة.
اقتربت منها لينة بضعة خطوات ثم قامت بنتف خصلاتها التي تشابكت بين أصابعها، تفاجئت الأخرى بفعلتها كما أنها شعرت بالألم الشـ.ـديد فصرخت عالياً:
_ أنتِ مـ.ـجـ.ـنو.نة، أنتِ بتعملي إيه؟!
مالت لينة على أذنها وأردفت بخفوت:
_ تخرجي حالاً تختاري أي عربية من العربيات اللي برا..
شـ.ـدت بقوة أكبر على شعرها وتابعت محذرة:
_ وتتكلمي عدل مع يوسف وإلا أقسم بالله أروحك لعيلتك قرعة، أنتِ فاهمة
سحبت لينة يدها بهدوء من خصلاتها ثم رمقتها بنظرات مشتعلة قبل أن تخرج، ظلت يُمنى متابعة لها إلى أن اختفت فرددت بخفوت والدmـ.ـو.ع تتلألأ في عينيها:
_ Slut
(الترجمة: وقحة)
استدارت ثانيةً باتجاه المرآة، ثم أعادت ترتيب خصلاتها، مسحت عبراتها التي سقطت رغماً عنها، وأوصدت عينيها لبرهة محاولة إستعادة مزاجها الذي تعكر، خرجت بوجه عابس فأثارت ضحكات لينة التي لم تخفيهم، بل تعمدت النظر إليها بتحدٍ.
اقتربت يُمنى من يوسف تاركة مسافة بينهما، حمحمت وأشارت على إحدى السيارات الواقفة خلفها وأردفت باقتضاب وعبوس:
_ تقريباً العربية دي أكتر واحدة عجبتني
تعجب يوسف من أسلوبها المناقض، فلقد كانت تماطل في الأمر منذ دقائق، من أين جاءت تلك الجدية، لا يهم فتلك هي فرصته الوحيدة لإنهاء ذلك اللقاء.
أماء برأسه وهو يردف:
_ تمام هـ..
قاطعته يُمنى حاسمه للأمر بنبرتها الجـ.ـا.مدة:
_ بابي هيبقى يتواصل معاك، بعد إذنك
لم تنتظر إجابته وغادرت تحت نظرات يوسف المذهولة، عاد بأنظاره إلى عامله الذي جاءه راكضاً هاتفاً بتعجب:
_ هي مشت إزاي؟
رفع يوسف كتفيه متشـ.ـدقاً بفمه وصاح مندهشاً:
_ مش عارف، ومش مهم أنا ماشي
أشار يوسف إلى لينة فجاءته ببشاشة وجه، سارت بجواره إلى أن استقلت السياره وكذلك هو ثم انطلق بها قاصداً مكان بعينه.
***
أوقف يوسف السيارة ونظر إليها هاتفاً بتعليمـ.ـا.ته اليومية:
_ كلميني قبل ما تخرجي، ومتكلميش حد مت عـ.ـر.فيهوش و..
قاطعته لينة ساخرة:
_ ومش هروح مع اللي يقولي تعالي أوديكي لماما حاضر
لوهلة لم يستوعب يوسف الذي ردد موافقاً حديثها:
_ بالظبط...
قطب جبينه حينما استوعب كلمـ.ـا.تها ثم نهرها معنفاً:
_ أنتِ بتتريقي عليا!!
انفجرت لينة ضاحكة فهتف هو بحنق:
_ انزلي يا لينة، أنتِ متستاهليش خوفي عليكي أصلاً
رمقته لينة بنظرات متهكمة وقالت ببرود زائف:
_ محدش قالك تخاف عليا
بإقتضاب أجاب:
_ أنا غلطان فعلاً، لو شوفتك بتتخـ.ـطـ.ـفي قدامي مش هسأل فيكي
استدارت لينة وأخذت حقيبة ظهرها من المقعد الخلفي ثم هتفت بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ تمام خليك قد كلامك بقا
ترجلت من السيارة ثم دفعت الباب بقوة، سارت بضعة خطوات ثم توقفت ووضعت يدها على رأسها، فشعر يوسف بالريبة من وقوفها ولم ينتظر في السيارة ثانية أخرى.
هرول إليها متوجساً خيفة، وقف بجوارها متسائلاً باهتمام:
_ في إيه أنتِ كويسة؟
مرت لحظات دون تعقيب منها، حتى ارتفعت ضحكاتها فأثارت غرابته من ضحكاتها المبهمة، نظرت في عينيه قبل أن تردف:
_ دا أنت طلعت خفيف بشكل..
اقتربت منه بضعة خطوات ثم تابعت هامسة:
_ بعد كدا خليك قد كلامك يا سوفي..
أولاته ظهرها وتابعت إلى أن اختفت داخل أحد الأبراج الكائنة أمام يوسف الذي لم يخفض نظريه من علي طيفها قط.
فتاة مشاكسة وذات تصرفات مشاغبة، لكنه لا يضجر منها قط، هو يحب أفعالها حتى وإن كانت على غير هواه.
عاد إلى السيارة ثم دعس على المحرك عائداً إلى مكان عمله.
***
ولج يوسف إلى مكتبه فتفاجئ بوجود السيد سمير يجلس على كرسيه، تبادلا الإبتسام ثم هلل يوسف مرحباً به:
_ المكتب نور يا عمي والله
غمز إليه سمير وصاح ممازحاً:
_ عارف عارف، أقعد
قهقه يوسف ثم جلس أمامه فتابع الآخر:
_ استنيتك تقولي رأيك في العربيات اللي عرضها بلال عليك ومقولتش فجيت لك بنفسي أسمع
نظر يوسف إليه بحرج ثم أردف معللاً:
_ معلش بس دmاغي فيها مليون حاجة
نهض سمير عن مقعده ثم دار حول مكتبه وجلس أمام يوسف وقال بجدية:
_ طيب إحنا فيها أهو قولي
عاد يوسف بجسده للخلف مستنداً بظهره على المقعد وهتف بما يراه في صالح العمل:
_ العربيات دي مشبوهة، فيها حاجة غلط
قطب سمير جبينه بغرابة من كلمـ.ـا.ته المريبة وسأله مستفسراً:
_ إزاي يعني؟
وقف يوسف وتوجه إلى الخزنة الموضوعة في أحد أدراج مكتبه وقام بحل شفرتها ثم سحب منها ملف ورقي وعاد إلى كرسيه وبدأ يشرح للسيد سمير ما لفت انتباهه فيه:
_ لو بصيت هنا هتلاقي أن العربيات طريقة صناعتها غريبة جداً، من امتى الدولة دي بتتعامل مع دي ومن امتى أصلا في عربية بتكون صناعة دولتين؟!
دي عربيات مجمعة يعني خردة والزبون يشرب بقا، دا غير إن اسم الشركة معدتش علينا قبل كدا ولما دورت وراها لقيتها بتتعامل مع معارض مجهولة وملهاش أساس من الصحة وكلهم أسامي فقط مفيش ورق ولا حتى صورة تثبت أنهم موجودين، دي نصباية صدقني متوافقش أنت اللي هتخسر..
كان السيد في حالة ذهول تام بعدmا أخبره يوسف بتلك المصيبة، فهو لم يحسب لذلك قط، أخرج زفيراً محاولا تهدئة روعه ثم أردف بنبرة مهزوزة:
_ أنا كلمت مدير الشركة دي وجاي يقابلني هنا الوقتي..
لم يضجر يوسف مما أخبره به بل كان مرجحاً دعوته لذاك المحتال وقال بصوته الأجش:
_ حلو أوي خليه يجي ونرمي له الكلام اللي قولته دا في وشه وإما يرجع بلده لإما نسلمه، أصل المشرحة مش ناقصة قــ,تــلة كفاية البلد خربانة مش ناقصين خواجات يجو يشغلوا دmاغهم علينا.
طرق باب المكتب فور إنهاء يوسف كلمـ.ـا.ته، ثم دعى الطارق للدخول، فكان رجلين غريبان، خمن أنهما نفسهم المحتالان.
نهض واستقبلهم بفتورٍ شـ.ـديد:
_ Welcome
( مرحباً )
بدأ أحدهما حديثه وكانت لغته العربية الفصحى:
_ أهلاً بك سيد سمير أنا هارون المترجم للسيد أندرو
تدخل يوسف بلهجته المشحونة بالغضب:
_ شكراً لحضرتك مش محتاجين مترجمين..
لم يروق لهارون لهجة وأسلوب يوسف الفظ، رسم علي محياه بسمة لم تتعدى شفتيه ثم قال:
_ حسناً سيد...
عرف يوسف عن هويته:
_ I'm Youssef Al-Rawi, the Automotive Branch Manager here
( أنا يوسف الراوي، مدير فرع العربيات هنا)
ابتسم له الأجنبي وقال بحفاوة:
_ Welcome, Mr. Youssef,
( أهلاً بك سيد يوسف )
التفت الرجل إلى السيد سمير وتابع استرساله بعملية:
_ You invited me, Mr. Samir, to tell me your opinion, so I can hear you
( لقد دعوتني سيد سمير لكي تقول لي رأيك، تفضل أنا أسمعك )
حمحم يوسف وهو من قام بالرد عليه بنبرته الفظة:
_ Your offer is rejected, Mr. Andrew, there is a lot of fraud in what you are doing and we do not accept that at all
( عرضك مرفوض سيد أندرو، هناك احتيال كبير فيما تفعلونه ونحن لا نقبل بذلك مطلقاً )
تجهمت تعابير أندرو، ونظر إلى مترجمه بخوف وتردد شـ.ـديدان، عاد بنظريه إلى يوسف وهدر بثبات:
_ What are you talking about, scam what?
( ما الذي تتحدث عنه، احتيال ماذا؟ )
رمقه يوسف باشمئزاز، فهو لا يحب الأغـ.ـبـ.ـياء مثله، تنهد قبل أن يجيبه بنبرة غاضبة:
_ I think you understand me very well and there is no need to mention it unless you are determined but that will be done through the police
( أظن أنك تفهمني جيداً ولا داعِ لذكره إلا إذا كنت مصمم لكن ذلك سيتم من خلال الشرطة )
لم يقبل الرجل حديث يوسف وانتفض من مكانه مذعوراً ثم رفع سبابته مهدداً يوسف:
_ You are the one who blamed yourself, young master
( أنت الذي جنيت على نفسك أيها السيد الصغير )
أولاهما ظهره وفر هارباً من أمامهما، تبعه مترجمه الخاص إلى الخارج، ثم إلى السيارة، فك أندرو رابطة عنقه فور استقلاله السيارة، لقد شعر لوهلة أنه لن يخرج من ذلك المكان على خير.
أخرج زفيراً عميق ثم وجه بصره على مكتب يوسف فرآه يقف في نافذته يشاهد بإبتسامة منتصرة، كز أسنانه بغضب متوعداً له، عاد بأنظاره إلى هارون وردد بغضب شـ.ـديد:
_ Tell our men to teach him a lesson he will never forget for the rest of his life
( أخبر رجـ.ـالنا أن يلقنوه درساً لا ينساه طيلة حياته )
أطاعه رجله قائلاً:
_ Good
( حسناً )
***
في الأعلى، حرك سمير رأسه غير مصدق ما حدث، كان يتابع تحرك سيارتهم من خلال النافذه، وحينما اختفت صاح بذهول:
_ أنا بجد مش مصدق إن فيه ناس كدا، جايين بلدنا ينصبوا علينا؟!
التفت إليه يوسف وعقب على كلمـ.ـا.ته:
_ توقع كل حاجة في الزمن دا
تذكر سمير حالة الرجل التي تملكته حينما كشف يوسف ألاعيبه المحتالة وردد بفخر:
_ لا بس أنت كنت جـ.ـا.مد، دا الراجـ.ـل معرفش يرد عليك
ابتسم يوسف وهتف بسخرية:
_ شكلهم لسه جداد في النصب
قطع حديثهما دخول بلال، تعجب من وجود والده وربط وجوده بمسألة زيجته من إيمان، شكل على ثغره ابتسامة عريضة وهو يتسائل:
_ أنتوا بتعملوا إيه كدا؟
اقترب منه والده وهو يخبره:
_ لا يوسف يحكيلك، أنا هروح أشوف العمال وصلوا لإيه في المعرض.
استأذن منهما ثم غادر بينما جلس بلال وهتف مستفسراً:
_ قالك حاجة على موضوع إيمان؟
هز يوسف رأسه نافياً وأبدى استيائه بسؤاله:
_ وهو هيكلمني عن إيمان ليه؟
هاجمه بلال برده:
_ مش أنت ابن خالها، قولت سألك حاجة عنهم، أصله عايز يسأل عنهم الأول، مش فاهم بجد سؤال إيه، أقوله بنت خال يوسف وعارفها كويس يقولي هسأل برده
باختصار أوضح له يوسف ما لا يراه هو:
_ جو بنت خالي وإنك تعرفها كويس دا إحنا اللي نفهم كدا لكن أبوك ميفهمهاش وبعدين ما تسيبه يسأل أنت مضايق ليه
تأفف بلال فهو لا يطيق الانتظار، وهتف بنفاذ صبر:
_ يسأل يعني وقت بيضيع الفاضي، أنا عايز أخلص
حرك يوسف رأسه مستنكراً استعجاله وهتف ممازحاً:
_ أنا خايف على سربعتك دي تقولها بحبك في أول قاعدة بينكم وتبان إنك مدلوق أوي
أسرع بلال في نفي ظنون يوسف:
_ لا ياعم مش للدرجة
رمقه يوسف بطرف عينيه غير مصدق أنه لن يفعلها بينما أكد بلال قائلاً:
_ ياعم لأ، لأ
***
حل المساء مرافقاً معه السكون الذي يعم المنزل، حتى خرجت المشاكسة من غرفتها متأففة بضجر، فهي تشعر بالإختناق وعدm رغبتها في مواصلة تلك المذاكرة الغـ.ـبـ.ـية التي لا تنتهي.
تقوس ثغرها الوردي مبتسماً حين رأت فارسها يجلس على الأريكة بمفرده، توجهت ناحيته وهي تسير على أطراف أصابعها بتهمل، واضعة كلتى ذراعيها خلف ظهرها.
" أنتِ كدا هتخضيني يعني؟"
أردفهم يوسف ونظريه لم يبتعدا عن جواله، تأففت لينة بصوت عالٍ وهتفت متذمرة:
_ هو أنا معرفش أخضك أبداً
ترك يوسف هاتفه بجواره ثم أخرج تنهيده قبل أن تتجهم تعابيره وهو يردف بحـ.ـز.ن واضح:
_ فيه حاجات بتحصل لنا بتخلينا فايقين أكتر من الأول يمكن لو كنا فايفين كدا وقتها مكناش خسرنا حد..
لم تستشف لينة ما يقصده وسألته مستفسرة:
_ تقصد إيه بكلامك؟
"ولا حاجة"
قالها ليغير مسار حوارهما ثم تابع متسائلاً:
_ إيه اللي مصحيكي للوقتي؟
أجابته بعدmا أزفرت بعض الأنفاس بملل واضح:
_ كنت بذاكر، بس زهقت من المذاكرة، وحسيت عقلي وقف ومعتش فاهمة حاجة فمحبتش أكمل..
بخوف واضح في كلمـ.ـا.ته قام بنصحها:
_ بس دا مينفعش، لازم تركزي خلاص امتحاناتك أول الأسبوع الجاي
أوصدت لينة عينيها لبرهة وأبدت زمجرتها بقولها:
_ عشان خاطري يا يوسف معتش تجبلي سيرة الإمتحانات
كاد الآخر أن يعقب إلا أنهما انتبها إلى فتح الباب الذي ولج منه زياد، فتعجب من جلوسهما في ذاك الوقت المتاخر من الليل.
اقترب منهما ونظراته تتسائل بفضول:
_ أنتوا سهرانين للوقتي، مش معقولة!
تفاجئ بهجوم يوسف في رده:
_ ولما أنت عارف إن الوقت متأخر، كنت بتعمل إيه كل دا برا؟
قلب زياد عينيه مستاءً وهدر بتهكم:
_ أنا خلصت امتحانات النهاردة وطبيعي يعني أسهر مع صحابي شوية
استشعرت لينة الأجواء المشحونة والتي حتماً ستنقلب في النهاية لمشادة بينهما فتدخلت بلطافة:
_ بقولكم إيه أنا زهقانة وفاقدة شغفي ومحتاجة أجدد مودي، إيه رأيكم نلعب لعبة؟
كان زياد أول من أجاب:
_ اشطا، موافق
بينما أبدى يوسف رفضه:
_ لا يلا كله يدخل ينام الوقت متأخر وأنا ورايا شغل
نظر إلى لينة وواصل:
_ وأنتِ عندك دروس
قابلته بنظرات معاتبة ثم أخفضت رأسها وهتفت بنبرة حزينة لكي تحثه على الموافقة:
بقولك فاقدة شغفي يا يوسف، محتاجة أغير مودي شوية من جو المذاكرة دا عشان أعرف أرجع لها تاني
تنهد يوسف فلم يكن أمامه أي خيارات، ولن يرفض لها طلباً وهو من يحصد ثماره بالأخير:
_ طيب هنعمل ايه؟
رفعت لينة رأسها موجهة بصرها نحوه فاغرة فاها ببلاهة، حرك يوسف رأسه مستنكراً تصرفها الأبله ثم هتف محذراً:
_ ها هتقولي ولا أرجع في كلامي
أسرعت هي في قول:
_ لا لا ثواني هفكر
فكرت لبضعة دقائق ثم وصلت إلى فكرة ما، مررت نظريها بينهما قبل أن تردف بحماس:
_ كل واحد هيمثل مشهد من فيلم أو مسرحية أو مسلسل واللي يقول من فيلم إيه أسرع هو اللي يكون عليه الدور في التمثيل
قطب يوسف جبينه مستاءً وقال بإقتضاب:
_ تمثيل إيه يا لينة أنا مبعرفش أعمل الكلام دا
عقدت هي ذارعيها متذمرة:
_ مبتعرفش، تعرف
تأفف الآخر بضجر وهو يردد:
_ يا الله يا ولي الصابرين
لوت لينة شفتيها متصنعة الحـ.ـز.ن فتدخل زياد معاتباً أخيه:
_ ياعم يوسف ما يلا بقا الموضوع هزار في هزار يعني، مش معقول كل حاجة معترض كدا
لم يعقب يوسف على حديثه، أخذ ثوانٍ قبل أن يبدى موافقته:
_ ماشي يلا، مين هيبدأ
أجابته لينة التي تحولت تقاسيمها إلى الحماسة:
_ زياد لاني مش حاضر في دmاغي حاجة الوقتي
نهض زياد ووقف أمامهم ثم أخذ وقتاً قصيراً يفكر فيما سيقوم بأدائه أمامهما، إلى أن توصل إلى مشهد ما.
قام بتصنع الحماقة وبلهجة صعيدية صاح:
_ إيه يا جعيدي متعصبنيش يا جعيدي، عليا النعمة من نعمة ربي أكلك بوكس في جفصك الصدري أطير العصافير اللي فيه
انفجر يوسف ضاحكاً على أداء أخيه المضحك، بينما قفزت لينة هاتفة:
_ فيلم واحد صعيدي
صفق لها زياد وهو يردد:
_ صح
تبادلا الأماكن حيث جلس زياد ووقفت لينة على مسافة بعيدة عنهما لتبدأ في تمثيل مشهدها حيث تغنجت بجسدها وهتفت بدلال:
_ حسين، حسين، حسين
اقتربت من يوسف وهي تواصل تمثيلها:
_ أخص عليك يا حبيبي نسيت أوام أيامنا الحلوة يا حسين
ذاب قلب يوسف بسبب دلالها المبالغ في أداء المشهد، كان يطالعها بانجذاب وقلبه يخفق بقوة حتى تدخل زياد حين علم إسم الفيلم وقام بمشاركتها الأداء بنبرة خشنة:
_ وجالك عين تقولي الكلام دا قدامي؟!
تابعت لينة أدائها وهي تنظر إلى زياد وكأنها في المشهد الحقيقي:
_ اقــ,تــلني مـ.ـو.تني أعمل اللي أنت عايز تعمله لكن مش هتقدر تفرق بيني وبين حسين أبداً
أردفت آخر كلمـ.ـا.تها وهي تطالع يوسف الذي لم يمنع تسلل ابتسامته على شفتيه فصاحت هي متسائلة:
_ ها عرفت الاسم؟
بإبتسامة هادئة أجاب:
_ إشاعة حب
اتسع ثغرها بإبتسامة عريضة ثم وجهت كف يدها نحوه فضـ.ـر.ب هو بكف يده تلقائياً كفها ثم أنتبها إلى حديث زياد:
_ لا بس مشاركتي كانت جـ.ـا.مدة
قلبت لينة عينيها وبمزاح قالت:
_ أوي أوي
جحظت عيني لينة حين راودتها فكرة مـ.ـجـ.ـنو.نة، وزعت أنظارها بينهما قبل أن تهتف:
_ إيه رأيكم نعمل تيك توك؟
صاح يوسف رافضاً لذاك الهراء:
_ تيك توك إيه لأ طبعاً
لوت لينة شفتيها وهي تهاجمه:
_ على فكرة أنت ممثلتش يعني معملتش معانا أي حاجة
نهض يوسف ناهياً تلك السخافة الحادثة متصعناً اللطافة:
_ يلا تصبحي على خير يا لي لي
رمقته بنظرات مشتعلة ثم أولاته ظهرها وتوجهت نحو غرفتها بخطوات مهرولة لكنه سرعان ما أوقفها بقوله:
_ استني طيب..
انفجر زياد ضاحكاً ثم نهض ونظر إلى لينة رافعاً ذراعه للأعلى قائلاً:
_ كفك
قابلته لينة بجمود ثم قلبت عينيها بتذمر، شعر زياد بالإهانة لحظتها، فهي للتو فعلت التصرف نفسه مع يوسف، لماذا تتخذ موقفاً معه، لا تلامسه ولا تسمح له بممزاحتها عن قرب أو حتى قبول مساعدته إن تطلب الأمر، لكنها دوماً تقبل من يوسف جميع ما ترفضه منه.
أخرج زفيراً بتهمل وهو يطالعها بغيظ بينما أردف يوسف بنبرته الرخيمة:
_ اختاري أي حاجة تانية غير التيك توك دا، بجد مليش فيه
قاطعهما زياد بنبرته البـ.ـاردة:
_ كملوا أنتوا، أنا فصلت وعايز أنام
أنهى كلمـ.ـا.ته ثم تحرك إلى غرفته مباشرةً، بينما هتفت لينة بملل:
_ خلاص مش مهم، نكمل في يوم تاني، بصراحة أنا كمان نفسي أنام اوي
أماء يوسف بتفهم وأردف بلطف:
_ تصبحي على خير
بادلته إبتسامة عفوية مرددة:
_ وأنت من أهله
أولاته ظهرها ولم تخطو خطوتين إلا وأوقفها يوسف بندائه:
_ لينة..
التفتت إليه بأعين لامعة فقال:
_ مش زعلانة؟
وضعت أحد أصابعها على رأسها متصعنة التفكير فصاح يوسف متعجباً:
_ بجد والله؟!
قهقهت لينة ثم أردفت بنبرة متيمة:
_ مقدرش أزعل منك
اقترب منها يوسف بضعة خطوات وقال أمراً:
_ طب يلا روحي نامي
أشارت إليه بأصابعها وهي تهتف:
iyi geceler
عقد حاجبيه حين لم يفهم ما تفوهت به فأوضحت قصدها:
_ يعني تصبح على خير
لبس ثوب الجمود وبتهكم أردف:
_ يلا يابت على أوضتك، آل إي جچلار آل
انفجرت لينة ضاحكة ثم هرولت إلى غرفتها بينما دلف يوسف إلى غرفته لينعم ببعض النوم قبل أن يستيقظ باكراً وكذلك فعلت لينة لتبدأ يوم جديد في رحلة دروسها التي لا تنتهي.
***
صاح بغضب في زميله الجالس بجواره:
_ ما تطفي الزفتة اللي في إيدك دي وتخلصنا بقا، الشارع سكت أهو والرجلين خفت عن المكان، أخلص قبل ما الفجر يأذن وتلاقي الحارة كلها في وشنا
طالعه الآخر ببرود يشوبه التهكم وتحدث بلا مبالاة:
_ لما أخلص السيجارة اللي في أيدي
تأفف صديقه وصاح به معنفاً:
_ بقولك أخلص قبل ما حد يشوفنا
قلب عينيه ثم فتح باب السيارة وترجل منها، تنفس سيجارته ثم ألقاها أرضاً ودعس عليها بحذائه الأسود، التفت مراقباً المكان من حوله جيداً قبل أن يبدأ مهمته.
تحرك نحو السيارة المقصودة ثم جلس القرفصاء وتفحص المكان من خلفه للمرة الثانية قبل أن يدلف بجسده أسفل السيارة وقام بقطع أسلاك الفرامل بآلة حادة.
عاد إلى السيارة التي كانت في انتظاره ثم استقلها، وانطلق بها الآخر بسرعة البرق قبل أن يراهما أحد ويشك في أمرهما.
***
حل الصباح وأشرقت الشمس، بداية يوم مختلف يحمل بين طياته أقدار جديدة للجميع، كان زياد أول من استيقظ في البيت، حيث تعجبت والدته وسألته بقلق انتابها:
_ صاحي بدري ليه خير؟!
اقترب منها ثم قبلها من وجنتها وهو يردف بنبرة طريفة:
_ صباح الخير يا ست الكل
عقدت حاجبيها بريبة من أمره، فتلك الحميمية لا تعتادها قط، طالعته بأعين ضائقة وسألته مستفسرة عن حاله المريب:
_ مالك يا زياد؟ أنت عايز إيه؟
حمحم قبل أن يردف:
_ أحبك وأنتِ فهماني كدا
وضعت ذراعيها في منتصف خصرها ورمقته بحاجبات معقودان:
_ ها؟
"عايز أخد العربية من يوسف"
قالها فأظهرت أن الأمر لا يعنيها:
_ مليش دعوة، منك لأخوك..
قاطعهم صوته الذي استمع لآخر حديثها:
_ عايزين مني إيه؟
شعر زياد بالحرج حينما رأى ولوج يوسف، أرسل لوالدته بعض الإشارات التي تحثها على إخبـ.ـاره بما يريد لكنها أبت بإشارة من كتفها فتدخل يوسف مستاءً:
_ وأنت لما تكون عايز حاجة لازم وسيط يعني؟
عض زياد على شفتيه السفلى وبتردد واضح أردف:
_ كنت متفق أنا وصحابي نفطر مع بعض وكنا هنروح بعربية أبو أمجد بس طلع عنده شغل فكنت بقول يعني لو تديني العربية ساعتين بالظبط وأرجعهالك
صمت حل لثوانٍ فتفهم زياد رفضه وبخجل بائن هتف:
_ خلاص خلاص نروح مواصلات
لحق به يوسف بقوله:
_ استنى..
سحب مفتاح السيارة من جيبه ثم ألقاه إليه فابتسم زياد وهلل بسعادة:
_ أخويا الجدع ملوش مرتجع
ينجح دوما في إضحاكه بأسلوبه المرح أو ربما الساخر لا يعلم، لكنه أعطاه بعض التعليمـ.ـا.ت قبل أن يغادر:
_ العربية يا زياد ترجع سليمة، أنت عارف إنها مش بتاعتي
بعجرفة حدثه:
_ متقلقش أخوك مولود في عربية
ظل يقفز فرحاً بإمتلاكه للمفتاح ثم غادر المنزل سريعاً،لم يستطيع صبراً وهاتف أصدقائه:
_ جيتو تحت زي ما اتفقنا؟
أجابه أحدهم قائلاً:
_ أيوة كلنا تحت، يلا أنجز وانزل
هلل وهو أمام باب البناية:
_ نزلت اهو
استقل الجمع السيارة ثم قام زياد بإقتران هاتفه بالسيارة عن طريق ( البلوتوث )، فارتفع صوت أحد المهرجانات الشعبية الذي قام باختياره، فحمسهم على التصفيق حيث صرخ أحدهم بطيش:
_ علي الصوت يابني علي
أدار زياد زر التحكم بمستوى الصوت فكان أشـ.ـد قوة عن ذي قبل بأصواتهم المشاركة للأغنية، تحرك زياد بالسيارة وابتعد من المنطقة، كان يقود بسرعة متوسطة خشية حدوث أي حوادث، حتى حاول إيقاف السيارة فكانت الكارثة، لا تريد التوقف.
حاول تهدئة روعه والسيطرة على الأمور لربما يكون هناك عطل بسيط ومع التكرار يستطيع حله، فأعاد محاولات الوقوف لكنها بائت بالفشل، السيارة بالفعل لا تتوقف.
انتبه إلى تحذير أمجد الجالس بجواره حين هتف:
_ ما تهدي السرعة شوية يابني إحنا وسط العربيات
التفت برأسه يميناً ناظراً إليه بذعر يسيطر على خلاياه وصاح بنبرة مهزوزة:
_ العربية مفيهاش فرامل!
↚
ارتشف آخر ما تبقى في كوب الشاي خاصته، ثم هاتف صديقه الذي استقبله بتأفف:
_ مش هخلص منك بقا
تشـ.ـدق يوسف بفمه ساخراً منه:
_ أيوة ما أنت وصلت للي عايزه
قهقه بلال بمرح بينما واصل يوسف بجدية:
_ عايزك تعدي عليا تاخدني في طريقك، زياد أخد العربية
أغلق بلال باب شقتهم ثم هتف:
_ ربنا يستر على العربية وترجع سليمة
بثقة عمياء عقب يوسف:
_ لا زياد عاقل
تنهد يوسف ثم هتف بقلق:
_ إن شاء الله ترجع سليمة
انفجر بلال ضاحكاً ثم أخبره بمكانه:
_ طب أنزل عشان أنا على السلم
باختصار قال يوسف:
_ تمام
أغلق الهاتف ثم تذكر شيء ما فأسرع بالإتصال على أخيه، انتظر بضعة دقائق ثم أجاب فصاح يوسف معتذراً:
_ أنا نسيت أقولك إن العربية مفيهاش بنزين و...
قاطعه زياد بأنفاس لاهثة:
_ الحمدلله إنك مقولتش
استشعر يوسف ثمة سوء قد وقع، نهض من مكانه متوجساً خيفة ثم سأله بقلق:
_ هو حصل حاجة؟
جائه صوته المهزوز في قوله:
_ إحنا عملنا حادثة يا يوسف!
انتفض يوسف من مكانه بذعر تملكه، مما أثر الرعـ.ـب في قلب والدته التي انهالت عليه بالأسئلة:
_ في إيه يا يوسف، أخوك حصله حاجة؟
لم يسمع يوسف أياً من أسئلتها بل بادر بسؤال أخيه بقلق شـ.ـديد:
_ أنت فين الوقتي؟
أخبره زياد مكانه فأسرع يوسف في الركض إلى الخارج ذهباً إلى أخيه سريعاً، بينما ظلت السيدة ميمي تندب خائفة:
_ يارب استر يارب
خرجت لينة من غرفتها على صوت السيدة ميمي، فأسرعت من خطاها مذعورة من حالتها المذرية، اقتربت منها وسألتها بقلق وخوف عارمان:
_ مالك يا ماما؟
رفعت ميمي رأسها والدmـ.ـو.ع تتساقط من عينيها وأجابتها بصوت متحشرج من البكاء:
_ زياد..
جهشت باكية ما أن نطقت إسمه، أنحنت لينه بجسدها وعانقتها في محاولة تهدئتها:
_ إهدى يا ماما وفهميني إيه اللي حصل
***
تعجب بلال من هرولة يوسف نحوه، استقل السيارة ثم أمره بأنفاس لاهثة:
_ أطلع يا بلال، زياد عمل حادثة
"إيه!!"
نطقها بلال بصدmة، ثم انطلق بالسيارة متجهاً إلى المكان الذي أخبره عنه يوسف، بعد مرور بضعة دقائق وصلا كليهما إلى المكان المقصود.
ترجل يوسف من السيارة وهي لم تتوقف بعد، ركض نحو أخيه والخوف يتملكه، تفحصه جيداً متسائلاً بلهفة:
_ أنت كويس، حصلك حاجة؟
أجابه زياد ليهدئ من روعه الظاهر:
_ أنا كويس متقلقش، والعربية ا...
قاطعه يوسف بعصبية:
_ تغور العربية المهم أنت، تعالى نروح المستشفى نطمن عليك
أحاط زياد ذراعي يوسف بيديه ليعود إلى رشـ.ـده قائلاً:
_ والله أنا كويس، حتى بص عليا مفيس حاجة
تراجع يوسف للخلف ناظراً إليه فابتسم له زياد ليطمئن قلبه، أوصد يوسف عينيه في محاولة منه على استعادة سكينته، انضم إليهما بلال الذي صف السيارة في مكان آمن وتسائل باهتمام:
_ أنت كويس يابني؟
أماء زياد برأسه قبل أن يردف:
_ الحمدلله
نظر بلال إلى السيارة التي تخطت رصيف المشاة، ورمق أصدقاء زياد الذين يجلسون بجوار السيارة في حالة مذرية، عاد بنظريه لزياد وسأله مستفسراً:
_ إيه اللي حصل وطلعك على الرصيف كدا؟
بدأ زياد في قص ما حدث لهم:
_ كنت ماشي عادي وبعدين حاولت أوقف العربية ملقتش فرامل
تفاجئ بلال وكذلك يوسف لم يكن أقل منه دهشة، اقترب منه وهو يردد بعدm استعياب:
_ إزاي يعني مفيهاش فرامل؟
رفع زياد كتفيه ثم أجاب:
_ معرفش والله، حاولت أكتر من مرة أوقفها بس مقدرتش، المهم بدأت أحس إن العربية سرعتها بتهدى بس لسه ماشية، ولما بصيت على البنزين لقيته شطب وفجاءة ظهرت قدامنا عربية نقل كبيرة بتلف من ملف قدامنا مكنش ينفع أعمل حاجة غير إني أطلع على الرصيف
اقترب منه يوسف ثم ضمه بقوه وهو يتنهد، كاد أن يمت رعـ.ـباً عليه، أخرج زفيراً عميق ثم ردد:
_ الحمد لله أن محدش حصله حاجة
شعور لا يوصف قد تغلغل لخلايا زياد، لم يمنع ابتسامته التي تشكلت تلقائياً بعد عناق يوسف له، فلا يتذكر أنهما كانا حميمين لتلك الدرجة من قبل.
تراجع يوسف ووجه حديثه لبلال الذي يجلس القرفصاء أمام السيارة يكتشف عواقب الحادثة وقال:
_ كلم ونش يجي يشيل العربية دي
باختصار أردف بلال:
_ حصل وزمانه على وصول
لم يبتعد يوسف عن زياد بل ظل مرافقاً له ومحاوطاً كتفيه بذراعه، أنتبه زياد لهاتفه الذي لم يتوقف عن الرنين:
_ يوسف هي ماما عارفة حاجة؟ أصل لينة بترن عليا من فترة وأنا مش راضي أرد
اتسعت مقلتي يوسف بذهول متذكراً والدته التي رأته يهرول إلى الخارج، ضـ.ـر.ب جبينه براحة يده ثم أخذ من أخيه الهاتف وقام بالرد عليهن:
_ أيوة يا لينة
أجابته بلهفة:
_ يوسف، زياد كويس؟
جائه صوت والدته القريب متسائلة بتوجس وقلق:
_ في إيه يا يوسف أخوك حصله حاجة؟
أسرع في نفي سؤالها بقوله:
_ لا لا هو كويس متخافيش، حادثة بسيطة بس هو والله كويس
شهقت السيدة ميمي كما لطـ.ـمـ.ـت على صدرها بصدmة ثم صاحت بصوت مهتز:
_ متكذبش عليا يا يوسف، طب لما هو كويس مردش هو عليا ليه
أوضح لها يوسف تصرفه:
_ أنا قولت أطمنك أنا، خديه معاكي أهو يطمنك هو
ناول يوسف الهاتف لأخيه الذي تحدث إلى والدته:
_ أنا كويس يا ماما متقلقيش
انفجرت ميمي باكية، لم تصدق ما يخبرونها به، تشعر وكأنهما يخفون شيئاً عنها لكي لا يخيفونها، عاد زياد ليطمئنها بكلمـ.ـا.ته:
والله العظيم كويس، وهجيلك وهتشوفي بنفسك
انتبه على سيارات النقل التي وصلت فأنهى المكالمة بقوله:
_ أنا هقفل يا ماما وهاجي على طول، اهدي
أغلق الهاتف ثم وقف الجميع بالقرب من الرافعة التي تنقل سيارة يوسف إلى سيارة نقل كبيرة ومن ثم ركب الشباب جميعاً في سيارة بلال وعادوا إلى منطقتهم إلا من يوسف الذي رافق السيارة عند المُصلح.
ترجل جميع الشباب وتفرقوا إلا زياد الذي وقف بجوار النافذة القريبة من بلال وبـ.ـارتباك حرج سأله:
_ هي العربية هتكلف كتير؟
أخرج بلال تنهيدة قبل أن يجيبه:
_ يعني شوية
تأثر زياد كثيراً وتجهمت تعابيره، فهو يشعر أنه المذنب، ولم يكن عليه استعارة السيارة، لاحظ بلال تأثره فحاول تهدئته فقال:
_ إحمد ربنا أن العربية دي مستهلكة مكنتش جديدة زي اللي يوسف بياخدهم أوقات يجربهم، كانت وقتها هتكلفكم هدومكم
قال آخر كلمـ.ـا.ته وهو يضحك فشاركه زياد الضحك ثم استأذن منه وصعد إلى منزله، استقبلته ميمي بعينان متورمتان بسبب بكائها الذي لم يتوقف قط.
عانقته بقوة متسائلة عشرات الأسئلة:
_ أنت كويس، حصلك حاجة، طمني عليك، قلبي هيقف من الخضة متخبيش عني حاجة
تراجع زياد للخلف ظاهراً بدنه بالكامل إليها ورفع يديه للأعلى مجيباً على أسئلتها بجملة واحدة:
_ أنا كويس قدامك أهو
عادت لاحتضانه مرة أخرى فتدخلت لينة التي حضرت بعدmا ارتدت حجابها:
_ أنت كويس يا زياد؟
نظر إليها مجيباً إياها بهدوء:
_ الحمد لله
***
اقتحم يوسف مكتبه بغضب جامح، لا يستطيع تخطى حادثة زياد، والمئات من التوقعات السيئة راودته، ماذا لو يستطيع توقف السيارة؟
ماذا لو لم ينفذ البنزين؟!
ماذا لو اصابه لأخيه مكروه؟
إلخ...
قاطع تفكيره رنين هاتفه، أجاب على الفور بتلهف:
_ أيوة يا حسن وصلت لحاجة؟
أخبره حسن بما استنتجه بعدmا فحص السيارة جيداً:
_ أيوة يا أستاذ يوسف، سلك الفرامل مقصوص يعني حد قصد يعمل كدا
وكأن كهرباء صعقته بقوة بعد كلمـ.ـا.ت المصلح، فغر يوسف فاهه بصدmة جلية، وإزدادت أسئلة رأسه أضعافاً.
"في إيه يابني، متنح كدا ليه؟"
قالها بلال فلم ينتبه له يوسف فكان مغموراً بين أفكاره، تعجب بلال من حالته وأعاد حديثه:
_ عدت على خير يا يوسف
لم يعقب الآخر وكأنه لم يصغي إليه، فمال بلال بجسده على المكتب مشيراً بيده أمام عينان يوسف فتحركت بؤبؤتيه مع يدي بلال حتى عاد لارض الواقع.
طالعه لبرهة قبل أن يسأله بإقتضاب:
_ أنت هنا من امتى؟
بغرابة من أمره أجاب:
_ مش من كتير
عاد يوسف لصمته، فلم يستطيع بلال الصمت دون تعقيب:
_ الحمدلله أنها جت قد كدا، متفكرش كتير
ثم أضاف مرحاً إلى حديثه:
_ ويا سيدي هشاركك حق تصليح العربية متزعلش
رمقه يوسف بنظرات مبهمة قبل أن يهتف:
_ في حد قطع الفرامل!!
بذهولٍ شـ.ـديد تملك بلال قال وهو يطالعها بطرف عينيه:
_ نعم؟ إزاي يعني ومين اللي هيعمل كدا؟
تشـ.ـدق يوسف بفمه رافعاً كتفيه نافياً عدm معرفته بالفاعل، نهض عن مقعده وجاب الغرفة ذهاباً وإياباً مردداً:
_ أنا المقصود، بس مين اللي يعمل معايا كدا؟!
تأفف يوسف حينما لم يصل إلى أحدهم، استلقى على الأريكة الجلدية ذات اللون الاسود المقابلة لمكتبه، اقترب منه بلال وشاركه الأريكة وظل يفكر معه بصوت عالٍ فيمن له اليد في فعل ذلك.
***
عمِلت لينة جاهدة على إخراج يوسف من الحالة المزاجيه التي بات عليها لكنه كان يصدها طيلة اليوم كلما قابلته حاولت مراراً معه لكن محاولاتها تفشل بجدارة.
حل المساء واجتمع أربعتهم في المنزل وقد كان ظاهراً للآخرين عقل يوسف المشتت بسبب صمته طيلة جلوسه معهم، أرادت لينة لفت انتباهه فأردفت برقة:
_ إيه يا جو بتفكر في ايه
شعر يوسف بالملل حيال أسئلتها التي لم تنتهي منذ بداية اليوم، نظر إليها بعبوس وصاح غاضباً:
_ أنتِ قاعدة معانا بتعملي إيه، أنتِ مش عندك امتحانات؟! قومي ذاكري
تفاجئ الجميع برده العنيف وخصيصاً لينة التي رمقته بأعين لامعة غير مصدقة أسلوبه الفظ معها، انسحبت من بينهم بخطوات مهرولة حتى اختفت داخل غرفتها.
لم يعجب ميمي أسلوب يوسف في الحديث وعاتبته بكلمـ.ـا.تها:
_ عملت كدا ليه يا يوسف، هي مضايقة عشان أنت قاعد ساكت ومش مركز معانا وبتحاول تخرجك عن حالتك دي
تأفف يوسف وكاد أن يخبرها بما يشغل عقله إلا أنه تريث، فلن يسبب سوى القلق داخلها فقط، تنهد ولم يعقب فقعله حقاً سيجن إن لم يصل إلى الفاعل.
انتبه لتلك الغاضبة التي خرجت من غرفتها وولجت للمطبخ بخطى مهرولة، شهيقاً وزفيراً فعل ثم نهض ليعتذر منها.
تقابلا في الممرر الذي بين الغرف وتعجب من ذلك المقص الذي بيدها وسألها مستفسراً:
_ المقص دا بيعمل إيه في ايدك
بعناد أجابته:
_ ملكش دعوة
طالعها بأعين ضائقة وبحنق أعاد سؤاله:
_ قولت بيعمل إيه معاكي؟
اقتربت منه بتحدٍ وهمست من بين أسنانها المتلاحمة:
_ وأنا قولت ملكش دعوة
اغتاظ يوسف من أسلوبها معه وبحنق حذرها:
_ اتكلمي معايا عدل يا لينة
واصلت عنادها حيث هدرت:
_ وإن متعدلتش؟
تحرك يوسف بخطوات متمهلة بقربها فتراجعت هي بضعة خطوات للخلف لم يكف يوسف عن رمقها بنظراته الثاقبة لعلها تعتذر منه لكنها لم تفعل ولم يقل التحدي في نظراتها قط.
نبرته كانت غاضبة حين همس بخفوت وهو لازال يتقدm بخطواته للأمام:
_ مش هعيد سؤالي تاني
دلفوا إلى المطبخ فتوقفت لينة عن السير حينما لم يتبقى مساحة خلفها تذهب إليها، شعرت بمحاصرتها من قبله فهتفت بنفاذ صبر:
_ هقص شعري
أنهت جملتها ثم دفعته بعيداً عنها ومرت بجواره عائدة إلى غرفتها، تشكلت تلقائياً ذكري رؤيته لخصلاتها المموجة، فلم يشعر بنفسه سوى وهو يلاحقها، أمسك بيدها قبل خروجها من المطبخ وهتف أمراً:
_ هاتي المقص مفيش قص شعر
انعقد حاجبي لينة بغرابة فما شأنه هو بقص شعرها، حاولت التحرر من بين قبضته لكنه رفض البتة وشـ.ـد على يدها وباليد الأخرى حاول آخذ المقص:
_ هاتي المقص يا لينة
وضعته خلف ظهرها وأصرت على عدm إعطائه له:
_ أنت مالك أقص شعري ولا حتى أولع فيه، دا شعري وأنا حرة
تفاجئت لينة بثورته التي قامت عليها بانفعال لم تراه هكذا من قبل:
_ لا مش حرة، هاتي المقص
كانت تطالعه بذهول، فلم ترتفع نبرته عليها من قبل، ما الذي حدث الأن، بينما بلغ يوسف ذروة تحمله وحاول التقاط المقص من خلف ظهرها، فباتت هي محاصرة بين ذراعيه، فإن حضر شخصاً من خلفهما فلن يراها فجسده يغطيها بالكامل.
خفق قلبها بشـ.ـدة فكان وضعهما حميمياً للغاية، شعرت بهياج نبضاتها وكأنها للتو اكتشفت قلبها لطالما ظنت أنه هادئ وساكن.
أحاط يوسف يدها الممسكة بالمقص بيده محاولاً أخذه منها، أوصدت لينة عينيها مستمتعة برائحته الفريد من نوعها، شعرت لوهلة أن عضلاتها ترتختي رويداً رويداً ولم تعد تستطيع التحكم بشيء.
ارتخت أعصاب يدها فنجح يوسف في التقاط المقص، أخفض رأسه فتفاجئ بلمعة عينيها التي تطالعه بهما، لقد كانت قريبة للغاية، إنه بالفعل ملتصق بها، تراجع أكثر فأخرجت هي أنفاسها التي انحشرت داخلها.
لم يستطيع مواجهتها وفر هارباً إلى الخارج، عاد لغرفته وحالته مذرية، أنفاسه مضطربة لا يستطيع ضبطهما قط، قلبه ينبض وكأنه في سباق منذ ساعاتٍ ولم يتحلى بالراحة.
إزدادت عصبيته حينما فشل في وضع حد لذلك الوضع السخيف وعدm تحكمه في نفسه، ألقى بالمقص بعيداً عنه ثم ألقى بجسده على الفراش ودسر الغطاء أعلى رأسه ظناً أنها طريقة مناسبة للهروب من أفكاره.
مسكين، لا يعلم أن حتى لو سافر لأخر البلاد لن يتوقف عقله عن التفكير مادام لم يحل شفرة أسئلته والوصول لاجابات قاطعة.
بينما لم تبرح لينة مكانها، إلى الأن لم يستوعب عقلها ما حدث، تطالع الفراغ أمامها ومشاعرها مضطربة، تشعر بأنها لم تكتفي باقترابه، تريد المزيد منه.
"واقفة عندك كدا ليه؟"
انتبهت لينة لسؤال زياد فاكتفت بتحريك رأسها ثم انسحبت إلى غرفتها تحت نظرات زياد المتعجبة من أمرها.
وقفت خلف بابها تستنشق الصعداء، تنشطت ذاكرتها سريعاً لتعيد مشهد قربه منها ثانيةً، أوصدت عينيها متلذذة بذلك الشعور الخاص.
ماذا لو انحنى قليلاً فقليلاً ثم قبـ...
اتسعت عينيها لوقاحة أفكارها لكنها لم تمنع ابتسامتها التي غزت شفتيها، فالسعادة دقت باب قلبها، ألقت بجسدها على الفراش وطالعت السقف فشعرت بالخجل يعصف بها كلما تذكرت قربه حتي باتت وجنتيها حمرواتين، وضعت الوسادة أعلى وجهها كاتمة ضحكاتها السعيدة ثم احتضنت الوسادة لتعطي العنان لأفكارها في رسم المزيد من المواقف التي تتمنى لو تحدث لهما.
***
صباحاً، استيقظ يوسف على رنين هاتفه، لوهلة شعر أنه يحلم، لكن تكرار رنين الهاتف أكد له أن الأمر حقيقياً وليس من عقله الباطن.
سحب هاتفه بكسل، ونظر إليه بأعين ضائقة، فلم تعتاد عينيه الضوء بعد، جلس بثلث جسده وأجاب بصوت متحشرج:
_ السلام عليكم
"وعليكم السلام، أستاذ يوسف؟"
بنعاس شـ.ـديد يسيطر عليه أكد هويته:
_ أيوة أنا، مين حضرتك؟
"أنا واحد محتاج يقابلك ضروري"
_ أنا آسف والله مش بقابل حد معرفوش
قالها يوسف فأسرع الآخر متوسلاً:
_ أنا عيسى اللي بنت المرحوم عبدالرحمن كلمتك عنه قبل كدا
أخرج يوسف زفيراً ليهدئ من حشرجة حنجرته وقال بجدية:
_ تمام تعالالي المعرض، بس ياريت يكون قبل الضهر
"تمام، إن شاءالله هكون عندك قبل الضهر"
أنهى يوسف المكالمة ثم تفحص ساعة الهاتف، كاد أن يكمل نومه إلا أنه أراد الهروب من عيناي لينة، فلن يقدر على مواجهته بعد تصرفه البـ.ـارحة.
بدل ثيابه ثم مشط خصلاته وخرج من الغرفة، نظر إلى غرفة لينة الهادئة ثم مر من أمامها بحذر لكي لا تنتبه عليه، لكن المفاجأة كان وجودها في الردهة.
طالعها لوقت غير مصدق أنها أمامه، بينما اقتربت هي منه بوجه جـ.ـا.مد وعقدت ذارعيها أعلى صدرها وببرود هتفت:
_ أنت رايح فين؟
بادلها يوسف نظرات بـ.ـاردة وبملامح متجهمة أجابها:
_ رايح الشغل
رفعت حاجبها وقالت:
_ أنت مش ناسي حاجة؟
ارتخت ملامحه حينما لم يصل إلى شيء قد يكون نسيه، هز رأسه وسألها مستفسراً:
_ حاجة إيه؟
اقتربت منه حتى باتت أمامه تماماً، تاركة بينهما سنتيمرات قليلة، ثم وضعت كلتى يديها في خصرها وبغيظ صاحت:
_ تصالحني مثلاً!
تقوس فم يوسف للجانب مبدي استيائه:
_ نعم؟ أصالحك!
ليه هو أنا زعلتك؟
قلبت لينة عينيها بعدm إعجاب لاستنكاره، في النهاية إنه ذكر ولن يعترف بخطئه بسهولة، تنهدت قبل أن تردف كلمـ.ـا.تها بحنق:
_ أنت نسيت عملت إيه إمبـ.ـارح؟
تصنع يوسف التفكير، فاتخطت لينة حدودها تلك السنتيمرات التي تفرق بينهما ورفعت سبابتها في وجهه وصاحت مندفعة:
_ مش عايزة استعباط يا يوسف
أمسك يوسف بسبابتها وحذرها من بين أسنانه بعصبية:
_ اتكلمي معايا عدل
تأففت لينة وهدرت به شزراً:
_ يعني مش هتصالحني؟!
شـ.ـد يوسف إصبعها للأسفل قليلاً ثم أمسك بيدها الصغيرة فتوجست لينة خيفة أن يزيد من ضغطه على يدها وهتفت بدلال متعمد:
_ خلاص مش عايزة منك حاجة
تفاجئت بتلك القبلة التي طُبعت على كفها، رمقته بدون استيعاب لتصرفه، بالتأكيد هي مازالت نائمة وهذا حلم، لكنه حلم جميل.
فاقت على صوته العـ.ـذ.ب حينما قال:
_ أنا آسف متزعليش
ابتسمت بعفوية وهي تنظر لوميض عينيه الذي اختلف كلياً عن ذي قبل، ترك يدها ثم بادلها إبتسامة عـ.ـذ.بة قبل أن يتابع سيره نحو الباب ليغادر، لكنه توقف وأعاد النظر إليها قائلاً بنبرته الرخيمة:
_ لينة، متفكريش تقصي شعرك تاني..
أومأت بقبول فغادر يوسف بينما باتت لينة في حيرة من طلبه، لماذا يهتم بشأن شعرها لتلك الدرجة؟
ثم إنه لم يراه من قبل لكي يرفض قص طوله، شعرت بتشتت عقلها فلم تستيطع الإتيان بإجابة واضحة وعادت إلى غرفتها لتبدأ في مذاكرة دروسها.
في الخارج، وقف يوسف مكانه، لحظة استيعاب لما قام به، أهو حقاً قبل يدها؟
كيف تجرأ وتصرف بوقاحة دون تراجع، كيف لم يفكر عقله للحظة أن ما يفعله خطأ!
في النهاية لم يصل لإجابات صريحة ترضى أسئلته، فلم يكن أمامه سوى الذهاب إلى عمله ونسيان وقاحته الحادثة.
***
في مكتب يوسف، كان بلال ووالده في انتظاره، تعجب يوسف من وجودهما في تلك الأثناء، فدوماً هو من يكون أول الحاضرين، جلس ثلاثتهم في الصالون المخصص للضيوف ثم بدأ السيد سمير حديثه:
_ حمد لله على سلامة زياد، معرفتش حاجة عن موضوع قطع الفرامل دا؟
نفى يوسف معرفته بالفاعل:
_ الله يسلمك، مش في دmاغي حد بعينه، ودا اللي هيجنني
اقترح السيد سمير إسما لربما يكون الفاعل:
_ مش يمكن يكون آندور؟
استبعد يوسف ذلك الشخص موضحاً:
_ فكرت فيه، بس ملوش أي مصلحة يعمل معايا كدا، أنا معايا ورق يدينه يعني يخاف يلعب معايا أقوم أأذيه
تنهد السيد سمير قبل أن يردف:
_ على العموم خلي بالك، ومن هنا ورايح تشيك على العربية قبل مـ.ـا.تركبها
أخفض يوسف رأسه بحرج، تردد كثيراً فيما سيقوله، فهذا آخر ما أراد فعله في تلك الفترة، أخذ نفساً عميق ثم نظر إلى السيد سمير وأردف بإقتضاب:
_ أنا عايز أشتري العربية اللي بتتصلح
تعجب بلال من طلبه وتدخل في الأمر:
_ على فكرة محدش طلب منك تشتريها و...
قاطعه يوسف بحكمة:
_ بس أنا عايز، أنا أصلا كنت ناوي أشتري واحدة، بس كنت مأجل الفكرة على لما أخد الخطوة اللي بقالي كتير برتب لها بس الظاهر مفيش نصيب
سأله سمير بجدية:
_ خطوة إيه اللي بتتكلم عنها؟
حمحم يوسف وبتهكم واضح أجابه:
_ خلاص بقا، الموضوع راح لحاله
أصر بلال على معرفة تلك الخطوة:
_ ما تقول يابني كنت ناوي على إيه؟
أخبرهم يوسف عما يريدان معرفته لطالما حلم بتحقيق هدفه ذاك كثيراً:
_ بصراحة كنت عايز أشارك حضرتك
قالها وهو ينظر للسيد سمير، أخرج تنهيدة بطيئة وتابع تحت نظرات الدهشة في عينيهما:
_ كنت حابب يكون لي شغلي الخاص، بس الموضوع صعب وبعيد، ففكرت إني أشاركك على الأقل أسهل بس مفيش نصيب..
انتبه كليهما إلى بلال الذي هتف بحماس يشوبه الجدية:
_ يبقى أنا ويوسف ٥٠٪ وأنت يا بابا الـ ٥٠٪ التانين
تفاجئ يوسف باقتراح بلال وبادر في الرفض خشية أن يضع صديقه في موضع حرج مع والده:
_ لا لا يا بلال...
تدخل السيد سمير حاسماً للأمر:
_ على بركة الله، أنا أصلا كنت محتاج شُركة معايا وبكدا يبقى نقدر نقول مبروك علينا المعرض التالت
هلل بلال بفرحة عارمة:
_ دا الكلام
مد يده إلى صديقه وبحماس شـ.ـديد أردف:
_ مبروك علينا يا شريكي
بالله ماذا يهذي ذاك المختل، كيف بتلك السهولة؟ أحقاً بات من أصحاب الأملاك الآن؟
حقاً سيحقق حلمه وهدفه لطالما تمنى لأعوام عديدة!
بتلك السهولة بعدmا فقد الأمل!
حقاً لا يصدق كرم الله عليه
مد يده إلى بلال وصافحه والسعادة وحدها من تتحدث عما يدور داخله، قطعت لحظتهم حينما طُرق الباب فسمح يوسف للطارق بالدخول:
_ أدخل..
ولج شاب غريب الهوية، كان الإرتباك بادي على تقاسيمه، حمحم وهو يجوب المكان بعينيه باحثاً عن أحدهم لكنه يجهل هويته، فتحدث يوسف متسائلاً:
_ مين حضرتك؟
أجاب الآخر بتردد:
_ أنا عيسى عبد النبي، عندي معاد مع أستاذ يوسف
نهض يوسف واستقبله قائلاً:
_ أيوة أنا يوسف اتفضل
أشار له للجلوس على أحد المقاعد، بينما نهض السيد سمير وكذلك بلال الذي تبعه واستأذنا ثم غادرا المكتب.
طلب يوسف للضيف مشروباً خاص ثم بدأ يستمع إلى ما جاء لأجله، وبعد مدة ليست بقصيرة، أنهى الشاب حديثه فتدخل يوسف بحكمته:
_ أستاذ عيسى حضرتك عندك أخوات بنات؟
أجابه عيسى بتلقائية:
_ أيوة ٣ بنات
ابتسم يوسف فهذا سيسهل عليه الأمور:
_ جميل أوي، حضرتك تقبل إن بنت فيهم تتجوز وتجيب لأخواتها راجـ.ـل غريب يعيش وسطهم؟
يعني هل أنت كراجـ.ـل شرقي وغيور هتوافق؟
نكس الشاب رأسه بخجل شـ.ـديد، ولم يستطيع الرد، فتابع يوسف مالم ينهيه:
_ صدقني أنا احترمت زيارتك ليا وإنك اتكلمت من خلالي، بس الوضع صعب ولا يمكن أقبل بوضع زي دا وفي الآخر طبعاً انتوا أحرار، بس مكنش اشتركت في حاجة شايفها غلط وهتفتح أبواب لمشاكل كتير
صمت يوسف قليلاً وطالع الشاب لبرهة قبل أن يكمل حديثه:
اللي أقدر أعمله إني أشوف لك شغلانة كويسة تقبض منها كويس وتساعد نفسك واحدة واحدة وطلاما هي بتحبك هتستناك حتى لو قعدت سنين، وصدقني طلاما نيتك خالصة لله ربنا هيسهلك أمورك كلها.
ابتسم له الشاب ثم شكره بإمتنان:
_ شكراً لذوقك
نهض ليغادر فأكد يوسف على حديثه:
_ إن شاءالله في خلال أيام بسيطة هنفتح فرع جديد وطبعاً محتاجين عمال كتير وقت ما نقرب هكلمك وتيجي تبدأ شغلك على طول
أعاد الشاب شكره ممتناً لكرمه، ثم استأذن وغادر، تفاجئ يوسف بدلوف بلال ثانيةً، عقد حاجبيه بغرابة لرؤيته مازال هنا ولم يغادر بعد:
_ أنت لسه هنا؟
اقترب منه بلال بنظرات مريبة أخافت يوسف وهمس بغموض:
_ خد لي ميعاد من خالك
بغرابة سأله:
_ وأنت بتتكلم بصوت وا.طـ.ـي كدا ليه؟
طالع بلال السقف ثم رد عليه بعدmا أخرج تنهيدة مطولة:
_ أصل مش مصدق إن أبويا خلاص وافق
ضحك يوسف على أسلوبه الطريف، لكنه سرعان ما اختفت ضحكته حين انفجر فيه بلال بعدm صبر:
_ أنت لسه هتضحك كلم خالك أخلص
عاتبه يوسف بحنق:
_ براحة شوية مش كدا
تأفف يوسف ثم هاتف خاله ليتخلص من سخافة بلال، أجاب الطرف الآخر بود:
_ إزيك يا يوسف باشا، أخبـ.ـارك ايه
بنبرة لطيفة حميمية أجاب:
_ بخير يا خالو، أنتوا أخبـ.ـاركم إيه
- كويسين يا حبيبي، ميمي والواد زياد كويسين؟
- بخير يا خالوا الحمدلله
نفذ صبر بلال وأشار إلى يوسف بأن يسرع قليلاً، استنكر يوسف تلك العجلة التي يريد الأمور أن تسير بها، لكن ما عليه سوى امتثال لمطالبه، حمحم ليخبر خاله عن سبب المكالمة:
_ بقولك يا خالو، كنت عايزك تحدد ميعاد بلال وعيلته يجوا فيه
شهق بلال بصدmة فجذب انتباه يوسف إليه، فهمس الآخر بنفاذ صبر:
_ ميعاد إيه اللي يحدده، قوله إحنا جايين بكرة
رفض يوسف أن يخبره بما يريده بلال لكنه كان لحوحاً للغاية فاضطر إلى قوله:
_ وياريت لو ينفع بكرة
لم يستطيع رمضان إعطاء يوسف إجابة صريحة قبل أن يعود إلى زوجته وابنته ليرى إن كان الموعد يناسبهن أم لأ:
_ طيب هرد عليك بليل يا يوسف
باختصار أنهى المكالمة:
_ تمام هستناك، مع السلامة
إنهال بلال عليه بالمعاتبة فور إنهائه المكالمة:
_ ما تخلص معايا الموضوع دا يا يوسف بقا، عايزك تزق الدنيا معايا كدا عايز أخلص
لم يوافقه يوسف الرأي في سيران الأمور بعجالة وأخبره بجدية:
_ بلاش سربعتك دي يا بلال، كل حاجة تيجي في وقتها كويس، سيب كل حاجة تمشي براحتها عشان مترجعش تنـ.ـد.م في يوم
رمقه بلال بطرف عينيه، غير مقتنع برأيه، نهض عن مقعده مردداً:
_ لما خالك يرد عليك عرفني
"تمام"
قالها يوسف مختصراً بينما غادر الآخر وذهب إلى عمله، عاد يوسف برأسه إلى حافة الكرسي مستنداً عليه، أوصد عينيه لبرهة وظل يتذكر مشاكسته وتصرفاتها التي تروق له كثيراً.
يحب دلالها المبالغ معه، لا يضجر قط من أسلوبها حتى وإن تعدى حدوده قليلاً، تذكر خصلاتها المموجة التي كانت تغطي وجهها بأكمله، شعر برجفة قوية سرت في أوصاله وخصيصاً حينما راوده الشعور نفسه عنـ.ـد.ما كانا في المطبخ.
وميض عينيها وهي تطالعه حينها كان غريباً، مريباً، لم يشعر بخوف فيهما بل شعر لوهلة أنها مستمتعة بقربه، هو رآها موصدة العينين وكأنها تشم رائحته!
لم يكن متأكداً تماماً مما رآه، لكنه يجزم أنها لم تكن خائفة منه، وكيف ستخشاه وهو مأمناها مثلما أخبرته هي من قبل؟!
شعر بأنه بحاجة إلى سماع صوتها، لم يتردد ثانية وهاتفها على الفور، أتاه صوتها بعد ثوانٍ قليلة برقة:
_ سوفي..
خفق قلبه بقوة حينما نادته بتلك الرقة، كذلك تقوس ثغره تلقائياً وأردف بنبرته الرخيمة:
_ بتعملي إيه؟
تفحصت الكتب الكائنة أمامها وأخبرته بملل:
_ بذاكر
نهض عن كرسيه ووضع يده في جيب بنطاله ثم جاب الغرفة بخطوات متهملة، وتابع مكالمته بسؤاله:
_ أنتِ صرفتي نظر عن قص شعرك صح؟
اتسع ثغرها بإبتسامة خجولة وهي تجيبه:
_ مش قولتلك خلاص يبقى خلاص
صمت كليهما، فلم يكن هناك المزيد من الأحاديث ليتبادلاها، حاول يوسف التفكير في شيء ما يتناولاه لكنه لم يجد، فرأى أنه من الأفضل إنهاء المكالمة فليس هناك داعٍ لمواصلتها دون حديث.
"أنت بتعمل إيه؟"
كان سؤالها بمثابة خيط وأمسك طرفه لبداية أحاديث جديدة، ظل يتسامران دون أن ينتبها على الوقت الذي مر سريعاً.
شهقت لينة حينما لمحت ساعة الحائط، انتفضت من مكانها وهي تردد:
_ اتاخرت، اتاخرت
أبعد يوسف الهاتف عن أذنه ليتفقد الوقت فتفاجئ بمرور الوقت ولم يشعر به، أعاد الهاتف وقال:
_ البسي على لما أجيلك
أخذ مفاتيحه ثم خرج من مكتبه ليجد سيارة أخرى يستخدmها اليوم لحين استلامه سيارته.
***
مساءاً،
واضع هاتفه على أذنه ويده أمام فهمه لكي لا يتسلل صوته إلى الخارج وبنبرة هامسه أردف:
_ لا بس صوتك جـ.ـا.مد في الموبايل، وأكيد هيبقى أجمد لو اتقابلنا
= بس أنا مش هعرف أخرج لوحدي، ممكن أجيب واحدة صحبتي
- هاتي اللي تجبيه المهم نتقابل
= ضحكت بميوعة قبل أن تعقب:
خلاص بكرة
- ربنا يصبرني من هنا لبكرة
- ارتفعت ضحكاتها فهلل هو بإعجاب شـ.ـديد:
_ آه يا قلبي، لا كدا مش هصبر لبكرة إديني عنوان بيتكم بسرعة
= لأ أصبر يا زيزو كلها ساعات الليل ونشوف بعض
رققت من نبرتها وبدلال متعمد سألته:
_ قولي يا زيزو أنا لو اديتك العنوان هتعمل إيه؟
تقوس ثغره فهو على علم بما ترمي إليه وتود سماعه، لكنه رضى فضولها بتلهف زائف:
_ دا أنا هعمل كوارث
إزدادت ضحكاتها المثيرة فأبدى عدm قدرته على التحمل بقوله:
_ براحة على قلبي شوية كدا مش هعرف أسيطر عليه وأنتِ اللي هتزعلي بعدين
عضت على شفتيها وهتفت دون حياء:
_ لما نشوف تقدر تعمل إيه..
انتبه على صوت والدته التي نادته من الخارج:
_ يلا يا زياد عشان تتعشى
تنهد وواصل مكالمته:
_ معلش بقا مضطر أسيب القمر عشام بينادوا عليا
أغلق المكالمة ثم بصق على الهاتف بتقزز وتمتم بإشمئزاز:
_ بت سهلة
نهض وخرج من غرفته وجلس مع الجميع يتناولون طعام العشاء، انتهوا من الطعام وإذا بهاتف يوسف قد صدح رنينه، أجاب دون تفكير:
_ إزيك يا خالوا
أجاب رمضان بود:
_ بخير يا حبيبي، بقولك عرف بلال إننا مستنينهم بكرة إن شاء الله وطبعاً أنت لازم تكون موجود وميمي كمان
ابتسم يوسف بسعادة، حتماً سيسعد بلال بذلك الخبر، أخذ نفساً ورد على خاله:
_ إن شاءالله يا خالوا هنكون كلنا موجودين
على جانب آخر، كانت لينة منشغلة في الهاتف، وجه زياد حديث إليها مقاطعاً إياها عما تفعله:
_ بتعملي إيه كدا؟
تأففت ثم ألقت بالهاتف بعيداً عنها، أوصدت عينيها وقد تجهمت تعابيرها، أخرجت زفيراً عميق مخرجة ضيقها معه.
عادت إلى زياد الذي صاح ساخراً:
_ كل دا حصل
رمقته بنفاذ صبر وهدرت به شزراً:
_ مش ناقصاك بجد يا زياد، سبيني في حالي
شعر بالنـ.ـد.م لسخريته، من الواضح أن هناك أمراً يشغل عقلها، تنهد وبجدية سألها:
_ مالك طيب؟
بإقتضاب أردفت:
_ مفيش
تدخل يوسف بسؤاله حين لاحظ تـ.ـو.تر الأجواء:
_ مالك يا لينة؟
أخرجت تنهيدة لكي تستطيع إعطائه إجابة، فخرجت كلمـ.ـا.تها مختنقة قليلاً:
_ مش عارفة أوصل لعلي يا يوسف!
الموضوع شاغلني أوي ومزعلني، هو بجد مش بيفكر فيا؟
قدر ينساني؟ نسى توأمه، أخته اللي سابها ومشى من غير حتى ما يودعها
قلبي بيتو.جـ.ـع كل لما أفكر أنه عايش حياته عادي من غير ما يعرف عني حاجة
وبتو.جـ.ـع أكتر لما أتخيل أن ممكن يكون حصله حاجة وأنا معرفش عنه حاجة
تفاجئ الجميع بمشاعرها التي أفصحت عنها، ضمتها السيدة ميمي لعلها تربط على قلبها المنكـ.ـسر:
وإحنا قصرنا في حاجة يا لينة عشان تفكري كدا؟
نفت لينة سؤالها موضحة قصدها:
_ لا طبعاً، بس هو أخويا، ومش أي أخ دا توأمي، يعني مجبرة أفكر فيه وبخاف يكون حصله حاجة
لم يستطيع يوسف رؤية دmـ.ـو.عها التي تنسدل بغزارة دون توقف، مال بجسده للأمام ليكون أقرب لها وهتف:
_ علي كويس يا لينة والله أعلم بظروفه، إن شاء الله نقدر نتواصل معاه قريب وتطمني عليه
مسحت لينة عبراتها وهي تردد:
_ يارب
نهضت ميمي وجمعت الأواني والكاسات على الصينية، بادر يوسف في أخذهم منها بلطافة:
_ عنك يا أمي
رفضت بحرج:
_ لا لا سيبهم يا حبيبي
أصر يوسف على حملهم بقوله:
_ هاتي كدا كدا أنا داخل المطبخ
أخذهم منها ثم توجه ناحيه المطبخ ووضع الصينية على الطاولة الرخامية، كاد أن يغادر إلا أنه وقف ونظر إلى الكاسات، تناولت يده تلقائياً عند الكأس الخاص بلينة، رفعه بقرب أنفه ليشم رائحتها.
"يوسف، أنت بتعمل إيه؟"
ثم صدح صوت وقطع خلوته، فسقط الكأس من يده من هول المفاجأة وتناثرت أشلائه في جميع زوايا المطبخ.
استدار بجسده وإذا بـ....
↚
هرولت نحوه بذُعر، فأشار بيده إليها مانعاً إياها من الإقتراب:
_ خليكي عندك، متقربيش عشان الإزاز
وقفت مكانها بينما جلس هو القرفصاء وبدأ يجمع حطام الزجاج، لم تحب الوقوف ومشاهدته دون مد العون له، بحثت بعينها على شيء ما يمكنها مساعدته بها فإذا بالمكنسة اليدوية على مسافة قريبة منها.
اتجهت ناحيتها وكانت حريصة بألا تدعس على الزجاج، احضرتها ثم جمعت بها بقايا الزجاج المتناثر في الزوايا، مما ساعد يوسف على جمعهم، حضرت السيدة ميمي متسائلة بقلق:
_ في إيه يا ولاد إيه الصوت دا؟
أخبرها يوسف بنبرة هادئة:
_ المج بتاع لينة وقع يا أمي
صوبت لينة نظراتها تلقائياً على يوسف والدهشة كانت مُشكلة على تقاسيمها بينما هتفت والدته:
_ فداها ألف مج
التفتت لينة برأسها وأرسلت إليها قُبلة في الهواء فبادلتها ميمي قُبلة أخرى قبل أن تردف:
_ خلوا بالكم وأنتوا بتلموا الإزاز
باختصار قال يوسف:
_ متخافيش يا أمي
انسحبت هي للخارج فلم تنتظر لينة ووجهت أنظارها على يوسف وسألته بفضول:
_ المج بتاعي كان بيعمل إيه في ايدك؟
تفاجئ يوسف من سؤالها، وأدرك أن الموقف بات حرجاً للغاية، حمحم وبتلعثم أجابها:
_ مش كنت بودي الصينية هو فلت من بينهم ووقع
رفعت حاجبها الأيسر فلم تصدق ما أخبرها به، لقد رأته ممسكاً به، فصرحت بما رأته قائلة:
_ بس أنا شوفتك وأنت ماسك المج و...
قاطعها يوسف بانفعاله:
_ هعمل إيه بالمج بتاعك يعني، ولو زعلانة عليه هجيب لك واحد جديد، خلصنا
كان قد انتهى من جمعه للزجاج المحطم، استقام بجسده ثم ألقى به في صندوق القمامة وخرج من المطبخ دون أن يلتفت خلفه، هارباً من نظراتها المحملة بالعديد من الأسئلة حول تصرفه المبهم.
وكيف سيعطيها إجابات ولا توجد لديه إجابات واضحة لأسئلته هو، دلف لغرفته واعتلى طرف فراشه مستنداً براحتى يده على الفراش ولم يشعر بقبضة يده الغاضبة التي أمسك بها الغطاء، حتى ولج إليه أخيه، فأرخى من قبضة يده وطالعه دون حديث.
لوهلة خشى أن أخيه أيضاً رآه، فلم يخفض نظريه عنه في انتظار أي علامة تثبت له ذلك أو العكس، تعجب زياد من نظرات يوسف الثاقبة وسأله مستفسراً عما وراء نظراته:
_ بتبصلي كدا ليه؟
حرك يوسف رأسه نافياً وجود شيء وأردف بخفوت:
_ مفيش، عادي..
طالع الفراغ أمامه وانهمر بين أفكاره، يا تُرى ما رأي لينة فيما فعله؟
هل يمكن أن تسوء فهمه؟
كيف ستفكر به الآن بعدmا تصرف بوقاحة؟
ولما تصرف كهذا من البداية؟
ماهو المخزي من فعلته؟
فقط كان شعوراً منبعثاً من داخله يحثه على شم رائحة كأسها، لما؟ حقاً لا يدري!
"إيه اللي شاغلك أوي كدا؟"
قالها زياد بفضول، فحالة يوسف بدت مريبة بالنسبة إليه، لم ينتبه عليه يوسف فازدادت غرابة زياد، اقترب منه وجلس بجواره، لكزه في ذراعه ممازحاً إياه:
_ يابختها..
قطع عليه حبال أفكاره بكلمته، التفت الآخر برأسه ناظراً إليه بحاجبان معقودان مردداً بعدm استعياب:
_ هي مين؟
غمز إليه زياد بخبث وقال بنبرته اللعوبة:
_ اللي بتفكر فيها
احتدت تعابير يوسف ثم هتف بغضب جامح وهو ينهض مبتعداً عن الفراش :
_ مبحبش الكلام ولا الأسلوب دا، واحترم نفسك وأنت بتكلمني
أثار يوسف الجدل حوله بسبب انفعاله المبالغ، فالأمر لم يحتاج لكل ذلك الغضب، كان فقط يمازحه، نهض زياد موضحاً حسن نواياه:
_ في إيه يا يوسف، أنا بهزر معاك
نهى يوسف حوراهما السخيف بتحذيره:
_ ولا بتهزر ولا مبتهزرش، أنا هنام
فك أزرار قميصه ثم ألقاه بعنف على الأريكة الهزيلة الموضوعة في زاوية الغرفة، وتوجه إلى فراشه لينام تحت نظرات زياد المذهولة من تصرفاته الغريبة.
بعد لحظات بدل هو أيضاً ثيابه ثم أخذ قميص يوسف ووضعه على الحامل الذي يتمثل خلف الباب، توجه إلى الفراش وأولى ظهره ليوسف وفي ثوانٍ كان في ثُبات عميق.
في الغرفة المجاورة، كانت تتوسط الفراش حاضنة وسادتها بين ذراعيها مستندة بذقنها عليها، تفكر فيما رأته، كان الأمر شاغلاً حيزاً كبير في عقلها، كلما فكرت قليلاً بالمنطق لا تجد تفسيراً واضحاً لتصرفه.
انتبهت على اهتزازة هاتفها الموضوع على وضعية الصامت، فأجابت على صديقتها شهد:
_ لسه منمتيش؟!
عقبت شهد بنعاس:
_ بنام خلاص، بس كنت عايزة أقولك إني هجيلك بكرة قبل الدروس تفهميني حاجة ونمشي مع بعض
أبدت لينة قبولها قائلة:
_ تمام هستناكي
تثائبت شهد وأردفت بنبرة غير واضحة:
_ سـ سلام
_ "سلام"
قالتها ثم عادت لأفكارها ممكسة بخصلة من شعرها وظلت تلفها بحركات دائرية على إصبعها، وفي النهاية لم تصل لحلٍ يرضى فضولها، فقررت النوم أفضل.
***
في مساء يوم التالي، اجتمعت العائلتان في منزل السيد رمضان، عائلة بلال المكونة من والديه وشقيقتيه وأزواجهن، وعائلة يوسف، والدته ولينة التي أصر على مجيئها بينما تحجج زياد ببعض الأعمال لكي لا يذهب معهم.
رحب بيهم السيد رمضان بحفاوة:
_ البيت نور يا جماعة والله
تولى السيد سمير مهمة الرد عليه بلطف:
_ منور بأهله يا أستاذ رمضان
بإبتسامة قال رمضان:
_ تسلم يا أستاذ سمير
مال بلال على أذنه يوسف الذي كان يجلس بجواره وهتف ساخراً:
_ إيه الجو دا يابني، إحنا في مدرسة
صدرت ضحكة مفاجأة من يوسف فأثار النظرات حوله، أخفض بصره بحرج بينما عاد بلال بأنظاره على زواية خروج فتاته، فهو ينتظر ظهورها بفروغ صبر.
استاذنت هادية منهم بقولها:
_ بعد إذنكم لحظة
نظرت إلى لينة وأردفت:
_ تعالى يا لينة معايا
وجهت أنظارها على ولدها وحثته على المجيء:
_ وأنت كمان يا أسامة
نهض كليهما بينما كز يوسف أسنانه بعصبية وهو يرى لينة تسير بجوار ابن خاله، حمحم ثم نهض ونظر للجميع وهتف بأسلوب طريف:
_ ثواني وراجع، محدش يتكلم من غيري
قهقه الجميع على داعبته بينما أسرع هو إلى الداخل لاحقاً بهما، تعجبت هادية وجوده لكنها لم تعقب بل قابلته بود وبدأت في تحضير الحلوى وتعطيها لهم من أجل ضيافة الحاضرين.
كانت لينة متولية مهمة الضيافة بمساعدة يوسف، بينما دلفت هادية لغرفة ابنتها، كانت تجوب الغرفة ذهاباً وجيئاً تفرك يديها بتـ.ـو.تر.
"يلا يا إيمان عشان تطلعي للناس"
أردفتها هادية فنظرت إليها إيمان بإرتباك واضح، أخذت شهيقاً عميق ثم أخرجته على مهلٍ وقالت:
_ يلا..
خرجت والدتها أولاً ثم تبعتها إيمان إلى الخارج وقلبها يكاد يخترق جسدها من شـ.ـدة تدفق نبضاته، تشعر بالضياع، لا تعلم ماذا تفعل، وهل هي حقاً على استعداد لأخذ تلك الخطوة أم أنها تسرعت ويجب عليها التراجع قبل فوات الأوان.
خرجت من شرودها على وقوف الجميع أثناء ظهورها، شكلت ابتسامة زائفة على محياها ثم بدأت بمصافحتهم واحد تلو الآخر، حتى وقفت أمام بلال الذي كان يخفق قلبه بشـ.ـدة كلما اقتربت منه حتى باتت أمامه مباشرةً.
مد يده وتحسس يدها الناعمة فازدادت نبضاته أضعافاً، غزت الإبتسامة شفتيه وهو يراها واقفة أمامه خجلة بفستانها الأزرق الذي يتماشى مع لون بشرتها القمحية.
جلست إيمان على مقربة من الجميع، ولم ترفع رأسها قط، بل ظلت منكسة الرأس لا تقدر على النظر لأحدهم، فالأمر كان أصعب مما توقعت.
بدأ السيد سمير حديثه فيما جاءوا من أجله بصوته الاجش:
_ يشرفني يا أستاذ رمضان إننا نطلب أيد بنت حضرتك لبلال ابني
ابتسم رمضان وكذلك الجميع بسعادة منتظرين رده:
_ الشرف ليا يا أستاذ سمير إني أناسب عيلة محترمة زيكم
بإمتنان شـ.ـديد قال سمير:
_ ربنا يخليك يارب
حمحم ثم بدأ يعرف عن هوية بلال وما يملكه:
_ بلال عنده شقة عندي في العمارة، وماسك فرع من معارضي، وأهو في الآخر كله ليه ولأخواته يعني
هتف أبنائه في آن واحد:
_ بعد الشر عنك
_ ربنا يطولنا في عمرك يا بابا
بادلهم السيد سمير إبتسامة امتنان وحب، ثم عاد ليتابع حديثه:
_ وكل طلباتكم إن شاءالله متفقين عليها
وجه أنظاره حيث تجلس إيمان واسترسل بمرح:
_ كل اللي تقول عليه عروستنا هيتنفذ بس هي تؤمر
تدخلت شهيرة بنبرة صادقة:
_ آه والله هي تشاور بس وإحنا ما علينا إلا التنفيذ
ابتسمت لها هادية ممتنة لكرمها وشكرتها:
_ تسلمي يا أم بلال، كلك ذوق
أردفت الأخرى مؤكدة:
_ دا مش كلام والله، دي كفاية إنها هتكون مرات بلال لو طلبت عيني هديهالها
تدخلت ميمي في الحديث بقولها:
_ تسلم عيونك يا شهيرة
وزعت أنظارها بين أخيها وزوجته وتابعت:
_ شهيرة دي عشرة عمر، ومشوفتش أطيب منها يعني يابختك يا مونة بحما زيها
استنكرت شهيرة تلك الكلمة الغير مقبولة بالمرة وعدلتها:
_ لا لا يا ميمي بلاش كلمة حما دي مش بحبها، أنا هكون زي مامتها وإن مكنش أكتر كمان
صوبت بصرها على هادية وواصلت بإبتسامة مرحة:
_ متأخذنيش يا هادية بس أنا واثقة من نفسي
قهقه جميعهم بينما عقبت هادية ممتنة:
_ وأنا مكرهش والله، حتى أبقى مطمنة عليها
أسرعت شهيرة في بث الطمأنينة في قلب هادية بقولها:
_ لا أنا عايزاكي تطمني ومتقلقيش خالص
بادر سمير في مواصلة حديثه فحتماً لن تنتهي أحاديثهن تلك الليلة، حمحم ليجذب انتباههم وأردف بنبرته الرجولية:
_ ها قولت إيه يا أستاذ رمضان؟
تنهد قبل أن يردف:
_ أنا عن نفسي موافق، بس رأي العروسة أهم
عقب سمير بتأكيد:
_ دا أكيد، إيه رأيك يا عروسة؟
تفاجئت إيمان بسؤال سمير، خفق قلبها بشـ.ـدة وطالعته بذهول، لم يكن لديها إجابة وإن كان لديها فلن تصرح بها أمام الجميع، أنقذتها شهيرة حينما اقترحت:
_ مش يقعدوا مع بعض الأول يا سمير ويتعرفوا على بعض
زفرت إيمان أنفاسها التي حُشرت داخلها براحة، وافقها سمير الرأى حيث أردف:
_ أكيد طبعاً لو أستاذ رمضان وافق
لم يرفض رمضان الأمر فهذا من حقهم، نهض بلال وكذلك إيمان بينما نظر بلال إلى يوسف وغمز إليه ثم تابع سيره بعجرفة تحت نظرات يوسف الضحوكة، جلس كليهما في الصالون ثم تركتهم شهيرة بمفردهما وعادت إلى البقية.
الخجل كان سيد الموقف، على الرغم من تلهف بلال لخلق حوارً معها إلا إن كلمـ.ـا.ته انحشرت داخله وفشل في إخراجها، ظل يتابع تـ.ـو.ترها البائن، حيث كانت تهز قدmيها وكذلك تفرك أصابعها بقوة.
حتى فاجئته هي بسؤالها:
_ أسمح لي في السؤال، اشمعنا أنا اللي اختارتها؟
سؤالها بمثابة بابً قد فُتح له لبدء الحديث معها، حمحم ليضبط من نبرته رغم ذلك ظهرت متحشرجة:
_ عشان بحبك
رده كان مفاجئاً لكليهما، فلم يرتب هو للإفصاح عن حبه لها الآن، وكذلك هي لم تكن أقل منه ذهولاً.
حب!!
وهل يعقل أن يصرح بمشاعره من الجلسة الأولى لهما؟
كان على قدر كافٍ من التفهم بما يدور في عقلها، فأراد إرضاء دهشتها وإعطائها إجابات واضحة:
_ يمكن تقولي إيه العبـ.ـيـ.ـط اللي قاعد قدامي دا، بس دي الحقيقة، أنا بحبك يا إيمان؟
اتسعت مقلتيها بذهول شـ.ـديد فتابع هو قبل أن يفشل في استكمال حديثه الذي بدأه للتو:
_ يمكن كلامي ميكنش مقنع أوي بالنسبة لك، وأكيد بتقولي هو لحق يحبني امتى، دي تعتبر أول مقابلة لينا اللي فات كان مجرد صدف
أخفضت إيمان رأسها بحياء فهذا حقاً ما تفكر به، زفر بلال أنفاسه وتابع مالم ينهيه بنبرة متيمة:
_ كل دا بالنسبة لك صدفة، لكن أنا اللي كنت السبب في الصدف دي، أنا بقالي ٨ سنين مخبي مشاعري نحيتك، بس كنت متأكد أن في يوم هقدر أعترف بيه وكان جوايا يقين إنك هتبقى حلالي
عض على شفتيه السفلى قبل أن يتابع:
_ ودلوقتي متعشم في موافقتك..
رفعت إيمان نظريها عليه فقابلها بإبتسامة عـ.ـذ.بة، لن تنكر تعجبها منه ومن حديثه وتصريحه بدون زيف، كان صادقاً للغاية وهي استشعرت ذلك بالفعل.
حتماً لن تكذب تلك العينين اللامة التي تنتظر إجاباتها بفروغ صبر، شعرت بالضياع أكثر ولم تعد تعلم ماذا تفعل، من البداية كانت متأكدة من رفضها، لكنها الآن مشتتة، تخشى تحطيم قلبه وأن تكون السبب في انطفاء وميض الأمل في عينيه.
قطع حبال أفكارها سؤاله بتوجس:
_ ها إيه رأيك؟
ابتلعت ريقها مراراً قبل أن تعطيه إجابة:
_ أنا محتاجة وقت أفكر لو دا مش هيضايقك..
نفى بلال وجود أي مضايقة في الأمر:
_ لا طبعاً، خدي وقت زي ما تحبي
تقوس ثغرها ببسمة لم تتعدى شفتيها على عكس الإبتسامة التي غزت وجه بلال، لم يتوقف عن الثرثرة وظل يحدثها عن نفسه وعن أعماله وهواياته وكل ما يخصه بنفسٍ راضية.
***
في الخارج، استغلت لينة فرصة انشغال الجميع وانسحبت من بينهم وولجت لشرفة التي تتوسط الردهة، استندت بمرفقيها على سورها وطالعت السماء والعديد من الأفكار والمشاعر قد راودتها.
انتبه يوسف لذهابها ونهض خلفها ليعلم ما أمر انسحابها من بينهم
"واقفة لوحدك ليه؟"
سألها وهو يستند أيضاً على سور الشرفة، التفت هي برأسها وأجابته بفتور:
_ الجو جوا حلو أوي، وقلب عليا ذكرياتي
التفت بكامل جسدها وواصلت بأعين لامعة تهدد بتساقط عبراتها:
_ واحشني أوي جو بيتنا
ابتسمت بألم وهي تواصل بنبرة مهزوزة:
_ واحشني بابا وماما واخواتي، واحشتني لمتنا، تعرف بابا مـ.ـيـ.ـت وأنا كنت صغيرة أوي، مكنتش فاهمة يعني إيه مـ.ـو.ت، مكنتش لسه قادرة أستوعب يعني إيه يروح وميرجعش تاني، الموضوع مكنش مسبب لي أزمة لأن كان فيه بديل، ماما ويمكن هي كانت الجانب الأكبر اللي محتويانا، بابا كان طول الوقت برا مش بنشوفه كتير فغيابه مأثرش معانا أوي، أنا مفهمتش يعني إيه مـ.ـو.ت إلا لما أحمد راح وماما كمان راحت و..
لم تستطع الصمود لأكثر وجهشت باكية، وضعت أصابعها أمام عينيها تخفي عبراتها التي تنسدل بغزارة، شعر يوسف بوخزة قوية في قلبه، متألماً بسبب دmـ.ـو.عها التي تحاول إيقافها، بينما مسحت هي عبراتها بأناملها وأردفت بصوت متحشرج:
_ حتى علي مشى..
استدارت لينة بجسدها لوضعية وقوفها الأولى حيث استندت على سور الشرفة ثانيةً، ورددت بنـ.ـد.م وهي تطالع البنايات من حولها:
_ أنا آسفة إني نكدت عليك في يوم زي دا..
تفاجئت لينة بيدها التي اختفت داخل يده، التفت برأسها إليه فقابلها بإبتسامة عـ.ـذ.بة وهتف بنبرته الرخيمة:
_ بس أنا موجود، مش كفاية؟
نظرت في عينيه موحية إليه بإشارات معاتبة، فهل حقاً يسألها؟ ألا يدري كم تحبه؟ أيجهل أنه الأهم من بين الجميع!!
كادت أن تجيبه إلا أن صوت ذاك الدخيل قد منعها بسؤاله:
_ بتعملوا إيه عندكم؟
سحب يوسف يده بهدوء لكي لا يسبب الحرج لكليهما، التفت إلى ابن خاله وشكل إبتسامة سمجة على شفتيه وباقتضاب سأله:
_ عايز أيه يا خفيف؟
أبدى أسامة سخافته في رده:
_ برخم عليكم
أيده يوسف رأيه عن نفسه:
_ طول عمرك رخم إيه الجديد
تشـ.ـدق أسامة بفمه غير متقبل سُبابه وردد:
_ لأ أنا مقبلش إهانتي قدام القمر
أردف آخر جملته وهو يطالع لينة بعينيه، برزت عروق عنق يوسف بغضب ثم اقترب من ابن خاله ولكزه في صدره بعنف محذراً إياه:
_ طيب خد عينك وأطلع برا بدل ما أقلعهملك من مكانهم
أرغمه يوسف على الالتفات والسير، دافعاً إياه إلى الخارج، عاد لمشاكسته التي لم تكف عن الضحك فأثارت غضبه وهلل بإقتضاب:
_ معاكسته عجبتك أوي؟!
عقدت لينة حاجبيها واستنكرت ظنونه ثم عللت سبب ضحكها:
_ أنا بضحك عليك على فكرة..
قلب يوسف عينيه ثم طالع الفراغ أمامه محاولاً استعادة رونقه من جديد، بينما أخرجت الآخرى تنهيدة حارة وهي تخبره بمشاعرها:
_ وعلى فكرة أنت الأهم من بين كل اللي حواليا
أدار رأسه نحوها بغرابة فأوضحت هي سبب تصريحها:
_ مش كنت بتسألني أنا مش كفاية؟
فهم ما ترمي إليه ولم يمنع تسلل ابتسامته التي تشكلت عفوياً على محياه، فأجبر لينة على الإبتسام، أخرجت زفيراً عميق واقترحت شيئاً:
_ ما تحكيلي عن أحمد؟
رمقها يوسف والرفض يتجلى في عينيه، استشفت رفضه فقالت:
أكيد فيه بينكم مواقف حلوة، أو كوميدية يعني..
اتسعت إبتسامة عنـ.ـد.ما تذكر طرائفه مع أحمد وبدأ يقص عليها من بين ضحكاته، بينما كانت تصغي له باهتمام شـ.ـديد كما شاركته الضحك أيضاً.
***
في غرفة الصالون، وبعد صمتٍ طال لعدة دقائق تنهد بلال ثم سألها بفضول:
_ ها، لسه مش هت عـ.ـر.فيني رأيك؟
لم تمنع إيمان ابتسامتها التي غزت شفتيها مجبرة إياه على الإبتسام كذلك ثم أردفت ساخرة:
_ أنا لحقت أفكر؟
لم تكن ضحكتها هينة عليه، لقد كانت تعني الكثير والكثير، شعر بأملاً يخلق داخله وأن ردها سيكون في صالحه.
_ نهضت إيمان وبلطف هتفت:
_ نخرج؟
أماء لها بقبول ثم نهض عن الأريكة وتبعها إلى الخارج، أنتبه الجميع لدلوفهما واستقبلاهما بإبتسامة كانت مريبة قليلاً.
وقعت ضحكات يوسف ولينة على أذن إيمان، فوجهت نظراتها تلقائياً عليهما، على ما يبدو أن حوراهما حميمياً للغاية.
لم تصدق عينيها، هل هذا يوسف نفسه؟ تلك ضحكات من تمنت منه إبتسامة حتى وإن كانت زائفة؟!
لكن ما شغل عقلها، أين تكمن المشكلة؟ بها أم به أم بتلك الفتاة التي ينشغل بها؟
حتماً بثلاثتهم، أخرجت تنهيدة مهمومة ثم اقتربت من والدها وانحنت بقرب أذنه وهمست ببعض الكلمـ.ـا.ت ثم عادت إلى كرسيها في هدوء.
حمحم رمضان قبل أن يخبرهم برأي إيمان التي أبلغته به:
_ طيب يا جماعة، العروسة موافقة
السعادة دون غيرها أسرت قلوب الحاضرين، تعالت الزغاريد من قِبل شقيقات بلال فرحين بذاك الخبر السعيد، وفي زواية يقف بلال جاحظ العينين لا يصدق أنها بالفعل قبلت.
لا يستوعب عقله، لقد سألها منذ دقائق عن رأيها به وطلبت منه بعض الوقت، لكنها كانت مفاجأة سارة دق قلبه طرباً بسببها، أخرج من جيب معطفه عُلبة حمراء اللون أثناء خروج يوسف ولينة من الشرفة.
اقترب من ساكنة فؤاده ومد لها يده فنظرت إلى والدها الذي أومأ برأسه فأعطت يدها لبلال فأسرع في وضع الخاتم الذي اشتراه خصيصاً من أجلها في إصبعها، طالع عينيها الخجلتان وأردف بصوته الرخيم:
_ مبروك علينا
عقبت على مبـ.ـاركته بخفوت:
_ الله يبـ.ـارك فيك
تعالت الزغاريد مرة أخرى، حتى قطعها بلال بقوله:
_ دي مش الشبكة دا مجرد هدية بمناسبة قراية الفاتحة
وجه بصره على الجميع متسائلاً بمرح:
_ صحيح إحنا مش هنقرأها ولا إيه؟
هللت شهيره بسعادة لا توصف:
_ طبعاً دا مش من قيمتها، دي قيمتها غالية أوي مش مجرد خاتم
نظر السيد سمير إلى والد إيمان وبود سأله:
_ تقرأ الفاتحة يا أستاذ رمضان؟
أماء له رمضان بقبول مردداً:
_ على خير الله، أقروا الفاتحة
رُفعت أيادي الحاضرين تلقائياً وظل يرددون سورة الفاتحة بخفوت، كانت نظرات الجميع تدل على مدى سعادتهم بتلك المناسبة المفاجئة، على عكس يوسف الذي كان يطالع صديقه بعبوس، غير راضٍ بما يفعله، وعزم بأن يحادثه في وقت لاحق.
"ولا الضالين، أمين"
أنهى بها بلال قرأته لسورة الفاتحة ثم نظر إلى السيد رمضان مباشرةً وهتف بحماس:
_ لو تسمح لي يا عمي، أنا مش حابب أطول فترة الخطوبة، أنا الحمدلله لله شقتي جاهزة، واقفة على شوية حاجات إيمان إن شاء الله تنزل معايا تختارهم بنفسها، وأنا مش محتاج منكم أي حاجة ي...
قاطعته هادية التي تحدث بعجرفة:
_ ولا احنا ناقصنا حاجة، إيمان شوارها خالص من زمان
ابتسم لها بلال بهدوء وواصل حديثه:
_ يبقى تمام أوي، في خلال شهر الشقة هتكون خالصة من مجاميعه ونحدد الفرح على طول
لم يعجب رمضان سيران الأمور بتلك العجلة وقال رأيه في تلك المسألة:
_ وليه الإستعجال يابني؟ استنوا شوية خلص حاجاتك براحتك وبعدين نفكر في الفرح
أبدى بلال رفضه التام حيث أردف:
_ ياعمي أنا خلاص هتم ٣١ سنة الشهر الجاي، يعني مش صغير وطلاما إحنا مخلصين كل حاجة، يبقى ليه نستنى؟
_ أنا حابب نتعرف على بعض أكتر وإحنا في بيتنا
تدخل سمير برأيه حينما شعر برفض رمضان:
_ متصغطش عليهم يا بلال، طلاما كدا كدا في الآخر هتتجوزوا مش فارقة شهر بقا من ٣ أو ٤
شعر رمضان بالحيرة من ذاك الموقف الذي وقع بين طياته، زفر أنفاسه ليعطى لعقله فرصة التفكير قبل أن يعقب:
_ والله يا جماعة أنا معنديش مانع، بس الرأي يرجع للعروسة هي اللي تقرر في الموضوع دا
توجهت الأنظار حول إيمان التي كست الحُمرة وجهها من فرط الخجل، لم ترفع نظريها عن الأرض قط، ابتلعت ريقها وبخجل بائن أردفت:
_ اللي تشوفه حضرتك يا بابا
هتفت شهيرة بحماس:
_ قول موافق يا أستاذ رمضان خلينا نفرح
وزع رمضان أنظاره بين الجميع فلم يرى سوى السعادة التي ستدق قلوبهم بموافقته فما كان أمامه سوى القبول حيث قال:
_ على خير الله
عمت الزغاريد والمبـ.ـاركات المكان، كانت السعادة من تسيطر اليوم على قلوبهم، بينما كان يتابع يوسف ما يحدث ولا يبدي ردة فعل، يشاهد بفتورٍ ولا يعجبه تلك العجلة قط.
بعد مدة طويلة، استاذنت عائلة بلال وكذلك يوسف اصطحب عائلته ليغادروا، وقف بلال في زاوية قبل أن يصل إلى باب الشقة، استغل فرصة انشغال الجميع لتوديع بعضهما البعض وطالب إيمان بحرج:
_ إيمان، ممكن رقم موبايلك
طالعته لبرهة فاختلق بلال سبباً لطلبه لذاك:
_ يعني.. عشان إحنا من بكرة هنبدأ ننزل ونشتري الحاجات وهبقى عايز أتواصل معاكي وكدا..
حمحمت ثم استأذنته بقولها:
_ طب ثواني معلش
اقتربت من والدها ثم همست له تحت نظرات بلال المذهولة، شعر بالحرج الشـ.ـديد ولعن نفسه بأنه طالبها برقم هاتفها، تمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه بدلاً من أن يواجه رمضان، بعد لحظات جائته بعد أن سمح لها والدها ثم أردفت بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ هات موبايلك
أعطاها إياه دون تفكير، فسجلت هي رقمها عنده بإسمها ثم أعادت الهاتف له، تقوس ثغره بابتسامة سعيدة كأنه فاز فى حربٍٍ وليس فقط امتلاكه لرقم هاتفها، طالع بندقيتها قليلاً قبل أن يردف بنبرته المتيمة:
_ تصبحي على خير
أخفضت رأسها بحياء وأجابته بنبرة تكاد تُسمع:
_ وأنت من أهله
"مش يلا بقى يا بلال ولا هتبات عندك؟"
هتف بها يوسف بنفاذ صبر، بينما بادله الآخر نظرات غيظ وصاح بحنق:
_ جاي خلاص أهو يا خفيف
أشار إلى إيمان مودعاً إياها:
_ مع السلامة
اكتفت الأخرى ببسمة لم تتعدى شفتيها، ثم غادر بلال برفقة الجميع، استقل كلاً منهما سيارته وغادروا عائدين إلى منطقتهم.
بعد وصولهم، تعمد يوسف عدm الصعود لمنزله ونادى بصوته الأجش على صديقه:
_ بلال عايزك قبل ما تطلع
أؤمأ إليه بقبول وصاح من على بُعد مسافة منه:
_ هركن العربية وأجيلك
بعد لحظاتٍ انضم بلال إليه فتفاجئ بانفجار يوسف به:
_ مش عاجبني أبدا سربعتك اللي مشيت بيها الموضوع، جواز إيه اللي يتم في شهر؟
جبت الثقة دي منين عشان تقرر تتجوز في شهر واحد اللي هو أصلا هيضيع كله في تجهيز البيت؟!
أنت بجد مخوفتش للحظة إن حياتك تفشل؟
يعني على الأقل كنت تصبر ٥ أو ٦ شهور كدا تكون فهمت دmاغها وهي فهمت دmاغك، شاركتوا بعض في الفرح والزعل، اتخانقتوا وعرفتوا أن كنتوا هتعرفوا تتعاملوا أو حتى لأ
حاجات كتيرة أوي المفروض تعرفها عنها والعكس صحيح، وأنت تيجي تقرر إن الجواز في شهر؟!!
تأفف بلال بضجر بائن، فكلمـ.ـا.ت يوسف لم تأثر به ولو بذرة، تنهد ليخرج كلمـ.ـا.ته هادئة وليست غاضبة وحاول أن يريه وجهة نظره:
_ أنا استنيت كتير أوي أوي يا يوسف، مش كفاية بقى؟!
معتش قادر أضحك على نفسي أكتر من كدا، أنا بحبها وعايزها تكون حلالي ودا المهم، التفاهم والتعارف دا يجي بعد الجواز حتى يكون أسهل ومناخدش وقت..
أوصد يوسف عينيه لاعناً تفكيره الساذج، أعاد فتح عينيه وبنبرة مشحونة بالعصبية صاح:
_ دا تفكير عقيم، مفيش في الدنيا حاجة اسمها كدا، إحنا نتجوز لما نلاقي نفسنا متفاهمين ومستعدين لكدا
زفر أنفاسه وواصل مسترسلاً بضيق:
_ أنا وأنت عارفين اللي فيها يا بلال، على الأقل عودها عليك وعلى وجودك الأول وبعدين فكر في الجواز يا أخي
قابله بلال بملامح جـ.ـا.مدة، فهو يفهم مخزى حديثه، ولم يتقبله قط، تنهد يوسف وحاول كبح جماح غضبه، فهو مجبر أن يهدأ ويصلح ما اقترفه، شعر بالنـ.ـد.م حيال كلمـ.ـا.ته التي لم يرأف بصديقه عند قولها وهتف مبرراً:
_ أنا عارف إن كلامي يضايق، بس أنا مش عايزك تزعل في الآخر لما يتقفل عليكم باب ومتلاقيش اللي كنت مستنيه يا بلال
ربت على ذراعه وأكمل بنبرة سوية:
_ ياض أنت أخويا، وسعادتك تهمني..
استقام بلال في وقفته بعدmا كان يستند على سيارة يوسف، وباختصار قال:
_ ربنا يسهل يا يوسف
أولاه ظهره وعاد إلى منزله وكلمـ.ـا.ت يوسف تتردد في عقله، لقد تبخرت سعادته بتذكيره لحبها له، كيف تجنب تلك المسألة بسهولة، أم أنه تعمد نسيانها فقط ليصل إلى مراده في النهاية.
تشتت عقله ولم يعد يعلم أين الصواب، فقرر النوم ليريح ذهنه قليلاً من تعب التفكير لعله حينذاك يعرف ماذا يريد.
***
تأفف بضجر بائن، شعر بالصداع من ذاك الهاتف الذي لم يتوقف عن الرنين، تلفت أعصابه ولم يعد يستطيع التحمل فصاح بملل:
_ ما ترد يابني على البتاع دا، أنا صدعت، دا موقفش رن من وقت ما خرجنا
قلب زياد عينيه بتزمجر ثم أردف بلا مبالاة:
_ سيبها ترن..
التفت إليه أمجد متشـ.ـدقاً بفمه وهو يصيح بعدm تصديق:
_ خليها ترن! أنا قولت برده الصداع دا مش هيخرج عن واحدة من اللي بتمشي معاهم، ودي مين المرة دي؟
أجابه بثقة الفتى المشاكس:
_ ريم، البت الأخيرة دي
فغر أمجد فاهه بذهول وهو يردد بعدm تصديق:
_ مش دي اللي حفيت عشان تاخد رقمها؟!
إستاء زياد من وصفه ثم هدر به شزراً:
_ مين دي اللي حفيت وراها؟
رمقه أمجد بطرف عينيه بتهكم فتراجع زياد عن قوله:
_ ماشي كنت عايز أوصلها وأديني وصلت، بس خلاص زهوة البدايات بهتت كدا، مبحبش البنات السهلة اللي بكلمة واحدة تلاقيها وقعت، بحب البت اللي طلع عيني على لما أقدر أوصلها ويا سلام بقا لو موافقتش بتدخل دmاغي بطريقة ياض يا أمجد وببقى همـ.ـو.ت عليها وبقلب بطة بلدي قدامها بس أول ما تنخ وتتساهل معايا بتقع من نظري
طالعه أمجد بتقزز، هاتفاً بتهكم:
_ أنت محتاج تتعالج يا زياد
قلب زياد عينيه وهتف ساخراً:
_ ياعم فكك مني، يلا سلام
ترجل من السيارة ثم صعد إلى منزله بينما ذهب أمجد ليصف سيارة والده في موضعها ليعود إلى منزله.
***
"ها يا بنتي، ما تقوليلي رأيك إيه في اللي حصل النهاردة؟"
توسطت فراشها وأخذت وسادتها بين ذراعيها، واضعة إصبعها في فمها لتأكل أظافرها، وعقلها منهمراً في الأحداث الأخيرة
نفخت والدتها بضيق وصاحت بنفاذ صبر:
_ ما تنطقي يا إيمان، غلبتيني معاكي
خرجت إيمان عن صمتها مجيبة والدتها بنبرة هادئة مريبة:
_ معرفش يا ماما، مش قادرة أقول إني موافقة على اللي حصل وبرده مش قادرة أحدد إن كنت رافضة ولا لأ
رفعت هادية شفتيها العليا وعلامـ.ـا.ت الإستفهام ازدادت داخل عقلها، هزت رأسها حينما لم تفهم منها شيئاً ورددت بتأفف:
_ أنا مش فاهمة حاجة من كلامك دا
حاولت إيمان تبسيط كلمـ.ـا.تها فقالت:
_ بلال شكله طيب أوي يا ماما دا حتى قالي إنه بيحبني من ٨ سنين
اتسعت مقلتي هادية بدهشة، فسماع ذلك لم يكن هيناً قط، تشكلت بسمة عريضة على ثغرها هاتفة بسعادة:
_ كان فين دا من زمان؟
تنهدت إيمان بفتور وتابعت حديثها:
_ وأهله كمان شكلهم طيبين أوي، بس أنا مش مستعدة أبداً للجواز الوقتي، دا بيقول شهر!!
يعني يدوب أغمض وأفتح ألاقيني في بيت جديد عليا مع راجـ.ـل معرفش عنه أي حاجة، دا في حد ذاته يخوف، يخوف إيه دا الموضوع يرعـ.ـب، أنا كدا بظلم نفسي وبظلمه معايا، أنا مش هعرف أتعامل معاه بسهولة، مش هعرف أكون له زوجة يا ماما مش هقدر أديله حقوقه وأنا حاسة أنه غريب عني، والله أعلم هتعافى من التاني دا امتى وهركز مع دا امتى، أنا بجد تايهة ومتلخبطة وسرعة الأحداث دي مـ.ـو.تراني..
اقتربت منها والدتها وقامت باحتضانها، فشعرت برجفة جسدها ثم صغت إلى آناتها التي تلاها بكاءاً غزير، شـ.ـدت شهيرة من ضمها إليها وحاولت التخفيف عنها بقولها:
_ أنا عارفة إن قلبك مكـ.ـسور، وكان نفسك في واحد بس ربنا مأردش، نقوم نحمد ربنا إن فيه حد غيره بيحبنا، أهو دا اللي هيطبطب ويدادي ويداوي جروحنا، وإن جيتي للحق الواد ميعيبوش حاجة أبدا، أبوكي سأل عنهم وطلعوا ناس محترمة ومعروفة، وهو الوحيد يعني لا سلفة تقرفك ولا تضايقك، وأمه شكلها نفسها تجوزه النهاردة قبل بكرة وهتشيلك في عينها، وغير إن مستواه المادي كويس جداً يعني مش هيخليكي محتاجة لأي حاجة، وبعيد عن كل دا أنا شوفت لهفته عليكي ونظراته اللي متشالتش من عليكي طول القاعدة كأنه مش شايف غيرك، وشكله بيحبك بجد على فكرة، مش بيقولوا العاشق تفضحه نظرة عنيه؟
رفعت إيمان رأسها ناظرة لوالدتها التي ابتسمت لها وتابعت بنبرتها الحنونة وهي تملس على خصلاتها:
_ اسمعي كلامي وسيبي الموضوع يمشي زي ماهو، لو مشى من غير تعقيد يبقى دا نصيبك وعوضك، لو حصل أي حاجة فشكلت الموضوع يبقى منقولش غير الحمدلله لأن يابنتي ربنا مش بيكتب لنا غير الخير، بس إحنا مش بنشوف دا غير بعدين..
انتبهن كلتهاهن على رنين هاتف إيمان، تناولته من أعلى الكومود وعقدت حاجبيها متعجبة من ذاك الرقم مجهول الهوية، مالت والدتها مختلسة النظر إلى شاشة الهاتف وسألتها بفضول:
_ رقم مين دا؟
بعد ثوان جائتها إجابتها:
_ طالع على تروكولر بلال!
ابتسمت هادية ثم رددت بحماس:
_ ردي عليه، إدي له فرصة
لم تبدي إيمان ردة فعل بل ظلت ترمقها في صمت، فحثتها والدتها على فعلها:
_ ردي ومش هتنـ.ـد.مي
غمزت إليها ثم انسحبت سريعاً من جانبها، كادت أن تخرج إلا أن تراجعت وأكدت عليها:
_ ردي عليه
أجبرت إيمان على الإبتسام وهي تردد:
_ خلاص يا ماما
بادلتها شهيرة إبتسامة عفوية ثم خرجت وتركتها بمفردها، نظرت إيمان إلى شاشة الهاتف بتردد كبير ثم أجابت قبل أن تنتهى مدة الإتصال:
_ ألو..
خفق قلبه فور سماعه لصوتها، حمحم قبل أن يردف متسائلاً بمزيج من الحماس والانطفاء:
_ نمتي؟
باختصار همست:
_ لأ..
تنهد بلال فعقله منشغلاً بكلمـ.ـا.ت يوسف، لم يستطيع إخراجها من عقله، يشعر بالتخبط بينها، لا يعلم إن كان ما فعله الصواب أو العكس. استشعرت إيمان صمته وسألته مستفسرة:
_ حاسة إنك عايز تقول حاجة ومتردد
هز رأسه وكأنها أمامه ثم هتف بما يدور في عقله:
_ أنا بس استغربت موافقتك المفاجئة، عشان كنتي لسه قيلالي محتاجة وقت تفكري
تلعثمت إيمان في الحديث، حتماً لن تخبره أنها قبلت لأنها رأت عدm مبالاة يوسف لشأنها، أخذت مدة تفكر فيما ستخبره به ثم هتفت بتلعثم:
_ جت كدا، حسيت إني عايزة أعمل كدا بس..
شهيقاً وزفيراً فعل بلال قبل أن يتابع:
_ أنا لما لقيتك وافقتي فجاءة رغم إنك احتاجتي وقت تفكري، اقترحت إننا منطولش الخطوبة، يعني حاجة من جوايا برده خليتني أقول كدا، مش عارف إذا كان دا صح ولا غلط بالنسبة لينا، أنا مش عايزك تفهميني غلط أنا لو عليا لو أقدر أخلص الشقة على آخر الأسبوع هعمل كدا، بس يعني عشان مكنش أجبرتك على وضع أنتِ مش حباه أو مش مستعدة ليه!
أوصدت إيمان عينيها ثم استلقت على الفراش وطالعت سقف الغرفة لبرهة قبل أن تفصح عن شعورها:
_ مش هقدر هقولك إني مستعدة وخصوصاً إننا لسه منعرفش بعض، بس مش عارفة حاسة إني متلخبطة ومش عارفة أنا عايزة إيه
اقترح بلال شيئاً لربما تقتنع به:
_ تيجي نسيبها لربنا وللظروف؟
تسائلت بفضول:
_ إزاي؟
أوضح قصده من وراء حديثه:
_ يعني نسيبها تمشي زي ما اتفقنا، وننزل نشتري كل اللي يخص البيت ونجهز فيه، ولو ربنا أراد يوفقنا، الأمور هتمشي سهلة ولو محتاجين وقت أكيد هتظهر لنا أي عقبة تعطلنا..
تفاجئت إيمان بتفكيره فكان مشباهاً تماماً لتفكير والدتها، تقلبت على جانبها الأيسر وقالت مؤيدة الرأي:
_ ماما قالتلي نفس الكلام دا برده، عموماً ربنا يسهل
حل الصمت لوقت فلم يجد بلال مجالاً لإطالة الإتصال فأنهاه بقوله:
_ تمام، أسيبك بقى عشان تنامي، تصبحي على خير
بخفوت أردفت:
_ وأنت من أهله
أنهى المكالمة وظل يطالع شاشة هاتفه شاعراً بتلك الراحة التي انتابته من وراء حديثهما سوياً، ظهرت إبتسامة عفوية على شفتيه، ضم الهاتف إلى صدره وأغلق عينيه راسماً ملامح وجهها في تلك الظلمة خاصته.
شعر برجفة قوية في أوصاله إثر تخيله لها بين ذراعيه، وشعر أنه كان على صواب لطلبه إتمام زيجتهما في ثلاثون يوماً فقط.
عاد بظهره إلى الخلف مستلقياً بنصف جسده على الفراش والنصف الآخر كان على الأرض، ابتسم بسعادة قد دقت قبول قلبه، وظل يرسم لهما مواقف عدة وهما في منزلهما بمفردها.
↚
زقزقرت العصافير وأشرقت الشمس، وفي تمام الساعة التاسعة ونصف يجلس ذاك الوسيم الذي يرتدي قميصاً أسود قاتم، تارك بعض الأزرار الأفقية مفتوحة ظاهراً جزءاً من عضلات صدره، يرتشف كوب من الشاي بجانب الشطائر التي أعدتها له والدته.
ابتسمت له وبنبرتها الحنونة أردفت:
_ أهي إيمان وخلاص على وش جواز، أنت مش ناوي تفرح قلب أمك بقا يا يوسف؟
هضم ما كان في فمه أولاً ثم تحرك بجسده إلى اليسار لينظر إليها قبل أن يجيبها:
_ صدقيني أنا مش ممانع والله، بس هي فين؟
أثارت كلمـ.ـا.ته تعجب والدته فانعكس على تقاسيمها وهتفت بتهكم:
_ دا البنات مفيش أكتر منهم يابني، أنت مش بتبص حواليك في الشارع؟ دول أكتر من الرجـ.ـا.لة!
قهقه يوسف على كلمـ.ـا.تها وبهدوء قال:
_ هتصدقيني لو قولتلك إني مبشوفش بنات خالص ماشين في الشارع
لم تفهم ما يرمي إليه فأوضح قليلاً بعد:
_ والله بجد، أنا من الشغل لدورس لينة للبيت، حتى الجيم بقالي فترة مش عارف أروحه زي الأول، يومي كله مشغول، عارفة الناس اللي بتقولك ماشي مش شايف قدامي حرفياً أنا دا الفترة دي، لا بشوف بنات ولا حتى رجـ.ـا.لة، دا كويس إني صاحبت قبل الدوامة اللي أنا وقعت فيها دي وإلا كان زماني الوقتي مليش صحاب
أخرج تنيهدة واعتدل في جلسته يطالع الفراغ أمامه، على الجانب الآخر لم تستطيع والدته الصمت وهي ترى شبابه يمر هباء:
_ بس أنت كدا بتظلم نفسك يا يوسف، إحنا يابني مش أنانيين للدرجة دي، أنت مش شاغل نفسك غير بينا وبس، أنا وأخوك ولينة، الأول كان ممكن أقول هو الكبير وملناش غيره، بس الوقتي أخوك كبر وبقا راجـ.ـل وآن الأوان يشيل شيلة نفسه وأنا سواء أنت ولا هو مش هتسيبوني..
انتظر يوسف استكمالها لبقية الحديث الناقص فلم تكمل، التفت إليها متسائلاً بغرابة مختلطة بالمعاتبة:
_ ولينة؟ دي أهم مني أنا وأخويا، دي في الآخر بنت، لما أنا اشوف نفسي مين هياخد باله منها؟
أخذت ميمي نفساً عميق، مترددة في قول ما تخفيه في جوفها، لكن الأمر يحتم عليها إخراجه فألقت الحديث دفعة واحدة:
_ مهو برده يا يوسف لينة مش صغيرة، والمفروض تعتمد على نفسها، دي خلاص هتدخل الجامعة والله أعلم يمكن تقابل واحد و...
لم يتحمل يوسف ذلك الهراء وصاح بهجوم:
_ إيه الكلام دا يا أمي؟!
لينة هتفضل في أمانتي طول مافيا النفس، وواحد إيه اللي تقابله والكلام الفارغ دا، هو إحنا عندنا الكلام دا!
ثم إنها لسه صغيرة أوي على اللي بتقوليه، كل اللي المطلوب منها الوقتي تكمل دراستها وبس، وطول ما أنا عايش مش هخليها محتاجة حاجة حتى لو على حساب نفسي..
نهض عن كرسيه مستأذناً منها:
_ عن إذنك يا أمي
سار بخطاه للخارج، ثم زفر أنفاسه فور غلقه للباب وكأن شيئاً ما ثقيل للغاية يطبق على صدره، حاول تهدئة روعه والسيطرة على غضبه الذي تأجج داخله ثم هبط إلى الأسفل بملامح متجهمة.
بحث بعينيه عن سيارته، ثم تأفف بضجر، لقد تناسى تماماً أنه لم يجلبها بعد من عند المصلح، تنهد ثم سحب هاتفه من جيب بنطاله وهاتف صديقه لكي يصطبحه إلى مكان عمله.
أتاه صوته النشيط بعد ثوانٍ:
_ صباح الخير يا جو
بإقتضاب تحدث الآخر:
_ صباح النور، انزل يلا عشان توصلني
حمحم بلال وهو يمرر بصره على الجالسين أمامه ثم اعتذر منهم:
_ عن اذنكم لحظة..
ابتعد عنهم فأثار الريبة داخل يوسف وسأله مستفسراً:
_ أنت فين كدا؟
وضع بلال يده اليسرى على فمه لكي لا يصل صوته إلى الآخرين وأجابه:
_ بنجيب الشبكة..
"شبكة!!"
رددها يوسف بعدm فهم فأوضح له الآخر جيداً:
_ أنا وإيمان ومامتها وأمي بنجيب الدهب
أبعد يوسف الهاتف عن أذنه ليتفحص الوقت قبل أن يعود إليه قائلاً:
_ شبكة إيه ودهب إيه الساعة ١٠ الصبح؟
أنت اتجننت يا بلال؟ للدرجة دي مش قادر تصبر لبعد الضهر حتى!
بتلقائية عابثة قال بلال:
_ بعد الضهر هنروح نختار الأوض
أوصد يوسف عينيه لبرهة محاولاً استيعاب هذا الهراء، عاد إليه متسائلاً بفضول:
_ أنت عرفت توصلهم إزاي أصلاً أنا مش فاكر إني اديتك رقم خالي!
التفت بلال برأسه مختلساً نظرة عليهم قبل أن يرد على يوسف:
_ كلمت حمايا واتفقت معاه
"حماك!"
_ هتف بها يوسف بلا وعي، ثم واصل متعجباً مما يصغي إليه:
_ حماك دا اللي هو خالي صح؟!
ماعلينا طيب جبت رقمه منين؟
أجابه باختصار:
_ من إيمان
"إيمان!!"
ردد يوسف إسمها بذهول شـ.ـديد واسترسل ساخراً:
_ أنا خايف بالسرعة اللي أنت ماشي بيها دي تيجي تقولي بكرة بـ.ـارك لنا هنجيب بيبي
انفجر بلال ضاحكاً، حاول جاهداً السيطرة على ضحكاته ثم قال برجاء:
_ أبوس ايدك يا يوسف مش عايز تقطيم، صاحبك فرحان ومش عايز حاجة تقفله
لم يعاتبه يوسف بل شعر أن إيلامه سيكون سخيفاً بعد توسله، في النهاية هو يريد سعادته، وطالما هو كذلك فليفعل ما يحلو له، ابتسم وبـ.ـارك له بنبرة ودودة:
_ ربنا يتمم لك على خير يا حبيبي
أسرت السعادة قلب بلال بمبـ.ـاركة يوسف، فهو شخصًا مهماً للغاية بالنسبة له وحتماً دعمه سيكون في صالحه.
رد عليه وهو يومئ برأسه لوالدته التي تناديه:
_ يارب يا جو، معلش هقفل عشان بينادوا عليا
أنهى المكالمة ثم عاد إليهن بينما نفخ يوسف فلم يدري كيف سيصل إلى عمله، وبالأخير طلب سيارة لتقوم لتوصيله.
***
كانت الحيرة دون غيرها مسيطرة على إيمان، الجميع يضغط عليها لتختار طاقماً من الحُلي ولا تدري أيهما تختار، تمرر أنظارها بين الجالسين شاعرة بالنفور مما يقودنها إليه.
لا تنتمي لذاك الرجل الذي يجلس أمامها يبتسم لها، تطالع والدتها التي تشجعها بنظراتها تارة وتارة أخرى تمرق عينيها على الحُلي، تريد اختيار أي منهم سريعاً لتمضي بعيداً عن ذلك المكان.
خرجت من شرودها على صوته الرخيم وهو يشير إلى أحد الأطقم:
_ إيه رأيك في دا؟
لم يعجبها ذوقه، فكان مرصع بالأحجار وهذا يتنافى تماماً مع ذوقها، مررت نظريها سريعاً على بقية الأطقم فكان هناك ما جذب انتباها من بينهم، كان أكثر هدوئها ورقة، لكنها لم تجرأ على طلبه بل أعادت النظر إلى بلال الذي يتابعها جيداً وقالت مختصرة:
_ حلو..
تنهد بلال فردها لم يروق له، وجه نظره إلى أحد الأطقم وأشار إليه بإصبعه ثم أمر البائع قائلاً:
_ ممكن تورينا اللي هناك دا، حاسس إنه أحلى
وضعه أمامهما فتفاجئت إيمان أنه نفسه الذي لفت انتباهها، انتبهت على سؤال بلال حينما قال:
_ ها إيه رأيك، دا أحلى صح؟
طالعته ورأت لمعة عينيه المنتظرة إجابتها بفروغ صبر، هي استشفت اهتمامه منذ حضورهما لكن ليس لذاك الحد، فهو استشف إعجابها بالطاقم من خلال عينيها.
غمز إليها بلال بمشاكسة وأردف:
_ ولا نغيره؟
حركت رأسها رافضة قبل أن تعطيه إجابة خجلة:
_ لأ، حلو
اتسع ثغر بلال بإبتسامة عـ.ـذ.بة، نظر إلى البائع وهتف بحماس:
_ تمام هناخد دا
انتظرت شهيرة لحين انتهائهم من شراء طاقم الحلي خاصتهم ثم تدخلت بنبرة مرحة:
_ يلا جه دوري، نقي يا إيمان أي حاجة تعجبك
تفاجئت هادية بكلمـ.ـا.ت شهيرة، تغلغلت السعادة قلبها، وظلت تشاهد ما يحدث في صمت دون إبداء رأي، بينما شعرت إيمان بالخجل يجتاحها وأبدت رفضها بذوق:
_ دا كتير اوي يا طنط، كفاية اللي بلال جابه
آه والف آه، لقد ذاب قلبه بعد نطقها إسمه، لم تختفي الإبتسامة من على شفتيه قط، بل كانت تزداد كلما تفوه هذا الثغر الملون باللون البني.
أصرت شهيرة على اختيار حلي كما يحلو لها، وافقت إيمان تحت ضغط شـ.ـديد منها وتشجيع من بلال، اختارت ساعة ذهبية فاخرة، تنهدت شهيرة براحة حينما اختارت هديتها ثم صاحت قائلة:
_ لسه هدية عمك سمير
صوبت إيمان عينيها نحوها بذهول وباتت تردد بحرج بائن:
_ بجد كدا كتير أوي، كفاية اللي جه
هزت شهيرة رأسها برفض تام مصرة على ما قالته:
_ مفيش حاجة تكتر عليكي يا حبيبتي، يلا شوفي اللي يعجبك واختاريه
أعادت إيمان النظر إلى بلال الجالس أمامها فحثها على اختيار ما تريده بإشارة من عينيه، حمحمت إيمان ثم بدأت تفكر فيما ستقوم باختياره، لكن لم يكن هناك مالم تمتلكه ففضلت اختيار سوار رقيق.
نهضت بعدmا انتهت من اختيار الحلي واقتربت من والدتها فهتفت شهيرة مرة أخرى:
_ استني راحة فين، لسه هدية هدى وهدير
لم تتحرك إيمان من مكانها، فكان هذا يفوق الإستيعاب، استدارت إليها لتتأكد مما وقع على مسامعها فقابلتها شهيرة ببسمة صادقة وحثتها على العودة إلى مكانها:
_ تعالي يلا نقي اللي تحبيه
وكعادتها توجهت بنظريها إلى بلال الذي يحشر ضحكاته داخله رغماً عنه، فنظراتها المذهولة كانت مثيرة للضحك، لكنها إلى الأن لا تعلم مع عائلة من تتعامل، إنها عائلة الجيار، عائلة ذو مكانة مرموقة في المجتمع.
عادت إيمان إلى كرسيها ولازالت أسفل تأثير الصدmة، فلم تتوقع مثل هذا البذخ من أجلها، تنهدت وتسايرت مع الأمور كأنها طبيعية، كان تلك المرة اختيارها خاتمين مزدوجان، والآخر كان حرفاً من بداية إسمها لتعلقه في عقدها.
لم تنهض بتلك السرعة التي فعلتها من قبل خشية أن تعيدها شهيرة مرة أخرى، لكنها لم تقل واكتفت بما قاموا بشرائه من أجلها.
غادروا جميعاً ولازالت إيمان ووالدتها لا تصدقن ما حدث لهمن، بينما كان بلال فخوراً بما فعلته عائلته على الرغم من ترتيبه لذلك مسبقاً، ثم تابعوا تسوقهم في شراء أثاث عشهم الجديد.
يوم يليه الآخر، حتى مر أسبوعاً الذي تلاه أسبوعاً آخر إلى أن مر ثلاثين يوماً، كانوا قد انتهوا من تجهيزات المنزل، وكذلك أنهت لينة امتحاناتها وتترقب ظهور نتيجتها.
***
في أحد غرف المنزل الجديد، تقف إيمان برفقة والدتها يضعن ثيابها في الخزانة، التفتت شهيرة إلى حيث تقف إيمان وهتفت أمرة:
_ روحي قولي لبلال يجيب هدومه عشان نعلقها ونكون خلصنا
رفعت إيمان كتفيها مع تحريك رأسها باشارات رافضة البتة ثم قالت:
_ مليش دعوة، روحي قوليله أنتِ
تأففت هادية وعاتبتها بضيق:
_ أنتِ مش شايفة إنك مش بتتعاملي معاه خالص؟
هتعملي إيه لما يتقفل عليكم باب كمان يومين؟
تأففت الأخرى وأولاتها ظهرها هاتفة بحنق:
_ أنا لغاية دلوقتي مش مصدقة أصلاً اللي بيحصل وماشية مع الأحداث زي ما قولتيلي ولا أنا ارتحت وحسيت إني فعلاً عايزاه ولا ظهرت مشكلة تفشكل الموضوع
أسرعت هادية في وضع راحة يدها على فم ابنتها مجبرة إياها على الصمت وحدثتها بإيلام:
_ هشش وطي صوتك شوية، أنتِ ناسية إنه واقف برا وممكن يسمع، ولا عايزة تفرحي سي يوسف لما يسمع كلامك دا؟
تراجعت إيمان للخلف بتزمجر شـ.ـديد وهي تضـ.ـر.ب الأرض بقدmيها، لماذا لا يشعر بها أحد؟!!
لم يعجبها هادية تصرفاتها الحمقاء التي ستضيع عليها كل ذلك الثراء التي باتت فيه، استدارت بجسدها وخرجت من الغرفة قاصدة بلال، شكلت بسمة على محياها ووقفت تشاهده وهو يعلق التابلوهات العصرية على الحائط بمساعدة يوسف.
أنتبه إليها بلال فسالها باهتمام:
_ محتاجة حاجة يا ماما؟
أومأت قبل أن تخبره بمرادها:
_ أيوة يا حبيبي، لو خلصت ممكن تنزل تجيب هدومك عشان نعلقها لأن معتش فاضل غيرهم
بهدوء أردف:
_ حاضر هنزل أجيبهم أهو
التفت برأسه ناظراً ليوسف الذي هبط السلم الخشبي وسأله مستفسراً:
_ كدا خلصنا، صح؟
أماء له يوسف ثم هتف وهو يشير إلى أحد الأركان:
_ أيوة، بس لسه الشاشة
بتلقائية رد عليه بلال وهو يبتعد عنه:
_ تمام، هنزل اجيب الهدوم وأجي نعلقها
توجه يوسف ناحية الحائط الذي سيعلقان عليه التلفاز بينما عادت هادية إلى غرفة ابنتها وأخبرتها بما فعلته:
_ بلال نزل يجيب الهدوم، يلا نخلص الكام حاجة دول قبل ما يطلع..
لمعت عيناي إيمان ثم نهضت معللة ذهابها:
_ نسيت حاجة برا هجيبها..
فرت سريعاً من أمامها قبل أن يفـ.ـضـ.ـح أمرها، ابتلعت ريقها واقتربت من يوسف بخطى متهملة، ويدين متشابكتين من فرط حيائها، حمحمت لتجذب انتباهه فقال وهو يرمقها بطرق عينيه:
_ معلش عاملين لكم دوشة، بس عشان نخلص معتش وقت
عاد ليخرج الشاشة من علبتها لكنه فشل لكبر حجمها الهائل ففضل انتظار عودة بلال، انشغاله عنها كان يتلف أعصابها ويثير غيظها، لا ينظر إليها مرة واحدة ويتعامل وكأنها ليست موجودة.
زفرت أنفاسها لتكون أكثر هدوءاً عكس غضبها التي تشعر به بسببه وسألته بتعالي:
_ إيه رأيك في البيت؟
أبدى يوسف رأيه باختصار وبرود:
_ جميل ما شاء الله
شعرت بغصة في حلقها ولم تخرج كلمـ.ـا.تها التي فكرت بها بسهولة، فبات الحديث صعباً، لكنها قاومت وهتفت:
_ عقبال بيتك
كاد يجيبها يوسف إلا أن عودة بلال قد منعته، توجه نحوها مباشرةً ثم قال:
_ الشنطة أهي بس تقيلة أوي، خليني أدخلها أنا جوا
أخفضت بصرها في حياء ثم أولاته ظهرها وعادت إلى الغرفة، تبعها بلال ووضع حقيبته الخاصة على الفراش ثم تركهن يفعلن بها ما يحلوا لهن.
تعجب يوسف من طريقة إيمان فهي لم تردف حرفاً في وجوده، وليس اليوم فقط، هي كذلك بقية أيامه الذي يأتي ليساعد بلال، لاحظ تجنبها من الحديث معه وتتعامل فقط من خلال والدتها.
انتظر عودة صديقه الذي وقف مقابله وقاموا بحمل التلفاز بحذر ثم قاموا بتعليقه على الحائط، قابلوا صعوبة لبعض الوقت في ذلك بسبب كبر حجمه وعدm تمكنهم من حمله فترة طويلة.
صاح يوسف بنفاذ صبر:
_ أنت جايبها كبيرة أوي كدا ليه، دا حتى المسافة بينها وبين الليفنج بسيطة أوي، عيونكم هتو.جـ.ـعكم
أجاب بلال وتركيزه التام في تعليق الشاشة في وضعها الصحيح:
_ والله لقيت دي أكبر حجم وأغلاهم جبتها
تعجب يوسف من رده وسأله مستفسراً:
_ اشمعنا يعني بدور على أكبر حاجة وأغلاهم، مش بتجيب الحاجة العملية، أيوة فاهمين إن الغالي تمنه فيه بس يعني مش للدرجة دي، أنت صارف على الشقة دي أكتر من اللي أبوك كسبه طول حياته، حاسك أوفر شوية
تنهد بلال ثم أخبره بما يدور في عقله:
_ والله بعمل اللي عليا يا يوسف، عشان تبقى راضية وبس..
شعر يوسف بالإسيتاء من خلف كلمـ.ـا.ته الساذجة وعاتبه بإقتضاب:
_ فأنت لما تجيب أغلى وأكبر حاجة كدا تزغلل عينيها وتحببها بيك، يابني الحب عمره ما كان قيمته الفلوس، آه الفلوس طبعاً مهمة عشان الحياة تمشي، بس الفلوس عمرها ما هطبطب على زعل وهداوي جـ.ـر.ح، ولا تشفي روح تعبانة، الشخص نفسه اللي قادر يعمل كل دا ومن غير الفلوس، قادر يحتويها وقت زعلها، ويبدأ بالصلح وميهونش عليه زعلها حتى لو كان مش غلطان، يسامح ويراضي ويطبطب ويدلع، ويحترم رغبتها ورأيها وطموحها، يشجعها ولو فشلت يقف جنبها ويساعدها تقف من تاني، ميرميش اللوم عليها ولا يهينها، حاجات كتير عمر الفلوس ما تقدر تعملها، الفلوس تشتري خاطر الناس الجعانة لكن اللي عيونهم مليانة محتاجين راجـ.ـل حنين يقود العلاقة برحمة ومودة مش حتى بالحب بس لأنه أوقات زهوته بتنطفي واللي بيكمل العلاقة ويخليها مستمرة وكمان ناجحة أنه يكون شخص رحيم، فهمت؟!
أماء له بلال بتأكيد ناهيك عن ابتسامته التي زادته حماساً، وأخيراً قد نجحا في وضع التلفاز بسلام دون خسائر، جلس كليهما على الأريكة الوردية الفاخرة، تردد يوسف كثيراً قبل أن يشارك صديقه بما شعر به، تنهد واقتربت منه ثم أردف كلمـ.ـا.ته هامساً:
_ هو أنتوا إيه نظامكم مع بعض؟
قطب بلال جبينه بغرابة فلم يستشف ما يرمي إليه يوسف وسأله مستفسراً:
_ مش فاهم
أوضح يوسف قصده بصوته الأجش:
_ أنت وإيمان، يعني أنا من وقت ما دخلت البيت دا مشوفتكوش بتتعاملوا مع بعض أصلاً، وكل كلامك مع أمها لو احتاجوا لحاجة، مفهمتش دا عشان محروجة من وجودي مثلاً ولا إيه!
تجهمت تعابير بلال، ابتعد عن يوسف وعاد بظهره مستنداً على الأريكة، طالع أمامه بعينيان وميضهما منطفئ، ثم أجاب بخذلان:
_ لا دا تعاملنا أصلاً مش بسببك ولا حاجة، يدوب إزيك الله يسلِمك، تصبحي على خير وأنت من أهله
أنتبه بلال على نظرات يوسف المعاتبة، فأسرع في نفي ضيقه في هذا الأمر وهتف متأملاً في المستقبل:
_ بس عادي يابني إحنا انشغلنا في البيت وحاجته فطبيعي يعني، هنتعرف أكتر بعد الجواز وخلاص هانت أهي
لم يقتنع يوسف بكلمـ.ـا.ته، لا يدري أهو أبله أم يتعمد أن يكون كذلك، اقترب منه إلى أن التصق به، التفت برأسه متفحصاً المكان من خلفه وحينما لم يجد أحد عاد إلى صديقه وهمس إليه:
_ أنت هتعمل إيه يوم الفرح؟
تفاجئ بلال من وقاحة السؤال وابدى تهكمه بالأمر:
_ إيه اللي هعمل إيه يوم الفرح، أنت شايفني عيل قدامك؟!
استنكر يوسف ظنه السوء وأوضح ما يقصده من خلف سؤاله:
_ أنت فهمت إيه، أنا قصدي إزاي يعني هتعرف تقرب منها وأنتوا حتى مفيش بينكم لغة حوار؟!
مال بلال برأسه إليه وتسائل باهتمام:
_ طيب أعمل إيه في اليومين دول؟
قهقه يوسف ثم ردد ساخراً:
_ قولها ت عـ.ـر.في البيبي بيجي إزاي؟
لم تهدأ ضحكات يوسف على منظر بلال المذهول، رمقه بلال بنظرات جـ.ـا.مدة ثم تركه بمفرده وولج إليهن ليرى إن كنا قد انتهين أم مازال هناك أعمالاً ليقومن بها.
شعر بالريبة من أمر ضحكاتهن في الخفاء، حاولن التريث فور ظهوره لكن لم يجدى الأمر نفعاً، عقد بلال حاجبيها متسائلاً بفضول:
_ هو فيه حاجة؟
رفعت شهيرة كلتي يديها ظاهرة ذاك القميص الشفاف ذو اللون الأحمر وهتفت من بين ضحكاتها التي تحاول جاهدة إخفائهم:
_ لقينا دا وسط هدومك
صعق بلال مما وقع على أذنيه، طالعهن بعينيان جاحظتان، ثم ظل يردد بحرج شـ.ـديد:
_ إيه دا، جه منين دا؟
أكدت هادية وجوده بين ثيابه، كاد بلال أن يهبط إلى والدته ليعلم سر ذاك القميص إلا أنه رآها أمامه، تنفس بعمق ثم أشار بيده على القميص متسائلاً عنه:
_ هو ايه دا؟ جه وسط هدومي إزاي؟
وجهت شهيرة نظريها على ما يشير إليه بلال وتفاجئت بما رأته، شهقت بخجل شـ.ـديد ثم اقتربت منهن وتناولت القميص من بين يدي هادية وقالت بتلعثم:
_ دا بتاع هدى، أصل كنت بعين لها هدومها في الشنطة دي، متأخذنويش يا جماعة شكلنا نسيناه في الشنطة
ربتت هادية على ذراعها وأردفت كلمـ.ـا.تها لتزيل الحرج منها:
_ ولا يهمك يا أم بلال، حصل خير
انسحبت إيمان من بينهم فالأمر كان سخيفاً بالنسبة لها، استغل بلال فرصته وهرول خلفها، دلفت إلى المطبخ فتبعها هو.
انتبهت عليه فلم تجرأ على رفع بصرها بعد الحادثة الاخيرة، كان يريد خلق حوارً معها فلم يصل إلى شيء بحد عينه فأردف بتلقائية:
_ إيمان ت عـ.ـر.في البيبي بيجي إزاي؟
صدmة كبيرة حلت على وجه إيمان، فغرت فاها وهي تطالعه بعينين متسعتان، لا تصدق ما تفوهه للتو، لم تستطيع الوقوف أمامه لحظة وهـ.ـر.بت سريعاً إلى والدتها، سحبت حقيبتها وهي تردد بإقتضاب:
_ يلا يا ماما عشان نمشي..
تعجبن الأخريات من طريقتها المفاجئة، فتدخلت السيدة شهيرة متسائلة باهتمام:
_ مالك يا حبيبتي في حد ضايقك؟
طالعتها إيمان لبرهة ثم شعرت أنها بالغت في ردة فعلها أمامهن، حمحت لتضبط من نبرتها المشحونة بالغضب وقالت بنعومة:
_ لا لا، بس إحنا خلصنا وأنا معتش قادرة محتاجة أرتاح شوية
ابتسمت لها شهيرة ثم ربتت على ذراعها وهي تهتف بمكر:
_ هانت يا حبيبتي كلها يومين وترتاحي خالص
اكتفت إيمان ببسمة زائفة ثم التفت حيث تقف والدتها وأردفت وهي توحي إليها بالقبول من خلال نظراتها:
_ مش يلا يا ماما
أماءت هادية وقالت وهي تأخذ حقيبتها:
_ يلا يا حبيبتي، عن إذنك يا أم بلال
تفاجئ بلال بخروج ثلاثتهن ومنظر إيمان لا يبشر بالخير، لعن سؤاله الساذج الذي أوقعه في ذلك الوضع، انتبه على حديث والدته حينما هتفت:
_ وصلهم يا بلال وتعالى عشان عايزاك
أومأ برأسه بينما غادرن الأخريات، اقترب بلال من يوسف ونظراته مشحونة بالغضب ثم هتف بعبوس:
_مش عارف عقلي كان فين وأنا بسمع كلامك
تعجب يوسف مما قاله وردد دون فهم:
_ كلام إيه؟
مال بلال بقرب أذنه وهمس له:
_ البيبي بيجي إزاي يا يوسف!!
أهي قلبت عليا، لو الجوازة باظت يبقى أنت السبب
لم تكن كلمـ.ـا.ته هينة على يوسف، فلقد كان يسخر منه، وهو أخذ حديثه على محمل الجد، طالعة لبرهة غير مصدق أنه بالفعل قال ذلك، تحولت تقاسيمه من الذهول إلى السخرية مطلقاً ضحكاته دون توقف.
صاح من بين صحكاته بنبرة غير مفهومة:
_ دا أنا كنت بتريق، مش متخيل إنك قولت كدا بجد
عاد لضحكاته ثم جسى على ركبتيه فلم تعد قدmيه تتحملانه من فرط الضحك، بينما رمقه بلال بغيظ شـ.ـديد ثم أولاه ظهره وغادر ليلحق بهن.
خرج يوسف من حالته على رنين هاتفه، بالكاد تحكم في نفسه وأجاب بنبرة مهزوزة:
_ إيه يا لينة؟
جائه نبرتها المتلعثمة في قولها:
_ النتيجة هتظهر النهاردة يا يوسف!
تجمدت تعابيره محاولاً تهدئة روعها:
_ طيب اهدي ومتخافيش كدا، إن شاء الله خير
بخوف واضح في صوتها ارطفت برجاء:
_ ممكن تيجي..
استقام بجسده وتوجه ناحية الباب مجيباً إياها بهدوء:
_ أنا جاي على طول
أغلق باب الشقة ثم وضع المفتاح أسفل البساط الماثل أمام الباب وغادر عائداً إلى منزله.
***
بعد مرور نصف ساعة قد وصل بلال إلى وجهته، ترجلت هادية أولاً وكادت أن تتبعها إيمان إلا أن بلال لحق بها وأمسك بيدها، التفتت إليه رامقة يده الملامسه ليدها، فسحب الآخر يده برفق واعتذر منها بحرج:
_ أنا آسف..
طالعت المارة من أمامها وبفتور سألته:
_ على إيه؟
حمحم بلال ليستعيد رونق حنجرته وأجاب بتردد يشوبه الخجل:
_ على اللي أنا قولته هناك
صمت لثوانٍ قبل أن يواصل موضحاً:
_ بصراحة كنت حابب افتح معاكي حوار، بغض النظر عن اللي قولته يعني بس أنتِ مش شايفة إننا مش بنقول أكتر من إزيك الله يسلمك، مفيش لينا أي حوار، ويمكن دا قالقني شوية لأن خلاص كلها يومين ويتقفل علينا باب، التعامل بينا هيكون صعب أوي لو استمرينا كدا..
انتظر منها إجابة تريح قلبه، لكنه صعق من ردها الجـ.ـا.مد:
_ خلاص نأجل الفرح على لما ناخد على بعض
ترجلت من السيارة وولجت لمنزلهم، لم يستطيع بلال الجلوس مكانه وهرول خلفها، لحق بها على درجات السلم التي تخطت نصفها لكنه أجبرها على التوقف بكلمـ.ـا.ته:
_ أنا مش عايز أأجل حاجة، دا أنا اللي مشيت كل حاجة بسرعة، أنا بس بقول يعني لو تدينا فرصة نتعرف على بعض أكتر ونقرب المسافات...
طالعته بغرابة فهي لم تفهم إلى ماذا يرمي، فسألته بتلقائية:
_ يعني نعمل إيه؟
ابتلع بلال لعابه، ثم حرك قدmيه واقترب منها قليلاً، فأثار الرعـ.ـب في قلبها، تفاجئت به يتناول يدها ثم رفعها للأعلى بقرب فمه وقام بتقبيل كفها بحرارة.
طالعها ولازالت يدها أمام فمه ربما يستشف من نظراتها القبول أو الرفض، كانت عينيها تتلألأ فيهما الدmـ.ـو.ع، لم يدري إلى ماذا يشير هذا؟
ابتلعت ريقها وأخفضت رأسها في حياء ثم رددت بخفوت:
_ عن إذنك
مرت بجواره ثم تابعت صعودها للأعلى حتى اختفت تماماً عن نظريه، كان متعجباً من ردها المبهم، فلم ترفضه وأيضاً لم يفهم لماذا تركته وغادرت دون تعقيب، حقاً سيجن عقله إن إستمرت علاقتهما على هذا المنوال.
لكن ما عليه سوء الصبر فإنه مفتاح الفرج، أخرج تنهيدة ثم عاد إلى سيارته ومنها إلى شقته لينهى الأعمال المتبقاه فيها.
***
حل المساء، وكان الجميع في حالة يرثى لها، يسيطر عليهم القلق الشـ.ـديد، تخفق قلوبهم بخوف خشية تلقي مالا يحمد عقباه.
انتفضت من مكانها متأففة بنفاذ صبر:
_ معتش قادرة استنى، هما بيعملوا فينا كل دا ليه؟
وقف يوسف بجوارها محاولاً تهدئة روعها بصوته الرخيم:
_ يا لينة إهدى أن شاء الله هتظهر
أوصدت عينيها بتعب ثم زفرت بعض الأنفاس المرهقة، صدح رنين هاتفها فأسرعت نحوه وإذا بها صديقتها شهد، أجابت دون تفكير:
_ الموقع فتح يا لينة، روحي شوفي النتيجة بسرعة
أنهت لينة المكالمة على الفور وأعادت تسجيل دخولها إلى ذلك الموقع الإلكتروني، اتسعت عينيها بذهول حينما انتقلت الشاشة إلى أخرى، تسارعت نبضات قلبها بتوجس شـ.ـديد.
التقط يوسف الهاتف فجاءة فطالعته وعينيها مليئة بعلامـ.ـا.ت الاستفهام فقال هو بنبرة هادئة:
_ لينة من الأول كدا ومن قبل ما نعرف النتيجة، مش هنزعل وهنرضى بأي درجة لأنه كله خير لينا، تمام؟
أماءت برأسها فأعاد لها الهاتف وقامت بتفحص نتيجتها، والجميع يقف أمامها في انتظار ما ستخبرهم به، أعصابهم تلفت من الإنتظار لكن ما باليد حيلة.
رفعت لينة عينيها ومررتها على الجميع ثم هتفت:
_ ٩٦ ونص...
وضعت كلتى يديها على فمها بعدm تصديق فارتفعت زغاريد السيدة ميمي بينما صاح يوسف وزياد مهللين بفرحة عارمة، عمت السعادة المنزل بتلك المناسبة.
مطت ميمي ذراعيها مشيرة إليها بالقدوم، فلم تنتظر لينة وهرولت إليها حتى تلقت عناقاً حاراً، قبلت السيدة ميمي رأسها مرددة بسعادة ظاهرة:
_ ألف مبروك يا روح قلبي
"الله يبـ.ـارك فيكي يا ماما"
قالتها لينة والسعادة تغمر نبرتها، بينما تدخل يوسف قائلاً:
_ مين اللي هيلبس بسرعة عشان ينزل يختار هديته بنفسه؟
فغرت لينة فاها بذهول وطالعته بعينين واسعتان ثم قالت بعدm تصديق:
_ بتهزر صح؟!
غمز إليها بمرح وأكد على حديثه بمشاكسه وهو يطالع ساعة يده:
_ قدامك عشر دقايق وفات منهم دقيقة أهو..
ركضت لينة باتجاه غرفتها فهتف زياد مبـ.ـاركاً لها:
_ مبروك يا تـ.ـو.تر
لم تكترث لتعقيبه الساخر وأجابته من بين ضحكاتها:
_ الله يبـ.ـارك فيك يا زيزو
اختفت لينة خلف باب غرفتها فبادرت ميمي في إبداء رفضها:
_ نزول إيه بس يا يوسف الوقتي، إحنا متأخر استنى للصبح، الناس تقول إيه
استاء يوسف من كلمـ.ـا.تها وهلل بعدm إعجاب لنظرتها لاقاويل الآخرين:
_ ناس مين يا أمي؟ الناس كلامها تحت رجلي، سيبك أنتِ منهم، تيجي معانا؟
هزت رأسها رافضة وقالت:
_ لا أنا مش قادرة، المهم متتأخروش
خرجت الأخرى هاتفة بحماس طفولي:
_ خلصت قبل العشر دقايق ما يخلصوا
طالعها يوسف بحب ثم قال:
_ يلا بينا
التفت لأخيه ووجه حديثه إليه:
_ تيجي معانا؟
هرب زياد بعينيه فاستشف يوسف ما يوجد خلفه وردد:
_ هعديهالك النهاردة بمزاجي، بس بعد كدا في حساب على التاخير والشغل... والجيش
غمز إليه وتركه وغادر برفقة لينة بينما تأفف زياد فهو علم جيد بقرارات يوسف الحاسمة إن عزم على فعلها، لم يعطي الأمر أكبر من حجمه ثم خرج من المنزل أيضاً ليحظى بسهرة مع أصدقائه.
***
لم تعد تتحمل ذلك النواح الذي لم يتوقف قط منذ ساعات، فصاحت بها متذمرة:
_ يابنتي ما تفهميني إيه اللي حصل يخليكي تعيطي كدا من وقت ماجيتي؟
حاولت كبح غضبها بقدر المستطاع، لكي لا تزيد همها، أخرجت نفساً عميق واقتربت منها، جلست مقابلها على الفراش وبنبرة حنونة سألتها:
_ بلال عملك حاجة؟
رمقتها إيمان بنظرات نادmة ثم إزداد نحيبها، فخفق قلب هادية بذعر وانتفضت من مكانها وهي تتمتم:
_ لا أنا هكلمه وأعرف منه عمل إيه يخليكي في الحالة دي
هرولت إيمان خلفها مجبرة إياها على التوقف:
_ لا لا متكلمهوش، هو معملش حاجة
نفخت هادية بنفاذ صبر وسألتها بجدية:
_ أيوة أومال بتعيطي ليه لما هو معملش حاجة؟
أولاتها إيمان ظهرها ثم اعتلت طرف الفراش وأخفضت بصرها ثم بدأت تصرح بما يكمن في جوفها:
_ عشان هو كل يوم بيثبتلي إنه كويس، وبيحاول يرضيني بكل حاجة، كل حاجة في الشقة آخر موديل نزل وتمنها غالي جداً، حاجات عمري ما كنت أحلم بيها، بس كل دا مش مفرحني كل دا بيخلي ضميري يأنبني أكتر، لأني ولا مرة حسيت إني مشـ.ـدود له أو حتى فيه أمل إني أحبه، أنا لو كملت هظلمه أوي، مش هعرف أتعامل معاه، مش هعرف أقوم بواجباتي وأنا قولتلك الكلام دا في الأول وأنتِ قولتي سبيها تمشي وأديها مشت يا ماما وأنا لسه مشاعري زي ماهي، تقدري تقوليلي هعمل معاه إيه كمان يومين؟
هسمح له يقرب لي إزاي وأنا مش حساه؟
لو رفضت يمكن يشك فيا!
ولو قبلت مش هقدر والله ما هقدر
نفسي حد يحس بيا أوي
وضعت كلتى يديها أمام وجهها وانفجرت باكية، تشعر بقلة حيلتها، وكأن يديها مقيدتان بحبال من حديد لا تنفك أبداً.
شعرت بذراع والدتها الذي حاوط ظهرها، ضمتها إليها وحاولت التخفيف من عليها:
_ ت عـ.ـر.في لو مكنتش شيفاه قدامي كويس، كنت أنا أول واحدة قولت لأ من الأول، بس الواد طيب وحنين وبيتمنى لك الرضا ترضي، ومش بيهمه صرف إيه طلاما عاجبك، والله العظيم أنا مستخسرة أننا نخسره لأن معتش حد بالمواصفات دي في الزمن دا
وبعدين مش لازم تقبلي وهو هيتفهم دا كويس، انتوا متعرفوش بعض فطبيعي أنك ترفضي
بلال واعي وناضج وهيفهمك
وياما فيه ناس كتير اتجوزت من غير حب وبعد الجواز والعشرة جه ويمكن أحسن وأصدق كمان
بس أنتِ إدي لنفسك فرصة معاه ومش لازم رفض طول الوقت لأن كدا عمره ما هيحصل لا قرب ولا حب ولا حاجة خالص.
رفعت هادية رأس إيمان واسترسلت:
_ اسمعي مني وأنتِ الكسبانة في الآخر، وقومي يلا اغسلي وشك ونامي لك شوية، بقا دا منظر عروسة كمان يومين؟
ابتسمت لها هادية ثم قبلتها من أنفها وخرجت من الغرفة، فنهضت الأخرى بعدmا شعرت ببعض الراحة من وراء كلمـ.ـا.ت والدتها وذهبت إلى المرحاض لتغسل وجهها بالماء البـ.ـارد لكي تخفف من حرارتها المنبعثة به.
***
بحثت بعينيها سريعاً على السيارة فلم تجدها، فتسائلت بفضول:
_ هي عربيتك فين؟
أجابها بتلقائية:
_ لسه عند الميكانيكي، إحنا قدامنا حلين، نمشي أو نطلب عربية
صاحت لينة مهللة:
_ أنت لسه هتسأل، نمشي طبعاً
أومأ لها بقبول ثم سألها مستفسراً:
_ طيب قوليلي عايزة هديتك إيه عشان نعرف هنمشي إزاي
عضت لينة على شفتاها السفلى وطالعت السماء وهي تفكر في شيء يمكنه شرائه من أجلها، وبعد تفكير طال لدقائق عادت بأنظارها عليه ورددت بحيرة:
_ بص مفيش حاجة معينة في دmاغي، بس أنا عايزاها تكون حاجة مميزة منك لما أشوفها أفتكرتك على طول وبرده تنفعني كـبنت فاهمني؟
طالعها يوسف بأعين ضائقة ينشط عقله بالتفكير فيما يهديها إياه، أنارت تلك الفكرة عقله فأردف بحماس:
_ ممم عرفت إيه هي
سألته بفضول أنثوي:
_ إيه؟
غمز إليها ولم يريد إخبـ.ـارها ليثير جدلها قليلاً وردد:
_ هت عـ.ـر.في لما نجيبها..
↚
قام بشراء هديتها ثم خرج باحثاً عن تلك المشاغبة، لا يصدق أنها صمدت في الخارج دون أن تداهم المكان لتعلم ماهي هديتها.
كانت واقفة على بُعد مسافة قريبة من المكان، اقترب منها مشكلاً إبتسامة عـ.ـذ.بة ثم هتف ممازحاً إياها:
_ مش مصدق بجد إنك سمعتي الكلام ووقفتي مكانك من غير ما تيجي ورايا!
قهقهت هي ثم رددت بحماس:
_ أصل أنا حابة أتفاجئ
بحثت بعينيها على تلك الهدية التي تنتظرها بفروغ صبر فلم تجد في يديه شيء، عادت إلى عينيه متسائلة بحنُق:
_ إيه دا فين الهدية؟
دس يده في جيب معطفه وأخرج منها قلادة بيضاوية بني اللون ذات طراز مميز للغاية، قام بفتحها فانقسمت إلى نصفين، طالعها وشرح لها تفاصيلها:
_ حطي هنا أي صورتين تحبيهم، وكمان ليها قفل صغير عشان لو مش حابة حد يفتحها غيرك
أبدت لينة سعادتها بالقلادة هاتفة:
_ واو، تعرف إني كنت بشوفها على طول في المسلسلات وكان نفسي في واحدة منها، بجد شكراً يا يوسف، أنت أحلى سوفي في الدنيا
كان يروق له تلقيبها على الرغم من أنه مائع قليلاً ولا يشبه شخصيته أو أسلوبه، غمز إليها هاتفاً وهو يشير نحوها بسبابته:
_ تقعدي على الكورنيش؟
رفعت هي الأخرى سبابتها ولمست إصبعه مجيبة إياه بحيوية:
_ وناكل آيس كريم؟!
ردد ما قالته بقبول:
_ وناكل آيس كريم..
سار سوياً حتى وصلا أمام البحر، قام يوسف بشراء المثلجات من البائع الذي يمر بعربته وجلس كليهما على المقاعد الخشبية المقابلة للبحر.
مدت لينة ملعقتها نحوه وقالت برجاء:
_ دوق التوت طعمه خطير
رفض يوسف تناوله معللاً أسبابه:
_ لا مش عايز مش بحب التوت
أصرت لينه على تناوله بقولها:
_ دا غير التوت اللي بناكله طعمه حلو أوي جربه مش هتنـ.ـد.م
هز رأسه برفض تام:
_ لا يا لينة
مطت لينة شفتاها السفلى للخارج متصعنة الحـ.ـز.ن وبنبرة مدللة توسلته:
_ عشاني..
دلالها كان له سطواً عليه، لا يستطيع الرفض أمامه، تنهد ثم تناول معلقتها بين أسنانه وتفاجئ بذك الطعم الشهي الذي مر من حلقه، استشفت لينة إعجابه بنهكة التوت وهتفت بمرح:
_ شوفت بقا إنه حلو
حرك الآخر رأسه باستنكار:
_ مش حلو
اتسعت مقلتيها وهي تطالعه بعدm تصديق فتابع هو:
_ هو حلو أوي
إزدادت ابتسامتها بهجة لرأيه، فكان يوسف سعيداً بإبتسامتها التي كان سبباً في رسمها، كانت تطالعه لينة بعينين عاشقتان، فانتبه لها يوسف وأراد مشاكتها فقال:
_ لا متفكريش إني هديكي من الآيس كريم بتاعي
انفجرت لينة ضاحكة وصاحت بإصرار:
_ طب والله لتأكلني، ها
ناولها يوسف خاصته مسترسلاً:
_ اتفضلي
رفضت أخذها موضحة ما تقصده:
_ لأ مش عايزاها، أنت هتأكلني زي ما أنا أكلتك
التفت يوسف برأسه متفحصاً المكان من خلفه فلم يجد مارة، عاد إليها ومد يده بملعقته فتناولتها هي بشهية، أعجبه منظر تناولها للمثلجات من يده فأعاد إعطائها ملعقة يليها الأخرى مستمتعاً بمشاهدتها.
"ربنا يخليكم لبعض يا بيه وتتجوزوا قريب، خد مني وردة عشان أروح"
ذعر يوسف حينما وقعت كلمـ.ـا.ت الفتى المراهق على أذنيه، رمقه بتوجس ثم عاتبه قائلاً:
_ أنت طلعت لنا منين، خضتني
ابتسم له الفتى فوجه يوسف أنظاره على الأزهار التي يغلفها بأوراق مبهجة وسأله بفضول:
_ أنت لسه هتبيع دول عشان تروح؟
أماء له الفتى فأكمل يوسف حديثه:
_ طب هاتهم وروح يلا
ابتهج الفتى حينما اشترى منه يوسف الأزهار المتبقية ثم ركض بعيداً عنهما والفرحة لا تسعه، بينما نظر يوسف إلى لينة التي أعجبت بموقفه الإنساني وهداها الأزهار هاتفاً بصوته الرخيم:
_ أحلى ورد لأحلى لينة
تناولتهم منه ثم شكرته بدلال:
_ تشكر إدريم
قهقه يوسف وسألها مازحاً:
_ ودي يترد عليها إزاي؟
فكرت لينة للحظات قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة لسه متعلمتهاش
هز يوسف رأسه مستنكراً ما تقوله ثم وجه بصره على البحر، تقوس ثغره للجانب مشكلاً إبتسامة عـ.ـذ.بة قبل أن يصرح بشعوره الآن وهو يفرك يده:
_ أنا اكتشفت إن أسعد وقت بقضيه بيكون معاكي!
تفاجئت لينه بتصريحه دون سابق انذار، رمقته بعينين لا تصدق أنه قال ذلك بالفعل، عاد يوسف ناظراً إليها واسترسل بصوته الأجش:
_ الشغل فيه ضغط، والبيت برده فيه ضغط ومسؤولية، ومهما ضحكت في الاتنين دول مش بيكون من قلبي زي ما بكون معاكي، بحس إني مش شايل أي هم رغم إنك مسئولية كبيرة أوي يا لينة!
كلمة أمانة صاحبي اللي سبهالي دي تخض أي حد وتخليه مرعوب طول الوقت أنه ممكن ميصونش الأمانة، بس أنا عمري ما شلت هم لأي مسؤولية تخصك، كل حاجة بتتعملك بكل حب ومن غير ضغط ومش بكون خايف ولا متردد، يارب أكون وفيت طول السنين وقدرت أسد كل احتياجاتك سواء المعنوية أو المادية
انتهى يوسف من حديثه فتفاجئ بعبراتها تنسدل بغزارة، فتسائل بريبة من أمرها:
_ أنا قولت حاجة زعلتك؟
مسحت لينة عبراتها سريعاً ثم نفت سؤاله:
_ لا لا أنا بس اتاثرت..
تابعت مسح عينيها فنهض يوسف عن المقعد وأردف:
_ طيب يلا عشان نروح
نهضت هي الأخرى وطالعت الطريق أمامها بتعب ثم صوبت بصرها نحو يوسف وقالت بإرهاق:
_ مش هقدر أرجع كل دا مشي
وافقها يوسف ما قالته:
_ ولا أنا، يلا نركب تاكسي
تقدmا بالقرب من الطريق في انتظار مرور سيارة تاكسي، فتحت لينة حقيبتها وأخرجت منها القلادة تتفحص معالمها مرة أخرى، انتبهت على سؤال يوسف حينما قال:
_ ناوية تحطي صور مين فيها؟
مطت شفتاها للخارج وكذلك رفعت كتفيها للأعلى قبل أن تعطيه إجابة:
_ لسه مش عارفة..
بالطبع لن تخبره أنه من ستضع صورة له، ابتسمت في الخفاء ثم أعادتها في الحقيبة عنـ.ـد.ما قام يوسف بإيقاف إحدى السيارات، استقلت هي المقعد الخلفي بينما جلس يوسف بجانب السائق الذي أخبره بوجته فانطلق بهما حيث يريدان الذهاب.
عادا إلى المنزل بعد منتصف الليل، كان زياد جالساً في انتظار عودتهما، اقترب منهما وخصيصاً لينة ثم ناولها سوار يدوي يفصل بين حبات اللؤلؤ خاصته قطعة جلدية مدون عليها حروف إسمها.
ابتسم بحرج وهو يعطيها لها وأردف بنبرة مهزوزة:
_ كان فيه واحد بيبعهم على النيل فاشتريت لك واحدة بمناسبة النجاح وكدا
تناولته لينة منه وشكرته ممتنة:
_ شكراً يا زياد حلوة أوي
أخرجت القلادة الخاصة بيوسف لتريها إياه فأبدى زياد إعجابه بها لكن لم يخلوا حديثه من المشاكسة:
_ هي حلو بس هديتي أحلى
قهقه ثلاثتهم ثم لكزه يوسف في ذراعه بخفة، استأذنت منهما لينة وأسرعت نحو المرحاض تاركة حقيبتها على الطاولة، بينما غمز يوسف إلى أخيه مردداً بإعجاب لتصرفه:
_ لا بس حلو منك إنك بتفكر في حد غير نفسك
رمقه زياد بنظرات متهكمة ثم صاح بعجرفة:
_ أنتوا بس اللي مستقلين بيا
"ماشي يا واثق"
هتف بها يوسف ثم انصرف إلى غرفته فلم يعد ينجح في فتح عينيه، فالنعاس كان متملكاً منه، خرجت لينة وعادت إلى الطاولة ثم حملت حقيبتها وقلادة يوسف في يديها وتوجهت إلى غرفتها، لمح زياد سواره الذي أهداه إليها موضوعاً على الطاولة، حتماً نسيته، كاد أن يناديها لتأخذه أيضاً إلا أنه تراجع وفضل الإحتفاظ به ليرى إن كانت ستلاحظ اختفائه أم لا.
أمسك بالسوار وقبض عليه بغيظ وهو يتابع سيرها حتى اختفت خلف باب غرفتها، لماذا لم تنسى قلادة يوسف أيضاً؟!
أم أنه هو فقط من تتجاهله دوماً وعلى النقيض الآخر لا تتذكر سوى يوسف!!
ضاعف من قبضته على السوار ثم عاد إلى غرفته لينعم ببعض النوم حتى يرى إلى ماذا سينوى لتلك الفتاة التي تتعمد تجاهله طيلة الوقت.
في الصباح، جلس أربعتهم حول المائدة يتناولون الفطور التي أعدته لينة لكرتها الأولى، كان الطعام نفسه من تعده السيدة ميمي لكن بلمسات شابة فازادته شهية وطالبت به معدتهم.
أبدى يوسف إعجابه بطريقة التحضير قائلاً:
_ تسلم ايدك يا لي لي الأكل شكله يفتح النفس
عاتبته والدته مازحة:
_ قصدك إن أكلي كان يسد النفس يا سي يوسف؟!
أسرع يوسف في سحب كلمـ.ـا.ته وتوضيح ما يقصده:
_ لا أبدا يا أمي والله هو فيه أحلى من أكلك، أنا بشجع لينة وكمان طريقتها في الأطباق مختلفة وجديدة وعجبتني، تسلم ايديكم أنتوا الاتنين
ربتت ميمي على ذراعه بحنو وأردفت ممازحة:
_ أنا بهزر يا حبيبي، أنا أصلا عايزاها تبقى أحسن مني مليون مرة
مالت لينة الجالسة بجوارها برأسها على كتفها وهتفت ممتنة لها:
_ ربنا يخليكي ليا
مالت ميمي هي الأخرى برأسها ووضعتها على رأس لينة ورددت بحنو أمومي:
_ ويخليكم ليا يارب
كان الجميع في مزاج سوي دوناً عنه، لم يخفض نظريه عن لينة منذ جلوسهما على المائدة ذاتها، يطالعها ببغض شـ.ـديد في انتظار أي علامة تدل على تذكرها لسواره التي نسيته البـ.ـارحة.
لكنها لم تقل، حتماً لا تتذكره مطلقاً، أخرج تنيهدة قبل أن يردف سؤاله:
_ أنتِ مش ناسية حاجة يا لينة؟
عقدت ما بين حاجبيها بغرابة ثم فكرت قليلاً ولم تتذكر شيئاً قد أضاعته فأجابته بثقة:
_ لا مفيش..
أعطاها محاولة أخرى لربما تتذكر:
_ فكري كويس، حاجة نستيها كدا ولا كدا!
وزعت لينة أنظارها بين الجيمع وعقلها يفكر جيداً فيما يقصده زياد فلم تجد، تأففت بضيق وأبدت انزعاجها:
_ لا مش فاكرة إني نسيت حاجة..
رفع زياد يده لأعلى ظاهراً ذاك السوار، فشعرت لينة بالخجل حياله وهتفت معتذرة:
_ أنا نسيته خالص، كويس إنه معاك عشان ميضيعش كنت هزعل أوي
ببرودٍ هدر:
_ لا ماهو واضح
نهض عن كرسيه فأثار الغرابة في أعين الجالسين من أسلوبه المريب، أوقفه يوسف بقوله:
_ استنى يا زياد..
توقف زياد وطالع أخاه في انتظار ما سيقوله فتابع يوسف بجدية:
_ ناوي تقدm في الجيش امتى؟ أنا سايبك بقالك أكتر من شهر ونص بتلعب وتسهر ومتكلمتش، مش آن أوان الجيش بقى؟!
نفخ زياد بنفاذ صبر فلقد بلغ ذروة تحمله من فرد سيطرته عليه، صاح هاتفاً بعدm قبول لطريقته تلك:
وأنت مالك بيا يا يوسف، أقدm في الجيش ولا لأ، آن أوانه ولا لأ كل دول يخصوني أنا مش أنت!!
تدخلت السيدة ميمي محاولة إيقاف سخافة زياد:
_ زياد أنت إزاي بتتكلم مع أخوك بالطريقة دي، احترم نفسك
لم يكترث لها زياد بل تابع هتافه بتجهم تحت نظرات يوسف المذهولة من ردوده وفظاظة أسلوبه:
_ تعليم وأجبرتني أدخل معهد، خلصت وقولت أشم نفسي لا إزاي، لازم زياد يتجبر في حاجة تانية، ندخله جيش يلبس فيه سنتين ونخلص من قرفه وبعد ما يخلصه هيطلع لنا حاجات تانية نجبره عليها برده
اقترب زياد من أخيه وعيناه ينطق منهما الشر فتحركت السيدة ميمي هي أيضاً خشية أن يتطاول أحدهما على الآخر بينما أخرج زياد ما تبقى في جوفه من بين أسنانه المتلاحمة:
_ فكك مني يا يوسف، أنا مش هعمل أي حاجة تاني أنا مش عايزها، مش هسمح لك تجبرني على حاجة تانية خلاص
تراجع زياد واختلس نظرة على لينة الواقفة خلف الطاولة ثم ألقى آخر مالديه بسخرية:
_ أنا مش عارف إزاي لغاية الوقتي أنت فاكرني أصلا!!
أولاه ظهره وغادر من المنزل، لم يعقب يوسف ولم يعطي ردة فعل، قلقت والدته بشأن صمته المريب، وقفت مقابله محاولة تبرير تصرفات زياد:
_ متاخدش على كلام أخوك يا يوسف، هو واضح إنه مضايق من حاجة من وقت ما صحى وجت فيك أنت، متزعلش منه الوقتي يهدى ويجي يراضيك
تحرك بؤبؤتي يوسف نحوها وقال بهدوء:
_ ابنك عنده حق يا أمي..
استنكرت ميمي ردة فعل يوسف وعاتبته بضيق:
_ عنده حق إزاي يعني؟ أنت بتعمل كل دا ليه؟ مش عشان مصلحته؟ هو غلطان وملوش حق يقول كدا ولما يرجع أنا هـ..
قاطعها يوسف بقوله:
_ متعمليش حاجة يا أمي، سبيه يعمل اللي هو عايزه
تركها يوسف وغادر دون إضافة المزيد بينما صوبت ميمي نظرها نحو لينه وتسائلت بحيرة:
_ معناه إيه الكلام دا؟
اقتربت لينة بخطوات سريعة متفهمة ردة فعل يوسف:
_ أنا فاهمة كويس وجهة نظر يوسف
تسائلت الأخرى بفضول مختلط بالقلق:
_ فهميني طلاما أنتِ فاهمة
ربتت لينة على ظهر ميمي وطالعت الباب حيث اختفى يوسف خلفه وهتفت موضحة تصرفه المبهم:
_ يوسف هيسيبه يعمل اللي هو عايزه عشان يعرف إن كل اللي يوسف عمله كان لمصلحته
نفخت ميمي بضجر وقلق أمومي ثم هتفت بقلب حزين:
استغفر الله العظيم يارب، ربنا يهديك يا زياد
***
مر يومان وقد حان موعد الزفاف، يقف بلال أمام الباب يعد الثوانٍ لكي يرى عروسه في ثوب زفافها الأبيض، حتماً هي من ستزيده بهجة وجمالاً.
فُتح الباب واستقبلته لينة التي شكلت حاجزاً أمامه مانعة إياه من المرور، عبس بلال وهتف بحنق زائف:
_ عايز أدخل على فكرة؟!
شاكسته لينة بمرح:
_ حضرتك مين أصلاً عشان تدخل جوا
قلب بلال عينيه بتهكم وقال:
_ والله مش عارف إيه اللي يخلي يوسف يخليكي المرافق ليها، هي ناقصة شغل عيال؟!
اتسعت عيناي لينة وأشارت على نفسها ثم رددت بذهول:
_ أنا عيلة!!
عاد بلال برأسه هاتفاً بنبرة مرتفعة:
_ يـــاااا يوسف..
قهقت لينة بينما حضرت السيدة ميمي من خلفها وقامت بسحب لينة من أمام الباب واعتذرت من بلال بلطف:
_ معلش يا عريس، شغل عيال زي ما قولت
أظهرت لينة رأسها من خلف ميمي التي تمنعها من تخطيها وصاحت مستاءة:
_ برده عيال!
التفتت نحوها وغمزت إليها لكي تكف عن المشاكسة قبل أن تردف ممازحة:
_ يابت بس بقا جايلك يوم
أخرجت لينة تنهيدة حارة داعية ربها بأن يعجل ذلك اليوم بينما وقفت ميمي بجوار هادية وانضمت إليهن لينة ووقفت تتابع لحظة رؤية بلال لعروسه التي كانت تقف وتوليه ظهرها.
كان الحماس يسيطر على بلال، لم يعد يطيق الانتظار، فقط يريد رؤيتها بفروغ صبر، أخذ شهيقاً عميق ثم دار حول فستانها البسيط ووقف مقابلها.
كانت إيمان خافضة رأسها بحياء شـ.ـديد، اقترب منها بلال ورفع وجهها بإصبعه، فتشكلت الإبتسامة على محياه تلقائياً فور رؤيته لملامحها الهادئة، وما زاد إعجابه بها تلك اللمسات الرقيقة التي وضعتها من المساحيق التجميلية.
كاد أن يطبع قُبلة على جبينها إلا أن لينة تدخلت قائلة:
_ كتب الكتاب لسه متكتبش يا عريس
تراجع بلال عما كان ينوي فعله، رمقها بغيظ شـ.ـديد فهي قطعت عليه أهم لحظة كان سيعيشها مع حبيبته.
بادلته لينة ضحكات أثارت استفزازه، بينما عاد بلال إلى إيمان الهادئة ومد لها يده، فنظرت هي إلى يده وعقلها لا يستوعب أنها ستكون زوجته بعد دقائق قليلة، كيف سيحدث ذلك؟
أين العقبة التي آمنت بها طيلة الأيام الماضية؟!
كيف ستسير معه يداً بيد وتشاركه عدة ساعات تحت مسمى يوم زفافهما!
لم يكن أمامها سوى الرضوخ فكيف سترفضه الآن؟ كيف تخبره أنها تريد الهروب مما هي مقبلة عليه؟
سعادته الواضحة بها لا تزيدها سوى ألماً..
مدت يدها وشعرت بنعومة يده التي عانقت يدها وأغلقت عليها، سارا بجوار بعضهما البعض وخرج من الغرفة، تبعتهم هادية برفقة ميمي بينما انتظرت لينة قليلاً لتتفحص زينتها قبل المغادرة.
خرجت من الغرفة بخطوات مهرولة لكي تلحق بهم
فتفاجئت بيوسف أمامها، تفقدها جيداً بنظراته فلم يعجبه كثرة مساحيقها التي وضعتها وزادتها جرأة.
أمسك بيدها وعاد بها إلى الداخل، ثم هتف بنبرة لا تحتمل النقاش:
_ هاتي منديل بسرعة
أردفت سؤالها بفضول:
_ ليه؟
لم يجيبها بل بحث عن المناديل الورقية بنفسه، ركضت خلفه في محاولة منها على فهم ماذا يفعل لكنه لا يعطيها إجابة صريحة، التقط علبة المناديل المبللة ثم جذبها من يدها مقرباً إياها نحوه وبدأ في مسح وجهها بخفة.
شهقت لينة من خلف تصرفه وحاولت التملص من بين يديه لكن أبى وصاح بجدية:
_ اهدي ومتتحركيش عشان متبوظيش وشك
لم تكف عن التذمر وضـ.ـر.بته في صدره مرددة بحنق:
_ بس يا يوسف أنت بتعمل إيه، أبعد المنديل دا عني
لم يستطيع يوسف السيطرة عليها بسبب فركها المستمرة، فاضطر إلى محاوطة خصرها وجذبها نحوه حتى باتت ملاصقة لصدره، كادت لينة تقع بسبب محاولاتها للإبتعاد عنه فلم يكن أمامها سوى التمسك بقيمصه من الخلف حتى توازن جسدها.
الوضع بدى حميمياً للغاية، فمن يراهم من بعيد يظن أنهما حبيبين يتبادلان العناق، استكمل يوسف مسحه على شفتيها ليخفف من لونهما الفاقع، بادلته الأخرى نظرات بعينيها اللامعة، لا تصدق وضعهما ذاك، أنتبه يوسف عليها واستشعر قربها المبالغ.
بالله ماذا يفعل؟ أهو حقاً يلمس شفتيها؟!
ظل يطالعها وشعوراً غريب قد راوده حينها، خفق قلبه بشـ.ـدة، لم يعد يستطيع الصمود أمام نظراتها تلك، أخفض يده عنها فأزاحت لينة يديها بعيداً عنه.
أخفضت بصرها في حياء شـ.ـديد، كما تلونت وجنتيها بالحُمرة الصريحة من شـ.ـدة خجلها، استدارت بجسدها وتوجهت نحو المرآة لتتفقد ما تسبب به بينما زفر هو أنفاسه التي حشرها داخله وابتلع ريقه لعله ينجح في استعادة رشـ.ـده.
تنهد ثم هتف مبرراً عنـ.ـد.ما استشف تذمرها من خلال المرآة:
_ أصلك كنتي حلوة أوي ومش عايز حد يبص لك!!
فغرت فاها مذهولة مما صغت إليه أذنيها للتو، رآها يوسف فابتسم تلقائياً لرؤية ردة فعلها تلك، اقترب منها لكنه توقف حينما سمع طرقات أحدهم على الباب.
التفت برأسه يميناً حيث يقطن الباب فإذا بها شهد تقف أمامه، لم يكمل يوسف سيره بل عكس مسار ذهابه وقبل أن يغادر وجه حديثه لمشاكسته:
_ هستناكي برا
تابع خروجه من الغرفة بينما دلفت الآخرى والذهول مشكلاً على تقاسيمها، وقفت خلف لينة وطالعت صورتها المنعكسة قبل أن تهتف بصدmة:
_ هو إيه اللي أنا شوفته دا؟
التفتت إليها لينة متسائلة بغرابة:
_ شوفتي إيه؟
أخبرتها شهد بما شاهدته بأم عينيها لكي تغلق عليها باب الهروب أو الإنكار:
_ أنا طلعت أشوفك اتاخرتي ليه، لقيتك في حـ.ـضـ.ـنه!!
تقوس ثغر لينة للجانب مشكلة إبتسامة خجولة، عضت على شفتيها بحياء ثم أردفت بخفوت:
_ الموضوع مش زي ما أنتِ فاهمة
رفعت شهد حاجبيها لا تصدق ابتسامتها الخبيثة، ثم قلدت نبرتها المائعة:
_ أومال إزاي؟
ازدادت نبرة لينة حماس وحيوية ثم بدأت تقص لها ما يحدث لهما تلك الأيام:
_ أنا ويوسف علاقتنا بقت قريبة أوي
لم تتفاجئ شهد فهي على علم بذلك، تنهدت قبل تهتف بملل:
_ وإيه الجديد ما طول الوقت علاقتكم قريبة
حاولت لينة التوضيح عما تشعر به:
_ لا لا قُرب تاني، قُرب مختلف عن الأول، يعني مثلاً طول ماهو في الشغل بقا بيكلمني كتير أوي
ازدادت تلهفاً لإخبـ.ـارها المزيد كما تحدثت بحماسة زائدة:
_ حتى مرة كنت ناوية أقص شعري لأن طوله مضايقني أعترض وأخد مني المقص وفضل بعدها بفترة يأكد عليا مقصوش، مش فاهمة ليه لغاية الوقتي بس الموضوع غريب!
أخرجت تنهيدة حارة قبل أن تتابع:
_ يوم ما نتيجتي ظهرت وخرجنا أكلني الآيس كريم بإيده وقالي كمان إنه بيحس إنه سعيد لما بيتكلم معايا ومش بيكون مضغوط ولا شايل هم
رفعت كتفيها ولازالت الإبتسامة تغزو شفتيها وهي تتذكر ما حدث منذ دقائق وأخبرتها به أيضاً:
_ يعني اللي حصل الوقتي دا مش زي ما فهمتي خالص بس هو الوضع نفسه كان غريب، أول ما شافني مسك أيدي ودخل الأوضة ودور على مناديل عشان يمسح لي الميك اب، طبعاً رفضت وحاولت أبعد عنه وعشان يجبرني أقف لف ايدي عليا وشـ.ـدني لعنده وأنا عشان مقعش لأني كنت بعافر إني أبعد مسكت في قميصه بس بعدها قلبي دق جـ.ـا.مد، وبصت له وأنا مش مستوعبة إني يعتبر في حـ.ـضـ.ـنه
أخفضت بصرها وتابعت بخجل انعكس على وجهها التي تحول لونه إلى الإحمرار:
_ ولقيته هو كمان بيبص لي ونفسه كان عالي أوي، كنت حاسة بحاجة غريبة في نظراته محستهاش ومشوفتهاش قبل كدا!!
كانت تصغي إليها الأخرى بذهول شـ.ـديد يزداد كلما أخبرتها المزيد، هللت شهد فور انتهاء لينة من الحديث معاتبة إياها:
_ كل دا يحصل ومتحيكليش؟!
بررت لينة موقفها:
_ ما أنا مكنتش فاهمة إيه اللي بيحصل دا، أنا حتي ساعات بحس إنه هو بدأ يحبني زي ما بحبه!
بادلتها شهد إبتسامة ثم تسائلت بفضول:
_ طيب هتتأكدي إزاي من إحساسك دا؟
اتسع ثغر لينة ببسمة عريضة ثم أردفت بتعالي:
_ عندي خطة ناوية أعملها وهي اللي هتعرفني إن كان بيحبني ولا لأ!!
"خطة إيه؟"
سألتها شهد بفضول لكن ولوج يوسف قد قطع عليهم مواصلة حديثهم حيث قال:
_ مش يلا عشان إحنا متأخرين؟
أماءت له لينة بقبول ثم حاوطت ذراع صديقتها وخرجن سوياً، بينما تقدm يوسف عنهن وذهب إلى مكان التصوير الخاص بالفندق.
بعد مرور بعض الوقت، كان الجميع يلاحظ تجهم وجه إيمان، عابسة طيلة فترة التصوير لا تبتسم قط، حتى وإن كانت إبتسامة زائفة، على عكس بلال الذي كان يملئ المكان بهجة بمرحه ناهيك عن ابتسامته الصادقة التي لم تختفي من على شفتيه.
كان يوسف يشعر بالغضب يتأجج داخله كلما رأى عبوس إيمان، يطالع صديقه بإيلام شـ.ـديد، بالله كيف يكون اليوم زفافهما وهي بتلك الحالة؟!
أيضاً يشعر بالآسى حياله، هو متأكد أنه لن يجد السعادة التي تمناها بأي شكل على الأقل تلك الفترة، فهذا ما استشفه من تعابير ابنة خاله.
عاد إليه شعور الغضب كلما تذكر تنبيهاته التي لم يصغي إليها بلال، ألا يرى ما الحالة الذي أوقع نفسه بها؟!.
أنتبه لسؤال لينة التي أخرجته من شروده:
_ هي إيمان عاملة كدا ليه، حساها تايهة!!
نفخ يوسف بضجر بائن وهتف مستاءً وهو يطالع بلال بشفقة على ماهو مقبل عليه:
_ الله يكون في عونك يا بلال
استنكرت لينة تحيذه لصديقه وعارضته بحدة:
_ وليه متقولش الله يكون في عونها هي؟
على الأقل صاحبك عمل اللي عايزه إنما هي محدش فكر فيها، يا ترى شعورها إيه الوقتي وهي مع واحد مش بتحبه وخلاص معتش ينفع لا رفض ولا هروب؟
رمقها يوسف بنظرات مشتعلة لا يقبل أن تلقي اللوم على صديقه وعارضها بأسبابه:
_ كان قدامها الفترة اللي فاتت كلها تقدر تقول لأ طلاما هو مش عاجبها ومش بتحبه أو حتى كانت اعترضت على المدة البسيطة دي وقالت محتاجة وقت أطول ناخد على بعض فيه، بس هي مقالتش ومعترضتش يبقى اللوم عليها هي مش عليه، هو يتلام إزاي؟
صوب أنظاره نحو صديقه وتابع بآسى:
_ بصي عليه كدا، شايفة فرحته!! أنا زعلان عليه أوي،
هو مبسوط أنه قدر يحقق حلمه وياخد اللي بيحبها بس ميعرفش اللي هيقابله أول ما يتقفل عليهم باب، أنا زعلان عشان صاحبي وبرده متعصب بسبب غبائه اللي هيوصله لنقطة تزعله!!
لم تعقب لينة باعتراض تلك المرة، فما قاله صحيحاً، تنهدت ثم دعت لهما بحب:
_ ربنا يكتب لهم السعادة يارب
عادت ببصرها إلى يوسف وسألته باستفسار ممزوج بالفضول:
_ هو أنت ليه طول الوقت أخد موقف من إيمان رغم إنها بنت خالك يعني والمفروض تعاملكم مع ميكنش كدا حتى لو مفيش حب بس يبقى فيه ود واحترام وصلة رحم
أبدى يوسف انزعاجه من سيرتها التي تزعجه فور ذكرها ثم بدأ يقص عليها سبب أسلوبه الفظ الدائم معها:
_ إيمان من يوم ما اتولدت وهي مفروضة عليا، بالإجبـ.ـار كدا، كنت طفل صغير عندي ٣ سنين وكانوا بيقعدوني بيها عشان أحبها ولما أكبر اتجوزها متخيلة أنا في الحوارات دي ومن أنا طفل؟ مسابوش طفولتي في حالها زي أي طفل، خد إيمان معاك، هات إيمان ودي إيمان، إيمان هتبات عندكم إيمان بتحب تلعب معاك إيمان جيبالك الهدية دي، كانوا بيفرضوها عليا طول الوقت لغاية ما كرهتها لأني زي أي طفل طبيعي هيكون عايز يلعب مع صحابه أو حتى يقعد لوحده يتفرج على كرتون، لكن دي كنت بشوفها في كل مكان كانت محاوطاني زي عفريت العلبة كدا فطلعت زي ما أنتِ شايفة كدا أطيق العمى ولا أطيقها
قهقهت لينة عالياً ثم هتفت ساخرة من بين ضحكتها:
_ يا حـ.ـر.ام دا أنت كانت طفولتك بائسة
حرك يوسف رأسه يميناً ويساراً مستنكرا ما عاشه في الماضي وشاركها السخرية:
_ شوفتي بؤس أكتر من كدا
نفت بحركة من رأسها وقالت:
_ بصراحة لأ
انتهت فقرة التصوير ثم ذهب الجميع إلى القاعة وبدأ حفل الزفاف كما هو مرتب له، كانت إيمان رافضة مشاركة أي رقصة مع أصدقائها والعائلة، لم تبرح مكانها بينما لم يكف بلال عن الرقص بسعادة ظاهرة للآخرين.
انتهى الحفل سريعاً على الجميع إلا من إيمان، كان الوقت يمر عليها بثقل شـ.ـديد وكأن اليوم لا آخر له، استقل الجميع سيارتهم وذهبوا خلف سيارة العروسين ليقوموا بتوصليهم إلى عش الزوجية الجديد.
***
أوصد الباب بعد ولوجهما، أخرج زفيراً عميق ثم استدار بجسده إليها، لا يصدق أنها بالفعل باتت في منزله، وهو بنفسه قد أغلق باب عُشهم الجديد الذي سيشهد لحظات ثمينة من الرومانسية وكوميدية وغيرهما.
ابتلع ريقه واقترب بخطاه منها، فكانت هي واقفة منكسة الرأس لا تجرأ على رفع بصرها من فرط حيائها ناهيك عن عدm تصديقها لتلك النهاية الغير مرضية بالنسبة لها.
ليس عادلاً أبداً وجودها هنا، في بيت لا تنتمي إليه، بجانب رجل لا تشعر بذرة مشاعر نحوه؟
نهاية ليست عادلة بالمرة فهو رتب لها منذ زمنٍ وكانت هي أكبر أمانيه وها هو اليوم قد نجح في تحقيقها، لكن ماذا عنها؟
أين أمنيتها لطالما لم تتمنى سواها؟
أين نهاية الأحلام والأماني التي نراها في الأفلام والروايات؟
كيف ستتقبله زوجاً لها وهي لا تستطيع حتى النظر في عينيه، هي بحاجة ملحة إلى البكاء ليس فقط على اللبن المسكوب بل على الإناء الذي تحطم أيضاً.
أخرجها من حبال أفكارها النادmة بصوته الناعم:
_ إيمان أنا عارف إن كل حاجة جت بسرعة، بس أنا عايزك ت عـ.ـر.في إنك مش هتنـ.ـد.مي لحظة على السرعة دي، أنا مش حابب أمجد في نفسي وأقولك إني هخليكي أسعد واحدة في الدنيا بس هسيبك تشوفي بنفسك
تناول يديها التي ترتجف بشـ.ـدة وتابع بنبرة حنونة:
_ أنا بس طالب منك تديني فرصة، فرصة أقدر أثبت لك فيها إني بحبك، ياريت نبدأ حياتنا وإحنا راضيين عن قرارانا حتى لو مكنش دا اللي اتمنيته..
رفعت إيمان نظريها عليه متعجبة من آخر كلمـ.ـا.ته، فشكل بلال ابتسامة وأوضح ما يقصده:
_ أنتِ طول الوقت ساكتة ومقولتيش رأيك في ولا حاجة من اللي اختارتها رغم إني كنت حريص جداً في اختياري أنه يعجبك
اللحظة دي ياما حلمت بيها، وياما رسمت لها مواقف وردود كتيرة، بس كنت برسمها وأنتِ بتشاركيني الكلام مش واقفة ساكتة، بس أنا هعذرك وأقول لسه متعرفنيش، بس ياريت مرحلة الكسوف دي تنتهي بسرعة لأن مهما كان فهي تضايق عشان أنا في الآخر بقيت جوزك مش لسه خطيبك!
رفع راحتى يدها ووزع قبلاته عليهما، ثم اقترب منها وطبع قبلة حارة على جبينها، احتضن يدها الصغيرة وأردف:
_ تعالي، غيري الفستان
لم تعطيه رد بل سارت بجواره بهدوء، وكلمـ.ـا.ته تتردد في عقله، حقاً تريد إعطائه فرصة لكن كيف، لا تعلم بداية الطريق لتلك الفرصة، حسناً الآن عليها تبديل ذلك الفستان الثقيل ثم تفكر جيداً فيما ستفعله لاحقاً.
توقفت قدmيها أمام الباب ونظرت إليه في حياء منعكس على وجهها وهمست بخفوت:
_ أنا هدخل لوحدي..
تقبل بلال طلبها بصدر رحب ثم فتح لها باب الغرفة مردداً:
_ لو احتجتي حاجة نادي عليا..
اكتفت بإيماءة من رأسها ثم دلفت للغرفة وأغلقت بابها، لم تكتفي بذلك بل أوصدته من الداخل لكي تمنع أي محاولة اقتحام منه.
لن ينكر بلال أن الأمر أزعجه قليلاً لكن عليه الصبر، وضع بعض الأسباب لتصرفها لكي يهدأ من انزعاجه بالأمر، توجه إلى المرحاض الخارجي ولحسن الحظ كان لديه بيجامة معلقة خلف الباب، بدأ في خلع حلته وارتداء بيجامته الحمراء من قماش الستان الناعم.
وقف أمام المرآة بيضاوي الشكل أعلى الحوض يتفحص خصلات شعره وكذلك ذقته لربما لا تكن مرتبه، وضع من عطره الموضوع في الخزانة التي تتوسط الحائط، ثم خرج من المرحاض مختلساً نظرة على باب غرفتهما فلم تنتهي بعد.
توجه إلى الردهة وأمام السفرة يشم رائحة الطعام الذكية، بدأ يفتح العلب وطالع الطعام بشهية، التفت برأسه ناظراً إلى باب الغرفة الذي لا يصدر منها أي صوت.
تنهد بنفاذ صبر ثم توجه إلى الأريكة واستلقى أعلاها لحين ظهور حوريته.
في الغرفة، وخصيصاً في المرحاض الداخلي، تجلس هي تبكي في زاوية، لا تستطيع فعلها، حقاً ليس لديها القدرة على الخروج ومسايرة الأحداث كما فعلت في الأيام الماضية، الأمر بات جدياً للغاية.
لقِفت هاتفها وكادت أن تهاتف والدتها إلا أنها تراجعت فهي ستخبرها بأن تعطيه فرصة، في النهاية لن تنقذها من ذاك المأزق التي وقعت فيه.
والآن ليس أمامها سوى مجراة تلك الليلة، تمر بما هو مقدر لها، اقتربت من ذاك الفستان الأبيض المطرز بالدانتيل في أطرافه وقامت بإرتدائه ووضعت الروب أعلاه خافية معالم جسدها بالكامل.
غسلت وجهها مراراً لكي تخفف عنه ذاك اللون الوردي إثر بكائها ومن ثم حررت خصلاتها وخرجت إلى الغرفة، وقفت أمام المرآة تتفحص مظهرها جيداً قبل ظهورها أمامه.
كيف ستقف أمامه هكذا حباً في الله؟!
شهيقاً وزفيراً فعلت طاردة أفكارها التي تزيد من حسرتها ثم خرجت من الغرفة وقدmيها ملتصقان ببعضهما، تشعر بالخجل الشـ.ـديد لطلتها هذه التي سيراها رجلاً للمرة الأولى، لكن ما باليد حيلة ليس هناك ما يمكنها فعله.
كان يتنقل بلال بين القنوات في التلفاز في انتظارها، أنتبه لطلتها التي خفق لها قلبه، آكلها بنظراتها التي لم ترفع قط من عليها، يتفحص كل أنش بها باهتمام وسعادة بالغة.
بداية من ذاك الشعر القصير، إلى ثيابها المحررة التي يراها عليها لمرته الأولى، ناهيك عن ساقيها التي تفركهم بـ.ـارتباك حرج.
نهض وتوجه نحوها فازداد تسارع نبضاتها ناهيك عن وتيرة أنفاسها التي ارتفعت حتى شعرت لوهلة أنها تكاد تختنق كلما اقترب بخطاه أكثر.
وقف أمامها وابتسامته لم تختفي من على شفتيه، أعاد خصلاتها الشاردة خلف أذنها مردداً بخفوت:
_ مكنتش أعرف إنك قمر كدا!
سرت رجفة شـ.ـديدة في أوصالها إثر كلمـ.ـا.ت الغزل خاصته، فلم تحظى بهم من قبل، تفاجئت إيمان بقدmيها التي حلقت في الهواء إثر حمله لها بين ذارعيه، أسرعت في إعادة وضع روبها على جسدها مرة أخرى بعدmا حلق معها من خلف تصرفه المفاجئ.
توجه بها بلال نحو غرفته متجاهلاً الأطعمة التي كانت تزقزق لها عصافير بطنه منذ قليل، فلقد ذهب عقله تماماً، وضعها على طرف الفراش ثم جلس بجوارها، كانت هادئة تماماً لكنها كانت حريصة بألا يظهر منها جزءاً أكثر من الذي سمحت له بالظهور.
مرر بلال إصبعه على طول ذراعها فقشعر بدنها إثر فعلته، أوصدت عينيها حينما فشلت في النظر في عينيه، مال هو على رقبتها مخرجاً بعض الأنفاس الحارة وهو يشم رائحتها العطرية الذكية.
اقترب من شفتيها ثم طبع قُبلة عليها وهمس بنبرة متحشرجة:
_ بحبك..
شعر برجفة جسدها التي تزداد فعاد يقبل ثغرها، بينما شعرت هي بـ.ـارتخاء عضلات جسدها فخرجت بعض الحروف منها دون وعي:
_ يـ و س ـف
توقف بلال عما كان يفعله، عاد برأسه للخلف ناظراً إلى عينيها، بالتأكيد ما وقع على أذنيه ماهو إلا من محض خياله، أو ربما كان ذلك من همسات الشيطان، تجمدت تعابيره وارتفعت وتيرة أنفاسه وهو يردد:
_ يوسف! أنتِ قولتي يوسف!
↚
سكون حل للحظات، لا عقل يستوعب ما قيل ولا أذن تصدق أن ذاك الإسم قد وقع على مسامعه، ماهي إلا لحظات قليلة من الهدوء قبل أن يتحول تدريجياً إلى بركان غاضب على وشك الثوران.
تلون وجهه وبات قاتماً إثر غضبه المتأجج داخله، تجهمت تعابيره واحتدت بصورة مخيفة، ارتفعت وتيرة أنفاسه وهو يطالعها بعينين حمراوتين.
بتلعثم حاولت نفي ما قالته:
_ أنا مقولتش.......
ارتعدت إيمان فور صياحه بنبرة اهتزت لها جدران الغرفة:
_ ششششش، اخرسي مش عايز أسمع صوتك
خفق قلبها بقوة وتسارعت نبضاته، تعالت أنفاسها بخوف بالغ، فلم تراه غاضباً هكذا من قبل، لوهلة ظنت أنه يحتفظ بوحش داخله يخرجه وقت غضبه.
تسابقت عبراتها في السقوط بغزارة كالسد الذي فتحت بوابته للتو، تمنت لو كانت تحلم وتستيقظ من ذاك الكابوس المزعج.
ابتعد بلال عن الفراش مثل المـ.ـجـ.ـنو.ن الذي فقد عقله، تصرفاته كانت مريبة وتبث الرعـ.ـب داخل إيمان، كان يجوب الغرفة بخطوات سريعة ثم أمسك بتلك الفازة وألقاها أرضاً مطلقاً "ااااه" قوية من داخله.
كور يده وظل يضـ.ـر.ب الحائط حتى جـ.ـر.حت أصابعه وانفجرت منها الدmاء تاركة بصمـ.ـا.تها على الحائط، حتماً سيصاب عقله بالجنون، نظر إلى المرآة التي كانت على يمينه ولم يتردد في تحطيهما بيده فتضاعفت الجروح في يده.
بينما كانت تجلس إيمان واضعة راحتى يديها على أذنيها تبكي بخوف شـ.ـديد خشية أن يمسها جنونه، كان بلال كالثور الهائج الذي يبحث عن ضحيته ليفتك بها وهذا آخر ما يتمنى حدوثه.
أجبر قدmيه على الخروج من الغرفة قبل أن يقع حادث ينـ.ـد.م على فعله طوال حياته، هرولت إيمان نحو الباب وقامت بتوصيده، وقفت خلفه تحاول كتم شهقاتها بيدين مرتجفتين، كان جسدها ينتفض بقوة إثر ذعرها من هول ما عاشته قبل ثوانٍ.
انهارت ساقيها التي ترتجف ووقعت بإهمال على الأرض، وضعت يدها على صدرها شاعرة بعلوه وهبوطة بصورة مضطربة ولم تحرك بؤبؤتيها قط وهي تعيد في ذاكرتها ردة فعله المرعـ.ـبة.
في الخارج،
جاب بلال الردهة وهو يكاد يرى، رؤيته كانت ضعيفة مشوشة، يصغى لضـ.ـر.بات قلبه المتزايدة، ناهيك عن شعوره بالإختناق الذي يراوده تدريجياً، لم يعد يستطيع التنفس وفشل في أخذ أكسجين لتمتلئ به رئتيه.
ألقى بجسده على الأريكة مستنداً بظهره على جدارها وطالع السقف محاولاً استنشاق الهواء لعله يعود إلى رشـ.ـده، شعور مخيف كلما فشل في استنشاق الأكسجين، تعالت أنفاسه مستنجدة بأي شئ يمكنه إعادته للحياة مرة أخرى.
وقع صوته على أذني إيمان فتضاعف خوفها خشية أن يحدث مكروه له، لم تتردد ونهضت إلى الخارج بخطوات متعرقلة، شهقت بذعر حينما رأته يفشل في التنفس، اقتربت منه فنهض هو هارباً منها لكنها أوقفته حين أمسكت يديه وأردفت بنبرة متوسلة:
_ خليني أساعدك..
لم يتابع هروبه فهو بالفعل بحاجة إلى المساعدة، سيفقد حياته إن استمر ثانية أخرى على ذاك الوضع، حاوطته إيمان من ظهره عاقدة ذراعيها عند بطنه وبدأت تضغط عليها بقوة وحينما تفشل في استعادة أنفاسه تضغط بقوة أكبر، أعادت تكرار فعلتها عدة مرات حتى استعاد بلال أنفاسه.
سحبت يديها على الفور وانتظرت منه رد فعل تجاهها لكنه تابع سيره إلى الأمام ودلف الشرفة ثم أوصدها جيداً لكي لا تأتي خلفه، جلس على أحد المقاعد مستنشقاً الهواء العليل الذي فقده لعدة ثوانٍ وكادت أن تنتهي حياته اليوم!!
اليوم الذي تمناه ولطالما كانت حلمه منذ زمن، اليوم الذي رتب له بعناية وحيوية، اليوم الذي خطط لأقل التفاصيل به، ورسم له مواقف حميمية لكليهما إلا أنه يجلس في الشرفة هارباً مما تمنى قربه طوال حياته!
"يوسف، يوسف، يوسف"
رددها بلال غاضباً متذكراً همسها بإسم رجلاً غيره، تخطأ في إسمه وهي بين ذراعيه إلا إذا كانت تتخيل يوسف من معها، تضاعف غضبه وكرهه لها، شعر بالتقزز والنفور منها.
عقله لا يتوقف عن التفكير، ذاكرته تعيد له همساتها بإسم غير إسمه، كلما تجددت الحادثة في ذاكرته كلما شعر بشعور آخر نحوها، لكن الشعور المسيطر الآن هو الكُره الشـ.ـديد لها، فهي نجحت في تعكير أجمل ليلة كانت ينتظرها بفروغ صبر.
شعر بلال أنه سيصاب بالجنون إن ظل يفكر فيما حدث، وخشى أن يعود لحالته مرة أخرى ففضل الهروب من الواقع، اختلس نظرة للخارج فلم يجدها واقفة، نهض وعاد إلى الردهة ثم توجه إلى الأريكة واستلقى بجسده عليها مرغماً عقله وعينيه على أخذ قيلولة، بعد محاولاتٍ فاشلة قد نجح أخيراً في ذهاب عقله.
في الغرفة، عقلها كان منشغلاً به، لم يرف لها جفن قبل أن تطمئن عليه، تخشى حدوث مكروه له، وما يثير قلقها هدوئه منذ وقت، عقلها يحثها على الخروج والإطمئنان عليه وداخلها يرفض تخطي خطوة خارج الغرفة خشية أن تنال نصيباً من بطشه إن أجبرت نفسها عليه.
لكن لا يهم، فما عاشه بسببها منذ قليل يستحق الإهتمام به حتى وإن قابلها بالرفض، وقفت أمام الباب وزفرت أنفاسها عدة مرات قبل أن تدير مقبضه وتخطوا للخارج، تقدmت باتجاه الردهة بتهمل شـ.ـديد وقلبها يخفق بقوة.
هدأت نبضاتها حين رأته غافياً على الأريكة، اقتربت منه بحذر ومالت عليه تستمع لأنفاسه، فتنهدت براحة حينما شعرت بحرارتها ترتطم في وجهها.
عادت إلى الغرفة أخذه غطاء من خزانتها، ثم دسرته أعلاه برفق لكي لا يستيقظ، هرولت إلى غرفتها وتوسطت الفراش ثم ضمت ساقيها بذراعيها مستندة برأسها عليهم.
لم تكف عن إيلام نفسها، كيف تفعل ذلك؟ كيف تهمس بإسم يوسف في ليلة زفافها؟!
كيف لم تكن حريصة وتمتنع عن تخيله في ذاك اليوم؟
كيف قللت من شأن الرجل الذي يحقق أحلامها قبل أن تخبره بها، لقد أساءت له وأهانت كرامته.
رفعت رأسها وطالعت الفراغ أمامها لاعنة عقلها الذي لم يفكر لثانية قبل أن تتفوه بإسم رجل غيره وهي بين ذراعيه، لكمت رأسها مرات عديدة وهي تردد:
_ غـ.ـبـ.ـية، غـ.ـبـ.ـية
لقد انتقى من أجلها أجمل الأثاث وكان حريصاً على اختيار جميع ما تقع عينيها عليه، تعيش في منزل كالقصر، لم ينقص لها شيء، أختار من الحُلى أجملهم وأغلاهم ثمناً، كان يتودد إليها بعينيه وكلمـ.ـا.ته الحنونة، وهي ماذا فعلت له؟
لقد ردت الحُسنة بالإساءة!
استلقت على الفراش وتكورت في نفسها حتى باتت صغيرة الجسد، محاولة النوم لعلها تهرب مما اقترفته، لكن كيف ينام المرء وهو متسبب في حـ.ـز.ن قلب أحدهم؟!
لم تجف عينيها قط فعبراتها تتساقط في صمت، عاكسة تلك الضجة الحادثة داخلها، كيف تسببت في هدm سعادته في لحظة؟
كيف تحولت تلك الليلة التي كان ينتظرها بفروغ صبر إلى ليلة تعيسة وحزينة؟!
العديد والعديد من الأفكار التي تتخبط بينهم ناهيك عن ضميرها الذي لا يكف عن تأنيب ذاته، إلى أن شعرت بالتعب ينهال عليها وخصيصاً عينيها التي أرهقتها الدmـ.ـو.ع حتى سقطت على الفراش فاقدة وعييها.
***
في الصباح، فتح بلال جفنيه بتمهل، لوهلة لم يلاحظ مكان نومه، تدفقت الدmاء سارية في شريان قلبه فأدت إلى تسارع نبضاته حينما تنشطت ذاكرته بما حدث أمس.
شعر بدفء يعلوه فتفحص ذاته وتفاجئ بذاك الغطاء، أبعده سريعاً عنه ثم ألقاه بعيداً، اعتدل في جلسته خافياً وجهه براحتي يده، يشعر بالتعاسة التي ملئت قلبه، شعور النفور المختلط بالنـ.ـد.م يرافقه، كم كان أبله حينما ظن أن بإستطاعته سلب عقلها وكسب حبها بشراء بعض الحُلي الثمين والأثاث الحديث.
نهض عن الأريكة وتوجه إلى غرفته التي بات لا يكره سواها، يكره تلك الذكرى التي عاشها بها، يكره رائحتها آنذاك، يكره لهفته على التودد إليها على فراشهم الجديد.
وقف أمام باب الغرفة ثم فتحه وطالع جسدها المتكور في نفسه وظل يردد أنه يكرهها، اختفى ذاك الحب الذي كان يكنه لها وتحول إلى بغض وكره شـ.ـديدان.
تقدm بخطاه للداخل ناظراً إلى الخسائر الذي تسبب بها، تعجب من غضبه الذي ظهر البـ.ـارحة، فلم يثور يوماً مثلما كان أمس، يتسائل كيف نجت تلك الفتاة بحياتها ولم يفتك بها لحظتها؟
تابع سيره متجهاً إلى غرفة الملابس، وقام بتبديل بيجامته إلى بنطال جينز أسود وقميص أبيض ثم خرج من الغرفة وغادر المنزل، ترجل إلى الطابق الأول حيث منزل والديه، تردد كثيراً في قرع الجرس لكن في النهاية خضع لما يحثه عقله على فعله.
جائه الرد بعد ثوانٍ، لم تتوقع والدته قط زيارته لها المبكرة، لوهلة طالعته بذهول ثم تقوس ثغرها للجانب مبتسمة في سعادة ثم صاحت مهللة:
_ يا صباح الهنا يا أحلى عريس في الدنيا، صباحية مبـ.ـاركة يا حبيبي
تردد صدى زغاريدها في السُلم فأسرع بلال في إيقافها:
_ بس يا ماما هتلمي علينا الناس
هدأت زغاريدها تدريجياً حتى اختفت ثم رحبت به بحفاوة كأنه غائب عن المنزل منذ أشهر فتعجب بلال من استقبالها الحافل وهتف ساخراً:
_ إيه كل دا، دا أنا لسه سايبك بليل
ربتت على يديه والسعادة ظاهرة في عينيها ثم قالت موضحة:
_ فرحانة بيك يا حبيبي..
اقتربت ثم لكزته في كتفه غامزة إليه بعينيها اليمنى:
_ طمني عليك يا حبيبي وعلى إيمان، هي كويسة؟
حاول بلال جاهداً بألا يكون بـ.ـارداً في رده لكي لا تشعر بشيء وأجابها مختصراً:
_ كويسين، كويسين يا حبيبتي
جاب المكان من حوله بنظراته هارباً من أسئلتها التي لن تكف عن سؤالها بقوله:
_ بابا فين؟
أجابته بلهفة:
_ نزل من شوية..
هز بلال رأسه ثم توجه إلى غرفته معللاً ذهابه إليها:
_ ياااه أوضتي وحـ.ـشـ.ـتني أوي
قفز على الفراش فتشكل الذهول على تقاسيم والدته، وضعت يديها في منتصف خِصرها قبل أن تهتف بعدm تصديق:
_ أوضة إيه اللي واحشتك يا بكاش دا اللي يشوف لهفتك على الجواز يفكر إنك هتنسانا!
تشكلت بسمة متهمكة على شفتي بلال لا إرادياً فاستشفتها والدته وشعرت بثمة أمراً به، حتماً هناك ما يوجد خلفه.
طالعته بأعين ضائقة وسألته مستفسرة بقلق:
_ أنت متأكد إنكم كويسين؟
أكد بلال أنهما بخير بإيماءة من رأسه ورسمه لإبتسامة زائفة قبل أن يردف:
_ أيوة كويسين..
تنهد قبل أن يواصل استرساله:
_ ما تعملي فنجان قهوة بإيديكي الحلوين دول أصل أنا مصدع أوي
تفاجئت شهيرة بطلبه، فمن التي في خدmته الآن حتى يطالبها بذلك وليست زوجته، كانت متأكدة أن هناك ما حدث وعكر صفوه وبالتأكيد لن يخبرها إذا سألته مرة أخرى، لكنها تعلم جيداً من الذي يمكنه معرفة ماذا به.
انسحبت بهدوء إلى الخارج فتجهمت تعابيره تلقائياً فور خروجها، همسها بإسم "يوسف" لازال يتردد في أذنه وكأنها إلى جانبه تعيد وقاحتها.
ازداد غضبه ونفوره منها، لم يعد يريدها، لكن كيف سيحدث ذلك؟ بالتأكيد لن يرسلها إلى عائلتها ثاني يوم لها معه، عليه إخماد غضبه والتفكير بذهن صافِ لكي لا يقع وزر على عاتقه ويكون المخطئ في نظر الجميع.
في الخارج، وقفت شهيرة على باب المطبخ بعد أن وضعت القهوة لتُطهى، تراقب المكان خشية خروج بلال في أي لحظة ثم قامت بعمل مكالمة هاتفية.
"السلام عليكم، مين معايا؟"
أردفهم بصوته الأجش فأجابت هي مع مراعاة هدوء نبرتها:
_ وعليكم السلام، أنا أم بلال يا يوسف، إزيك
أجابها يوسف بغرابة لإتصالها الذي أثار القلق فيه:
_ الحمدلله..
حمحمت وقالت وعينيها مصوبة على غرفة بلال:
_ معلش يا يوسف إني بكلمك بدري كدا بس بلال هنا وأنا حاسة إن فيه حاجة وبيحاول يخبي عني، ممكن تيجي تشوفه وتتكلم معاه يمكن يحكي لك، أنا عارفة إنه مش بيخبي حاجة عنك
أثارت كلمـ.ـا.تها القلق داخله، تفقد ساعة الحائط فالوقت مازال باكراً للغاية، لماذا قد يعود بلال لبيت والديه في تلك الساعة المبكرة؟
أخرج زفيراً قبل أن يخبرها:
_ حاضر جاي..
أغلق الهاتف وأعاد وضعه في جيبه ثم هز رأسه باستنكار شـ.ـديد، فتلك عواقب تحذيراته لطالما حذر بها بلال وهو لم يصغي إليه.
خرج من غرفته فقابلته مشاكسته بإبتسامتها المعهودة وأردفت برقة:
_ Gün adın سوفي
رد عليه يوسف وعقله مشغولاً فيما أخبرته به والدة بلال:
_ صباح الخير، قولي لميمي إني مستعجل أفطروا أنتوا
غادر المنزل تحت نظراتها المتابعة له، ارتخت ملامحها وبدت متملقة فلم ينتظر حتى تخبره بما لديها، نفخت بضيق ثم ولجت المطبخ لتخبر السيدة ميمي بذهاب يوسف.
***
بعد مرور دقائق قليلة، سمعت شهيرة طرق باب منزلها، أسرعت في فتح الباب واستقبلت يوسف بترحاب شـ.ـديد، فسألها هو مستفسراً:
_ بلال فين؟
أشارت بيدها على غرفته قائلة:
_ في أوضته من وقت ما نزل وهو قاعد فيها وآخر مرة دخلت له القهوة اللي طلبها قالي سبيني لوحدي
الأن تأكد يوسف أن هناك ما حدث بينهما أو ربما لم يحدث وذلك ما يضايقه، أخرج زفيراً قبل أن يدلف غرفة بلال بعد أن طرق الباب وسمح الآخر له بالدخول ظناً أنها والدته، فتفاجئ بدخول يوسف.
لوهلة شعر بالغضب يتأجج داخله، طالعه ببرود دون ترحيب، بينما بادله يوسف ابتسامة عريضة مشاكساً إياه:
_ لا لا متوقعتش أنك تورينا وشك قبل شهرين تلاتة كدا
لم تتغير ملامح بلال بل كانت جـ.ـا.مدة تثبت ليوسف أن هناك مصـ يـ بـةقد وقعت، اقترب منه وسحب كرسي وجلس أمامه قبل أن يسأله باهتمام:
_ عامل ايه؟
ببرودٍ أردف بلال سؤاله:
_ أنت إيه اللي جابك؟
رمقه يوسف بنظرات احتقاريه ثم لكزه في صدره بعنف قبل أن يردف مستاءً:
_ إيه المقابلة دي وأنا كنت نايم في حـ.ـضـ.ـنك طول الليل؟
شعر بلال بفظاظة أسلوبه فرقق من تعامله:
_ لا بجد عرفت منين إني هنا؟
فكر يوسف لثوانٍ قبل أن يخبره:
_ حسيت..
رمقه بلال بطرف عينيه ثم ظهرت إبتسامة على محياه، اعتدل في جلوسه حيث يكون قريباً منه وقال بهدوء:
_ مش فايق لرخامتك يالا، جاي تعمل إيه؟
لم يطيل يوسف وأوضح سبب وجوده:
_ جاي أشوفك بتعمل هنا إيه ماهو مش طبيعي يعني تبقى قاعد في أوضتك الساعة ٩ الصبح وسايب بيتك ومراتك..
تجهمت تعابير بلال ولم ينجح في إخفاء غضبه الواضح، استشف يوسف ملامحه المشـ.ـدودة وأردف سؤاله مهتماً لأمره:
_ هو حصل حاجة؟
عاد بلال بأنظاره عليه قبل أن يسأله بتردد:
_ حاجة إيه؟
رفع يوسف كتفيه مبدي عدm معرفته، تنهد وقال عدة إقتراحات:
_ مش عارف، مثلاً شـ.ـديتوا مع بعض، محصلش اللي...
قاطعه بلال ناهياً الحوار بينهما:
_ مفيش حاجة حصلت يا يوسف إحنا كويسين، ارتاح
"متأكد؟"
سأله للمرة الأخيرة فأكد بلال عدm وجود شيء بقوله:
_ يابني مفيش حاجة، يلا قوم امشي
اتسعت مقلتي يوسف بدهشة ومازحه:
_ أنت بتطردني؟!
نهض بلال عن الفراش وهتف مسايراً إياه في مزاحه:
_ أنا كدا كدا طالع أنت هتقعد تعمل إيه، تطبخ مع أمي؟
طالعه يوسف باحتقار زائف ثم نهض وتقدm عنه بضعة خطوات قبل أن يلتفت برأسه متسائلاً باهتمام:
_ يعني كله تمام؟
قلب بلال عينيه ثم صاح:
_ يابني كله تمام أعمل إيه عشان تصدق
تنهد يوسف ثم حاول تصديقه:
_ حاول أصدقك
أجبره بلال على الخروج بوضع يديه على ظهره دافعاً إياه للخارج وهو يردد:
_ طب يلا برا
ارتفعت ضحكاتهم فوقعت على مسامع شهيرة وسببت لها السعادة، انضمت إليهما وطالعت بلال بعينين لامعة وهي تراه يضحك ببشاشة، وجهت بصريها على يوسف وأرسلت إليه بعض الإشارات المتسائلة من خلال عينيها فهتف يوسف بمرح:
_ زي القرد أهو مفيهوش حاجة
تفاجئ بلال بكلمـ.ـا.ت يوسف ثم عاتب والدته ممازحاً:
_ يعني أنتِ اللي بلتيني بيه على الصبح كدا؟
لم تستطيع شهير إخفاء ضحكاتها التي أثبتت له حدسه، فهز بلال رأسه مستنكراً تصرفها لكنه لم يعقب، فلا يمتلك القوة لخلق أحاديث ولوم، هو فقط يريد الهروب من الجميع، وكانت فكرة نزوله غير موفقة بالمرة.
غادر يوسف بينما صعد بلال للأعلى جاهلاً مستقبله مع تلك الفتاة.
في تلك الأثناء استيقظت إيمان من نومها، جابت الغرفة بنظريها، لا تتذكر متى غابت عن الوعي، نهضت ثم ولجت المرحاض وغسلت وجهها وعادت للغرفة، نظرت للباب بتعجب فهي لم تتركه مفتوحاً.
تقدmت نحوه وكادت أن تعيد غلقه لكنها تراجعت وتابعت سيرها للخارج لترى إن كان لازال نائماً ام استقيظ فهي مدينة له باعتذار.
انقعد حاجبيها فور عدm رؤيتها له، استدارت بجسدها لتعود إلى الغرفة إلا أن انتبهت لفتح الباب، خفق قلبها بذعر حين وقعت عينيها عليه.
لم يعطيها بلال أي اهتمام وكأنها نكرة، استلقى على الأريكة ثم دعس على جهاز التحكم وظل ينتقل بين القنوات.
شهيقاً وزفيراً فعلت إيمان وسارت نحوه بخطى متهملة، وقفت أمامه فحجبت عنه الرؤية، أخفض الآخر بصره بهدوء دون تعقيب.
عضت إيمان على شفتيها شاعرة بحرج شـ.ـديد يشوبه النـ.ـد.م على ما فعلته، جاهدت على كسب بعض القوة لكي تعتذر منه وتنهي ذاك الخلاف.
حمحمت قبل أن تردف بخفوت:
_ أنا آسفة..
تشكلت ابتسامة ساخرة على شفتي بلال، صوب بصره عليها وردد بذهول:
_ آسفة! بس كدا؟
لم تستطيع النظر في عينيه الذي يلومها من خلالهما وحاولت وضع بعض التبريرات:
_ مكنش قصدي معرفش أنا قولت كدا إزاي ااا...
لم يعد في استطاعتها مواصلة حديثها بينما نهض بلال وظل يقترب منها بخطوات رزينة وهو يردد كلمـ.ـا.تها:
_ أنا آسفة، مكنش قصدي، معرفش أنا قولت كدا إزاي!!
وقف قبالتها وانحنى برأسه ليكون في نفس مستوى طولها وصاح منفعلاً:
_ دا أنا كنت هخسر صاحبي بسببك!! وأنتِ تقوليلي آسفة!! دا أنا اول ما شوفته كنت هرمي اللوم عليه وأقوله مراتي نطقت باسمك أنت مش بإسمي!
كنت هخسر عشرة ٢٥سنة بسببك أنتِ!
أجبرها على النظر إليه برفعه لوجهها، ظل ممسكاً بذقنها وواصل هتافه من بين أسنانه المتلاحمة:
_ عارفة اللي بتنطق إسم راجـ.ـل تاني غير جوزها وهي في حـ.ـضـ.ـنه دي بيتقال عليها إيه؟
بيتقال عليها وسـ...
قاطعته إيمان بإبتعادها عنه ثم توسلته قائلة:
_ لو سمحت يا بلال بلاش غلط
قهقه بلال قبل أن يصـ.ـر.خ عالياً:
_ غلط؟ هو أنا لسه قولت غلط؟ دا أنا هعـ...
خرجت إيمان عن صمتها وانفجرت به بكل ما أوتي من قوة:
_ كفاية بقا كفاية، أنا مغطلتش، مش أنا السبب في اللي إحنا فيه دا، أنت السبب، أنت اللي مشيت كل حاجة بسرعة، أنت اللي أناني ومفكرتش غير في نفسك وبس، مكنتش بتفكر غير في اللي أنت عايز توصله وبس، وهو أديك وصلت برافوا
صفقت له أيمان ثم اقتربت منه وهي تشير على نفسها:
_ ومفكرتش مرة فيا، مفكرتش أنا عايزة كدا ولا لأ، مفكرتش تديني حتى مهلة أخد عليك، أنت قولت نمشي كل حاجة بسرعة وبعدين نتعرف على بعض براحتنا، بحييك على تعارفنا ببعض، باللي عملته دا خليتنا أتعس اتنين في الدنيا
أولاته ظهرها لتعود إلى غرفتها فهدر هو شزراً:
_ أنا اللي غلطان فعلاً، بس غلطان إني حبيتك!
اهتزت إيمان من اعترافه الصريح، هرولت إلى الغرفة وأوصدت بابها، جلست أرضاً وجهشت باكية بحـ.ـز.ن شـ.ـديد تحول بعد لحظاتٍ إلى غضب وكره.
نهضت عن الأرضية واتجهت إلى أحد الأدراج والتقطت منه مقص ثم أسرعت باتجاه فستان زفافها ولم تتردد في خرق كل ثغره به لاعنة ذاك اليوم الذي استسلمت به ولم تبدي رفضها لتلك الزيجة.
ألقت المقص بعيداً عنها وتكورت في نفسها تبكي بغزارة، كانت تضـ.ـر.ب رأسها من آن لآخر كلما تذكرت ما اقترفته في حق نفسها.
انتبهت على رنين الهاتف، فمسحت على أنفها الذي سالت مائه وأجابت على هاتفها بنبرة مهزوزة:
_ الو
استشعرت والدتها نبرتها الغريبة وسألتها بقلق:
_ مالك يا إيمان أنتِ كويسة؟
أحقاً تسألها إن كانت بخير أم لا؟! هل استطاعت نطقها وهي على علم بحقيقة الأمور؟ لم تستطيع تمالك صمودها وانفجرت باكية وهي تخبرها أنها ليست بخير:
_ مش كويسة خالص يا ماما..
أصاب الذعر هادية ثم هتفت بالعديد من الأسئلة:
_ حصل ايه بس؟ أنتِ بتعيطي كدا ليه؟ طمنيني عليكي
أجابت إيمان من بين بكائها بتلعثم لعدm تمكنها من الحديث:
_ محتاجة لك اوي، ينفع تيجي؟
"أيوة طبعاً هاجي، مسافة الطريق وهكون عندك"
هتفت بهم هادية ثم أسرعت نحو غرفتها لتبدل ثيابها حتى تذهب إلى ابنتها، فلقد انفطر قلبها حـ.ـز.ناً على صوتها الباكي وحالتها المذرية بينما وقعت إيمان على الفراش وظلت تبكي دون توقف.
***
كانت لينة تجلس برفقة السيدة ميمي عابسة، عقلها مشغول في أمراً ما، لاحظت صمتها طيلة فترة مرافقتها لها وسألتها بفضول لمعرفة ما يشغل بالها:
_ مالك يا لينة بتفكري في إيه كدا من وقت ما قعدتي معايا؟
تنهدت لينة بملل ممزوج بالحـ.ـز.ن قبل أن تجيبها:
_ يوسف شكله نسى عيد ميلادي!
حاولت ميمي تبرئته بقولها:
_ يمكن الوقتي يفتكر ويكلمك، أنتِ عارفة يوسف مشغول إزاي الفترة دي
عارضتها بعدm اقتناع:
_ يوسف على طول مشغول وعمره ما نسى عيد ميلادي وكان أول واحد بيفتكره ويقولي كل سنة وأنتِ طيبة
زمت شفتيها بحـ.ـز.ن قبل أن تتابع مستاءة:
_ بس شكله كدا شافني كبرت ومعتش هيهتم بحاجة تخصني
لم تعلق ميمي بل تركتها تخرج ما في جوفها، بينما شعرت الأخرى بالملل يجتاحها حينما لم تبادلها ميمي الحوار، استأذنت منها ودلفت غرفتها تفكر في عمل أشياء تشغل عقلها عن يوسف، بينما ظهرت إبتسامة على شفتي ميمي لتصرفاتها الطفولية، ثم تابعت طهيها للطعام.
***
"أستاذ يوسف، استنى"
هتف بهم أحد الشباب منادياً على يوسف فتوقف الآخر وأردف بلطف:
_ إزيك يا طارق؟
وقف طارق يلتقط أنفاسه وأجاب:
_ بخير الحمدلله، كنت حابب أوريك حاجة شوفتها وأنا براجع الكاميرات عندي في المحل
رمقه يوسف بطرف عينيه قبل أن يسأله مستفسراً:
_ حاجة إيه؟
تنهد طارق وقال مختصراً:
_ تعالى وشوف بنفسك
سار يوسف برفقته حتى دلف كليهما لمكان عمل الشاب، جلس طارق أمام شاشة الكمبيوتر ثم أعاد تشغيل الفيديو الذي أوقفه قبل قليل.
انحنى يوسف بقرب الشاشة ليرى ما الأمر، اتسعت مقلتيه تلقائياً فور رؤيته لذاك الرجل الملثم الذي قطع له الفرامل.
ابتلع ريقه وتحدث بلهفة وهو يشير إلى السيارة التي خرج منها الرجل:
_ أعمل زوم يا طارق على رقم العربية لو سمحت
ضاعف له طارق حجم الصورة فظهرت أرقام السيارة بوضوح، استعار يوسف ورقة وقلم منه ثم دون بها أرقام السيارة لكي يبحث عن أولئك الأوغاد، وتوعد لهم بأشر انتقام.
شكر الشاب لتعاونه ثم هاتف أحد معارفه في إدارة المرور وأعطاه الرقم ثم أنهى المكالمة قائلاً:
_ حبيبي يا مراد باشا، هستنى منك مكالمة
وضع الهاتف أمامه في السيارة ثم تحرك بها بعيداً قاصدا مكان عمله لينهي بعض الأعمال سريعاً.
***
قرع الجرس أخرجه من شروده، توجه نحو الباب وفتحه فإذا بها والدة إيمان، قابلها بملامح جـ.ـا.مدة فلم ينجح في تصنع سعادته تلك المرة، تعجبت هادية من مقابلة بلال الجـ.ـا.مدة فلم يكن يوماً هكذا.
حمحمت بحرج شـ.ـديد ثم تسائلت باهتمام:
_ إزيك يا بلال؟
باختصار أجاب:
_ كويس
لاحظ عينيها الباحثة عن ابنتها فأردف بنبرة خشنة:
_ إيمان في الأوضة، أنا هنزل عشان تكونوا على راحتكم
لم ينتظر ردها بل غادر على الفور، ازدادت حيرة وقلق هادية من أمرهما، دعت داخلها بأن تجد عـ.ـا.قبة الأمور هينة، توجهت نحو غرفة ابنتها وقلبها يكاد يقــ,تــلع من مكانه لشـ.ـدة تدفقه خشية وقوع ماهو سيء.
أمسكت مقبض الباب وحاولت فتحه لكنه كان موصداً من الداخل، طرقت عليه برفق معلنة عن مجيئها:
_ إيمان افتحي الباب..
في غضون ثوانٍ كانت قد فتحت لها الباب، صعقت هادية من تورم جفنيها وحالتها المذرية، ألقت إيمان نفسها بين ذراعي والدتها وانهمرت باكية، فبثت الخوف في قلب والدتها التي انهالت عليها بالأسئلة:
_ أنتِ عاملة في نفسك كدا ليه؟ وبلال ماله مقابلني وهو مش طايق نفسه؟ حصل إيه لكل دا احكي لي
ازداد نحيب إيمان فصاحت والدتها بتوجس شـ.ـديد:
_ بطلي عـ.ـيا.ط وفهميني إيه اللي حصل، انطقي يا إيمان قلبي هيقف من كتر الخوف
أولاتها إيمان ظهرها وعادت إلى الغرفة، حاولت السيطرة على بكائها، تبعتها شهيرة وقد وقعت عينيها على الزجاج المتناثر، فوقع قلبها رعـ.ـباً، وتسائلت ما الذي أدى لذاك الجنون؟
بعد مرور بضعة دقائق استطاعت إيمان تمالك نفسها واستعادة جزء من رونقها.
تنهدت هادية وهي تربت على ظهرها بحنو ثم قالت:
_ أحكي بقا إيه اللي حصل؟
أخبرتها إيمان ما عاشته منذ ليلة أمس إلى الوقت الحالي أسفل ذهول هادية التي وقعت بين طياته، هزت رأسها رافضة تصديق ما وقع على مسامعها.
خرجت من صمتها مرددة ما يدور في عقلها:
_ أنا مش قادرة أستوعب إنك عملتي كدا؟ أنتِ نطقتي بإسم يوسف يوم فرحك يا إيمان؟
توسلتها إيمان أن تتوقف عن المعاتبة فهي لم تعد تتحمل سماع المزيد:
_ أبوس ايدك مش عايزة لوم، اللي أنا عيشته من امبـ.ـارح للنهاردة بعمري كله، معتش قادرة أسمع كلمة زيادة
طالعت أمامها لبرهة قبل أن تسترسل:
_ هو السبب في اللي إحنا دا، وأنتِ كمان السبب..
بكت وهي تتابع تحت نظرات والدتها المصدومة:
_ وأنا كمان السبب!
يعني إيه نجيب اتنين ملهمش علاقة ببعض نحطهم في بيت واحد والمفروض يتعاملوا مع بعض عادي؟!
ما طبيعي يفشلوا من أول دقيقة، مش عارفة إزاي سمعت كلامك وكملت من غير ما أرفض، مش عارفة إزاي كنت مغيبة بالشكل دا؟
أنا غـ.ـبـ.ـية واستاهل كل اللي يجرالي
لكمت إيمان رأسها بقوة، فأسرعت والدتها في منعها من مواصلة ما تفعله، ثم قامت باحتضانها، سقطت عبراتها بسبب إيلام إيمان لها، لم يكن في مقدرتها سوى مأزرتها بالمشاعر فقط، فلم يكن لديها كلمـ.ـا.ت لتطيب بها جـ.ـر.حها وأي كلمـ.ـا.ت ستطيبه بعد ما مرت به؟
***
بعد مرور ثلاثون دقيقة من السكون، لا تشعرن إحداهن إلا بأنفاسهن، تنهدت هادية قبل أن تسألها بخفوت:
_ بقيتي أحسن الوقتي؟
أماءت إيمان بتأكيد وابتعدت عنها، ابتسمت لها والدتها ثم أردفت ما توصلت إليه:
_ أنا مش هعاتب ولا هدي نصيحة لأن الاتنين ملهمش لازمة خلاص، بس أنا عايزة أقولك إني معاكي في أي قرار هتاخديه، سواء حاولتي تحافظي على بيتك وتظبطي علاقتك مع جوزك أو...
باتت الكلمـ.ـا.ت أكثر ثقلاً على لسان هادية، زفرت بعض الأنفاس وعادت لمواصلة حديثها:
_ أو تطلقي.. أنا معاكي في أي قرار المهم إنه يكون في مصلحتك، بس ليا طلب عندك
نظرت إليها إيمان باهتمام وآذان صاغية فتابعت والدتها:
_ لو قررتي تطلقي، استنى على الأقل فترة، لأن طـ.ـلا.قك في الوقت دا هينعكس عليكي بالسوء، والكلام عليكي هيكتر وأنا مش عايزاكي تعيشي الحاجات دي عشان متتعبيش
اكتفت إيمان بإيماءة من رأسها فنهضت هادية مبتعدة عنها ثم لقِفت حقيبتها وقالت مودعة بآسى:
_ أنا مش هينفع أقعد أكتر من كدا لأني مقولتش لابوكي إني هخرج، ابقي كلميني طمنيني عليكي على طول
اقتربت منها ثم طبعت قُبلة على جبينها وغادرت المنزل، عادت إيمان إلى الغرفة وبدلت قميصها التي باتت عليه منذ البـ.ـارحة بثياب أخرى محتشمة.
***
تابعها بنظراته حتى اختفت من المنطقة، فترجل إلى المنزل، لم يفضل مكوثة فترة وجودها عند والدته لكي لا يثير قلقها مرة أخرى ففضل الصعود لسطح البناية.
صغت إيمان إلى صوت إغلاق الباب، خرجت من الغرفة بعد أن قامت بجمع خصلاتها على شكل ذيل حصان، وقفت في المرر الذي يفصل بين الغرف ووجهت حديثها له بجمود:
_ أنا من حقي أعرف إحنا هنتعامل إزاي مع بعض؟
ببرود تام أجاب بلال بعدmا وقف على بعد مسافة منها:
_ مش هنتعامل!
اغتاظت إيمان من رده البـ.ـارد وصاحت بإقتضاب:
_ يعني اتنين في بيت واحد مش هيصدف إننا نتعامل مع بعض؟
هز رأسه مراراً ثم اقترب منها فتراجعت هي للخلف خشية أن يتطاول عليها، مر بلال من جوارها ثم دلف غرفته ومنها إلى غرفة الملابس، جمع ثيابه وخرج من الغرفة تحت نظرات إيمان التي سألته بفضول:
_ أنت بتعمل إيه؟
لم يجيبها وتابع سيره إلى غرفة الأطفال خاصتهم، وضع ثيابه على أحد الأفرشة الكائنة في الغرفة ثم عاد إليها وقال بلهجة مقتضبة:
_ من هنا ورايح أنا في أوضة وأنتِ في أوضة، بيتك مليان بكل اللي تحتاجيه، ولو احتجتي لحاجة اكتبيها في ورقة وسبيها على التلاجة، عايزة تروحي زيارة لأهلك معنديش مانع، وفيه يوم إخواتي بيجوا تحت هننزل نقضي اليوم معاهم وهنبقى أسعد زوجين قدام أي حد، غير كدا ملكيش عندي حاجة، تمام؟!
تخطاها بخطواته وجلس في الردهة ينتقل بين القنوات ليشاهد أحد الأفلام، بينما كانت تقف إيمان على جمر متقد لقد خطط لحياتهم القادmة واتخذ موقفاً بالفعل، نفخت بضيق ثم شعرت بالجوع الشـ.ـديد فهي لم تتناول شيء منذ صباح اليوم الماضي.
ولجت المطبخ وبحثت عن أشياء للأكل، أعدت بعض الشطائر لها وله، خرجت من المطبخ وتوجهت إليه ثم تركت ما معها على الطاولة فتفاجئت به يبعد الطبق بيده متمرداً على ما أحضرته.
لم تصمت تلك المرة وصاحت هاتفة بحنق:
_ زي ما أنت خططت ورتبت لدورك هنا في البيت سبيني أنا كمان أقوم دوري ماهو مش هقعد زي الأباجورة طول اليوم لغاية ما انفجر من الزهق!!
طالعها بلال لثوانٍ كانت كفيلة لإرهابها، لم تزيد حرفاً وهرولت عائدة إلى غرفتها، بينما مال الآخر برأسه متفحصاً المكان فلم يجدها، أسرع في أخذ الشطائر وبدأ يتناولها بشراهة فلقد تضور جوعاً لكن سرعان ما أعاده ما تناوله فور تذكره لهمساتها، أبعد الطبق بيده ثم نهض وتوجه إلى المطبخ لكي يعد له طعام آخر.
في الغرفة، توسطت إيمان الأريكة وهتفت بغيظ:
_ مياكلش، أنا هاكل
رفعت يدها بالشطيرة وقضمتها بشهية حتى أنهتها وقامت بتناول الاخرى في محاولة منها على تصنع اللامبالاة.
***
حل المساء، ولم يعود يوسف، كانت لينة تقف في نافذتها تشاهد النجوم بملل، انطفأت جميع المصابيح فجاءة، فخفق قلب لينة رعـ.ـباً فهي لا تكره سوى الظلام وتخشاه للغاية.
خرجت من غرفتها راكضة بعد أن وضعت حجاب رأسها فكان المكان مظلم للغاية، شعرت بوجود أحدهم خلفها فتسارعت نبضاتها بقوة من فرط الخوف، استدارت بجسدها وارتفعت وتيرة أنفاسها، جحظت عينيها حينما رأت ذاك الجسد العريض يتقدm نحوها فصرخت عالياً بذعر:
↚
"كل سنة وأنتِ طيبة يا لي لي"
دوى صوته العـ.ـذ.ب ثم اشتعلت الأضواء من خلهما بواسطة السيدة ميمي، تفاجئت لينة بهما وقد تبخر ذعرها فور رؤيتهم لكنها مازالت أسفل تأثير الخوف، وضعت يدها على قلبها وحاولت ضبط أنفاسها المتزايدة ثم اقتربت من يوسف ولكمته بقوة في كتفه معاتبة إياه:
_ حـ.ـر.ام عليك يا يوسف، قلبي كان هيقف
بادلها الآخر إبتسامة فوجهت هي نظريها على السيدة ميمي ورفعت حاجبيها متعجبة من ابتسامتها وأردفت بدون تصديق:
_ دا أنا قاعدة معاكي طول اليوم وأقولك يوسف نسى عيد ميلادي وأنتِ تقوليلي معلش تلاقيه مشغول!
قهقت ميمي عالياً ثم ردت عليها:
_ يعني كنت أقولك وأبوظ المفاجأة؟
هزت لينة رأسها باستنكار وعادت بأنظارها إلى يوسف الذي قال:
_ وأنا ينفع برده آنسى عيد ميلادك؟
أجبرها على الإبتسام وهي تطالعه، نظرت إلى الكعكة فهتف هو بسعادة:
_ كبرتي يا لي لي وبقا عندك ١٨ سنة!!
ازدادت ابتسامتها ثم تحركت نحوه إلى أن وقفت مقابله لا يفصلهما سوى الكعكة، أوصدت عينيها لبرهة تتمنى أمنية قبل أن تطفئ الشمع.
أثارت الفضول داخل يوسف حول أمنيتها فسألها:
_ اتمنيتي إيه؟
اتسع ثغرها ببسمة رقيقة قبل أن تجيبه مختصرة:
_ لما تتحقق هقولك
ارتخت ملامح يوسف بتهكم وأردف مستاءً:
_ أنتِ كل سنة تقولي الجملة دي ومبتقوليش حاجة؟!
عضت لينة على شفتيها وهتفت بحماس يشوبه الحياء:
_ ماهي نفس الأمنية..
ازداد فضول يوسف حولها لكن ما باليد حيله سينتظر حتى تخبره بتحقيق أمنيتها، تنهد ثم أمرها بلطف:
_ روحي هاتي الأطباق والشوك من المطبخ
أماءت له بقبول ثم هرولت إلى المطبخ بينما استدار يوسف ونظر إلى والدته وسألها مستفسراً:
_ كلمتيه؟
حركت رأسها بتأكيد وقالت:
_ كلمته وقالي إنه جاي
اكتفى يوسف بإيماءة من رأسه ثم توجه إلى الأريكة في انتظار عودة لينة لكي يبدأ في تقطيع الكعك.
عادت لينة إليهما فبادر يوسف بتقطيع الكعكة ووضعها في الصحون، بعد دقائق عاد زياد من الخارج بوجه عابس كعادته منذ يومين، طالعهم من على بعد ثم أخذ شهيقاً وأخرجه على مهل وتابع تقدmه إليهم وخصيصاً من لينة.
وقف مقابلها ثم ناولها هديته المغلفة بورق مزين وردد بحرج:
_ كل سنة وأنتِ طيبة
نهضت لينة وأخذت ما معه مجيبة إياه بإمتنان:
_ وأنت طيب يا زيزو، جبت لي إيه؟
أجابها وهو يفرك أصابعه بإرتباك:
_ افتحي وشوفي
لم تنتظر لينة لحظة وقامت بتفحص هديتها بلهفة، تفاجئت بالكوب المرسوم عليه شخصية كرتونية بـ.ـارزة عن الكوب، اتسعت عينيها بعدm تصديق وهللت في سعادة:
_ مارد وشوشني!
تقوس ثغرها للجانب مشكلة إبتسامة عريضة عاكسة سعادتها الداخلية، عادت بنظريها إليه وشكرته ممتنة:
_ حلو أوي أوي، شكراً يا زيزو
بادلها إبتسامة لم تتعدى شفتيه ثم تركهم ودلف غرفته، نهضت والدته لتلحق به فأسرع يوسف بمنعها:
_ استني يا أمي، هدخل له أنا
أخذ نفساً عميق وتوجه إلى غرفته، طرق بابها قبل دخوله فرأى أخيه يعتلي الفراش ممسكاً بهاتفه، وضع زياد الهاتف جانباً فهتف يوسف بنبرة خشنة:
_ أنت عـ...
قاطعه زياد بترديده:
_ أنا آسف
ابتعد عن فراشه واقترب من يوسف الذي تملكته الحيرة من أمر اعتذاره وردد متسائلاً:
_ بتتأسف على إيه؟
حمحم زياد وأخفض نظريه فلم يتحلى بالشجاعة ليواجه أخيه، تنهد قبل أن يجيبه:
_ عشان كنت رزل معاك وقولت كلام مينفعش يتقال
بهدوء قال يوسف:
_ إذا كان كدا ماشي، أسفك مقبول
انعقد حاجبي زياد تلقائياً، فلم يعتاد تلك السلاسة دون إيلام، رمق أخيه بطرف عينيه ثم صاح متعجباً:
_ بس كدا؟!
حرك يوسف رأسه نافياً وجود حوار آخر:
_ أيوة بس كدا أومال أنت عايز إيه؟
جاب زياد الغرفة بعينيه مبدي حيرته من حالة يوسف الهادئة ثم أردف:
_ يعني مش متعود عليك سهل كدا، فين العصبية واللوم والخناق؟
أخرج يوسف تنيهدة ووضع يديه في جيبي بنطاله، وأجابه بصوته الأجش:
_ أصلك كبرت!
ظن زياد أنه يستهزأ به فهدر معاتباً:
_ ما خلاص يا يوسف بقا انسى الكلام اللي قولته
حاول يوسف توضيح اعتقادته له:
_ لا بجد مش بتريق، طريقتي كانت غلط معاك، كنت المفروض أخد بالي إنك كبرت وطريقتي معاك كانت لازم تتغير!!
لا يستطيع تصديقه، ما الذي تغير فجاءة ليكون هادئاً ورزيناً بهذا الشكل، ظل يحرك رأسه مردداً بعدm تصديق:
_ هو اللي بيحصل دا بجد؟
أماء له يوسف بتأكيد وقال:
_ بجد
ابتسم الأخوين تلقائياً، بينما رفع يوسف يده ولكزه في كتفه فأطلق زياد آنات موجوعة ثم هتف يوسف وهو يحاوط كتفيه بذراعه:
_ يلا عشان تاكل تورتة مع إنها خسارة فيك
قهقه زياد ثم سار معه مجبراً رأسه على الإنحناء بسبب يد يوسف المحاوطة لكتفيه، خرج كليهما وابتسامتهما تغزو وجهيهما، أسرت السعادة قلب السيدة ميمي لرؤيتهما في هذا الوضع الحميمي، تقوس ثغرها تلقائياً وابتسمت لهما ثم هللت بفرحة:
_ ربنا يخليكم لبعض يارب ومايدخلش الشيطان بينكم أبدا
اكتفت لينة برمقهما ببسمة سعيدة، جلس جميعهم يتناولون الكعكة والأحاديث، لم تخلوا جلستهم من الضحك و الكوميديا، ارتفع صوت زياد فأجبر الآخرين على الإصغاء حينما هدر:
_ ما حد يشغل لنا حاجة حلوة نسمعها
وافقته لينة الرأي ونهضت هاتفة بحماس:
_ هشغل أنا على ذوقي
ثم قامت بتوصيل هاتفها بالسماعة عن طريق البلوتوث، أخذت دقيقتان حتى اختارت اغنيتها لشخصها المفضل حيث كانت كلمـ.ـا.تها حنونة تمس القلب، كانت بدايتها عزف هادئ يدل على تصنفيها الرومانسي.
فلم تعجب زياد الذي تذمر:
_ إيه دا مُحن؟! لا الله يخليكي غيري بيقلب لي معدتي
رمقته لينة بتقزز يشوبه الإستياء ثم هتفت:
_ أسمعها الأول، هتعجبك
بدأت كلمـ.ـا.ت الأغنية تقع على مسامعهم فنظرت لينة تلقائياً إلى حبيب فؤادها، وأسير قلبها بعينين لامعتان وهي تدندن مع الكلمـ.ـا.ت:
أصابك عشق أم رمـ.ـيـ.ـت بأسهم
فما هذه إلا سجية مغرم
ألا فاسقيني كاسات وغني لي
بذكر سليمة والكمان ونغمي
شعور مريب قد راود يوسف آنذاك، شعر لوهلة وكأن كلمـ.ـا.ت الأغنية رسالة موحية إليه من خلال نظراتها التي لم ترفعهم من عليه قط، ابتلع ريقه وحاول مسايرة الأمر وسماع بقية الأغنية وكأنه لا يوجد شئ.
:
أيا داعيا بذكر العامرية أنني
أغار عليها من فم المتكلم
أغار عليها من ثيابها
إذا لبستها فوق جـ.ـسم منعم
ليل ياليل ليل الليل يا ليل يا ليل
يا ليل يا ليل يا ليل، يا يا يا ليل يا ليل
يا ليل يا ليل يا ليل، يا ليل
كلمـ.ـا.تها أعجبته وخصيصاً ذاك المقطع الثاني، لمس شيء داخله يجهل حقيقته، لكنه كان مستمتعاً بما يقع على آذنيه، تدخل زياد مقاطعاً لحظتهما بسخريته:
_ غيري يابنتي البتاعة اللي أنا مش فاهم منها حاجة دي
أوقفت لينة تشغيل الأغنية ورمقته بغيظ شـ.ـديد قبل أن تبدي تذمرها:
_ يا باي ما تسمع وتستمتع بقا بلاش فصلان
كاد زياد أن يتابع استهزائه من ذلك النوع الذي يتناقض مع شخصيته تماماً إلا أن يوسف تدخل بحسمه للأمر:
_ شغلي يا لينة وسيبك منه
اتسع ثغرها بإبتسامة عريضة بينما تأفف زياد واضطر إلى الخضوع لكليهما حتى تنتهى تلك الأغنية المملة من وجهة نظره.
أعادت لينة تشغيل الأغنية وكانت متابعة إهتمام يوسف في مواصلة سماعها وكانت سعيدة للغاية بما يحدث.
أغار عليها من أبيها وأمها
إذا حدثاها بالكلام المغمغم
وأحسد كاسات تقبلن ثغرها
إذا وضعتها موضع اللثم في الفم
أغار عليها من أبيها وأمها
إذا حدثاها بالكلام المغمغم
وأحسد كاسات تقبلن ثغرها
إذا وضعتها موضع اللثم في الفم
ليل يا ليل
يا ليل
يا ليل
يا ليل
يا يا ليل
أنتبه يوسف لقلبه الذي لم يتوقف عن الخفقان منذ سماعه لتلك الأغنية، أنتبه لصراخ لينة وهي تنظر لوجهة بحد عينها، فنظر تلقائياً في نفس وجهتها وإذا بأخيه يكاد يرتشف من كأسها.
فأسرع في سرقة الكأس قبل وصوله لفم أخيه ونهره بعنف:
_ قولتلك قبل كدا اشرب من كوبايتك
قلب زياد عينيه مستاءً من تصرفه وردد ساخراً:
_ هو أنا فيا جراثيم ولا إيه؟!
أجابته لينة وهي في طريقها للجلوس:
_ مش بحب حد يشرب من حاجتي، بقرف
اكتفى زياد برمقها بطرف عينيه بتهكم، أخفض بصره على هاتفها الذي بيدها وأمرها بحنق:
_ طب الغي الإقتران عشان هشغل من عندي
أغلقت لينة تفعيل البلوتوث فاقترن هاتف زياد على الفور بالسماعة، نظر إليهما بعجرفة وأردف:
_ شوفوا بقا اللي يتسمع مش تقولي ليلى العامرية وأغار عليها من أبيها وأمها
حرك رأسه مستنكراً وواصل استهزائه:
_ مش فاهم يعني بيغير من أبوها وأمها ليه يعني ناقص يقولها متطبخيش أصل بغير عليكي من عيون البوتاجاز
لم يفشل في إضحاكهم بسخريته، شاركهم زياد الضحك أيضاً قبل أن يتابع:
_ عايزين تعرفوا الغيرة اللي بجد اسمعوا دي
أنتبه جميعهم لما قام بتشغيله ذاك المشاكس وهو يشير بيديه على نفسه مطلقاً بعض الرقصات المـ.ـجـ.ـنو.نة:
غلطان فى غيرتى عارف
علشان عليكى خايف
وهواكى اقوى منى
ولا غيرك انتى شايف
غلطان فى غيرتى عارف
علشان عليكى خايف
وهواكى اقوى منى
ولا غيرك انتى شايف
لا داعى من وداعى
سامحينى فى اندفاعى
بهواكى يا ملاكى
ومنايا لو تراعى
لا داعى من وداعى
سامحينى فى اندفاعى
بهواكى يا ملاكى
دخل الجميع في نوبة ضحك شـ.ـديدة على ما يفعله بعفويته، حتى شرقت السيدة ميمي فأسرع يوسف ليجلب لها بعض المياه وكذلك لينة التي وقفت بجوارها لتطمئن عليها.
شعرت ميمي ببعض الراحة حينما ارتشفت القليل من المياه ثم هتفت موجهة حديثها إلى زياد:
_ يخرب عقلك يا زياد معتش قادرة أخد نفسي من الضحك
غمز إليها بثقة ثم قال:
_ عشان تعرفوا قيمتي بس
عادوا إلى أماكنهم، فشعر يوسف بالعطش، مد يده تلقائياً وأخذ كوباً مملوء بالمياه وارتشفه كاملاً، فتحولت نظراتهم عليه، تعجب من عينيهم المصوبة نحوه وسألهم بفضول:
_ في إيه بتبصولي كدا ليه؟
أجابته لينة ناظرة للكوب الذي في يده:
_ دي كوبايتي!
أخفض يوسف بصره على الكوب فتفاجئ بكوبها، حمحم بحرج وأبدى جهله بكوبها:
_ مختش بالي..
حاولت لينة تغير الحوار عنـ.ـد.ما رأت حرجه الظاهر، ونظرت إليه بأعين جاحدة فأثارت الرعـ.ـب في قلبه وهتفت بتذمر:
_ فين هديتك؟
بالتأكيد لن يمرق زياد ما قالته دون وضع بصمته فهتف مازحاً:
_ عشان ت عـ.ـر.في بس إني أنا اللي فاكرك
تشـ.ـدق يوسف بفمه بتهكم لحديث أخيه وردد وعنفه:
_ وأنا يعني عمري نسيتها؟
عاد بنظريه إليها وأوضح لها:
_ أنتِ عارفة إني فاشل في اختيار الهدايا فأنا بسيب لك الحرية تختاري اللي تحبيه
ابتسمت بعذوبة وحماس وهتفت:
_ هديتي أنا عارفاها، عايزاك توديني البلد
"البلد!'
رددها يوسف بتعجب فأوضحت هي ما تقصده:
_ أيوة بلدي، وحـ.ـشـ.ـتني أوي يا يوسف، نفسي أروح وأشوفها لسه زي ماهي ولا اتغيرت، نفسي أدخل بيتنا تاني، مش يمكن ألاقي فيه حاجة نسيت أخدها وقت ما جيت معاك من هناك؟
تجهمت تعابير يوسف وطالع أمامه دون إعطائها إجابة، لاحظت لينة تغيره بل استشف الجميع ذلك، فسألته متلهفة لسماع رده:
_ أنت سكت ليه؟
نظر إليها مبدياً رأيه في طلبها:
_ عشان مش موافق
تفاجئت لينة برفضه فكان أول طلب يرفضه لها، استشف يوسف ذهولها فهدر بنبرة رخيمة:
_ هنروح هناك يعني ذكريات هتتعاد ومواجع هتتقلب وأنا اللي هضايق عشان طاوعتك
حاولت لينة نفي ظنونه لكي تستطيع إقناعه:
_ مفيش الكلام دا، وبعدين حتى لو فرضنا إني اتاثرت فكونك أنت جنبي هفتكر على طول أنك كنت موجود معايا وقتها والسبب في سعادتي لغاية النهاردة، موافقتك هتفرق معايا أوي يا يوسف
ظل يرمقها دون إجابة، يدرس الأمر جيداً في عقله قبل إعطائها رد آخر، فلم تستطيع صبراً وهتفت متوسلة بدلال:
_ عشان خاطري يا سوفي
أخرج تنهيدة بطيئة فواصلت هي بدلال مبالغ:
_ عشاني، عشان لي لي وافق
قلب عينيه وهو يتمتم بإقتضاب:
_ ماشي
صاحت لينة بسعادة عارمة فتدخلت السيدة ميمي قائلة:
_ هتروحوا امتى؟
أجابها يوسف بحسم:
لما أظبط اموري في الشغل الأول وبعدين نروح
دقت طبول السعادة قلب لينة، فكانت سعادتها واضحة للجميع، وقعت عينيها على الكأس الذي أهداها زياد إياه، فالتقطته من على الطاولة مبدية إعجابها به:
_ حلو أوي
صدح صوت يوسف حين قال:
_ شبهك
اتسعت مقلتي لينة بذهول ورددت بحنق:
_ شبهي! ليه هو أنا بعين واحدة ومكعبرة كدا؟
قهقه يوسف وكذلك الآخرين ثم أوضح مقصده:
_ أكيد مش قصدي كدا، قصدي يعني إنك طفولية زيه
حدقته بعينين متسعتان غير مصدقة ما رمى إليه:
_ طفولية! أنت شايفني طفلة؟!
بتلقائية عابثة أجابها:
_ أكيد
حاولت الإعتراض لتلك الرؤية الغـ.ـبـ.ـية:
_ بس أنا مش صغيرة أنا تمـ.ـيـ.ـت ١٨سنة ياسي يوسف!
لم يعرف ماهي نقطة اعتراضها بالضبط فأكد على رؤيته لها:
_ حتى لو بقيتي تمـ.ـيـ.ـتي ٣٠سنة هتفضلي طفلة بالنسبة لي
كان يردف كلمـ.ـا.ته ولا يدري ما يتسبب به، فكان هذا بمثابة اعتراف صريح لكونها صغيرة لا تصلح لأن تكون حبيبته يوماً.
عبست تعابيرها ونهضت بهدوء وقالت:
_ تصبحوا على خير
غادرت المكان قبل أن تسمع لردهم مما أثار التعجب حولها وخصيصاً يوسف الذي لم يفهم سبب تحولها المفاجئ، نهض ثلاثتهم لكي يحظوا بثُبات هادئ عدا لينة التي لم يرف لها جفن، فكانت كلمـ.ـا.ت يوسف غير هينة بالمرة، شعرت بوخزة في صدرها ولم تختفي بسهولة.
نهضت وتوجهت نحو خزانتها ثم أخذت منها دmيتها التي أهداها إياها يوسف، فلقد تناستها تماماً، عادت إلى الفراش واحتضنتها بقوة فتساقطت عبراتها أعلاها وظلت تبكي في صمت وكلمـ.ـا.ته لا تريد الاقلاع عن عقلها.
هطلت دmـ.ـو.عها كالمطر الغزير حزينة على مشاعره الجـ.ـا.مدة التي لم تتغير قط، ألم يشعر بها ولو لمرة؟ ألم يلاحظ كلمـ.ـا.ت الغزل التي تخبره بهم من خلال نظراتها؟
ألا يقولون أن العاشق تفضحه عينيه؟
فلا يوجد تفسير لهذا الأمر إلا أنه جاهل لقراءة العيون..
لم تتوقف عن البكاء، فهذا كان حلمها الوحيد، ألن تحظى بتحقيقه؟
أرهقها التفكير فاستسلمت للنوم الذي سيطر عليها خلال ثوانٍ.
***
في نهارٍ جديد، غازلت الشمس عينيها فتسببت في إيقاظها، فركت عينيها ثم استلقت على الجانب المعاكس للنافذة حتى تحجب الضوء عنها، فتحت عينيها بتهمل وراحت ببصرها على الغرفة، انتفضت بتوجس حينما رأت اثار تحطيم الزجاج مازال متناثراً في الأرجاء، فأعاد لها ذلك المشهد ثورة بلال.
خفق قلبها بذعر ولكنها طردت أفكارها المخيفة ونهضت متوجهة للخارج، صغت إلى صوتٍ يصدر من المطبخ فلم تتردد في الدلوف.
شاهدت قامته المنتصبة وهو يعد الفطور، زفيراً عميق أخذته ثم زفرته على مهل وتابعت تقدmها للداخل، لم يشعر بها فأرادت جذب انتباهه:
_ أحضر لك الفطار؟
التفت برأسه وحدجها بنظراته الثاقبة التي بثت الرعـ.ـب فيها ثم عاد ليواصل تحضيره دون تعقيب، تأففت إيمان لكنها لم تصدر صوتاً، فقد احتفظت بضيقها منه داخلها، اقتربت بعض الخطوات منه فوقعت عينيها على الشطائر التي أحضرتها بالأمس، وعلمت أنه لم يلمسها.
تنهدت قبل أن تردف كلمـ.ـا.تها بنبرة مختنقة:
_ إحنا مضطرين نتعامل مع بعض لأننا في بيت واحد، بلاش التجاهل دا أنا معملتش حاجة لكل دا!
جائها رده الجـ.ـا.مد وهو على نفس حالته لم يلتفت:
_ لا مش مضطرة تتعاملي معايا ولا حاجة
فرت دmعة على مقلتيها فأسرعت في مسحها، أحضرت أدوات التنظيف وغادرت المطبخ سريعاً، عادت إلى غرفتها لتجمع حطام الزجاج المتناثر.
أنهته بعد فترة قصيرة ثم بدلت ثيابها إلى أخرى، انتبهت على رنين الجرس فخرجت من غرفتها لتعلم من الطارق.
"صباح الخير يا حبيبي"
ألقت شهيرة التحية على بلال فأجابها بلطف، رأتها شهيرة تقف في زواية بعيدة عنهم فابتسمت لها ثم أردفت:
_ إزيك يا حبيبتي، جيت أطمن عليكم وأشوفكم لو محتاجين حاجة
جائتها إيمان على استحياء، فتعجبت شهيرة لثيابها التي لا تناسبها كـعروس، لم تطيل النظر وسألتها بنبرة حنونة:
_ محتاجة حاجة مني؟
نفت إيمان بإيماءة من رأسها وشكرتها ممتنة:
_ شكراً لحضرتك
بادلتها شهيرة إبتسامة وعادت بنظريها إلى بلال وقلبها يخبرها أنهما ليسوا بخير، فهي لديها خبرة كافية في رؤية الأشخاص ومعرفة ما أن كانوا سعداء أم تعساء، ولم ترى فيهما سوى إخفاء تلك التعاسة عنها متصنعين السعادة.
استأذنت منهما وغادرت، لم يتوقف عقلها عن التفكير فيما هو أسوء، كانت شاعرة بانطفاء ولدها الواضح، فهي شهدت حماسته قبل زواجه ولهفته على التودد من إيمان، فما الذي تغير الآن؟
عبست ملامحه وتجهمت فور ذهاب والدته، التفت حيث تقف إيمان، صوب نظره على جهة ما بها لبعض الوقت فأثار الفضول داخل إيمان ونظرت إلى ما ينظر فتفاجئت بالدmاء تسيل من إصبعها، لقد جـ.ـر.حته دون أن تشعر.
لم تطيل الوقوف مكانها وهرولت إلى المرحاض لكي تضمده على الفور، كان بلال مهتماً لأمر ذاك الجـ.ـر.ح ويريد معرفة ما أن كان عميق أم أنه سطحي، لكن حتماً لن يسألها، فقط سينتظر إن كان الأمر عصيباً فحتماً ستأتي وتطلب مساعدته.
لم يستطيع الجلوس، فجلس على حافة الأريكة حتى ظهرت هي، لمح يدها سريعاً فرأها قد ضمدت أحد أصابعها، وعلم أن الأمر لا يستحق فتوجه إلى الأريكة وجلس أعلاها وظل يتنقل في هاتفه بملل شـ.ـديد.
بينما عادت هي إلى غرفتها فلم يكن هناك ما تفعله، حتى تناولها للطعام لم يكن اقتراحاً جيداً فلقد فقدت شهيتها بعد حوارهما الأخير.
***
خرج من المكان متعجباً من عدm وجود أحد وسأل رجل الأمن مستفسراً منه:
_ الموظفين راحوا فين ياعم آمين؟
أخبره أمين بالأحداث التي جرت أخيراً:
_ سمير بيه أعطاهم إجازة النهاردة، أنا فكرتك عارف
حرك يوسف رأسه نافياً معرفته بقرار الإجازة وقال:
_ لا معرفش حاجة، طيب أنت مختش إجازة معاهم ليه؟
ابتسم أمين بسخرية قبل أن يجيبه:
_ يمكن لو مكنتش أمن كنت أخدت، كلك نظر يا أستاذ يوسف
استاء يوسف من سذاجة سؤاله وهدر:
_ متأخذنيش يا عم أمين
سكون ساد لثوانٍ قبل أن يأمره يوسف:
_ طيب روح أنت يا عم أمين
قطب الرجل جبينه بغرابة ممزوجة بالحماس وسأله:
_ طب والمعرض؟
باختصار أجاب الأخير:
_ أنا هتصرف
تقوس ثغر الرجل ببسمة عريضة هاتفاً بإمتنان:
_ شكراً يا أستاذ يوسف ربنا يجعله في ميزان حسناتك
بادله يوسف ابتسامة ثم هاتف أحد شركات الأمن حتى تؤمن المكان ليوم، جلس في مكتبه وقام بعمل مكالمة هاتفية أخرى، جائته الإجابة خلال ثوانٍ بصوتها الناعس:
_ إيه يا يوسف
"أنتِ لسه نايمة؟ قومي البسي بسرعة"
أردفهم يوسف فاعتدلت لينة قليلاً وسألته بفضول:
_ ألبس ليه؟ هنروح فين؟
أخبرها مختصراً:
_ مش عايزة تروحي بلدك
اتسعت عينيها بذهول، قفزت مبتعدة عن الفراش ورددت بعدm تصديق:
_ بتهزر صح؟
أكد نيته في الذهاب معها بقوله:
_ لا مش بهزر بتكلم جد
أخذت تتلفت حولها جاهلة ما عليها فعله، فجائها صوته الساخر حينما تأخرت عن الرد:
_ لو بتلفي حوالين نفسك أوقفي وروحي البسي
توقفت لينة عن الدوران حول نفسها وسألته من بين ضحكها:
_ أنت عرفت منين؟
بثقة أجابها:
_ عرفت منين؟ دا أنا حافظك
ازداد ضحكها وهتفت بحيوية:
_ طيب سلام عشان أروح أجهز نفسي
ألقت الهاتف على الفراش وهرولت لتتجهز، تشكلت إبتسامة على شفتي يوسف حينما رسم صورتها وهي تدور حول نفسها مضيفاً لخياله خصلاتها المموجة التي تحلق معها.
وقعت عينيه على شاشة حاسوبه المحمول، فرأى انعكاسه، اختفت ابتسامته فجاءة وتمتم بينه وبين نفسه:
_ في إيه يا يوسف مالك؟!
أغلق الحاسوب ثم نهض ليستقبل رجل الأمن الجديد حتى يغادر عائداً إلى منطقته، صف سيارته أسفل البناية وهاتف لينة يخبرها بعودته.
في البنايات المجاورة، كان بلال يقف في شرفة منزله، فوقع نظريه على سيارة يوسف، لم يتردد في مهاتفته وما هي إلا لحظاتٍ حتى جائه صوت يوسف:
_ صباح الخير يا عريس، عقبال ما تقولهالي
تقوس ثغر بلال بتهكم وهتف مستاءً:
_ يلا ندورلك على عروسة وأنت تبقى زيي
بمشاكسة هدر يوسف:
_ لا وقتها مش هبقى زيك، أنت هتكون راحت عليك خلاص
قهقه بلال ثم سأله بفضول بعدmا رأى لينة تستقل السيارة:
_ أنتوا رايحين فين كدا على الصبح؟
أخبره يوسف بوجهتهم:
_ رايحين بلد ست لينة
أردف جملته وهو يطالعها فابتسمت هي بحماس، سرعان ما تحولت تعابير يوسف إلى التعجب عنـ.ـد.ما قال بلال:
_ طب استناني هلبس وجاي معاكم
أغلق الهاتف ولم يعطيه فرصة للتحدث، ظل يوسف مطالعاً الهاتف لثوانٍ، والكثير من الأسئلة قد راودته آنذاك، قطعت عليه حبال أفكاره بسؤال لها:
_ إحنا واقفين ليه؟
التفت برأسه إليها قبل أن يجيب بغرابة:
_ بلال جاي!
انعقد حاجبيها تلقائياً مبدية غرابتها لمرافقة بلال لهما بقولها:
_ بلال جاي يعمل إيه؟
رفع يوسف كتفيه معلن عدm معرفته، بعد مرور دقائق قليلة ظهر بلال أمام مرأى عيني يوسف في المرأة الخارجية فأمر لينة بحرج:
_ معلش يا لينة انزلي واقعدي ورا
تأففت بضيق ثم امتثلت لأمره، استقل بلال المقعد بجوار يوسف الذي طالعه وظل يحرك عينيه يميناً ويساراً متسائلاً عن وجوده فلم يريد إحراجه أمام لينة بسؤاله.
فاستشف الآخر حيرة يوسف وأجاب مازحاً:
_ أصل أنا اكتشفت إني طلعت شوارعي جداً، قاعدة البيت دي مش كاري
"يا سلام!"
هتف يوسف بها بعدm تصديق بينما تنهد بلال بملل قبل أن يردد:
_ ما تطلع يابني هتفضل مبحلق لي كتير
لم يكن أمام يوسف سوى التحرك بالسيارة مبتعداً عن منطقتهم، قطع يوسف مسافة طويلة فشعرت لينة بالعطش فأخبرته بعفوية:
_ سوفي، أوقف عند أول سوبر ماركت تقابله نجيب مية
أماء بقبول ثم أنتبه على تمتمة بلال الساخرة:
_ سوفي!!
رددها ثم انفجر ضاحكاً وهو ينظر إلى يوسف الذي نادته لينة بـ سوفي، كان يردد بسخرية من بين ضحكاته المدوية:
_ همـ.ـو.ت مش قادر، بقا أنت طلع أسمك سوفي!
ثم يعود إلى قهقته مرةٍ أخرى، طالع يوسف لينة من خلال المرآة الأمامية ورمقها بغيظ قبل أن يهتف متذمراً:
_ معتيش تنطقي حرف قدام الحـ.ـيو.ان دا تاني
لم تصمت لينة وأبدت زمجرتها من ضحكاته السمجة:
_ وأنت مش بتدلع ولا إيه ولا إيمان مش بتعرف تدلع؟!
توقف بلال عن الضحك لكن مازال وجهه مبتسماً، فتابعت الأخرى بانتصار:
_ أنا قولت كدا برده..
اختفت ابتسامته تماماً من على محياه ولم تترك أثراً، حاول بلال جاهداً أن يبدو طبيعياً إلا تعابيره قد خانته وتجهمت بشكل ملحوظ، هرب منهما بنظراته التي تابع بها الحركة في الخارج، لكنه كان ظاهراً لكليهما وضعه الذي انعكس كلياً.
شعرت لينة لوهلة أنها كانت مخطئة في حقه، لا تعلم من أين أتى ذاك الشعور لكن عبوسه سبب لها الضيق، بينما لاحظ يوسف تحول حالته، وكان يزداد اليقين داخله أن صديقه ليس على ما يرام كما يدعي.
توقف أمام إحدى الاستراحات على الطريق واصطحب لينة إلى الداخل لكي تشتري ما يحلو لها، في السيارة رفض بلال الترجل منها، جذب هاتفه ونظر إلى المحاولات التي قامت بها إيمان الإتصال به، فهو أغلق تفعيل خط هاتفه لكي لا يستطيع أحد الوصول إليه، أو ربما هي!
أعاد الهاتف في جيبه عنـ.ـد.ما لمح عودة يوسف ولينة، وضعت لينة الكيس البلاستيكي كبير الحجم بجوارها فخرج بلال عن صمته قائلاً:
_ كل دي ازازة مية!
قام يوسف بالرد عليه لكي لا تنشب بينهما مشادة كلامية:
_ جبنا مية وحاجات تانية نتسلى فيها على لما نوصل
مال بلال برأسه للجانب ناظراً إليه قبل أن يردف:
_ قصدك على لما نوصل ونرجع
لكزه يوسف في رأسه وردد مستاءً:
_ ياعم أنت دافع حاجة من جيبك؟
تحرك يوسف بالسيارة بينما بدأت توزع لينة بعض التسالي عليهم بالتساوي، مرت ساعة تلتها أخرى حتى وصلا إلى مرادهم.
ترجل الشابان من السيارة بينما ظلت لينة تطالع المنزل من نافذة السيارة وقد تجدد شعور الحنين إلى موطنها مرة أخرى، حجب يوسف رؤيتها بوقوفه أمامها فرأى لمعة عينيها، انحنى بجسده مستنداً بمرفقيه على سور النافذة مردداً:
_ أنتِ وعدتيني يا لينة..
أومأت برأسها عدة ايماءات ففتح لها الباب وترجلت هي، وقفت أمام المنزل تطالعه كيف وضع الزمان بصمته عليه، لقد بات عتيقاً على الرغم من أنهما فقط ثمانِ سنوات إلا أنهما كانوا بمثابة قرون قد مروا عليه ليكون بهذا الشكل.
"أنتوا مين؟"
أنتبه ثلاثتهم على سؤال تلك السيدة، فاستداورا إليها فعادت هي متسائلة:
_ أنتوا عايزين مين؟
اقتربت منها لينة وأخبرته هن هويتها:
_ أنا لينة نعمان فاضل والبيت دا بيتي..
اتسعت مقلتي السيدة، وكان الذهول يتأجج في عينيها قبل أن تهتف:
_ يا حبيبتي يا حبيبتي، أنا خالتك سعاد
لم يكن هناك مجالاً لعدm معرفتها، فهي كانت آخر من رأتها ذلك اليوم المشؤوم، ضمتها سعاد بقوة وجهشت باكية، بادلتها لينة العناق فلقد رأت فيها والدتها وأحاديثهن سوياً.
ابتعدت سعاد عنها وحدجتها بتفحص لا تصدق أنها تراها أمامها مرة أخرى فلقد ظنت أنهما ذهبا مع الرياح بعد فعلة خالهما، ابتسمت بعفوية ورددت:
_ يا عمري كبرتي وبقيتي عروسة إسم الله عليكي ربنا يحرسك
انتبهت على يوسف وبلال وحدجتهما بنظرات مريبة فأثارت الريبة داخلها من أمرها، استشفت لينة ما وراء نظراتها، فاقتربت من يوسف وتخللت يده بأصابعها فتفاجئ يوسف بتصرفها وكذلك الآخرين قبل أن يصيبهم الذهول مما تفوهت به:
_ دا يوسف، كاتبين كتابنا!!
تحولت نظرات يوسف وبلال المذهولة عليها، لم يتوقع يوسف رد كهذا، ظل يحدجها بنظرات مشتعلة فتوسلته هي بعينيها أن يجاري الأمر كما خططت له.
تنهد ثم وجه أنظاره إلى السيدة سعاد وشكل بسمة لم تتعدى شفتيه وأردف:
_ أهلاً بحضرتك
ابتسمت له سعاد وتمتمت بشغف:
_ ربنا يسعدكم يارب ويبـ.ـارك لك على اللي عملتوا معاهم، أنا افتكرتك أنت اللي كنت جاي مع الحكومة يوم..
لم تستطيع مواصلة حديثها، حمحمت ثم وجهت نظريها على بلال وهتفت متسائلة:
_ أكيد دا مش علي مش معقول كبر كدا
كاد بلال أن يعرف عن هويته لكن قاطعته لينة بقولها:
_ لا لا مش علي، دا بلال أخو يوسف
مفاجأة أخرى تلقاها الشابان، وفي النهاية لم يكن أمامهما سوى مسايرة ما يحدث، ابتسم لها بلال وأكد على حديث لينة:
_ أيوة أنا أخوه..
التفت بجسده سريعاً قبل أن تلاحظ السيدة ضحكاته ويفـ.ـضـ.ـح أمرهم، بينما تسائلت سعادة بفضول:
_ أومال علي فين مجاش معاكي ليه؟
عبست ملامح لينة وأخفضت رأسها بحـ.ـز.ن تشكل على تعابيرها، زفرت أنفاسها ثم أجابتها:
_ علي سـ..
"علي تعبان شوية ومقدرش يجي معانا، إن شاء الله يجي مرة تانية"
هتف بهم يوسف فازدادت ضحكات بلال على أكاذبيهم التي لا تنتهي، شعرت سعاد بالغرابة لقهقهته المفاجأة فاعتذر هو معللاً أسبابه:
_ معلش أنا آسف بس أنا عندي مرض الضحك، بضحك في أي وقت غـ.ـصـ.ـب ومش بقدر أسيطر على نفسي..
انفجر ضاحكاً على ما اختلقه تحت نظرات يوسف ولينة المذهولة لما أردفه للتو، بينما تعجبت سعاد من مرضه فلم تسمع عنه من قبل، ورددت مستفسرة:
_ ياعيني يابني ودا ملوش علاج دا؟
لم يستطيع بلال تمالك نفسه حينما رأى تعابيرها المتأثرة وانفجر ضاحكاً ولكن تلك المرة لم يستطيع السيطرة على نفسه فتولى يوسف الرد عليها:
_ معلش اعذرينا، هو على طول زي ما أنتِ شايفة كدا
تأثرت سعاد بحالة بلال المريبة ودعت له بحـ.ـز.ن:
_ ولا يهمك يابني، ربنا يشفيه يارب
تابعت حديثها الموجه إلى لينة:
_ أنا موجودة يا حبيبتي لو احتجتي لأي حاجة تعالي خبطي عليا
شكرتها لينة بإمتنان كبير ثم عادت سعاد إلى منزلها، سحب يوسف يديه فور ذهاب المرأة، وعاتب لينة على فعلتها:
_ إيه اللي قولتيه للست دا؟
حاولت لينة شرح سبب تصرفها له:
_ يا يوسف أنا كانوا بيمنعوني ألعب في الشارع وأنا عندي ٧سنين عشان عيب ومينفعش اختلط بولاد، عايزني أقولها جاية مع شابين ميقربوليش حاجة؟ متخيل كان موقفي هيكون إيه؟
وكان ممكن أوي تتكلم على تربية أهلي من ورايا وأنا مش هسمح إن حد يغلط في أهلي أبداً
تدخل بلال مؤيداً تصرف لينة الحكيم:
_ بصراحة يا يوسف اللي لينة عملته عين العقل، أنت مشوفتش الست بصت لنا إزاي تخيل كانت تقولها الحقيقة وأنها قاعدة في بيتك؟! دي كانت أكلت وشنا
شعر يوسف بغصة في حلقه، يتحدثان وكأنه المذنب، كأنه افتعل خطأً فادحاً في حق تلك الفتاة ولم يقصد مساعدتها، حاول طرد أفكاره التي عكرت صفوه ونظر إلى صديقه وصاح به:
_ طيب هي وفهمنا، أنت إيه مرض الضحك اللي ظهر فجأة دا؟
قهقه بلال وكذلك لينة شاركته الضحك، وزع يوسف أنظاره بينهما وهتف بعدm تصديق:
_ بجد والله؟
هللت لينة من بين ضحكاتها:
_ مش عارفة قدرت أمسك نفسي ومضحكش إزاي
طالعهما يوسف بغيظ شـ.ـديد، فهتف بلال بقلة حيلة:
_ كنت أعمل إيه يعني؟ دا اللي جه في دmاغي وقتها فقولته
حرك يوسف رأسه مستنكراً تصرفاتهما، ثم انتبه لسؤال لينة حينما قالت:
_ وبعدين أنت ليه قولت إن علي تعبان، ليه مقولتش إنه مسافر؟
تنهد يوسف وردد وهو لا يعي الإجابة الصريحة على سؤالها:
_ معرفش، بس محبتش تعرف أنه بعيد عنك وأنتِ لوحدك من غيره وتفكر فيكي وحش
تقوس ثغر لينة ببسمة عـ.ـذ.بة وأردفت بإمتنان:
_ شكراً
قاطعه بلال لحظتهما بقوله:
_ ما تشوفوا هتعملوا إيه عشان نلحق نرجع
رمقه يوسف بطرف عينيه وهتف ساخراً:
_ لما أنت مش قادر تبعد عنها إيه اللي جابك معانا؟!
تأفف بلال وقلب عينيه بتزمجر قبل يهتف مستاءً:
_ ياعم وأنت مالك، خلصوا بجد بقا فيه ناموس كتير اوي هنا آكل قفايا
أنهى جملته ثم ضـ.ـر.ب مؤخرة رأسه بعد أن لدغته بعوضة، قهقه يوسف على حالته المثيرة للشفقة فلم تقترب منه بعوضة منذ مجيئهم، فقط بلال من ينال لدغات البعوض.
أخرجت لينة مفتاح المنزل من حقيبتها ثم قامت بفتح الباب، لم تمر ثانية حتى ارتفع صراخها الذي دوى في الأرجاء بذعر...
↚
"معرفش هو فين وقافل موبايله"
أردفتهم بحنق فبادلتها والدتها الحوار:
_ هتعملي إيه بس غير إنك تستني على لما يرجع وتشوفي كان فين
تأففت بضجر بائن، فلم يعد لديها القدرة على التحمل، فقط يومان وحدث فيهما كل ذلك، ماذا سيحدث إن مر أسبوعان أو أكثر، حتماً إن استمر الوضع كهذا ستصاب بالجنون أو ربما التوحد.
نهضت مسرعة حينما صغت إلى قرع الجرس ناهية حوراها مع والدتها قائلة:
_ شكله رجع، هكلمك تاني
هرولت إلى الخارج وفتحت للطارق الباب، ارتخت ملامحها فور رؤيتها للسيدة شهيرة، شكلت بسمة لم تتعدى شفتيها ورحبت بها:
_ اتفضلي يا طنط..
وجلت شهيرة باحثة عن بلال، فلم تجده، استدارت إليها وسألتها بفضول:
_ بلال فين، نايم؟
طالعتها إيمان لبرهة لا تدري بماذا تجيبها، ابتلعت ريقها وبتردد أردفت:
_ مش عارفة، هو نزل من فترة ولسه مرجعش..
قطبت شهيرة جبينها بغرابة وهتفت مستاءة:
_ ولما مـ.ـر.اته متعرفش مكانه مين اللي هيعرف؟!
تهكمت تعابير إيمان شاعرة بحرارة وجهها، لعنت بلال داخلها لأنه من وضعها في ذلك المأزق، بينما تأكدت شهيرة أنهما على خلاف، أو ربما يكون شيئاً أكبر من ذلك، فلما سيهرب ولدها من منزله لطالما كان أمنيته بناء عشاً معها؟
تنهدت وحدجت ثيابها المحتشمة أكثر من اللازم بنفور، أجبرت شفتيها على التبسم وقالت:
_ ما تيجي يا إيمان تفرجيني هدومك..
تعجبت الأخرى من طلبها فوضحت شهيرة قصدها:
_ أنا مشوفتش حاجة لما كنتوا بتفرشو، تعالي فرجيني
تقدmت شهيرة نحوها وحاوطت ذراعها مرددة بحماس لكي تمحي الحرج منها:
_ يلا يا مونة، أهو نتسلى شوية على لما بلال يرجع
دلفن الغرفة ومنها إلى غرفة الملابس، أشارت إيمان إلى إحدى الزوايا وقالت بهدوء مخالط بالغرابة لذاك الوضع المريب:
_ دي هدومي..
حركت شهيرة رأسها يميناً ويساراً قبل أن تسترسل:
_ لا يا حبيبتي مقصدش هدوم خروجك، فين الحاجات التانية، المدلعة دي
قهقهت شهيرة بخجل وهي تضـ.ـر.بها بخفة في ذراعها:
_ أكيد فاهماني..
ازدادت ريبة إيمان من جرأة طلبها، رمقتها لبعض الوقت فشجعتها الأخرى ببسمة عريضة، اضطرت إيمان إلى امتثال طلبها، اقتربت من إحدى الخزانات وفتحتها فبادرت شهيرة نحوها وظلت تتنتقل بين الثياب متفحصة إياهم باهتمام.
التقطت قيمصاً لونه أخضر من قماش الستان الناعم وكان معه روب ساتر للجسد، التفتت إليها مبدية مدى إعجابها به:
_ حلو اوي دا ولونه رايق وجميل، إلبسيه..
تفاجئت إيمان من طلبها، فكان وقح للغاية، إلى ماذا تريد الوصول تلك المرأة؟ انتبهت على تشجيعها حينما هتفت:
_ أنا عارفة إني حشرية شوية، بس يا حبيبتي اللي انتِ لابساه دا مش هدوم عروسة، دي هدوم واحدة متجوزة من ١٥سنة، بصي أنا بعتبر نفسي زي مامتك يعني لو بنتي شوفتها بالمنظر دا في تالت يوم جواز كنت بهدلتها، الراجـ.ـل لازم تملي عينه بكل الحلو اللي فيكي عشان يوم ما تهملي غضب عنك يحط لك ١٠٠ عذر ويقول دي عمرها ما قصرت معايا لكن لما تبدأي حياتكم بالشكل دا هيقول دا طبع ومع أول مشكلة هيرمي كلام يجـ.ـر.حك، الراجـ.ـل قلبه في عينه، كل ما كنتي حلوة ولبستي على كيفه يحبك أكتر، يلا خدي البسي وأنا هستناكي برا على لما تخلصي
تركتها شهيرة وانسحبت للخارج، بينما ظلت الأخرى تحدج أمامها بذهول، لا تصدق نصيحتها التي ليست في وقتها بالمرة، كيف ستفعل ذلك وعلاقتهما متـ.ـو.ترة، لكنها لا تملك الرفض حتماً ستسوء الظن بها.
أوصدت عينيها لبرهة في محاولة منها على استيعاب الأحداث الأخيرة ثم بدأت في تغير ثيابها إلى ذاك القميص التي أختارته شهيرة، انتهت بعد مدة قصيرة، كانت الأخرى تطالع المرآة المكـ.ـسورة ويقينها يزداد داخلها أن ثمة شيء بينهما، لكنها لم تعقب لكي لا تسبب لها الحرج، خرجت إيمان فابتسمت الأخرى برضاء تام، اقتربت منها وسألتها مستفسرة:
_ فين البرفانات بتاعتك؟
أشارت إيمان إلى الداخل وأجابت بنفاذ صبر:
_ جوا..
عادت شهيرة إلى الداخل مرة أخرى وكذلك تبعتها إيمان، اقتربت من القناني وبدأت تختبر رائحتهم ثم انتقت منهما رائحة مثيرة هادئة، التفتت إلى إيمان ودعست على القنينه فتناثرت الرائحة على قميصها.
رفعت نظريها على خصلاتها وأمرتها بلطف:
_ أعملي أنتِ تسريحة قمر زيك وتعالي نخرج نحضر عشا حلو
خرجت شهيرة فور انتهاء جملتها بينما نظرت إيمان إلى المرآة وتأففت بضيق، وضعت يدها على عنقها عنـ.ـد.ما شعرت بالإختناق ورددت بخفوت:
_ أوف أوف
بعد لحظات خرجت وكانت قد تركت خصلاتها محررة، قابلتها شهيرة بإبتسامة عريضة قبل أن تردف:
_ تعالي بقا وريني عندك إيه نعمله عشا
اصطحبتها شهيرة إلى المطبخ ورفضت أن تضع إيمان يدها في الطعام خشية أن تتلوث ثيابها، وبدأت هي في تحضير وجبة عشاء لكليهما متبادلات الأحاديث معاً.
***
لم تتوقف عن رمقه بنظرات اشمئزاز، قلب الآخر عينيه بضجر بائن لنظراتها وهلل منفعلاً:
_ معتيش تبصيلي كدا يابت
عاتبه يوسف بحنق:
_ إيه بت دي ما تحترم نفسك
تأفف بلال وصاح عالياً:
_ أنت مش شايف بتبصلي إزاي
هتفت هي بإقتضاب يشوبه الإشمئزاز:
_ أنت ليك عين تتكلم بعد اللي عملته؟
حرك بلال رأسه مستنكراً هرائها الأحمق وردد بعصبية:
_ أنتِ هبلة صح؟ دا أنتِ لمـ.ـيـ.ـتي الناس علينا بصويتك وكل دا عشان صرصار!!
حاولت لينة وضع مبررات واهية:
_ أنا خوفت وصرخت لكن أنت تفعصه برجليك ليه؟
تأفف بلال بحنق ووجه حديثه ليوسف:
_ ما تشوف يابني التفاهة دي
صاح يوسف ناهياً سخافتهما:
_'ما تحاسب على كلامك يا بلال، وأنتِ يا لينة شوفي أنتِ هتعملي إيه عشان نمشي..
هتف بلال كلمـ.ـا.ته وهو يوليهم ظهره:
_ أنا هقف برا
غادر بلال بينما تقدmت لينة بخطاها، على الرغم من رائحة الغبـ.ـار التي تسيطر على المنزل إلا أن رائحة عائلتها تنبعث من ثغرة ما من وسط ذاك الغبـ.ـار.
ابتسمت بشغف معانق للافتقاد الشـ.ـديد، تقدmت نحو الصورة الفوتوغرافية المعلقة على الحائط، مدت يدها وأزالت الغبـ.ـار الذي أخفى معالم الصورة فظهرت وجوههم تدريجياً حتى باتت الصورة واضحة.
فرت دmعة على مقلتي لينة ورددت بصوت متحشرج:
_ وحشتوني أوي
تحسست الصورة بأناملها وملست على وجوهم، كم تمنت أن تحظى بلقاء معهم حتى وإن كان لمدة دقيقة واحدة.
التفتت تطالع بقية المنزل فرأته يعطيها منديلاً ورقياً، ابتسمت له وأخذته ثم مسحت عبراتها وتابعت تجولها في المنزل، لم تجد شيئاً مهماً، لكنها احتفظت بعباءة من والدتها.
عادت إلى يوسف وأردفت:
_ خلصت..
هز رأسه بتفهم وقال بنبرته الرخيمة:
_ تمام، يلا عشان نرجع
أولاها ظهره ليسبقها للخارج فنادته هي برقة:
_ يوسف..
استدار نحوها فتفاجئ بها لم تبرح مكانها فتسائل بفضول:
_ نعم؟
جائته على استحياء وتردد واضحان، أخفضت رأسها وقالت وهي تفرك أصابعها:
_ عايزة أطلب طلب تاني..
ردد بدون تفكير:
_ قولي..
رفعت بصرها عليه وحمحمت قبل أن تخبره بمرادها:
_ عايزة أشوف خالي..
ويحك يا فتاة، بالطبع لن يقبل بذلك، فتح فاهه ورفض طلبها بنبرة لا تسمح بالنقاش:
_ لأ ومش عايز محايلات عشان دا بالذات مش موافق، لو خلصتي يلا عشان نمشي..
لم تستسلم بسهولة وأعادت محاولاتها معه بلطف ودلال:
_ عشان خاطري يا يوسف...
قاطعها بانفعاله:
_ قولت لأ، ومش عشانك عشاني أنا، أنا مش عارف لو شوفت البني آدm دا قدامي ممكن أعمل فيه إيه
تجهم وجهها وحـ.ـز.نت لكنه لم يبالي فهذا آخر ما سوف يقبل به، أولاها ظهره وعاد إلى السيارة مرافقاً صديقه بينما تحركت هي ببطئ وأغلقت المنزل ثم توجهت نحو السيارة واستقلت المقعد الأمامي.
كاد يوسف أن يعارضها إلا أن بلال قد لحق به بقوله:
_ سيبها سبيها..
استقلا كليهما السيارة وتحرك يوسف من المكان وسار في طريق العودة، ساد الصمت لوقت قبل أن يقطعه بلال بطلبه:
_ ما تشغل حاجة يابني بدل الصمت دا
أبدى يوسف رفضه بذوق:
_ لا معلش مش بشغل حاجة وإحنا على طريق سفر عشان نوصل بخير
قلب بلال عينيه وهتف ساخراً:
_ يا متقي أنت
أفحمه يوسف برده:
_ على الأقل بجاهد مع نفسي مش زيك يا فاسق
لم يعقب بلال واكتفى بتقلب وجهه بسخرية، عاد الصمت مرةٍ أخرى، حتى صدح صوتها مغردة أغنية للسيدة أم كلثوم:
عن العشاق سألوني
وأنا في العشق لا أفهم
ذُهل بلال من صوتها، وظل يمرق نظريه بينها وبين يوسف بعدm تصديق، ثم هتف بالأخير:
_ إيه دا؟ إيه اللي سمعته دا؟ صوتك طلع جـ.ـا.مد
قهقت لينة وبعجرفة أردفت:
_ أقل حاجة عندي
لم يلاحظ أحدهما تعابير يوسف التي تجهمت، كان يكز أسنانه بغضب يتأجج داخله، نظرات بلال المذهولة وإعجابه بصوتها كان يشعره بالضيق، نيران تتقد في قلبه كلما طالع صديقه من خلال المرآة ورأى معالم الإعجاب على وجهه.
واصلت لينة غنائها بصوت عـ.ـذ.ب:
سمعناهم يقولوا العشق
حلو حلو وأخره علقم
فهتف بلال من الخلف متحسراً على عشقه الفاشل:
_ علقم والله علقم
تبادلا يوسف ولينة النظرات لكن كليهما كان بمشاعر مختلفة، فكانت لينة شاعرة بتحسر بلال بينما كان يوسف يتوسلها في نظراته أن تكف عن الغناء حتى تختفي حالة الإعجاب البادية على صديقه.
عادت بنظريها متابعة الخارج مواصلة:
سهاد في الليل ووليل على ويل
وشيء منه العـ.ـذ.اب أرحم
ومن أعلن هواه يتعب
ومن خبا هواه يعرم
قولوا قولوا مين من العاشقين
وهب قلبه ولم ينـ.ـد.م
عن العشاق سألوني
وأنا في العشق لا أفهم
عن العشاق لا نسأل
وخلينا بعيد بعيد اسلم
استند بلال برأسه على النافذة واطلق إبتسامة متهمكة وهتف ساخراً من تسرعه في إتمام زيجته:
_ مين بس اللي يفهم كدا!!
أخرج تنهيدة مهمومة فأثار الفضول حوله، لكن لم يعقب أحدهما على وضعه المريب والتزما الصمت مدة عودتهم، كما لم تترك لينة الهاتف من يدها طوال الطريق، كانت تشاهد بعض الصور لها وليوسف وتطلق إبتسامة مزيج من العشق والألم.
وصلا إلى منطقتهم فترجل بلال أولاً والإرهاق كان واضحاً على تقاسيمه، توجه إلى النافذة المجاورة ليوسف وأردف:
_ تصبح على خير يا متقي
"وأنت من أهله يا فاسق"
هتف بها يوسف فبادله بلال ابتسامة سمجة ثم غادر، كادت لينة أن تترجل إلا أن هتاف يوسف أجبرها على الالتفاف إليه والإصغاء لما يردفه:
_ معتيش تغني تاني قدام حد، مفهوم؟!
عقدت حاجبيها بغرابة من أمره وتسائلت بفضول:
_ ودا عشان إيه؟
ضـ.ـر.ب يوسف الطارة بعصبية عنـ.ـد.ما تذكر نظرات الإعجاب في عيناي بلال وهدر بها شزراً:
_ عشان أنا طلبت كدا، اتعلمي تقولي حاضر من غير مقاوحة
رمقته لينة بنظرات معاتبة، فنبرة صوته كانت مرتفعة حادة، شعر يوسف بمبالغته في رد فعله، أوصد عينيه لبرهة يهدئ من غضبه الجامح، زفر أنفاسه وعاد بأنظاره إليها ثم بدأ يوضح لها وجهة نظره:
_ يا لينة أنا بخاف عليكي ومش بحب حد يبصلك بصة كدا ولا كدا، المفروض أنتِ أول ما شوفتي بلال متفاجئ بصوتك وبيمجد فيه كنتي تسكتي على طول
قطبت جبينها فازدادت غربتنها من كلمـ.ـا.ته المبهمة ورددت قائلة:
_ أنت قصدك إن بلال مش كويس...
قاطعها يوسف بنفيه لحدسها:
_ لا طبعاً، بلال دا كأنه أنا ولا يمكن كنت أخليه يجي معانا مشوار زي دا لو عندي ذرة شك فيه، كل الموضوع إن مش لازم نبين كل المميزات اللي عندنا لأي حد، مينفعش نشوف نظرة إعجاب من راجـ.ـل حتى لو كانت عفوية ونكمل ونقوله شوف إحنا جـ.ـا.مدين أوي
أخفضت لينة بصرها بحياء ونـ.ـد.م شـ.ـديدان، مرت فترة تحاول فيها التحلي بالقوة لكي تعتذر منه فقالت في النهاية:
_ أنا مفكرتش في كدة، أنا آسفة
تنهد قبل أن يسترسل بصوته الرخيم:
_ المهم إنك متكرريهاش تاني..
أومأت برأسها ثم قالت عنـ.ـد.ما تذكرت حالة بلال المثيرة للشفقة:
_ كنت عايزة أقول حاجة بخصوص بلال، واضح أوي أنه جاي معانا هربان من إيمان
مرر يوسف أصابعة على الطارة بحركة دائرية وهتف مستاءً:
_ متشغليش نفسك أنتِ، يلا عشان ننزل..
ترجلا من السيارة وقد لاحظت لينة بعض النظرات المريبة من قِبل بعض الجيران، كذلك لفت انتباه يوسف لنفور بعض الرجـ.ـال منه كلما اقترب من أحدهم.
اقتربت منه لينة متسائلة وعينيها مصوبة على الجميع:
_ هو أنت ملاحظ اللي أنا اللي ملاحظاه؟
أماء يوسف بتأكيد قبل أن يجيبها بغرابة:
_ هما بيبصوا لنا كدا ليه؟
رفعت لينة كتفيها مبدية عدm معرفتها بحقيقة ما يحدث، صعدا كليهما درجات السُلم فتقابلا مع جارتهم السيدة عزيزة التي توقفت ورمقت يوسف بنظرات مليئة بالإشمئزاز ثم مرت بجوارهما دون إلقاء التحية.
حرك يوسف رأسه يتابع هبوطها بريبة من أمرها، عاد بنظريه إلى لينة التي كانت مذهولة مما يحدث للآخرين فجاءة.
تابعا صعودها للأعلى حتى وصل الطابق الكائن به شقتهم، فتح يوسف الباب وتفاجئ باستقبال والدته لهما على الرغم من تأخر الوقت فهي تنام باكراً.
"السلام عليكم ورحمه الله وبركاته يا أمي"
ألقى يوسف التحية عليها فأجابته بإقتضاب، تعجبت لينة من ردها وسألتها بقلق:
_ هو فيه حاجة حصلت يا ماما؟
بجمودٍ أمرتها:
_ ادخلي أوضتك يا لينة عايزة أتكلم مع يوسف شوية
على الرغم من فضولها لمعرفة ما يحدث إلا أنها امتثلت لأمرها في هدوء ظناً أن الأمر كارثياً فهي لم تكن على تلك الحالة من قبل.
ولجت غرفتها وحاولت الإستماع إلى ما يتحاوران به لكن صوتهما لم يصل إلى آذانها، في الخارج انفعلت السيدة ميمي على ولدها بحدة:
_ أنت إزاي تسمح لنفسك إنك متحطش حدود بينك وبين لينة؟ سيرتنا بقت على كل لسان، وبيتهموك إنك مش أمين وبتستغل عيلة صغيرة، دا غير الكلام الكتير اللي خافوا يقولوه قدامي، الله أعلم فاكرين إيه اللي بيحصل هنا كمان!
لم يستطيع فهم ما ترمي إليه، لم يتحمل عقله استيعاب كلمـ.ـا.تها الجارحة وسألها مستفسراً:
_ أنتِ بتقولي إيه يا أمي، هو إيه اللي حصل مش فاهم حاجة؟
زفرت السيدة ميمي أنفاسها ووضحت له ما تقصد:
_ لينة منزلة صور ليكم والصور كلها متلقش أبدا بشاب عاقل ومحترم من المفروض أنه بيراعي أمانة صاحبة!
فارت الدmاء في عروق يوسف ثم تفحص صفحة لينة الإلكترونية فتفاجئ بالصور التي التقطتها لكليهما وقامت بنشرها، توجه نحو غرفتها بخطى سريعة مهرولة وطرق بابها بقوة فافتحت هي بذعر:
_ في إيه يا يوسف؟
وضع الهاتف مقابل وجهها ثم هتف بحنق:
_ إيه دا؟
أجابته بتوجس:
_ صورنا!
أطلق تنهيدة تهدد بثورته القادmه ثم صاح عالياً:
_ وادإزاي تنزلي حاجة زي دي على النت؟
توجست لينة خيفة من هجومه وأردفت بعفوية:
_ الصور مفيهاش حاجه، صور عادية
لم يستطيع يوسف تمالك أعصابه وخرج عن السيطرة، صاح بغضب لم يستطيع كبحه:
_ صور عادية دا بالنسبة ليا وليكي، لكن للناس لأ مش صور عادية، أنتِ بالنسبة ليهم واحدة غريبة قاعدة مع شابين في البيت، محدش بيتكلم عشان أنا فضلت طول السنين دي محافظ على شكلك وشكلنا وعمري ما تعديت حدودي معاكي، لكن أنتِ جيتي في لحظة بوظتي كل حاجة، خليتي الكل يتكلم عننا، خليتهم يفكروا إننا بنستغلك، والله أعلم إيه اللي بيدور في عقولهم، تخيلي أنتِ بقا إيه اللي ممكن يفكروا فيه وأنتِ مع شابين في بيت واحد!!
طيشك بوظ سمعتك وقلل مني ومن كرامتي، وأنا اللي عمر ما حد قدر بس يبص في عيني النهاردة الكل بيبص لي كأني مذنب، كأني عملت مصيبة، كل دا بسببك وبسبب إنك مش بتفكري في الحاجة قبل ما تعمليها!.
كور يوسف يده وضـ.ـر.ب الباب بكل ما أوتي من قوة، ثم أولاها ظهره وفر هارباً من المنزل، يريد أن يختلي بنفسه قليلاً لعله يعود إلى رشـ.ـده.
وقفت لينة تطالع السيدة ميمي بصدmة شـ.ـديدة، قلبها يخفق بشـ.ـدة، لم تشعر بالعبرات التي تسابقت في السقوط، أطلقت عدة شهقات بسبب بكائها الغزير فلم تتحمل ميمي رؤية دmـ.ـو.عها الغالية وعانقتها بقوة وهي تردد بإيلام:
_ ليه بس عملتي كدا يا لينة؟
ازداد نحيبها ولم تستطيع إعطائها إجابة، فلم يوجد أمام السيدة ميمي سوى تهدئتها وإخراجها من حالتها المذرية.
***
انتبهن لصوت المفتاح الذي وُضع في الباب، فنهضت شهيرة أولاً ثم أشارت لإيمان بالنهوض فامتثلت هي في هدوء، اقتربن من الباب فاستقبلته شهيرة معاتبة إياه:
_ أهلاً وسهلاً باللي غايب بقاله ساعات ومقالش لمـ.ـر.اته رايح فين، أنا طلعت أسليها على لما ترجع، بس متتعودش على كدا
التفتت إلى إيمان وبحركة لم تنتبه لها إيمان فكت عقدة روبها ليتطاير كل جانب إلى جهة وقالت:
_ تصبحي على خير يا حبيبتي
تفاجئت إيمان بفعلتها ورمقتها بعينين حاجظين فلم تترك لها مجالاً لإخفاء ما قامت بإظهاره، غادرت شهيرة تاركة إياهم ليقضيان وقتاً حميمياً معاً.
طالعته إيمان بحياء شـ.ـديد وقد كست الحمرة وجهها، بينما خفق قلب بلال من تلك الطلة الأنثوية الصارخة، ابتلع ريقه ورمقها لوقت ثم تقدm نحوها فتسارعت نبضات قلبها بقوة، لم تستطيع تحريك قدmيها من هول الصدmة التي لم تخرج منها بعد.
التصق بها ثم مال بقرب أذنها وهمس بخفوت:-
_ متفكريش إنك هتأثري عليا بالطريقة دي، أنا مش دلدول عشان أجي بالأسلوب الرخيص دا!
اتسعت مقلتسها بذهول، بكلمـ.ـا.تها كانت فاظة ومهينة، ابتعد عنها وتخطاها بخطواته فهتفت هي بحنق:
_ مامتك اللي خلتني ألبس واعمل كل دا، دا غير النصايح اللي قالتهالي، الله أعلم أنت مفهمها إيه عشان تتكلم معايا كدا
لم يعطيها بلال اهتمام لثرثرتها فأثار جموده غضبها، هرولت خلفه وصاحت بانفعال شـ.ـديد:
_ أنت مش بترد عليا ليه، هو أنا كـ.ـلـ.ـبة بهوهو قدامك؟ ثم أنت كنت فين؟ وإزاي تخرج من غير ما تقولي، أنت حطتني في موقف وحش جدا مع مامتك، ومكنتش مصدقة إني معرفش أنت روحت فين، أنا مراتك وأنت مجبر تعرفني كل حاجة عنك طلاما إحنا في بيت واحد
توقف بلال عن سيره، واستدار إليها وببرودٍ حاد ردد:
_ مراتي!
مراتي اللي نطقت إسم حبيبها وهي حـ.ـضـ.ـني!
مفتكرش إن ليكي أي حقوق عندي ولا ليكي ت عـ.ـر.في عني أي حاجة ودا مش لأني مش هامك، لأ عشان أنا اتقفلت منك، أنا كل ما أبصلك بقرف من نفسي أوي إني حبيت في واحدة زيك!
اقترب بضعة خطوات منها وواصل استرساله بتوعد:
_ مكنش أنا لو معيشتكيش اللي أنتِ عيشتهولي وحسستك إنك قليلة أوي
تركها وعاد إلى غرفته القاطن بها، على الجانب الآخر، لم تستطيع إيمان السيطرة على عبراتها وجهشت باكية، فكم باتت تعيسة، وحزينة، قلبها محطم وتتمنى المـ.ـو.ت بدلاً عن تلك الحياة الظالمة.
حركت قدmيها ودلفت غرفتها، لم يكن بوسعها سوى الإستلقاء على الفراش ومواصلة بكائها الذي لن يغير شيئاً لكنه كان كل ما تملك.
***
يقود السيارة متنقلاً بين الطرقات، يزداد همه كلما تذكر نظرات جيرانهم، لا يصل إلى حل، لا يعلم ما الذي عليه فعله، عقله مشتت وأفكاره تشابكت من كثرة التفكير.
صدح آذان الفجر فصف سيارته عند أحد المساجد ليؤديها، شرع في الصلاة وناجى ربه أن يدله على طريق الصواب، كان هناك شيخاً معروفاً يصلي معهم فلم يتردد يوسف في مصافحته والترحيب به.
" إزيك يا مولانا"
_ أردفها يوسف فأجاب الشيخ عنـ.ـد.ما تفحص ملامحه:
_ إزيك يا يوسف، من زمان مشوفتكش
ابتسم له يوسف ورد عليه بنبرة مرهقة:
_ الحمدلله يا مولانا
استشعر الشيخ ضيق يوسف وسأله باهتمام:
_ مالك يايوسف أنت كويس؟
تنهد الآخر قبل يردف بعبوس:
_ مش كويس يا مولانا، وكويس إني شوفتك عشان عايز أستشيرك في حاجة
تفحص الشيخ المكان من حولهما ثم أشار إلى إحدى الزوايا الفارغة وقال:
_ تعالى هناك المكان فاضي
جلس كليهما مقابل بعضهما البعض، ثم بدأ يوسف يقص عليه من بداية الأمر:
_ وقت ما كنت في الجيش كان ليا واحد زميلي استشهد، ولفظ أنفاسه الأخيرة وهو بيوصيني على أهله، روحت تاني يوم معاهم وهما بيسلموا جثته، ووالدته أول ما عرفت توفت على طول
تأثر الآخر بما يرويه يوسف وردد بحـ.ـز.ن:
_ لا إله إلا الله
تابع يوسف استرساله:
_ كان عنده أخ وأخت تؤام عندهم ١٠سنين، والدهم متـ.ـو.في فبدأنا ندور على أهالهيم تستلمهم، وطلع عندهم عم مسافر برا، وخال رفض في الأول ياخدهم لأنه كان على مشاكل بوالدتهم، وفجاءة وافق ياخدهم بعد ما غلط فينا وكان أسلوبه وقح معانا، فأنا مطمنتش، وفضلت قاعد جنب البيت لغاية ما شوفته وهو أخدهم وخارج بيهم بليل، مشيت وراهم ولقيته بيرميهم قدام ملجأ وسابهم ومشى، تخيل سابهم بليل في مكان مقطوع ومهتمش يحصلهم حاجة، كل اللي عملته إني أخدتهم عندي البيت وبدأت أدور على عمهم، وعلى لما وصلت له شرط عليا إنه هياخد واحد منهم بس عشان ظروف الحياة ووقتها حصل مشادة بينا لأن الكلام لا يعقل، واضطريت أوافق أهو أوصله أي حد، بس اتفاجئت أنه طلب ياخد الولد مش البنت، وبعد محاولات معاه مقدرتش أقنعه وفعلاً الولد سافرله، ومن يومها يا شيخ اعتبرنا البنت دي اختنا التالتة، وعاملناها أحسن معاملة ورعينها بما يرضي الله وكنت حريص على تعليمها أمور دينها وأجبرتها تلبس الحجاب قدامي أنا وأخويا وقت ما بلغت، وربنا يعلم إني عمري ما رفضت ليها طلب، ويمكن بسبب إني راعيتها ربنا وفقني وكرمني كرم كبير أوي، وقدرت أشتغل في مكان كويس واشتري شقة وعربية، أنا متأكد إن كل دا بسبب وقفتي جنبها وإني حافظت عليها..
زفر أنفاسه فباتت الكلمـ.ـا.ت أكثر صعوبة لكنه جاهد وتابع بنبرة مختنقة:
_ هي كبرت وبقا عندها ١٨ سنة، بس عملت تصرف صغير خلى سيرتنا كلها على لسان الجيران، عمر ما حد بصلي وحش، بس النهاردة الكل كان بيبصلي كأني متهم
سأله الشيخ بفضول:
_ ليه هي عملت إيه؟
أخبره يوسف بفعلتها:
_ هي مغرمة تصوير، وبتحب توثق أي لحظة، وأغلبية الصور معايا بس والله صور عادية جداً، بس أغلبيتهم في البيت وفي وأوضة والدتي، وغيرها وإحنا في العربية، طبعاً إحنا بنتصورها بعفوية لأننا في نفس البيت وخلاص اتعودنا على بعض، بس الناس معرفش ليه فكرو إني بستغلها بعد ما شافوا الصور دي؟ قاعدين في بيت واحد وبنتعامل كأننا عيلة واحدة منتظرين مننا إيه؟
ابتسم له الشيخ وأخذ نفساً عميق قبل أن يهتف:
_ طبعاً يا يوسف أنت لك الأجر والثواب إنك راعيت أطفال يتامى، بس جلوس البنت في بيت في شابين دا اللي غلط وكمان حـ.ـر.ام..
قاطعه يوسف مبرراً:
_ والله أنا محافظ عليها وحاطط حدود بينا عشان عارف إن حـ.ـر.ام
لم تختفي ابتسامة الشيح وشرح له مقصده بنبرة هادئة:
_ طيب أنا هسألك شوية أسئلة ومش مهم تجاوبني، جاوب جواك
أجبر يوسف أذنيه على الإصغاء جيداً فتابع الآخر:
_ طول الـ ٨ أعوام اللي مرت دي محصلش بينكم تلامس حتى لو بالغلط؟ مشوفتش مرة خصله من شعرها؟ مهزروتوش بالإيد؟ مختلتش بيها في مرة لوحدكم؟ مدتش نفسك الأحقية إنك تنظر لجـ.ـسمها بنية إنك بتتفحص ملابسها ضيقة ولا واسعة؟
صمت يوسف فكل هذا قد حدث بالفعل، شعر بالحرج الشـ.ـديدة وأخفض نظريه في حياء، فعلم الشيخ أن كل ما طرحه عليه قد حدث، تنهد وقال بحكمة:
_ يمكن نيتك حسنة يا يوسف ودا حصل بسبب إنكم في بيت واحد وبتعتبروا نفسكم عيلة زي ما قولت، بس منقدرش نقول إنه مش حـ.ـر.ام؟
البنت لسه أجنبية عنك وعن أخوك وطبعا إحنا اتكلمنا عنك بس، دا غير أخوك وأكيد الطباع مش واحدة والله أعلم تعامله معاها إزاي؟!
عارضه يوسف ونفى ظنونه:
_ أنا حاطط حدود بينهم ولا يمكن يكون اتخطاها
استنكر الشيخ محاولات يوسف في إظهار نيته الحسنة وسيطرته على كافة الأمور:
_ يا يوسف أنت مش طول الوقت في البيت ومش مُلم بكل اللي بيحصل، أنا متفهم إن نيتك خير بس لازم تقتنع إنك واقع في غلط ومتقاوحش عشان دا هيجر رجليك لغلط أكبر
ومننساش قوله تعالى
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}
تخيل تبقى فاكر إنك بتعمل خير وأنك صح وتيجي في الآخر تقف قدام ربنا ويحاسبك على نفس الحاجة اللي كنت فاكر أنها صح وتبقى من الخاسرين؟
متقاوحش يا يوسف الحـ.ـر.ام حـ.ـر.ام ومنحاولش أبدا نحلله بحجة إن نيتنا الحسنة
ازداد اختناق يوسف، فهو كان يعتقد أنه سوف يشعر بالراحة لو تحدث معه، لكن الوضع انعكس تماماً، استنشق بعض الهواء قبل أن يطرح سؤاله:
_ طيب والعمل يا مولانا، ما أنا أكيد مش هروح أطردها من البيت!
أسرع الشيخ في الإجابة عليه:
_ لا يابني أنا مقولتش تعمل كدا، الحل في تزويجها لشاب صالح
تفاجئ يوسف بما وقع على مسامعه وردد بعدm استيعاب:
_ جواز إيه بس يا شيخ؟ بقولك عندها ١٨سنة ولسه بتدرس أنا كدا بقــ,تــل طموحها وبهد مستقبلها!
"بس دا الحل الوحيد يا يوسف"
كانت آخر ما قاله الشيخ، استأذن يوسف للمغادرة وعقله مشغولاً في حوارهما وخصيصاً ما أمره الشيخ بفعله.
لم يريد العودة قبل إيجاد حل لتلك المشكلة، ظل يسير بسيارته في طرقات مختلفة حتى بزغت الشمس ومعها فكرة تترددت في عقله، لا يدري إن كانت صائبة أم لا، لكن لم يجد سواها!
عزم على أخذ الآراء حول فكرته وإن وافقوه سيبدأ في تنفيذها على الفور، عاد إلى المنزل وقد امتلئت الشوارع بالأناس، صف السيارة أسفل البناية، رفع رأسه وتفحص بنايتهم جيداً وعقله لا يتوقف عن التفكير عن فكرته، لم يكن أمامه سوى صعود السُلم حتى دلف المنزل، فكانت والدته وأخيه في استقباله.
ركضت نحوه بخوف بادي على تقاسيمها وهتفت بتوجس:
_ أنت كويس يا حبيبي، قلقتني عليك يا يوسف، كنت فين وقافل موبايلك ليه
تدخل زياد مبدياً استيائه من اختفاء أخيه:
_ أنتِ تختفي وأنا ألبس في التدوير عليك على أساس إنك عيل صغير
لم يعقب يوسف وكأنه لم يسمع ما قالاه، تنهد وسألهم بهدوء مخيف:
_ لينة فين؟
تعجبت والدته من عدm إجابته على أسألتها لكنها أجابته وهي تشير بعينها على غرفتها:
_ في أوضتها، مبطلتش عـ.ـيا.ط من امبـ.ـارح
بنبرته الهادئة أمرها:
_ طيب نادي عليها..
رمقته والدته بعينين ضائقتين قبل أن تهتف متسائلة:
_ هو فيه حاجة يا يوسف؟
نفى بإيماءة من رأسه وقال:
_ نادى عليها بس..
أولاته ميمي ظهرها وتوجهت نحو غرفة لينة، تركت بابها ثم دلفت وأخبرتها بأمر يوسف، نهضت الأخرى وحاولت مسح آثار عبراتها قدر المستطاع ثم وضعت حجابها وخرجت خلف السيدة ميمي.
جلس الجميع، في انتظار ما سيخبرهم به يوسف، أخذ نفساً عميق ومرر أنظاره على الجميع ثم هتف بجمود:
_ أنا فكرت في حل يحلل قعاد لينة هنا، مش عشان كلام الناس لأ أنا عمري ما بصيت لكلامهم أينعم أنا تضايقت امبـ.ـارح بس لقيت إني المفروض أخاف من ربنا مش من كلام الناس، كنت فاكر إني لما ألبس لينة الطرحة في البيت أكون صونتها، بس اكتشفت إني غلط، وقعادي أنا وزياد معاها في نفس البيت حـ.ـر.ام لأن النظرة نفسها حـ.ـر.ام ما بالكم إننا عايشين كل حاجة عادي وأنا مهما حطيت حدود بنتخطاها...
صمت لثوانٍ ثم عاد ليواصل حديثه بجدية:
_ عشان كدا فكرت في حل
الجميع ينظر نحوه باهتمام وأذنيهم في إستعداد لسماع ذاك الحل، مرر يوسف نظراته بينهم قبل أن يقول:
_ هنكتب كتاب لينة وزياد!!
↚
سكون حل وطالت مدته، حاول الجميع استعياب ما أُلقي على مسامعهم، فلم يكن مرتب له ولم يكن في الحسبان، قرار مفاجئ سبب الصدmة على وجوههم.
التعاسة دون غيرها تملكت قلب وتقاسيم لينة، فمن أحبته يريد تزويجها لرجل آخر، تشعر وكأن هناك ثقب في قلبها يـ.ـؤ.لمها بشـ.ـدة، عقلها لا يصدق أن يوسف من نطق كلمـ.ـا.ته التي قيلت للتو.
عينيها لم تُرفع من عليه في محاولة منها على فهم ذاك الرجل، فلقد شعرت في الأوانة الأخيرة أن مشاعره قد مالت إليها، فماذا عن الآن؟ هل هو الكاذب في مشاعره أم هي من أخطأت في حدسها؟
على جانب آخر وضع زياد قدm على أخرى بعجرفة بعدmا وزن الأمور وأصبحت في مصلحته، ظهرت عنه إبتسامة خبيثة وهو يطالع لينة بانتصار شـ.ـديد، فكم امتنعت عنه وعارضته وفضلت أخيه دوماً عليه، لم ينسى رفضها الدائم له ولمساعدته البريئة.
ها قد جائته فرصته وحتماً لن يضيعها دون إرضاء نفسه الأمارة، لم يأخذ الكثير من الوقت في التفكير وهتف وعينيه مصوبتان على لينة:
_ أنا موافق
صدmة أخرى تلقتها لينة، فمن هو ليبدي قبوله بالأمر قبل أن تبديه هي، وزعت نظريها بينهما على أملاٍ أن يكونان يمازحاها لكن وجوههم تعكس أمانيها، تدخلت السيدة ميمي حينما رأت حيرة لينة بقولها:
_ هو مفيش حل تاني يا يوسف غير دا؟
حرك رأسه بالنفي ثم عاد بسودتاه إلى تلك الهادئة وسألها بجدية:
_ اعتبريه وضع مؤقت، عشان الحرمانية بس..
ابتلعت ريقها، مذهولة من برودة رده، لا يمكن أن يكون يوسف نفسه، لو كان من اعتادته لكان قد استشف رفضها ولم يكن ليقرر من نفسه بتزويجها لآخر! ثمة تلاعب في إعدادات عقله وقلبه!
هتفت السيدة ميمي باعتراض لرؤيتها صمت لينة وعدm إبداء رأيها بعد:
_ بلاش الحل دا يا يوسف، ندور على غيره يابني..
لم تعطيه لينه فرصة المعارضة فكانت الإجابة من نصيبها هي:
_ حل كويس يا ماما، كفاية إن يوسف موافق عليه!
كانت تعاتبه في كلمـ.ـا.تها، فأحس الآخر بريبة من أمرها وخصيصاً نظراتها، وكأنه قد خذلها لتطالعه بهذا الشكل، نهضت الآخرى وغادرتهم سريعاً.
ولجت غرفتها وما أن أغلقت بابها حتى راودها الاختناق، لم تعد تستطيع التنفس وأخذ القليل من الأكسجين لتكون بخير، وضعت يدها أعلى صدرها وطالعت السقف قبل أن تسقط بإهمال على الأرض.
عقارب الساعة قد توقفت، الكون بأكمله توقف عن الدوران لحظتها، صرير مرتفع في أذنيها لم تتحمله فوضعت راحتى يدها على أذنيها، لعلها تخفف من ذاك الصوت الذي يتردد صداه في عقلها.
طرق أحدهم بابها فكان طوق نجاة لإعادتها لأرض الواقع، استعادت رشـ.ـدها ونهضت لفتح الباب، فكان فارسها من يقف أمامها، أطالت النظر نحوه ثم أولاته ظهرها وتوجهت إلى الفراش، تبعها هو تاركاً باب الغرفة مفتوحاً.
جذب يوسف كرسيها وجلس أعلاه قبل أن يسألها مستفسراً:
_ ليه حاسس إن فيه حاجة مش عايزة تقوليها؟
بررودٍ أجابت:
_ مفيش حاجة عايزة أقولها، أنت عرضت وأنا وافقت!
وضع يوسف بعض التبريرات لعرضه:
_ أنا طول الليل بحاول أوصل لحل مش لاقي، دا اللي جه على بالي وفكرت كتير أوي قبل ما أعرضه عليكم بس لقيت أنه أنسب حل و..
قاطعته لينة فلم تعد تستطيع سماع تراهات سخيفة:
_ ممكن تسكت وتبطل تو.جـ.ـعني، أنا وافقت وخلاص
أي ألم تتحدث عنه، منذ متى وهو يـ.ـؤ.لمها مثلما تدعي، لم يصمت وصاح بسؤاله:
_ أنا بو.جـ.ـعك إزاي يا لينة؟ أنتِ لو مش موافقة الموضوع كأنه متعرضش أصلاً وننساه
مسحت دmعتها التى فرت من عينها رغماً عنها وقالت بنبرة موجوعة وهي تفرك أصابعها:
_ خلاص هو اتعرض، معتش هيتنسى!
أخرج يوسف تنيهدة مطولة، فلم يعي ما يدور حول كلمـ.ـا.تها الغامضة، قطع صمتهم سؤاله القلق:
_ ليه مش فاهم من كلامك حاجة، أو مش قادر أفهم، كلامك عكس بعضه ولأول مرة معرفش أنتِ عايزة إيه!
سقطت بعض العبرات التي تحاول جاهدة منعهم بشتى الطرق، وهتفت بلامبالاة مزيفة:
_ أنت موافق ودا المهم!..
رفعت بصرها عليه وواصلت والدmـ.ـو.ع تتسابق في السقوط:
_ مش أنت برده بتعمل كل حاجة لمصلحتي!!
هـ.ـر.بت بنظريها بعيداً، كرهت عدm تمالكها أمامه، نهضت قبل أن تردف متوسلة:
_ لو سمحت عايزة أكون لوحدي..
لم يكف يوسف عن رمقها بنظرات متعجبة من أمرها، فكانت غريبة وكلمـ.ـا.تها تحمل قدراً من اللوم لكن يجهل الوصول إلى نقطة يستشف من خلال ما يدور في عقلها.
انسحب من الغرفة فألقت بجسدها على الفراش وجهشت باكية بحـ.ـز.ن وألم شـ.ـديدان.
في الغرفة المجاورة، لم يستطيع يوسف النعاس على الرغم من جسده المنهك وحاجته الشـ.ـديدة لأخذ قيلولة فهو لم ينم منذ البـ.ـارحة، كلمـ.ـا.تها أخذت حيزاً في عقله، دmـ.ـو.عها تشعره أنه أخطأ في قراره لكنها لا ترفض، إذاً ما سبب حالتها تلك؟
هو فقط أخبرها أنه وضع لن يستمر فقط أضطر على أخذه لكي لا يقع وزر آخر على عاتقهم.
خرج من غرفته وفضل الهروب من المنزل، استقل سيارته وانطلق بها مبتعداً عن منطقتهم.
***
"حاضر، هجيبها وننزل"
قالها قبل أن ينهي المكالمة، تثائب بكسل ونهض عن الفراش، خرج من الغرفة وطرق باب غرفتها، فسمحت له بالدخول.
بوجه لا مبالي أردف:
_ صباح الخير، البسي عشان اخواتي تحت هنقضي اليوم معاهم.
أماءت له بالقبول فغادر هو بينما ظلت هي عاقدة حاجبيها، فلقد ألقى التحية عليها وحادثها بنبرة خالية من الجمود والعصبية، تعجبت من حالته لكنها لم تصل إلى نقطة ترضيها، نهضت وبدلت ثيابها بأخرى تليق بمكثوها في الأسفل أمام أزواج شقيقاته ووالده ثم خرجت من غرفتها فكان هو في انتظارها.
ترجل كليهما إلى الطابق الأول، كان بلال يسبقها ببعض الخطوات، أما هي كانت تقف خلفه، قرع بلال الجرس ثم أعاد ذراعه للخلف وأحاط به خصرها ليجذبها إلى جواره ولم يرفع يده عنها بل ظل مستكينا على هذا الوضع الذي سبب الجدل داخل إيمان.
خفق قلبها بقوة فهي الآن بين ذراعيه برضاء تام منه، انتبهت على شقيقته الصغرى هدي التي استقبلتهما استقبالاً حار مهللة:
_ ما شاء الله ربنا يحميكم، البيت نور
داعب بلال أنفها بإصبعية وهو يردد:
_ يا بكاشة
قهقهت هي وهتفت ممازحة:
_ هو بصراحة نور بإيمان
لكزها بلال بخفة في ذراعها فهتفت هدى بألم:
_ شوفتي جوزك أهو دا أقل حاجة عنده
اكتفت إيمان ببسمة، رحب الجميع بهما، ثم جلس حول المائدة يتناولون وجبة الفطور في أجواء عائلية فكاهية.
اكتشفت إيمان جانب آخر لبلال إلا وهو لا يكف عن المزاح طيلة مكوثة مع عائلته، ليتها تنال جزءاً منه هي الأخرى، تعجبت من أمنيتها فهو إلى الأن لا يعنيها شيئ لماذ تريد أن تحظى بجانبه المرح إذاً؟
تنهدت وسايرت الأمور كما هي وما آثار تعجبها معاملة بلال لها، فكان رومنسياً للغاية، بل كان حميمياً في بعض الأوقات، لا يفوت فرصة إلا ويضع يده على جسدها تارة على كتفيها وتارة أخرى يحاوط خصرها، يمازحها ولا يكف عن وصف كل ماهو حلو بها على الرغم أنه لم ينال عيشه.
كانت ممتنة له طيلة الوقت الذي يقضياه معهم، لم تشعر بأنها ضيفة بل شعرت أنها داخل العائلة لعفويتهم وتلقائية أسلوبهم.
أنتبه الجميع على حديث هدير حيث قالت:
_ شوفتو الصور اللي لينة منزلاها على الانستجرام، بجد صور جريئة ومتوقعتش أبداً أن يوسف يعمل كدا
تدخلت هدى مستاءة من أمر الصور أيضاً:
_ فعلاً أنا استغربت يعني يوسف محترم وعمره ما بص لواحدة في عيونها، فالصور كانت غريبة بالنسبة لي
مال بلال بجسده للأمام عاقداً حاجبيه بغرابة من أمر تلك الصور التي تحدثن عنها شقيقته وسألها بجدية:
_ صور إيه؟ وروني كدا
أسرعت هدير في البحث في ألبوم الصور خاصتها ثم ناولت شقيقها الهاتف لكي يرى ما أخبرته عنه، فلم يجد بلال أن الأمر يستحق تلك الضجة، أعاد الهاتف لشقيقته وهتف مبرراً:
_ مش شايف حاجة غريبة يعني، أنتوا مكبرين الموضوع أوي
عارضته هدير بقولها:
_ لا هو الموضوع كبير لوحده يعني دي واحدة غريبة عنه مهما كان المفروض يراعي دا، ولو مكنش كبير زي ما أنت بتقول مكنتش مسحت الصور بعدها
بحاجبان معقوادن سألها باستفسار:
_ أومال جبتي الصور منين؟
أطلقت هدير ضحكة خبيثة ثم أجابته بحرج:
_ أنا حفظت الصور عشان أوريهالكم..
لم يعجب بلال ما يحدث، فهو لا يتحمل أي إساءة لصديقه حتى وإن جائت من شقيقاته، حمحم وبدأ يضع مبررات بناءً على ما رآه من صديقه منذ حضوره لتلك الفتاة:
_ يوسف من يوم ما البنت دي جت هنا وهو مراعي ربنا فيها وبيخاف عليها جداً كأنها أخته بجد، وبعدين أنتوا فاكرين إيه يعني؟ دي بقالها معاهم ٨سنين في بيت واحد، عايشين زي الإخوات رغم إني عارف انها بتلبس الطرحة طول اليوم قدامهم، ويوسف محافظ عليها حتى في البيت، بس طبيعي ياخدوا صور مع بعض لأنهم عايشين في بيت واحد كأنهم أخوات وبينهم عشرة وذكريات ومواقف كتيرة أكبر بكتير من أنها أخت صاحبه وغريبة عنه زي ما أنتوا شايفين، أنتوا معشتوش اللي هما عاشوه مع بعض عشان تحكموا على حد بسبب صورتين!
لم تستطيع إحداهن الإعتراض، ففضلن الصمت، بينما ابتعد عنهن بلال وهاتف صديقه ليطمئن عليه فأتاه صوته المرهق بعد مدة قليلة:
_ إيه يا بلال؟
تعجب الآخر من نبرته وقال:
_ صوتك ماله؟ وبعدين إيه الدوشة دي أنت فين؟
زفر يوسف أنفاسه وأجابه بإقتضاب:
_ مفيش، بلف بالعربية
تدخل السيد سمير من على بعد بقوله:
_ لو بتكلم يوسف يا بلال هات أكلمه
توجه بلال نحوه بعد أن أخبر يوسف بطلب والده ثم وقف متابعاً لحديثهما الذي بدأه والده قائلاً:
_ أنت فين يا أستاذ يوسف؟ أومال لو مكنتش شريك! أنا عايز المعرض يكون خالص على آخر الأسبوع عشان الافتتاح يكون على أول الأسبوع
تنهد يوسف وأردف باختصار:
_ حاضر هروح هناك وأشوف الدنيا ماشية إزاي
"تمام يا حبيبي، ربنا يعينك، معاك بلال"
أنهى سمير المكالمة بجملته ثم أعاد الهاتف لبلال الذي هتف:
_ أنا هجيلك على المعرض نتكلم هناك..
أجابه يوسف مختصراً فلم يتحلى بروح المماطلة في الحوار آنذاك:
_ ماشي..
خرج إلى الجميع وتوجه إلى زوجته ثم انحنى على رأسها وطبع قُبلة على رأسها مردداً بحنو:
_ حبيبي هروح أقابل يوسف شوية وأرجع لو زهقتي اطلعي
رفعت إيمان رأسها للأعلى وطالعته بأعين ضائقة، لا تصدق ما تسمعه، فهل ما يحدث حقيقة أم أنه مزيف وسينتهي فور انفرادهم؟
لا تعلم لكنها ليست مزعوجة فلقد خُلق آملاً داخلها من خلف أسلوبه الحنون، اكتفت بإيماءة من رأسها بينما استأذن بلال من الجميع وغادر.
فصاحت هدير غير مصدقة:
_ بصراحة متوقعتش إن بلال يكون رومانسي كدا
أضافت هدى من وراء ضحكاتها الماكرة:
_ أيوة الظاهر إيمان سحراله
تفاجئت إيمان بما ترميه هدى عليها، طالعتها بأعين جاحظة فانفجرن الأخريات ضاحكين، تدخلت شهيرة معاتبة كلتاهن:
_ بس يابت منك ليها
عادت بأنظارها إلى إيمان وواصلت معتذرة:
_ معلش يا مونة هما بيحبو يهزروا بس هزارهم تقيل حبتين..
حمحمت هدير ومازحتها قائلة:
_ خدي علينا بسرعة عشان نبقى الثلاثي المرح
ابتسمت لها إيمان دون أن تنبس بشئ، بينما تحاورن الأخريات فيما بينهن وكانت إيمان تشاركهن الأحاديث من آن لآخر.
***
"زياد ولينة!"
هتف بهم بلال متعجباً من قرار يوسف المفاجئ، تنهد يوسف قبل أن يردد بنفاذ صبر:
_ أنتوا ليه كلكم بتحسسوني بردكم إني أجرمت وكأني مش مضطر لكدا؟
أنا مش هسمح لحد يتكلم لا عنها ولا عن عيلتي بكلمة وقبل دا كله ربنا، مش فاهم إزاي كنت غفلان بالشكل دا، وكنت فاكر إني بعمل الصح وطلعت ولابعمل الصح ولا حاجة..
بهدوءٍ مخالط للمعاتبة قال:
_ وأنت شايف إنك كدا بتعمل الصح؟
عاد يوسف بظهره مستنداً على حائط الكرسي وطالع السقف مخرجاً تنهيدة حارة يملئها الفتور قبل أن يردف كلمـ.ـا.ته بقلة حيلة:
_ مش قدامي غير كدا، قلبتها يمين وشمال إني ألاقي حلول تانية ملقتش غير إننا نسيب البيت ونمشي..
عاد بانظاره إلى صديقه وتابع:
_ بس هنمشي نروح فين؟
صمت لثوانٍ قبل أن يعاود حديثه من جديد:
_ قولي أنت، لو عندك حل قوله
مرت دقيقة تلتها أخرى فلم يجد بلال حلاً آخر، رفع كتفيه للأعلى مبدياً عدm تمكنه لوصوله لحلول فقال:
_ طيب حددت امتى؟
ابتلع يوسف ريقه وأردف:
_ في أسرع وقت ممكن، هخليها تنزل تشتري حاجتها اللي بتحتاجها أي عروسة النهاردة ونحدد بعد كدا، يمكن بكرة أو بعده بالكتير..
أماء بلال بتفهم وقال:
_ تمام أنا همشي لو احتجت حاجة كلمني
اكتفى يوسف بتحريك رأسه بينما غادر بلال، نهض الآخر ليقف مع العمال حتى ينتهون من العمل سريعاً.
عاد بلال إلى منزلهم، واصطحب زوجته إلى شقتهم فيكفي مدة مكثوهم إلى هذا الحد فهم في النهاية مازالا عروسين، كان ممسكاً بيدها حتى ولج المنزل فتركها بعنف.
تفاجئت إيمان بتصرفه ولم يستطع عقلها تفسيره، أخرجت زفيراً ووزعت نظريها بينه وبين يدها التي تركها ثم صاحت متسائلة:
_ ليه كدا؟
كان قد أولاها ظهره وخطى للأمام عدة خطوات، أوقفه سؤالها واستدار إليها متصنعاً عدm الفهم مردداً بفتور:
_ نعم؟
اقتربت منه وهي تشير بيدها التي تركها وأجابته:
ليه عملت كدا؟ أنا فكرت إن خلاص.. كل حاجة وحشة راحت بسبب معاملتك ليا بس اللي حصل غير كدا..
ظهرت إبتسامة ساخرة على شفتيه واقترب منها ماحياً أي مسافة بينهما حتى التصق بها ثم مال على أذنها وهمس أمامها:
_ دا بالظبط اللي أنتِ عملتيه فيا، أنا عشت على أمل إني أبدء حياة جديدة معاكي، قلبي كان ملهوف عليكي بس أنتِ جيتي وبوظتي كل حاجة، خليتيني أفقد شغفي وأكره حبي ليكي وأكره نفسي كمان، أنا وعدتك إني هردلك نفس اللي عملتيه وأديني وفيت!
تراجع للخلف وحدجها بنظرات مشتعلة ثم ذهب إلى غرفته التي يمكث بها، لم تبرح هي مكانها، فالسير كان مستحيلاً حينها، لا تصدق أنه حقاً فعل ذلك بها، هي لم ترتب لتحطيم قلبه لكنه هو خطط ورتب وفي النهاية نفذ خطته دون رأفة لمشاعرها.
ارتفعت وتيرة أنفاسها، تردد صداها داخلها محدثة ضجة عالية، عقلها متوقف لا ينجح في تمرير الأمر كأنه لم يكن كغيره، شعرت وكأنها ستصاب بالجنون لعدm قدرتها على العيش هكذا.
فهما مازالا في البداية وحدث ما حدث، فكيف ستتحمل سخافات أخرى؟
حاولت البكاء لعل ضجة جوفها تهدأ قليلاً لكنها فشلت، بصعوبة بالغة استطاعت تحريك قدmيها ودلفت غرفتها وهي تفكر في حلاً قطعياً ينهي تلك السخافة.
تذكرت شيئاً ما فأسرعت نحو الهاتف وبحثت في الأرقام المسجلة لديها، ومن بينهم اختارت واحداً وهاتفته ثم أردفت حين أجاب:
_ لو سمحت محتاجة مهدئ قوي وعايزاه دليفيري على العنوان دا
أخبرته بعنوانها وأغلقت الهاتف تعد الثوانِ حتى يصل المندوب وتأخذ منه طلبها لطالما اعتقدت أن هذا هو الحل.
***
بذهولٍ رددت كلمـ.ـا.ت صديقتها:
_ يعني إيه كتب كتابي أنا وزياد؟ ويوسف بسهولة كدا هيجوزك لأخوه؟ مش أنتِ كنتي بتقولي إنك حاسة بـ...
قاطعتها لينة من بين بكائها لاعنة سذاجة أفكارها المحدودة:
_ طلعت غـ.ـبـ.ـية، وأنا اللي صدقت إحساس عبـ.ـيـ.ـط عشان موقفين كانوا جداد عليا..!
أخرجت شهد زفيراً وقالت بعدm استيعاب للأمر:
_ وأنتِ وافقتي كدا بسهولة؟
لم يعد لديها القدرة على التفكير في الأمر فهتفت بقلة حيلة:
_ مش هو موافق، أنا ليه موافقش؟ رفضي هيغير إيه يعني؟ هيحبني مثلاً؟
أخذت لينة نفساً عميق ثم انتبهت لاهتزازة الهاتف معلنة عن اتصال آخر، تفقدت الشاشة فإذا به يوسف، عادت إلى صديقتها ونهت معها المكالمة:
_ أنا هقفل يوسف بيرن..
أنهت على الفور وأجابت على مكالمته بصوت متحشرج بسبب البكاء:
_ الو..
لاحظ صوتها الباكي لكنه لم يعقب، فليس بوقت أسئلة الآن، لكنه حتماً لن يمرق الأمر دون معرفة سبب ذاك البكاء، حمحم وأخبرها بسبب مهاتفته لها:
_ عايزك تلبسي أنتِ وماما عشان تنزلوا تشتروا كل حاجة تخص كتب الكتاب، اجهزوا على لما أوصل..
ازداد نحيبها الذي آلام قلبه، أغلقت الهاتف سريعاً فلم تريده أن يسمعها، لكن هيهات لآذانه الصاغية التي وقع عليها بكائها، عزم بأن يحادثها لكي تكف عن البكاء لكن ليس الآن، عليهم الإنتهاء من شراء ما ستحتاجه أولاً.
بعد وصول يوسف لمنطقتهم، هاتف والدته وأخبرها بوصوله، انتظر دقائق قليلة حتى ظهرن يتبعن بعضهن البعض، استقلت السيدة ميمي في المقعد الأمامي بينما جلست لينة في الخلف، كاد يوسف أن يتحرك بالسيارة إلا أنها منعته بقولها:
_ متمشيش، شهد جاية معانا
لم يعلق يوسف فإن كان هذا سيخفف من حـ.ـز.نها الذي يجهل سببه، مرت بضعة دقائق حتى ظهرت شهد واستقلت بجوار لينة ثم انطلق بهم يوسف إلى أحد المولات التجارية.
رفض مصاحبتهم وفضل الجلوس في السيارة، فلا يدري لماذا يهرب من لينة ولا يود مواجهتها وكأنه أخطأ في حقها، حاول إلهاء عقله عن التفكير بها لكنه دوماً يعود إليها.
في الأعلى، وخصيصاً في أتيليه مخصص لبيع الفساتين، تقف لينة أمام المرآة تتفحص فستانها الرقيق ذو اللون الأبيض فكان اللون من اقتراح صديقتها.
وقفت شهد في الخلف تطالعها بحب شـ.ـديد ظاهراً في عينيها وهتفت بتلهف:
_ هياكل منك حتة، إيه الجمال دا؟
التفتت إليها لينة ورمقتها بنظرات بـ.ـاردة قبل أن تردف مستاءة:
_ أنا بلبس فستان عشان زياد!!
يعني اليوم اللي بحلم بيه من صغري لما يجي يكون مع واحد تاني!
أنا مش مصدقة نفسي بجد، مش مصدقة إني مطاطية بالشكل دا، أنا مش عايزة فستان ولا غيره وهو لو عايز كتب كتاب هو حر بس أنا مش هلبس ولا هعمل حاجة، تعالي افتحي لي السوستة خليني أغير البتاع دا..
أسرعت شهد في تهدئتها حيث هتفت ببعض الكلمـ.ـا.ت الحكيمة:
_ اهدي بس يا لينة، هتقولي إيه لما يسألوكي مشترتيش ليه؟
ماهو مش طبيعي يعني ترفضي فستان وتوافقي على كتب الكتاب، أنتِ لا ترفضي كله لا توافقي على كله لكن حوار نص نص دا مينفعش
هدأت لينة قليلاً وطالعت صورتها المنعكسة مرة أخرى، تشبه أميرات ديزني في ذاك الثوب الأبيض الجميل، بل إنه رائع ومختلف تماماً عن غيره، كان له رسمة ساحرة تشبه فساتين الأميرات حقاً.
لكن سعادتها لن تكتمل وكيف تكتمل ومن أحبته وتمنت قربه نفسه من يريد تزويجها لآخر، كم بدت غـ.ـبـ.ـية حينما صدقت أنه يحبها، تساقطت عبراتها رغماً عنها وفشلت في السيطرة على إيقافهم.
اقتربت منها صديقتها وقامت بضمها بقوة مأزرة إياها، تنهدت شهد وقالت:
_ يلا قبل ما طنط ميمي تستغيبنا وتيجي تلاقيكي بتعيطي..
مسحت الأخرى عبراتها قبل أن تخرج إلى السيدة ميمي لكي تريها فستانها، بعد مدة طويلة انتهوا من شراء كل ما ستحتجانه ذاك اليوم وعاد بهم يوسف في صمت متبادل.
وصلا بعد ثلاثون دقيقة، عدل يوسف من المرآة العلوية حتى باتت على وجه لينة وحادثها بجدية:
_ خليكي يا لينة عايز أتكلم معاكي..
تبادلت شهد ولينة النظرات ثم استأذنت شهد وعادت إلى منزلها وكذلك السيدة ميمي، استدار يوسف بجسده ليراها بوضوح، أخذ نفساً عميق وبدأ حديثه:
_ أنا مش عارف إيه سبب العـ.ـيا.ط والزعل دا كله، أنا مش شايف إني أجبرتك على حاجة ولغاية الوقتي أنتِ مقولتيش حتى إنك مش موافقة وعشان كدا مش قادر أحدد نقطة زعلك، أنا مش عايز حد يضايقك بكلمة طلاما الناس خدت بالها مننا، وقبل منهم كلهم ربنا ورضاه الأهم، أنا والله مش حِمل أشيل ذنوب ولا أشيل عيلتي ولا حتى أنتِ، بس اللي أقدر أقولهولك واللي أنتِ مدتنيش فرصة أقوله أن كتب الكتاب مش هيغير أي حاجة، زياد هيفضل زي ماهو مش هيتخطى حدوده معاكي، كل حاجة زي ماهي بس هنعمله عشان نحلل قعادك في البيت، وأوعدك إن مفيش أي حاجة هتتغير إلا إذا أنتِ كنتي عايزة تغيير!
"مش عايزة تغيير"
هتفت بهم لينة مسرعة فواصل هو بثقة:
_ يبقى خلاص مفيش أي حاجة هتتغير، أوعدك بكدا، وأنتِ عارفة كويس إني لما بوعد بوفي بوعدي
تنهد قبل أن يتابع استرساله:
_ أنا عايزك تطمني ومتخافيش، كل حاجة هتمشي زي ما أنتِ عايزة، ها فين الضحكة بقى؟
بصعوبة قابلتها في البداية ابتسمت له فشعر هو بالراحة تجتاحه من خلف ابتسامتها، غمز إليها وشاكسها قائلاً:
_ جبتي فستان حلو؟
تغلغلت الحماسة داخلها وأومأت بتأكيد بينما هتف هو بنبرته الرخيمة:
_ أنتِ اللي هتحليه!
اتسع ثغرها ببسمة عـ.ـذ.بة ثم ترجلت من السيارة حينما انتهى حديثهما، صعدت الأدراج سريعاً ومنه إلى غرفتها مباشرةً، أخرجت فستانها من حقيبته وارتدته ومشاعرها قد اختلفت كلياً.
كلمـ.ـا.ته قد بثت فيها الطمأنينة، ومحت الخوف من قلبها، ظلت تدور حول نفسها سعيدة بفستانها الذي يحلق عالياً بسبب دورانها المستمر، أخذت تتفحص جميع ما قامت بشرائه بتهلف شـ.ـديد حتى انغمرت بينهم دون الشعور بمرور الوقت.
***
خرج بلال من القُن خاصته باحثاً عن طعام يتناوله فلقد طالبت معدته ببعض الأطعمة، كانت الأجواء هادئة أكثر من المعتاد، لا صوت تلفاز ولا أثر لها في المنزل، لكن غرفتها كانت مغلقة حتماً هي غافية.
دلف المطبخ وأعد له بعض الشطائر ثم خرج ليتناولها، لكن شعور ما قد منعه من قضم شيئاً قبل أن يطمئن عليها، تنهد بضيق فهو لا يريد التعلق بها بهذا الشكل ألم يخبرها أنه يشعر بالإشمئزاز نحوها لماذا إذاً تستحوذ أفكاره الآن؟
طرد أفكاره ونهض بهدوء متوجهاً نحو غرفتها، وضع أذنيه على الباب لعله يستمع لشيئ لكن لا يوجد سوى السكون، أمسك بالمقبض وبتردد شـ.ـديد أداره حتى فتح الباب بضعة سنتيمترات، اكتفى بالنظر منهم عليها، فكانت غافية مثلما ظن، أعاد غلق الباب بحذر ثم عاد ليتناول طعامه مع مشاهدته للتلفاز.
***
صباحاً، حيث يوم جديد حاملاً معه أقدار للجميع، هاتف يوسف بعض الجيران والأقارب ودعاهم لحضور عقد قِران أخيه ولينة، بينما لم تستطيع لينة النوم مطلقاً تلك الليلة، لقد مرت بصعوبة للغاية، تجتاحها مشاعر متناقضة، تخشى مرور الوقت والقدوم على خطوة كبيرة كالتي ستمر بها، لكنها كانت دوماً تردد كلمـ.ـا.ت يوسف حتى يطمئن قلبها ويهدأ روعها.
رافقتها شهد منذ بداية اليوم لكي تساعدها أو ربما تأزرها، كان زياد الوحيد من بين الجميع متلهفاً لما هو مقدm عليه وأكثرهم حماساً، يتنقل من هنا إلى هناك، يتأكد أن جميع التجهيزات قد تمت.
وأخيراً استحوذ على غرفة والدته حتى يفاجئهم بطلته الفريدة من نوعها، كذلك يوسف قد قام بشراء حُلة سوداء، كانت المرة الأولى التي سيرتدي بها حُلة، فكان دوماً ينفر منها تاركها ليوم مميز.
وقف أمام مرآته يضبط ربطة عنقه بقامة منتصبة شامخة، انتهى من عقد نهايتها عِند حلقه فبات وسيم المظهر أكثر جاذبية عن ثيابه المعتادة.
رفع أنامله وتخلل بها خصلات شعره السوداء الناعمة ليعيد انتصابها من جديد، مد يده والتقط قنينة عِطره، دعس على جزء منها فتناثر العطر على أشلاء متفرقة على حُلته السوداء.
أعاد وضعها على "التسريحة" ثم اختلس النظر إلى مظهره للمرة الأخيرة قبل خروجه من الغرفة، أخرج تنهيدة قبل أن يولي صورته فى المرآة ظهره وتوجه نحو الباب، أدار مقبضه على مهلٍ فشيء ما يمنعه من الخروج وكأنه مقيد بالأصفاد.
حرر أصفاده بفتحه للباب الذي أصدر صريراً عالياً فانتبهت له والدته وبخطوات راكضة توجهت ناحيته، اتسعت شفتيها مُشكلة ابتسامة عـ.ـذ.بة حين رأته يطل عليها بتلك الجاذبية المبالغة.
رفعت ذراعها وملست على كتفه بكف يدها مبدية إعجابها الشـ.ـديد به:
_ بسم الله ما شاءالله، ربنا يحميك من العين يا حبيبي
تشـ.ـدق فظهرت ابتسامته الهادئة التي أسرت قلب والدته من فرط جمالها، أراد مشاكستها فهتف:
_ دا أنا أتغر على كدا
بنبرة سريعة عفوية ردت على كلمـ.ـا.ته بحُب:
_ ويليق بيك الغرور يا حبيبي، ويكون معاك الحق كمان، أنت مش شايف طلتك ولا إيه، شبه البدر في تمامه ربنا يسعد قلبك يارب
انحنى على يدها التي تناولها وطبع قُبلة عليها ثم عاد لفرد قامته، جاب المكان من حوله وعاد بأنظاره على والدته المنحنية لكِبر عمرها وبفضولٍ قام بسؤالها:
_ العريس فين؟
أشارت بعينيها إلى بابٍ ما وأردفت:
_ لسه مخرجش من أوضته، تحب أستعجله؟
أبدى رفضه بإيماءة من رأسه كما أوضح عِلته:
_ لأ، سبيه على راحته، المأذون لسه موصلش
أولاها ظهره وصوب بصره على باب غرفةٍ أخرى، حرك قدmيه ناحيتها بخُطى مُتريثة، وقف أمام الباب ثم كور أصابعه فاختفت في كفه وبهدوءٍ طرقه ووقف في إنتظار فتحه.
تقوس ثغره بإبتسامة عـ.ـذ.بة حين رآها تطل من خلف باب غرفتها بفستانها الأبيض الرقيق، اتسع ثغرها فور رؤيته وبحماس شـ.ـديد إستدارت بجسدها حول نفسها لتريه معالم الفستان كاملاً متسائلة بتلهف لسماع رأيه:
_ إيه رأيك؟
وقف يتابع تصرفها وكأنه يراها بالتصوير البطيء، لمعت عيناه بوميض مختلف فـطلتها كانت مُزهرة تليق بكونها عروس.
حدجها بنظراته التي يشع منهما السعادة العارمة قبل أن يهتف بنبرته الرخيمة:
_ مكنتش عارف إن القمر هيزورنا النهاردة!
عضت هي على شفاها السُفلى بحياء كما أخفضت رأسها راسمة بسمة لا تتعدى شفاها فجذب هو انتباهها بسؤاله:
_ جاهزة؟
رفعت بصرها عليه وكأنه أسقط أعلاها حجارة هائلة الحجم، أخرجت زفيراً قبل أن تجيبه:
_ مش عارفة..
غمز إليها مع حركة سريعه من رأسه وهو يردد بعدm فِهم:
_ المأذون على وصول
خفق قلبها بتوجس، لم تشعر بذاك الخوف الذي اجتاحها من قبل فهي على حافة العزوبية، سوف تبدل حياتها السابقة كاملةً بحياة أخرى وهي حياة الزوجية!!
شعرت بغصة مريرة في حلقها فابتلعت لعابها لعلها تتخلص منها، انتبهت على صوت من خلفها يهتف بحميمية:
_ إزيك؟
غض بصره عنها ثم استأذن بلطافة وغادر بينما استدارت هي بجسدها ورمقت صديقتها بنظرات مشتعله وبإقتضاب هدرت بها:
_ أنتِ مالك بيه يا رخمة؟ بتحرجيه ليه؟
انفجرت الآخرى ضاحكة بميوعة وأجابتها مازحة:
_ بحب أشوفه وهو مكسوف
احتقن وجهها بغيظ ولم تسمح لها بافتعال المزيد من السخافات حيث صاحت بها مندفعة:
_ ملكيش دعوة بيه، أنتِ فاهمة؟!
تشـ.ـدقت الأخرى بفمها قبل أن تردف مستاءة:
_ في إيه؟ مغلطتش في البخاري يعني وبعدين دا بقى مجرد...
قاطعتها محذرة إياها:
_ هااا
وضعت صديقتها راحة يدها على فمها مانعة لسانها من استرسال الحديث الذي يسلب رونقها فتوجهت الأخرى إلى مرآتها تتفحص فستانها ووجها الذي إزداد جمالاً بتلك الزينة التى لا تعتاد وضعها إلا لو استحق الأمر.
تجهمت تعابيرها ونظرت لنفسها مرة أخرى بتقزز يشوبه الإستياء، كيف رضخت لذلك؟ كيف قبلت وفعلت كل ذلك من أجل رجل آخر؟
لم تشعر بنفسها سوى وهي تخلع حجابها ومن ثم فستانها فصاحت شهد متسائلة بغرابة وذهول:
_ أنتِ بتعملي إيه؟
هدرت الأخرى بها باندفاع:
_ أنا عمري ما هلبس فستان غير ليوسف ولو نصيبنا مش لبعض يبقى مش هلبس خالص..
تابعت محي أي معالم لكونها عروس وبدلت فستانها بثياب أخرى قديمة، وقد أزالت المساحيق خاصتها حتى شعرت بالراحة، لم تستطيع شهد إبعاد عينيها عنها فكانت مذهولة من تصرفاتها المفاجأة لكنها لم تتحلى بالقوة حتى تعقب على ما تفعله وفضلت المتابعة في صمت.
في الخارج،
رحب يوسف بالمأذون بحفاوة وكذلك بعض الحضور الذي قام بدعوتهم، دعا المأذون لأريكة ما تتوسط الردهة، أشار لوالدته على باب إحدى الغرف فتفهمت ما يشير إليه وبخُطى متعرقلة سارت إليها، طرقت الباب قبل أن تدلف لغرفتها التي وضع ولدها يده عليها اليوم حتى يتجهز بحرية لتخبره بحضور المأذون:
_ المأذون وصل يا حبيبي، يلا أخرج مش عايزينه يستنى كتير
استدار زياد بجسده ليظهر مظهره الحسِن الذي خفق قلب والدته إثره، اقتربت منه وعينيها تلمع بمزيج من المشاعر المختلفة في تلك الأثناء، قامت بتقبيله وهي تردد بشجن:
_ ربنا يحميك يابني، استنى لما أرقيك قبل ما تخرج
وضعت كف يدها على رأسه وبدأت تتلوا بعض الآيات أسفل ضحكاته التي لا تتوقف على تصرفها، انتهت من تلاوة الآيات ثم تراجعت للخلف سامحه له بالذهاب:
_ والوقتي تقدر تخرج
حرك زياد رأسه بإستنكار، ثم أخذ بيدها لترافقه للخارج، اقترب منه الجميع فور ظهوره حيث تلقى التهنيئات من الأصدقاء والأقارب وكذلك الجيران، نهض يوسف عن مقعده سامحاً له بالجلوس ثم توجه إلى باب غرفة العروس وطرقه فظهرت هي بعد ثوانٍ قليلة، لاحظ يوسف تبديل ثيابها وحالتها المنعسكة تماماً، لكن يكن هناك مجالاً للتعقيب فأخبرها قائلاً:
_ يلا إحنا مستنينك..
بوجهٍ جـ.ـا.مد خالي من المشاعر أماءت له بقبول ثم إستدارت بجسدها مولياه ظهرها وأخذت شهيقاً أزفرته على مهلٍ، دنت منها صديقتها شهد وربتت على يدها داعمة لها:
_ متخافيش، أنا جنبك
تبادلن نظرات الإمتنان ثم خرجن كلتاهن برفقة بعضهن البعض، جلست هي إلى يسار المأذون تاركة مساحة بينهم بينما جلس زياد على يمينهما وعيناه لم تُرفع من عليها ناهيك عن ابتسامته التي لم تختفي من على محياه منذ ظهورها
لم يشعر أحدهم بالعيون التي تراقب ما يحدث على بُعد، شعور مقيت يليه شعور بالفقد وكأنهم يسلبون روحٍ من جسدها، العيون تبكي في صمت فلا لهما الحق في إظهار آلامهم وليس من حقهم فعل أي شيء سوى مراقبة الأجواء في صمت..
لا يدري حقاً ما الذي يحدث له، قلبه يـ.ـؤ.لمه للغاية، يشعر بالغيرة الشـ.ـديد كلما رأى نظرات أخيه المتلهفة، يريد اقــ,تــلاع عينيه حتى لا ينظر إليها ثانيةً، شعور قوي داخله يريدها أن تبدي رفضها بالأمر.
يريد أن يخطو نحوهما وإحاطتها بين يديه وإنهاء تلك السخافة التي أحدثها.
انتبه لتلك اليد التي وضعت على كتفه فاستدار بجسده ليعرف هويته، لوهلة جهل ملامحه لكنه تعرف عليه بعد تفصحه لوقت وصاح بعدm تصديق:
.....
↚
"علي"
نطق بها يوسف مذهولاً، لا تصدق عينيه أنه بالفعل يقف أمامه، وقع إسمه على مسامع لينة التي استنكرت أنه علي نفسه شقيقها، نهضت من مكانها لكي تستطيع رؤيته بوضوح فكان يوسف حاجباً للرؤية.
تقدmت نحوهما وقلبها تتسارع نبضاته، وقفت بجوار يوسف لتتأكد من هوية الآخر، اتسعت مقلتيها بذهول شـ.ـديد، فكان هو حقاً، لم يتغير كثيراً بل نبتت لحيته وشاربه فقط، اجتاحها مشاعر عديدة حينها.
تريد ضمه بكل قوتها لأنها افتقدت إليه كثيراً، وأيضاً تريد صفعه لغيابه عنها طيلة تلك الأعوام الماضية، يزداد حنينها نحوه وكذلك نفورها منه.
خرجت من شرودها على صوته التي بات أكثر خشونة وهو يبتسم بحنين:
_ لينة!!
يشع من عينيه شوق كبير، اقترب منها ليتحلى بعناقاً حاراً يداوي أعوام الفراق التي مرت عليهما، لكنه تفاجئ بتراجعها رافضة قربه، خفق قلبه بحـ.ـز.ن وردد:
_ دا أنا علي يا لينة، علي أخوكي، بتبعدي عني؟!
لم تنتظر دقيقة أخرى أمامه، وهرولت إلى غرفتها وما أن أوصدت بابها سرعان ما انفجرت باكية، كيف استطاعت الهروب من أمامه ورفضه بتلك السهولة؟ أليست هي من بحثت عنه طوال الوقت، لكنه هو لم يبحث عنها وتلك هي المشكلة.
استمعت لطرق الباب ثم صدر صوت أنثوي قال:
_ افتحي يا لينة أنا شهد
لم تكترث لمحاولاتها واستمرت في البكاء لاعنة لقائهم الذي أعاد إليها ذكريات مؤلمة قد عاشتها بمفردها.
في الخارج، لم يرفع علي عينيه من مكان اختفائها، كان مصدوماً من ردة فعلها، لم يتوقع ذلك قط، شعر بيد قد وُضعت على كتفه تأزره:
_ حمد لله على السلامة يا علي
انتبه "علي" على كلمـ.ـا.ت يوسف وطالعه بحـ.ـز.ن يتجلى في عينيه، ابتسم له يوسف وقال بنبرة رخيمة:
_ معلش أعذرها، هي دورت عليك كتير أوي، هتهدى وهتكون كويسة
أشار "علي" على صدره وهتف بمزاج غير سوى:
_ كان غـ.ـصـ.ـب عني، هي متعرفش أنا اتعرضت لإيه عشان أعرف بس أعيش..
ربت يوسف على كتفه وأردف برزانة:
_ أتكلم معاها وفهمها وهي هتقدر ظروفك أكيد..
تدخل زياد بسؤاله وهو يطالع "علي" بغرابة:
_ مين دا يا يوسف؟
تقوس ثغر علي بإبتسامة حينما عرف هوية زياد وردد بسعادة:
_ زياد، صح؟
أكد يوسف بإيماءة من رأسه ثم أجاب أخيه:
_ دا علي يا زياد مش فاكره؟
تفاجئ زياد به ثم مد يده وصافحه مرحباً بوصوله:
_ حمد لله على السلامة
باختصار رد الآخر:
_ الله يسلمك
أنهى جملته وعينيه صُوبت تلقائياً على غرفة لينة التي اختفت خلف بابها، تنهد يوسف وقال:
_ تعالى معايا
نظر إلى أخيه وأمره قائلاً:
_ اعتذر من الناس على التأخير واحنا هنيجي أهو
توجه يوسف إلى غرفة لينة الماكثة بها برفقة علي، تنحت شهد جانباً فور رؤيتها لهما وعادت إلى مكانها، بينما طرق يوسف الباب وأردف بأمر:
_ افتحي لو سمحتي يا لينة
بعد ثوانٍ فتحت له بعينان لا تتوقف منهما الدmـ.ـو.ع، أولاتهما ظهرها وتوجهت نحو الفراش وجلست أعلاه، ولج يوسف أولاً وتبعه علي بحرج بائن لمعاملة شقيقته له، كاد يوسف أن يحادثها إلا أنها أسبقت بسؤالها:
_ رجعت ليه؟
تفاجئ علي بسؤالها ووزع نظريه بين يوسف ولينة بحرج، تدخل يوسف قائلاً عند وقوفه:
_ طب أنا هسيبكم لوحدكم
انتفضت لينة من مكانها وأسرعت نحوه ثم وقفت خلفه محتمية به وتوسلته قائلة:
_ لا يا يوسف متسبنيش معاه لوحدي..
مال يوسف برأسه للجانب ناظراً إليها، فهي وضعته في موقف لا يحسد عليه، فأسرعت هي بمحاوطة ذراعه بيدها وتوسلته مرة أخرى:
_ عشان خاطري يا يوسف
حمحم علي وأيد طلب لينة ليطمئن جوفها:
_ خليك يا يوسف أنت في مكانة أحمد أخونا
بسخرية هتفت لينة:
_ كويس إنك لسه فاكره
فغر علي فاهه ليخبرها بكل ما مر به لكن دخول زياد منعه، بينما تفاجئ زياد بوضع لينة التي تحاوط ذراع أخيه في وضع حميمي، كز أسنانه وحاول عدm إظهار رفضه للأمر وقال بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ المأذون عايز يكتب الكتاب عشان يمشي..
"كتب كتاب مين؟"
تسائل علي بفضول فالتفت زياد إليه وبثقة أجابه:
_ كتب كتابي أنا ولينة؟
وكأن دلو مملوء بالثلج قد سكب أعلاه، حتماً يمازحه، وجه نظره تلقائياً نحو يوسف وسأله بعدm تصديق:
_ الكلام دا حقيقي؟
الحرج دون غيره قد سيطر على خلاياه، فكيف يجيبه الآن؟ حتماً يظن أنهما يستغلان شقيقته، أخفض رأسه دون تعقيب فكانت حالته خير إجابة على سؤال علي الذي صاح رافضاً للأمر:
_ مفيش كتب كتاب ولا غيره، أنت إزاي يا يوسف توافق على التهريج دا؟ هي دي الأمانة اللي صاحبك سايبهالك!
خرجت لينة عن صمتها ونهرته معنفه:
_ متتكلمش معاه كدا تاني أنت فاهم، الأمانة اللي انت بتتكلم عنها دي هو صانها وحماها وراعى ربنا فيها، أنا واقفة قدامك دلوقتي بفضله هو، كان معايا في كل لحظة ضعف وحـ.ـز.ن، عمره ما حسسني إني ناقصني حاجة، دا كرس حياته كلها عشاني ومشوفتوش مضايقة لحظة، أنت بقا يا أخويا كنت فين من كل دا؟
محاولتش حتى تدور عليا ولا تسأل عليا ولا تطمن خوفي عليك، بأي حق جاي دلوقتي تقول مفيش كتب كتاب؟
كلمـ.ـا.تها ألجمت لسانه، فشل فى الرد عليها والدفاع عن نفسه، فكان متفاجئاً بهجومها الشـ.ـديد، ظل يطالعها دون تصديق، كلمـ.ـا.تها تتردد في عقله وتؤلمه كثيراً، هي لا تعرف شيئاً، لا تعرف ما مر به حتى ينال كل ذلك الإيلام.
شعر يوسف أنه أخطأ عنـ.ـد.ما اتخذ قراراً متهوراً كالذي أخذه، شعر أن وصول علي في تلك الأثناء رسالة موحية إليه بأن يتراجع، تنهد قبل أن يعيد تفكيره في الأمر:
_ فكري تاني يا لينة، أخوكي خلاص وصل يعني معتش فيه داعي لكتب الكتاب..
استدارت لينة نحوه وحدجته بذهول، بينما هدر زياد بحنق وعدm تصديق لقرارات يوسف الذي يتخذها فجاءةً دون العودة إليهم:
_ هو إيه اللي خلاص يا يوسف؟ إيه السهولة اللي بتاخد بيها قراراتك دي؟
حك يوسف مؤخرة رأسه فكان مشتتاً للغاية، لم يعد يعلم ما الصواب، تدخلت لينة حاسمة أمرها بقولها:
_ أنا هكتب الكتاب يا يوسف واللي واقف ورايا دا ملوش علاقة بيا ولا له يدخل في قرارتي..
لم يتحمل علي المزيد من الإيلام والإهانة منها، فتوجه نحو الباب هارباً من بينهم فصاحت لينة ساخرة:
_ دا اللي أنت بتعرف تعمله..
التفت إليها علي وعينيه يشع منهما المعاتبة فتابعت هي بإقتضاب:
_ شاطر أوي في إنك تبعد وتسيبني..
تبادلا النظرات ثم تابع علي سيره مغادراً المنزل، فأعاد يوسف تنبيه لينة:
_ مش مضطرة تعملي كدا يا لينة..
صاح زياد بحنق فلقد بلغ ذروة تحمله من سخافات أخيه:
_ برده هيقول مش مضطرة، والناس اللي برا دي والمأذون كل دول هنقولهم إيه؟
أجابه يوسف وعينيه مصوبة على لينة يتوسلها في نظراته أن توافقه الرأي:
_ مش مهم كل دا قصاد رأيها هي..
فرت دmعة على مقلتيها وهتفت بنبرة متحشرجة وهي تطالعه بنـ.ـد.م:
_ صدقني معدتش فارقة يا يوسف..
تركتهما وخرجت من الغرفة، تبعها زياد الذي كان يتأفف بضجر وضيق، وبعد مدة تحرك يوسف للخارج وقلبه يكاد يقــ,تــلع من مكانه، كان متأملاً أن تعيد النظر في تلك المسألة، لكنها لم تفعل!!
حضر بلال وإيمان برفقة عائلتهما، جلس الجميع في هدوء مستمعين لخطبة المأذون الذي يليقها قبل أن يبدأ في إجراءات عقد القِران.
انتهى المأذون من خطبته ثم تسائل بجدية:
_ أين ولي العروسة؟
تبادلا الجميع النظرات في حيرة من أمرهم، فلم يرتب أحدهما لذلك، صُوبت نظراتهم تلقائياً على الباب حيث صدر منه الصوت:
_ أنا وليها يا مولانا
عاد علي ليكون بجوارها، فكيف يتركها في يوم هكذا؟ هو عاد فقط من أجلها وعليه أن يتحمل مسؤوليتها وتنفيذ كل متطلباتها لعلها تسامحه.
نظر المأذون إلى علي وسأله مستفسراً:
_ حضرتك مين؟
بهدوءٍ أجاب:
_ أخوها
أماء المأذون بتفهم قبل أن يتسائل مرة أخرى:
_ وأين الشهود؟
كان بلال أول من هتف لكي لا يضطر يوسف على شهد زيجة حبيبته:
_ أنا يا مولانا
وتلاه تلقائياً صوت السيد رمضان:
_ وأنا الشاهد التاني يا مولانا
بدأت مراسم عقد القِران، حيث جلس علي وزياد على جانبي المأذون وتصافحا وظل يرددا ما يمليه عليهم.
"بـ.ـارك الله لكما وبـ.ـارك عليكما وجمع بينكما في خير إن شاء الله"
هكذا نهى المأذون المراسم بدعوته لهما، تعالت الزغاريد في المكان، وحلت المبـ.ـاركات من الجميع على تلك المناسبة.
في زاوية قريبة وقف يطالعها بقلبٍ يتألم، وعقلٍ يحترق، جوفه يـ.ـؤ.لمه للغاية، لم يشعر بتلك الدmعة التي فرت على مقلتيه، صعق حينما شعر بضعفه وقلة حيلته.
لم يكن أمامه سوى الهروب من المكان الذي يطبق على صدره، حتماً إن أنتظر لدقيقة آخرى ستنشب كارثة.
لمحت لينة طيفه الهارب وتعجبت من أمره، توجهت تلقائياً خلفه ونادته لكنه لم يرد بل كان يسرع من خطاه حتى اختفى من أمامها، عادت هي للداخل وقلبها يخفق بقوة، تشعر بالقلق والخوف حياله.
توجهت نحو بلال ورددت كلمـ.ـا.تها بتوجس بتوجس:
_ يوسف نزل وكان باين عليه إنه بيجري، نديت عليه مردش عليا، أنا قلقانة عليه أوي، ممكن تشوفه راح فين؟
تغلغل القلق داخل بلال، اكتفى بإيماءة من رأسه وأسرع إلى الأسفل لعله يلحقه، لمح طيف سيارته التي تخرج من المنطقة فلم يتردد في لحاقه بالسيارة خاصته.
كان يعطيه إشارات من آن لآخر حتى يتوقف لكنه لم يكترث له، مما ضاعف القلق في قلب بلال، وظل يقود بأقصى سرعة لديه حتى لا يفقده.
وأخيراً أوقف يوسف السيارة أمام المعرض الجديد، فتحه ودلف راكضاً، جاب المكان ذهاباً وجيئا، سيجن عقله، كيف فعل ذلك، كيف أخذ قراراً متهوراً كهذا، كيف لم يمنع حدوثه بكل قوته؟
أسرع بلال ناحيته وأجبره على التوقف:
_ في إيه يا يوسف؟ إيه الحالة دي؟
رفع يوسف يده وحاوط عنقه، يشعر بالاختناق، فك رابطة عنقه وألقاه بعيداً عنه، كان بلال متأثراً من وضعه المجهول، وحاول مساعدته على الجلوس:
_ طيب تعالى أقعد واهدى
استلقى يوسف على إحدى الأرائك الجلدية، ثم انفجر باكياً كـطفل رضيع لا يعلم ماذا يريد، كانت مفاجئة كبيرة لم يستوعبها بلال فلم يرى صديقه يبكي منذ معرفته به.
اقترب منه وجلس القرفصاء بجواره وحاول معرفة مابه:
_ أنت بتعيط يا يوسف؟ إيه اللي حصل عشان توصل للحالة دي؟
اعتدل يوسف في جلسته وظل يبكي ويشهق بقوة، ارتجفت شفتيه من شـ.ـدة بكائه وكذلك يديه ثم جسده، استقام بلال ثم جلس بجانبه، حاوطه بذراعيه فلم يجد منه سوى الرضوخ، مال يوسف على كتفه وهتف بصوت باكي حزين:
_ أنا طلعت بحبها يا بلال!!
فغر بلال فاهه، لوهلة لم يستوعب عقله من تلك المقصودة، طالع الفراغ أمامه لبرهة قبل أن يسأله مستفسراً:
_ هي مين؟
ازداد نحيبه وهو ينطق حروف إسمها:
_ لينة!
اعتدل في جلسته ومال برأسه لليمين حيث يجلس بلال ثم واصل تحت نظرات صديقه المذهولة مما سمعه:
_ معقول كل اللي كنت بعمله دا مش عشان هي أمانة صاحبي؟ معقول كل دا كنت بحبها ومش عارف!!
بس بحبها إزاي يعني؟
بحبها إزاي يا بلال؟
دا أنا عرفتها وهي عيلة ولسه عيلة في نظري، لحقت حبيتها امتى وإزاي؟
يعني إيه حب أصلا؟
بس آه، كل حاجة مكنش عندي تفسير ليها وضحت الوقتي، دا أنا عمري ما بصيت لواحدة غيرها، عمري ما لمست إيد واحدة حتى بالغلط غيرها، دي كانت بتحـ.ـضـ.ـني بعفوية ومكنتش بضايق كنت بسيبها تقرب مني عشان كدا كنت حابب كدا
كنت بتعمد أخد شاور وأمشي قدامها عشان أشوف نظراتها عليا..
تقوس ثغره ببسمة عـ.ـذ.بة متذكراً دلالها عليه:
_ كنت بحب دلعها بس معايا بس، مكنتش بخلي حد يمسك حتى الكوباية اللي بتشرب منها أنا بس اللي كنت بشرب من وراها عادي
تجهمت تعابيره وهدر بغضب:
_ كنت أطيق العمى ولا أطيق دmعة من عيونها تنزل
نهض عن مكانه وجاب المكان من حوله مسترسلاً بحدة:
_ عشان كدا لما سمعت الكلام اللي دار لما نزلت الصور مستحملتش، لأنه صح، أنا استحليت قربها، كنت مبسوط وأنا معاها وكل ما عقلي يقولي يا يوسف اللي بتعمله غلط، أقوله وماله ما أنت طول عمرك ماشي صح، خدت إيه يعني؟ دا أنت مفرحتش إلا في وجودها، فيها إيه لما أعيش لي يومين مبسوط!
توقف يوسف عن السير ووضع يديه في منتصف خصره، وحدج صديقه لوقت، لا يصدق ما فصح عنه للتو، كيف قاله وصرح به بتلك السهولة لا يدري؟
وقف بلال وكلمـ.ـا.ت يوسف لا تريد التحليق، تنهد ثم أردف:
_ دا أنت طلعت عاشقها يا يوسف، يخرب عقلك يا جدع!! كل دا مداريه!
مسح يوسف عبراته ثم وضع إصبعيه أمام عينيه محاولاً استيعاب مشاعره، أخرج زفيراً وردد بهدوء:
_ أنا بس عايز أفهم ليه دلوقتي؟ ليه بعد ما كتبت كتابها بإيدي أحس بكدا دلوقتي؟
توجه نحو الأريكة وجلس أعلاها، طالع الفارغ أمامه في محاولة منه على فهم تلك العقلية لكنه لم يصل لشيئ، بعد تفكيرٍ طال هتف بلال:
_ مش يمكن حصل كدا عشان تتأكد من مشاعرك، يمكن لو فضلتوا مكملين بنفس طريقتكم كنت هتفضل فاهم إنك بتحبها زي أختك
فرت دmعة أخرى من عينيه، كان صوته متشحرج حينما قال:
_ وأديني عرفت، بس بعد إيه؟ بعد ما راحت مني!
تساقطت عبراته دون توقف، وكلما قام بمسحهم يعودون من جديد، تنهد بلال وحاول إيجاد حلاً لكي يهدئه قليلاً:
_ مش أنت قولت دا وضع مؤقت، يعني مفيش مشكلة الوضع يتغير..
رمقه يوسف بنظرات جـ.ـا.مدة وصاح به شزراً:
_ هي لعبة يا بلال؟ هلعب بيها أنا وأخويا؟ أنت مشوفتش أخوها كان بيبصلي إزاي النهاردة كأنه بيقولي أنتوا بتستغلوا أختي، تخيل لو عملنا اللي بتقوله!
وبعدين دا مستحيل أصلاً، إزاي أقول لاخويا سيبها عشاني؟ أنت مستوعب أنت بتقول إيه؟
دا حتى لو أنا اللي خدت القرار والاتنين مش موافقين ورضخوا بس عشاني، مينفعش
دي مش رواية بنقرأها ولا هي لعبة بنتسلى بيها عشان الوضع يكون بالسهولة دي
رفع يوسف أنامله ومسح عبراته بعنف، أجبر عينيه على التوقف وعدm البكاء مرةٍ أخرى، نهض عن مكانه فنهض بلال تلقائياً معه ثم أردف يوسف بجدية:
_ أنا ماشي، وياريت تنسى كل اللي قولته
لحق به بلال وأمسك بذراعه وقال:
_ فهمني طيب أنت هتروح فين؟
حرر يوسف ذراعه من بين قبضة صديقه وأجابه مختصراً:
_ معرفش هلف شوية بالعربية وبعدين أروح
سحب بلال مفتاح سيارته من على الطاولة الخشبية وهلل قائلاً:
_ طيب استناني أجي...
منعه يوسف من اللحاق به بقوله:
_ عايز أكون لوحدي يا بلال، هكون كويس بس سيبني لوحدي
أردف جملته وانطلق بالسيارة بعيداً، بينما ظن الآخر أن تركه بمفرده في تلك الحالة لربما يفيده، أخذ نفساً عميق وهو يتابع تحرك سيارة يوسف حتى اختفت عن نظريه، فاستقل هو سيارته ليعود إلى منطقته.
***
ذهب الجميع إلا من السيد رمضان وزوجته وإيمان، وعلي الذي يجاور لينة في الشرفة وكذلك زياد يتسامران
في الخارج، اقتربت هادية من السيدة ميمي المنشغل عقلها باختفاء يوسف المفاجئ وسألتها بفضول أنثوي:
_ إلا قوليلي يا ميمي هو إيه موضوع كتب الكتاب اللي طلع فجاءة دا، عمرك يختي ما لمحتي حتى إن زياد عايز لينة..
تنهدت ميمي بنفاذ صبر وقالت بهدوء:
_ الموضوع مش زي ما أنتِ فاهمة يا هادية، الموضوع كله عشان نحلل قاعدة لينة في البيت
قطبت الأخرى جبينها بغرابة ولم تكتفي بتلك الإجابة لأنها لم ترضي فضولها فتسائلت بخبث:
_ وإيه اللي جد يعني؟ ما هي طول عمرها عايشة معاكم ومحدش قال حاجة
تأففت ميمي دون إظهار ضجرها من أسئلتها وردت عليها بجمود:
_ أهم قالوا يا هادية واللي كان كان، ودا الحل اللي كان قدامنا، بعد اذنك هقوم أشوف لينة فين
هـ.ـر.بت ميمي بعيداً عنها، فلم يكن مزاجها في محله، ولجت الشرفة وتسائلت بقلبٍ قلق:
_ يوسف لسه مظهرش يا ولاد؟
نفى زياد بحركة من رأسه بينما لم تبعد لينة نظريها عن الشارع على أمل وصوله، صدر صوت علي حينما شعر بالحرج من الجميع وخصيصاً أن الوقت بات متأخراً وقال:
_ طيب أنا همشي أنا هبقى هكلمك بكرة يا لينة
لم تعطيه اهتمام فزداد خجله، تدخلت السيدة ميمي متسائلة باهتمام لكي تمحي حرجه:
_ أنت هتنام فين يا حبيبي؟
أجابها بود:
_ حاجز في فندق
بادلته إبتسامة فأستاذن منهم وغادر، بعد مدة ليست بقصيرة انتبهت لينة على سيارة بلال التي ترجل منها وأسرعت نحو الباب لكي تسأله عن يوسف.
"يوسف فين، هو كويس؟"
تسائلت بنبرة يكسوها الخوف والقلق، طالعها بلال لثوانٍ واعترافات يوسف تتردد في ذهنه، مما أثار الذعر في قلبها فتدخل زياد الذي جاء للتو متسائلاً:
_ لقيته ولا لأ؟
خرج بلال من شروده وأجابه بتردد:
_ أيوة، طلع عنده شغل ضروري كان ناسيه وكان لازم يعمله
لم تقتنع لينة بتلك الإجابة فصاحت بعدm تصديق:
_ شغل! شغل إيه النهاردة وفي الوقت دا بالذات؟
ظهور إيمان ووالديها كان طوق نجاة لبلال من أسئلة لينة التي ليس لديه إجابات لها، أنتبه الجميع على حديث رمضان الذي صاح:
_ بلال وصل أهو، يلا إحنا عشان نمشي بقى
غادر أربعتهم ولم يلتفت بلال، فكان يريد الهروب من لينة بأي طريقة، بينما عادت الأخرى إلى غرفتها بقلب يعتصر حـ.ـز.ناً، وعقلاً مشغولاً بمن تركها وغادر دون أن يلتفت
أخبر زياد والدته بأمر العمل الذي طرأ ليوسف فشعرت ببعض الراحة وقالت:
_ طيب يا حبيبي الله يطمنك، أنا هدخل أوضتي أرتاح شوية على لما يوسف يرجع
أيدها الرأى وانتظر حتى اختفت من أمامه ثم وجه نظراته على باب لينة، تشكلت بسمة خبيثة على محياه وفضل أن ينتظر قليلاً حتى تهدأ الأجواء تماماً ثم يتودد إليها.
كان يجوب الردهة على أحر من الجمر، لا يطيق الانتظار، يريد التريث حتى لا يفـ.ـضـ.ـح أمره، كان ينتظر بفروغ صبر نوم والدته، فكان صوتها يصدر من الغرفة وهي تتلوا بعض الآيات حتى اختفى الصوت تماماً.
وقف أمام بابها وبهدوء حذر أدار مقبضه، أصاب حدسه لقد غفت وهي جالسة، أعاد غلق الباب ثم توجه إلى غرفة لينة بدون تردد، طرق بابها ففتحت هي بعد أن بدلت ثيابها بأخرى وسألته مستفسرة:
_ عايز حاجة؟
ما كان منه إلا أن دفع الباب ودلف دون إكتراث لنظراتها المذهولة، كانت تتابع خطواته بضجر لاقتحامه الغرفة بتلك الجرأة، لم تنتظر طويلاً واندفعت به:
_ إيه اللي أنت بتعمله دا؟ أنت عايز إيه؟
التفت إليها وبإبتسامة هادئة أردف:
_ بشوف أوضة مراتي
شهقت الأخرى وطالعته بعينيان جاحظتين ثم أعادت ما تفوهه بنفور شـ.ـديد:
_ مراتك! أنا مش مرات حد، إياك تنطق الكلمة دي على لسانك مرة تانية، أنت فاهم
اقترب بخطاه منها ثم رفع إبهامه أمام عينيها وهتف مستاءً:
_ أومال اللون الازرق دا بيعمل إيه في صوباعي لما أنتِ مش مرات حد؟!
تأففت لينة بضجر بائن قبل أن تعيد هتافها بحنق:
_ زياد لو سمحت أطلع برا أنا بجد مش فايقة
لم يهتم لطلبها كثيراً، تابع سيره نحوها تحت إصرارها بخروجه لكن دون جدوى فما كان منها إلا أن تتراجع للخلف متوسلة إياه:
_ لو سمحت يا زياد أخرج، بلاش كدا
وقف مقابلها فلم يكن أمامها مفر تلجأ إليه، مال هو بقرب أذنها وهمس بوقاحة:
_ خلاص مفيش هروب تاني، أنتِ بقيتي بتاعتي وعايزك تتعودي على كدا بسرعة
أعدل رأسه متفحصاً تعابيرها، فدفعته هي بكل ما أوتيت من قوة محاولة إخراجه من الغرفة:
_ لو مخرجتش هصوت وألم عليك البيت
في تلك الأثناء قد عاد يوسف من الخارج مهوماً، غارقاً بين أفكاره، انتبه على صوت لينة لكنه لم يفهم كلمـ.ـا.تها فى البداية، تابع سيره باتجاه غرفتها حتى وقعت تحذيراتها على مسامعه، تجمع غضب الكون بأكلمه داخله، لم يعد يرى أمامه من خلف الشر الذي ينطق من عينيه.
أسرع من خطاه ثم اقتحم الغرفة ولم يكن هناك داعٍ للنقاش، جلب أخيه من تلابيب قميصه وجره خلفه مخرجه من الغرفة، كانت مفاجأة لكليهما وجود يوسف في تلك الأثناء.
دفعه يوسف أرضاً هاتفاً بعنف:
_ أنت كنت بتعمل إيه يا حـ.ـيو.ان؟
لم يعطيه فرصة الرد، فكانت ركلات قدmه قوية وعنيفة، لا يرى أين يضـ.ـر.ب أخيه، فقط يفرغ شحنة غضبه على جسد أخيه الذي صرخ عالياً من شـ.ـدة الألم، كذلك ارتفع صراخ لينة وهي تتوسله أن يتركه:
_ سيبه يا يوسف، هيمـ.ـو.ت في ايدك، حـ.ـر.ام عليك
لا يسمع ولا يرى سوى أنه تعدى على ملكية خاصة ولابد من أن ينال جزاءه، خرجت السيدة ميمي على الضجة الحادثة وصعقت حينما رأت زياد أسفل قدmي يوسف، لا يرحمه ولا يتوقف عن الركل والضـ.ـر.ب المبرح.
خفق قلبها بقوة وهرولت نحوهم، حاولت مراراً منع يوسف مما يفعله متوسلة إياه بقلب يعتصر ألماً على ما يفعله في صغيرها:
_ بس يا يوسف، أبعد عنه، أنت حصلك إيه، إيه اللي بتعمله دا
كان يبعدها عنه ويتابع لكمه العنيف دون شفقة، وما كان من زياد إلا أنه وضع كلتى ذراعيه أمام وجهه محتماً فيهما، صراخ لينة والسيدة ميمي لا يتوقف وكذلك يوسف أيضاً لا يتوقف عما يفعله.
عادت ميمي إليه ورفعت ذراعها للأعلى وبكل ما أوتيت من قوة انسدلت على وجه يوسف صافعة إياه بقسوة هاتفة بنفاذ صبر:
_ فوق بقى فوق
توقف يوسف وكذلك هدأ صراخ لينة وأخذت موضعاً بعيد واضعة يدها على فمها بصدmة جلية لا تصدق ما حدث للتو، بينما توجهت السيدة ميمي إلى صغيرها وساعدته على الوقوف، تألم قلبها حينما قابل صعوبة في وقوفه، حدجت جسده بآسى وسألته بنبرة تكاد تسمع:
_ إيه اللي بيوجـ.ـعك يا حبيبي؟
انهمرت دmـ.ـو.ع زياد وهو يطالع أخيه بعدm تصديق، مسح عبراته وفر هارباً من أمامهم، لحقت به والدته محاولة إيقافه:
_ استنى يا زياد أنت رايح فين الساعة دي
لم يكترث لسؤالها وفي خلال ثانيتين كان قد اختفى من أمامها، التفت حيث يقف يوسف منكس الرأس، تجهمت تعابيرها وباتت قاسية حادة وهدرت به معنفة:
_ ممكن أعرف إزاي تمد ايدك على اخوك بالشكل دا؟ انت كنت هتمـ.ـو.ته في ايدك؟
إزاي تعمل كدا؟ وليه أصلا؟ حصل إيه عشان أخوك يهون عليك كدا؟
لم يتجرأ يوسف على رفع عينيه والنظر في عيناي والدته، كذلك لم يستطيع الرد على أياً من أسئلتها، أولاها ظهره وهرول مسرعاً إلى غرفته ثم أوصد بابه لكي لا يستطيع أحد الدخول.
"استغفر الله العظيم يارب، إيه اللي جراله دا؟"
أردفتهم ميمي وعقلها يكاد يجن، فلا يوجد سبب لتصرف يوسف، لم تعد قدmيها تنجح في حملها، فاستندت على الجدران حتى ولجت غرفتها، انفطر قلبها على والديها، يصعب عليها تخيل صغيرها يهان وخصيصاً من كبيرها العاقل الرزين.
نظرت إلى الأعلى بقلب حزين وعقلاً مهموم ورددت:
_ يارب اهديلي عيالي يارب ومدخلش الشيطان بينهم
***
أنتبه بلال على رنين هاتف إيمان الموضوع داخل حقيبتها التي تركتها على الطاولة للمرة الثالثة على التوالي، اضطر إلى أخذه حينما لم تنتبه له، فكانت المتصلة والدتها، تردد في إجابتها لكن إصرارها أجبره على الإيجاب فصاحت هي بقلق:
_ أنتِ مش بتردي ليه، قلقتيني عليكي
حمحم وأجاب بصوت خشن:
_ أنا بلال، إيمان سايبة موبايلها برا
احتدت نبرة هادية وحادثته بجمود:
_ أنا عايزة أكلمها ضروري
تنهد بلال فلا يريد الإلتقاء والتحاور معها لكنه مضطر لفعل ذلك فقال:
_ طيب ثواني
توجه إلى غرفتها الكائنة بها ثم طرق بابها فلم يسمع رد، أعاد طرقه على الباب والنتيجة واحدة، فتح الباب بهدوء فكانت مستلقية على الفراش تطالع السقف، تعجب من عدm ردها لقد ظن أنها غفت.
وما أثار غرابته أنها لم تنتبه لدخوله، يا ترى هي متعمدة تجاهله أم عقلها مشغول بأمرٍ ما؟، أصدر صوتاً فانتبهت له، ناولها هاتفها موضحاً الأمر:
_ مامتك على الخط
أخذته منه ثم أجابت بنبرة هادئة للغاية:
_ إيه يا ماما
قطب الآخر جبينه وهو يشاهدها، فكانت مريبة وهدوئها مبالغ، لم ينتظر وغادر محاولاً عدm التفكير بها بينما تابعت إيمان محادثتها مع والدتها التي قالت:
_ صوتك ماله؟ وأنتِ كان مالك وإحنا في كتب الكتاب؟
أجابت مختصرة:
_ مالي؟ ما أنا كويسة أهو
لم تقتنع والدتها وهدرت بغيظ:
_ اللي عندك دا عملك حاجة تانية؟ اوعى يكون مد ايده عليكي
"تؤتؤ، محصلش حاجة بس أنا مصدعة شوية وعايزة أنام، هكلمك بكرة، تصبحي على خير"
كانت تلك جملتها الأخيرة قبل أن تغلق، حتى لم تدع فرصة لوالدتها بالرد، وضعت هاتفها أعلى الكومود ثم سحبت وسادتها وعانقتها بقوة وفي خلال ثوانٍ كانت في ثُبات عميق.
***
يجلس على الفراش بعدmا خلع سترته وفك أزرار قميصه لعله يشعر بالراحة، فشل في تمالك أعصابه التالفة، كلما تذكر ضـ.ـر.به المبرح لأخيه يعود غضبه إليه من جديد، كيف استطاع فعل ذلك؟ لكنه هو من بدأ هو من كان وقحاً وتعدى على ملكيته!
لكن كيف؟ وهي باتت امرأة أخيه، كيف تكون ملكاً له إذاً؟
قطع حبال أفكاره طرقات أحدهم على الباب، بعد تردد نهض وتوجه إلى الباب وفتحه، فكانت لينة من تقف أمامه، خفق قلبه فور رؤيتها واقفة أمامه، تلك المرة كان يعلم جيداً بأمر خفقان قلبه، لكن ماذا ستفيد معرفته؟
تجدد غضبه داخله فأولاها ظهره وعاد للداخل، ولجت هي خلفه وعاتبته:
_ مكنش لازم تعمل كدا
استدار بسرعة البرق نحوها، طالعها بعينان متسعتان وردد ساخراً:
إيه صعبان عليكي؟
استنكرت رده وهتفت بهجوم:
_ دا أخوك على فكرة ومكنش ينفع أبداً تمد إيدك عليه، أنت كدا ممكن تخسره
اقترب منها يوسف وبتهكم قال:
_ ولا كنتي عايزاه يكمل في اللي كان عايزه؟
اتسعت مقلتيها بذهول، كيف تجرأ ونطق كلمـ.ـا.ته الوقحة؟ كزت أسنانها بغضب شـ.ـديد وصاحت معنفة:
_ أنت بتعمل كل دا ليه؟ مش دي كانت فكرتك؟
مال يوسف برأسه قليلاً واسترسل ببرود:
_ وأنتِ مرفضتيش كأنك ما صدقتي
صعقت مما وقع على مسامعها، فكيف يلقي عليها اللوم وهو المتسبب الرئيسي فيما حدث، لم تستطيع التغاضي بسهولة عن إيلامه واقتربت منه ثم ضـ.ـر.بته بقوة في صدره وهي تصيح بقلب يتألم:
_ أنت واحد معندكش قلب ولا بتحس، أنت لو بتحس كنت فهمت إني بـ.....
صمتت ولم تواصل، وضعت راحتى يدها أعلى وجهها وانهمرت بالبكاء، كان يريد محاوطتها وضمها لصدره، فلم يكن بينهما مسافة، كانت قريبة للغاية، فقط يريد استعادتها من جديد.
رفع يده وأزاح يديها الصغيرة عن وجهها فنظرت إليه بعينين حمراوتين من شـ.ـدة البكاء، مال برأسه فبات أقرب لوجها وسألها بهدوء:
_ كنت فهمت إنك إيه؟
ابتلعت ريقها، وازدادت وتيرة أنفاسها حتى شعرت أنها لم تعد تستطيع التنفس، لم يرفع يوسف نظريه عن نقطة تركيزه إلا وهي شفتيها، كان عقله ثملاً ويريد الارتواء لعله يعود لرشـ.ـده، اقترب أكثر منها فشعر بحرارة أنفاسها و..
↚
"يوسف"
هتفت بإسمه بنبرة جهورية، تراجعت لينة للخلف مسرعة، وكذلك استقام يوسف في وقفته، نكس رأسه فلم يتحلى بالقوة التي سيواجه بها والدته، لعن ضعفه الذي وضعه في تلك المواقف.
هـ.ـر.بت لينة من الغرفة دون أن تنظر إلى السيدة ميمي، دلفت غرفتها وأوصدت الباب ثم أخذت تستنشق الصعداء، كادا أن يقعا في أمر محرم! لو لا تدخل السيدة ميمي! حتماً رأت وضعها ولن تمرق الأمر.
وضعت لينة يدها أعلى صدرها شاعرة بالإختناق يراودها تدريجياً حتى تملك منها، ركضت نحو النافذة تستنشق الهواء لربما تعود لرشـ.ـدها.
في الغرفة المجاورة، أدلفت ميمي بخطاها بقرب يوسف حتى وقفت مقابله، حدجته بنفور وهي ترى صدره بـ.ـارزاً أسفل قميصه، عقلها لا يتوقف عن التفكير فيما رأته؟ ماذا كان يفعلان ليتقربا بهذا الشكل!
حاولت طرد أفكارها التي يوسوسها لها شيطانها، تنهدت وقالت بجمود:
_ ارفع راسك وبص لي يا يوسف، بص في عيني
حاول النظر إليها لكنه فشل، فكيف سيواجهها وهو متسبب في كارثة، فاضطرت هي إلى رفع رأسه بيدها، كان يهرب من عينيها فواجهته هي:
_ بص لي يا يوسف
صوب بصره في عينيها، حاول جاهداً السيطرة على عبراته والتماسك قدر المستطاع، ملست ميمي بيدها على وجنته التي قامت بصفعها ثم تسائلت بنبرة مهزوزة تهدد بالبكاء:
_ و.جـ.ـعك؟
سؤالها هدm حصون تمالكه، وانهمرت دmـ.ـو.عه فتفاجئت والدته بما تراه، ملست على وجهه بحنو وقد شاركته في بكائه وأردفت:
_ أنت بتعيط يا يوسف؟ دا أنت معيطش من يوم مـ.ـو.ت أبوك الله يرحمه، للدرجة دي و.جـ.ـعتك عشان تعيط؟
مسح بأنامله على عينيه وأردف بصوت متحشرج:
_ أنا كويس يا أمي
لم ترضيها إجابته، فتسائلت باهتمام:
_ هحاول أصدق، ليه عملت كدا مع زياد أنت عمرك ما مديت ايدك عليه يبقى يوم ما يحصل تعمل اللي عملته دا؟
آلامه قلبه للغاية على ما اقترفه في حق أخيه، أخرج تنهيدة مهمومة ثم توجه نحو الفراش وجلس على طرفه وقص عليها ما رآه:
_ دخلت عليه لقيته بيتهجم على لينة!!
اتسعت مقلتي ميمي بصدmة، لا تصدق أن صغيرها يفعل ذلك، اقتربت منه محاولة تبرير موقف الآخر:
_ أكيد أنت فهمت غلط مش يمكن...
قاطعها يوسف بنبرة حادة:
_ أنا شوفته بعيني وهو بيحاول يقرب منها وهي بتبعده عنها وسمعتها وهي بتهدده إن لو مخرجش هتصوت، مشوفتش قدامي بعد كدا وحصل اللي حصل
ابتلع ريقه قبل أن يسترسل بعض المبررات:
_ وأنا وعدتها يا أمي إن مفيش حاجة هتتغير، وكتب الكتاب مش هيغير حاجة وتعامل زياد معاها هيفضل زي ماهو، وأنا عمري ما وعدت وخلفت بوعدي
أخرجت السيدة ميمي زفيراً مهموماً وهتفت معاتبة:
_ هو غِلط وغَلط كبير، بس كنت تفهمه غلطه بالراحة يا يوسف من غير ضـ.ـر.ب، لأن في الآخر مفيش حرمانية دي بقت مـ.ـر.اته!
وكأن الكون كله قد دعس على قلبه، رفض البتة كلمة زوجة التي قيلت في حق لينة لرجل آخر، انتفض من مكانه بصورة أرعـ.ـبت والدته وصاح بانفعال:
_ متقوليش مـ.ـر.اته، دي مجرد حتة عيلة في أمانتي!!
ثورته كانت تقلقها وتوضح بعض الصور الناقصة في عقلها، حاولت تهدئه روعه حتى يُمحى الخلاف الحادث وقالت بنبرة حنونة:
_ طيب أهدى يا يوسف، بس أنا عايزاك تنزل تدور على أخوك ومترجعش غير وهو في ايدك ومتصالحين، راضيه يا يوسف أنتوا ملكوش غير بعض
تلفت حوله مردداً بفتور:
_ أنا معرفش هو فين
نهضت هي واقتربت منه ثم وضعت يدها على كتفه وأردف بحنو:
_ دا أخوك يعني أكيد عارف الأماكن بتاعته اللي ممكن يروح فيها، يلا يا حبيبي ربنا يهديكم
تركته وغادرت الغرفة بينما أوصد هو عينيه لبرهة يستعيد رونقه من جديد، ثم بدل ثيابه بأخرى وخرج من غرفته فوقع تغريدها بصوت باكي على مسامعه، توقف ومال برأسه مستنداً على جدار غرفتها ليستمع إليها:
يا من هــــواه أعــــزه وأذلـني
كيف السـبـيـل إلى وصـالك دلـنــي
تركـتـني حيـران صـباً هــائمــاً
أرعى النجوم وأنت في عيش هني
أنت الذي حلفتني وحـلـفـت لي
وحـلـفـت أنك لا تـخـون وخـنـتـني
وحلفت أنك لا تميل مع الهـوى
أين اليـمـيـن وأين مـا عـاهـدتـنـي
لأقعـدن على الطـريـق وأشتكي
وأقـول مـظـلــوم و أنت ظـلمـتـني
ولأدعون عليك في غسق الدجى
يـبـلـيـك ربي مـثـلـمــا أبلـيـتـنــي
غردت آخر كلمـ.ـا.تها بصوت متحشرج غير مفهوم لفرط بكائها التي لم يتوقف، فكان قلبه يـ.ـؤ.لمه بشـ.ـدة لأنه لا يستطيع فعل شيء الآن، وما الذي في استطاعته بعد ما تسبب به، لم ينتظر دقيقة أخرى وغادر المنزل سريعاً ليبدأ في البحث عن أخيه.
***
استيقظ بلال من نومه عازماً على عودته للعمل، يكفي ملل لهذا الحد، ارتدى ثيابه وخرج من الغرفة ظناً أنه سيراها، رسم الجمود على تقاسيمه وولج المطبخ لكي يعد طعاماً له قبل نزوله لكنه تفاجئ بعدm وجودها.
أعد بعض الشطائر وخرج باحثاً بعينيه عنها فلم تكن في الأرجاء، حتماً ليست غافية للأن، رفع يده وتفقد ساعته فإذا بالساعة العاشرة صباحاً، عقد حاجبيه وعينيه صُوبت مباشرة إلى غرفتها.
كاد أن يعيد فعلته البـ.ـارحة ليطمئن عليها لكن غروره منعه، تابع سيره إلى الأريكة وتناول شطائره حتى انتهى منها ثم غادر.
قبل أن يستقل سيارته لمح طيف يوسف غافياً في سيارته، تعجب من أمره وتوجه نحوه فكان الآخر مستنداً على طارة سيارته، دق بلال على زجاج النافذة فانتبه عليه يوسف.
ترجل من السيارة والإرهاق كان مرسوماً على تقاسيمه، فتسائل الآخر بقلق:
_ نايم في العربية ليه؟
أردف كلمـ.ـا.ته بصعوبة فلم يكن لديه القدرة على الحديث:
_ كنت بدور على زياد وملقتهوش..
عقد بلال ما بين حاجبيه فلم يستشف ما وراء كلمـ.ـا.ته وسأله مستفسراً:
_ يعني إيه بدور على زياد، هو راح فين؟
فرك يوسف عينيه وتثائب بقوة قبل أن يردف مختصراً:
_ حوار كبير، وأنا مش قادر أتكلم
تركه يوسف وصعد إلى منزله تحت نظرات بلال المتعجبة، وقف يوسف أمام الباب متردداً في الدخول، فكيف سيدلف بمفرده دون أخيه، حتماً تنتظر والدته عودتهما سوياً بفروغ صبر.
قرر الصعود إلى سطح البناية والهروب من عينيها فلا يتحلى بالقوة حتى يواجه عينيها ويقع إيلام آخر على عاتقه، توقف حينما سمع همهمـ.ـا.ت تصدر من الأعلى، تزداد كلما اقترب من السطح.
تفاجئ بجلوس أخيه في زاوية يبكي، رمقه بشفقة لحالته وراحة لأنه وجده في النهاية، اقترب بخطاه منه بحرج شـ.ـديد، مسح زياد عبراته فور رؤية شقيقه، احتدت ملامحه وتصنع القوة مطالعاً الفراغ أمامه بعبوس.
جلس يوسف بجواره أرضاً، ساد الصمت لدقائق قبل أن يقطعه يوسف بحديثه:
_ أنا آسف، عارف إني قسيت عليك ومكنش ينفع أعمل كدا، بس معرفتش أمسك اعصابي لما شوفتك..
أخفض زياد رأسه بحرج شـ.ـديد، فتابع يوسف بنبرة منهكة:
_ لينة أمانة عندنا يا زياد وهتفضل أمانة والمفروض نحافظ عليها مش نستغل الفرصة كأنها واحدة من اللي أنت تعرفهم!!!
أوصد يوسف عينيه محاولاً كبح غضبه، فلا يريد أن يخسر أخيه، عمل جاهداً على نفسه لكي تظهر نبرته هادئة رغم بركانه الثائر داخله كلما تذكر فعلته.
لكزه يوسف في كتفه قبل أن يردد ممازحاً:
_ متزعلش بقى، ياض أنت إبني وواجب الأب لو ابنه غلط يربيه
لم يبدي زياد ردة فعل، فنهض يوسف ثم مد يده له منتظراً تمسكه به، لم يمر الكثير حتى مد زياد يده وتمسك بيد يوسف فساعده على النهوض ثم ضمه بقوة إلى صدره وعانقه بحرارة:
_ أنا آسف
أبعده عنه ثم قبل جبينه وهتف:
_ صافي يا لبن؟
تقوس ثغر زياد ببسمة وأجابه:
_ حليب يا قشطة
تبادلا الأخوين الإبتسام ثم أحاط يوسف كتفه فانحنى زياد ليكون في مستوى طول أخيه، حرك يوسف رأسه مستنكراً ذاك الطول اليافع وردد مزاحاً:
_ أقصر ياخويا أقصر، والله عيب في حقي
تبادلا الضحكات حتى وقفا كليهما أمام الباب، فتحه يوسف فركضت والدته نحوه، دقت أسارير السعادة قلبها حينما رأتهما يطلان يد بيد، أسرعت نحوهما وقامت باحتضانهما معاً هاتفة بسعادة:
_ أيوة كدا فرحوا قلبي، ربنا يحميكم يارب ويخليكم لبعض
آمن كليهما على دعائها، بينما خرجت لينة على صوتها، فشعرت بالراحة لصلحهما، لم تقف كثيراً وعادت إلى غرفتها تحت نظرات يوسف الذي رآها.
ربت على ظهر أخيه وقال بنبرة نادmة:
_ أدخل خد لك دوش سخن عشان أثر العلقة يروح
غمز إليها فرمقه زياد بغيظ ثم توجه إلى المرحاض ليحظى باستحمام ساخن يهدئ من آلام جسده، توجه يوسف إلى غرفته ولينة كانت شاغله الأساسي، لكن كيف سيواجهها بعد أن كاد يستسلم لشيطان غرائزه.
كان ضعيف النفس وقوته هزيلة، كان سيقع في إثمٍ كبير، أبطئ من حركته عنـ.ـد.ما اقترب من غرفتها وسمع كلمـ.ـا.تها وهي تقول:
_ بقولك مش هعرف أقول لحد حاجة دلوقتي، ربنا يسهل ولما ألاقي الوضع هادي أشوف حوار التقديم دا
أنهت المكالمة فطرق يوسف بابها، فتحت له ثم أخفضت رأسها بحياء فأمرها قائلاً:
_ اجهزي عشان نروح نقدm في الكلية
لم ينتظر رداً منها بل أولاها ظهره وغادر، بدلت هي ثيابها سريعاً وخرجت تنتظره في الخارج، تلك الأثناء خرج زياد من المرحاض فلمحها، اقترب منها بخطوات خجلة، حمحم ليجذب انتباهها ثم هتف نادmاً:
_ أنا آسف على اللي حصل امبـ.ـارح، معرفش عملت كدا إزاي
لم ترفع رأسها بل اكتفت بالرد دون النظر إليه:
_ محصلش حاجة..
أصر زياد على تصليح ما اقترفه:
_ يعني مش زعلانة؟
رفعت لينة رأسها وبعبوس هدرت:
_ لو وعدتني اللي حصل دا مـ.ـيـ.ـتكررش تاني!
أسرع في قوله:
_ والله مش هيتكرر تاني..
أؤمـ.ـا.ت برأسها فلاحظ ثيابها وسألها بفضول:
_ أنتِ رايحة فين؟
بإقتضاب أردفت:
_ راحة أقدm في الكلية مع يو...
قاطعها زياد بحماس:
_ طيب كويس استني هلبس وأجي معاكي
أولاها ظهره وتوجه إلى غرفته فتقابل مع شقيقه، مد له يده وقال:
_ يوسف هات مفتاح العربية هروح مع لينة تقدm في الكلية
تفاجئ يوسف بطلبه، وزع أنظاره بينه وبين يده الممدودة، ابتلع ريقه ثم ناوله مفتاح سيارته، كانت لينة تتابع ما يحدث في ذهول، كيف قبل بهذا؟ لقد كانت المرة الأولى لعدm مشاركته لها في أمر.
تبادلا النظرات فكان منهم نظرات معاتبة لاستغنائه عنها ونظرات قليلة الحيلة لا تقدر على فعل شيئ، هو فقط لا يريد خسارة أخيه يكفي ما قام به ليلة أمس.
حضر زياد والحماس كان كافياً على ملامحه وتعامله، اختفيا خلف الباب ولم يبرح يوسف مكانه، فلقد اتقدت نيران الغيرة داخله، كيف سمح له بأخذها والإنفراد لها؟
كيف يدعي الحب وهو لا يقـ.ـا.تل من أجله؟ المسألة كانت ستكون مختلفة لو لم يكن أخيه طرفاً في الأمر، خرج من شروده على صوتها المتسائل:
_ واقف كدا ليه يا يوسف؟
التفت إليها وطالعها لوقت دون حديث، حمحم فخرج صوته أجش:
_ لا مفيش، أنا نازل الشغل، لينة راحت مع زياد تقدm في الكلية..
كان يردف كلمـ.ـا.ته بتجهم شـ.ـديد، لم ينتظر رداً منها وغادر، فوقعت هي في حيرة من أمره، تشعر وكأنه يخفي شيئاً عظيم عنها، لم يكن يوسف ذاته فهي حافظة لملامحه وأسلوبه وإن تغيرت تكن مُلمة بذلك، دعت له بصلاح الحال وعادت إلى المطبخ تعد وجبة الغداء.
***
رنين تلاه رنين آخر دون جدوى، لا يوجد إجابة، لقد تسلل القلق داخلها، لماذا لا تجيبها؟ زفرت أنفاسها بضجر مخالط للقلق وتمتمت بحنق:
_ ردي بقى يا إيمان..
بعد مدة ليست بقصيرة أجابتها بنعاس:
_ صباح الخير يا ماما
نهضت الأخرى من مكانها وعاتبتها قائلة:
_ أنتِ مش بتردي ليه مش معقول القلق اللي بقيت فيه بسببك دا
تثائبت إيمان وقالت بلامبالاة:
_ كنت نايمة..
كان القلق يزداد داخل قلبها، فتحدثت هادية بإصرار:
_ طب قومي اغسلي وشك وأنا معاكي خليني أطمن عليكي بدل التوهة اللي أنتِ فيها دي
نهضت إيمان وقامت بغسل وجهها ثم خرجت من الغرفة وتابعت مكالمتها مع والدتها بنبرة هادئة:
_ أنتوا عاملين إيه؟
"إحنا كويسين، بس أنتِ اللي مش كويسة معرفش حصلك إيه؟ جوزك فين من كل دا؟
أردفتهم هادية بحنق بينما كادت الأخرى أن تخبرها بعدm معرفتها بمكان زوجها إلا أنها قرأت الورقة التي تركها لها على الثلاجة فأجابتها قائلة:
_ نزل الشغل..
صاحت هادية بعدm إعجاب لتصرفاته:
_ شغل إيه؟ وليه نفس يشتغل كمان!
قهقهت إيمان بسخرية ثم تحولت ضحكاتها تدريجياً إلى بكاء مرير، تفاجئت هادية ببكائها وتوجست خيفة في نفسها:
_ ريحي قلبي وقوليلي مالك؟
تحدثت إيمان من بين بكائها بنبرة غير مفهومة:
_ قولتيلي وافقي وهتنسى يوسف بيه، قولتيلي هيعوضك وقولتيلي كمان إنه بيحبني! كل دا طلع كدب، دا أنا بدأت أخد مهدئات عشان مشوفوش وميجـ.ـر.حنيش، بقيت بهرب منه ومن كلامه اللي زي السِم، بهرب من نفسي عشان عشمت نفسي مرة تانية وعشمي راح على الفاضي، أنا تعبت اوي تعبت
تركت إيمان هاتفها من يدها فسقط أرضاً، سقطت بجواره واستندت برأسها على الثلاجة وواصلت بكائها الموجوع، كانت تتألم وتطلق آهات من آن لآخر، أجبرت والدتها على البكاء على حالتها.
قلبها يتألم على فلذة كبدها، احتدت تعابيرها وشعرت بالكره يطغى عليها، حاولت مراراً الإتصال على بلال لكن هاتفه كان مغلقاً، كزت أسنانها بغضب شـ.ـديد ولم تنتظر لحظة بل بدلت ثيابها سريعاً وهي تتوعد لذاك الوغد أشـ.ـد الوعيد.
***
في مكتبه، يحاول إلهاء عقله عنهما، لكنه يعود دوماً إليهما، كيف يقضيان الوقت معاً، هل يتسامران؟ هل تخبره بماذا تتمنى وتريد تحقيقه؟
هل يتطاول عليها؟ أم أنه يتمتع برؤيتها وهي إلى جانبه! هل سيسيران يد بيد؟
عقله سيجن، سيصاب بالجنون حتماً إن ظل يفكر فيهما، نيران غيرته متقدة لا تهدأ وكذلك بركان غضبه لا يخمد، فماذا يفعل حتى يهدئ من مشاعره المحترقة؟!
تذكر أحدهم فلم يتردد في مهاتفته، حتي جائه الرد بعد قليل:
_ أستاذ يوسف
بجدية قال:
_ أنا عايزك تجيلي يا عيسى وياريت النهاردة أنا وعدتك إني هشغلك معايا ومحتاجك ضروري
بسعادة وعدm تصديق هتف الآخر:
_ ساعة زمن وهكون عندك
أنهى يوسف المكالمة وتفاجئ بإقتحام أحدهم المكتب، كاد أن يفرغ شحنة غضبه على الدخيل إلا أنه تريث حينما رآها زوجة خاله، نهض عن مكانه وردد بغرابة:
_ مرات خالي، اتفضلي
كان وجهها لا يبشر بالخير، رفضت الجلوس وبنبرة لا تحتمل النقاش صاحت:
_ تعالى وديني مكان شغل صاحبك
أثارت غرابته حول اندفاعها وحاول معرفة الأمر:
_ هو فيه حاجة حصلت؟
تغاضت عن سؤاله وهتفت بإقتضاب:
_ هتوديني ولا لأ؟
أومأ بالإيجاب ثم أسبق للخارج واستعار سيارة من أحد الموظفين وانطلق بها قاصداً مكان عمل بلال، حتماً اقترف كارثة لكي تكون زوجة خاله في تلك الحالة التي لا يرثى لها.
حاول مرارً مهاتفة بلال لكي يخبره بقدومهم لكن هاتفه كان مغلق، فتفاجي بجمود قولها:
_ متحاولش، حاولت قبلك كتير
حدجها يوسف ثم تابع قيادته حتى وصل لمرادها، صف السيارة أمام المعرض وأشار إليه:
_ دا المعرض اللي هو واقف فيه
ببرود أردفت وهي تطالع المكان:
_ شكراً يا يوسف، ارجع لشغلك معلش عطلتك
لم يكن عليه مرافقتها للداخل بعد جملتها التي تعني عدm تدخله في الأمر، ترجلت وداهمت المكان بوجه عابس باحثة عنه، قابلها أحد العمال وسألها باحترام:
_ حضرتك محتاجة حاجة؟
بجمود هتفت:
_ بلال فين؟
"أستاذ بلال في مكتبه، تحبي..."
لم يكمل جملته فكانت قد صعدت الأدراج مهرولة، أسرع العامل خلفها وهو يناديها:
_ يا فنـ.ـد.م لحظة، طيب نديله الخبر الأول
لم تكترث له وتابعت صعودها ثم اقتحمت مكتب بلال الذي تفاجئ بوجودها، ولج خلفها العامل ورمق بلال بخوف:
_ والله قولتلها نديله خبر الأول بس هي...
قاطعه بلال أمراً إياه:
_ خلاص روح أنت
وجه نظريه نحوها ورحب بها بحفاوة:
_ اتفضلي يا طنط، إيه الزيارة الجميلة دي
خرجت هادية عن صمتها وصاحت بنبرة مرتفعة:
_ اسمع يابني، أنا وافقت أجوزك بنتي عشان شوفت فيك الراجـ.ـل الطيب اللي هيتقي ربنا فيها، لكن اللي بيحصل غير كدا وطلعت لا تعرف ربنا ولا راعيت أنها خارجة من بيت أبوها معززة مكرمة يعني مجتش بيتك عشان تتهان، إيه مشكلة بنتي اللي خليتك تقلب عليها؟
إنها حبت؟
عايز تفهمني أن أنت مكنش ليك علاقات قبل الجواز؟
طب هي كل اللي عملته أنها حبت وخبت حبها جواها، مأجرمتش يعني، ومتحاولش تفهمني إنك طول السنين دي كلها مع صاحبك ومقالكش أنه كان رافض بنتي،يعني لا مشت معاه ولا اتكلموا حتى،
إيه الذنب اللي عملته عشان يكون دا جزائها؟
أخرتها تاخد مهدئات عشان اللي أنت بتعمله؟
لما تاخد مهدئات من أول أسبوع جواز أومال بعد كدا هتعمل إيه؟ مش بعيد تفكر تنتحر!!
خفق قلب بلال بذعر عند سماعه كلمة انتحار، شعر بغصة في حلقه ولم يستطيع الرد عليها، فكان شاعراً أنه عارياً أمامها، لم يجرأ على مواجهتها فظل منكس الرأس يصغي لكلمـ.ـا.تها دون تعقيب.
بينما تابعت الأخرى مسترسلة:
_ أنا كنت بقولها نستنى فترة ولو حالكم متصلحش تطلقوا عشان كلام الناس بس أنا أقسم بالله ما عاد هاممنى لا ناس ولا غيره، بنتي عندي أهم، مش هستنى لما يحصلها حاجة وأرجع أقول ياريت اللي جرا ما كان، أنا هطلع الوقتي على البيت وأخدها معايا، أرجعها لبيتها معززة مكرمة ولا أنت فاكر إن ملهاش أهل يقدروا يحموها؟
وتبقى تتكلم مع أبوها تتفقوا على الطـ.ـلا.ق.
هدأت رويداً رويداً بعدmا أخرجت مافي جوفها، ألقت عليه نظرة أخيرة ثم أولاته ظهرها لتغادر فتحرك هو نحوها مسرعاً، وقف أمامها مانعاً إياها من المغادرة.
حاول بلال جاهداً أن يهديها بكلمـ.ـا.ته:
_ مفيش طـ.ـلا.ق هيحصل، أنا عمري ما هسمح بكدا ولا هخليها تبعد عني، أنا كمان مش ذنبي إني بحبها، أنتِ مت عـ.ـر.فيش أنا عشت قد إيه أتمنى لحظة وقوفي أنا وهي في بيت واحد لوحدنا، كنت بنام بحلم بيها، أصحى أفكر فيها، متتخيليش أنا اتخذلت إزاي وقت ما هي نطقت بإسم واحد تاني وهي في حـ.ـضـ.ـني!
مش هنكر إني كنت عارف إنها بتحب يوسف وقاوحت وقولت هقدر أنسيهولها، بس الواقع كان أصعب بكتير من مجرد خيالات وهمية رسمتها في عقلي
أنا لسه بحبها بس مش قادر، كل ما أبص لها صوتها وهي بتهمس بإسمه بيتردد في وداني بيخليني اتجنن، أنا في الآخر راجـ.ـل ودmي حر، مببقاش شايف قدامي وأي حاجة أنا بعملها عشان بحبها عايز أو.جـ.ـعها زي ما و.جـ.ـعتني عشان تحس وتقدر أنا في إيه وحاسس بإيه
تقوس ثغر هادية للجانب مشكلة بسمة ساخرة ورددت مستاءة:
_ أنت فاهم الحب غلط خالص، اللي بيحب بجد عمره ما يوجـ.ـع اللي بيحبه بالعكس دا يستحمل هو أي و.جـ.ـع ولا إنه يشوف اللي بيحبه موجوع مش يكون هو السبب فيه!
هدأت من نبرتها حينما رأت عيناه تهدد بالدmـ.ـو.ع، لم تريد أن تقسو عليه أكثر من ذلك وقالت بهدوء:
_ أنا عارفة إنك ملكش ذنب، وهي برده ملهاش ذنب، نصيبكم أنتوا الإتنين كدا، بس طلاما فيه حب زي ما بتقول يبقى نعدي ومش مرة لا دا إحنا نفضل نعدي ونتغاضى طول اليوم طلاما اللي بيحصل مش بيمس كرامتنا ولا بيهينا، منعديش عشان المركب تمشي لأ، نعدى عشان نفسنا متكونش عايشة في صراع طول الوقت، طلاما نقدر نعفو يبقى منطولش في الزعل والخصام ونرد الإساءة بالإساءة، عارف القوامة إيه هي يا بلال؟
أجبر أذنيه على الإصغاء جيداً فتابعت هي:
_ مش بس إنك تصرف فلوس، تصرف قصاده حنان وطيبة وحب وعطاء، تحتوي أي موقف ممكن يوصل لمشاكل كبيرة، تديها أكتر ما تاخد، تخليها أولى من نفسك، تبدأ أنت بالصلح حتى لو كانت غلطانة ومفيش مشكلة لو فهمتها غلطها بهدوء من غير صوت عالي، الراجـ.ـل اللي بيزعق دا راجـ.ـل ضعيف بيعلي صوته بس عشان يفرض سيطرته ويبان أنه قوي وهو ولا قوي ولا نيـ.ـلـ.ـة، متنيمهاش زعلانة وحسسها إن زعلها غالي وإنها متهونش عليك، قصاد كل اللي هتعمله دا هي هتديك كل حاجة عندها، هتديك قلبها وعقلها، وهتحترمك وتكبرك وتصونك، وتطيعك وكل طلباتك أوامر حتى لو هي مـ.ـيـ.ـتة من التعب،
أنا عمري ما حبيت خراب البيوت، بس دي بنتي، عندي تقعد جنبي ولا إنها تعيش تعيسة!
أخرج بلال تنهيدة على مهل، فكلمـ.ـا.تها قد محت أي غضب داخله، وتبدل بحماس شـ.ـديد وود أن يبدأ حياته من أول وجديد، ابتلع ريقه وأردف برجاء:
_ لو بتحبي بنتك بلاش تعملي اللي قولتي عليه، وادينا فرصة نتأقلم على بعض ونتعرف على بعض، اللي أقدر أقولهولك اطمني عليها والله ما أقدر أأذيها أبدا، كل اللي محتاجة فرصة ليا وليها نعيد فيه ترتيباتنا يمكن ننجح!
بعد مدة أخذتها في التفكير قالت:
_ بس اوعدني تاخد بالك منها مش عايزة أكون قلقانة زي ما أنا قلقانة الوقتي كدا
ابتسم لها وأعطاها وعداً:
_ اطمنى، أوعدك إن كل حاجة هتتغير
شهيقاً وزفيراً فعلت هادية ثم رتبت على ذراعه بحنو:
_ ربنا يهدي سركم يابني
أصر بلال على توصيلها فقبلت تحت ضغط منه، بينما ذهب هو للتسوق، يريد شراء بعض المستلزمـ.ـا.ت التي يحتاجها المنزل حتى يعود إليه.
***
خرج كليهما من الجامعة، لم تتغير ملامحها قط منذ مرافقته لها، بينما هو صاح بحماس:
_ مبروك مقدmاً يا باشمهندسة
بإقتضاب رددت:
_ الله يبـ.ـارك فيك
استقلا السيارة ثم قام زياد بالإتصال على أحد الأرقام وحادثه بعد لحظات من الإتصال:
_ إزيك يا علي، أنا تمام الحمد لله، أنت فين دلوقتي؟ تمام إحنا جاين مسافة الطريق
وضع هاتفه أمامه ثم مال برأسه لليسار ناظراً إليها وتسائل بجدية:
_ مش هتسألي كنت بكلم مين؟
نفت بحركة من رأسها مرددة ببرود:
_ الموضوع ميخصنيش عشان أسأل
أخذ ملفاً دائرياً كان أمامه وأردف:
_ ميخصكيش إزاي، دا علي أخوكي!!
التفت إليه ورمقته بريبة قبل أن تنطق:
_ مين دول اللي هيقابلوه؟
أجابها بجدية:
_ أنا وأنتِ..
احتدت تعابيرها فأسرع هو في توضيح الأمر:
_ علي أخوكي ولازم تقعدي معاه وتفهمي منه بدل ما أنتِ سايبة عقلك يألف أفلام من نفسه كدا
تأففت بضجر وصاحت بعصبية:
_ أنا مش جاهزة أقابله، وبعدين يوسف مش معايا و..
قاطعها زياد بحدة:
_ بس أنا معاكي..
مال برأسه ناظراً إليها وتابع:
_ وياريت تتعودي على كدا عشان أغلب المشاوير إن مكنتش كلها أنا اللي هكون معاكي
عقدت لينة ذراعيها بتمرد، كانت ضجرة من ذاك الدخيل كيف عليه تحمله طيلة الوقت، شعرت أنها أخطأت حينما عاندت أخيها وقبلت بإتمام عقد القِران إنها لا تتحمله منذ أول يوم، ماذا ستفعل بقية الأيام؟
وصلا حيث كان مبنى نادي رياضي هائل الحجم، وكان علي في استقبالهما، كان مبتسماً بسعادة لرؤية توأمه، اقترب منها ثم عانقها بحرارة لكنه قابل منها برود عكس الحنين الذي يطغي داخلها، تود معانقته بشكل متبادل لكن ليس بتلك السهولة، عليها معرفة أسبابه أولاً وعليه يترتب علاقتهما فيما بعد.
تفاجئت لينة بوصول يوسف، تقوس ثغرها تلقائياً بإبتسامة عـ.ـذ.بة تعكس سعادتها الداخلية لوجوده، بينما لم تكن مفاجأة سارة بالنسبة لزياد، فهو يريد الهروب من أخيه بشتى الطرق، يريد أخذ حصته معها حتى تعتاد وجوده لكنه دوماً يلقاه ويقطع عليه لحظاته.
تنهد زياد بضيق وسأله مستفسراً:
_ أنت عرفت منين إننا هنا
قام علي بالرد عليه من الخلف:
_ أنا اللي كلمته وقولتله إننا هنتقابل هنا، مينفعش يوسف ميكنش موجود
اكتفى يوسف ببسمة لم تتعدى شفتيه وهو يرى حبيبة فؤاده تقف بجوار أخيه، حاول عدm النظر إليها قدر المستطاع لكن عينيه تفتقد إليها كثيراً، كان يفشل ويطالعها بهُيام شـ.ـديد، بينما هي شعرت بالإطمئنان لوجوده ولم تستطيع إخفاء ذلك فكان واضحاً للجميع خصيصاً زياد الذي لاحظ هذا التحول الكبير منذ وصول أخيه لكن ما باليد حيلة لم يريد تعكير صفو اليوم وهو من رتب له.
جلس أربعتهم حول المائدة في الداخل، قام علي بطلب بعض المشروبات الطازجة لهم ثم بدأ يقص عليها ما مر به منذ وصوله بعد أن أخذ شهيقا عميق:
_ طبعاً أنتِ مضايقة مني إني مسألتش عليكي طول السنين اللي فاتت، وطبعاً فاكرة إني كنت عايش حياتي وناسيكي
أخفض رأسه بآسى شـ.ـديد وفرك أصابعه محاولاً عدm البكاء وتابع بنبرة مهزوزة خفق قلبها لأجله:
_ أول ما وصلت لقيت عمك واقف واستقلبني ووقتها كلم يوسف طمنه عليا، أخدني البيت وقابلت مـ.ـر.اته وكان واضح عليها إنها رافضة وجودي، بس مكنش في أيدي حاجة أعملها أنا مش مجرد في بيت جديد عليا دا أنا دولة تانية معرفش فيها أي حاجة
أخرج زفيراً ليكمل مالم ينهيه:
_ شوفت بنته ودي اللي كانت مهونة عليا المعاملة البـ.ـاردة ورمي الكلام طول الوقت، كانت أصغر مني بشهور
تعجب يوسف من ذكره لوجود فتاة فهو على حد علمه أن عمه لديه صبي وليس فتاة فردد متسائلاً بغرابة شـ.ـديدة:
_ بنته! بس دا قالي إنه معاه ولد
تقوس ثغر علي ببسمة متهكمة قبل أن يوضح:
_ لا ماهو قالك كدا عشان تبعتني أنا ولما أروح يرميني زي ما عمل!! أصل هيرمي بنت في الشارع إزاي؟ عيب برده!!
أردف آخر جملته بسخرية تحت نظرات الآخرين المذهولة، فكم كان دنيئاً ذاك الرجل، ولم يكف يوسف عن تأنيب ضميره فهو من أصر على سفره، بينما انعسكت تعابير علي وابتسم بخفة عنـ.ـد.ما تذكرها وتابع:
_ كانت جميلة أوي إسمها كيندا، هي اللي كانت بتجيبلي الأكل وقت ماهما يناموا..
قاطعته لينة مذهولة مما استنتجته ورددت متسائلة:
_ هما مكنوش بيأكلوك؟
راوده شعور السعادة لكونها تبادلت معه الحوار بتأثر وأجابها بتلقائية:
_ عشان مبقاش مبالغ هما كانوا بيحطو الأكل وينادوا عليا بس لو اتاخرت ٥ دقايق كان الأكل بيتشال
نكس رأسه بحـ.ـز.ن وشفقة على مر به:
_ آل يعني بيعودنوني على النظام وإن كل حاجة ليها وقتها فكنت معظم الوقت مش باكل
تابعت لينة أسئلتها بفضول شـ.ـديد لمعرفة بقية القصة:
_ وأنت ليه مكنتش بتخرج وقت ما ينادوا عليك، ليه كنت بتتاخر؟
بهدوء شرح لها:
_ ببساطة لأن الدراسة كانت بالفعل شغالة، وأنا رايح دولة أجنبية بمنهج مختلف تماماً عن اللي كنت باخده بلغة جديدة مكنتش أفقه عنها حاجة، فالموضوع كان محتاج مني جهد كبير عشان أقدر أفهم وأكون في مستوى زمايلي وهناك مفيش دورس في كورسات بس في الصيف بس، الموضوع كان صعب عليا ومكنش حد بيساعدني فكنت بفضل المذاكرة على حساب الأكل، قعدت فترة كبيرة مش متأقلم وحسيت إني مضغوط ومطلوب مني أفهم ناس مش فاهم حتى قواعد لغتهم، حاجات كتير مريت بيها لوحدي، لغاية ما حسيت إني خلاص ضعت واتمنيت حياتي تنتهي لأني مكنتش قادر أسابقها ولا حتى أمشي معاها، بس بعد حوالي سنتين كنت اتأقلمت كنت بروح كورسات في الصيف عشان أقدر أساعد نفسي في الدراسة وعشان أفهم الناس هناك ومش عايز أقولك إن مصاريف الكورسات دي أنا اللي كنت بدفعها!
جحظت عيناي لينة وهتفت والدmـ.ـو.ع تتسابق على مقلتيها:
_ بتدفعها إزاي؟
شاركها علي البكاء وهو يجيبها بصوت متحشرج:
_ كنت بشتغل، ماهو مكنش بيصرف عليا، ولأني لسه صغير ومش معايا شهادة والشهادة دي هناك أهم منك شخصياً كنت بشتغل في مطابخ المطاعم بغسل أطباق وأغسل حمامـ.ـا.ت كل دا عشان أجيب مصروف أقدر أخد بيه كورسات، الحياة هناك غالية أوي وكل حاجة ليها مقابل مفيش حد بيعطف على حد ولا بقى أنت عمرك صغير ولا الكلام دا وكنت بشتغل عند ناس معينة لأن هناك مرفوض شغل اللي سنهم صغير فكنت بلاقي صعوبة عشان حد يقبلني عنده
مسح علي عبراته وحاول التحلى بالقوة أمامهما وتابع مسترسلاً:
_ مكنش عندي وسيلة أوصلك بيها، كانت كيندا بتحاول تساعدني من خلال موبايلها بس مرة مامتها عرفت من سجل البحث بتاعها ومن يومها رفضت تساعديني تاني لأنهم أخدوا الموبايل وفضلوا فترة مقفلين عليها كل حاجة وبدأوا يهددوها لو ساعدتني تاني هيتمنع عنها حاجة بتحبها فبدأت تبعد عني لغاية مابقت زيهم أو يمكن أجبروها تكون زيهم، المهم بعد ما تمـ.ـيـ.ـت ١٦سنة مـ.ـر.اته قالت إن مينفعش أفضل في نفس البيت مع بنتها تاني وعمي طردني من البيت
ابتسم بسخرية قبل أن يوضح:
_ بس كتر خيره وداني شقة مليان شباب وقالي اتصرف أنت بقى، عشت هناك وبدل ما كنت باخد كورسات تساعدني في مذاكرتي بقيت بشتغل عشان أسد إيجار السرير اللي بنام عليه.
زفر أنفاسه بضجر، لم يريد إحزانها بهذا الشكل وتابع بنـ.ـد.م:
_ والله العظيم حاولت كتير أوصلك بس معرفتش مكنش عندي وسيلة ومكنش معايا موبايل وكل اللي بيجي كان عشان أقدر أعيش بس، حاولت أوصلك من موبايل حد من اللي كنت قاعد معاهم بس كانوا لازم ياخدوا مني فلوس وأوقات كنت بقدر أوفر وأوقات لأ، بعد كدا اقتنعت أن الحل الوحيد إني أنزل بس مش هينفع أنزل إلا لما أتم ١٨ سنة عشان أكون خلصت الثانوي وبعد ما تمـ.ـيـ.ـت ١٨ سنة اشتغلت ويتر تخيلي أسبوع شغل واحد خلاني قدرت أحجز تذكرة وأنزل مصر، والله يا لينة كان غـ.ـصـ.ـب عني أنا حتى مش عارف هبات بكرة فين لأن فلوسي يدوب..
نهضت لينة عن مكانها واقتربت من شقيقها الذي وقف تلقائياً لاقترابها وقامت بعناقه بكل ما أوتيت من قوة وظلت تردد بنـ.ـد.م شـ.ـديد من بين بكائها:
_ أنا آسفة، آسفة أوي مكنتش أعرف كل دا
بادلها علي البكاء ثم حاول تهدئتها بقوله:
_ والله كل دا هان أول ما شوفتك، حشـ.ـتـ.ـيني و أوي
عادت لينة إلى حـ.ـضـ.ـنه وظلت تربت على ظهره بحنو وأردفت بشوق كبير:
_ وأنت كمان وحـ.ـشـ.ـتني، كنت بستنى اللحظة دي من زمان أوي
ابتعدت عنه وحدجته بأعين لامعة، قلبها يـ.ـؤ.لمها على ما عاشه بمفرده، في الخلف يتابعوا ما يحدث بتأثر شـ.ـديد فما كان منهم سوى تركهم لعل جروحهم تدواى هكذا.
التفت يوسف ونظر حيث يجلس أخيه، كان كل ما يشغل عقله أن لينة لا تعود برفقته، ففكر قليلاً حتى وصل إلى فكرةٍ وعزم على فعلها، نهض وهتف:
_ علي تعالي لو سمحت عايزك
أومأ علي بقبول ثم ابتسم لشقيقته بحب وتركها وتبع يوسف، وقف كليهما على مقربة من الآخرين ثم أخبره يوسف بما يريد بعدmا أخرج من جيبه بعض الورقات النقدية:
_ عايزك تخرج أنت ولينة عوضوا بعض عن غياب الـ ٨ سنين اللي فاتو
رفض علي البتة أن يأخذ منه أي نقود:
_ لا لا مش هاخد حاجة أنا معايا
بإصرار واضح قال يوسف مازحاً:
_ خليهم معاك، وخد دول مش عشانك عشان لينة عايزك تدلعها أصلها متعودة على كدا
قهقه علي لكنه رفض أيضاً أخذ النقود فما كان من يوسف إلا أنه يضعهم في جيب بنطال علي حتى يقطع عليه سُبل الرفض، غمز إليه وأسرع بقوله حينما رآه يريد إرجاعهم إليه:
_ والله ما أنا أخد حاجة عيب بقى
أسبق يوسف بالعودة إلى طاولتهم، ثم وجه حديثه لمشاكسته التي تطالعه بعينان لامعة:
_ روحي مع علي يا لينة هيخرجك النهاردة
غمز إليها بمرح قبل أن يمازحها:
_ لما نشوف مين خروجته أحلى، أنا ولا هو
تشكلت إبتسامة عـ.ـذ.بة رقيقة على شفتيها الوردية ووجهت نظريها نحو أخيها وسألته بفضول يشوبه الحماسة:
_ هنروح فين؟
رفع كتيفه مبدي عدm معرفته بالأماكن هنا ثم قال:
_ معرفش أماكن هنا دي هتبقى مهمتك أنتِ
عضت على شفتيها ثم صاحت مهللة:
_ خلاص سيبلي نفسك خالص اليوم كله عليا
"ربنا يستر"
هتف علي بينما قهقه الآخرين قبل أن يوجه يوسف حديثه لصغيرته:
_ خدي بالك على نفسك
استشفت من عينيه الإهتمام فأماءت برأسها، حمحم وقال:
_ تعالي عايزك لحظة
ابتعدا عنهما تحت نظرات زياد المذهولة، كم شعر أنه لا قيمة له، وأنه فقط عدد زائد بينهم، حاول تهدئة روحه الغاضبة فهما معتادان على ذلك ولن يتغير الأمر بين ليلة وضحاها، عليه فقط أن يتحلى بالمزيد من الصبر.
على جانب آخر، أعطاها يوسف بعض النقود موضحاً:
_ خليهم معاكي احتياطي
بحرج أخذتهم وقالت وهي تطالع أخيها بشفقة:
_ عارف، نفسي أوي أعوضه عن اللي شافه، عايزة أجيب له كل حاجة عارفة إن مفيش حاجة تعوضه بس المهم إنه فرحان
تقوس ثغره ببسمة وأردف:
_ يابخته بيكي يا لينة
أخفضت رأسها في حياء، فأخذ يوسف نفساً عميق وأخرجه بحرارة شوقه إليها، عادوا إليهما ثم تعلقت لينة في ذراع شقيقها وغادرا المكان تحت نظرات زياد ويوسف التي لم تُرفع من عليهما.
تبادلا الأخوين النظرات ثم سار كلاً منهما في طريقه عائداً في مكانه.
***
حل المساء وقد عاد علي ولينة بعد أن قضيا وقت ممتعاً للغاية، كان يوسف يجلس في الأسفل في انتظار عودتهما بفروغ صبر، استقبلهم بحفاوة ثم تسائل بعفوية:
_ اتبسطوا؟
أجابت لينة بحماس وسعادة بالغان:
_ جداً جداً، روحنا الملاهي واتمشينا على الكورنيش وأكلنا درة وأيس كريم و...
قاطعها يوسف بحرج حينما لم تتوقف عن الحديث:
_ خلاص يا لينة المهم إنكم اتبسطوا
لم تهتم لاعتراضه وتابعت:
_ لسه مخلصتش، ركبنا عجل وجبنا بيتزا وأكلناها وخلصت كل الفلوس اللي أنت ادتيهالي
نكس علي رأسه بحرج شـ.ـديد فأصر يوسف على إيقافها:
_ خلاص يا لينة قولت
أشار يوسف على أخيها من خلال عينيه فنظرت إلى علي وقد اجتاحها الخجل، تعلقت في ذراع علي وهتفت بنبرة حنونة:
_ اليوم كان حلو أوي
رفعت رأسها وطالعته وقالت:
_ يا خسارة إنه خلص
تدخل يوسف قائلاً بنبرته الرخيمة:
_ الأيام قدامكم كتيرة، تعوضوا كل اللي فاتكم
انحنى "علي" على رأسها وطبع قبلة على جبينها وأيد رأي يوسف:
_ يوسف عنده حق، يلا اطلعي الوقتي عشان الوقت اتاخر، تصبحي على خير
بحـ.ـز.ن يكسو ملامحها ردت:
وأنت من أهله، كلمنى أول ما توصل
أماء لها ثم استأذن منهما وغادر بينما صعد يوسف برفقتها، لم تكف عن الثرثرة وقص ما فعلته، وفي النهاية رمقته بنظرات ممتنة وهتفت:
_ شكراً يا يوسف عشان خلتيني أعيش يوم حلو زي دا
بلامبالاة قال على الرغم من سعادته الداخلية:
_ أنا معملتش حاجة
أسبقت بخطوة ووقفت مقابله على درجة من درجته واعترضت قوله:
_ إزاي معملتش حاجة، علي قالي إنك اديته فلوس واديتني كمان كل دا ومعملتش؟!، بلاش تواضع
أسبل عينيه في عينيها وبنبرته المتيمة العاشقة أردف:
_ كله لاجل ضحكتك دي!
اتسعت ابتسامتها وتبادلا النظرات لبرهة ثم ولج كليهما المنزل، كانت السيدة ميمي قد غفت منذ وقت، تثائب يوسف بنعاس شـ.ـديد فلم ينم منذ يومان وقال:
_ أنا معتش شايف قدامي، تصبحي على خير..
هتفت لينة بهمس داخلها:
_ وأنت من أهلى يا يوسف..
راودتها فكرةٍ فازادت من حماسها، دلفت غرفتها وخلعت ثيابها، ارتدت عباءة نومها البيضاء وحررت خصلاتها المموجة الذهبية، ثم وضعت أحمر الشفاه خاصتها فهو يزيدها جاذبية وإثارة.
انتظرت وقت كافٍ حتى يكون قد غفى يوسف ثم خرجت من غرفتها وتفحصت المكان جيداً قبل أن تتجه ناحية غرفته، فتحت الباب ببطئ حتى تتأكد أولاً من نومه ثم دلفت وسرعان ما أغلقت الباب ووقفت خلفه تطالعه وهو غافي.
عضت على شفاها السفلية ووضعت يدها أعلى يسار صدرها فشعرت بخفقان قلبها المتزايد، أخرجت زفيراً حار ثم شكلت ابتسامة عريضة على محياها وخطت أول خطوة من حلمها لطالما تمنت تحقيقه
↚
***
بهدوء حذِر سارت بخطاها نحوه، ثم جلست بجواره على طرف الفراش، أوصدت عينيها لبرهة تجمع شجاعتها ثم نظرت إليه، كان بريئاً في نومه، ساكناً لا يتحرك.
ترددت كثيراً في لمس وجهه في البداية لكنها قد مدت يدها وبهدوء ملست على وجهه بنعومة شاعرة بخشونة خصلات ذقنه أسفل يدها.
ظلت تمرر يدها على وجنتيه تارة وذقنه تاره وخلف أذنه تارة أخرى مغردة بهُيام عاشقة:
_ أنت الحتة الحلوة في قلبي، ببقى في قربك مش قلقانة، أنت حبيبي وأبويا وابني، ومليش بعدك تاني مكان، حببتني في أيام عمري، رجعتني لنفسي زمان..
بحبك أوي يا يوسف، مكنتش متخيلة إني أتعلق بيك كدا!
ياريتك كنت صاحي وسامعني، وترد وتقولي وأنا كمان بحبك يا لي لي..
صممت حينما شعرت بحركة طفيفة منه فكادت أن تفر هاربة قبل أن يراها إلا أنها تفاجئت باحتضانه ليدها مردداً بثقل:
_ بـ حـ بـ ك...
لحظة استيعاب أن ما وقع على أذنيها كان حقيقياً لا يختلقه عقلها، اتسعت عينيها ثم انتفضت من مكانها وظلت تطالعه بذهول، لم يهدئ قلبها منذ تلك اللحظة، فقد كانت تتسارع نبضاته بصورة مضطربة، انحنت بجسدها نحوه متسائلة بهمس:
_ أنت قولت إيه يا يوسف؟
لم يجيبها، فلم تقبل ذلك البتة، هي تريد التأكد مما سمعته، حاولت مرة أخرى معه لعله يجيبها ثانيةً:
_ يا يوسف قول أنت قولت إيه؟
سكون دون غيره ولم يجيبها، تأففت بضجر فهي ليست متأكدة مما سمعته، نظرت إلى الباب فور سماعها بغلق الباب الخارجي، جحظت عينيها بتوجس شـ.ـديد خشية أن يفـ.ـضـ.ـح أمرها، هرولت نحو الباب ووقفت خلفه لاعنة ذاتها، فلقد مر الوقت ولم تشعر به وها هي على وشك الإنتهاء.
ارتخت تعابيرها فور سماعها لصوت غلق باب المرحاض، أسرعت في فتح الباب بحذر وحينما لم تجد أحد ركضت مسرعة إلى غرفتها، في تلك الأثناء خرج زياد من المرحاض ولمح بابها عنـ.ـد.ما أغلقته.
عاد لغرفته وقام بخلع ثيابه فإذا بأخيه يتسائل بصوت ناعس:
_ أنت كنت هنا دلوقتي؟
التفت إليه زياد نافياً وجوده في الغرفة بحركة من رأسه قبل أن يردف:
_ لا أنا لسه داخل
فرك يوسف عينيه ونظر لأخيه بغرابة وردد:
_ أنا سمعت الباب بيتقفل ولا أنا كنت بحلم..
أكد زياد على عدm دخوله الغرفة قبل تلك اللحظة بينما استدار يوسف بجسده ليكمل نومه لكن صوت ما في عقله قد أعاد له تغريدها العـ.ـذ.ب، راودته قشعريرة قوية شاعراً بيدها الناعمة وهي تملس على وجنته كان كأنه حقيقياً.
حتماً كان يحلم، تقوس ثغره بإبتسامة سعيدة وتمنى أن يتحقق، أخرج تنهيدة حارة ثم حاول العودة إلى نومه، وكذلك جاوره زياد ليحظى ببعض النوم قبل نهوضه لأداء صلاة الفجر.
***
في الغرفة المجاورة، كان عقلها سيجن، أهي حقاً سمعته يصرح بحبه لها؟ أم أنها هلاوس من عقلها الباطن؟ أم أنها هي من تتمنى سماعها منه؟
لا تدري، تأففت بضيق فلم تستطيع الوصول إلى حقيقة الأمر، انتبهت لرنين هاتفها فأجابت بحماس:
_ حبيبي وصلت؟
جائها الرد من الطرف الآخر:
أيوة، لسه واصل حبيت أطمنك
بلطف أردفت:
_ ماشي يا حبيبي تصبح على خير، كلمني بكرة أول ما تصحى
"تمام"
أردفها علي ثم أنهى المكالمة بينما هاتفت هي صديقتها، لم تجيب من المرة الأولى بل أعادت لينة تكرار الرنين حتى أجابت بصوت ناعس:
_ في إيه يا لينة؟
تنهدت الأخرى وصرحت بما يتمناه عقلها أن يكون حقيقة:
_ يوسف قالي بحبك!
انتفضت شهد من نومها وطالعت المكان من حولها تتأكد أنها لا تحلم، عادت إلى صديقتها وهتفت مستاءة:
_ إيه الهبل دا بقى؟
قهقت لينة وبدأت تقص عليها ماحدث والسعادة تغمر قلبها، ثم أنهت جملتها قائلة:
_ كان نفسي يقولها تاني عشان أتأكد إني سمعت صح
حركت شهد رأسها باستنكار لتصرفاتها الخرقاء وهتفت معاتبة:
_ أنتِ إزاي دخلتي أوضته؟ مخوفتيش يصحى ويشوفك؟ أو مثلاً زياد يرجع من برا! دي كانت هتكون مشكلة كبيرة أوي
حاولت لينة تبرير تصرفها:
_ مفكرتش في حاجة وقتها، كان نفسي أشوفه وهو نايم وألمسه، وبعدين أنا عارفة إن نومه تقيل يعني مش بيصحى بسهولة..
تنهدت شهد مستاءة قبل أن تواصل معاتبتها:
_ أديكي قولتي كان نايم ونومه تقيل، يعني مش حاسس بيقول إيه وتلاقيه بيهلوس بأي حاجة وأنتِ سمعتي غلط
تأففت لينة وشعرت بالإختناق من كلمـ.ـا.تها التي تغلق بها جميع السُبل في وجهها وصاحت مستاءة:
_ تصدقي أنا غلطانة إني كلمتك، كنت مبسوطة والله وأنتِ قفلتيني، سلام
أسرعت شهد في الحديث لكي تمنع إنهائها للمكالمة:
_ خلاص استني، طب ناوية تعملي إيه؟
بهجوم قالت:
_ هعمل إيه يعني؟ مش هعمل حاجة
رققت من نبرتها متذكرة بعض المواقف التي لم تجد لها تفسير قبل أن تعود مواصلة:
_ بس أنا قلبي بيقولي إنه فعلاً بيحبني!
قلبت شهد عينيها باستياء وأردفت ساخرة:
_ أيوة عشان كدا جوزك أخوه
"أوف بجد يا شهد، معرفش أنا مقفلتش ليه"
هدرت بحنق فاعتذرها منها صديقتها:
_ أنا آسفة معتش هتكلم، بس يا لينة بالعقل كدا منين بيحبك ومنين هو اللي اقترح كتب الكتاب؟
شعرت لينة بأن حديثها صائباً فقالت بضياع:
_ أنتِ صح، بس مش معقول اللي بحسه دا يكون كدب أو مجرد إحساس..
تسائلت شهد بفضول:
_ طب فهميني إحساسك دا مبني على إيه..
أخذت لينة شهيقا عميق زفرته على مهل وأجابتها مختصرة:
_ تعامله معايا مختلف عن الأول..
قاطعتها شهد بقولها:
_ ما أنتِ قولتي كدا يوم فرح بلال وكانت إيه النتيجة؟
حاولت لينة توضيح الأمر من نظرها:
_ لا لا دا اختلاف تاني خالص، يوم كتب الكتاب أول ما المأذون خلص هو اختفى، دا كان بيجري من البيت كأن فيه مصيبة، ولما ناديت عليه مردش عليا ودي أول مرة يعملها..
"أنتِ عايزة تقولي إنه زعلان عشان كتبتوا الكتاب؟"
هتفت شهد متسائلة فردت لينة قائلة:
_ مش عارفة بس ليه يعمل كدا، دا عمره ما سابني في أي موقف يبقى إزاي يسيبني في يوم زي دا وهو عارف إني رافضة الموضوع، دا غير إن قبلها حسيته ما صدق إن علي يظهر وكان بيحاول معايا إني أتراجع بس أنا كنت غـ.ـبـ.ـية أخدت الموضوع عِند في علي..
تأففت لسذاجة عقلها واسترسلت متابعة:
_ وبعد كتب الكتاب وموقفه مع زياد كان مبالغ فيه أوي
بحنق هتفت شهد:
_ أنتِ عايزاه يشوف أخوه بيقرب منك وميعملش كدا؟
أيدتها لينة رأيها فقالت:
_ لو يوسف اللي أنا عارفاه كان اكتفى بقلم محترم، لكن دا حرفياً قــ,تــله ضـ.ـر.ب، كنت حاسة إنه بيطلع خـ.ـنـ.ـقته فيه، وبعدين يوسف عمره ما وقف قصاد ماما ميمي يومها مكنش همه كأنه مش شايفها قدامه!
واللي حصل بعد كدا كان غريب، عمري ما اتعرضت له قبل كدا..
صمتت من تلقاء نفسها حينما تذكرت ما بعد ذلك، سرت قشعريرة قوية في أوصالها ورفضت الفصح عما حدث خشية أن تسوء صديقتها الظن بها، انتبهت على سؤال شهد حينما قالت:
_ ها إيه اللي حصل بعد كدا؟
ابتلعت ريقها وبجمود أجابت:
_ ولا حاجة، بس أنتِ عندك حق أنا شكلي سمعت غلط، أنا هقفل تصبحي على خير
أنهت المكالمة تحت ذهول الأخرى، فهي قد بدأتها ونهتها دون العودة إليها، لم تعطي الأمر أكبر من حجمه وعادت إلى نومها فمازال أثره يطغوا عليها، بينما ظلت لينة تفكر في كل ما مرت به منذ عقد قرانها لربما تصل إلى نقطة توضح لها ظلمة أفكارها.
***
بعد ما يقرب الساعتين شعر بلال بالإختناق، فلا مفر أمامه يلجأ إليه، كلما ظن أن والده قد انتهى من تخطيطاته يعودون للبداية من جديد، تأفف بضجر فاستشفت والدته ضيقه.
حمحمت وتدخلت بينهما ناهية حوراهما الذي طال:
_ خلاص بقى يا سمير، الوقت أتأخر، سيبه يطلع بيته وبكره تكملوا
انفعل السيد سمير باندفاع في إجابته:
_ بيته إيه الوقتي، ورانا تجهيزات لازم تخلص على بكره
هدأ سمير حينما استشف ملامح بلال، تفقد الوقت ثم صاح:
_ خلاص نكمل بكرة عشان أنا كمان تعبت
نهض وتركهما بينما رددت والدته بنـ.ـد.م:
_ معلش يا بلال أنت عارف أبوك وقت الشغل بينسى نفسه
أخرج بلال تنهيدة على مهل وقال بفتور:
_ عادي..
نهض عن كرسيه وحمل الأكياس البلاستيكيه في يده وصعد إلى منزله، فلم يرتب وصوله للمنزل في وقتٍ متأخر.
ولج المنزل ومنه إلى المطبخ، افرغ محتويات الأكياس في أماكنها ثم دلف غرفتها دون تردد، ظل يبحث عن ذاك المهدئ التي تتناول أقراصه، وأخيراً وقع بين يديه عنـ.ـد.ما تفقد درج الكومود.
شعرت إيمان بالقلق حيال الضجة أحدثها، رمقته لوقت فكانت رؤيتها مشوشة قبل تتسائل بثقل:
_ أنت بتعمل إيه؟
التفت إليها ثم أردف أمراً:
_ قومي تعالي معايا
رفضت النهوض قبل أن تلم بما يريد أولاً:
_ أقوم أروح معاك فين؟
رفع بلال يده فظهرت الأقراص المهدئة وتسائل بصوت أجش:
_ ممكن أفهم إيه دا؟ بتاخدي مهدئات ليه؟
تقوس ثغرها للجانب مشكلة إبتسامة ساخرة وظلت تطالعه بقوة فلم يستسلم لنظراتها ورفض أن يُلقى اللوم عليه:
_ لا مش أنا السبب يا إيمان، أنتِ اللي وصلتينا للي إحنا فيه دا، لو أنا غلطان قيراط يبقى أنتِ ٢٤
هدأ من نبرته وأعاد كلمـ.ـا.ته امراً:
_ لو سمحتي بلاش نفتح في مواضيع هضايقنا إحنا الاتنين، قومي يلا..
طالت نظراتها عليه ثم استدرات بجسدها للجانب الآخر ولم تعيره إهتمام، زفر بلال أنفاسه بضيق ثم اقترب منها ووضع يده أسفل خصرها والأخرى محاوطاً بها ذراعيها حتى حملها بين يديه.
تفاجئت هي بتصرفه وحاولت التملص من بين يديه بركل قدmيها في الهواء هاتفه بحنق:
_ أنت بتعمل إيه، نزلني
لم يكترث لها وكذلك هي لم تكف عن المحاولة:
_ يا بلال بقولك نزلني..
دلف بها المرحاض الخاص بالغرفة، ثم أوقفها في منتصف المغطس، حاولت الفرار إلى الخارج لكنه أبى وأرغمها على الوقوف ثم فتح صنبور المياه البـ.ـاردة التي تدففت بقوة أعلاها.
شهقت إيمان من هول المفاجأة، حاولت إبعاد يديه عنها لكنه مازال متشبث بها لكي لا تستطيع الهروب، تساقطت عبراتها وهي تتسائل بنبرة مهزوزة:
_ أنت بتعمل كدا ليه؟
طالعها لبرهة قبل أن يردف بإقتضاب:
_ لما تحسي إنك فوقتي وبقيتي أحسن، اخرجي وغيري هدومك دي
أولاها ظهره وغادر بينما تابعته هي برأسها حتى اختفى من أمام مرأى عينيها، اقتربت من الباب وأوصدته جيداً ثم عادت إلى المياه بعد أن خلعت ثيابها تنعش جسدها من جديد.
في الخارج، هاتف بلال والدته وسألها مستفسراً:
_ بقولك يا ماما أنتِ بتعملي شوربة الخضار إزاي؟
تعجبت والدته ورددت مازحة:
_ هي مراتك مبتعرفش تعملها ولا إيه
كاد بلال يخبرها أنه هو من سيقوم بطهيها إلا أنه تراجع عن قول ذلك وأجاب برد آخر:
_ أنا بحب اللي بتعمليها وكنت عايزها تطلع زيها بالظبط
دقت قبول السعادة قلب شهيرة لكونه مازال يحب أكلاتها، وبدأت تخبره مقاديرها حتى انتهت منها وأغلق بلال الهاتف، وقف يقطع الخضراوات ثم فعل ما أخبرته به والدته، عاد إلى الغرفة أثناء خروجها من المرحاض، كانت ترتدي البرنس خاصتها.
حاول بلال عدm النظر إليها كثيراً رغم أن قلبه يحثه على التمتع برؤيتها على ذاك الوضع، لا يريد أن تضعف نفسه أمامها، فحتماً لن يبادر بالقرب منها ثانيةً، يكفي ما حدث حينما تحدى نفسه في المرة الأولى.
حمحم وأردف بتجهم:
_ البسي وتعالي عشان ناكل..
عارضته بقولها:
_ مش عايزة أكل حاجة..
بنبرة لا تحتمل النقاش صدر أمره:
_ أنا مش بخيرك أنا بعرفك، هستناكي برا
عاد إلى المطبخ ليرى ما أن كانت قد نضجت شوربة الخضراوات أم لا، لم تحتاج إلى كثير من الحرارة فأغلق عليها ثم بدأ يسكب في وعاء لها وله، وضعهن على الطاولة التي تتوسط المطبخ وجلس في انتظار مجيئها.
بعد مرور عدة دقائق، ظهرت من خلف باب غرفتها وكان قد جففت خصلاتها بالمجفف الكهربي وتركتهم محررين دون قيود، كانت رائحة الشوربة شهية للغاية، ربما تشتهيها معدتها لأن لم تأكل شيئاً منذ وقت طويل.
جلست مقابله وبدأت ترتشف القليل من الشوربة أولاً فشعرت أنها بحاجة إلى ليمون، نهضت لتحضر واحدة ثم عادت وقد وضعت أعلاها القليل فاكتمل مذاقها اللذيذ، لم تحاول قط النظر إليه، بل كانت تتناول وهي منكسة الرأس حتى لا تتقابل مع عينيه.
على عكس بلال الذي كان يختلس النظر إليها من آن لآخر، انتهوا من تناول طعامهم فكانت هي أول من نهضت، لاحظت بعض الحلوى التي قام بشرائها ووضعها في زاوية مخصصة لها، اشتهت أحدهم لأنها كانت المفضلة لديها، لكنها تريثت فعليه أولاً الذهاب لكي تأخذ منها.
بالفعل خرج بلال تاركها بمفردها فأسرعت هي في تناول حلوتها المفضلة، ظلت تأكل واحدة تليها الأخرى حتى نفذ ذاك النوع، فخرجت من المطبخ باحثة بعينيها عنه، لم تلمح طيفه فظنت أنه قد ولج غرفته لينام.
عادت هي إلى غرفتها لتتفاجئ بوجوده داخلها، وما آثار غرابتها جلوسه على الفراش ممدد القدmين براحة، أولاته ظهره لتعود حيث جائت لكنه أوقفها بسؤاله:
_ رايحة فين؟
لم تجيبه على الفور بل صمتت لثوانٍ قبل أن ترد بإجابة مبهمة:
_ خارجة..
استشف هو سبب ذهابها من الغرفة بعد رؤيتها له قاطناً بها فصاح بحسم:
_ من النهاردة أنا وأنتِ هنام هنا
قطبت جبينها بغرابة وهتفت مستاءة من أوامره التي يتخذها بمفرده:
_ أنت تقرر من نفسك تنام في أوضة تانية وأنا أسكت، وبعدين تقرر إنك ترجع تاني والمفروض أسكت!!
عقدت ذراعيها برفض تام لأمره وهدرت:
_ وأنا مش موافقة إننا ننام في نفس الأوضة
نهض بلال ووقف مقابلها وببرودٍ قال:
_ مش بمزاجك، أنا اللي أقول أنام فين ومنمش فين
تمردت على أمره وصاحت منفعله وهي توليه ظهرها:
_ خلاص يبقى أنا اللي مش هنام هنا
تفاجئت إيمان بيده التي حاوطت ذراعها وأعادتها إليه، خفق قلبها بتوجس وهي تطالع عينيه الثاقبة ثم انتبهت لهمساته:
_ هنام في نفس الأوضة يا إيمان، أنا مش هديكي فرصة تاخدي اللي كنتي بتاخديه دا تاني..
كاذب كبير، هو يريد تقريب المسافة بينهما، لكنها عِلة لا بأس بها، تأففت إيمان فلا مفر منه، توجهت نحو الخزانة وأحضرت بعض الوسادات ثم عادت للغرفة، فرمقها هو بغرابة وتابع تصرفها المبهم.
اتجهت ناحية الفراش ثم وضعت الوسائد في منتصف الفراش، قطب الآخر جبينه وسألها مستفسراً:
_ إيه دا؟
نظرت إليه بتحدٍ وأجابته:
_ دي حدود عشان كل واحد مـ.ـيـ.ـتعداش حدود التاني!!
حرك رأسه مستنكراً تصرفها الأخرق وسـ.ـخر منها:
_ أنتِ بتتفرجي على تركي كتير؟
عقدت ذراعيها ورفعت حاجبها الأيسر قبل أن تردف بجمود:
_ دا اللي عندي، لو مش عاجبك روح نام زي ما كنت نايم
لن يتركها تصل إلى مرادها، فتوجه نحو الفراش واستلقى أعلاه وقال:
_ لا عاجبني
تأففت إيمان من إصراره للبقاء معها، جلست في جانبها التي حددته لنفسها، ثم أولاته ظهرها وكذلك هو، لم يستطيع كلاهما النعاس بسهولة، فكان عقلهما منهمراً بالأفكار، كانت هي متعجبة من تحوله المفاجئ، ولا تجد إجابة واضحة لهذا التغير.
أما عنه فكان في حيرة من أمره، لا يدري ما فعله هو الصواب أم أنه تسرع، ألم يكن عليها المبادرة في تصليح الأمور بينهما، لكنه بالأخير ليس مزعوجاً من خطوته التي اتخذها، فإن لم يكن لأجلها فسيكون من أجل العهد الذي اتخذه على نفسه أمام والدتها.
حل الصباح، والحدود لم يعد لها أثر، تخطت حاجزها المنيع التي وضعته بينهما، شعر هو بثقل يعلو ذراعه الأيسر يقيد حركته، فتح عينيه فإذا ببعض الخصلات تغطي عنقه، فتفاجئ بها تتوسط صدره محاوطة خصره بذراعها.
وزع نظريه بينها وبين حاجز الوسادات خاصتها فلم يجد له أثراً، تململت أعلى صدره فأسرع في غلق عينيه متصنع النوم، استيقظت هي وقد تسللت رائحه عطره أنفها، انتبهت على ذاك الوضع التي كانت عليه فانتفضت مسرعة لا تصدق أنها قضت ليلة كاملة على صدره، كيف فعلت ذلك؟
كانت نبضاتها سريعة لا تتوقف عن الخفق،كادت أن تنهض من جواره، لكنها عادت ناظرة إليه، مالت نحوه وظلت تتفحص معالم وجهه فلم تحظى بفعل ذلك من قبل، لا تعلم ما الذي تفعله، زفرت أنفاسها ثم نهضت من جواره وأعادت وضع الوسادات سريعاً قبل أن يكشف أمرها ظناً أنه لازال غافياً.
فتح بلال عينيه عنـ.ـد.ما تأكد من دلوفها المرحاض، نظر إلى ذراعه حيث كانت غافية أعلاه وبين الوسادات التي أعادت وضعها فتشكلت ابتسامة مبهمة على محياه لم يعلم سرها.
نهض ليبدل ثيابه حتى يذهب إلى عمله، خرجت هي وتفاجئت بعدm وجوده، ثم رأته يخرج من غرفة تبديل الملابس، طالعها وقال:
_ حضري الفطار عشان عايز أنزل
اكتفت بإيماءة من رأسها وهرولت إلى المطبخ تعد وجبة الفطور، انضم إليها واقترب من الحلوى التي أحضرها أمس فلاحظ اختفاء نوع من بين بقية الحلوى، وعلم أنها المفضلة لديها.
حمحمت إيمان لتجذل انتباهه وقالت بلطف:
_ الفطار جاهز..
جلس على الطاولة وكذلك رافقته وبدأ كليهما في تناول ما أحضرته إيمان في أجواء صامتة خالية من الأحاديث حتى انتهى بلال من طعامه فنهض ثم ألقى بسؤاله قبل مغادرته:
_ ناوية تعملي إيه على الغدا؟
تفاجئت بسؤاله، فلم ترتب لشيئ ولم يجمع عقلها طعاماً تقترحه، شعرت أنها محاصرة من قبل عينيه فهـ.ـر.بت بنظريها بعيداً لعلها تأتي باقتراح ما، استشف بلال حيرتها وحاول مساعدتها بقوله:
_ أنا شوفت في الفريزر ملوخية وأرانب، تعمليهم؟
تشنجت تعابيرها وردت بعفوية:
_ بس أنا مش بحب ملوخية مع أرانب
زفر بلال أنفاسه وردد بجمود:
_ خلاص أعملي حاجة تانية، لو احتجتي حاجة كلميني..
غادر تحت نظراتها المتابعة له، على ما يبدوا أنها من أطعمته المفضلة، تنهدت بحيرة فكيف ستطهيها وهي تنفر دوماً من الأرانب، لكن كان هناك شعور مُلح داخلها بأن تفعلها من أجله.
عادت إلى غرفتها وهاتفت والدتها التي أجابت في الحال:
_ صباح الخير يا مونة، أخبـ.ـارك إيه النهاردة
بصوت نشط هتفت:
_ صباح النور يا ماما، أنا كويسة الحمد لله
شعرت هادية بالراحة إثر نبرتها الحيوية، واصلت إيمان حديثهما متسائلة بفضول:
_ هي الملوخية والأرانب بيتعملوا إزاي؟
عقدت هادية مابين حاجبيها متعجبة من سؤالها ورددت بعدm تصديق:
_ أنتِ بتسالي على الأرانب! دا أنتِ عمرك ما حطتيها في بوقك؟
حمحمت إيمان فشعرت بالخجل، لم تدري ما عليها قوله أو التعليل به، لكن لم يكن أمامها سوى مصارحتها حتى تخبرها كيفية طهيهما:
_ بلال عايز ياكل ملوخية بأرانب وطلبها مني..
ابتسمت هادية وقد اجتاحها شعور الراحة، على ما يبدوا أن الأمور بينهما على ما يرام، عادت إليها وبدأت تخبرها كيفية طهيهما بدقة والآخرى كانت منتبهة بآذان صاغية.
***
صدح رنين ذاك المنبه الغـ.ـبـ.ـي الذي أخرجه من حلمه الجميل الذي أعيد مراراً تلك الليلة، نهض وأغلق منبه هاتفه ثم خرج من غرفته، أنتبه للأصوات الصادرة من غرفة لينة، عقد حاجبيه فمن الذي سيزورهم في مثل تلك الساعة الباكرة.
فُتح الباب وظهر من خلفه زياد، فاتسعت عيني يوسف بذهول لرؤيته خارجاً من غرف لينة، فارت دmائه وبرزت بقوة في عروقه، ثم صاح سؤاله بلهجة هجومية:
_ أنت كنت بتعمل إيه جوا؟
رفع زياد الوعاء الذي بيده وأخبره:
_ لينة سخنة وبنعملها كمادات..
"هي ميمي جوا؟"
هتف متسائلاً وما يشغل عقله أنهما ليسوا بمفردهما، لكن مازال هناك أسئلة عديدة لا تنتهي في رأسه، كيف هي جالسة؟ أهو رأى خصلاتها المموجة؟
أهو قد أغرم بهم كما هو مغرم؟ كيف سمحت بدخوله؟ كيف هي حالتها؟
تعجب زياد من صمت يوسف المبهم وابتعد عنه ليجلب بعض المياه البـ.ـاردة، عاد في غضون ثوانِ، أسبق بخطاه إلى الداخل وأغلق الباب دون إكتراث لوقوف أخيه،فازداد غضب يوسف أضعافاً، لم يعد يرى أمامه من فرط غيرته على مشاكسته الصغيرة.
كيف يكون بالخارج وأخيه من يرافقها؟ كيف لا يكون هو راعيها؟ كيف لا يقدر أخذ خطوة بقربها وهي فتاته هو، لن تكون فتاة شخصاً آخر؟!
طرق الباب قبل دلوفه فسمحت له والدته قائلة:
_ تعالى يا يوسف..
فتح الباب بهدوء ونظريه مصوبتان عليها كأنه لا يرى غيرها، تنهد براحة حينما رآها مغطاه بغطاء لا يظهر أي أنش من جسدها، وكذلك شعرها المغطى بالحجاب الخلفي.
خرج من شروده على صوت السيدة ميمي وهي تردد:
_ السخونية مبتنزلش خالص يا يوسف، بقالها ساعتين بتترعش جـ.ـا.مد، اديتها خافض وبعملها كمادات من وقتها ومفيش تحسن خالص، دي حتى ساعات بتقوم تخرف بالكلام وتنام تاني.
توجه يوسف بقربها ثم وضع راحة يده على جبينها فلم يتحمل حرارة جسدها المرتفع، التفت حيث تقف والدته وصاح معاتباً:
_ أنتوا إزاي مصحتونيش من وقتها؟!
حاولت السيدة ميمي تبرير موقفها:
_ والله يابني أنا قولت أجرب الأول زي ما بنعمل على طول مع السخونية بس معاها منزلتش خالص، دا حتى زياد لسه داخل قبلك أهو كنت بقوله روح صحي يوسف نوديها للدكتور..
الراحة دون غيرها تملكته فور علمه بعدm مكوث أخيه كثيراً في الغرفة، أخرج تنيهدة حارة قبل أن يردف:
_ أنا هلبس، على لما تكوني لبستيها..
أماءت ميمي بالإيجاب ثم انسحب زياد أيضاً ليبدل ثيابه ليكون مرافقاً لهم، بدأت السيدة ميمي في تبديل ثياب لينة برفق حتى انتهت منها فأسرعت إلى الخارج لتبدل ثيابها أيضاً فلن تستطيع تركها بمفردها في تلك الحالة المذرية.
في تلك الأثناء استغل زياد عدm وجود أحدهم في الغرفة ودلفها، اقترب منها وطالعها بشفقة متأثراً بوضعها، لاحظ تحرك شفتيها فانحنى بقرب وجهها حتى يسمعها جيداً..
"يـ و سـ ف"
تنطق بإسم أخيه دون وعي منها، لا يتركها حتى في مرضها، لمح يوسف وقوف أخيه بمفرده فلم يقف مكانه وتوجه ناحيته والغيرة تتأكله وسأله بتجهم:
_ بتعمل إيه؟
استدار إليه زياد وطالعه بملامح جـ.ـا.مدة قبل أن يهتف من بين أسنانه:
_ بتنادي عليك!
ارتخت ملامح يوسف المشـ.ـدودة وتبادل النظرات مع أخيه فاستشف ما ورائها، حمحم ولم يريد الإقتراب منها حتى لا يفسر أخاه شيئاً من تلقاء نفسه.
أولاه ظهره وغادر الغرفة أثناء خروج والدته التي هتفت بأنفاس لاهثة:
_ خلصت..
ادلفت بخطاها نحو لينة وساعدتها على القيام:
_ قومي يا حبيبتي، اسندي عليا
بصوت منهك يكاد يسمع هتفت:
_ مش قادرة يا ماما..
اقترب منهن زياد محاولاً مد يده العون لهن:
_ هاتي ايدك يا لينة
أوصد يوسف عينيه في انتظار ردها، فما كان من لينة إلا انا حاوطت عنق السيدة ميمي بكلتى يديها وقالت:
_ يلا يا ماما..
تنهد يوسف براحة وأسبق بخطاه للخارج حتى يجهز السيارة، فتح الباب الأمامي ووجه حديثه لوالدته:
_ هاتي لينة هنا يا أمي، عشان ورا مش هت عـ.ـر.في تخرجيها لما نوصل
أماءت بقبول ثم ساعدتها على الجلوس وأغلقت الباب برفق، استقل يوسف أمام الطارة بينما جلس الآخرين في الخلف، تحرك بالسيارة مبتعداً عن المنطقة قاصداً أحد الأطباء بعينه.
كانت تطلق آنات موجوعة من حين لآخر، وظلت تردد بتعب:
_ مش قادرة يا يوسف
رمقها بشفقة وحـ.ـز.ن وحاول طمأنتها:
_ خلاص قربنا نوصل وإن شاء الله تكوني كويسة
تفاجئ يوسف بابتسامتها التي تشكلت على ثغرها فظهرت عنه إبتسامة تلقائية وسألها بمرح:
_ بتضحكي على إيه؟
أجابته وهي تحدجه بعينين ضائقتين:
_ شكلك حلو..
اتسعت ابتسامته وحاول التركيز في القيادة لكي لا تتفوه بالمزيد أمامهما، وصلا حيث عيادة الطبيب، صف يوسف السيارة وترجل منها وكذلك الآخرين، ساعدت السيدة ميمي لينة على النزول ومنه إلى عيادة الطبيب.
انتظرا دورهم مدة ليست بقصيرة، قطع ذاك الصمت زياد بسؤاله:
_ مش المفروض نعرف علي؟
رد عليه يوسف بحسم:
_ ابقى كلمه بعد ما نروح بلاش تقلقه من دلوقتي..
حان دور لينة، دلف أربعتهم غرفة الطبيب، الذي فحصها على الفور، بعد دقائق معدودة ظهر من خلف الستار وأخبرهم عن سبب إرتفاع حرارة جسدها بنبرة عملية:
_ السخونية اللي عندها سببها عدوى بكتيرية، هكتب لها محاليل كل ٨ساعات مع أدوية تانية وإن شاء الله تكون كويسة
تسائل يوسف بحيرة:
_ والعدوى دي جت لها إزاي دي مش بتخرج من البيت إلا للضرورة
ابتسم له الطبيب وقال بعملية:
_ في الأيام دي ممكن أوي ناخد أي عدوى حتى من الهوى
أومأ يوسف بتفهم ثم شكره وغادرا، عادا إلى المنزل، كان الجميع يرافقها في الغرفة وكذلك علي الذي إنضم إليهم مؤخراً، في انتظار إنتهاء المحلول حتى يرو نتيجته.
مر ما يقرب الستون دقيقة بدأت لينة تستعيد صوابها، مررت نظريها على الجميع وابتسمت لهم فهرول علي نحوها بتوجس:
_ عاملة إيه الوقتي؟
"الحمد لله أحسن"
قالتها فشكر الله على لطفه، نظرت حيث تقف السيدة ميمي وبحرج شـ.ـديد أردفت:
_ أنا جعانة أوي يا ماما
تأثرت ميمي بطلبها وطالعتها بشفقة ورددت بتلهف:
_ يا حبيبتي، حالاً والأكل يكون جاهز
هرولت السيدة ميمي إلى المطبخ لكي تطهي طعاماً لها، صدح صوت زياد القلق في نبرته:
_ سلامتك يا لينة، قلقتيني عليكي
رمقه يوسف بغيظ ولم يعطيها فرصة الرد عليه حيث تدخل هو:
_ سلامتك يا لينة، عاملة إيه الوقتي؟
ابتسمت له وأجابت ممتنة:
_ الله يسلمكم يارب، أنا كويسة الحمد لله
بادلها يوسف بسمة ثم خرج من غرفته ليجيب على صديقه الذي لم يكف عن الرنين منذ زمن فصاح الآخر بحنق:
_ ما ترد علينا يا سي يوسف، أنت فين أنا محتاس لوحدي
أوضح له يوسف ما كان فيه:
_ لينة كانت تعبانة وكنا عند الدكتور، مكنتش هعرف أسيبها وأجي
تأفف بلال وهدر ساخراً:
_ طيب يا روميو لو جوليت بقيت كويسة تعالى عشان أبويا مطلع عين اللي خلفوني ومش سايب حد عارف ياخد نفسه ومش وراه غير فين يوسف نادي لي يوسف، يوسف مجاش ليه لما قرفت منك ومن سيرتك
سبه يوسف علناً ثم قال:
_ والله دا انا اللي قرفت منك أنت وأبوك، أقفل أنا جاي
أغلق الخط وعاد بأدراجه لغرفة لينة، اقترب منها وبحرج أردف:
_ معلش يا لينة مضطر أروح الشغل محتاجيني هناك، على عيني إني امشي وأنتِ في الحالة دي..
قاطعته برقة:
_ أنا بقيت كويسة، روح شغلك
زفر أنفاسه وهو يومئ برأسه قبل أن يردف:
_ هكلمك كل شوية أطمن عليكي لو احتجتي حاجة كلميني
تدخل زياد بإقتضاب فحديث أخيه لم يعجبه:
_ أنا هنا يا يوسف متشلش هم لحاجة..
لم يلتفت له يوسف بل صغى لكلمـ.ـا.ته وعينه لازالت مصوبة على لينة، أخرج تنيهدة ثم استدار بجسده ونظر إلى علي واعتذر منه بحرج:
_ معلش يا علي لو مكنتس مضغوط مكنتش سيبتك
أراد علي محي الحرج منه فقال:
_ ولا يهمك يا يوسف ربنا يعينك
ربت يوسف على كتفه ثم توجه ناحية الباب، توقف من تلقاء نفسه وعاد بنظريه حيث يقف علي وقال:
_ ما تيجي معايا..
عقد علي حاجبيها بغرابة وسأله بفضول:
_ فين؟
باختصار أجاب:
_ الشغل
تبادل علي النظرات مع لينة بغرابة ثم تسائل بجدية:
_ هعمل إيه هناك؟
احاط يوسف كتفيه موضحاً:
_ تعالى معايا وأنت هتعرف
رفع يوسف إصبعه وأغلق الإضاءة ثم هدر موجهاً حديثه لأخيه دون أن يلتفت:
_ يلا يا زياد سيب لينة ترتاح شوية
لم يكن أمام زياد سوى الخروج فيوسف قد وضعه في موقف حرج، أوصد يوسف الباب خلفهم حتى يغلق أمام أخيه سبل العودة للداخل، بينما غادر هو برفقة علي وبدأ يشرح نبذه عن عمله وعما سوف يفعلاه عند وصولهم حتى ينتهيا سريعاً.
***
في منتصف اليوم حيث بدأت تغرب الشمس، صدر رنينه فلم يكن سيجيب، إلا أنه كان مهماً، ابتعد عن ضجة المكان وأجاب مرحباً:
_ مراد باشا..
بعد ترحيب بينهما تحدث مراد عما هاتفه لأجله:
_ رقم العربية اللي أنت بعتهولي طلع لشوية عيال بيتعاملوا دايما مع واحد أسمه هارون صفوت، أنت تعرفه؟
طالع يوسف الفراغ أمامه بذهول ثم ردد بتأكيد:
_ ونعمة المعرفة، طبعاً أعرفه
باختصار وعملية قال الآخر:
_ خلاص يا جو تعالالي النهاردة نفتح محضر رسمي عشان نعرف نجيبه هنا قانوني
تنهد يوسف وأخبره بعدm تمكنه من الحضور اليوم:
_ النهاردة صعب أوى، بس أكيد هاجي، شكراً يا باشا
بجدية قال:
_ على إيه يا حبيبي، هستناك في أي وقت..
أنهى يوسف المكالمة وعاد إلى عمله بينما صدح صوت على جانب آخر كان يتجسس على مكالمة يوسف مع الضابط، استدار إلى اليمين حيث يجلس مديره وحادثه بلغته:
_ Mr. Andor, we found out that Yusg will report on us
( مستر أندرو، إحنا اتكشفنا خلاص يوسف هيبلغ عننا )
حاوره أندور بنبرة حاسمة:
_ Then we have to get rid of him before he takes an official action, so we don't have anything left
( يبقى لازم نخلص عليه قبل ما ياخد إجراء رسمي، وبكدا ميبقاش علينا حاجة )
أومأ هارون بقبول ثم بدأ اتصالاته وأعطى فيها أوامره بشأن يوسف.
***
حلت الساعة الثانية بعد منتصف الليل، كان يوم عصيباً على الجميع، لم يستطيع أحدهم ارتشاف القليل من الماء لصرامة السيد سمير.
كان المكان خالياً إلا من يوسف وعلي، لقد سمح للعمال بالذهاب عنـ.ـد.ما انتهو من عملهم، بالكاد كان يقف يوسف على قدmيه فلم تعد تتحملانه، نظر إلى علي ممتناً لوقوفه معه اليوم:
_ والله يا علي مش عارف أقولك إيه، تعبت معايا أنت النهاردة
ابتسم الآخر وأردف بحرج:
_ أنا اتبسط والله، حسيت إني ليا قيمة مش مجرد بتعب عشان شوية فلوس في الآخر مش هقدر حتى استمتع بيهم
ربت يوسف على كتفه بحنو قبل أن يدس يده في جيب بنطاله، ثم أخرج حزمة من النقود وناولها له موضحاً:
_ ودا نصيب تعبك
رفض علي أخذهم معللاً:
_ أنا ساعدتك عشان أنت أخويا مش عشان فلوس، وبعدين أنت فهمت إيه من كلامي أنا مقصدش حاجة
أسرع يوسف في محي الحرج بينهم:
_ أنت مش شوفتني وأنا بدي لكل واحد حقه قبل ما يمشي عشان تعب واشتغل، وأنت تعبت واشتغلت زيك زيهم ودا حقك، وبطل مناهدة بقى عشان أنا بطلع الكلام بالعافـ.ـية
أعاد يوسف مد يده بالنقود، تردد علي في أخذهم في البداية لكنه اضطر تحت إصرار يوسف، اتسع ثغره بإبتسامة ثم عانق يوسف بحب وامتنان:
_ مش عارف أقولك إيه يا يوسف، شكراً
لكزه يوسف في ذراعه بخفة مردداً:
_ على إيه يا عبـ.ـيـ.ـط، دا حقك
تراجع علي للخلف فواصل يوسف قائلاً:
_ أنا مـ.ـيـ.ـت من الجوع، وأكيد أنت كمان مأكلتش حاجة من الصبح، فيه محل بيعمل سندوشات على أول الشارع معلش هتعبك تروح تجيب لنا منه
بحماس شـ.ـديد هتف علي:
_ تمام
أولاه ظهره فلحق به يوسف قبل مغادرته:
_ استنى خد فلوس
التفت إليه علي وغمز إليه قبل أن يردف ممازحاً وهو يلوح بالنقود:
_ خلي فلوسك في جيبك يا ذوق، لسه قابض والجيب مليان
قهقه يوسف وكذلك شاركه علي الضحك ثم انطلق للخارج لكي يشتري الطعام لكليهما فلقد باتا متضورين جوعاً.
استلقى يوسف على الأريكة ممدداً قدmيه على الطاولة بتعب إنهال من جسده، التقط هاتفه من جيب قميصه وكاد أن يهاتف مشاكسته إلا أنه تريث عنـ.ـد.ما وقعت عيناه على الوقت.
أرسل إليها على الواتساب لربما تكون غافية حتى لا يزعجها:
_ نمتي؟
أتاه ردها بعد قليل:
_ لأ، كنت نايمة طول النهار، النوم راح
_ عاملة إيه دلوقتي؟
= أحسن كتير والحرارة مرفعتش تاني
_ الحمدلله
= خلصتوا اللي وراكم؟
_ أيوة، لسه حالاً معتش شايف قدامي من التعب
= معلش يا سوفي، علي معاك؟
_ أها، بس راح يجيب سندوشات، حرفياً مـ.ـيـ.ـتين من الجوع 😌
= هتجيبو سندوتشات إيه؟
_ مش عارف، هيجيب على ذوقه
=لو علي اللي أنا أعرفه هيجيب سجق
_ اشمعنا؟
= بيمـ.ـو.ت في حاجة اسمها سجق، كانت ماما بتبعته يجيب لنا طلبات عشان تعمل لنا عشا يروح يجيب سجق ويقولها اعمليه أنا بحبه
_ لما نشوف😂
ترك يوسف الهاتف من يده حينما لمح توقف إحدى السيارات تقف أمام المكان، الصعقة الكبيرة حينما رآى ترجل رجلين ملثمين يهاجمون رجـ.ـال الأمن حتى انقطع حبال أنفاسهم وسقطوا أرضاً.
كان يتابع ما يحدث كأنه يشاهد أحد الأفلام، بحث بعينيه عن شيئ يحتمي به إلا أنهما كانا أسرع وصولاً إليه، فصاح يوسف هادراً:
_ أنتوا مين؟ مين اللي باعتكم...
لم ينهي جملته بعد حتى إنهال كليهما أعلاه بالعصا الغليظة، فنال يوسف ضـ.ـر.باً مبرحاً، يصـ.ـر.خ عالياً تارة وتارة أخرى يطالبهم بأن يتوقفوا، لكن هيهات لهولاء الذئاب البشرية فلن ترحمه قبل أن ينالوا منه.
توقفا حينما رأوا الدmاء تسيل من أجزاء متفرقة في جسده، ركضوا مهرولين إلى الخارج قبل أن يراهم أحد، تاركين إياه غارقاً بين دmائه التي لا تتوقف
↚
***
هاتفت أخيها مراراً والقلق يسيطر عليها، ها قد أجاب بعد مدة:
_ معلش يا لينة كنت في...
قاطعته بنبرة قلقة:
_ فين يوسف؟
أجاب بتلقائية:
_ في المعرض، أنا كنت بجيب سندوتشات
بنبرة أثارت القلق به قالت:
_ طب لو سمحت أرجع وطمني عليه
بغرابة من أمرها هتف متسائلاً:
_ أنا راجع في الطريق، هو فيه حاجة حصلت؟
أخبرته عن سبب قلقها المبالغ:
_ كنا بنتكلم واتساب وفجاءة قفل في نص الكلام ومعتش رد
استنكر علي خوفها المبالغ وهتف معاتباً:
_ أكيد بيعمل حاجة يا لينة ولا يمكن نام، مفيش حاجة تقلق للدجة دي....
قطع علي كلمـ.ـا.ته حينما وقع على مرأى عينيه رجـ.ـال الأمن الملقيين أرضاً، ركض نحوهما بتوجس شـ.ـديد، وقعت عينيه على ذلك المستلقي في الداخل وشهق بصدmة وهو يردد:
_ يوسف..
خفق قلبها رعـ.ـباً، هي شعرت بمصـ يـ بـةقد حلت على رأسه وندائات أخيها أكدت لها، بصوت مرتجف ظلت تتسائل بتوجس:
_ في إيه يا علي؟ يوسف ماله؟ حصله حاجة؟
صاحت منفعلة حينما لم يجيبها متوسلة إياه:
_ رد عليا يا علي، يوسف ماله؟
لم يسمع أسئلتها، فكان يحاول إيفاقة يوسف، رفع رأسه عن الأرض موحياً إليه ببعض الإشارات لعله يستجيب إليه:
_ يوسف، أنت سامعني، رد عليا يا يوسف
شعر بشيئ يسيل من بين ثغرات أصابعه، جحظت عيناه حينما رأى الدmاء تسيل من رأسه بغزاره، شهق بقوة وسرت رجفة قوية في أوصاله، أعاد وضع رأسه بحذر على الأرض وبحث عن هاتفه ليتصل بالاسعاف مطالباً مساعدتهم.
مسح يديه في ثيابه حتى ينجح في التحكم في الهاتف، أنهى اتصال لينة وسرعان ما هاتف الإسعاف مستعيناً بإحدى السيارات.
***
أزاح المفتاح عن الباب بعدmا قام بفتحه، ولج بخطوات منهكة، فلم يعد يستطيع الوقوف، سار بخطاه للداخل حتى لمح طيفها غافية على الأريكة، تعجب من حالتها فلم يعتادها كهذا.
حمحم وأصدر صوتاً لكي تنتبه عليه:
_ إيمان..
رفعت عينيها حيث يأتيها صوته، نهضت من مكانها وهي تتاثب ثم تفقدت الساعة فكانت وشيكة لدخول الثالثة فجراً، عقد بلال حاجبيه وسألها باهتمام:
_ إيه اللي منيمك هنا؟
أجابته بنعاس:
_ كنت بستناك..
صممت ثم تابعت:
_ أحضرلك الأكل؟
تذكر بلال أنه لم يتناول شيئاً منذ الصباح، تنهد وأردف بتعب:
_ ياريت..
كادت أن تسير للداخل إلا أنه ناداها فالتفت إليه، ناولها كيساً بلاستيكياً فأخذته دون أن تنظر إليه، هرولت للمطبخ وقامت بتفحص محتوى الكيس، فتفاجئت بالحلوى التي أنهتها قبل يوم، تشكلت إبتسامة عفوية على محياها ثم أسرعت في إحضار الطعام لهما، وخرجت لتناديه، كان غافياً على الأريكة يبدو عليه التعب، حمحمت ونادته بهدوء:
_ بلال،..
لم يفيق فأعادت ندائها بالإضافة إلى لكزه برفق في كتفه:
_ بلال أصحى، حضرت الأكل
فتح عينيه بتعب شـ.ـديد وطالعها لمدة فأعادت قولها:
_ حضرت الأكل
أومأ برأسه ثم نهض خلفها إلى المطبخ، جلس كليهما مقابل بعضهما، تفقد بلال الطعام ورمقها بغرابة قبل أن يتسائل:
_ عملتي ملوخية بأرانب ليه؟ مش قولتي مش بتحبيهم؟
ابتلعت ريقها وهـ.ـر.بت بنظريها بعيداً عنه قبل أن تجيبه بحياء:
_ هحاول أحبهم..
لم يبدى ردة فعل، بل بدأ في تناول الأطعمة بشراهة فكان جائعاً للغاية، بينما حاولت إيمان تناول الطعام على الرغم من أن عينيها تنفر منه لكنها أجبرت ذاتها على تناوله، بعد أخذ معلقتين شعرت أنه لا بأس به وتابعت تناولها بشهية عن ذي قبل.
***
"أوف، أوف"
تأففت لينة بضجر شـ.ـديد، فأخيها لا يجيب على رنينها الذي لا يتوقف، انتبهت على غلق باب المنزل، فلم تنتظر وهرولت للخارج مسرعة، ركضت ناحية زياد الذي تعجب من ركضها وهتفت بنبرة غير مفهومة:
_ يوسف، عايزة أروح ليوسف، أنا متأكدة إن حصل حاجة
شعر زياد بالذعر إثر كلمـ.ـا.تها غير المرتبة وحاول تهدئتها ليفهم ما وراء حالتها القلقة:
_ ممكن تهدي، أنا مش فاهم حاجة، مالو يوسف؟
ابتلعت ريقها وأجابته بنبرة لاهثة:
_ معرفش، معرفش بس هو حصل حاجة، وعلي مش بيرد، يلا نروح لهم يا زياد
تملك القلق من أخيه ثم سحب هاتفه من جيبه وهاتف علي مراراً والإجابة نفسها، لا يجيب، عاد بأنظاره إلى تلك الخائفة وقال:
_ هما فين؟
بتلعثم قالت:
_ كانوا في المعرض..
حرك رأسه بتفهم وأردف:
_ هروح أشوف في إيه
عارضت لينة طريقه متوسلة إياه:
_ أنا عايزة أجي معاك
رفض زياد اصطحابها في وقت متأخر كهذا معللاً أسبابه:
_ لا إحنا متأخر و...
قاطعته هي بحسم:
_ لو مختنيش أنا هروح لوحدي
زفر زياد أنفاسه بضجر بائن وفكر للحظات وهو يطالعها قبل أن يردف أمراً:
_ طيب بسرعة..
تولاته ظهرها وسرعان ما عادت إلى الغرفة، نزعت عن يدها ذاك السِن الذي يخترق عروقها وألقته بعيداً ثم بدلت ثيابها سريعاً، وفي غضون ثوانٍ كانت قد انتهت وعادت إليه.
ترجل كليهما بخطوات سريعة والقلق يسيطر عليهما، وقف زياد ينظر إلى المكان من حوله فلقد عم الهدوء وحتماً لم يجدوا وسيلة مواصلات في تلك الساعة.
تنهد بضياع وهو يتمتم:
_ استحالة نلاقي مواصلة في الوقت دا..
شهيقاً وزفيراً فعلت لينة، استدرات بجسدها باحثة بعينيها عن أي وسيلة تنلقهم إلى مرادهم، وقعت عينيها على إحدى السيارات وهتفت متلهفة:
_ مش دي عربية بلال، كلمه يوصلنا
تردد زياد في فعل ذلك فكيف يثير قلقه وهما لا يدريان بعد ما الذي يخشيانه، حثته لينة على فعلها فلا يوجد طريقة أمامهما سوى تلك:
_ يلا زياد مقدmناش غيره..
هاتف زياد بلال بحرج شـ.ـديد، لكنه مضطر إلى فعل ذلك، كان الآخر قد انتهى للتو من تناول الطعام، أجاب بنبرة منهكة:
_ زياد..
حاول زياد التحلي بالهدوء لكي لا يثير قلقه وتحدث:
_ معلش يا بلال إني بكلمك دلوقتي بس لينة بتقول إنها كانت بتكلم علي وتقريباً حاجة حصلت، أنا مش فاهم في إيه بس محتاجين نروح لهم ضروري ومش قدmنا غيرك يوصلنا..
انتفض بلال من مكانه وتسائل مستفسراً:
_ حاجة إيه اللي حصلت؟
"مش فاهم وعلي مش بيرد ودا اللي قالقنا"
هتف بهم زياد فصاح بلال قائلاً:
_ طيب أنا نازل حالا
"تمام وإحنا تحت"
أنهي زياد المكالمة وانتظر ظهور بلال بفروغ صبر، بينما أخذ بلال مفاتيح سيارته وهاتفه وتوجه ناحية الباب فتسائلت إيمان بتوجس:
_ حصل حاجة؟
أجابها وهو يتابع سيره:
_ مش عارف، مش فاهم حاجة
حمحم ثم هتفت:
_ طيب ابقى اطمني عليك
أماء برأسه وغادر، هبط درجات السلم سريعاً حتى وصل إلى سيارته فكان زياد ولينة في انتظاره، استقلا جميعهم السيارة ثم انطلق بهم بلال الذي لم يكف عن الأسئلة:
_ إيه اللي خلاكم تفكروا إن فيه حاجة حصلت؟
تولت لينة مهمة الرد وهتفت بنبرة مرتجفة:
_ كنت بكلم يوسف واتساب وفجاءة معتش رد، رنيت عليه بعدها ومردش برده، كلمت علي كان بيجيب لهم أكل وقولتله روح أطمن على يوسف وفجاءة سكت وصوته اختفى وبعدها سمعته وهو بينادي على يوسف والمكالمة اتقطعت، أنا متأكدة إن حصل حاجة، صوته وهو بينادي عليه مش معقول واحد بينادي كدا عادي دا كان مصدوم
وبعد كدا معتش رد عليا..
تضاعفت رجفة صوتها ثم بكت، ابتلعت ريقها وحاولت الصمود أمامهما لكنها قد بثت الرعـ.ـب في قلوبهما، تنهد بلال وزاد من سرعة سيارته حتى يصل إلى مكان يوسف في أقرب وقت.
***
صافرة الإسعاف قد قلبت كيانهم، ذاك الحشـ.ـد الذي يقف أمام المعرض لا يزيد إلا الرعـ.ـب في قلوبهم، وضعت لينة يدها على قلبها حينما شعرت أنه يكاد يخترق جسدها من فرط تدفقه.
ارتفعت وتيرة أنفاسها ناهيك عن جسدها الذي بدأ يرتجف بشـ.ـدة، هدأ بلال من سرعة السيارة ليتخطى ذاك الحشـ.ـد بسلام، لم تنتظر لينة وترجلت من السيارة، كادت أن تفقد اتزانها، لكنها جاهدت حتى تصل إلى الإسعاف.
ترك بلال السيارة في منتصف الطريق، حينما فشل في تخطي أولئك الناس، ركض كليهما خلف لينة حتى تخطاها زياد بخطاه، ظل يزيح الواقفين من طريقهم إلى أن وصلا إلى سيارة الإسعاف التي اتضح أنهما ثلاثة سيارات وليس واحدة.
صرخت لينة فور رؤيتها لشقيقها وهرولت نحوه، تفحصت ثيابه المغطاه بالدmاء وتسائلت بذعر:
_ يوسف فين؟ الإسعاف دي عشان مين؟
فرت دmعة على مقلتي علي وأجابها بتلعثم:
_ يوسف جوا..
لم تنتظر لينة وركضت للداخل، صرخت بقوة حينما رأته موضوع على الناقلة يسيل منه الدmاء:
_ يوسف، يوسف
جهشت باكية وهي تقترب منه متوسلة إياه أن يجيبها:
_ رد عليا يا حبيبي، أبوس ايديك يا يوسف رد عليا طمني عليك
"لو سمحتي خليكي بعيد عايزين نمشي"
كان صوت لأحد المسعفين، لكنها لم تبرح مكانها وظلت تتوسله ان ينهض لكنه كان جسداً هامداً لا يشعر بمن حوله، تدخل علي وأبعدها بيديه مردداً:
_ سبيهم يشوفو شغلهم يا لينة
"يوسف"
نطقها بلال وزياد في آن واحد، صدmة قوية احتلت تقاسيهم، لا يصدقون ماهو عليه، كيف حدث ذلك؟ ومن فعل هذا به؟
"لو سمحتوا سيبونا نشوف شغلنا"
قالها أحد المسعفين فصاح زياد متسائلاً والدmـ.ـو.ع تحت في عينيه:
_ هو حصله إيه؟
نفى المسعف معرفته بالأمر بقوله:
_معرفش إحنا جالنا اتصال بيطلب عربية إسعاف، دا اللي نعرفه
تدخل بلال بسؤاله وعيناه مصوبتان على صديقه بعدm تصديق:
_ هو حالته إيه؟
أجابه الرجل بنفاذ صبر:
_ لسه مش عارفين، وبعد اذنكم عايزين نلحقه، التأخير دا مش في صالحه
تنحى بلال جانباً، وكذلك زياد حتى يسيرا المسعفين بالناقلة الطبية، وضعوه في سيارة الإسعاف وانتبه أحدهم على مجيئ زياد ولينة التي بادرت بقولها:
_ أنا هاجي معاه
تدخل زياد بحسم:
_ وأنا كمان..
رفض المسعف بجدية:
_ واحد بس..
لم تنتظر لينة وصعدت مسرعة حتى جلست بجواره دون أن تلتفت، بينما لم يكن في يد زياد سوى العودة إلى سيارة بلال ليحلقا بالإسعاف.
لم تجف دmـ.ـو.عها، بل كانت تزداد وهي تراه لا حول له ولا قوة، أمسكت يده فأسرع المسعف في منعها:
_ لو سمحتي بلاش حركة
رفعت بصرها عليه وهتفت من بين بكائها الغزير:
_ أنا مش هأذيه
كاد أن يعارضها إلا أن زميله قد همس له:
_ سيبها يا عادل..
وضعو له جهاز التنفس وآخر يقيس نبضات القلب، وواصلوا عمل جميع الفحوصات له، بينما لم ترفع لينة نظريها عنه ناهيك عن يدها التي لم تتركه قط على الرغم من ارتجافها القوي إلا أنها تمسكت به بقوة حتى لا تفلت يده.
توقفت سيارة الإسعاف عند باب المشفى، خرج بعض التمريـ.ـض برفقة طبيبان، أسرعا في نقله للداخل حتى وصلا إلى غرفة الطوارئ، أغلق الباب في وجهها فتوقفت خلفه ولم تبرح مكانها.
جسدها يرتجف بشـ.ـدة، تتذكر تلك آثار الدmاء على ثياب أخيها، التفتت فإذا بثلاثتهم يقتربون راكضين، توجهت نحو أخيها وسألته بتلعثم:
_ دا دm يوسف؟
تفقد علي ثيابه ويديه الملطخة بالدmاء ثم عاد بنظريه إليها، ساد الصمت لثوانِ قبل أن يومئ برأسه مؤكداً، جهشت لينة باكية ثم لم تستطيع الوقوف لأكثر ففقدت توازنها، لولا أن لحق بها علي.
ساعدها على الجلوس وجلس بجوارها محاولاً تهدئتها، بينما جاب بلال المرر ذهاباً وجيئا، يخفق قلبه بقوة، أصابه الذعر منذ أن رأى صديقه في تلك الحالة المذرية، لم يكن زياد أقل منه ذعراً بل كان يشعر بالرعـ.ـب خشية أن يصيب أخيه مكروه.
ظل كليهما يجوبان المكان دون توقف، أنتبه الجميع على خروج ممرضتان، فأسرع بلال نحوهما أولاً وكذلك تبعه الآخرين متسائلاً باهتمام وتهلف:
_ حد يطمنا عليه، هو عامل إيه؟
أجابته إحداهن وهي تتابع سيرها:
_ لسه معندناش معلومـ.ـا.ت كافية عن الحالة
ذهبن فزداد القلق في قلوبهم، ينتظرن خروج أحدهم ليطمأنهم على يوسف، بعد مدة خرجت ممرضة أخرى وأردفت بنبرة سريعة:
_ محتاجين دm ضروري، فصيلة دmه B+
صاح زياد من خلفها قائلاً:
_ أنا B+
التفت إليه وحدجته ثم قالت بغرابة:
_ أنت عندك كان سنة؟
شعر أنهما لن يقبلان به إن أخبرهم بعمره الحقيقي فقال:
_ ٢٥..
أماءت برأسها قبل أن تردف بعملية:
_ طيب تعالى ورايا..
سار زياد خلفها فأمسك بلال بذراعه مردفاً:
_ بلاش ونشوف حد تاني..
رفض زياد البتة وحسم أمره:
_ مش هستنى حد تاني، أنا موجود
تنهد بلال وهو يطالعه بقلة حيلة، ذهب برفقته فلن يتركه يغامر بمفرده، حمحم وطلب من الممرضة بعض الوقت بعد أن بدأت في نقل الدm من زياد.
" هو عنده ٢٠ مش ٢٥ زي ما قال، عليه ضرر؟"
هتف بلال متسائلاً فأجابته هي بجدية:
_ لا مفيش ضرر، أنا سألته بس عشان شكله صغير مينفعش أقل من ١٧ سنة
شعر بلال بالراحة ثم ولج الغرفة مرافقاً لزياد حتى ينتهي من نقل الدm.
***
بعد ما يقرب الستون دقيقة، خرج الطبيب من غرفة الطوارئ، ركض نحوه جميعهم متسائلين عن حالة يوسف.
أخرج الطبيب تنهيدة وأجابهم بآسى:
_ الحالة اتعرضت لضـ.ـر.ب مبرح في الراس مباشرة، ودا نتج عنه نـ.ـز.يف في المخ، دا غير أنه مش بيستجيب لينا خالص، المريـ.ـض دخل في غيبوبة وهننقله العنايه المركزه، وبكرة إن شاءالله هنعمله إشاعة تانية نشوف النـ.ـز.يف زاد ولا زي ماهو، لو زاد طبعاً هنحتاج لتدخل جراحي، ادعوله هو محتاج دعواتكم
تركهم وغادر في حالة لا يرثى لها، كم من المصائب أخبرهم بها بسهولة؟!
كان الجميع لا حول لهم ولا قوة، لا تستوعب عقولهم ما وقع على مسامعهم للتو، تبادلا النظرات وهما لا يدريان ما عليه فعله؟
خرج يوسف على الناقلة الطبية برفقة ممرضتين، كانت لينة أول من ركضت نحوه والدmـ.ـو.ع تنسدل بغزارة من عينيها وهتفت بنبرة مرتجفة:
_ يا يوسف.. عشان خاطري قوم وبلاش تخضني عليك..
شاركها زياد البكاء وهو يهتف بآسى:
_ قوم يا يوسف إحنا ولا حاجة من غيرك..
اكتفى بلال بالمشاهدة دون أن ينبس، لكنه فشل في إخفاء عبراته التي تساقطت فور رؤيته لصديقه، كان علي يقف بجوار لينة يحاول مواستها وإبعادها عنه.
صاح صوت بلال الحاسم وهو يمسح عبراته:
_ لا أنا مش هسيبه هنا، أنا هوديه مستشفى تانية..
سحب هاتفه من جيب بنطاله وهاتف والده الذي أجاب بصوت ناعس:
_ إيه يا بلال في حاجة؟
أتاه صوته الباكي وهي يقول:
_ أنا عايزك تيجي حالاً، يوسف في المستشفى ودخل في غيبوبة، أنا عايز انقله مستشفى تانية، محدش هيساعدني في الموضوع دا غيرك
انتفض السيد سمير بذعر وهتف بعدm استيعاب:
_ يوسف ماله حصله إيه؟
"معرفش، هتيجي ولا أتصرف أنا؟"
قالهم بلال بصوت متحشرج فأسرع والده في ترديد:
_ أنا جاي لك على طول، عرفني أنتوا في مستشفى إيه
أخبره بلال عن مكانهم ثم خرج لينتظر والده، على جانب آخر لم تكف لينة عن البكاء وخصيصاً حينما منعتها الممرضة من مرافقة يوسف، بينما نهض زياد فجاءة مردداً:
& لازم ماما تعرف..
تدخل علي مقترحاً:
_ بلاش تقلقها يا زياد، عرفها إنها حاجة بسيطة على لما تتقبل فكرة أنه تعبان الأول وبعدين نعرفها..
أومأ زياد بقبول وابتعد عنهما وهاتف والدته، حاول ضبط نبرته لكي لا يقلقها، أجابت هي بنعاس:
_ زياد، أنت لسه مرجعتش؟
ابتلع ريقه محاولاً الصمود وأردف بهدوء:
_ لسه، ماما عايز أقولك حاجة بس متتخضيش..
خفق قلبها رعـ.ـباً ورددت بقلق:
_ في إيه حصلك حاجة؟ أنت كويس؟
نفى زياد بقوله:
_ أنا كويس، بس يوسف..
صاحت ميمي بذعر تملك منها:
_ ماله يوسف؟ أخوك ماله؟
مسح زياد عبراته التي سقطت رغماً وحاول جاهداً ألا يزيد من قلقها، فاختار كلمـ.ـا.ته بعناية:
_ مفيش هو تعبان شوية وإحنا في المستشفى..
قاطعه ميمي بتوجس شـ.ـديد:
_ حصله إيه؟ أنا عايزة أجي، تعالى خدني..
توقف عقل زياد عن التفكير، فكيف سيعود إليها ويترك أخيه، وكيف يتركها بمفردها بعدmا أخبرها بمرض يوسف، أوصد عينيه محاولاً الإتيان بفكرة ما فتذكر السيد سمير، أعاد فتح عينيه وأردف:
_ أنا هتصرف يا أمي البسي وهكلمك تاني
أسرع من خطاه إلى الخارج حتى التقى ببلال وهتف بنبرة لاهثة:
_ ممكن تكلم أبوك يجيب أمي وهو جاي
أغمض بلال عينيه مستاءً وهتف:
_ أنت إيه اللي خلاك تقولها؟
بتلقائية أجابه:
_ لأنها كدا كدا هتصحى تصلي الفجر وهتعرف إننا مش في البيت مفرقتش الوقتي من بعدين..
تأفف بلال بضجر وأعاد الإتصال بأبيه ثم أخبره بأن يصطحب والدة يوسف معه فلم يمانع السيد سمير على الرغم من تخطيه منطقتهم بمسافة ليست بقصيرة.
استقلت السيدة ميمي السيارة والقلق كان واضحاً على تقاسيمها، فحاول السيد سمير تهدئتها بقوله:
_ ربنا يطمنك عليه يا أم يوسف وإن شاء الله يفوق من الغيبوبة قريب
اتسعت حدقتي ميمي وطالعته بصدmة مرددة بذهول:
_ غيبوبة! غيبوبة إيه؟
شعر السيد سمير أنه زاد الأمر سوءاً، لم يكن على دراية بأنها جاهلة ما أصاب ابنها، حمحم وحاول تصحيح ما اقترفه:
_ معرفش إنك مت عـ.ـر.فيش والله، بس اطمني إحنا هنوديه أحسن مستشفى ومش هنسيبه أبداً
وضعت السيدة ميمي يدها على صدرها فلقد شعرت بوخزة قوية في قلبها وتمتمت بقلب يعتصر ألماً على فلذة كبدها:
_ يا حبيبي يابني
وزع السيد سمير أنظاره بينها وبين الطريق خشية أن يحدث مكروه لها من خلفه، وصلا المشفى في غضون دقائق، ركض بلال نحو سيارة أبيه وهتف بتلهف:
_ أنا خليتهم يجهزوا إسعاف مخصوص عشان نقدر ننقله، بس مش عارف هنروح فين بالظبط
أخذ يفكر السيد سمير للحظات قبل أن يخبره:
_ هنروح عند عمك رفعت في المستشفى اللي مسكها جديد
أومأ بلال بتفهم بينما كانت تتابع السيدة ميمي حديثها ثم تسائلت حينما تقابلت عينيها مع عيناي بلال:
_ يوسف ماله يا بلال؟ صاحبك حصله إيه؟
اقترب منها وحادثها بشفقة:
_ إن شاءالله هيكون كويس، ادعيله
دلف الجميع حيث الرعاية الصحية، يتابعون خروج يوسف ونقله إلى سيارة الإسعاف، لم تترك لينة يد ميمي فكانت تستمد منها القوة والعكس صحيح.
وصلا إلى مشفى خاص، كانت هائلة البنيان، ذو شكل هندسي دقيق، لها بوابات هائلة تفتح تلقائياً فور وقوف أحداً أمامها، استقبلهم فريق من الأطباء وفريق آخر من التمريـ.ـض، فلقد أوصى السيد سمير صديقه بعمل اللازم لحالة يوسف.
"مش هنقدر نعمله إشاعة تانية النهاردة لأن دا ضرر عليه مرتين في أقل من ساعتين، بس هنعمله كل الفحوصات اللازمة لحالته، وربنا يطمنا عليه"
كان حديث أحد أطباء المخ والأعصاب الكبـ.ـار، جلس الجميع في الردهة في انتظار الفحوصات التي سيجريها يوسف مرة أخرى.
حضرت ممرضة ترتدي زييها الرسمي باللون الزهري وقالت بذوق:
_ لو سمحتم محتاجين حد يجي في الإستقبال يملى بيانات المريـ.ـض، ويسيب فلوس تحت الحساب
وقف بلال وكذلك زياد ليذهبا إلى الإستقبال وينهوا جميع إجراءات فترة مكوث يوسف، كادت الممرضة أن تغادر إلا أنها عادت إليهم وقالت بعملية:
_ ومعلش ممنوع قعاد في lobby (الردهة)
عاد إليها بلال بوجه جـ.ـا.مد وهدر بها شزراً:
_ يعني إيه ممنوع؟ نقعد في الشارع مثلاً؟
حمحمت الممرضة وأوضحت حديثها:
_ دي قوانين المستشفى يا فنـ.ـد.م، يعني أنا لو مقولتش هيجي غيري ويطلب منكم تمشوا
كاد بلال أن يهاجمها برده إلا أنها واصلت مقترحة حلاً:
_ بس ممكن حضرتك تحجز Travelers room (غرفة المسافرين) بتكون مخصصة لأهل مريـ.ـض الرعاية
تدخل السيد سمير حاسماً الأمر بقوله:
_ خلاص ماشي إحنا هنشوف الموضوع دا، شكراً
بادلته ابتسامة ثم غادرت بينما ذهب بلال برفقة زياد وقاموا بإنهاء جميع الإجراءات اللازمة ناهيك عن حجزهم لغرفة إضافية حتى يستطيعون الجلوس براحة.
ظهرت بعض النتائج وكانت جميعها مطابقة لما قالاه في المشفى الأخرى، عاد يوسف إلى الرعاية الصحية بينما كان الجميع يجلس في الغرفة منهمرين بين أفكارهم التي تؤدي في النهاية إليه.
حمحم السيد سمير ونهض عن كرسيه ثم نظر إلى بلال وأردف بأمر:
_ يلا إحنا يا بلال عشان ياخدوا راحتهم وأول لما الشمس تطلع نيجي تاني
لم يريد بلال المغادرة لكن ماباليد حيلة، فكيف سيمكث في المكان نفسه معهم، مرر نظريه على الجميع قبل أن ينهض وقال:
_ أنا مش هتأخر عليكم، هرجع لكم على طول..
ردت عليه السيدة ميمي بامتنان:
_ براحتك يابني..
ألقى بلال حديثه قبل مغادرته:
_ لو حصل حاجة كلموني على طول
اكتفت ميمي بإيماءة من رأسها فغادر بلال برفقة والده، نهضت السيدة ميمي لتتوضأ وتؤدي صلاة الفجر، كذلك لينة والأخرين فعلوا مثلها وعادوا إلى أماكنهم.
حيث كانت لينة تجلس على فراش وزياد على أريكة وعلي على الأريكة الأخرى وأخيراً السيدة ميمي التي جلست على الفراش الآخر في الغرفة.
***
بعد مرور ساعتين، أشرقت الشمس وملئت الأرض بنورها، غفى الجميع عدا لينة التي قاومت النوم خشية حدوث شيئ لا تكون أول من يلم به، لم تتوقف عن البكاء، حتى باتت عينيها متورمتان للغاية بالكاد ترى منهما.
قلق علي لثوانٍ فوقع صوتها الباكي على مسامعه، لم يصدق أنها لازالت تبكي، فالجميع نيام عدا هي تبكي منذ أن وقعت الحادثة، نهض عن أريكته وقد شعر بألم طفيف في عضلات جسده إثر نومه على الأريكة، ذهب إليها ثم لكزها بخفة في ذراعها ليجذب انتباهها وعنـ.ـد.ما رمقته بطرف عينيها أشار لها أن تتبعه.
نهضت بصعوبة قابلتها، فلقد نفذت طاقتها، خرجت من الغرفة فإذا به يردف معاتباً:
_ أنتِ مبطلتيش عـ.ـيا.ط يا لينة! لما أهله يشوفوكي كدا المفروض يعملوا هما إيه؟ إهدى شوية..
تعجبت من أمره وتقليله من دورها في تلك العائلة وهتفت بحنق:
_ أنت بتقلل من دوري كدا ليه كأنهم أقرب له مني؟
بتلقائية أجابها:
_ لأنهم أقرب له فعلاً، دي مامته ودا أخوه، ومش عاملين اللي أنتِ عملاه دا!!
لم تستطيع لينة الصمت وهتفت منفعلة:
_ محدش أقرب له منهم أكتر مني!!
لو هما أهله فأنا بح...
لم تكمل، صمتت وطالعته لوقت بينما كان ينتظر منها مواصلة مالم تنهيه، تأففت هي وحاولت الهروب من أمامه:
_ متركزش معايا يا علي، سيبني أزعل على طريقتي..
أولاته ظهرها لتعود إلى الغرفة إلا أنه لحق بها وسألها مستفسراً:
_ أنتِ إيه؟ كملي كلامك!
أرادت إنهاء ذاك الحوار فقالت بتعب:
_ مش وقته يا علي نتكلم بعدين أنا بجد مش قادرة أقف على رجلي
رفض البتة ذهابها قبل أن يلم بما يجهله:
_ لا وقته، أنا مش هفضل ماشي زي الأطرش في الزفة مش فاهم حاجة والإسم إني أخوكي!
فهميني ليه كل العـ.ـيا.ط دا؟
وليه قولتي مقللش من دورك؟
معناه إيه كل دا؟
زفرت لينة أنفاسها وبهدوء هدرت:
_ معناه إني بحبه يا علي..
اتسعت حدقتي علي بذهول شـ.ـديد فتسائلت هي بفتور:
_ ها، ارتحت؟
لم يستوعب عقله بعد، فأخذ ثوانٍ محاولاً تصديق تصريحها، ابتلع ريقه وردد دون فهم لبعض الأمور:
_ إزاي يعني؟
وكتب كتابك دا معناه إيه؟
أنا مش فاهم أي حاجة، طيب وهو؟
أخرجت لينة تنهيدة مهمومة وبدأت تبكي وهي تجيب على أسئلته:
_ إزاي؟ فمشاعرنا مش بإيدينا، أنا اطمنت له وعشت في خيره ومعرفتش معنى الدلع غير معاه، حبيته ومش بإيدي، نظرتي ليه وضحت كل ما كنت بكبر وأفهم يعني حب!
كتب كتابي على زياد، دا كان مجرد اقتراح عشان يحلل قعادي في البيت، قرار متسرع وأنا كنت غـ.ـبـ.ـية لما مقولتش لأ!
ازداد نحيبها وهي تتذكره وتابعت مسترسلة بصوت متحشرج:
_ أما بالنسبة ليه بقى فأنا معرفش..
"يوسف بيحبك يا لينة"
كان هذا صوت آخر ظهر من خلف باب الغرفة اللذان خرجا منها للتو، اتسعت مقلتي لينة وعلي وهما يتابعان خروج زياد.
كانت مفاجأة لكليهما، لم يقدر على التحدث وكأن ألسنتهم شُلت، اقترب منهما زياد بملامح جـ.ـا.مدة وتابع قائلاً:
_ لو فكرتي للحظة في كل تصرفاته هت عـ.ـر.في إنه بيحبك، لما كان بيتحجج عشان متكنيش معايا لوحدك فهمت إنه غيران عليكي، ويوم كتب الكتاب واللي عمله معايا يثبت لك إنه بيحبك ومش عايزك تكوني غير ليه، قربه منك بحجة إنك أمانة صاحبه كانت كدبة يمكن هو نفسه كان مصدقها، أصل مفيش حد بيصون الأمانة بالشكل دا إلا إذا كان حابب الأمانة نفسها، كل تصرفاته عندي اللي مكنش ليها تفسير وضحت دلوقتي..
عشان كدا أنا متأكد إنه بيحبك!
تساقطت عبرات زياد بقوة، حاول مسحهم لكنهم لا يتوقفا عن السقوط، فتابع بصوت متحشرج:
_ هو يقوم بس وأنا هسلمك ليه، بس يقوم..
خارت قوة لينة على التماسك وجهشت باكية، كان يبكيان حـ.ـز.ناً على ما أصاب يوسف، والأحر أنهما لا يدريان إن كان سيستعيد وعيه أم لأ، لم تتحمل لينة فكرة أنه لن يعود إليها وهرولت مبتعدة عنهما وهي تبكي بشـ.ـدة.
لم يقف علي مكانه بل ركض خلفها لكي يواسيها، فلا يوجد غيره الآن وعليه أن يكون جدير بذلك، بينما عاد زياد إلى الغرفة بعدmا مسح عبراته لكي لا يثير القلق في قلب والدته.
***
تململت في الفراش بكسل، انتبهت على جلوسه بجوارها على الفراش، واضعاً ذراعيه خلف رأسه مستنداً بهما على حائط الفراش.
نهضت مسرعة وهتفت بتلعثم مختلط للقلق:
_ أنت جيت امتى؟ أنا حاولت كتير أكلمك بس كان بيديني غير متاح..
فرك بلال عينيه بكسل وقال بنبرة منهكة:
_ المستشفى مفيش فيها شبكة
"مستشفى!!"
رددتها إيمان بغرابة معانقة للقلق الذي تضاعف داخلها ثم تابعت سؤالها باهتمام:
_ مين اللي تعبان؟
مال بلال رأسه للجانب ناظراً إليها قبل أن يردف:
_ يوسف..
جحظت عيناي إيمان بصدmة وهتفت بتوجس:
_ ماله حصله إيه؟
كز بلال أسنانه وهو يرى لهفتها الواضحة، عاد ينظر في الفراغ أمامه وبتجهم تمتم:
_ في غيبوبة..
شهقت إيمان بصدmة تلقتها وصاحت بذعر:
_ غيبوبة! ليه هو إيه اللي حصل؟
لم يتحمل بلال سماع صوتها المتلهف للحظة أخرى، فنهض مسرعاً لكي يغادرها، تعجبت إيمان من هرولته دون أن يجيبها، فتبعته للخارج وتسائلت:
_ أنت رايح فين؟ هترجع المستشفى
بإقتضاب أجاب:
_ آه
أسرعت في طلب شيئ بتلهف:
_ بلال، أنا عايزة أجي معاك؟
توقف بلال عن السير ثم استدار إليها، كانت ملامحه لا تبشر بالخير وصاح بنفاذ صبر:
_ كفاية بقى، ها كفاية
طالعته بأعين ضائقة، فما الذي يقصده؟ حسناً تجمعت شتات أفكارها وفهمت الأمر الآن، أخرجت زفيراً قبل أن تردد:
_ شكلك ناسي إنه إبن عمتي، وإن عمتي دي أكتر من أم ليا، وطبيعي أكون واقفة جنبها في محنة زي دي، ولو كان بعد الشر يعني زياد مكان يوسف كنت هقول كدا برده، ما إحنا في الآخر قرايب ويربطنا دm!
لم يبدي بلال ردة فعل بل اكتفى برمقها وهو يعيد كلمـ.ـا.تها في رأسه، قطعت عليه حبال أفكاره بقولها:
_ خلاص يا بلال الموضوع مش محتاج حيرة، أنا هبقى أكلم عمتو في الموبايل طلاما دا هيريحك وهيخليك تثق فيا..
أولاته ظهرها وتوجهت ناحية غرفتها، بينما لام بلال نفسه، وشعر أنه بحاجة إلى إعطائها القليل من الثقة لكي يستطيع العيش دون صراع.
"البسي، هستناكي تحت"
أردفها ثم غادر المنزل، فنظرت هي حيث كان يقف وأسرعت إلى غرفتها ترتدي ثيابها سريعاً قبل أن يتراجع.
***
ربت على ذراعها بحنو قبل أن يسألها باهتمام:
_ ها، بقيتي أحسن؟
أبعدت رأسها عن كتفه وأماءت بتأكيد قبل أن تردف بخفوت:
_ أيوة، يلا نرجع عشان لو حصل جديد مع يوسف
نهض علي ومد يده لها فتمسكت به، تقابلا مع بلال وإيمان اللذان ترجلا من السيارة واقترب منهما، تنهد بلال وتسائل مستفسراً:
_ محصلش جديد؟
نفى علي بتحريك رأسه وأردف بآسى:
_ لا لسه
ولج أربعتهم إلى الغرفة الذين يمكثون بها، هرولت إيمان ناحية عمتها وعانقتها بشفقة:
_ ربنا يطمنك عليه يا عمتو
بكت الآخرى وربتت على ظهرها وهي تردد:
_ آمين يارب، ادعيله يا إيمان
بتلقائية هتفت:
_ إن شاء الله هيقوم ويرجع معاكي البيت
آمنت ميمي على كلمـ.ـا.تها ثم دعتها للجلوس، ذهب بلال برفقة زياد وعلي وحتماً لينة إلى الطبيب المتابع لحالة يوسف.
طرق بلال باب الطبيب فلم يأتيه إجابة، أعاد تكرار المحاولة والنتيجة نفسها، فقرر الدخول مباشرةً، لم يجد أحداً في الغرفة، أعاد غلق الباب ثم نظر إلى من يقفون خلفه موضحاً:
_ محدش جوا
مرت إحدى الممرضات فأسرعت لينة في سؤالها:
_ لو سمحتي الدكتور اللي هنا فين؟
أجابتها بعملية:
_ مع واحد بيعمل أشعة مقطعية..
صمتت لحظة ثم تابعت بعدmا حدجت ملامحهم جيداً:
_ أنتوا قرايب يوسف الراوي مش كدا؟
تولى زياد الإجابة عنهم:
_ أيوة إحنا
أؤمـ.ـا.ت الممرضة إيماءات عدة وتابعت:
_ الدكتور معاه..
تسائل بلال باستفسار:
_ فين أوضة الأشعة دي؟
ترددت الممرضة في إجابته وهتفت معتذرة:
_ معلش انا آسفة بس ممنوع حد يقف قدامها، ممكن حضرتك ترجع الأوضة ووقت ماهو يخلص هاجي أطمنكم
دس بلال يده في جيب بنطاله وأخرج بعض الورقات النقدية ثم اقترب منها ووضعهم في يدها هامساً:
_ قوليلي بقى هي فين وإحنا مش هنجيب سيرتك
تنهدت الممرضة فلقد وقعت في حيرة من أمرها، أخبرته عن طريق الوصول إليها ثم غادرت، بينما توجه الجميع ناحية الغرفة ووقفوا أمامها في انتظار أي أخبـ.ـار عن يوسف.
بعد مدة لا بأس بها، خرج الطبيب برفقة أحد الممرضات فأسرع بلال نحوه وسأله بتوجس:
_ ها يا دكتور، أخبـ.ـار يوسف إيه طمني عليه
حمحم الطبيب وبعملية هدر:
_ الأشعة وضحت إن الحمدلله النـ.ـز.يف مزادش...
تمتم الجميع من أمامه بسعادة:
_ الحمد لله
فتابع هو ببسمة قد تشكلت على محياه:
_ دا غير إنه هو بدأ يفوق ويستجيب للي حواليه، حمد الله على سلامته
هلل الجميع في سعادة غمرت قلوبهم، عانق بلال زياد بفرحة عارمة، وكذلك لينة التي اختبأت في صدر أخيها تبكي بسعادة فضمها هو بقوة مردداً:
_ خلاص يا لينة الحمدلله بقى كويس
خرجت نبرتها مهزوزة في قولها:
_ كنت خايفة عليه أوي يا علي..
وقعت كلمـ.ـا.تها على آذان زياد، طالعها وهو يحسم أمره، خرج يوسف على الناقلة مع ممرضتين، وقفوا حوله محاولين التحدث معه حيث هتف بلال بسعادة:
_ واد يا يوسف كدا تخضنا عليك
ثم هتفت لينة بشفقة وحـ.ـز.ن لحالته:
_ خوفتني عليك أوي يا يوسف..
قال زياد وهو يميل على أخيه:
_ حمد لله على سلامتك يا حبيبي
"حمد لله على سلامتك يا يوسف"
كانت تلك جملة علي، بينما خرجت كلمـ.ـا.ت يوسف بخفوت:
_ أنا فين؟
تدخلت أحد الممرضات محذرة:
_ يا جماعة ابعدوا لو سمحتم مينفعش كدا
تابعن الممرضتين سيرهما حيث الرعاية الصحية بينما هتف زياد بحماس:
_ لازم أعرف ماما..
تبعه الجميع إلى الغرفة وأخبروا السيدة ميمي التي سجدت لله شاكرة إياه على لطف أقداره، استغل زياد فرصة انشغال الجميع بهذا الخبر واقترب من لينة وهمس لها:
لينة تعالي برا عايز أقولك حاجة
رمقته بنظراتها قبل أن تتبعه إلى الخارج، ابتعد زياد قليلاً عن الغرفة ثم طالعها لوقت وهو يفرك أصابعه وهتف:
↚
***
"للدرجة دي الكلام صعب، مش عارف تقوله!"
هتفت لينة بتعجب لرؤية تردده المبالغ، ناهيك عن فركه لأنامله طيلة وقوفه أماما، أخرج زياد تنيهدة قبل أن يردد وهو منكس الرأس لا يقدر على النظر في عينيها:
_ الموضوع غريب عليا ومش شبهي، ومش عارف أقول إزاي بس أنا عايز أقول..
صمت حينما فشل في مواصلة حديثه فهتفت هي متسائلة:
_ عايز تقول إيه؟ قول من غير كل التردد دا
أماء بالإيجاب ثم طالع عينيها لثوانٍ قبل أن يهتف:
_ أنتِ طالق...
تفاجئت لينة بما قاله، بينما زفر هو أنفاسه براحة عنـ.ـد.ما استطاع نطقها، شكل بسمة وأردف بحرج وهو يفرك أنامله:
_ أنا مش عارف نطقتها إزاي، الموقف غريب أوي، بس كدا أحسن، الوضع من الأول كان غلط وكان لازم يتصلح، يوسف يستاهل كل حاجة حلوة تحصله عشان هو عملنا كل الحلو من غير ما نطلبه، أنا لو كان أبويا عايش مكنش عمل اللي يوسف عمله، ولو دي حاجة ترد اللي عمله معايا فأنا بجد راضي..
غمز إليها بمشاكسة قبل أن يواصل ممازحاً:
_ ومتفكريش إني كنت حابب الوضع يعني، أنتِ عمرك ما كنتي غير أختي يا لينة
أخفض رأسه بحرج شـ.ـديد متذكراً فعلته الوقحة وبنـ.ـد.م تابع:
_ ومتزعليش من أي موقف بايخ عملته معاكي، طيش شباب بس كان زايد شوية..
رفع بصره نحوه مطالعاً عينيها المتأثرة بحديثه وقال:
_ ربنا يسعدكم..
فرت دmعة من عيناي لينة فقامت بمسحها ثم حاولت الإبتسام وهتفت:
_ ربنا يخليك لينا يا زيزو، أنت أحسن أخ ليا وليوسف، وبجد موقفك دا عمري ما هنساه أبداً
أشارت بيدها على قلبها قبل أن تواصل مسترسلة:
_ جدعنتك هنا، في قلبي
تبادلا إبتسامة راضية، ثم انضم إليهما علي متسائلاً عن سبب وقوفهم:
_ بتعملوا إيه هنا؟
ربت زياد على كتفه وهتف:
_ لينة تبقى تعرفك بقى، أنا داخل الأوضة..
تركهما وعاد إلى الغرفة، بينما تبادلت لينة النظرات مع شقيقها ثم صاحت بسعادة:
_ شكل الحلم بدأ يتحقق يا علي
ضاق بعينيه عليها وتسائل بعدm استيعاب:
_ حلم إيه؟، مش فاهم حاجة
عضت على شفتيها مبتسمة بعذوبة وبدأت تخبره ما حدث منذ قليل تحت نظراته المتفاجئة لما يصغي إليه..
***
مساءاً، قد حان موعد زيارة يوسف، وقف الجميع أمام باب الغرفة فأبلغتهم الممرضة ببعض التعليمـ.ـا.ت:
_ لو سمحتم بلاش دوشة و١٠ دقايق ونخرج عشان المريـ.ـض يرتاح
أماءوا لها بقبول ثم دلفوا واحد تلو الأخرى حتى باتوا جميعاٌ في الداخل، فتح يوسف عينيه إثر صوتهم ولكن كان ينظر إليهم وكأنه يحلم، لازالت رأسه ثقيلة ورؤيته مشوشة.
اقتربت منه السيدة ميمي والدmـ.ـو.ع تتساقط على مقليتها حـ.ـز.ناً على ما حل به وقالت بنبرة مكلومة:
_ حمد لله على سلامتك يا حبيبي، دا أنا كنت همـ.ـو.ت يا يوسف من الخوف عليك
ابتلع يوسف ريقه وبخفوت همس:
_ بعد الشر عنك يا أمي
ابتسمت له وهتفت متسائلة:
_ إيه اللي حصلك يا حبيبي مين اللي عمل فيك كدا
تدخل بلال بقوله:
_ مش وقته يا أم يوسف خلينا نطمن عليه الأول وبعدين نعرف
تراجعت السيدة ميمي عن معرفتها لما حدث بينما تابع بلال ممازحاً:
_ بس إيه رأيك في المستشفي مقعدك في حاجة ٧نجوم
تبسم يوسف بصعوبة ثم اكتفى بذلك دون تعقيب فلم يكن لديه القدرة على التحدث طيلة الوقت، ثم صدح صوت أخيه المتأثر:
_ أول مرة أخاف كدا يا يوسف..
بالكاد نطق جملته وخارت قوة تماسكه وبكى، كان يبكي كطفل صغير وهو يطالع أخيه في تلك الحالة، فيوسف كان دوماً رمزاً للقوة والمثابرة، كان الطاقة الذي يستمد منها استمراريته على السعي.
كانت مفاجئة بالنسبة للجميع بكاء زياد وعدm إخفاء قلقه على أخيه، فهذا يتنافى تماماً مع شخصه، رفع يوسف يده وربت على ذراعه مردداً بصوت منخفض:
_ أنا كويس..
لم يكف زياد عن البكاء بسهولة، فاقترب منه بلال وأحاط كتفيه، قبل أن يهتف بمزاح:
_ مكنتش أعرف إن قلبك رقيق كدا، دا أنت طلعت واد خفيف
نجح بلال في رسم البسمة على شفتيه، تدخلت إيمان في الحوار مع حرصها الشـ.ـديد في الحديث:
_ حمدالله على سلامتك يا يوسف
حرك يوسف رأسه واكتفى بقول:
_ الله يسلمك
أخذت إيمان جانباً ولم تشارك الحديث معهم لربما تنجح في استعادة ثقة بلال بها، بينما كان علي يكتفي بالمشاهدة دون تعقيب، بحث يوسف بعينيه على مشاكسته فلم يجدها، وجه بصره نحو والدته وتسائل باهتمام:
_ لينة فين يا أمي؟
عقدت ميمي حاجبيها بغرابة، التفتت برأسها للخلف باحثة عنها فهي كانت ترافقهم، أين ذهبت،
عادت بنظرها إلى يوسف مرددة:
_ كانت معانا، راحت فين؟
حمحم علي بحرج وأردف وهو يمرر نظريه على الجميع:
_ هشوفها برا..
هرول سريعاً إلى الخارج، فكانت تقف مستندة على الحائط، اعتدلت في وقفتها حينما رأت شقيقها وتسائلت بلهفة:
_ هو عامل إيه، كويس ولا تعبان، فايق ولا نايم؟
"ما تيجي تشوفيه أنتِ بنفسك"
هتف علي بغرابة من أمرها، بينما صمتت هي قبل أن تخبره عن سبب وقوفها في الخارج:
_ أنا خايفة أدخل..
قطب الآخر جبينه متسائلاً بفضول:
_ خايفة من ايه؟
أولاته ظهرها وجابت المكان سيراً وهي تجيبه:
_ أنا عارفة إني مش هقدر أسيطر على نفسي، وكلهم جوا ومينفعش، أنت فاهمني؟
استنكر علي هرائها، اقترب منها وحاوط ذراعها بيده ثم توجه إلى الغرفة هاتفاً:
_كل الحكاية هتقوليله حمد الله على السلامه وبس
دلفا الغرفة فحررت لينة يدها من قبضة أخيها، أخذت شهيقا عميق وزفرته على مهل، مالت برأسها قليلاً فوقعت عينيها عليه، كان الجميع موليها ظهورهم عدا يوسف الذي لمح طيفها، مال برأسه ليتأكد منها ثم قال بخفوت:
_ تعالي..
توجهت الأنظار نحوها فاضطرت إلى الظهور، اقتربت منه بخطى متمهلة فتسائل يوسف باهتمام:
_ مش عايزة تشوفيني؟
وكأن سؤاله قد فتح لها سبيلاً للبكاء، جهشت باكية تحت نظرات الجميع المتعجبة لبكائها، اقتربت منها السيدة ميمي وربتت على ظهرها بحنو وأردفت موضحة:
_ هو ميقصدش حاجة، بيهزر معاكي أنتِ مش عارفة يوسف؟
لم تتوقف عن البكاء وهي تطالعه، فعقد يوسف حاحبيه وهو يرى حالتها تلك، كم تمنى أن ينهض ويضمها لصدره بحميمية ويخبرهم جميعاً أنها ملكاً له.
"بتعيطي ليه يا لينة"
تسائل يوسف بصوت منهك فأجابته الأخرى بنبرة غير مفهومة:
_ خوفت عليك أوي..
كان تصريحاً صادقاً دون زيف، خفق قلب يوسف بشـ.ـدة، وازداد شعوره لمعانقتها، لم يخفض بصره عنها فكان يعانقها في خياله، كان البقية متعجبين من قولها بتلك النبرة.
فهم علي الآن سبب عدm مرافقتها لهم من البداية، راوده النـ.ـد.م لإصراره على دلوفها الغرفة فهو في موقف لا يحسد عليه، حمحم زياد جاذباً انتباههم ثم صاح موجهاً حديثه لوالدته:
_ أكيد يوسف جعان يا ماما، تعالى لما نروح تطبخي له حاجة ونرجع تاني
لم ترفض ميمي ووافقته الرأي، بينما هدر بلال أمراً وهو يطالع إيمان:
_ يلا إحنا كمان عشان أروحك
أماءت بقبول بينما مال بلال على يوسف وغمز له ثم همس بمشاكسة:
_ مع السلامة يا روميو
أطلق قهقه قبل أن يغادر بينما لم يستشف يوسف ما يرمي إليه بلال، أخذت السيدة ميمي حقيبتها وأردفت:
_ يلا يا لينة
تفاجئت لينة بقول السيدة ميمي ووزعت نظريها بينها وبين زياد بحيرة، فتولى زياد الرد على والدته:
_ سبيها هنا يا ماما عشان يوسف ميكنش لوحده وإحنا مش موجودين
رمقته ميمي بنظرات مريبة، فلم تصدق أنه من يريد تركها هنا، لم تستطيع التعقيب أمام الآخرين واضطرت إلى القبول، ثم خرجت برفقة زياد متوعدة له.
التفتت لينة برأسها وأشارت لأخيها بأن يتركهما بمفردهما، حمحم علي وتسائل باستفسار:
_ تحبوا تشربوا حاجة أجيب لكم معايا؟
أومأت لينة بالإيجاب وقالت مختصرة:
_ ياريت..
اكتفى علي بتحريك رأسه ثم توجه إلى الخارج، باتت الغرفة خالية إلا من كليهما، أخفضت لينة عينيها بحرج شـ.ـديد، في حين أن يوسف لم يرفع بصره عنها، لديهم أحاديث محملة بالكثير من المشاعر، يريدان التصريح بها لعل قلوبهم تشعر بالارتواء.
تنهد يوسف و أراد خلق حوارً معها فحمحم ليردف سؤاله:
_ خوفتي عليا؟
صوبت بصرها نحوه، أحقاً يتسائل؟ ألم يراه من خلال نظراتها؟ ألم تخبره لهفتها؟ ألم تكفي دmـ.ـو.عها لتجيبه؟
أخرجت تنيهدة وهمست بعذوبة:
_ أنت بتسأل يا يوسف! للدرجة دي مشاعري مش واضحة؟ ولا أنت اللي مُصر متشوفهاش؟
دا أنا قلبي هلك من كتر خوفي عليك!
قلقي عليك استحوذ عقلي وتفكيري كله كان فيك!
معقول مش باين عليا؟
مش باين إني بحبك يا يوسف؟!
هتفت بحبها وهي تطالع عينيه بهُيام، وأخيراً نطقتها، أفصحت عن حبها بسهولة، ألقت ما أخفته طيلة الأعوام الماضية، لم تكن تحمل هماً تلك المرة، لقد صرحت ولا يهم ما سيجري..
قلبه لم يتوقف عن الخفق، فكان لتصريحها أكثر من معنى، أهي تقصد الحب الذي يخلق بين الحبيبين أم حب أخوي خلقته الأيام في قلبها؟
ابتلع ريقه ثم ردد:
_ بتحبيني؟!
أماءت برأسها مؤكدة سؤاله قبل أن تهتف بقلب يفيض منه الحب:
_ دا أنا كنت بعترف لك في كل مرة تيجي سيرة، الحب، كنت بنطقها بلساني، وبتترسم في عيوني وهي بتبص لك، دا أنا قولتهالك بأكتر من لغة يا يوسف!
كان لا يستوعب حقاً ما يصغي إليه، فكان الأمر أشبه بالحلم، لا يصدق أو ربما يجهل التعامل في مثل تلك المواقف، هي مدللته لكنه حقاً لا يعلم ما عليه فعله الآن..
حمحم وهو يطالع عينيها بعذوبة، وحاول ترديد ما يدور في عقله لربما ينجح في استيعابه فقال بتلعثم:
_ أنا.. إزاي؟ محستش بحاجة، مكنتش فاهم، أو يمكن كنت بقول لأ مش معقول، طب دا حصل امتى؟
ابتسمت لينة بعذوبة وأخفضت بصرها متذكرة أول مرة خفق قلبها له قبل أن تخبره:
_ دا قلبي دق أول ما قولتلي أسمك جميل أوي!
قابلها يوسف بنظرات جـ.ـا.مدة، حاول تذكر متى أخبرها بذلك، اتسعت حدقتيه حينما تذكر أنه أخبرها بذلك منذ أول يوم رآها به، كانت المشاكسة ذات العشر أعوام.
رفعت عينيها عليه وخرجت كلمـ.ـا.تها بحياء شـ.ـديد:
_ كنت مستنية اللحظة دي من زمان أوي، مكنتش عارفة هي هتيجي امتى، كنت برتب لها كتير أوي، كنت بقف قدام المرايا وأتخيل إني واقفة قصادك وبعترف لك بيها وكنت بفشل أقولها، كنت قبل ما أعلق لك قميص في الدولاب أتخيلك فيه عشان أعترف لك وبرده كنت مبقدرش أقولها، كل صورك اللي معايا كنت بكتفي إني أفضل بصالها وبس!
مكانتش بتطلع حقيقية غير قدامك، في كل مرة قولتلك على حد بحبه كنت أقصدك أنت!
وقت ما كنت بعلمك تتكلم تركي اتعمدت إني أقولهالك، مكنتش بفوت فرصة إني أعترف لك بحبي حتى في الأغاني!
أنا مش بس بحبك يا يوسف أنا أدmنتك!
نكست رأسها وقد تبدد الحـ.ـز.ن على تقاسيمها وتابعت مسترسلة:
_ أنا قابلة أي رد منك، حتى لو رفضتني..
صممت ثم أعادت النظر إليه وقالت وهي تشير إلى قلبها:
_ مع إن هنا بيقولي إنك..
لم تستطيع مواصلة الحديث، فاكتفت برمقه بنظراتها اللامعة تنتظر رده، كان يوسف في وضع لا يحسد عليه، لأول مرة يفشل في مجراة مشاعره، فكان يتخبط بين كونه يريد التصريح عن حبه وبين عقله الرافض للأمر، فهي في النهاية زوجة لأخيه.
زفر أنفاسه بإسيتاء وقال وهو يبعد بنظره عنها:
_ زياد ميستحقش مني كدا..
اقتربت منه لينة ومدت يدها لتعيد وجهه إليها فتقابلا في نظرة صادقة وهتفت:
_ زياد بيحبك أوي يا يوسف، يمكن أكتر من نفسه لأ دا مش يمكن دا أكيد، زياد قالي إن هو عمره ما اعتبرني غير أخت ليه، عمره ما حس من نحيتي بحاجة، وقالي إنه كان غلط لما قبل عرضك وصلح الغلط..
أنا حرة يا يوسف، معتش فيه أي حواجز بينا دلوقتي، مفيش غير إني أسمعها منك..
قولها يا يوسف، أنا لا يمكن قلبي يكـ.ـدب عليا أبداً..
مالت لينة برأسها ووضعت يدها على يسار صدره حيث كان قلبه يخفق أسفل يدها وغردت بنبرة متيمة:
_ حرر هواك فالحب بات معلنا
ما كل ما أخفته العين محـ.ـز.نا
من قال فؤادي ظالما
كن في غرامي هائما
خذ من يدي خواتما
واجعل رحيقي مسكنا
"تتجوزيني"
كانت إجابته بعدmا طالبت بتحرير هواه، اتسعت مقلتيها بذهول، تراجعت للخلف غير مصدقة عرضه، تسارعت نبضاتها بقوة، فهي فقط أرادت سماع اعترافه بحبه لها، لم ترتب لذاك الطب قط.
تقوس ثغر يوسف للجانب فظهرت ابتسامته الجذابة، مد لها يده فصوبت بصرها نحو يده وبتردد مدت يده لتختفي بين قبضته، عادت للجلوس مقابله ولازالت أسفل تأثير الصدmة.
حمحم يوسف وتسائل باهتمام:
_ معناه إيه السكوت دا؟
حدجته لبرهة وأجابته:
_ أنا كنت بتمنى كلمة، وأنت.. أنت..
كان يحلو له ارتباكها فقال هو بمشاكسة:
_ أنا إيه يا لي لي؟
أخرجت زفيراً وهي تطالعه بشوق، فلم يناديها بدلال منذ فترة، ابتلعت ريقها وتسائلت بلهفة:
_ أنت بتكلم بجد؟
أومأ بتأكيد وهتف بحرارة شوقه:
_ مش كفاية لغاية كدا؟ ضيعتك مرة مش ناوي أضيعك تاني
حررت لينة يدها من بين قبضته ورفعت كلتاهما أمام وجهها، خافية حيائها الذي انعكس على وجنتيها الحمراوين، أمسك يوسف بيدها اليسرى ثم وضعها على فمه وطبع قبلة في راحة يدها مردداً:
_ ت عـ.ـر.في، أنا حلمت بيكي!
تشكلت بسمة عـ.ـذ.بة على شفتي لينة، مدت يمناها وتحسست وجنته قبل أن تتسائل:
_ حلمت بإيه؟
مال هو على يدها شاعراً بنعومة ملمسها، أخذ نفساً عميق وبدأ يقص ما يتذكره ذاك اليوم:
_ حلمت إنك كنتي معايا في أوضتي، بس أنا مكنتش شايفك، كنت شامم ريحتك وكنتي بتلمسي وشي زي دلوقتي، وكمان كنتي بتغني..
اتسعت ابتسامتها بسعادة وتسائلت مستفسرة:
_ كنت بغني بقول إيه؟
حرك يوسف رأسه نافياً معرفته بما كانت تغرد به:
_ مش فاكر..
تنهدت لينة بلوعة وغردت بصوت عـ.ـذ.ب:
_ أنت الحتة الحلوة في قلبي، ببقى في قربك مش قلقانة
أنت حبيبي وأبويا وابني، ومليش بعدك تاني مكان
حببتني في أيام عمري، ورجعتني لنفسي زمان
وأنا بين ايديك، إحساسي بيك
لو قولت ليك مبيتحكيش، جيت وبقيت أهلي وبيتي
لو يوم مشيت معرفش أعيش..
كان غنائها بإحساس عالٍ، بينما كان يطالعها الآخر بذهول، فما قامت بغنائه بالفعل نفسه من سبق وحلم به، ابتسمت له لينة فردد سؤاله:
_ يعني دا مكنش حلم؟
ازدادت ابتسامتها، وحركت رأسها نافية وتمتمت:
_ تؤ..
كان مذهولاً من جرأتها، طالعها لبرهة وهتف متسائلاً بنبرة رخيمة:
_ ومخوفتيش حد يشوفك؟
قهقهت ساخرة قبل أن تجيبه بنبرتها المتيمة:
_ خوف وأنت موجود؟ الدار أمان في وجودك!
كم لامست كلمـ.ـا.تها قلبه، لم يشعر بتلك الإبتسامة التي غزت شفتيه وردد ما قالته براحة:
_ الدار بقت أمان يا لينة..
أخذ يوسف شهيقاً عميق وزفره على مهل، حقاً لا يصدق ماحدث، أقدار الله لطيفة للغاية، وكل شر يحدث يأتي خيراً بعده حتى يخفف ثقل ذاك الشر.
بادلها إبتسامة ساحرة هاتفاً بعدm تصديق:
_ حاسس إني في حلم جميل، وخايف أصحى منه
استنكرت لينة كلمـ.ـا.ته وهتفت بإصرار واضح:
_ دا مش حلم يا يوسف، كفايانا أحلام خلينا نستمتع بالواقع ونعيش لحظاته ومنخافش ولا نفكر تاني، سيبها تمشي من غير ترتيب..
راودته راحة كلية تغلغلت داخل قلبه فهدأت من ضجيجه لطالما ازداد في الأوان الأخيرة، فُتح الباب دون سابق إنذار، فانتفضت لينة من مكانها وابتعدت عنه، فإذا بأخيها مرافقاً للممرضة التي تجهمت تعابيرها فور رؤيتها لـ لينة وهتفت مستاءة:
_ حضرتك أنا ممكن أتأذى بسبب وجودك هنا، أنا نبهت قبل دخولكم عشر دقايق ونخرج..
تلونت وجنتي لينة بالحُمرة فكانت محرجة للغاية ولم تستطيع الرد، فتولى يوسف الرد بإقتضاب:
_ أنا اللي قولتلها تفضل معايا، وبعدين أنا مش شايف مبرر إنك تتكلمي معاها بالأسلوب دا!
تفاجئت الأخرى بهجومه، تمنت لو تنشق الأرض وتبتلعها، حمحمت بحرج شـ.ـديد ثم اعتذرت منهما:
_ أنا آسفة جداً، بس دا شغلي وأكيد ميرضيش حضرتك إني اتأذى
بلا مبالاة قال:
_ ولو، أسلوبك معاها يبقى أحسن من كدا
تدخلت لينة عنـ.ـد.ما رأت انفعال يوسف:
_ خلاص يا يوسف حصل خير..
وجهت انظارها نحوها وتابعت:
_ أنا خلاص خارجة..
اعتذرت منها الممرضة مرة أخرى ثم ودعته لينة وعادت إلى الغرفة خاصتهم برفقة أخيها الذي تسائل عن سبب تأخيرها، فلم تتردد هي وبدأت تخبره عما حدث وكانت حريصة على عدm إخبـ.ـاره بتلامسهم حتى لا يضجر ويثور.
***
في أحد المطاعم، يجلسان مقابل بعضهما يتناولان وجبة الغداء، قطع لحظتهم صوت ذاك الدخيل الذي هلل عالياً:
_ إيمان رمضان! مش معقول وأخيراً لقيتك
رفعت إيمان بصرها نحو ذاك الصوت الأنثوي فتشكلت ابتسامة تلقائية على محياها، نهضت عن كرسيها ثم مسحت يدها في المنشفة ومدتها لتصافحها بود:
_ إسراء إزيك
لم تكتفي الأخرى بالمصافحة وجذبتها إليها ثم عانقتها بحميمية وهتفت بتلهف:
_ أنتِ وحشاني أوي، مشوفتكيش من أيام الجامعة
تراجعت للخلف وواصلت بسعادة:
_ دورت عليكي كتير على السوشيال بس معرفتش أوصلك وسألت كذا حد من الدفعة وقالوا إنهم ميعرفوش عنك حاجة، بجد مش مصدقة إني شوفتك
بلطف أردفت إيمان:
_ مليش في الميديا أوي وبصراحة أنا مليش أي علاقة بأي حد من الدفعة، يعني من وقت ما خلصنا وأنا مش بشوف حد خالص
انتبهت الأخرى على بلال الجالس، فمالت على أذنها وهتفت:
_ مش ت عـ.ـر.فينا..
وزعت إيمان نظراتها بينهما ثم بدأت تعرفهما:
_ بلال جوزي، إسراء صحبتي من أيام الجامعة
هللت إسراء بصورة مبالغة:
_ مبروك يا روحي..
مدت يدها لتصافح بلال الذي وقف احتراماً لها ثم بادلها المصافحة فشعر بريبة من أمرها، وكأنها تتحسس يده، سحب يده عنها بينما لم تخفض هي نظرها عنه بإعجاب شـ.ـديد لطوله الفارع، قد لاحظت إيمان نظراتها الجريئة واستنكرت ذلك فهتفت لتجذب انتباهها:
_ وأنتِ بقى اتجوزتي ولا لسه يا إسراء؟
أجابتها إسراء بتأفف:
_ لا أنا أطلقت، بصراحة مكنش مالي عيني
نظرت حيث يقف بلال ورسمت ابتسامة ماكرة على شفتيها، فتمتمت إيمان بحنق:
_ ربنا يعوضك أحسن منه
قهقهت إسراء بميوعة ولازالت عينيها مصوبة على بلال وقالت:
_ يابنتي بلا قرف كدا أحسن
مدت يدها لبلال مرةً أخرى وواصلت برقة مصطنعة:
_ اتشرفت بحضرتك يا أستاذ....
لم تتحمل إيمان المزيد من سخافتها فهتفت بضجر مقاطعة دلالها:
_ يلا يا بلال عشان نمشي..
سحبت حقيبتها ثم ابتسمت في وجه صديقتها رغم أنها تريد تقطيعها إرباً إرباً وهتفت مختصرة:
_ بعد اذنكم يا إسراء، ورانا ميعاد مهم..
ودعن بعضهن البعض في تلك الأثناء قام بلال بدفع الحساب وخرج برفقة إيمان الغاضبة، انتظر حتى ابتعدا عن المكان وسألها بجدية:
_ أنتِ قومتينا ليه؟ إحنا ليه مخلصناش أكل!
توقفت إيمان عن سيرها والتفتت إليه ولم تشعر بنبرة صوتها التي خرجت مندفعة:
_ أنت كان عاجبك بصاتها عليك؟ ولا يمكن كانت عجباك وعايز تكمل مسايرة معاها؟
تفاجئ بانفعالها، رمقها لثوانٍ محاولاً فهم السبب وراء اندفاعها وقال:
_ على فكرة دي صاحبتك أنتِ، أنا معرفهاش أصلاً
هاجمته بردها:
_ ولا صاحبتي ولا عايزة أعرفها، دي واحدة وقحة بتبصلك وأنا واقفة مش محترمة حتى وجودي!!
أسلوبها كان يثير تعجبه، فلا يجد تفسيراً واضحاً له، ظل يطالعها قبل أن يردد بجمود:
_ أنتِ بتتكلمي معايا كدا ليه؟
كان بروده يتلف أعصابها فهتفت بحنق:
_ بتكلم إزاي؟ بتكلم عادي شوف نفسك الأول بـ.ـارد إزاي
"بـ.ـارد!"
علق على كلمتها ثم تركها وتوجه ناحية سيارته، استقل خلف المقود وانتظرها حتى تأتي، تأففت إيمان بضجر فكم كانت وقحة، استقلت المقعد المجاور له والتزما كليهما الصمت طيلة عودتهما.
صف سيارته أسفل البناية الخاصة بهم، ترددت في محادثته لكن عليها تصحيح ما اقترفته، حمحمت بحرج وأردفت:
_ متزعلش، مش عارفة أنا قولت كدا إزاي، أنا كنت متعصبة من أسلوبها وأنت كان ليك نصيب من عصبيتي، أنا آسفة
لم يعقب فأعادت هي محاولة تلطيف الأمر:
_ هاخد بالي من كلامي بعد كدا، ياريت متزعلش
ببرودٍ ردد:
_ انزلي يا إيمان..
تفاجئت بطلبه، فلم تتوقع ذلك، لم يهتم لإعتذارها وكأنها نكره، طالعته بأعين جاحظة ثم هتفت بإهتمام:
_ أعملك إيه عشان متزعلش؟
بلهجة لا تريد النقاش صاح:
_ متعمليش، انزلي
تأففت بصوت مسموع وترجلت من السيارة، ثم دفعت الباب بغضب وصعدت الأدراج، تبعها بلال بعصبية وأغلق باب شقتهم باندفاع ثم صاح عالياً:
_ ممكن أعرف متعصبة كدا ليه؟
ألقت إيمان حقيبتها أرضاً واستدارت إليه والغضب مرسوم على تقاسيمها وصاحت منفعلة:
_ أنت بجد بتسأل؟ أنت مش شايف أسلوبك وطريقتك؟
بحاول ألطف الجو وأنت ردك بيكون إزاي!
اقترب منها وهتف وهو يشير إلى صدره:
_ مضغوط يا إيمان، مخـ.ـنـ.ـوق ومضايق ومش عايز كل دا يطلع عليكي فبتعامل ببرود!
هدأت إيمان من نبرتها لتصبح أكثر رقة وسألته باهتمام:
_ مخـ.ـنـ.ـوق من إيه؟ عرفني يمكن أقدر أساعدك
أطلق بلال ضحكة ساخرة قبل يجيبها:
_ وهو في إيه ميخـ.ـنـ.ـقش؟ صاحبي وفي المستشفى، ومنمتش بقالي يومين، ومتجوز ومش متجوز، ها هتساعديني إزاي؟
ابتعلت إيمان ريقها، فكانت في موقف لا تجسد عليه، كيف تستطيع مساعدته؟ كيف تقوم بدورها كزوجة له؟ حقاً تفشل المعرفة..
حمحمت وهي تقترب منه وأردفت بهدوء:
_ أنت محتاج ترتاح شوية، نام ساعتين وهتقوم كويس..
رفض بحركة من رأسه معللاً أسبابه:
_ أنا لازم أرجع المستشفى
أصرت إيمان على بقائه فقالت:
_ هما ساعتين بس وأنا اللي هصحيك، وبعدين كدا كدا عمتو وزياد هناك يعني هو مش لوحده، مش هيحصل حاجة بالعكس هتقوم فايق ولو هما محتاجين حاجة هتقدر تعملها.
أمسكت بيده مشجعة إياه:
_ يلا..
ما كان من بلال إلا أنه رضخ لها، سار بجوارها وتعمدت هي عدm ترك يده حتى دلفا الغرفة، توجه بلال نحو الفراش فأوقفته هي بقولها:
_ استنى، أنت هتنام كدا؟
عقد حاجبيه بغرابة فلم يستشف مابه، اقتربت منه إيمان ووقفت مقابله ثم رفعت يدها وبدأت تفك أزرار قميصه دون أخذ رأيه لكي لا يمنعها وأوضحت:
_ متنامش بهدومك، مش هتكون مرتاح
نجحت في سيران قشعريرة قوية في ثائر جسده، ساعدته على خلع قميصه ثم أشارت حيث بنطاله وقالت:
_ متنامش بالجينز
أولاته ظهرها لتحضر لنفسها ثوب آخر، وتعمدت تبديل ثيابها أمامه كنوع من اكتساب الثقة لكليهما، كان بلال يتابع ما تفعله بتأثر كبير، تُهدm حصونه رويداً رويداً، شيئ ما داخله يحثه على التودد إليها لربما قد حان الوقت.
خطى بقدmه اليمنى خطوة للأمام لكن سرعان ما أعادها سريعاً، فلقد ترددت في أذنيه همسها بإسم يوسف ذاك اليوم، شعر بالغضب يتأجج داخله لأنه لا يستطيع النسيان، كم تمنى أن يفقد ذاكرته حتى يسير زواجه على النهج الصحيح.
اقترب من الفراش وحاول النعاس مراراً، كذلك استقلت إيمان بجواره دون وضع حدود تلك المرة، ظلت تطالعه بعينان لامعتين، لم يبعد هو نظريه عنها حتى غاب عن الوعي وذهب في ثُبات.
بينما لم تفضل النوم، بل فضلت النظر إليه لعلها تنجح في فهم مشاعرها، تذكرت انفالعها من خلف نظرات صديقتها الوقحة، كزت أسنانها بغضب، كيف لم تصفعها حينها؟
تعجبت إيمان كثيراً من تفكيرها، لماذا تعطي الأمر أكبر من حجمه؟ يمكن لأنه كبير بالفعل! تنهدت وهي تحاول تفسير ذلك، أهي غيرة!! معقول؟
أهي تغار عليه؟
طالعته لوقت في محاولة منها على استيعاب ذلك الإستنتاج، على الرغم من نومه إلا أن مازال يحتفظ بملامح جذاب، نادته بصوت هادئ لكي تعلم هل غفى أم مازال واعياً.
لم يجيبها فتأكدت من غوفه، اقتربت منه بحذر حتى التصقت بصدره العاري، استندت بوجهها على وجهه، فكان جبينها يلامس جبينه وأنفها يلامس أنفه ولاسيما أنها شاعرة بحرارة أنفاسه التي زادتها تلهف لأخذ عناق، لكنها اكتفت بتلك المسافة حتى لا تتسبب في إيقاظه، أخذت مدة ليست بقصيرة حتى ذهبت في النوم رغماً عنها.
***
انتظرت حتى ولجت المنزل ثم بانفعال وعدm رضاء لتصرفه صاحت معاتبة:
_ أنت إزاي تسمح إن لينة تقعد مع أخوك؟
للدرجة دي معندكش نخوة ومبتخافش على عرضك؟
دا حتى لو الموضوع مش شاغلك المفروض تتعلم تصون الأمانة اللي في رقابتك!
تفهم زياد سبب ثورتها وبهدوء أخبرها:
_ لينة مبقتش تخصني يا ماما..
لم تفهم ما رمى به من كلمـ.ـا.ت مبهمة وتسائلت بملامح مشـ.ـدودة:
_ يعني إيه مبقتش تخصك؟ مش دي مراتك برده؟
عض زياد على شفتيه السفلى يفكر أولاً في كلمـ.ـا.ته قبل أن يجيبها:
_ مبقتش مراتي، أنا قولتلها أنتِ طالق...
شهقت السيدة ميمي وضـ.ـر.بت على صدرها بقوة مقاطعة إياه بصدmة:
_ عملت ايه؟ إزاي تعمل حاجة زي كدا من دmاغك؟ مرجعتش ليا ولا لأخوك الأول ليه؟
خرج زياد عن صمته وارتفع صوته الاجش:
_ لأول مرة في حياتي أخد قرار من غير ما أرجع لكم ويكون قرار صح، لينة طول عمرها أختي مينفعش فجاءة كدا تبقى مراتي، أنا كنت مبسوط في الأول ونفسي أوصل لها بأي شكل، لأنها دايما كانت رفضاني، فكرت بموافقتي إن هقدر أكـ.ـسر غرورها بس أنا قليت من نفسي أوي لما وافقت..
شكل ضحكة ساخرة وواصل بنفور شـ.ـديد من ذاته:
_ ابنك عيان! لو واحدة بس قالتله لأ، تدخل دmاغه وتعجبه لغاية ما يوقعها ويثبت لنفسه أنه مسيطر وواد جـ.ـا.مد ملوش زي، وبعد كدا يسيبها، ودا اللي فكرت أعمله مع لينة!
بس ضـ.ـر.ب يوسف يومها فوقني، وعقلني وخلاني افتكر إني راجـ.ـل مش لسه عيل مراهق والتصرفات دي متلقش أبداً بيا!
أخرج زفيراً ليستطيع مواصلة حديثه، توجه ناحية الأريكة وجلس أعلاها ثم مدد قدmيه على الطاولة أمامه وتابع بنبرة هادئة:
_ حاولت أعمل حاجة صح لأول مرة في حياتي، وسيبتها تروح للي يستحقها، يوسف أحسن مني وصان أمانته..
تشكلت إبتسامة عفوية على شفتيه قبل أن يسترسل:
_ هي طلعت أمانته فعلاً، مش أمانة صاحبه زي ما كنا فاهمين!
توجهت السيدة ميمي ناحيته ووقفت مقابلة، أخفضت بصرها عليه متسائلة بعدm فهم:
_ معناه إيه كلامك دا؟
ازدادت إبتسامته وهو يخبرها:
_ يوسف بيحبها يا ميمي، وأخيراً شوفنا حب لأستاذ يوسف!
حقاً كثيراً على عقلها، لم تستوعب بسهولة، أتصدق نضج صغيرها الذي أسعدها كثيراً، أم تسعد لحبه لأخيه؟ أم تسعد لظهور حب لولدها البكري؟ لكن ما يستحق أن تسعد لأجله حقاً، أنها تحصد ثمرة تربيتها التي زرعتها في ولديها منذ الصغر.
مدت ميمي كلتى يديها لصغيرها مرددة ببسمة عريضة:
_ تعالى هات حـ.ـضـ.ـن يواد
لم يتردد زياد في القيام وأخذ عناق حنون، أوصد عينيه يستمتع برائحتها الذكية لطالما كانت مصدر طمأنينته، بادلته العناق بقوة فكم كان قلبها سعيد به.
***
بعد مرور بعض الساعات قلق بلال واستيقظ، تفاجئ بقربها منه لتلك الدرجة، لم يصدر حركة بل ظل يشاهدها ليتأكد أنه لا يحلم، شعر بحركة منها فنهض لكي يذهب قبل أن تفيق، لكنه تفاجئ بيدها التي أمسكت بذراعه.
التفت برأسه إليها، فرأها تعتدل من نومها وتقترب منه حتى بات ظهره ملاصقاً لصدرها، رفعت يدها وتخللت شعره وظلت تداعب خصلاته بنعومة، ثم استندت بذقنها على كتفه فكان وجهها قريباً بما يكفي.
ابتلع الآخر ريقه ولم يستطيع الصمود لأكثر، رفع يده وتلمس شفتيها الوردية، وبيده الأخرى حاوط خصرها فشعر بملمس قميصها الرقيق، فازدادت رغبته بها، قبض على خصرها بقوة فتأوت إيمان بألم ثم.
↚
***
"يوسف"
لا يتردد في ذهنه سوى اسم صديقه بنبرتها هي، كلما حاول تخطي الأمر لا يستطيع، يتردد صدى صوتها في عقله، لم يشعر بنفسه سوى وهو يدفعها بعيداً عنه قبل أن يحاول لمس شفتيها.
ارتفعت وتيرة أنفاسها برعـ.ـب وطالعته بنظرات مبهمة في انتظار تعليله للأمر، انتفض من مكانه وهو يردد بأنفاس لاهثة:
_ مش هينفع...
أولاها ظهره متوجهاً نحو المرحاض فهتفت هي متسائلة:
_ ليه؟
توقف عن السير دون أن يلتفت فتابعت هي أسئلتها:
_ أنا غلطت في حاجة؟
استدار بجسده ونظر حيث تمكث، حرك رأسه بنفي وقال:
_ دي مشكلتي أنا، أنا آسف
أولاها ظهره للمرة الثانية وهرول داخل المرحاض، أغلق الباب ووقف خلفه يلكم رأسه بقوة، يعترف أنه يمتلك ذاكرة لعينة لا يمكنها نسيان الأشياء بسهولة، وقف أمام المرآة يطالع ملامحه الغاضبة ولم يكف عن تأنيب ذاته داخله.
في الخارج، سحبت إيمان الغطاء أعلاها، فلقد شعرت أنها عارية بعد رفضه لها، تساقطت عبراتها ودفعه لها لا يريد الإقلاع عن عقلها، انتبهت على خروجه فأسرعت في مسح دmـ.ـو.عها لكنه قد رآها وشعر بأنه أحمق كبير لأنه تسبب في تحطيم كبريائها بعد فعلته.
لكنه فعل ذلك رغماً عنه، حقاً يرد التقرب منها لكن عقله لا يسامح بسهولة، بدل ثيابه بأخرى، ثم حمحم وقال:
_ أنا نازل..
اكتفت إيمان بإيماءة من رأسها دون النظر إليه، فكان يزداد ضيقاً لعدm قدرتها على مواجهته، كيف سيصلح ما اقترفه؟
لا يدري، تأفف بضيق وفر هارباً من ذاك المنزل، فكانت الوسيلة الوحيدة أمامه، توقف عن النزول عنـ.ـد.ما فتحت والدته الباب وكان بثياب الخروج، ابتسمت في وجهه وقالت:
_ ينفع تاخدني معاك، أبوك من الصبح مجاش ولازم أروح أعمل الواجب، عشان ميمي متزعلش مني
دون أن يعقب أماء برأسه ثم تابع هبوطه، تحت نظرات والدته المتعجبة من أمره، تبعته للأسفل والعديد من الأسئلة قد راودتها لكن لم يكن لديها إجابة لديهم.
استقلت السيارة وتابعت مكالمته الهاتفية التي قال فيها:
_ لو حضرتك خلصتي أنا تحت، تعالي معايا، تمام أنا مستنيكي أهو
أنهى المكالمة فتسائلت شهيرة بفضول:
_ مين اللي جاي معانا؟
أجابها مختصراً:
_ أم يوسف..
حركت رأسها بتفهم ثم سألته باهتمام:
_ مالك؟ شكلك مضايق؟
دون أن يلتفت أجاب ببرود:
_ لا مش مضايق
بعفوية أمومية هتفت:
_ عليا برده؟ قول مالك هتخبي عليا!
تفاجئت شهيرة بثورته حيث صاح عالياً بغضب:
_ قولت مفيش، مفيش
ضـ.ـر.ب الطارة أمامه بقوة ثم ترجل من السيارة ينفث غضبه بعيداً عن والدته، ارتخت ملامحه فور ظهور السيدة ميمي، بصعوبة ابتسم لها ثم قام بفتح الباب الخلفي، فاستقلت المقعد وشكرته على لطفه بينما عاد هو لمقعده وتحرك بالسيارة.
دارت بعض الأحاديث بين السيدتان، متحاورتان عن أحوال يوسف، بينما لم يصغي بلال لهن، فكان ضجيج عقله يغطي على أصواتهن.
***
أنتبه على فتح الباب، ثوانٍ وظهرت مشاكسته من خلفه، ابتسم لها بينما تأففت هي بملل:
_ أوف وأخيراً مشت من قدام الباب، بقالي ساعتين بستناها تمشي
قهقه يوسف وردد مستهزءاً:
_ ما أنتِ عبـ.ـيـ.ـطة، كنتِ قوليلها داخلة لجوزي أشوفه لو محتاج حاجة
غمز إليها فلم تستطيع إخفاء ابتسامتها، عضت على شفتيها بحرج ثم هتفت:
_ ولما تعرف إنك مش جوزي تقول عليا إيه؟ متربتش؟
قهقه يوسف ثم أردف بمشاكسة:
_ وهي هعترف منين، أنا كنت هـ..
صمت فطالت هي النظر إليها في انتظار بقية حديثه لكنه فضل الإحتفاظ به في ذاك الوقت الحالي فهتفت هي متسائلة في فضول:
_ ها إيه؟
حمحم قبل أن يردف بمكر:
_ لما أتجوزك هقولك..
يحادثها دوماً عن الزواج، ولازال عقلها لا يستوعب حقاً أنهما باتا معاً لا يمنعهما شيء، أخفت معالم وجهها بيدها دوناً عن عينيها وأردفت بحياء:
_ بجد مش مصدقة إنك بتكلمني في الجواز!
تقوس ثغره للجانب فشكل إبتسامة عـ.ـذ.بة وقال:
_ تحبي أخليكي تصدقي إزاي؟
رفعت كتفيها لعدm معرفتها، فأشار إليها بالإقتراب مردداً:
_ تعالي..
_ في الخارج، وصلت السيدة ميمي وطلبت من الممرضة أمراً:
_ معلش يابنتي خمس دقايق ياكل وأخرج على طول
بعد تفكير لثوانٍ قبلت لكنها حذرتها قبل دلوفها:
_ بالله عليكي يا حجة متتأخريش لأن مينفعش أصلاً دخولك جوا، وأنا هتجازى
طمأنتها ميمي بقولها:
_ متقلقيش يا حبيبتي والله مش هتأخر..
فتحت باب الغرفة فانتفضت لينة من مكانها بذعر قبل أن تصل إلى يوسف، اتسعت مقلتيها بحرج شـ.ـديد عنـ.ـد.ما رأت السيدة ميمي تدلف، لوهلة تفاجئت ميمي بوجودها فلم تكن على علم بوجود أحدهم في الغرفة.
تبادلن النظرات ثم نكست لينة رأسها في حياء، فلم تعد تستطيع مواجهة عينيها، حتماً أخبرها زياد عن مشاعرها بيوسف، وهي لن تسامح بسهولة، فكلاهما ولديها، كيف تقتنع بذلك؟.
تعجب يوسف من حالة لينة المتـ.ـو.ترة، فلم يسبق وأن توجست خيفة من والدته، مد لها يده فإن خشيت هي مواجهتها فليواجهاها معاً، مررت نظريها بين يديه وبين ميمي ولم تجرأ على لمس يد يوسف.
"متخافيش كدا يا لينة"
هتف يوسف بعدm رضاء لخوفها الواضح، اقتربت منهما السيدة ميمي ثم وضعت ما معها جانباً ووقفت مقابل لينة، مدت يدها ورفعت وجهها بأناملها، شكلت بسمة عـ.ـذ.بة على شفتيها وتحدثت بنبرة حنونة:
_ مش اللي بيعمل حاجة غلط بس هو اللي يخاف؟ أنتِ خايفة ليه بقى؟
تفاجئت لينة بجملتها، أطالت النظر إليها دون تعقيب فلم تتحلى بالشجاعة للحديث بعد، فتحت لها ميمي ذراعيها وحثتها على أخذ عناق:
_ تعالي في حـ.ـضـ.ـن أمك يا لينة
مررت نظريها بين يوسف وبينها ثم بادلتها العناق، شاعرة بالطمأنينة فكان عناقاً طيباً مليئ بالحنان،
لازالت يد يوسف ممدودة فعانقتها لينة بيدها ثم أغلقت عينيها تستمد القوة منهما.
تراجعت بعد لحظات، فتحدثت لينة متسائلة:
_ يعني مش زعلانة مني؟
قطبت ميمي جبينها بغرابة ورددت متسائلة:
_ هزعل منك ليه؟ هو الحب بقى يزعل؟
ظهرت إبتسامة خجولة على محيا لينة، بينما توجهت السيدة ميمي لتحضر الطعام التي أعدته ليوسف حتى لا تتأخر مثلما وعدت الممرضة، جلست بجواره وقد قامت لينة برفع نصف الفراش له لكي يستطيع الجلوس.
بدأت السيدة ميمي تطعمه في فمه كالصغار، وكذلك تابعت حديثها الذي لم ينتهي:
_ يمكن كنت هزعل لو مكنتش ربيت صح، بس الحمدلله ولادي بيحبو بعض أكتر ما بيحبو نفسهم ودا عندي بالدنيا كلها، مش عايزة حاجة تاني خلاص، بقيت مطمنة إنهم سند لبعض ووقت ما واحد يحصله ابتلاء التاني هيسد مكانه.
ازدادت ابتسامتها متذكرة موقف زياد واسترسلت مواصلة:
_ كنت دايما خايفة من زياد إنه متهور وتفكيره مـ.ـجـ.ـنو.ن شوية مش شبه يوسف خالص، وكل ما كنت بصلي أدعي له ربنا يهديه وميطلعش من الشباب البايظ اللي كل همه المظهر واللبس وصحوبية البنات والشرب، بس كانت حاجة جوايا تقولي أطمني ربنا مش هيكتب ليكي و.جـ.ـع قلبك عليه وكنت بطمن لغاية ما شوفت النهاردة بعيني توكلي على ربنا نتيجته كانت إيه.
صوبت بصرها نحو يوسف وتابعت بحنو:
_ ربنا يخليكم لبعض ويخليكم ليا يارب
آمن يوسف على دعائها ثم أخذ يدها التي تطعمه وطبع قُبلة عليها مردداً بحب:
_ ويخليكي لينا يا أمي
ربتت على وجهه ثم تابعت إطعامه، بينما جلست لينة على مقربة منهما متبادلة بعض الأحاديث معهما.
في الخارج، استغل بلال عدm وجود ثالث بينهما وهتف بخذي شـ.ـديد:
_ أنا آسف إني عليت صوتي عليكي، متزعليش..
باختصار قالت:
_ مش زعلانة
ضاق بعينيه عليها فلم يصدقها، أراد محي سوء التفاهم الحادث فقال بنبرة مازحة:
_ عليا برده؟
قلبت شهيرة عينيها مستاءة مما فعله، اقترب منها بلال وطبع قُبلة على جبينها بحب قبل أن يردف متوسلاً:
_ خلاص بقى يا شوشو، كنت مخـ.ـنـ.ـوق شوية لو أنتِ مستحملتنيش مين اللي هيستحملني؟
رمقته بطرف عينيها وقالت بجدية:
_ لو قولتلي مخـ.ـنـ.ـوق مالك هقبل اعتذارك
ابتعد عنها بلال ممازحاً إياها:
_ لا خليكي زعلانة أسهل
انفجرت شهيرة ضاحكة رغماً عنها لكنها لن تتراجع بسهولة قبل معرفة سبب ضجرة:
_ طيب خلاص مش زعلانة منك، بس قولي مالك، والله ما هاين عليا أشوفك كدا
جلس بلال على مقربة منها وتنهد بصوت عالٍ، ثم اكتفى بقول:
_ مش حابب أتكلم في حاجة، بس الدنيا مش مظبطة بينا شوية
ربتت شهيرة على ظهره بحنو وقالت بحكمة:
_ أول الجواز لازم يبقى كدا، طبيعي يكون في اختلاف، تخيل ناس كتير بتفشل في أول فترة وهما مع بعض سنين ما بالك أنتم اللي معرفتوش بعض غير شهر واحد، المهم إنك تعرف تتعامل مع الإختلاف دا ومع الوقت هتلاقي كل حاجة بقت كويسة..
ردد بلال بتمني:
_ يارب
***
حل المساء سريعاً، أمر الطبيب بنقل يوسف من الرعاية الصحية إلى غرفة أخرى لعدm تدهور حالته، كانت الغرفة تمتلئ بالأقارب والجيران مابين الحين والآخر، وبعض معارف يوسف من العمل، فكان محبوباً بين الجميع ومن علم بمرضه لا يتردد في المجيء للإطمئنان عليه.
"كدا برده يا ميمي مت عـ.ـر.فيناش، دي لولا إيمان قالتلي مكناش هنعرف"
هتفت هادية معاتبة فأوضحت ميمي سبب عدm إخبـ.ـارها لهم:
_ معلش يا هادية أنا كنت في إيه ولا إيه، مكنش فيا دmاغ أكلمكم والله كنت عايزة أطمن عليه وبس
تدخل رمضان بقوله:
_ ربنا يتم شفاه على خير وما يجيب حاجة وحشة تاني
آمن الجميع على دعائه بينما هتفت إحدى جارتهم:
_ والله أنا أول ما عرفت مقدرتش أقعد من غير ما أطمن عليه
ابتسمت السيدة ميمي ممتنة وردت عليها بلطف:
_ فيكي الخير يا عواطف، تسلم رجليكي يا حبيبتي
نظرت عواطف حيث تجلس ابنتها بغيظ وهتفت مستاءة:
_ والبت شهد مردتش تسيبني أبداً، أقولها يابنتي هتيجي تعملي إيه، تقولي هروح أشوف لينة
مررت نظريها بين شهد ولينة وأردفت مازحة:
_ مش عارفة يا لينة أنتِ عاملة لها إيه؟
ابتسمت لها لينة لكن سرعان ما تجهمت تعابيرها وهي تطالع صديقتها متصنعة الكراهية وهتفت بمشاكسة:
_ بكرهك
ردت الأخرى بنفس أسلوبها:
_ مش أكتر مني
قهقت جميعهن ثم تسائلت السيدة ميمي باهتمام:
_ أومال أمجد فين معتش بشوفه خالص
أجابتها بتلقائية:
_ أمجد بقاله يجي شهر أهو في الجيش، لسه فترة تدريب..
أبدت ميمي تفاجئها بالأمر وقالت:
_ ربنا يطمنك عليه يارب
ثم نظرت حيث يجلس زياد وهتفت بصوت عالٍ:
_ عقبال اللي في بالي
رمقها زياد بلا مبالاة ومازحها بقوله:
_ حاسس إنك بتلمحي لحاجة؟
بنبرة جريئة هتفت:
_لا بلقح يا قلب أمك
لم يستطيع أحد تمالك ضحكاته بعد ما قالته، على جانب آخر، كان بلال يجلس على كرسي بجوار يوسف يطالع الأرضية دون أن ينبس بشئ، كان يوسف ملاحظاً لحالته الصامتة ولم يستطيع سؤاله فالغرفة مليئة بالأناس.
حمحم ليجذب انتباهه قبل أن يردف بنبرة خافتة:
_ ششش، أنت يالا
أنتبه عليه بلال وقال:
_ إيه؟
غمز له يوسف وتسائل مستفسراً:
_ مالك؟ من وقت ما جيت وأنت ساكت!
أخذ بلال نفساً عميق ثم أجاب ببرود:
_ مفيش حاجة تتقال بس
رفع يوسف حاجبه الأيسر بعدm تصديق وصاح مستاءً:
_ عليا برده! إخلص وقول مالك، ولا يعني فاكرني مش فاهم إن فيك حاجة من يوم ما اتجوزت!
تفاجئ بلال برد يوسف وانعكس على تعابيره، مما أزاد يقين يوسف أن ثمة أمراً يخفيه فقال بثقة:
_ انطق وقول مالك
أخرج بلال تنهيدة مهمومة وأردف:
_ لو فيه حاجة ينفع تتحكي كنت حكيتها يا يوسف، سيبك أنت
استنكر يوسف أسلوبه وبهجوم صاح:
_ ودا من امتى يعني؟ من امتى خبيت عليا حاجة؟
بعصبية بالغة أجابه:
_ من يوم ما اتجوزتها وبقت عرضي ومينفعش أتكلم عنها حتى لو معاك أنت..
تفهم يوسف الأمر، ولم يطيل في أسئلته، شعر بلال أنه بالغ في رد فعله فرقق من نبرته وقال:
_ كل حاجة هتتحل يا صاحبي، متحملش همي..
نهض عن كرسيه وأضاف:
_ لو مش محتاجني في حاجة أنا هروح
حرك يوسف رأسه نافياً احتياجه لأمر بينما هتف بلال:
_ تمام، لو احتجت لحاجة كلمني
أنتبه كلاهما على صوتها الساخر حين انضمت إليهما:
_ تؤتؤ أنت هتمشي يا بلال، لسه بدري ما أنت قاعد من الصبح بات بالمرة..
تفاجئ الشابان بحديثها المستهزأ، رفع بلال حاجبيه وتحدث بعناد:
_ طيب أنا صاحبه وأخوه، أنتِ مين بقى عشان تقعدي هنا؟
قلبت لينة عينيها وبعجرفة أجابته:
_حبيبته!
فغر بلال فاهه بذهول لتلك الجرأة المفاجئة، التفت بعينيه إلى يوسف الذي غمز إليه وقال:
_ المدام مستقبلاً..
وزع بلال نظريه بينهما فقهقت لينة عالياً، بينما هتف بلال متسائلاً وهو يمرر نظريه بينهما بعدm تصديق:
_ أنتوا بتكلموا بجد؟
اقتربت لينة من يوسف لتثبت له صحة ما أخبراه به وقالت:
_ ودي فيها هزار؟
تقوس ثغر بلال ببسمة سعيدة ثم هتف متمنياً لهما السعادة:
_ مع إني بحسك مرات أبويا بس هفرحلك برده عشان خاطر صاحبي بس
انفجرت لينة ضاحكة فأثارت تعجب الجالسات وخصيصاً قربها من يوسف لتلك الدرجة، انتبه زياد على نظراتهن فتدخل موجهاً حديثه لهن وهو يقترب من شقيقه:
_ عايزكم تبـ.ـاركوا ليوسف ولينة، عشان خلاص هيبقو لبعض قريب
تبادلن النظرات بذهول أو ربما صدmة فكيف سيحدث ذلك وهو عاقد عليها، تفهم زياد نظراتهم وبدأ يوضح لهن حقيقة الأمور:
_ أنا ولينة عمرنا ما كنا أكتر من اخوات، وهي ويوسف كانوا بيحبو بعض بس للأسف مكنوش عارفين، وخطوة كتب الكتاب اللي حصلت دي كانت السبب أنهم يعرفوا حقيقة مشاعرهم، فطبيعي لما أعرف إن سعادة أخويا بين إيديا كان لازم أعمل إيه حاجة عشان خاطره، ياريت تدعولهم وتتمنو لهم الخير في حياتهم الجاية
كان بلال ويوسف مذهولين من فصاحة لسانه ونضج عقله، ظلا يحدجانه بنظرات غير مصدقة تصرفه العاقل، بينما دعت السيدات ليوسف ولينة بالتـ.ـو.فيق والتمام، فتبادلا يوسف ولينة نظرات سعيدة مليئة بالكثير من المشاعر.
طُرق باب الغرفة فسمحت السيدة ميمي للطارق بالدخول، ظهر بعض الرجـ.ـال الذي يبدوا على هيئتهم أنهم ذو نفوذ، حمحم أحدهم وقال حينما وجد يوسف:
_ حمدالله على سلامتك يا يوسف، كدا برده كل ما نيجي يقولنا ممنوع المقابلات
ابتسم له يوسف وبلطف أردف:
_ الله يسلمك يا مراد بيه، معلش بقى أدينا اتقابلنا أهو
بنبرة عملية هدر الآخر:
_ أنا عايزك تحكيلي كل حاجة حصلت بالتفصيل عشان اللي عمل كدا ياخد جزاءه
صوب يوسف نظريه على من في الغرفة فاستشف مراد قصده وبأمر صاح:
_ بعد إذنكم يا جماعة محتاجين يوسف خمس دقايق عشان ناخد إجراء قانوني في أسرع وقت
بدأ الجميع يتسلل إلى الخارج حتى باتت الغرفة خالية إلا من يوسف ومراد وأيضاً رجـ.ـاله، بدأ يوسف يقص عليه ماحدث بالضبط ذاك اليوم المشؤوم وكان الآخر يصغي إليه باهتمام بالغ.
***
عاد إلى منزله حاملاً للهموم، مثلما خرج منه، لا يدري كيف سيواجهها بعد رفضه لها، وهل ستغفر له أم ستتفهم الأمر؟
أغلق الباب بهدوء ثم دلف بخطاه باحثاً عنها، تفاجئ بها خارجة من المطبخ بثياب أكثر من رائعة وكأنها ذاهبة إلى إحدى الحفلات، مصففة خصلاتها كما لم يراها قبل، واضعة بعض لمسات المساحيق البسيطة والتي برزت جاذبية أنوثتها.
ابتسمت في وجهه فكان متعجباً مما يراه، فلم يتوقع ذلك قط، اقتربت منه ثم قالت برقة:
_ غير هدومك على لما أحضر العشا
كان بلال لا يستوعب تلك الحالة، لكنه لم يرفض على الرغم من شعوره بالتعب إلا أنه سيجاري مساءه حتى يهدأ ضميره قليلاً، ولج الغرفة وبدل ثيابه بأخرى مريحة تناسب المنزل وعاد للخارج.
لم يراها في المطبخ فنادته هى من الخارج:
_ تعالى ناكل هنا النهاردة
توجه للخارج وتفاجئ بذاك الفيلم الذي أحضرته ليشاهداه سوياً، جلس بجوراها وتفحص الطعام فلم تترك صنفاً مما يحبه إلا وصنعته، التفت بلال برأسه ناظراً إليها في نظرة طالت فتسائلت هي بفضول:
_ في حاجة؟
"عرفتي منين إني بحب الحاجات دي؟"
هتف متسائلاً، فأجابته هي على حياء مخالط للحماس:
_سألت مامتك وهي اللي قالتلي..
ازداد فضوله حول ما تفعله فعاد متسائلاً:
_ أنتِ بتعملي كدا ليه؟
تقوس ثغرها ببسمة رقيقة وأجابته بلطف:
_ أنا حابة أعمل كدا..
صمت كليهما لبرهة ولم يبعدا نظريهما عن بعض، قطعت إيمان لحظتهم بقولها:
_ يلا ناكل عشان الأكل ميبردش
بدأ في تناول الطعام ومشاهدة الفيلم الكوميدي، فلم يتوقفا عن الضحك طيلة الوقت، وكلما انتهيا من تناول شيئ تحضر إيمان حلوى تارة وتسالي تارة أخرى والكثير من المشروبات حتى انتهى الفيلم.
مدد بلال قدmيه على الطاولة ثم وضع يده فوق معدته وصاح بضعف:
_ معتش قادر..
بمشاكسة هتفت من جانبه:
_وأنا كمان..
تنهدت إيمان وبتردد قابلته في الحديث أردفت:
_ ما تحكيلي عنك شوية..
"حابة ت عـ.ـر.في إيه؟"
كان ذلك رد بلال بينما هتفت هي:
_ اللي حابب تحكيه!
ظهرت إبتسامة على شفتي بلال قبل أن يخبرها القليل عنه:
_ أنا كنت الولد الوحيد في العيلة كلها، كل أعمامي عندهم بنات محدش جاله ولد غير أبويا فطبعاً لك أن تتخيلي الدلع اللي كنت فيه، من أعمامي ومرتات أعمامي وبناتهم لأبويا وأمي واخواتي، العيلة كلها مكانتش بدلع غيري، كل طلباتي بتتنفذ من غير تفكير حتى لغاية ما طلعت عيل صـ.ـا.يع..
توقف من تلقاء نفسه حينما رأى الذهول في نظرات إيمان وأكد حديثه قائلاً:
_ آه والله ميغركيش إني هادي دلوقتي، أنا كنت خاربها وكل حاجة نفسي فيها بعملها، كنت تقريباً كل أسبوع مع بنت شكل إن مكنش بنتين في نفس الأسبوع وأوقات بيوصلوا لـ ٣ كمان..
لاحظ بلال الصدmة في عيناي إيمان فأوضح حقيقة كلامه:
_ لا تفكيرك ميروحش لبعيد، دي كانت صحوبية بس مش أكتر، كنت فاكر إني كدا جان ومحدش قدي والجو العبـ.ـيـ.ـط دا
قاطعته هي بسؤالها:
_ حبيت واحدة فيهم قبل كدا؟
كانت تنتظر إجابته بفروغ صبر فقال الآخر:
_ لأ طبعاً، أنا بقولك أخري معاهم صحوبية وبس، كنت بتسلى يعني..
بنبرة مندفعة قليلاً سألته:
_وكانوا حلوين؟
كانت الغيرة في نبرتها واضحة للغاية، فلم يستطع بلال تمالك نفسه، تصنع أنه يفرك عينيه ليخفي فمه الذي شكل إبتسامة عريضة، وأراد التأكد من شعوره فردد:
_ حلوين بس، دول كانوا فورتيكة
تجهمت تعابير إيمان وطالعته بملامح جـ.ـا.مدة، تلك المرة لم يصمد أمام نظراتها وانفجر ضاحكاً، فأثارت ضحكاته تعجبها، وبعد أن استطاع السيطرة على نفسه هتف:
_ بهزر طبعاً، أنا عايز أقولك إني مش فاكر شكل ولا واحدة فيهم أصلا..
ارتخت تعابيرها ثم قالت بفضول:
_ وبعدين؟
تابع بلال حديثه:
_ وبس فضلت كدا لغاية ما شوفت هدير أختي واقفة مع واحد اللي هو جوزها حالياً، هو كان زميلها في الكلية وجارنا، طبعا أنا قلبت الدنيا وإزاي تقفي مع راجـ.ـل غريب وبتاع قعدت تحلف لي إنه كان محتاج محاضرة معينة بس أنا مصدقتش فقامت قيلالي مش كلهم صـ.ـا.يعين زيك وبيلعبوا ببنات الناس..
أنا سمعت الكلمتين دول من هنا وحسيت قد إيه أنا حقير، ومن وقتها وأنا ماشي على الصراط المستقيم وعملت بجملة اللي مرضهوش لاخواتي مرضهوش على بنات الناس.
ت عـ.ـر.في كمان من ضمن أسباب إني معتش أكلم بنت، إني لغاية دلوقتي مش قادر أحب عزت جوز أختي دا، مش قادر احترمه فأنا محبتش إني أكون مكانه في يوم!
قهقه بلال عالياً حينما تذكر أمراً ما وأضاف:
_ مرة مسكته أنا ويوسف وأخد مننا حتة علقة
اتسعت حدقتي إيمان بذهول ورددت بعدm تصديق:
_ يوسف!
أكد بلال على حديثه قائلاً:
_ آه يوسف مش مصدقة ليه؟
أوضحت له سبب عدm تصديقها:
_ أصل أنت متعرفش يوسف عندنا في البيت إيه، بيضـ.ـر.ب بيه المثل في كل حاجة فعشان كدا مصدقتش
أومأ بلال بتفهم وقال:
_ هو أنا مش قصدي إن يوسف وحش، بس هو شقي هو يبان عليه إنه هادي بس هو مش كدا خالص
تنهد بلال وأراد تغير الحوار الذي كان محوره يوسف:
_ دورك، احكيلي عنك
ابتسمت إيمان ساخرة وهتفت بحـ.ـز.ن:
_ مفيش حاجة مميزة في حياتي أحكيها، أنا اتولدت في بيت فيه الأم بتخاف جداً على ولادها كانت رافضة اللعب ونزول الشارع لغاية مابقيت أنطوائية جداً، لا عمري عرفت أصاحب بنت ولا عرفت أعمل ليا صاحبة العمر زي ما كل بنت عندها، دايرتي صغيرة جداً يدوب عمتو وبيتنا والدراسة وبس
استشفت تعجب بلال فتفت ساخرة:
_ حكاية مملة معلش
حاول بلال التفكير معها بصوت عالٍ:
_ ليه مفكرتيش تصاحبي لينة طول السنين اللي فاتت دي كلها؟
تشكلت إبتسامة ساخرة ناهيك عن تعابيرها التي تجهمت لبرهة ثم أردفت:
_ لينة دي آخر حد ممكن أفكر أصحابها
أثارت فضول بلال وراء كلمـ.ـا.تها فتسائل مستفسراً:
_ ليه؟
أخبرته عن السبب بسلاسة:
_ أنا شخصية ولينة شخصية تانية خالص، بقولك أنا مقفول عليا من صغري ومنطوية وهي بنت دلوعة أوي، وكل طلباتها بتتنفذ، وأنا مكنتش بحب الدلع اللي معيشينها فيه دا، من أول عمتو ليوسف لزياد، كنت حساهم بيبالغوا..
نكست رأسها في حـ.ـز.ن وتابعت بنبرة متحسرة:
_ ممكن تقول غيرة!
حدقها بلال بدهشة فأكدت ذلك:
_ كل حاجة طيب وحاضر وموجودة عندها وهي مجرد بنت غريبة عنهم وأنا لأ! فكان دايما في حاجز كدا بينا مقدرتش أتخطاه وأعملها صاحبة!
دا غير أنها عيلة أصلا ولا تفكيرها تفكيري فعندي أسباب كتير يعني..
أومأ بلال بتفهم ثم أردف قاصداً كلمـ.ـا.ته وهو يطالعها باهتمام ليرى رد فعلها:
_ مش يوسف طلع بيحبها!
لم تتفاجئ إيمان بل ابتسمت فتسائل بلال عن سبب ضحكاتها الغامضة:
_ بتضحكي علي إيه؟
بتلقائية أجابت:
_ أصل دا كان باين أوي
ضاق بلال بعينيه عليها مردداً:
_ بس أنا ملاحظتش كدا!
ازدادت إبتسامة إيمان وهي تقول:
_ يبقى أنت محبتش بجد يا بلال!
قطب جبينه بغرابة وسألها بجدية:
_ بتقولي كدا ليه؟
حكت إيمان جبينها قبل أن تردف إجابتها المنتظرة:
_ لو كنت حبيت بجد كنت فهمت إن يوسف عاشق ولهان، وكل اللي كان بيعمله دا عشانه بيحبها مش عشان هي أخت صاحبه والكلام اللي كان بيقوله دا..
ساد الصمت لدقائق حتى قطعته إيمان بتثائبها قبل أن تتحدث بنعاس:
_ أنا هدخل أنام، تصبح على خير
"وأنتِ من أهله"
رد عليها بلال بينما نهضت الأخرى لكنها لم تنجح في الوقوف على قدmيها بسبب تنميلها، اختل توزانها وسقطت للخلف حيث يجلس بلال الذي لحق بها بذراعيه.
شعرت إيمان بالحرج الشـ.ـديد فرددت وهو تطالع عينيه:
_ أنا آسفة بس رجلي نملت ومقدرتش أقف
بهدوء أردف:
_ ولا يهمك، خليكي لغاية ما تفك..
كانت تتوسط قدmيه وتتعلق في ذراعه، كانت قريبة للغاية، كانا كليهما يهربان بنظراتهما بعيداً لكن دوماً يعودان لتبادل نظراتهما من جديد، حمحمت إيمان وسألته بخفوت:
_ لسه بتحبني؟
تفاجئ بلال بسؤالها فهرب بعينيه بعيداً، أعادت هي وجهه إليها في انتظار سماع إجابته، تنهد بلال وأماء برأسه مؤكداً سؤالها، صاحت هي بتلقائية وهي تطالع سودتاه:
_ وأنا كمان...
أجبرها بلال على الصمت بنهوضه المفاجئ حاملها بين يديه، توجه بها إلى الغرفة ثم وضعها برفق على الفراش فتحدثت هي بعفوية:
_ أنا عايزة أقولك حاجة..
دار بلال حول الفراش ذاهباً إلى جهته التي سينام بها وأردف بإقتضاب:
_ وأنا مش عايزك تقولي حاجة
استلقى على الفراش فصاحت هي متسائلة:
_ أنت ليه مش عايز تديني فرصة؟
أجابها مختصراً:
_ لأن الكلام اللي هيتقال هيكون مجرد تريح لضميرك مش هيكون حقيقة
التفت برأسه ناظراً إليها وقال:
_ نامي يا إيمان، تصبحي على خير
أولاها ظهره محاولاً النوم تحت نظراتها المصدومة، لم تتحمل ردة فعله وانتفضت من مكانها ثم هرولت للخارج، دلفت الغرفة الأخرى ثم جهشت باكية، فهي تغاضت عن أسلوبه مراراً لتوطد علاقتهما لكنه دوماً يخرب كل شيئ.
اقتربت من الفراش وألقت جسدها عليه، لم تجف دmـ.ـو.عها بسهولة، بل ظلت على تلك الحالة حتى تغلب عليها النوم من شـ.ـدة التعب.
***
في الصباح، عاد إلى غرفته واستقل الفراش بأمر من والدته التي أسرعت للخارج لكي تعد له فطور شهي، بينما لم تبرح هي مكانها وظلت تطالعه بأعين عاشقة قبل أن تردد برقة:
_ حمد لله على سلامتك
بهدوء قال:
_ الله يسلمك يا لي لي
ابتسمت بعذوبة فاستغل يوسف انفرادهما وصاح:
_ ممكن تساعديني أقلع التيشيرت؟
تفاجئت لينة بطلبه وطالت نظرتها التي لا تصدق حقاً أنه طلب ذلك فتصنع هو التعب:
_ تعبان مش قادر أساعد نفسي..
التفتت لينة ناظرة إلى الباب وهتفت بتردد يشوبه الحرج:
_ ممكن حد يجي ويفهم غلط..
أراد إقناعها بشتى الطرق فقال بنبرة رخيمة:
_ ميمي بتحضر الفطار وزياد لسه بيجيب الأدوية يعني محدش هيجي دلوقتي لو سرعتي شوية..
ابتلعت ريقها وهي تطالعه، فحثها هو بنظراته على مساعدته، أخذت زفيراً عميق وتوجهت نحوه ثم جلست مقابله على الفراش، حارصة على عدm النظر في عينيه ثم أمسكت بطرف ثوبه ورفعته قليلاً فظهرت عضلاته بوضوح.
ارتفعت وتيرة أنفاسها ناهيك عن تـ.ـو.ترها الذي ازداد أضعافاً، فلم تكن قريبة بهذا الشكل من قبل، والأحر عينيه التي لم تُرفع من عليها، رفع يوسف ذراعيه للأعلى حتى يسهل عليها خلع ثوبه، تنفست الصعداء فور انتهائها فأردف هو بخفوت:
_ جيبي واحد تاني بقى
أماءت بطاعة وتوجهت نحو خزانته ثم قامت بسحب ثوب آخر وعادت إليه، ناولته ثوبه فعاتبها بلطف:
_ يعني أنا مش قادر أقلعه هبقى قادر ألبسه!
يبالغ ذاك الشاب، ووزعت نظريها بينه وبين الباب ثم اقتربت منه وساعدته على ارتدائه برفق، كان لازال مرفوعاً من الخلف فمدت يدها خلف ظهره فلمسته دون قصد، سرت رجفة قوية في خلاياها شعر بها يوسف ولم يمنع ابتسامته في الظهور، فكان الوضع محبباً إليه للغاية.
انتهت لينة مما تفعله ثم نهضت مسرعة فقال هو بعذوبة:
_ شكراً
بإبتسامة رقيقة على شفتيها هتفت:
_ عفواً
أرادت الهروب من أمامه فحمحمت وبتلعثم أردفت:
_ أنا هروح أغير هدومي..
أولاته ظهرها فهتف يوسف بخبث:
_ مش عايزة مساعدة؟
جحظت عيناي لينة بصدmة، التفت برأسها ومازالت آثار الصدmة على وجهها، غمز إليها يوسف بمشاكسة فلم تستطع الوقوف لثانية أخرى وهرولت إلى الخارج مسرعة بينما انفجر يوسف ضاحكاً على هرولتها، ثم أخرج تنيهدة حارة على قلبه المتيم وعزم على تعجل الأمور حتى تصبح زوجته للأبد.
***
فرك عينيه بقوة لكي يستطيع الإعتياد على انعكاس أشعة الشمس التي عمت الغرفة، نهض وهو يطالع المكان من حوله بكسل، لم يجدها في الغرفة فظن أنها غفت تلك الليلة في الغرفة المجاورة لأنها لم تأتي منذ ذهابها أمس.
كاد أن ينهض إلا أنه تريث لحظة خروجها من غرفة تبديل الثياب، انتبهت عليه فاقتربت منه وقالت بتجهم:
_ أنا عايزة أروح عند ماما..
لم يمانع بلال فردد بقبول:
_ ماشي..
أخذت نفساً قبل أن تخبره بمرادها:
_ هقعد يومين هناك..
عقد بلال حاجبيها متعجباً من طلبها وتسائل بجدية:
_ ليه؟
"محتاجة أريح أعصابي شوية، ومفتكرش إنك محتاجني في حاجة عشان تعترض"
هتفت بهم وهي تواجهه بعينين ثاقبتين، بينما كان الرفض يسيطر على تفكير بلال، لكنه لا يريد إجبـ.ـارها على المكوث معه، فهي لم ترى منه سوى الرفض طيلة الوقت.
أخرج تنهيدة وقال بإقتضاب:
_ ماشي..
سار بجوارها متوجهاً إلى المرحاض بينما أطلقت هي ضحكة ساخرة وتمتمت بنبرة مختنفة:
_ كنتِ فاكرة إيه يعني، هيمسك فيكي!
حركت رأسها مستنكرة حياتها التي لا تتبدل أحوالها إلى الأفضل بل فقط تسوء وتسوء، خرجت بخطاها تنتظره في الردهة لحين انتهائه.
بعد مدة قضاها في الطريق، وصلا إلى منطقة والداي إيمان، أوقف بلال السيارة ونظر إليها نظرته الأخيرة قبل ذهابها، لم تريد الترجل قبل البوح بما يكمن داخل قلبها، تبادلت معه النظرات لثوانٍ ثم قالت متحسرة:
_ على فكرة يا بلال الحب لوحده مش كفاية!
حبك ليا كان مجرد شغف لتجربة علاقة جديدة وراح مع أول غلطة غلطتها، اللي بيحب بجد بيكون رحيم وبيقدر يسامح ويعدي
وأنت لا عارف تكون رحيم معايا وتسامحني ولا قادر تعديلي أي كلمة ودايماً بتربطها بحاجات مش موجودة غير في خيالك وبس!
وأنا حاولت أصلح واتغاضى، حاولت أبدأ من نفسي وأصلح غلطتي بس أنت مدتنيش فرصة لأنك ببساطة محبتنيش، لو كنت حبتني زي ما بتقول كنت هتساعدني نسعى ونصلح حياتنا بس أنت حتى محاولتش!
أنا مش هقعد هنا يومين بس، أنا هنا لغاية ما إحنا الإتنين نعرف حقيقة مشاعرنا وعايزين نكمل ولا لأ، إحنا الاتنين يا بلال مش أنت بس!
لأن محاولاتي خلاص خلصت وطاقتي نفذت، ومحتاجة أنا كمان أعرف أنا عايزة إيه ومن هنا لغاية ما نعرف نهاية الموضوع دا، ياريت نبعد على قد ما نقدر، لا نتكلم ولا نشوف بعض..
أنهت حديثها وسرعان ما ترجلت من السيارة دون أن تلتفت، كان يتابع حركتها ولا يستطيع فعل شيء، كأنه مقيد بالأصفاد، لم يكن يوماً ضعيفاً بهذا الشكل، لماذا لا يرفض ذهابها ويركض خلفها ويعيدها إليه، أليس هذا ما أراده وتمناه سابقاً!
كيف لم يعترض طريقها ويجبرها على العودة معه؟ أيمكن حقاً أنه لم يحبها؟ لكن كيف؟
كيف وقلبه لم ينبض لسواها!
كان يقنع عقله بأخذ هدنة لمعرفة ما أن كان يحبها حقاً أم تلك مشاعر كاذبة مثلما أخبرته.
تحرك بالسيارة وبالكاد يرى الطريق أمامه، فكان يشعر بالإختناق وكأن أحدهم يضغط على صدره يمنعه من التنفس جيداً، صف السيارة على جانب الطريق وترجل منها لعله يعود لرشـ.ـده باستنشاقه بعض الهواء النقي.
فشل في استعادة رونقه فما كان أمامه سوى الهروب إلى مكان يخلوا من الأناس يستجمع ذاته به إن نجح في ذلك.
↚
***
" أأيه يختي، أتقدmلك!"
هتف يوسف باستنكار تام بينما قابلته لينة بإصرار واضح:
_ وإيه المشكلة؟ مش ربنا قال أدخلوا البيوت من أبوابها، مش عايز تدخلها ليه يا أستاذ يوسف ولا أنت بتاع تسلية وبس
جحظت عيناي يوسف بصدmة بينما لم يصمد زياد أمام ذاك الهراء وانفجر ضاحكاً، ناهيك عن ذهول السيدة ميمي وهي تتابع حوراهما العجيب، في حين أن علي يجلس يشاهد ما يحدث بغرابة.
صاح يوسف عالياً فكلمـ.ـا.تها نجحت في إخراجه عن هدوئه:
_ أتسلى إيه، إيه اللي أنتِ بتقوليه دا! أنتِ عبـ.ـيـ.ـطة؟ افهمي كلامك الأول وبعدين قوليه
عقدت لينة ذراعيها بعناد وهتفت آخر ما لديها:
_ والله دا اللي عندي، لا تيجي تتقدm لي زي أي بنت لا تنسى الموضوع دا
أوصد يوسف عينيه محاولاً الصمود قدر المستطاع، أنتبه الجميع على قهقهة زياد ثم تلاها حديثه الساخر:
_ مش متخيل يوسف يروح يشتري ورد ويلبس بدلة ويجي يخبط على الباب اللي هو باب بيته عشان يتقدm لك، أو نروح بعيد ليه، هو يخرج من أوضته ويدخل يقعد في الصالون على ما أنتِ تجيبي الجاتو وتخرجي
انفجر ضاحكاً وشاركه علي الضحك وكذلك السيدة ميمي، بينما هلل يوسف بتهكم:
_ مش فاهم بجد إيه الهبل دا، على أساس إننا منعرفش بعض وبعدين عايزاني أتقدm لك أدينا فيها أهو، تتجوزيني؟
رمقته لينة شزراً وهتفت مستاءة:
_ إيه العـ.ـبـ.ـط دا؟ أنت تحدد يوم وتيجي لابس لبس رسمي وأنا لابسة دريس، وتجيب بوكيه ورد أحمر وشكولاتة، وتعرض عليا الجواز ووقتها بقى أنا أقولك سيبني أفكر
"كمان!"
صاح يوسف بعدm تصديق، ولم يكترث لصوت ضحكات الآخرين التي تدوي في المكان، حك ذقنه بشـ.ـدة فلقد نفذ صبره على تحمل ذاك الهراء، ابتلع ريقه وهدر:
_ بالله عليكي لو كان مقلب انهيه عشان جبت أخري.
نهضت لينة وبنبرة واثقة قالت:
_ لا مش مقلب ودا اللي عندي ولا أنا مشبهش يا سي يوسف؟
حمحمت قبل أن تضيف:
_ حدد ميعاد مع أخويا واتفقوا، عن إذنكم
غادرتهم وعادت إلى الغرفة تحت نظرات الجميع المذهولة، تبادلا يوسف وعلي النظرات ثم هتف علي:
_ والله ما أعرف حاجة عن الهبل اللي قالته دا هي قالتلي تعالى عايزة أتكلم معاك في موضوع
أطلق ضحكة ساخرة وأضاف:
_ مكنتش أعرف إن الموضوع هيكون كدا
تأفف يوسف بنفاذ صبر فتدخلت السيدة ميمي محذرة إياه:
_ إهدى شوية يا يوسف العصبية دي مش كويسة عشانك أنت نسيت الدكتور قال إيه؟
رمقها لثوانٍ وهدر:
_ أنتِ مش شايفة هي بتعمل إيه؟
"بتدلع، وبعدين لما أنت مش قد الدلع من دلوقتي هتعمل إيه بعد كدا؟"
أردفتهم ميمي مازحة بينما نهض يوسف عن كرسيه فتسائلت بفضول:
_ رايح فين؟
باستهزاء أجاب:
_ ألحق بقى أحجز الورد والجاتو
انفجر ثلاثتهم ضاحكين، بينما لم يكف يوسف عن التمتمة بينه وبين نفسه، بدل ثيابه بأخرى وغادر المنزل، لم يريد القيادة فمازال هناك أثراً لدوار رأسه يحضر وقت الجهد.
فلم يتردد في مهاتفة بلال، لم يجيبه فأعاد تكرار الإتصال حتى أجاب الآخر فصاح يوسف معاتباً:
_ أنت فين يابني ومبتردش ليه؟
بنبرة جـ.ـا.مدة قال:
_ عايز حاجة؟
شعر يوسف بالغرابة حياله، فتحدث متسائلاً:
_ مالك في إيه؟
"مفيش يا يوسف، أنت محتاج حاجة؟"
كان رده بنفاذ صبر، أجابه يوسف قائلاً:
_ كنت رايح مشوار وكنت عايزك معايا بدل ما أسوق أنا..
أردف مختصراً:
_ خمس دقايق وهتلاقيني عندك..
أنهى بلال المكالمة سريعاً، وقف يوسف على جانب حتى وصولة، بالفعل مرت خمس دقائق حتى ظهر بلال بسيارته، استقل يوسف بجواره ثم انطلق بلال خارجاً من المنطقة.
"هتروح فين؟"
تسائل باستفسار حتى يعلم وجهته، التفت إليه يوسف وبإصرار واضح هتف:
_ أوقف عند أي قهوة تقابلك..
بادله بلال نظرات متعجبة قبل أن يسترسل مستاءً:
_ انت كنت نازل تقعد على القهوة؟
نفى يوسف بحركة من رأسه وأوضح:
_ لا بس عايز أتكلم معاك شوية..
تفهم بلال الأمر الآن فهتف رافضاً:
_ وأنا والله مش قادر أتكلم خ....
قاطعه يوسف بنبرة لا تحتمل النقاش:
_لا هنتكلم يا بلال..
وقع نظر يوسف على إحدى المقاهي القريبة فأشار بيده نحوها:
_ قهوة أهي، اركن عندها..
لم يكن أمام بلال سوى الرضوخ، على الرغم من رفضه التام للحديث لكنه على علم بإصرار يوسف، فلن يتراجع قبل معرفة الأمور ووضع حلول لها.
جلس كليهما على كرسيان خشبيان ثم طلب يوسف إحضار كوبين من الشاي وبدأ حديثه بحدة:
_ يلا اتفضل قولي حالتك دي من إيه ومش عايز لف ودوران يا بلال
طالع بلال الطريق أمامه وهتف:
_ مش عارفة أتكلم، مش عارف أحكي أقول إيه!
"إيمان، مش كدا؟"
هتف يوسف بثقة فنظر إليه بلال ثم أومأ، تنهد يوسف وقال:
_ طب المشكلة عندك ولا عندها؟ مين اللي رافض التاني؟
تفاجئ بلال بكلمـ.ـا.ت صديقه، هل الجميع يدرك حقيقة الأمر أم أنه يوسف فقط!، ابتلع ريقه وتنفس بقوة قبل أن يجيبه:
_ أنت عرفت إزاي؟
تشكلت بسمة مستاءة على شفتي يوسف وقال:
_ لو مكنتش صاحبي وحافظك مكنتش فهمت..
عاد بلال ناظراً للطريق وهدر بتقزز شـ.ـديد اتجاه ذاته:
_ المشكلة فيا أنا!
صاح يوسف عالياً:
_ حلو اوي
رمقه بلال بنظرات مستاءة وهتف متسائلاً:
_ هو إيه اللي حلو؟
علل يوسف ما يقصده:
_ أصل لو كانت عندها فأنا مكنتش هقدر أعملك حاجة، لكن طلاما مشكلتك هنقدر نحلها مع بعض
عاد بلال بنظريه إليه واستند بذقنه على راحة يده مستنداً بمرفقه على الطاولة وقال:
_ إزاي؟
ارتشف يوسف القليل من الشاي واسترسل بحكمة:
_ أنت شايف إن الموضوع يستحق تعيش كدا بسببه؟، جاوب جواك مش شرط تجاوبني، أياً كان اللي حصل مينفعش يتصلح؟ مينفعش تتغاضى عنه في سبيل إنك تعيش مبسوط؟
أنهى كوبه وواصل مالم ينهيه:
_ فيه حاجة جدت عن اللي أنت كنت عارفها قبل ما تتجوزوا؟
كز بلال أسنانه ونفى وجود شيئ جديد، فكان ملماً بحقيقة الأمور من البداية ومع ذلك قَبُل أن يتزوجها، لماذا يرفضها الأن وكأنه متفاجئ مما حدث تلك الليلة؟
قطع يوسف حبال أفكاره بقوله:
_ يبقى تحاول تصلح كل اللي ما بينكم وأفتكر دايما إنك قبلت بيها وكنت مبسوط واتغاضيت عن حاجات كتير، يبقى تتغاضى عنها تاني وتالت لغاية ما تنساها، والله العظيم الحياة ما تستحق كل الصراعات دي، أنت بتحبها أعمل المستحيل عشان تخلي علاقتكم كويسة..
حك بلال مؤخرة رأسه هارباً بنظريه عن صديقه وهتف بتردد:
_ هي راحت النهاردة عند مامتها...
رمق يوسف وتابع ساخراً:
_ عايزة تقيم العلاقة وتعرف هنكمل ولا لأ
فغر يوسف فاهه وردد بذهول:
$ وأنت موافق على الكلام دا؟
زفر بلال بضيق شـ.ـديد وأجابه بحنق:
_ أنا معتش عارف أنا عايز إيه، بس يمكن عندها حق، إحنا محتاجين نعرف إحنا عايزين إيه وبعد كدا ناخد قرار
حاول تغير الحوار عنه فتسائل باهتمام:
_ المهم قولي أنت كنت رايح فين؟
تقوس ثغر يوسف باستهزاء وهو يجيبه:
_ رايح ياسيدي أشتري ورد وشكولاتة
عقد بلال حاجبيها بعدm فهم وصاح متسائلاً:
_ ليه؟
بسخرية في حديثه أجاب:
_ هتقدm لـ لينة!
رمقه بلال بطرف عينيه وهو يردد ما سمعه للتو:
_ تتقدmلها إزاي يعني؟
فرك يوسف عينيه بنفاذ صبر موضحاً قصده:
_ عايزاني أدخل الباب من بابه وأتقدm لها وهي تفكر بقى إذا كانت توافق ولا لأ
لم يتمالك بلال أعصابه وانفجر ضاحكاً تحت نظرات يوسف عليه، لم يعقب فهو من جنى على نفسه عند إخبـ.ـاره، ظل يومئ برأسه ثم هتف:
_ مش هتكلم كتير..
خرجت كلمـ.ـا.ت بلال من بين ضحكاته:
_ أنت إزاي سامح لها تعمل فيك كدا؟
تشكل التهكم على تقاسيم يوسف مردداً بسخرية:
_ أنا اتمرمنط يا راضي
انفجر كليهما ضاحكين باستعانة يوسف لأحد إفيهات الأفلام، توقف يوسف عن الضحك وبنبرة يكسوها السعادة هتف:
_ بس أنا مبسوط، ودلعها على كيفي وبنفذ طلباتها الهبلة وأنا مغمض، بحس إني لسه عيل صغير وأنا معاها
تقوس ثغره ببسمة عـ.ـذ.بة قبل أن يواصل:
_ دا أنا بدوب زي البسكوتة في الشاي أول ما بقف قدامها
بعدm تصديق هتف بلال:
_ هي حصلت بسكوتة يا يوسف!
استنتج يوسف تصريحه الأخرق، اتسعت عينيه بذهول تحت ضحكات بلال عليه، انتفض من مكانه وردد بتجهم:
_ قوم يابني قوم، لو قعدت دقيقة كمان هقلب آيس كريم
عقب بلال ساخراً:
_ آيس كريم بسكوتة
لم يتمالكا ضاحكتهما ثم نهض وعادا إلى السيارة، انطلق بها بلال حيث يريد يوسف ولم تخلوا مدة وصولهم من الإستهزاء على تصريحات يوسف الحمقاء.
***
"وبعدين، هتعملي إيه؟"
كان ذلك سؤال هادية لإبنتها التي أجابت وهي تفرك أناملها:
_ مش هعمل حاجة، هقعد هنا على لما نشوف أخرتها إيه، لنكمل يا..
تنهدت إيمان بقوة وتابعت:
_ ننفصل..
تشكل الحـ.ـز.ن على تقاسيمها، لاحظته هادية وبتردد بالغ أردفت:
_ أنتِ حبتيه يا إيمان؟
صوبت إيمان بصرها نحو والدتها، طالت نظرتها وهي تفكر جيداً في إجابة، هـ.ـر.بت بنظريها بعيداً وقالت:
_ مش عارفة، مش قادرة أحدد مشاعري بالظبط، يمكن عشان كدا طلبت إننا نبعد عشان كل واحد يتأكد من مشاعره
لم تصدق تلك الإجابة فلم تكن مقنعة وهدرت:
_ طيب ليه زعلانة لما أنتِ لسه مش عارفة بتحبيه ولا لأ؟
زفرت إيمان بقلة حيلة وبعد مدة حاولت توضيح وجهة نظرها:
_ أنا مش بكرهه، ومش هكذب الفترة اللي قضيتها معاه خليتني أتشـ.ـد ليه، مش عارفة دا تعود ولا فعلاً حب، بس أنا كنت حابة إننا نبدأ من جديد وننسى اللي فات، بلال شخصية جميلة وحنون بس مشكلته إنه مش بيسامح بسهولة!
أنا حاولت وخلاص معتش هحاول تاني، الدور عليه هو اللي يحاول، دا لو عايز يعني..
نكست رأسها بحـ.ـز.ن، ثم استمعن إلى صوت رمضان في الخارج ينادي على هادية فأسرعت إيمان قائلة:
_ متقوليش حاجة لبابا، قوليله مثلاً إن بلال مسافر لشغل وأنا هقعد هنا لغاية ما يرجع
أماءت هادية بالإيجاب ثم خرجت من الغرفة لتلبي نداء زوجها:
_ نعم يا رمضان، محتاج حاجة؟
اقترب منها وتسائل وعينيه تطالع باب غرفة إيمان:
_ فيه إيه إيمان مالها؟
حمحمت هادية وأخبرته بما تريده إيمان معرفته:
_ مالها يا خويا، جوزها بس مسافر يومين كدا تبع الشغل وهي خافت تقعد لوحدها فجت تقعد هنا، هي يعني ليها مين غيرنا تقعد عنده؟
استنكر رمضان تلك الإجابة المبالغة وهتف مستاءً:
أ_ نا سألت سؤال واحد إيه كل الكلام دا، عموماً أنا نازل الشغل، سلام
"مع السلامة"
رددتها هادية متابعة لخروجه من المنزل، ثم عادت إلى ابنتها ليواصلا حوارهن سوياً.
***
مساءًا، يجلس الشباب في الصالون، يتبادلون النظرات، بالكاد يستطيعون إخفاء ضحكاتهم، يحاولون عدm النظر في أعين بعضهما البعض حتى لا ينفجروا ضاحكين.
يجلس هو في زييه الرسمي يمسك بيديه باقة من الزهور ذات اللون الأحمر، كان يصطنع الخجل مسايراً الأجواء، حتى ظهرت هي بطلتها التي خـ.ـطـ.ـفت قلبه، كانت ترتدي فستاناً سماوياً يتماشى مع بشرتها، وتعمدت وضع ذاك الأحمر الشفاه الفاقع حتى تبدو جذابة في عينيه.
لم تعلم أنها جنت على روحها تلك الفتاة، كز يوسف أسنانه بغضب ثم انتفض من مقعده وتوجه نحوها، أمسكها من ذراعها وعاد بها إلى غرفتها وتحدث من بين أسنانه المتلاحمة:
_ لا بصي أنا مسايرك في كل الهبل اللي طلبيته لكن تزوديها أقلبهالك نكد والله، خشي شيلي الأحمر دا
عضت لينة على شفتيها ثم تعمدت ضمهما بطريقة مثيرة وقالت بدلال:
_ وإلا هتعمل إيه؟
كان متابعاً لحركات شفتيها وبالكاد يصمد أمامهما، احتدت ملامحه وهدر:
_ متحاوليش تستني ت عـ.ـر.في هعمل إيه عشان هتزعلي جـ.ـا.مد..
اعتدلت لينة في وقفتها ثم عادت إلى غرفتها دون إضافة المزيد، قامت بإزالة أحمر الشفاه وعادت إليه فنظر إليها بتفحص ثم سبقها للخارج، جلس حيث كان بينما جاءت هي على استحياء فانفجر زياد ضاحكاً وصاح ساخراً:
_ لا السيطرة باينة
غمز إليه يوسف بعجرفة ثم وجه حديثه لعلي بنبرة مصطعنة:
_ بعد إذنك يا أستاذ علي، أنا جاي النهاردة أطلب أيد الآنسة لينة أختك
وضع علي قدm على أخرى واستقام في جلسته وقال بتكبر:
_ عرفني على نفسك الأول، خريج إيه وبتشتغل إيه وعندك شقة ولا ناوي تأجر، يعني عشان أكون مطمن على أختي
رفع يوسف حاجبه الأيسر فتعالت ضحكات زياد، رمقه يوسف بنظرات مشتعلة فحاول كتم ضحكاته وردد:
_ أسف معلش كملوا..
حمحم يوسف وبدأ يعرف عن نفسه بلهجة جادة:
_ أنا يوسف الراوي، خريج إدارة أعمال، مدير معرض عربيات، وعندي شقة ومستوايا المادي الحمد لله كويس وبس كدا
أماء علي ثم نظر حيث تجلس شقيقته وسألها بجدية:
_ ها إيه رأيك يا لينة؟
أخفضت في حياء وأجابته بخفوت:
_ مش بطال
تجهمت تعابير يوسف وردد بحنق:
_ هو ايه اللي مش بطال أنتِ تطولي يابت أنتِ
اتسعت حدقتي علي وهاجمه قائلاً:
_ لا لو سمحت أنا مسمحش أبداً بإهانة أختي، وبعدين لما من دلوقتي بتقولها بت لما تتجوزها هتعمل إيه؟
"هضـ.ـر.بها وهضـ.ـر.بك لو زودت كلمة كمان"
هتف يوسف بنفاذ صبر فأعدل علي من جلسته متوجساً خيفة منه وحاول تعجيل الأمور:
_ على بركة الله يا أستاذ يوسف، نقرأ الفاتحة
رفع الجميع أيديهم ليقرأوا سورة الفاتحة مبـ.ـاركين تلك العلاقة بها، ارتفعت زغاريد السيدة ميمي بسعادة غامرة، نهضت وعانقت لينة بحب وسعادة.
تصافح الشباب مبـ.ـاركين ليوسف على تلك المناسبة السعيدة، بينما توجه يوسف إلى مشاكسته وطالعها بهُيام وقال بنبرته الرخيمة:
_ مبروك علينا
تلونت وجنتيها بالحُمرة وعضت على شفتيها بخجل شـ.ـديد، نكست رأسها حينما فشلت في مبادلته النظرات، انحنى بقرب أذنها وشاكسها قائلاً:
_ قلبتي قطة يعني..
لم تعقب بل ازدادت حُمرة وجنتيها، تقوس ثغر يوسف ببسمة عريضة وردد ممازحاً:
_ مياو مياو
تركته وعادت إلى غرفتها سريعاً، فلم تنجح في إخفاء خجلها فقط كان يزداد أمامه، وقفت خلف الباب تعيد ما حدث منذ قليل، لا تصدق أنها خطت أول خطوة في حلمها، لم يعد هناك الكثير حتى يصبح حقيقة لا تستطيع إنكارها.
توجهت نحو الفراش واستلقت أعلاه ثم هاتفت صديقتها وهتفت بنبرة يملؤها السعادة وهي تطالع سقف الغرفة:
_ قرينا الفاتحة!
لم تتوقف ضحكاتها قط، وكذلك شهد شاركتها الضحك والمبـ.ـاركات، فالأمر كان أشبه بالحلم، كيف يصدقن ما حدث بتلك السهولة؟
"أنا مش مصدقة، خلاص كدا أنا ويوسف مخطوبين!"
هتفت لينة والسعادة لا تسعها فأكدت شهد حديثها:
_ حلمك اتحقق أخيراً يا لينة، هتعملوا إيه في اللي جاي؟
استقامت لينة في جلستها وتسائلت بعدm فهم:
_ في إيه مش فاهمة؟
وضحت شهد ما تقصده:
يعني اتفقتوا هتكتبوا الكتاب امتى والجواز برده امتى؟
اتسعت عيناي لينة تلقائياً ورددت دون استيعاب بعد:
_ ها؟ كتب كتاب وجواز!!
***
بعد مرور سبعة أيام، يسير على مرر من العديد من قواقعُ الشاطئ الذي يفصلا بين الرمال على جانبيه، يطالع البحر من أمامه والجميع من حوله يصفقون بحرارة منذ ظهور، ثم توقف عند نهاية الممر.
علم بحضورها فور ارتفاع التصفيقات والزغاريد التي تطلقها النساء والفتيات، كان قلبه يخفق بقوة، ويتساءل كيف تبدو؟ حتماً ستنهار قواه إن رآها في ثوبها الأبيض التي رفضت مسبقاً أن تريه إياه معللة أنه لابد أن يكون مفاجأة.
كان يشعر بقربها ويزداد قلبه خفقاناً، يزداد تـ.ـو.تره ناهيك عن ادريناله الذي يتدفق بقوة، أوصد عينيه حتى شعر بلمسة يدها على كتفه.
أخذ شهيقاً عميق ثم استدار بجسده إليها، ليتفاجئ بتلك الطلة الساحرة، كان على دراية بأنها ستسحر عينيه من فرط جمالها لكنه لم يكن يعلم أنها ستكون بتلك الروعة، لقد كانت تشبه الأميرات في ثوبها الأبيض.
كانت رقيقة، ناعمة، برزت ملامحها الأنثوية بتلك المساحيق البسيطة التي وضعتها، تشكلت إبتسامة على محياه تلقائياً فبادلته هي إبتسامة خجولة ثم نكست رأسها في حياء شـ.ـديد.
مد ذراعه إليها فتعلقت به وتابعا سيرهما حتى وصلا إلى تلك الطاولة المليئة بالأزهار البيضاء، أعد لها كرسياً حتى تستطيع الجلوس ثم جلس على الجانب الآخر منها وإلى جواره المأذون، ومن الجهة المقابلة كان يجلس علي وزياد ومن الخلف يقف أصدقائهم وبعض الأقارب، والبعض الآخر يجلسون على طاولتهم يتابعون من على مقربة منهم.
ابتسم المأذون في وجه يوسف ثم وجه حديثه إلى لينة متسائلاً:
_ الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا زوجة صالحة التي إن نظرا إليها..
ناولها مكبر الصوت فهتفت هي من بين ضحكها الخجول:
_ أسرته..
ثم تابع أسئلته:
_ وإن أمرها؟
هتفت الأخرى من خلف يوسف قبل أن يسمح لها المأذون:
_ أطاعته..
انفجرا المعازيم ضاحكين فهتف المأذون مازحاً:
_ لا دا احنا ناخد رقم العريس نشوف الطاعة دي فعل ولا كلام بس
ازدادت ضحكات الحاضرين فأضاف المأذون قائلاً:
_ وإن أقسم عليها؟
لم تعد لينة تتذكر بقية الحديث فأردفت بحرج:
_ معتش فاكرة
لم تخلوا الجلسة من ضحكات الحاضرين من خلفها، توقف المأذون عن الضحك ثم تابع هو مباشرة دون سؤالها:
_ وإن أقسم عليها يا عروسة أبرته، وإن غاب عنها نصحته أو حفظته في نفسها وماله.
أماءت لينة بفهم ورددت بعفوية:
_ ماشي
لم يستطيع أحدهم السيطرة على ضحكاته، بينما التفت إليها يوسف وهمس مازحاً:
_ فضحتينا يا لينة..
تدخل المأذون بقوله:
_ ربنا ما يجيب فضايح أبداً، ها يا عروسة موافقة على الشروط دي؟
بهتاف عالٍ قالت:
_ إيفييت (نعم)
حاول يوسف توضيح معنى كلمتها:
_ معلش أصلها مهوسة بالتركي شوية
أماء المأذون بتفهم ثم هتف بمرح:
_ لا دا أنت الله يعينك على التركي دا عندي منه في البيت
حمحم ثم بدأ يلقي خطبة عن فضل الزواج وما أن انتهى حتى بدأ يلقي على يوسف وهو يردد خلفه وكذلك فعل علي حتى انتها كليهما وصاح المأذون مبـ.ـاركاً لهما:
_ "بـ.ـارك الله لكما وبـ.ـارك عليكما وجمع بينكما في خير إن شاء الله"
وضعت لينة يدها على فمها تكتم شهقاتها التي خرجت رغماً عنها لكنها لم تمنع دmـ.ـو.عها من السقوط، لا تصدق أنها باتت زوجته، لقد تحقق الحلم!
الأحلام تتحقق، حتى وإن مرت أعوام عجاف، لكن في النهاية سيكون لنا نصيباً منها، ستُقَر أعيننا برؤيتها، وستغمر السعادة قلوبنا بعيشها، سنمضي بها وكأننا لم ننتظرها يوماً.
التفت إليها يوسف ثم أحتضن يدها الصغيرة مردداً:
_ إيه يا لي لي مش دا اللي كنا عايزينه، ليه العـ.ـيا.ط دا
ازداد نحيبها، فلم تجرأ على التحدث، ظل يهدئها بكلمـ.ـا.ته الحنونة لكنها لا تتوقف بل يزداد بكائها، حضرت السيدة ميمي وقامت بضمها وهي تردد:
_ في إيه بس يا حبيبتي؟
أضافت شهد التي كانت تملس على ضهرها بحنو:
_ بتعيطي ليه يا فقرية؟
جاء دور علي الذي أخذها من السيدة ميمي وقام بضمها لصدره وظل يردد بلطف:
_ أنا موجود يا لولو، ويوسف وكل اللي بتحبيهم موجودين، ليه العـ.ـيا.ط دا؟
أبعدها عنه ثم سحب منديلا ورقياً من الطاولة أمامه وقام بمسح عبراتها برفق وهتف:
_ خلاص بقى، اضحكي يلا
طبع علي قُبلة على جبينها وعاد مواصلاً:
_ ها؟
ظهرت إبتسامة لم تتعدى شفاها ثم نظرت حيث يقف يوسف متأثراً ببكائها، ابتسم لها ومازحها قائلاً:
_ لازم يعني أخوكي يبـ.ـو.سك عشان تضحكي؟!
لكزته لينة في كتفه بقوة فتأوة يوسف بألم، تدخل بلال ولكزه في ذراعه معاتباً إياه:
_ أنت ياض عديم الإحساس مش المفروض أنت اللي تبقى واقف جنبها وتحتويها؟
بلامبالاة قال يوسف:
_ أعمل إيه يعني؟
رمقه بلال بنظرات مستاءة وهتف بحنق:
_ وأنا برده اللي هقولك تعمل إيه يا بسكوتة؟
بادله يوسف نظرات احتقار ثم طالع جهة ما وأردف:
_ بدل ما تشغل نفسك معايا ركز مع اللي عيونها مترفعتش عنك دي..
نظر بلال حيث ينظر يوسف وتقابل مع نظرات إيمان لكنها سرعان ما هـ.ـر.بت بنظريها بعيداً عنه، غمز إليه يوسف قبل أن يوليه ظهره ويذهب إلى فتاته فلم تعد فقط مشاكسته، وقف إلى جوارها واحتضن يدها ثم تسائل باهتمام:
_ بقيتي أحسن؟
حدجته لينة بنظرات مشتعلة ولم تجيبه، فهتف هو مستفسراً:
_ في ايه؟ إيه البصة دي؟
سحبت لينة يدها من بين قبضته وهتفت بجمود:
_ ولا حاجة..
انشغلت عنه في مصافحة صديقاتها، وكذلك انشغل يوسف في الترحيب بالمدعوين، توجه بلال إلى طاولة إيمان وعائلتها، مال السيد رمضان على أذن زوجته وهمس:
_ مش بتقولوا مسافر؟
استنكرت حديثه وهتفت بتهكم:
_ وهو اللي بيسافر مبيرجعش يا رمضان؟
لم يشعر أحدهم بقلبها التي يزداد عنفواناً كلما اقترب خطوة منهم، كان صدرها يعلو ويهبط بصورة مضطربة، فلم تكن مستعدة لتلك المواجهة.
رحب بلال بالجميع ثم جلس بجوارها وانتبه لحديث حماه الذي قال:
_ حمد لله على سلامتك يا بلال، رجعت امتى؟
قطب بلال جبينه بغرابة فأسرعت إيمان بتوضيح مقصد والدها حيث همست دون أن تلفت الأنظار إليها:
_ بابا عارف أنك كنت مسافر في شغل..
أماء بلال بتفهم وبإبتسامة رد على السيد رمضان:
_ الله يسلمك ياعمي يدوب لسه راجع النهاردة
عاد بنظره إليها فعيناه قد اشتاقت لرؤيتها كثيراً، حمحم وسألها باهتمام:
_ أخبـ.ـارك إيه؟
"كويسة"
_ أجابت باختصار ثم ساد الصمت لبرهة قبل أن تتسائل هي:
_ وأنت؟
بنفس لهجتها أجاب:
_ كويس..
لمحت إيمان طيف عائلة بلال فأردفت وهي تطالعهم:
_ باباك ومامتك وأخواتك وصلوا..
التفت بلال برأسه حيث كانوا، وأشار إليهم بيده فوقعت نظراتهم عليه، نهض لاستقبالهم مستأذناً من عائلة إيمان ثم ذهب إليهم.
وبعد أن هنئوا السيدة ميمي ويوسف على تلك المناسبة ذهبت شهيرة لكي ترحب بعائلة إيمان، تبادلوا الترحيب ثم جلست بجوارها ومالت عليها قبل أن تردف:
_ أنا شايفة مامتك ماشاء الله بقت كويسة أهي
لم تفهم إيمان ما ترمي إليه شهيرة فرددت قائلة:
_ أيوة الحمد لله
_ "أنا والله كنت بتصل عليكي على طول بس موبايلك كان مقفول دايماً فكنت بسأل عليكم بلال، مكنش بيقولك؟"
أردفتهم شهيرة فلم تفهم إيمان ما تعنيه، سايرت الأمور حيث استطاعت لكي لا تفسد ما خططه بلال حتماً اختلق علة لذهابها:
_ كان بيقولي أيوة..
أضافت شهيرة بخفوت:
_ البيت موحشكيش؟ دا بلال من يوم ما أنتِ مشيتي وهو مدخلوش، بينام عندي..
تفاجئت إيمان بما أخبرتها به شهيرة، صوبت بصرها تلقائياً نحو بلال، ثم انتبهت لحديث السيدة شهيرة حين قالت:
_ الست طلاما اتجوزت مينفعش تغيب عن بيتها كتير، أنا مقدرة ظرف مامتك بس برده يا حبيبتي بيتك وجوزك أولى باهتمامك..
طالعتها إيمان بحرج شـ.ـديد قبل أن تعقب بتلعثم:
_ أكيد، إن شاء الله
استأذنت منها ثم نهضت وذهبت إلى بلال، الذي افترق عن أصدقائه وتوجه نحوها فتسائلت هي بجدية:
_ أنت قايل لمامتك إيه عن ماما؟
وضع بلال يديه في جيب بنطاله وأجاب:
_ قولتلها إنها تعبانة عشان كدا أنتِ روحتي تقعدي عندها
"ممم، طيب"
قالتها إيمان ثم وقفت تشاهد تفاصيل المكان، فكانت الأجواء تروق لها للغاية، على جانب آخر استطاع يوسف الوصول إليها في النهاية، أمسكها من ذراعها وهتف بضجر:
_ أنتِ منفضالي ليه كدا؟
ببرود قالت:
_ عادي..
ضاق بعينيه عليها وهتف متسائلاً:
_ يعني إيه عادي، وإيه الطريقة دي؟
زفرت بضيق قبل أن تردف:
_ شوف أنت كان المفروض تعمل إيه ومعملتوش!
جاب يوسف المكان من حوله لعله يتذكر ما كان يفترض عليه فعله ولم يأتي بشيئ فسألها بفضول:
_ إيه اللي كان المفروض أعمله؟
عقدت ذراعيها وهي تطالعه مستاءة:
_ دي حاجة مش بتتقال دي حاجة بتتحس..
كاد يوسف أن يدر على حديثها المبهم، لكنه تريث حينما وجه لهما منظم الحفل حديثه:
_ وأحلى رقصة سلو لأحلى عريس وعروسة
تعالت التصفيقات وصدحت صافرات عالية من بعض الشباب الحاضر، تحمست لينة لرقصتهما الأولى لكنها تفاجئت بيد يوسف تلوح بالرفض لذاك الشاب الذي دعاهم للرقص.
لم تستطيع الصمت وهدرت بحنق:
_ هو إيه اللي لأ؟ إحنا مش هنرقص؟
بتلقائية همس:
_ تؤ..
جحظت عينيها وهي تطالعه بذهول ورددت بضيق:
_ أومال إحنا عاملين كل دا ليه؟
التفت يوسف إليها بكامل جسده وبدأ يوضح لها وجهة نظره:
_ كل اللي اتعمل دا عشان أنتِ عايزة كدا، لكن متطلبيش مني أكتر من كدا أنا مش بتاع رقص ومش هسمح أنك تقفي تطنططي قدام الشباب!
"فين التنطيط دا دي رقصة سلو ومعاك أنت"
هتفت بنبرة متوسلة فعلل يوسف قائلاً:
_ يا حبيبتي ما أنتِ لما ترقصي معايا نظرات كل اللي قاعد هتكون علينا وأنا مش عايز حد يبصلك..
تأففت لينة عالياً:
_ أوف بجد أوف
تنهد يوسف وعاتبها بنبرة محتقنة:
مش دا اليوم اللي كنا مستنينه يا لينة؟ واضح إن أنا بس كنت مستنيه!
تفاجئت هي بكلمـ.ـا.ته وهدرت نافية ظنه:
_ لا طبعاً، إيه اللي بتقوله دا
رققت من نبرتها وبدلال قالت:
_ بس أنا عايزة أفرح يا سوفي..
بهجوم صاح:
_ وهو الفرح مينفعش غير بالرقص قدام الرجـ.ـا.لة؟
نكست لينة رأسها في حياء ولم تعقب، فكان لديه كل الحق، لكنها أيضاً تريد أن تشعر أنها عروس، تناقض شـ.ـديد يهاجم عقلها فشعرت بالتشتت، أخذت نفساً ثم توجهت إلى كرسيها بهدوء وجلست أعلاه واكتفت بمبـ.ـاركة الجميع لها وأخذ الصور من قِبل صديقاتها.
انتهى الحفل بسلام، كانت أجواء هادئة نجح يوسف في إسعاد الجميع دون وضع يغضب ربه، لكن فتاته مازالت عابسة، ولم يرضيها أمره، وصلا إلى منطقتهم فأمسك بيدها عنـ.ـد.ما ترجت السيدة ميمي وطبع قُبلة عليها وقال:
_ استنيني متناميش..
أماءت بقبول ثم ترجلت من السيارة وصعدت حيث شقتهم، بينما ترجل يوسف من السيارة وتوجه حيث يصف بلال سيارته وصاح من الخلف:
_ مش ناوي ترجعها بقى؟
التفت إليه بلال، أخرج تنهيدة حارة وهتف بلوعة:
_ نفسي..
"وإيه اللي مانعك؟"
تسائل يوسف بفضول فأجاب بلال بتردد:
_ خايف ترفض
استنكر يوسف تفكيره المحدود وهدر به:
_ عمرها ما هترفض لو حست إنك فعلاً عايزها ومحتجاها، ومُصر إنها ترجع معاك، كل حاجة في أيديك بس أنت اللي غـ.ـبـ.ـي ومش بتحاول حتى!
"عندك حق"
بقلة حيلة قالها، ربت يوسف على ذراعه وحثه على الذهاب إليها:
_ طيب يلا روح لها ورجعها معاك، كفاية بُعد بقى
كلمـ.ـا.ت يوسف زادته حماساً وهتف بحيوية:
_ ماشي..
غمز إليه يوسف بمشاكسة بينما عاد بلال لسيارته وودع صديقه ببسمة عريضة، رسم العديد من المواقف في مخيلته لهما، كان قلبه يزداد عنفواناً وحيوية كلما تخيلها بين يديه يبدأن حياة جديدة لم يحظى كليهما بها.
بينما نظر يوسف إلى بنايتهم، وحدج غرفة لينة المضيئة ثم ظهرت إبتسامة على شفتيه فلقد بلغ نهاية الأمر وباتت زوجته ويحل له فعل ما تمناه طويلاً.
لم يعد يطيق الإنتظار وهرول بخطاه إلى الأعلى، وقف أمام غرفتها واستند بذراعيه على جانبي الباب ثم طرق بخفة ففتحت له بعد لحظات، تقوس ثغره ببسمة عـ.ـذ.بة، شعر بمتعة الوصول حينها، كان يطالعها بعيون مشتاقة يشع منهما العشق، اقترب منها وحاوط خصرها بيديه ثم ركل الباب بقدmه فانغلق بسهولة.
***
صف بلال سيارته أسفل البناية، خرج منها وحدج طولها حتى وقعت عينيه على منزلها، أخذ نفساً عميق فكان متردداً للغاية في الصعود في مثل تلك الساعة المتأخرة.
استقل مقعده مرة أخرى لكنه ترك قدmيه في الخارج، سحب هاتفه وأرسل إليها رسالة على الواتساب:
_ نايمة؟
ظهرت علامتين فتأكد من عدm غفوها بعد، مرت ثوانِ حتى تحول لونهما إلى الأزرق، خفق قلبه حينما رأها تراسله.
إيمان: لأ
بلال: أنا تحت البيت
إيمان: بيت مين؟
بلال: بيتكم
لم يأتيه رد للحظات، فظل يهز هاتفه بعدm صبر، بينما هرولت هي الشرفة لتتأكد من وجوده، عادت تراسله فتوقف عن الحركة في انتظار ما سترسله.
إيمان: بتعمل إيه هنا؟
بلال: رجلي جابتني عندك
إيمان: طيب أطلع
بلال: محروج عشان الوقت متأخر
إيمان: تعالى كلهم ناموا، هفتح لك الباب
بلال: ماشي
أعاد وضع هاتفه في جيبه ثم أغلق السيارة من خلال مفتاحها، صعد درجات السلم بتريث حتى وصلا إلى الطابق الكائنة به.
بادلته إبتسامة ورحبت به:
_ اتفضل
تنحت جانباً فمر من جوارها، أسبقت هي بخطاها إلى غرفتها وتبعها هو للداخل، حدج الغرفة بتفحص ثم أبدى إعجابه بها:
_ أوضتك حلوة
بخجل قالت:
_ شكراً
كادت أن تبتعد عنه لكنه لحق بها وضمها إليه وبنبرة مشتاقة همس:
_ حشـ.ـتـ.ـيني و
ابتلعت ريقها وهي تطالع سودتاه اللامعة، كانت نبضاتها تتسارع بقوة، وأنفاسها تتعالى كل ثانية تمر، حمحم هو وأضاف:
_ فاكرة لما قولتيلي إني مش بحبك!
أماءت ثم أجبرت أذنيها على الإصغاء فتابع بلال:
_ كان عندك حق..
اتسعت حدقيتها وفغرت فاها بذهول فأسرع هو في توضيح قصده:
_ اكتشفت إني مش بس بحبك دا أنا بحبك أوي، ومقدرش أستغنى عنك والأيام اللي فاتت دي عرفت إني مقدرش أعيش لحظة من غيرك حتى لو حياتنا كلها نقار، المهم تبقي جنبي ومعايا..
ضمها أكثر لصدره وانحني برأسه ليكون قريب لمستوى طولها، لثم عنقها بقبلاته الرقيقة والتي قشعر جسدها إثره، تمسكت بقوة في ذراعيه فرفعها عن الأرض وتوجه بها نحو الفراش، مال بها برفق فهمست هي أمام شفتيه:
_ وأنا اتاكدت إني بحبك يا بلال..
وكأن تصريحها كان بمثابة دافع قوي لإنهيار حصونه، خارت قواه وطالبت غريزته بها بكل جوراحه.
↚
***
شعرت بجدية الأمر حينما لمس طرف ثوبها بيده، فأسرعت في إيقافه من بين أنفاسها اللاهثة:
_ بلال..
بهمس قال:
_ نعم؟
"مينفعش هنا"
قالتها بحرج فتوقف عما يفعله، ورمقها لبرهة، فتوجست هي من نظراته خشية أن يظن بها السوء فأوضحت:
_ إحنا مش لوحدنا..
أماء بتفهم قبل أن يردف أمراً:
_ طيب قومي البسي عشان نمشي
بفضول سألت:
_ هنروح فين؟
أجابها وهو يجوب بأنظاره شفتيها الوردية:
_ هنروح البيت
عارضته إيمان معللة:
_ بس هقولهم إيه لو سألوني مشيت ليه من غير ما أعرفهم؟
هتف بلال بلامبالاة:
_ هتقوليلهم بلال جه أخدني ومشينا بس كدا
أماءت بقبول ثم هدرت بحياء:
_ طيب عايزة أقوم
حرك بلال رأسه بتفهم ثم تنحى جانباً، استلقى على الفراش مطالعاً سقف الغرفة بينما شعرت إيمان بالحرج والتردد الشـ.ـديدين في تبديل ثيابها أمامه، لكن ليس هناك حل آخر.
بدأت تخلع ثيابها بسرعة كبيرة بينما استند بلال بمرفقيه على الفراش مستمتعاً بتلك المشاهدة الفريدة نوعها، استنكرت هي نظراته عليها وهتفت متسائلة:
_ بتبصلي كدا ليه؟
بنبرة ماكرة هتف:
_ معجب
أولاته ظهرها سريعاً ثم شكلت ابتسامة على ما قاله، انتهت من ارتداء الثياب الخاصة بالخروج، فنهض هو وأعاد ضبط ثيابه الغير مهنـ.ـد.مة واقترب منها، مد لها يده فلم تتردد في تخلل ثغرات يده بأناملها.
خرجا بهدوء لكي لا يتسببا في إيقاظ أحد، ترجلا من المنزل ومنه إلى السيارة، لم يترك بلال يدها ثانية، بل كان ممكساً بها طوال الطريق، ويرفعها بقرب فمه يطبع عليها قُبلة حارة من آن لآخر.
***
دفعته بعيداً عنها ثم أولاته ظهرها، عقدت ذراعيها معلنا تمردها قبل أن تهتف بحنق:
_ أنا أصلاً زعلانة منك ومش بكلمك
جذبها يوسف وأدارها إليه متسائلاً بنبرة حنونة:
_ ليه بس، أنا عملت إيه يزعلك مني؟
أخفضت بصرها وشكلت الحـ.ـز.ن على تقاسيمها وأجابته بنبرة ناعمة:
_ أي اتنين بيكتبوا كتابهم بيكون في حـ.ـضـ.ـن بعدها، وأنت معملتش كدا كأنك مكنتش مبسوط!
فغر يوسف يوسف فاهه بصدmة وردد آخر ما قالته مستاءً:
_ أنا مكنتش مبسوط يا لينة؟
لم تستطيع مواجتهه فأجابته ولازالت منكسة الرأس:
_ دا اللي حسيته وقتها..
أخذ نفساً عميق لكي يتسع صدره ويفهمها لماذا لم يفعل ذلك بنبرة رقيقة وهو يحرك إصبعه على وجنتها بحركات دائرية:
_ أنا مش بعرف أعمل كدا قدام حد، وبعدين دي لحظات خاصة ليه أعملها قدام الناس؟
وضع إصبعه على ذقنها ثم رفع وجهها فتبادلا النظرات وتابع بصوته الهادئ الرخيم:
_ اللي بتشوفيه على السوشيال دا كله شو، لأن دي مشاعر خاصة جداً متنفعش تطلع قصاد أي حد، واللي بيعمل كدا مشاعره مش بتكون حقيقة، بتكون مصطنعة عشان بس ياخد اللقطة، لكن أنا لما أكون عايز أعيش لحظة زي دي مع اللي بحبها هعيشها بيني وبينها بس، عشان أطلع كل مشاعري من غير ما أعمل حدود لعيون الناس اللي باصة عليا، فهمتي يا لي لي؟
كان ينجح دوماً في إقناعها، وبطريقة استراتجية يمتلكها هو، وما كان منها إلا أن أماءت بتفهم ورضاء، بينما تراجع يوسف وجاب الغرفة بعينيه ثم هتف متسائلاً:
_ موبايلك فين؟
ناولته إياه وسألته بفضول:
_ هتعمل ايه؟
لم يجيبها بل حادثها بأمر:
_ هاتي الهاند فري بتاعك
جلبت له ما يريد ووقفت تنتظر ما سيفعله، انتهى يوسف مما يفعله ثم وضع إحدى السماعتين في أذنه والأخرى في أذنها وأعاد وضع الهاتف في جيبه، أحاط خصرها بيديه فاستفشت هي ما يفعله الآن، رفعت ذراعيها وحاوطت عنقه بهما، فما كان منه إلا أن ضمها حتى باتت ملاصقة لصدره وبدأ يرقصان على تلك الأغنية التي أحضرها يوسف.
كانت أعينهما تكشف عن مشاعرهما، الكثير من الكلمـ.ـا.ت يرددونها في عقلهما وكأن الطرف الآخر يصغي إليها، كان كلاً منهما يشعر بنضبات الآخر لشـ.ـدة تقاربهما، انتهت الأغنية ثم بدأ يوسف حديثه وهو يسبل في عينيها:
_ نفسي في حاجتين أوي
خرج سؤالها بخفوت أمام شفتيه وهي تطالع عينيه:
_ إيه هما؟
"شعرك، أشوفه تاني"
تفاجئت لينة بطلبه وبحرج يشوبه الحماس أردفت سؤالها:
_ تاني! أنت شوفته قبل كدا؟
أومأ برأسه مؤكداً وقال بلوعة حب:
_ مرة مكنتش مقصودة، ومش قادر أنساه من يومها!
خفق قلبها بقوة، ثم تراجعت للخلف وبدأت تحرر قيد حجابها، اقترب منها يوسف وتولى مهمة تحرير خصلاتها من تلك العقدة الخلفية، ثم بدأ يتخلله بأنامله موزعاً خصلاته على جانبي رأسها حتى باتت مثلما رآها سابقاً.
شكل إبتسامة عـ.ـذ.بة على محياه وردد بنبرته المتيمة:
_ قُل للتي بلغَ النصاب جَمَالها، إنَّ الزكاةَ عنِ الجمالِ تَبَسُّمُ، أدي إليَّ زكاةَ حُسنكِ واعلمي أن الأداءَ إلى سِوايَّ محَرّمُ
عضت لينة على شفتيها بخجل، ناهيك عن تلك السعادة التي أسرت قلبها، فلقد قال لها قصيدة عن جمالها، تذكرت أنه قال يريد فعل شيئان فتسائلت مستفسرة:
_ طيب والحاجة التانية؟
"نفسي أعمل كدا"
بتلقائية عابثة أردفها وهو يضمها داخل صدره، تشبث بظهرها بقوة كما لو أنها ستهرب منه، أه وألف آه على ذاك العناق، تسائل كيف استطاع العيش بدونه؟ كيف مر العمر ولم يحظى بذلك من قبل؟
بينما هي استكانت بين أضلعه، فلم يعد هناك المزيد من الأحلام التي تنتظر تحقيقها، لقد تحققت جميعها، الأن فقط تشعر بالطمأنينة الكلية، هدأت نبضات قلبها وتوقف عقلها عن التفكير، فقط راحة دون غيرها تسكن جوفها الأن.
انتبهت على صوته الهامس وهو مستند على كتفها:
_ أنا إزاي كنت عايش كدا من غير حـ.ـضـ.ـنك؟
تشبثت لينة في معطفه بقوة ورددت بخفوت:
_ خلاص مش عايزة حاجة تاني يا يوسف، أنا مطمنة أوي في حـ.ـضـ.ـنك، كنت فاكرة إني عارفة يعني إيه أمان، مكنتش أعرف إني لسه موصلتلوش!
أبعدها يوسف عنه قليلاً ثم أزاح خصلاتها المموجة عن وجهها، فلقد فاض الكيل يريد تجربة المزيد معها، حتماً هناك الكثير من المشاعر ليكتشفها بعد.
تحسس شفتيها بإبهامة ثم انحنى بقربهم ليحظى بالمزيد من الحب لكنه تفاجئ بها تتراجع قبل أن يصل إليها، قطب جبينه بغرابة وتمتم متسائلاً:
_ في حاجة يا لينة؟
أخفضت بصرها بحياء شـ.ـديد انعكس على وجنتيها فتلونت بالحُمرة، نظر إلى أصابعها التي تفركهم بـ.ـارتباك واضح فلم يطيل الأمر، ربما عليه الانتظار بعد، اقترب بخطاه منها وردد بعذوبة:
_ مش هعمل حاجة أنتِ مش جاهزة ليها، متخافيش
ابتلعت ريقها ولم تواجه، فأراد يوسف أن ينسيها الأمر فقال ممازحاً:
_ أنا نسيت أقولك حاجة مهمة جداً
رفعت بصرها عليه متسائلة بغرابة:
_ إيه؟
شكل إبتسامة جذابة وانحنى بقرب أذنها ثم همس:
_ بحبك
كان تصريحه الأول لها، فلم تمنع ابتسامتها التي تشكلت تلقائياً وهتفت بعذوبة وخجل:
_ وأنا كمان بحبك
أعاد يوسف وضع خصلة شاردة خلف أذنها قبل أن يردف:
_ تصبحي على خير يا حبيبي
"وأنت من أهله"
ردت بخفوت، فلم يخرج هو قبل أخذ قبلة حتى وإن كانت بريئة، وبخفة لم تلاحظها لينة قبل وجنتها ثم هرب من أمامها، وقبل أن يغلق بابها غمز إليها وأرسل إليها قبلة أخرى في الهواء ثم أوصد الباب.
فتقوس ثغرها الوردي ببسمة خجولة، تحسست وجنتها أثر قُبلته، اتسعت ابتسامتها لكنها سرعان ما أخفتها معاتبة قلة حيائها، توجهت نحو الفراش واستلقت أعلاه ثم ضمت ذراعيها أعلى صدرها وأوصدت عينيها شاعرة بعناقه لها مرة أخرى.
ثم تسائلت في عقلها، كيف ينام المرء ليلة تحقيق أحلامه؟
في الخارج،
"بتعمل إيه يا شقي؟"
صدح صوته من خلف يوسف الذي استدار إليه وبحرج قال:
_ عايز إيه يالا
غمز إليه زياد بمشاكسة وصاح:
_ مبروك يا سيدي
بجدية تسائل يوسف:
_ أنت كنت فين لغاية دلوقتي؟
اتسعت حدقتي زياد وهلل بتمرد:
_ لأ إحنا جوزناك عشان تحل عني
لوى يوسف أذن شقيقه وهدر بتوعد:
_ دا بعينك
استقام زياد في وقفته ثم قال:
_ سيبني اتصرمح شوية قبل ما ألبس في الجيش
تفاجئ يوسف بكلمـ.ـا.ته وردد بعدm تصديق:
_ جيش!
أومأ زياد مؤكداً وهدر:
_ آه ما نويت أقدm وكدا
دقت طبول السعادة قلب يوسف، لكز أخيه في صدره بخفة وأردف:
_ أخيراً عقلت
غمز إليه زياد وبمكر قال:
_ لا دا أنا قولت أفضي لك الجو عشان تاخد راحتك بدل شغل الحـ.ـر.امية دا
انفجر يوسف ضاحكاً ثم أحاط كتفيه بذراعه جاذباً إياه إليه في لحظة أخوية حميمية، دلف كليهما غرفتهما ولم يكفا عن المزاح حتى تغلب عليهما النوم
***
أغلق الباب بهدوء، وأسرع خطاه نحو تلك الهاربة، التقطها بين يديه فصرخت بذعر لكن سرعان ما وضعت يدها كاتمة صرختها، قابلها الآخر ببسمة ماكرة ثم توجه بها إلى غرفتهما.
يريد بدء حياة جديدة كزوج وزوجة، وضعها على الفراش ثم قبلها بنهم ورغبة شـ.ـديدان، كانت تبادله مشاعره تارة وتارة أخرى تشعر بالخجل فتتوقف، حتى تجردا كليهما من جميع ذكرياتهما المتـ.ـو.ترة والمشحونة وباتا روحاً واحدة.
صباحاً، تململت إيمان في الفراش بتعب وبكسل يطغوا عليها فتحت عينيها، فتفاجئت بسودتاه ينظران إليها، اجتاحها الخجل وسرعان ما أخفت وجهها بالغطاء، فهتف الآخر مستنكراً تصرفها:
_ بجد والله؟
انسدل أسفل الغطاء ليصل إليها، فحاولت الفرار منه لكنه أحكم قبضته على يديها فقيد حركتها، أسبل في عينيها وقال:
_ ما خلاص معتش ينفع هروب
عضت على شفتيها بحياء وهتفت بنبرة سريعة:
_ بس بقى يا بلال
كان يزداد ضحكه كلما رأى خجلها ولا يتوقف عن فعل سخافات تزيد من خجلها، ظلا يتسامران تارة وتارة أخرى يصدر بلال بعض الحماقات فتهتف إيمان معاتبة.
***
'ما توقفي بقى أنا دوخت"
هتف بهم السيد سمير مستاءً من سيرها يميناً ويساراً دون توقف، بينما صاحت الأخرى بعصبية وخوف:
_ بقولك بلال مرجعش من امبـ.ـارح وموبايله مقفول!
حرك رأسه مستنكراً توجسها المبالغ وأردف بسخرية:
_ هو ابنك لسه صغير عشان تقلقي عليه، وبعدين ما تلاقيه نايم فوق في بيته
تأففت بضجر بائن وصاحت من بين أسنانها بعصبية وحنق:
_ دي من ساعة ما مشت وهو نايم هنا، الله يعكنن عليها زي ما هي معكننة على الولا
تفاجئ السيد سمير بدعائها وعارضها بهجوم:
_ في إيه يا شهيرة وهي تعمل إيه يعني، مش قالك أمها تعبانة وهي البنت الوحيدة، يعني طبيعي تقف جنب والدتها لغاية ما تبقى كويسة
لم تصمت وهاجمته بعصبية:
_ ما أنا شوفت أمها امبـ.ـارح كويسة ومش تعبانة، ولنفترض أنها بقت كويسة مرجعتش معاه بليل ليه، دا أنا شيفاه وهو بيوصلهم كلهم، دي بس تلاكيك عشان تسيب بيتها وتعكنن لي على الولا
قلب سمير عينيه بتهكم وصاح عالياً:
_ تلاكيك ولا مش تلاكيك، ملناش دعوة مش ابنك موافق؟
جلست شهيرة على اقرب أريكة قابلتها وهدرت بحـ.ـز.ن على ولدها:
_ موافق إيه بس أنت مش شايف شكله الأسبوع اللي قضاه هنا؟ والله البت دي عاملة فيه حاجة، وأنا مش هسكت على اللي بيحصل دا
تدخل سمير بنبرة ذكورية حادة ناهياً الأمر بقوله:
_ أوعى تدخلي يا شهيرة، طول ما ابنك مشاركش حد في أموره يبقى ملناش دعوة، فاهمة ولا مش فاهمة؟
نفخت بصوت مسموع قبل أن تهدر معنفة:
_ يختاي منك، قاعد وعلى قلبك مراوح، معرفش عاملها إزاي دي
نهضت عن أريكتها ورددت بحسم:
_ بس أنا برده قلقانة، هطلع أشوفه فوق ولا لأ
باستنكار شـ.ـديد هتف سمير:
_ اطلعي اطلعي ولو كان فوق تقلقيه عشان شوية كلام فارغ
حدجته شهيرة بغيظ عارم ثم أتت بفكرة ما ورددتها بنفاذ صبر:
_ هاخد معايا المفتاح وأدخل براحة، أطمن بس هو موجود ولا لأ وأنزل على طول
لم يعقب السيد سمير فمهما قال لن يجدي نفعًا، في النهاية هي أم ولن تتراجع قبل أن تطمئن قلبها برؤيته، في الجهة المقابلة أخذت شهيرة المفتاح الخاص بشقة بلال وصعدت سريعاً.
***
وقف أمام الفراش ثم قام بسحب قدmيها ناحيته حتى بات هو واقفاً بين قدmيها وأرغمها على الجلوس فصاحت إيمان متسائلة:
_ أنت بتعمل فيا كده ليه بجد؟
أمسك بذراعيها ليساعدها على النهوض ثم أجاب:
_ هو أنا لسه عملت حاجة، وبعدين أنا جعان، يلا عشان نفطر
تلاعبت في خصلاتها حتى وضعت كم كبير منهم على جانبها الأيمن فبات شكلها جذاب، بحثت بأعينها على شيئ ما في الغرفة وقالت:
_ الروب بتاعي فين؟
تدخل بقولة:
_ مفيش روب ولا غيره يلا قدامي
رفضت أن تخرج فقط بذاك القميص الرقيق هاتفة بإصرار:
_ لا ثواني، هدور عليه الأول
قطع بلال عليها سُبل البحث عنه بحملها بين يديه:
لما أقول يلا يبقى يلا
عضت على شفتيها السفلى وأردفت بنبرة ناعمة:
_ وأنا كل ما هعارضك في حاجة هتشيلني كدا؟
أماء بالإيجاب فاستكانت هي بين يديه براحة ثم قالت:
_ تمام وأنا مرتاحة كدا
ظهرت عليها إبتسامة عريضة قبل أن يسير بلال متوجهاً للخارج، وبينما كان يمادحها ويطـ.ـلقان ضحكاتهما تفاجئ بلال بوجود والدته في المرر نفسه الذي يقف به.
نظرت إيمان حيث نقطة سقوط نظري بلال وخفق قلبها خجلاً فور رؤيتها للسيدة شهيرة، تململت سريعاً حتى أنزلها بلال بهدوء، وظلا ثلاثتهم يتطلعون في بعضهما البعض بذهول شـ.ـديد دون تعقيب.
إلى أن تحدثت شهيرة بتلعثم وحرج شـ.ـديد:
_ أنا كنت، قلقت عليك لما مجتش نمت و..
أخفضت بصرها في حياء لاعنة تسرعها في الصعود وعدm سماعها لزوجها ثم واصلت:
_ معرفش إن إيمان جت.. عن إذنكم
أولاتهما ظهرها سريعاً وتوجهت للخارج، لكنها توقفت عند طاولة السفرة وتعمدت ترك المفتاح الخاص بشقتهم عليه، ومن ثم اختفت خلف باب الشقة، ولازال الآخرين يقفان ينظرون أمامهما بذهول.
حتى تحركت إيمان وعادت إلى غرفتها، جلست على طرف الفراش ووضعت كلتى يديها أمام وجهها، فلقد تملك منها الخجل، ولج بلال خلفها وجلس بجوارها أولاً وقال:
_ مالك؟
رمقته بطرف عينيها وهتفت مستاءة من سؤاله الساذج:
_ مالي؟ الموقف وحش جداً، أنا مش عارفة إزاي كنت واقفة قدامها كدا؟!
ظلت تحرك رأسها باستنكار شـ.ـديد، بينما هتف بلال مزاحاً:
_ اعتبريها كانت بتبـ.ـارك لنا..
أعادت إيمان نظراتها عليه بغيظ لعدm مبالاته فهتف وهو يحيط ظهرها بذراعه:
_ هو موقف بايخ، بس هنعمل إيه يعني، فكك وانسي بقى
قرع رنين الجرس فور انتهائه من الحديث، فنهض هو وقال:
_ خليكي هنا هفتح أنا
توجه نحو خزانته والتقط تيشيرت، قام بـ.ـارتدائه سريعاً وخرج من الغرفة لكي يفتح الباب، المفاجأة أنها كانت السيدة هادية من تقف أمامه.
ابتلع بلال ريقه ثم رسم بسمة على شفتيه ورحب بها:
_ أهلا بحضرتك اتفضلي
بادلته الإبتسام وقالت وهي تولج بخطاها:
_ أنا قلقت لما صحيت ملقتش إيمان في أوضتها وكمان موبايلها مقفول، قولت أجي أطمن بنفسي مقدرتش استنى
أراد بلال محي الحرج عنها وأردف بلطف:
_ ولايهمك، معلش بقى أنا جيت خدتها بليل، كفاية غياب عن البيت لغاية كدا
"ربنا يصلح حالكم يابني"
_ دعت لهما بحب خالص، ثم تسائلت وعينيها تجوب المكان من حولها:
_ أومال هي فين؟
بتلقائية أجاب:
_ في الأوضة..
كاد أن يخبرها أنه سوف يعطيها خبراً بوجودها لكنه تفاجئ بحديثها:
_ طيب انا هدخل لها
ألقت جملتها ثم توجهت مباشرة ناحية الغرفة، اتسعت عيناي بلال بصدmة، ولم يستطيع فعل أي شيئ، على ما يبدو أن القدر له رأي آخر في فضحهما اليوم.
لم يكن هناك مجالاً للإستئذان، فكان باب الغرفة مفتوحاً، همت هادية بالدخول فتسائلت إيمان ظناً أنه بلال:
_ مين جه..
صمتت حينما رفعت بصرها ورأت والدتها من تقف أمامها وليس بلال كما ظنت، شعرت بالرعـ.ـب لوهلة فلم تتوقع رؤيتها هي، نهضت عن الفراش ورددت بـ.ـارتباك حرج:
_ ماما..
حدجتها هادية بحرج شـ.ـديد، فالوضع كان يبدو غير عادياً، وشعرت بالنـ.ـد.م لحضورها، بينما ظلت الأخرى تفرك قدmيها في بعضها من فرط خجلها لوقوفها أمام والدتها بتلك الثياب الرقيقة.
ابتلعت هادية ريقها وحاولت عدm النظر لأي جانب غير وجه ابنتها وهتفت بأنفاس عالية:
_ أنا قلقت لما ملقتكيش ورنيت عليكي موبايلك كان مقفول، فكرت حصل حاجة وجت أطمن..
صمتت فلم تعقب إيمان، لم يكن لديها من الكلمـ.ـا.ت لتردفها، بينما تابعت والدتها:
_ أنتِ كويسة صح؟
أومأت إيمان عدة إيماءات ورددت بخفوت:
_ كويسة
"طيب أنا همشي"
قالتها ثم انصرفت سريعاً وهي تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها، لم تكن إيمان في موقف أفضل منها، بل كانت في حالة لا يرثى لها، لقد فُضحت أمام الجميع، اليوم لم يكن في صالحها قط بل أنهاها.
عاد بلال إلى الغرفة بعدmا ذهبت السيدة هادية، وما أن رأته إيمان حتى جهشت باكية لشـ.ـدة خجلها، اقترب منها بلال وضمها لصدره ثم هتف لينفي عنه أي إتهام:
_ والله أنا لسه بقولها إيمان في الأوضة، وهقولها إنك هنا لقيتها دخلت طبعاً معرفتش أوقفها..
ازداد نحيبها وتمتمت بنبرة غير مفهومة:
_ أنا بجد مخـ.ـنـ.ـوقة أوي، إزاي يشوفوني وأنا كدا، انا مش هقدر أبص في وش حد فيهم تاني
ربت بلال على ظهرها بحنو وحاول تهوين الأمر:
_ هي مواقف رخمة بس في الآخر يعني هما شافوكي مع مين ما أنتِ كنتي مع جوزك
رفعت بصرها لتطالع عينيه وهمست بحياء ونـ.ـد.م:
_ دول شافوني بقميص نوم يا بلال!
مازحها هو بقوله:
_ يعني أنا اللي كنت واقف بعباية، ما أنا كنت واقف بشورت!
انفجرت إيمان ضاحكة فشاركها بلال الضحك، مسحت عبراتها بأناملها ورددت بعدm تصديق:
_ إحنا اتفضحنا يا بلال
واصل مزاحه بنبرة مرحة:
_ ياستي فـ.ـضـ.ـيحة من العيلة أحسن من فـ.ـضـ.ـيحة برا
رمقته بنظرات متعجبة من عدm لامبالاته وهتفت معاتبة:
_ أنت إزاي قادر تضحك وتهزر؟
بتلقائية هدر بلال:
_ مش أحسن ما أقعد أعيط
أخرج تنهيدة ثم قال وهو يتحسس بطنه:
_ أنا واقع من الجوع، يلا تعالى
كادا أن يسيران للخارج إلا أنه توقف وقال:
_ البسي الروب يا إيمان بدل ما نخرج نلاقي أبويا برا
لم تستطيع منع قهقهتها التي دوت في الغرفة، بينما خرج هو ليعيد تشغيل هاتفه الذي تسبب غلقه في حدوث العديد من الحماقة اليوم.
***
خرج من غرفته فوقعت دندنتها على مسامعه، توجه حيث يأتي الصوت، فوجد نفسه في المطبخ، تقفن كلتاهن تحضرن الفطور، حمحم ليجذب انتباههن وهتف:
_ صباح الخير
رددن عليه في آن واحد:
صباح الخير يا حبيبي
تبادلن النظرات فكلتاهن نطقت نفس الكلمة، _ انفجرا ثلاثتهم ضاحكين بينما اعتذرت لينة بحرج:
_ سوري..
تولت السيدة ميمي الرد مازحة:
_ ولا يهمك خدوا راحتكم
أرسلت إليها لينة قُبلة في الهواء فاستقبلتها ميمي برحب، بينما اقترب يوسف من والدته أولاً وطبع قُبلة على جبينها ثم توجه إلى تلك الواقفة وقبلها من وجنتها، اتسعت حدقتي لينة بصدmة فكان تصرفه مفاجئ ولم تتوقع منه ذلك.
رمقته بنظرات مشتعلة بينما أظهر هو أسنانه حينما ابتسم، فتدخلت والدته معاتبة:
_ متاخدش راحتك أوي كدا واعمل اعتبـ.ـار إن أمك واقفة
تعمد يوسف وضع يده على خصر لينة ورد على والدته بتعالي:
_ الله مش بقت مراتي، أعمل اللي أنا عايزه وقدام أي حد
لكزته لينة في يده فسحبها عنها سريعاً بينما طالعته ميمي بعدm تصديق، فلم يكن يوماً جريئاً هكذا، تنهدت وصاحت بكلمـ.ـا.تها:
_ أنت من امتى وأنت قليل الأدب كدا؟ وأنا اللي بقول مخلفتش حد في أدب يوسف
"عشان ت عـ.ـر.في بس إن مفيش حد مؤدب"
هتف بهم زياد وهو يدلف بخطاه المطبخ، وجه أنظاره على أخيه واسترسل مواصلا:
_ بس فيه واحد بيعرف يداري وواحد مبيعرفش
عاد بنظريه إلى والدته وتابع:
_ واللي بيداري دا هو اللي تخافي منه
غمز إليها فصاحت هي:
_ والله شكلي أنا اللي طلعت مؤدبة وسطكم
قهقه الجميع ثم أخذ يوسف وزياد يخرجون الفطور حتى انتهوا من وضع جميعهم على المائدة، جلسوا ليتناولون الطعام في أجواء فكاهية بينهما.
كان يوسف يحاول من آن لآخر الإتصال بصديقه لكنه يجد الهاتف مغلق، فنفخ بضيق وصاح:
_ دا قافل الموبايل ليه دا؟
تسائلت لينة بفضول أنثوي:
_ مين دا؟
أجابها مختصراً:
_ بلال..
قرع جرس الباب فهمت السيدة ميمي لفتحه، وإذا بالسيدة هادية من جائت، استقبلتها ميمي بترحيب حافل:
_ إيه الزيارات الحلوة دي يولاد
تبادلا العناق والقُبل ثم دعتها ميمي للداخل، رحبا الآخرين قبل أن توضح هادية سبب مجيئها:
_ أنا كنت هنا عند إيمان وقولت أجي أسلم عليكم
"فيكي الخير يا هادية، تنوري في أي وقت"
هتفت ميمي ثم تسائلت بقلق:
_ بس إيمان مالها؟
أوضحت هادية حقيقة الأمر:
_ لا كويسة الحمد لله، بس هي كانت عندي، وصحيت من النوم ملقيتهاش وموبايلها مقفول فقلقت، مقدرتش أقعد قبل ما أطمن عليها فجيت هنا أشوفها..
أومأت ميمي بتفهم بينما صاح يوسف بابتسامة ماكرة:
_ دلوقتي عرفت هو قافل الموبايل ليه
وقعت همساته على آذان لينة وبالطبع لن تمرق الأمر دون السؤال حول معرفته بغلق بلال لهاتفه:
_ عرفت إيه؟
ببرودٍ قال:
_ لما تكبري هقولك
رمقته لينة بنظرات مشتعلة وكادت أن تصر على معرفة الأمور إلا أن رنين هاتفه قد منعها، نهض يوسف مستأذناً منهم وولج شرفة المنزل، لمح طيف لينة تأتي خلفه فأسرع في غلق الباب، صعقت هي من فعلته وحاولت مراراً دفعه لكي يُفتح لكنه قاوم جاهداً حتى لا تنجح في الدخول، أجاب صديقه وهلل عالياً وهو لازال يقف خلف الباب:
_ صباحية مبـ.ـاركة يا عريس
جاءه هتاف بلال متسائلاً:
_ هو أنا كنت طالع لايف ولا إيه؟
انفجر يوسف ضاحكاً وأجابه:
_ عرفت من حمـ.ـا.تك
فغر بلال فاهه وهتف بذهول:
_ قالت إيه؟
"دي قالت كل حاجة"
أردفهم يوسف ممازحاً إياه، فما كان من بلال إلا أنه يصيح مثل النساء:
_ يا فضيحتك يا بلال، دي مبقتش صباحية دي فـ.ـضـ.ـيحة بجلاجل
انفجر كليهما ضاحكين ثم تراجع يوسف عن كذبه:
_ لا لا بهزر، مقالتش حاجة، هي قالت إنها ملقتش إيمان في البيت وموبايلها مقفول فجت تطمن عليها، وبما إن موبايلك أنت كمان مقفول فخمنت يعني
أخفض بلال من نبرته حتى لا تقع على مسامع إيمان وقال:
_ ربنا يعدي اليوم دا على خير
"ممم يعني أنت مش نازل الشغل النهاردة؟"
هتف يوسف متسائلاً، فرد بلال بصوت متحشرج:
لأ، دا أنا لو عرفت أخد الأسبوع كله مش هتأخر
لم يعد يستطيع يوسف مقاومة دفعها الذي يزداد فأنهى المكالمة بقوله:
_ طيب بقولك إيه، هكلمك تاني
تراجع للخلف فاقتحمت لينة الشرفة وكادت أن تقع إلا أنه لحق بها وصاح بغيظ:
_ في إيه؟
هاجمته بحنق:
_ أنت مش راضي تدخلني ليه؟
رسم يوسف على تقاسيمه البرود قبل أن يردف:
_ بنقول كلام كبـ.ـار ملكيش فيه
وضعت لينة يديها في منتصف خصرها، فلم يعجبها رده وهللت بتجهم:
_ إيه كلام كبـ.ـار اللي أنت ماسكهالي دي؟ شايفني عيلة قدامك!
اقترب منها يوسف وأحاط خصرها بيُمناه ثم وضع يده الأخرى في جيبه، ومال على أذنها هامساً:
_ آه عيلة، لما بقرب منها بتخاف وتكش
قابلته بأعين جاحظة غير مصدقة ما سمعته، وعارضته بهجوم:
_ أنا مش بخاف ولا بكش
"تيجي نجرب، ونشوف هتقلبي قطة ولا لأ؟"
صاح يوسف فلم تفهم ما يعنيه، تفاجئت به يقترب منها للغاية فدفعته بعيداً عنها مرددة:
_ إيه اللي بتعمله دا؟
رفع حاجبه الأيسر وهتف ساخراً:
_ مش بقولك بتقلبي قطة
سار بجوارها وهو يردد باستهزاء:
_ مياو مياو
لكزته في ذراعه بقوة فآنه هو بألم ثم تصنع أنه سيعيد لها ضـ.ـر.بتها فخشيت منه وصرخت عالياً، تفاجئ يوسف من صراخها وأسرع في وضع يده على فمها مجبرها على الصمت معللاً:
_ اسكتي يابت
أطلق يوسف آنات موجوعة حينما عضت يده بأسنانها، هرولت مسرعة إلى الخارج تحت نظراته عليها، فلم يتبعها بسبب ذاك الألم التي تسببت به، ظل يلوح بيده لعله يخفف من ألامها ثم خرج من الشرفة متوعداً لتلك المشاغبة.
***
_ أنتِ مش ناوية تتكلمي، طب لقتيه فوق ولا لأ؟"
تسائل السيد سمير حول حالتها التي باتت عليها منذ ترجلها من الأعلى، فهتفت هي وهي تبتعد عنه:
_ سيبني في حالي يا سمير دلوقتي..
دلفت غرفتها وتركته جالساً بمفرده، بينما جذب هاتفه وقام بالاتصال على بلال الذي أجاب على الفور وألقى عليه التحية:
_ صباح الخير يا بابا
"صباح النور، مش ناوي تنزل الشغل ولا إيه، الوقت أتأخر؟"
هتف بجدية فحمحم بلال ورد بنبرة متعبة:
_ آه شكلي فعلاً مش هنزل، حاسس بتعب ومش قادر..
كتمت إيمان ضحكها حتى لا يكشف أمره بينما تفهم سمير الأمر وتسائل باهتمام:
_ تعالى لما نروح لدكتور بدل ما تتعب أكتر
أسرع بلال في رفض اقتراح أبيه:
_ لا لا مش مستاهلة أنا هاخد العلاج وهبقى كويس
بودٍ قال:
_ مش عايز حاجة أجبهالك؟
شكره بلال ممتناً:
_ لا شكراً
كاد أن ينهي الإتصال إلا أن سمير صاح بسؤاله:
_ صحيح هي أمك مالها؟ من وقت ما نزلت من عندك وهي مبتتكلمش ليه
تصنع بلال عدm معرفته بالأمر وقال:
_ مش عارف..
لم يماطل السيد سمير ونهى المكالمة بينما تسائلت إيمان مستفسرة:
_ أنت قولت ليه إنك تعبان؟
اعتدل بلال في جلسته حيث يكون مقابلها وأجابها بسلاسة:
_ عشان أبويا معندوش اجازات غير يوم الجمعة وبس، بيعمل استثنى للي بيتعب غير كدا لو اتشقلبت مش هيوافق
تصعنت إيمان الحـ.ـز.ن وبدلال همست:
_ إيه دا يعني أنت مش هتقعد معايا غير النهاردة
زمت شفتيها بحـ.ـز.ن وتركته ونهضت مبتعدة عنه، فظهرت على شفتيها ابتسامة ماكرة في انتظار ما سيفعله، وكما ظنت تماماً، في ثوانٍ قد حلقت قدmيها في الهواء فتشبثت في عنقه سريعاً لكي توازن جسدها بين يديه.
أسبل هو في عينيها وأردف متصعناً التعب:
_ أنا تعبان الأسبوع كله
أطلقت إيمان ضحكة مائعة، وكانت مرته الأولى لسماع ضحكتها تلك، فعاد متابعاً لاسترساله:
_ ربما يكون أسبوعين لربما تلاتة أو ربما أربعة
ازدادت قهقتها فتوجه به مباشرة إلى غرفتهما فتسائلت إيمان بعفوية:
_ أنت رايح على فين؟
أجابها وهو يضعها على الشاذلونج:
_ هو تعبي دا ملوش تمن؟
حركت رأسها بعدm استعياب لكنها سرعان ما استشفت ما يرمي إليه، وإلى هنا هنا أعزائي القُراء تنتهي فقرتنا نسيب الناس في حالها.
***
بعد مدة، كان يجلس مستنداً على جدار الفراش يداعب خصلاتها ثم اقترح شيئاً:
_ إيه رأيك نعزم يوسف ولينة على العشا النهاردة؟
رفعت نظريها عليه وقالت بخفوت:
_ بس أنا مش هحلق أجهز أكل ولا حلو معتش وقت
حادثها بنبرته الرخيمة:
_ مش هخليكي تعملي حاجة، هنطلب كله جاهز
اتسعت شفتيها مشكلة إبتسامة وهتفت بقبول:
_ إذا كان كدا ماشي
داعب بلال أنفها وهو يردد:
_ دا أنتِ في الأنتخة ملكيش حل، بدل ما تقولي وفر فلوسك يا جوزي، تقولي إذا كان كدا ماشي!
رمقها بلال شزرا ثم قال:
_ ناوليني موبايلي اللي جنبك
سحبته من فوق الكومود وأعطته له، فقام هو ببعض الإتصالات التي قام فيهم بطلب الأكلات الشهية وأيضاً الحلوى اللذيذة ثم هاتف يوسف ودعاه للعشاء فلم يمانع الآخر.
مساءاً، ارتدت لينة فستاناً رقيق ذو لون أسود عليه بعض النقاشات الإسلامية، واقتنت حجاب سماوي يتماشي مع لون النقوش، بينما ارتدي يوسف تيشيرت باللون الأحمر وبنطال أبيض.
سارا متشابكين الأيدي، كانت لينة تنظر إلى أيديهم من آن لآخر ثم هتفت بسعادة:
_ دي أول مرة نمشي في الشارع وإحنا ماسكين إيد بعض
التفت يوسف برأسه ناظراً إليها وصاح مستاءً:
_ أنا شايفك بتهتمي بحاجات كدا عادية والحاجات المهمة مش بتهتمي بيها
قطبت جبينها وتسائلت بغرابة من حديثه المبهم:
_ حاجات إيه اللي مش مهتمة بيها؟
غمز إليها وأجاب بخبث:
_ حاجات..
توقفت عن السير وبفضول شـ.ـديد قالت:
_ حاجات إيه مش فاهمة حاجة؟
تابع يوسف سيره فأرغمها على السير وهو يجيبها:
_ لما نروح هقولك..
صعدا كليهما درجات السُلم حتى وصلا إلى الطابق الكائن به شقة بلال، وضع يوسف إصبعه على الجرس ولم يتوقف عن الرنين فصاحت لينة معاتبة:
_ بس يا يوسف فيه حد يعمل كدا
لم يكترث لها وتابع ما يفعله، فتح له بلال فلم يتوقف يوسف عن الرنين أيضاً، دفعه بلال بقوة وصاح بحنق مصطنع:
_ يا أخي بس بقى، أبو رخامتك دي
حدجه يوسف بنظرات احتقارية وتمتم بتهكم:
_ هو دا إكرام الضيف؟
رد عليه بلال مستهزءًا:
_ مش لما يبقى محترم نبقى نكرمه؟
"أنت جايبنا تهزقنا هنا؟"
هدر يوسف مستاءً فتابع بلال مزاحه الثقيل:
_ المهزأ بس اللي بيجيب لنفسه التهزيق، اتفضلوا
ولج يوسف برفقة لينة ثم ناول صديقه حقيبة قماشية وقال:
_ حطها في التلاجة أصل تسيح
تسائل بلال بفضول وهو يجوب بعينه العلبة داخل الحقيبة:
_ فيها إيه العلبة دي؟
بتلقائية أجاب:
_ أيس كريم
"بسكوت؟"
تسائل بلال ساخراً فهتف يوسف بتهكم:
_ لا دي تورتة يا خفيف
نظر بلال إلى لينة الواقفة خلفه لا تعي شيئ مما يتبادلانه وأوضح لها:
_ أصل أنتِ مت عـ.ـر.فيش يوسف بيدوب في الآيس كريم البسكوت إزاي!
عقدت حاجبيها ورددت:
_ إيه دا بجد أول مرة أعرف
انفجر بلال ضاحكاً، بينما لكزه يوسف في ذارعه بقوة وهدر به:
_ يابني اخلص هتسيح
دعاهم للجلوس في الصالون ثم ولج المطبخ ليضع كعكة الآيس في الثلاجة ويعطي خبراً لايمان بمجيئهما، بينما التفتت لينة إلى يوسف وقالت بفضول:
_ إحنا مبقيناش في الشارع، ممكن تقولي بقى إيه الحاجات اللي أنا مش مهتمة بيها؟
"مُصرة يعني؟"
تسائل يوسف بمكر فهتفت هي بإصرار وحماس:
_ أكيد
تفاجئت به يقترب منها فتراجعت هي مرددة بحنق:
_ أنت بتعمل إيه؟
لم يتوقف يوسف عن اقترابه منها وكذلك هي لم تكف على الرجوع للخلف حتى تمددت على الأريكة، كانت مذهولة مما تره وأرادت إيفاقه بتشتى الطرق لكنه لم يكترث حتى أعتلاها وقال بمشاكسة:
_ مش بحبك تطلبي حاجة ومنفذهاش أبداً يا لي لي...
ثم دوى على آذان كليهما صوت خافت قريب منهما معلناً وصوله فتبادلا كليهما النظرات و...
↚
اعتدل في جلسته، كذلك فعلت لينة سريعاً قبل وصول صاحب الصوت إليهما، كانت إيمان وتلاها بلال، رحبت بهم بحفاوة واستقبال حار فكانت لينة متعجبة من أسلوبها الودود، فلم تكن يوماً هكذا.
"نورتو بيتنا"
قالتها إيمان بود فصاحت لينة بلطف:
_ منور بيكم
تدخل يوسف بمزاحه:
_ منور بيهم إيه دا إحنا اللي جينا نورناه..
ألقى بلال تلك الوسادة الصغيرة التي كانت بيده على يوسف الذي لَقِفها قبل أن تصل إلى وجهه، وردد ببرود مصطنع:
_ قلة ذوق متناهية
نظر حيث تجلس إيمان وتابع:
_ مش عارف مستحملاه إزاي دا
مدت إيمان يدها واحتضنت يد بلال بقوة وقالت:
_ دا أحلى حاجة حصلتلي
تفاجئ بلال من ردها وطالعها لبرهة ثم أنتبه على تعقيب يوسف الساخر:
_ والله ولقيت لك حد يحبك يا بيلو
ردت إيمان متعمدة ردها:
_ وهو مين يعرفه وميحبوش يا سي يوسف؟
قهقه بلال عالياً ثم نظر لصديقه بانتصار كأنه هزم جيش من الأعداء وعلق بعجرفة:
_ شكلك بقى وحش أوي
"لا دا أنت محتاج تعمل نضارة يا بلال"
هتفت لينة فحازت على نقطة أمامهما، التقط يوسف يد لينة وقام بتقيبل كفها الصغير ثم وجه نظره على صديقه وأخرج لسانه مع رسمه لبسمة منتصرة.
انتبهوا إلى تعليق إيمان المستاء:
_ بجد أطفال
أيدت لينة رأيها:
_ أوي بجد أومال سيبتو لنا إيه
حركت إيمان رأسها مستنكرة تصرفاتهما الحمقاء ثم قالت بلطف:
_ تعالى يا لينة معايا نحضر العشا
وافقتها لينة وكادت أن تنهض إلا أن يوسف لحق بها وأمسك يدها ثم همس بمكر:
_ ما تخليكي، أكمل لك الحاجات اللي أنتِ مش مهتمة بيها
جمعت لينة قوتها وسحبت يدها ثم رمقته باحتقار واقتربت من إيمان التي كانت تنتظر قدومها، بينما نهض بلال واصطحب يوسف إلى الشرفة لحين انتهاء السيدات من وضع الطعام.
بعد وقت، جلس أربعتهم حول المائدة يتناولون الأطعمة الشهية، أخذ يوسف يتناول بشراهة وهلل عالياً:
_ تسلم إيد الكبابجي والله
انفجر بلال ضاحكاً ونظر إلى إيمان التي رددت متسائلة:
_ هو عرف منين إننا جايبين من عنده
أوضح لها بلال بصوته الأجش:
_ يا بنتي دا صاحب المطعم أول ما يعرف إننا رايحين ناكل بيفضي المكان
قطبت إيمان جبينها بغرابة وتسائلت بفضول:
_ ليه؟
تولى يوسف مهمة الرد:
_ لأننا بنخلص على كل الأكل اللي موجود
كانت إيمان مذهولة وتبادلت النظرات المتعجبة مع لينة وسألتها بعفوية:
_ أنتِ مصدقة الكلام ده؟
نفت بحركة من رأسها مرددة:
_ تؤ
تبادلا الشباب النظرات ثم انفجرا في الضحك، فأثارا فضول الأخريات وتسائلن عما حول ضحكاتهما، لكنهما رفضا البتة إخبـ.ـارهن، واكتفى بلال بقول:
_ كنا بتاخد راحتنا شوية
لم تكن إجابة كافية فعادت إيمان متسائلة:
_ بتاخدوا راحتكم إزاي يعني؟
ربت بلال على ذراعها قبل أن يردف:
$ كلي يا حبيبتي كلي وسيبك من الكلام دا
لم تعقب مرة أخرى على ما يبدو أنه أمر خاص بينهما ففضلت الصمت، انتهوا من تناول الطعام، ثم ساعدتها لينة على توضيب الطاولة وأحضرو الحلوى ليتناولوها سوياً.
اقترحت لينة لُعبة يلعبونها جميعاً حيث بدأت في شرحها:
_ واحد هيبدأ يقول أغنية ويقف عند كلمة وآخر حرف من الكلمة دي التاني يبدأ بأغنية بيها
وافقوها الرأي فصاحت قبل البدء:
_ يوسف يبدأ لأنه بيجي عند دوره ويخلع
رمقته بتحدٍ، فلقد أغلقت أمامه جميع سُبل الهرب، اضطر إلى فعل ذلك من أجلها وبدأ يدندن:
_ غلبني الشوق، وغلبني، غلبني وليه البعد، دوبني، دوبني ومهما البعد، حيرني..
نظر إلى لينة بتحدٍ وأردف مقللاً من قدراتها:
_ ورينا شطارتك
قلبت لينة عينيها مستاءة وبإقتضاب هدرت:
_ أنت فاكر إنك كدا بتعجزني يعني، هه
ابتسمت بتعالي ثم فكرت سريعاً وبدأت تدندن حينما وصلت إلى أغنية:
_ يا أجمل عيون وأحلى عيون صحيتي ليل العاشقين صحيتي الشوق من غير معاد..
نظرت حيث تجلس إيمان وقالت:
_ حرف الدال، ابدأي
نظرت إلى الأعلى تفكر جيداً في مقطع يبدأ بحرف الدال، ثم أسرعت في قول ما أتت به:
_ دا حبيبي عارفين يعني إيه حبيبي يعني الدنيا في عنيا وأغلى الناس عليا..
وجهت نظريها إلى بلال الذي صاح:
_ يعني إيه ااا دي لا منها ألف ولا منها حرف عدل، تدخل يوسف مقترحاً:
_اعتبره ألف ومتلفش وتدور علينا..
أماء بلال مردداً:
_ ألف ممم..
صمت قليلاً ثم أتى بأحد الأغاني فقال:
_ أنا مش عارفني أنا تهت مني أنا مش أنا
انفجر جميعهم ضاحكين وتابعوا لعبتهم، كما لعبوا المزيد من الألعاب المسلية، كان وقتاً ممتعاً للغاية للجميع، استأذن يوسف من صديقه للمغادرة، فلقد تأخر الوقت وعليهما الذهاب، عادا إلى المنزل، أسبقت لينة خطاها إلى غرفتها، لكنه تبعها وكاد أن يدلف معها إلا أنه تفاجئ بوضعها ليديها على صدره مانعة إياه من الدخول قبل أن تردف:
_ تصبح على خير يا يوسف
أخفض يوسف نظريه على يديها الموضوعة على صدره، شعر بإهانة لم يشعر بها من قبل، وكأنه يفرض ذاته عليها، عاد بأنظاره إليها وقد تجهمت تعابيره التي استشفتها لينة وشعرت أنها اقترفت خطأ فادحاً.
أنزل يوسف يديها من عليه ورمقها بنظرات جـ.ـا.مدة ومن ثم أولاها ظهره وتوجه ناحية غرفته دون تعقيب، فنادته هي بصوت نادm:
_ يوسف..
لم يجيبها فأسرعت خلفه مرددة بنـ.ـد.م شـ.ـديد:
_ يوسف بجد مش قصدي حاجة، أنا آسفة
وقف يوسف على باب غرفته من الداخل ومنعها من الدخول مردداً بنبرة حادة:
_ وأنتِ من أهله
أغلق الباب في وجهها تحت نظراتها المذهولة، لم تمنع عبراتها من السقوط، انسدلت بغزارة فلم تقصد أن تحـ.ـز.نه قط، عادت إلى غرفتها بعد وقتٍ تأكدت فيه من عدm خروجه لها.
أوصدت بابها وهرولت نحو الفراش ثم ألقت بجسدها أعلاه وجشهت باكية بحـ.ـز.ن شـ.ـديد، هي لم تقصد إحزان قلبه، لم يزورها النوم تلك الليلة، بل ظلت تبكي تارة وأخرى تركض نحو الباب لربما تلتقي به لكن دون جدوى، وعنـ.ـد.ما شرعت صلاة الفجر لم تراه على ما يبدو أنه أقامها في غرفته.
صباحاً، بالكاد أخذت قيلولة ساعتين، استيقظت وهرولت للخارج، وقعت عينيها على غرفته فكانت فارغة لا يوجد بها أحد، توجهت إلى الصالون باحثة عنه، المكان كان خالي من الجميع.
توجهت نحو غرفة السيدة ميمي وطرقت بابها بخفة فأتاها ردها من الداخل:
_ تعالي يا لينة
ولجت الغرفة ولم تنتظر ثانية حتى أردفت سؤالها:
_ هو يوسف مش هنا؟
أماءت ميمي برأسها وأخبرتها عن وجهته:
_ نزل من بدري، الحج سمير طلبه وقاله يجي يخلصوا اللي لسه فاضل عشان الإفتتاح بكرة
بعفوية قالت:
_ بس هو لسه تعبان..
تنهدت ميمي بنفاذ صبر وهتفت مستاءة:
_ والله قولتله بلاش نزول، الدكتور قال بلاش جهد وحركة زيادة بس أنتِ عارفة دmاغه ناشفة إزاي
اكتفت لينة بإيماءة من رأسها بينما سألتها ميمي باهتمام:
_ أحضر الفطار عشان ناكل، أنا استنيت لمـ.ـا.تصحي ناكل سوا
وافقتها لينة وخرجت من الغرفة، أتت بهاتفها وقامت بالإتصال على يوسف لكنه لم يجيب، أعاد تكرار الإتصال مراراً والنتيجة ذاتها، تأففت بضجر ثم أرسلت إليه رسالة على الواتساب:
_ أنت فين مش بترد ليه؟
انتبهت على قرع الجرس فنهضت لتفتح الباب، تفاجئت بوجود صديقتها التي صاحت مهللة:
_ إوعوا تكونوا فطرتوا، جايبة طعمية سخنة
"لا لسه، ماما ميمي بتحضر الفطار"
أجابتها لينة بينما تمتمت الأخرى:
_ طيب كويس..
دلفن بخطاهن نحو المطبخ، رحبت شهد بالسيدة ميمي بود:
_ إزيك يا طنط اخبـ.ـارك إيه
بادلتها ميمي ابتسامة سعيدة لوجودها وقالت:
_ كويسة يا حبيبتي، حمـ.ـا.تك بتحبك يلا عشان تفطري معانا وإوعي تقولي لا
تدخلت لينة ساخرة:
_ تقول لأ إيه دي جايبة طعمية وهي جاية
انفجرن في الضحك ثم هتفت ميمي مرحبة:
_ خير ما عملتي والله، دا أنا نفسي فيها
غمزت إليها شهد ورددت بمشاكسة:
_ أي خدmة
نظرت إلى لينة وقالت:
_ تعالي لما أوريكي جبت إيه امبـ.ـارح
سارت كلتاهن إلى الخارج، ثم بدأت شهد تفرغ محتويات الحقيبة التي جلبتها معها موضحة:
_ نزلنا امبـ.ـارح أنا وماما اشترينا شوية هدوم حلوين أوي، من حلاوتهم عايزة ألبسهم كلهم دلوقتي
علقت لينة ساخرة:
_ عشان كانت طنط عواطف علقتك
تأففت شهد بضجر وتمتمت بحنق:
_ هو أنا لسه هستنى لما أتجوز عشان ألبسهم!
أخذت نفساً ثم بحثت عن شيئ بعينه وقامت بإخراجه وقالت:
_ دول عجبوني أوي وحسيتهم شبهك، فجبتهم ليكي
تفاجئت لينة من لطف صديقتها ورمقتها بعينان لامعتين ثم شكرتها بحرج:
_ إيه الاحراج دا، ليه عملتي كدا؟
لكزتها شهد في ذراعها قبل أن تعاتبها بلطف:
_ إحراج إيه يا هبلة إحنا في بينا كدا، بس إيه رأيك؟
تفقدتهم لينة جيداً ثم أبدت رأيها:
_ تحفة أوي، بجد شكراً
تبادلن العناق بحميمية ثم تراجعن حينما حضرت السيدة ميمي، أسرعت لينة نحوها وهي تقول:
_ شوفي شهد جابت لي إيه
نظرت ميمي إلى القُمصان التي بيديها ورددت بإعجاب شـ.ـديد:
_ حلوين أوي يا حبيبتي، تتهني بيهم
وجهت نظريها على شهد وشكرتها بلطف وامتنان:
_ شكراً يا شهودة
"شكراً على إيه يا طنط دي أختي"
علقت شهد على حديث ميمي التي رددت وهي تجلس على كرسيها:
_ ربنا يخليكم لبعض يارب
ثم حثتهم على المجيء بقولها:
_ يلا تعالوا والأكل سخن
جلسن كلتاهن على الطاولة وبدأن يتحاورن في أحاديث مختلفة، اهتز هاتف لينة معلناً عن وصول رسالة فأسرعت بالتقاط هاتفها ونظرت به فكان رد يوسف مختصراً للغاية حيث أرسل لها:
"مشغول مش فاضي أرد"
عبست تعابيرها فاستفشت شهد ذلك، وانتظرت حتى انتهين من الطعام ثم اقتربت من لينة وهمست بقرب أذنها:
_ تعالى ندخل الأوضة، عايزاكي..
استأذنا من السيدة ميمي وولجن إلى غرفة لينة، وسرعان ما انهالت شهد عليها بالأسئلة:
_ مالك؟ واضايقتي ليه بعد ما جالك رسالة وإحنا برا؟
تنهدت لينة بحـ.ـز.ن وتوجهت نحو الفراش، اعتلت طرفه ونكست رأسها قبل أن تخبرها:
_ يوسف زعلان مني..
جلست شهد بجوارها متسائلة بجدية:
_ ليه إيه اللي حصل؟
طالعتها لينة بحرج شـ.ـديد، فكيف ستخبرها بذلك، أعادت خفض رأسها وهي تفكر جيداً في ما ستقوله، قطبت الأخرى جبينها بغرابة من حالتها المريبة وهتفت بعدm استيعاب للأمر:
_ في إيه يابنتي ما تنطقي
اعتدلت لينة في جلستها حيث جلست القرفصاء ورددت كلمـ.ـا.تها بعناية حتى لا تخرج عن المألوف:
_ بصي، بصراحة كدا أنا عملت حركة وحشة أوي امبـ.ـارح، أينعم مكنتش متوقعة ردة فعله هتكون كدا بس برده معرفش وقتها فكرت إزاي
استندت شهد بذقنها على راحة يدها متسائلة بفضول:
_ ممم عملتي إيه؟
ابتلعت لينة ريقها وأخبرتها بتردد:
_ رجعنا من برا وكان عايز يدخل الأوضة عندي بس أنا منعته..
تأففت لينة بضجر بائن لتصرفها الأحمق ثم انتبهوا على سؤال شهد:
_ وأنتِ عملتي كدا ليه؟
بتلقائية هدرت:
_ عشان ميحاولش يقرب مني..
عضت على شفاها السفلى بخجل بينما لم تستوعب شهد بعد مخذى حديثها:
_ يقرب منك إزاي يعني؟
احتدت ملامح لينة بضيق، فكيف ستشرح لك ذلك؟ تنهدت ثم صاحت بنفاذ صبر:
_ يقرب لي يا شهد افهمي
لحظة إدراك معنى حديثها، فتشكلت على شفتي شهد ابتسامة عريضة، فنهرتها لينة بقوة:
_ مش عايزة ضحك ولا تريقة وإلا مش هكمل
حاولت شهد جاهدة إخفاء ابتسامتها ورددت بلهفة:
_ خلاص خلاص، كملي
"مفيش بس كدا، من امبـ.ـارح وهو مش بيكلمني مش عارفة أعمل إيه بقى"
أردفتهم لينة بقلة حيلة، بينما تابعت شهد أسئلتها الفضولية:
_ وأنتِ مش عايزاه يقرب ليه؟ مش دا يوسف حبيب القلب؟ إيه اللي حصل؟
فركت لينة أناملها بحياء، ولم تستطيع مواجهة شهد، عضت على شفتيها وهي تجيبها:
_ الموضوع مختلف خالص في الحقيقة، معرفش مش حاسة إني هقدر أعمل اللي هو عايزه
تجهمت تقاسيمها بحنق وواصلت إيلام نفسها:
_ أنا غـ.ـبـ.ـية، بس والله غـ.ـصـ.ـب عني
تقوس ثغر شهد للجانب مشكلة إبتسامة ماكرة وهي تهتف بخبث:
_ واللي يخليه هو اللي يجي يصالحك؟
رفعت لينة رأسها سريعاً وهللت بلهفة:
_ دا أنا أعمله كل اللي هو عايزه
رفعت شهد حاجبيها بتعالى وبدأت تخبرها خطتها:
_ بصي ياستي، أنتِ تصوري القيمصان اللي أنا جبتها دي وتبعتيهاله وتقوليله أنهى واحد أحلى؟
وإن هو مبدأش كلام معاكي ميبقاش إسمي شهد
استنكرت لينة خطتها وعارضتها مستاءة:
_ قيمصان إيه اللي أبعتها، دي فاضحة أكتر ماهي ساترة
بتلقائية قالت:
_ ما هما دول اللي هيخلوه يكلمك، جربي ومش هتنـ.ـد.مي
حركت لينة رأسها برفض تام فلم تعيرها شهد إهتمام لرفضها وبحثت عن هاتفها ثم فتحت المراسلة بينها وبين يوسف فحاولت لينة أخذه منها لكنها رفضت شهد بكل الطرق إعطائه لها مرددة:
_ والله ما هتاخديه، هبعت يعني هبعت
لم يكن هناك مفر، اضطرت لينة إلى الإستسلام أمام إصرار صديقتها، تنحت جانباً ووضعت يديها على فمها وهي تتابع ما تفعله الأخرى، قامت شهد بتصوير الثياب وأرسلتهم له، ثم أرسلت سؤالاً أسفلهما:
"تفتكر أنهي واحد هيكون حلو عليا؟"
ابتسمت بانتصار ثم نظرت حيث تجلس لينة التي هتفت بضعف:
_ وريني عملتي إيه
اقتربت منها شهد وأعادت لها الهاتف، شهقت لينة بصدmة حينما رأت ما أرسلته وصاحت برفض:
_ إحنا متفقناش على كدا، إيه أنهي واحد هيكون حلو عليا دي؟
حركت رأسها مستنكرة ذاك التصرف الوقح وهتفت:
_ لا لا أنا همسحه قبل ما يشوفه
بسلاسة وسرعة لم تلاحظها لينة خـ.ـطـ.ـفت منها شهد الهاتف مانعة إياه من مسح ما تريد، ورددت بتهكم:
_ اسكتي واهدي شوية، شوفي ترتيبات شهد هتوديكي لفين
"هتوديني في داهية"
تمتمت بها لينة وعقلها يحثها على التراجع عما فعلته، لكن كيف أمام إصرار شهد الطاغي، فما كان منها إلا أن تجلس في زواية تنتظر رده بتوجس شـ.ـديد..
***
طقطق يوسف عنقه بتعب، سحب هاتفه من جيبه ليتفقد الرسالة الواردة، تفاجئ بما أرسلته لينة وسرعان ما أغلق الهاتف لكي لا يراه أحد، استأذن من السيد سمير ومن معه من العمال وتوجه إلى آخر زاوية لا يمكن لأحد أن يراه بها وأعاد فتح الرسائل مرة أخرى.
تعجب من جرأتها فلم يحظى بها إلى الآن فما الذي يحدث لها، طرد أفكاره المزعجة وسار يتنقل بين الصور يتفقدها جيداً، تقوس ثغره ببسمة عريضة، على ما يبدوا أنها تريد مصالحته بطريقة مثيرة.
لن ينكر أنها قد نالت إعجابه، تنهد ثم أرسل لها نصاً بنوايا ماكرة:
_ "مش هيظهروا غير في اللبس"
وقعت رسالته على مرأى عيني لينة ورددت بحنق:
_ ياربي على البرود بجد، أي كلام المهم ميقولش رأيه، أوف
نظرت حيث صديقتها التي فغرت فاها من خلف رد فعلها الساذج وهتفت متسائلة:
_ بتبصيلي كدا ليه؟
قلبت شهد عينيها وصاحت عالياً:
_ يخربيت الغباء والله، دا عايزك تلبسيهم يا حبيبتي
فغرت الأخرى فاها بصدmة وظلت ترمق شهد بذهول، ثم تفقدت الرسالة مرة أخرى وبالفعل استشفت معناها، ألقت الهاتف جانباً وتمتمت والرفض يتجلى في نبرتها:
_ دا بعينه، آل البسهم آل
"هبلة"
علقت شهد بتهكم، نهضت عن الفراش وقالت:
_ أنا همشي عشان مقولتش لأمي إني هتأخر كدا
ابتعدت عدة خطوات ثم التفت برأسها وأردفت بإبتسامة ماكرة تغزو شفتيها:
_ ويمكن حد كدا يرجع في رأيه
تذمرت لينة في ردها:
_ بعينك أنتِ وهو
"طيب"
اكتفت شهد بقولها ثم تابعت خروجها، ودعت السيدة ميمي وغادرت المنزل، بينما عادت لينة إلى غرفتها، ظلت تتفقد رسالته تارة وتارة أخرى تنظر إلى القُمصان الموضوعة على الفراش.
تأففت بضجر ورددت بإقتضاب:
_ مش هعمل كدا لأ..
أطالت النظر عليهما وظهرت على شفتيها إبتسامة حماسية قبل أن تردد:
_ بس مفيش مانع نجربهم
أسرعت في ارتداء أول قميص وظلت تتلفت حول نفسها، تطالع صورتها المنعكسة بخجل، تحاول إخفاء ابتسامتها الخجلة لكنها لا تنجح في منعها، استدرات وطالعت ذاك الهاتف الموضوع على الفراش لوقت وبتردد شـ.ـديد أقنعت عقلها أن تأخذ فقط صورة لها.
قامت بـ.ـارتداء الآخر ولم تخلعه قبل أخذ صورة به، عادت إلى الفراش وفتحت المحادثة بينهما تعيد قراءة رسالته، تغلق هاتفها تارة وتارة تفتح ألبوم الصور، لا تدري أيهما الأصح، هل ترسل له كما يريد أم تتمسك بما يحثها عليه عقلها؟
أوصد عينيها وهي تدعس على زر إرسال بعدmا حددت الصور، ثم تمسكت بالهاتف بقوة في انتظار رده بفروغ صبر..
على جانب آخر، كان يوسف يتابع عمله لكنه كان يتفقد هاتفه من آن لآخر ليرى ما أن كانت أرسلت إليه صوراً أم لا، بعد وقتٍ شعر بدوار فلم يطيل في وقوفه وأخذ استراحة بعيداً عن الجميع.
اهتز هاتفه فأخذ يتصفح به فوجد أنها أرسلت إليه الصور، مال برأسه قليلاً وهو يتفحصهم جيداً ثم ظهرت على شفتيه إبتسامة رضاء عنهما، شعر حينها أنه محظوظ للغاية لامتلاكة فتاة جذابة مثلها.
"تعبت ولا إيه"
صدر صوت "علي" مهتماً لأمره فأسرع يوسف في غلق هاتفه سريعاً قبل أن تقع عينه على الصور، رفع يوسف بصره عليه وأجابه:
_ شوية بس تمام يعني
جلس علي مقابله وتحدث بشهامة:
_ لو تعبان روح أنا موجود متقلقش
مال يوسف للأمام ليكون قريباً منه وربت على قدmه ممتناً له:
_ تسلم يا حبيبي، أنا هبقى كويس إن شاء الله
بإمتنان واضح أردف علي:
_ والله أنا نفسي أرد لك جزء بسيط من اللي بتعمله معانا، دا كفاية إنك شغلتني معاك
قبض يوسف على قدmه واستنكر يا يقوله:
_ بطل بقى الكلام اللي يضايق دا، قولتلك ١٠٠ مرة قبل قبل كدا أنت أخويا ولو أقدر أعمل أكتر من كدا مش هتأخر.
بادله علي إبتسامة ممتنة ثم انتبها كليهما على نداء السيد سمير، فنهضا معاً وتوجها إليه ليتابعا عملهما حتى ينتهيا قبل حلول الليل.
على الجانب الآخر، كانت تجلس ممسكة بالهاتف في انتظار إجابته بعدmا تأكدت من رؤيته لما أرسلته، نفخت بضيق ورددت بحنق:
_ دا إيه دا بقى؟
انتظرت بضعة دقائق أخرى على أملاٍ رده لكن دون جدوى، جابت الغرفة ذهاباً وجيئا والنتيجة ذاتها، لا يرسالها، ألقت الهاتف على الفراش بعصبية ثم أبدلت ثيابها وخرجت من غرفتها باحثة عن شيئ تشغل به عقلها عن ذاك اليوسف.
***
أصوات ضجيج الأطفال يدوي في المكان، وكذلك أحاديثهن التي ليس لها بداية ولا نهاية، سمع أحد الصغار طرقات أحدهم على الباب فهم بفتحه وإذا بها زوجه خاله.
ابتسمت له ثم قالت بمداعبة:
_ إزيك يا صغنن
أجابها بطفولة:
_ الحمد لله
"مين يا يامن"
تسائلت هدير ثم رحبت بإيمان بحفاوة حينما رأتها:
_ تعالي، أخبـ.ـارك إيه؟
حمحمت وبحرج قالت:
_ الحمدلله أنتِ عاملة إيه
اختصرت هدير في إجابتها:
_ لحمد لله يا حبيبتي
حضرت هدى وتبادلن العناق والقبلات وكذلك السيدة شهيرة، التي جائت على استحياء شـ.ـديد، فلم تنسى موقفهما بعد، لكنها كانت متفاجئة بترحيب إيمان لها وكأنها تتعمد فعل ذلك لكي تمحي الحرج منها.
مدت إيمان يدها فظهر ذاك المفتاح التي تركته شهيرة عمداً أمس وقالت بلطف:
_ نسيتي المفتاح لما كنتي عندي يا ماما
وزعت شهيرة نظراتها بينها وبين المفتاح، اجتاحها الخجل من خلف موقفها النبيل، ابتسمت لها بخجل شـ.ـديد وأخذت منها المفتاح ثم رددت عالياً:
_ كويس إنك نزلتي اليوم كان ناقصك
"أنا عارفة إن هدير وهدى بيكونو هنا النهاردة فنزلت أقعد معاهم"
هتفت بهم إيمان ثم انشغلت بين اللعب مع الصغار تارة وتارة أخرى بين الأحاديث التي تناولنها الفتيات.
***
حل المساء، حاملاً للتعب معه، فلم يعد هناك أحد يستطيع مواصلة العمل بسبب إنهاك روحه وجسده، سمح لهم السيد سمير بالذهاب حينما تأكد بنفسه من أن المكان في استعداده التام لعمل الإفتتاح غداً.
اقترب علي من يوسف وسأله وعينيه تجوب ثغرات بعينها في المكان:
_ يوسف، مشوفتش موبايلي؟
نفى يوسف رؤيته للهاتف قائلاً:
_ لا مشوفتوش، خد موبايلي رن عليه
أعطاه يوسف الهاتف ثم أخبره بذاك الرمز الرقمي لكي يستطيع فتحه، فتحه علي وهو يبتعد عنه لكي يصغي إلى رنين هاتفه، صعق حينما وقعت أمامه صور لينة، فلم يخرج يوسف من المحادثة بعد، أشاح نظره سريعاً عن الصور، وبالكاد جاهد لمنع نفسه من التطاول عليهما.
انتابه مشاعر عديدة من بينهم الغيرة على شقيقته ومنها الغضب لفعلتها الوقحة، فكيف تتجرأ وترسل إليه مثل تلك الصور الجريئة؟
ابتعد عن يوسف وقام بالإتصال على هاتفه حتى وصل إليه، أعاد الهاتف لصاحبه الذي لاحظ عبوس وجهه فسأله مستفسراً:
_ مالك في إيه؟
بنبرة حادة جـ.ـا.مدة أجاب:
_ مفيش حاجة
دنى منه يوسف معيداً سؤاله بخفوت:
_ لا بجد مالك، حصل حاجة؟
اكتفى بتحريك رأسه فلم يطيل يوسف، ربما لايريد إخبـ.ـاره الآن، أنتبه على صديقه الذي هلل على مقربة منهما:
_ تصبحو على خير
"وأنت من أهله"
رددها يوسف ثم انسحب إلى سيارته برفقة علي الذي وقف وقال:
_ أنا هستنى تاكسي
استنكر يوسف كلمـ.ـا.ته وحثه على الركوب بقوله:
_ اركب يالا تاكسي إيه اللي هتلاقيه الساعة ١ في شارع زي دا
عارضه علي بنبرة يتوهج منها الرفض والضيق:
_ روح أنت يا يوسف أنا هعرف أرجع لوحدي
تأفف يوسف عالياً وصاح مستاءً:
_ هو أنا يابني زعلتك في حاجة عشان كل دا؟
طال علي النظر ثم لم ينجح في الإجابة عليه فقام بالركوب حتى يهرب من سؤاله، بينما وقف يوسف لبرهة يعيد ما حدث اليوم لربما أحـ.ـز.نه دون قصد لكن في النهاية لم يجد شيئ.
استقل خلف مقوده وتحرك بالسيارة قاصداً ذاك الفندق الذي يمكث به علي، وصلا بعد مرور بضعة دقائق، كاد علي أن يترجل إلا أن كلمـ.ـا.ت يوسف أرغمته على التريث والنظر إليه:
_ ما تيجي نشوف لك شقة صغيرة عندنا هناك تكون إيجار بدل قعدتك هنا
رفض علي معللاً أسبابه بإقتضاب:
_ لا ملوش لزوم، كدا كدا أنا مش قاعد كتير، وقت ما الدراسة هتبدأ هرجع انجلترا تاني..
"وهتسيب لينة تاني؟"
تسائل يوسف مهتماً لأمره فتاته، حتماً سيحـ.ـز.نها ذاك الخبر، بينما أخرج علي تنهيدة قبل أن يجيبه:
_ أنت ولينة في الآخر هتتجوزوا، يعني قعادي هنا ملوش لازمة طلاما هي معتمدة على غيري..
آخر كلمـ.ـا.ته أثارت الريب داخل يوسف، لكنه لم يعقب، لم يدري بأي كلمـ.ـا.ت يتحاور بها معه، أهو يغار على شقيقته منه أم أنه بات أنانياً لا يفكر سوى في نفسه مثلما تعلم في دولته المبجلة.
تبادلا النظرات حتى قطعها علي بهروبه:
_ تصبح على خير
وفي غضون ثوانٍ كان قد اختفى خلف باب الفندق، فعاد يوسف بأدراجه إلى منزله، وعقله منشغلاً بحالة علي المريبة، فلم يكن هكذا منذ دقائق فما الذي حدث لكي يصبح على حالته تلك؟
لم يصل إلى إجابة ترضيه، لكنه وصل إلى منطقته، صف السيارة وصعد درجات السُلم، دلف المنزل وكان السكون دون غيره يعم المكان، فتوجه مباشرةً إلى غرفته.
"يوسف"
نادته من خلف بابها حتى لا يستطيع الهرب، أسرعت نحوه فنهرها هو بحدة:
_ أنتِ راحة فين كدا، ارجعي أوضتك تاني..
قالها يوسف وهو يطالع خصلاتها المحررة فقالت هي:
_ زياد مش هنا...
بتجهم واضح في تعابيره ونبرته الجـ.ـا.مدة قال:
_ ولو، متخرجيش كدا برده
أولاها ظهره ودلف غرفته، تأججت نيران الغيظ داخلها ولم تستطيع الوقوف مكانها، هرولت خلفه وأغلقت الباب لكي لا يصل صوتها إلى السيدة ميمي، وصاحت بحنق ونفاذ صبر:
_ أنت بتعاملني كدا ليه؟ أنا عملت إيه لكل الزعل دا
ببرودٍ أمرها:
_ ارجعي أوضتك يا لينة..
رفضت البتة الذهاب لغرفتها قبل أن يصلحا الأمور بينهما، أخذت تتنفس بقوة وهي تقترب منه وهللت باندفاع:
_ لا مش هروح في حتة، قبل ما أعرف عملت إيه يستاهل زعلك مني؟
بلهجة بـ.ـاردة للغاية أجابها:
_ قُربي منك بيضايقك، وأنا مبحبش أضايقك أبداً
صمت كليهما، وتبادلا النظرات، كانت لينة في وضع لا تحسد عليه، شعرت بالخجل الشـ.ـديد، ابتلعت ريقها ورددت بنـ.ـد.م:
_ والله مقصدتش أزعلك، هو تصرف رخم أنا عارفة، بس متوقعتش أنك تدي ردة فعل كبيرة كدا..
"وأنتِ عايزاني مزعلش لما ألاقيكي أنتِ بالذات بتمنعيني عنك؟"
رددها يوسف معاتباً إياها، أخفضت هي رأسها بحرج شـ.ـديد، تمنت لو تصر على الدخول خلفه، لكن عليها الآن إصلاح ما اقترفته في حقهما، لكن كيف؟ كيف سيتغاضى يوسف عما فعلته؟
لم يكن أمامها سوى حلاً دون غيره، حقاً لا تعلم كيف ستفعل ذلك، لكنه أملها الوحيد لتوطيد علاقتهما ثانيةً، أعادت وضع خصلاتها خلف أذنها واقتربت منه على استحياء، حتى باتت ملاصقة له، وقفت على أصابع قدmيها لكي تكون في مستوى قامته وبرقة مبالغة طبعت قُبلة على طرف شفتيه.
ثم همست بنـ.ـد.م:
_ أنا آسفة..
شعر يوسف بالهياج في نبضاته، فهي قد فجائته بتصرفها العفوي، طالت مدة استيعابه للأمر ففهمت لينة أنه لم يرضى بذلك، نكست رأسها في حـ.ـز.ن وهتفت:
_ أنا بجد مكنتش أقصد أزعلك، أنا آسفة..
أولاته ظهرها وتوجهت نحو الباب، جاهدت كثيراً في السيطرة على عبراتها حتى تعود إلى غرفتها، كادت أن تخرج إلا أنها تفاجئت بغلقه للباب مانعاً إياها من الخروج.
استدرات بجسدها لتعلم حقيقة ما يحدث، لكنه لم يعطيها فرصة، فلقد فاجئها بقُبلة اخترقت شفتيها،
حشرت لينة أنفاسها من هول المفاجأة، تجمدت مكانها فلم تبادله مشاعراً، لأنها لم تستوعب الأمر بعد.
توقف يوسف لكنه لم يبتعد، وهمس أمام شفتيها:
_ بحبك..
ابتلعت ريقها مراراً وهي تطالع بندقيته، اكتفت ببسمة خجولة وهي تعض على شفاها، بينما همس هو متسائلاً:
_ عايزة تخرجي؟
حقاً تريد الهروب من أمامه الأن، لكن إلى متى ستهرب منه؟ في النهاية هو زوجها، ولا تفعل شيئ محرم، رفعت يدها وأعادتها خلف ظهره، ثم تحسسته بخفة فرجف جسده بقوة وكاد أن يذوق شهدها مرة أخرى لكنه تريث، فلن يفعل شيئ دون رضاها.
انحنى عليها وهمس:
_ ها؟
وضعت يدها الأخرى على ذقنه وتحسستها برقة مجيبة إياه بخفوت:
_ تؤ...
إجابتها كانت كفيلة لأن تنهار حصونه، عاد يقبلها بنهم، ثم رفعها عن الأرضية وتوجه بها إلى أريكته، متبادلين مشاعرهما معاً.
بعد فترة، نظر إليها يوسف بعشق وهو يداعب خصلاتها، شكل إبتسامة جذابة متذكراً أمر صورها:
_لا بس الصور جـ.ـا.مدة
بخجل يشوبه التهكم همست:
_ آه عشان كدا مردتش عليا
قهقه قبل أن يردف مازحاً:
_ كنت تقلان..
قلبت عينيها مستنكرة رده ورددت ما قاله مستاءة:
_ تقلان آه..
مرر يوسف أنامله على وجنتها بنعومة وهتف:
_ تقل إيه بقى ما خلاص دوبت!
لم تمنع ابتسامتها التي غزت شفتيها لكن سرعان ما اختفت حينما وقع على آذانها صوت غلق باب الشقة، انتفضت لينة من مكانها وتمتمت بتوجس:
_ زياد جه، هخرج إزاي؟
نهض يوسف وبنبرة هادئة أردف:
_ ششش إهدي..
مد لها يده وقال:
_ تعالي
أمسكت في يده ثم تبعته إلى الباب، أوقفها جانباً ثم فتحه ومنع أخيه من الدخول بوضع يده على صدره وهتف أمراً:
_ أوقف برا شوية يا زياد..
قطب زياد جبينه بغرابة من أمره، وسأله مستفسراً:
_ ليه؟
دفعه يوسف للخارج قائلاً بفتور:
_ اسمع الكلام من غير أسئلة
لمح زياد طيف أحدهم من ثغرة الباب، فابتسم بخبث وتمتم بخفوت:
_ آه طيب، الله يسهلوا
لكزه يوسف في صدره بقوة وصاح:
_ امشي يا غلس..
أولاه زياد ظهره وعاد للخارج، بينما عاد يوسف إلى فتاته وقام بتقبيل ثغرها سريعاً ثم قال:
_ يلا ارجعي أوضتك بسرعة
هرولت هي مسرعة إلى غرفتها ثم نادى يوسف على شقيقه ليأتي، لم يكف زياد عن المزاح الثقيل وإلقاء الكلمـ.ـا.ت الساخرة:
_ الله يسهلوا يا سيدي، دا أنا أنجز بقى في أوراق الجيش عشان تاخد راحتك..
بلغ يوسف ذروة تحمله لسخافاته ونهره بعنف:
_ خلصنا يا زياد، مش معنى إني سمحت لك مرة تسوء فيها، أنا مبحبش كدا
شعر زياد بالحرج حيال كلمـ.ـا.ت أخيه لكن حاول عدm إظهار ذلك فقال مختصراً:
_ خلاص ياعم مقولناش حاجة
بدل ثيابه سريعاً وذهب للنوم هارباً من نظرات يوسف، بينما تمدد الآخر على الفراش لكنه لم يستطيع النوم بسهولة، فمشاعره مازالت مضطربة، لم يشعر بالاكتفاء منها، على الرغم من كونه خطى أول خطوة أراد فعلها، لكن هناك شعوراً قوي داخله يطمع في المزيد.
نهض حينما فشل في طرد أفكاره، خرج من الغرفة وتوجه نحو المرحاض، لينعم باستحمام بـ.ـارد لربما ينسى أمر رغباته.
***
في الغرفة المجاورة، تفاجئت لينة بعدد الإتصالات التي قام بها علي، فأعادت هي الإتصال به قلقة من شأن هذا الكم من المكالمـ.ـا.ت.
بلطف حادثته:
_ علي.. أخبـ.ـارك إيه؟
جائها نبرته التي لا تبشر بالخير:
_ أنت إزاي تعملي كدا يا لينة؟
عقدت حاجبيها وتسائلت مستفسرة عما يقصده:
_ عملت إيه؟
بانفعال شـ.ـديد هدر بها شزراً:
_ إزاي تبعتي صور بالشكل دا ليوسف؟
صعقت لينة ناهيك عن قلبها الذي انقبض بذُعر، كم تمنت أن تختفي قبل أن تقع كلمـ.ـا.ته على أذنيها، ابتلعت ريقها ولم تستطيع مواجهته فتابع هو بغضب:
_ كنت فاكر أختي محترمة بس طلعت غلطان، دا أنا من وقت ما شوفت الصور وأنا هتجنن، مش قادر أستوعب إنك تعملي كدا، ومن وقتها و١٠٠ سؤال في دmاغي، يا ترى بقى بيحصل إيه بينك وبينه عشان تبعتي له صور زي دي؟
لم تتحمل لينة إهانته التي مست كرامتها وأنهت الإتصال على الفور، قامت بغلق الهاتف لكي لا يستطيع الوصول إليها، ثم انفجرت باكية، كانت تبكي بحرقة على كلمـ.ـا.ته المهينة، يزاداد نحيبها كلما تذكرت أنه رآى صورها بهذا الشكل.
لم تتوقف عبراتها قط، كان قلبها يـ.ـؤ.لمها بشـ.ـدة، وصدرها يعلو ويهبط حتى شعرت بالإختناق يجتاحها، ارتفع سعالها بشـ.ـدة وشعرت بأنها تريد التقيأ، خرجت مسرعة نحو المرحاض أثناء خروج يوسف منه.
تفاجئ بحالتها وكاد أن يسألها عن سببها لكنها هرولت للداخل وأفرغت ما يوجد في معدتها جميعاً، اقترب منها يوسف فشعر برجفة جسدها، بهدوء قام بضمها فلمست صدره العاري، لم يكن يرتدي سوى منشفته التي تحاوط خصره.
لم تتحلى بقدرة مبادلته العناق، فشعر هو بضعف حيلتها حينها، ساعدها على الوصول إلى صنبور المياه ثم مسح على وجهها بالماء وبعض خصلاتها ثم ساعدها على العودة إلى غرفتها.
جلست لينة ولم يتركها هو، لم يبعدها قط عن حـ.ـضـ.ـنه، بل كان يملس على خصلاته تارة وتارة يربت على ظهرها بحنو مع ترديده بعص الكلمـ.ـا.ت الحنونة:
_ اهدي يا لينة، أنا هنا..
مرت بضعة دقائق حتى شعر باستكانة جسدها، فلم يعد يشعر برجفتها وكذلك شهقاتها التي يتردد صداها في صدره، أبعدها عنه واحتضن وجهها بين يديه وسألها باهتمام:
_ في إيه؟ ليه كل دا؟
طالعته لبرهة مترددة في إخبـ.ـاره فحثها هو على البوح:
اتكلمي يا لي لي..
أخذت نفساً عميق وتحدثت بصوت متحشرج:
_ يوسف، أنا عايزة اطلب منك طلب
↚
بصوت باكي يقطعه شهقاتها التي تحاول السيطرة عليهم أردفت:
_ تعالى نتجوز!
تفاجئ يوسف من طلبها، فكان مريباً بالنسبة له، عقد حاجبيه وردد دون فهم:
_ طيب ما إحنا متجوزين أصلاً يا حبيبي..
ابتلعت ريقها وطالعت عيناه قبل أن توضح:
_ أقصد نتجوز، يعني نكون في بيت لوحدنا..
ضاق يوسف بعينيه عليها، فلم يستشف بعد سبب طلبها، وحالتها التي باتت عليها، حاول التحلي بالصبر قدر المستطاع وتسائل بهدوء:
_ طب ممكن أفهم إيه السبب اللي يخليكي في الحالة دي، وكمان تطلبي طلب زي دا فجاءة كدا
زمت شفتيها محاولة السيطرة على بكائها، أخفضت بصرها، فلم تكن بتلك الشجاعة حتى تواجه عينيه وهي تخبره:
_ علي شاف الصور اللي بعتهالك..
تفاجئ يوسف مما وقع على أذنيه، صمت ساد لبرهة قبل أن يعود متسائلاً:
_ شافهم إزاي؟
رفعت كتفيها بمعنى أنها تجهل ذلك، عاد يوسف بذاكرته عنـ.ـد.ما أخذ منه الهاتف لكي يقوم بالإتصال على هاتفه، أوصد عينيه لاعناً غبائه، فكان الهاتف مغلقاً على محادثته معها، حتماً رآها حينما فتح الهاتف.
أخرج يوسف تنهيدة، وقد علم الآن سبب تحوله المفاجئ، عاد بأنظاره إلى لينة وتسائل:
_ قالك إيه؟
تذكرت هي بشاعة كلمـ.ـا.ته ثم جهشت باكية وهي تردد بحـ.ـز.ن شـ.ـديد:
_ قال كلام وحش أوي، وقال إني مش محترمة..
ازداد نحيبها فضمها يوسف مرةً أخرى إلى صدره، ربت على ظهرها بحنو، ثم ردد:
_ملوش حق يقولك كدا..
تراجعت للخلف واستنكرت كلمـ.ـا.ته وصاحت منفعلة:
_ ملوش حق إزاي؟ الصور مش كويسة، ومكنش ينفع أبعتها، مكنش ينفع أسمع كلام شهد من الأول أصلاً
لم يعي يوسف ما علاقة شهد بالأمر وردد باسمها:
_ شهد؟
أماءت وهي توضح مقصدها:
_ أيوة هي اللي قالتلي أبعت لك الصور لما حكيت لها إنك زعلان مني، هي اللي قالتلي هيصالحك بالطريقة دي..
كز يوسف أسنانه بضيق بالغ، فلم يعجبه الأمر، وعزم على محادثتها في ذاك الموضوع لكن ليس الآن، عليه أولاً أن يهدئ من روعها..
حاول ضبط حنجرته رغم ذلك خرجت خشنة:
_ أنتِ تطلبي طلب زي اللي طلبتيه دا لما أكون واحد من الشارع بقابلك من ورا أهلك، لكن أنا جوزك، ولا أنتِ عملتي حاجة حـ.ـر.ام ولا عيب، ولو على "علي" فسبيه عليا أنا هتكلم معاه..
أسرعت لينة في رفض الأمر متوسلة إياه:
_ لا لا متتكلمش معاه في حاجة، مش عايزة مشاكل يا يوسف
"مشاكل إيه؟ أنا هقوله زي ما قولتلك كدا، عشان هو الظاهر عليه لسه صغير ومش مستوعب يعني إيه كتب كتاب"
هتف يوسف بحسم، أخرج زفيراً وواصل مسترسلاً:
_ هديتي؟
نفت بحركة من رأسها ثم قالت بخفوت:
_ كل ما بفتكر كلامه بتخـ.ـنـ.ـق أوي
أمسكت بيد يوسف وتوسلته في طلبها:
_ ينفع تخليك معايا شوية..
ابتسم لها وبصدر رحب أردف:
_ بس كدا تؤمري
نظر إلى حالته ثم هتف مازحاً:
_ هروح ألبس هدومي الأول قبل ما حد يشوفني كدا وتبقى فـ.ـضـ.ـيحة بجد
نجح يوسف في إضحاكها، نهض عن الفراش وقبل أن يغادر التفت إليها وسألها بخبث:
_ ولا تحبي أقعد معاكي كدا؟
أسرعت هي برفض وجوده على تلك الحالة:
_ لا روح البس هدومك..
غمز لها وصاح مشاكساً:
_ ولا أقعد؟
انفجرت هي ضاحكة بينما هو شعر بالرضاء لتلك الإبتسامة التي كان سبباً في رسمها، خرج من الغرفة وذهب ليرتدي ثيابه ثم عاد إليها، جلس على الفراش واستند على جداره بينما توسطت هي صدره محاوطة خصره بذراعيها، حتى شعرت بالسكينة حينها وغفت سريعاً.
***
بزغ الفجر، فصدح رنين هاتف يوسف، قلق على اهتزازته، سحبه من جيبه وأغلق المنبه، ثم تفقد تلك النائمة على صدره، فرك عينيه ثم ملس على وجنتها بخفة:
_ لينة، قومي..
لم تنتبه له فأعاد تكرار ندائه بنبرة أعلى:
_ يا لي لي، يا حبيبتي اصحي..
شعرت بيده التي تتحسس وجهها فرفعت عينيها للأعلى ناظرة إليه، تشكلت بسمة رقيقة فانحنى هو برأسها مقبلاً ثغرها قبل أن يردف:
_ قومي يلا الفجر أذن..
اعتدلت في جلستها، بينما نهض هو وردد بخفوت:
_ هخرج أنا قبل ما حد يصحى..
سار نحو الباب فتبعته هي بنعاس، التفت إليها وحدجها بنظرة ثاقبة قبل أن يتسائل:
_ أنتِ راحة فين؟
بتلعثم أجابته:
_ خارجة..
أشار عليها بإصبعه وهو يردد:
_ بشعرك؟
تفقدت لينة نفسها ثم هدرت ببسمة سمجة:
_ مختش بالي..
بدلها يوسف بسمة سمجة مقلداً أسلوبها وقال:
_ لا أبقي خدي بالك
أدار مقبض الباب بحذر، ثم تفقد الخارج فلم يجد أحدهم، خرج مسرعاً وأغلق الباب خلفه، خطى بضعة خطوات وقبل أن يصل إلى غرفته أنتبه لخروج والدته تجمد مكانه فتسائلت هي:
_ صحيت يا حبيبي؟
حمحم وتصنع النعاس قبل أن يجيبها:
_ آه لسه صاحي، كنت جاي أصحيكي..
تثائبت هي ثم توجهت إلى المرحاض لكي تتوضأ وكذلك فعل هو بعد أن أيقظ البقية، كان اليوم إمامهم في الصلاة، انتهى منها ثم عاد إلى غرفته وكذلك فعل الآخرين وفي غضون ثوانٍ كان الجميع نيام.
***
أشرقت شمس اليوم، استيقظ يوسف باكراً، ثم توجه إلى الفندق الكائن به علي، أعطى موظف الإستقبال خبراً بقدوم ضيف له، فأمر علي بتركه للصعود إليه.
رحب به علي لكن كان ترحيبه محدود كما أنه لم يسعد بلقائه، تفهم يوسف أمره ولم يعقب على أسلوبه، بل ولج الغرفة وجلس على أقرب أريكة قابلته ثم أردف بصوته الأجش:
_ تعالى أقعد يا علي عايزك في موضوع..
امتثل الآخر لأمره وجلس مقابله، بينما سحب يوسف وسادة مربعة الشكل ووضعها على قدmيه ثم نظر إليه بنظرة ثاقبة وسأله بجدية:
_ أنت شايفني إزاي يا علي؟
تعجب الآخر من سؤاله، فلم يكن هناك داعٍ له، حمحم وهتف دون استيعاب:
_ مش فاهم..
أعاد يوسف وضع الوسادة في مكانها ومال بجسده للأمام، ثم شبك يديه وهدر:
_ من حوالي ٨سنين قولتلك أنت شايفني واحد ميعتمدش عليه وميقدرش يشيل مسؤولية عشان تخاف على أختك معايا؟
أنت وقتها رديت عليا بإيه؟
نكس علي رأسه بخجل شـ.ـديد انعكس على نبرته التي خرجت متلعثمة:
_ قولتلك إنك الوحيد اللي ساعدتنا!
تابع يوسف ما يريد إيصاله إليه:
_ حلو، يمكن أنت غبت ٨سنين ومقدرتش تعرف فيهم شخصيتي كويس، بس أنت وقت ما رجعت لقيت إيه؟
لقيت مثلاً أختك مرمية في الشارع؟
مخلتيهاش تكمل تعليمها؟
سبتها دايرة على حل شعرها؟
متقتش ربنا فيها؟
معاملتهاش معاملة الأخت قبل ما أعرف مشاعري نحيتها؟
دا أنا اتغضيت عن مشاعري مقابل إني أحلل قعدتها معانا عشان ميمسهاش كلمة كدا ولا كدا!
قولي أنت وقت ما وصلت، أختك اتحامت في مين؟ في زياد اللي المفروض كان كتب كتابه عليها خلاص، ولا فيك؟ في أخوها تؤامها؟
رد وقولي اتحامت في مين من مين يا علي؟
ابتلع علي ريقه وبخفوت أجابه بخذي:
_ فيك..
صاح يوسف متابعاً لاسترساله:
_ ودا عشان سواد عيوني؟ ولا عشان راعيتها واتقيت ربنا فيها؟! حسستها بالأمان وإن ليها ضهر تتسند عليه، حمـ.ـيـ.ـتها حتى من نفسي، عاملتها بما يرضي الله ويرضي أحمد الله يرحمه اللي وصاني عليكم..
رفع علي نظريه في عيناي يوسف وسأله بـ.ـارتباك حرج:
_ أنت ليه بتقولي كل دا؟
أجابه يوسف دون تفكير:
_ عشان عرفت إنك زعلتها لمجرد إنك شوفت صورتين على موبايلي!
الأن قد فهم الأمر، تجهمت تقاسيمه وبحدة باغته هلل:
_ وأنت شايف أن دول مجرد صورتين عاديين؟
"آه عاديين"
أردفهم يوسف بثقة وواصل بجدية:
_ أنا مش مرافق أختك ولا ماشي معاها لامؤاخذة عشان ميبقوش عاديين، أنا متجوزها على سنة الله ورسوله، أختك دي مراتي يا علي، فاهم يعني إيه مراتي؟ يعني يحل لي كل حاجة معاها، وإحنا معملناش كتب كتاب بينا كدا وخلاص، لا إحنا عملنا إشهار، يعني أنا لو شقتي جاهزة كنت أخدها عليها على طول، أنا مقدر إنك أخوها ويمكن الوضع معجبكش، بس ملكش حق أبداً تغلط فيها وتقولها أنها مش محترمة لأنها لا عملت حاجة لا عيب ولا حـ.ـر.ام!
أخذ يوسف نفساً ليستطيع مواصلة حديثه معه وقال بصوته الأجش:
_ وأنت لو بتخاف عليها قيراط فأنا بخاف عليها ١٠٠ مش ٢٤، يعني إهدى كدا وطمن قلبك خالص، مش أنا يا حبيبي اللي تخاف منه على أختك! وإلا مكنتش صونتها طول مدة غيابك واستغليت إنها لوحدها وملهاش غيري، تمام يا علي؟
كان يصغي لكلمـ.ـا.ته وهي منكس الرأس، لا يقدر على مواجهته، فلم يتفوه بخطأ يمكنه مسك ثغرة منه عليه، حمحم وبخذي شـ.ـديد أردف:
_ أنا أسف..
استنكر يوسف اعتذاره وقال:
_ لا أسف دي تتقال لأختك مش ليا، تروح تراضيها ومتزعلهاش تاني، عشان زعلها عندي غالي ولو عديت مرة مش هعرف إذا كنت هعدي التانية ولا لأ..
لم يكن من علي إلا أنه أومأ برأسه والخذي واضح عليه، عاد يوسف بظهره للخلف مستنداً على الأريكة وبنبرة أهدى أمره:
_ قوم يلا ألبس حاجة شيك عشان الإفتتاح، وطبعاً قبل منه نروح لـ لينة..
"ماشي"
هدر بها علي بطاعة ثم نهض ليبدل ثيابه، مرت دقائق وعاد إلى يوسف الذي حدج قميصه الأبيض وبنطاله الجينز بعدm إعجاب، حمحم وقال:
_ لا أنا كان قصدي بدلة يعني مش كاجوال
تشـ.ـدق علي بفمه بحرج شـ.ـديد قبل أن يخبره قائلاً:
_ بصراحة مش عندي بدل..
لم يطيل يوسف حتى لا يزيد من خجله وهتف وهو ينهض:
_ مفيش مشكلة، شكلك حلو برده
اقترب منه ثم أحاط كتفيه بذراعه وهتف:
_ يلا يا علوة يا مطلع عيني أنت واختك
قهقه علي ورافقه للخارج ومن ثم إلى السيارة التي استقلاها وغادرا المكان عائدين إلى منطقة يوسف.
***
"حاضر"
قالتها وهي تركض نحو الباب، وضعت حجابها سريعاً وفتحت الباب ثم تفاجئت بشقيقها يقف أمامها، خفق قلبها برعـ.ـب معانق للخجل، نكست رأسها فلم تستطيع مواجهته، وكذلك علي لم يمكن أقل منها حرجاً.
دفعه يوسف للداخل مردداً بحنق:
_ أدخل يا عم بدل ما أنت قافل الباب كدا
تفاجئت لينة بوجود يوسف الذي أوضح لها:
_ علي جاي عشان يقولك حاجة..
انضمت لهم السيدة ميمي التي رحبت بـ علي ترحيب حار:
_ نورت البيت يا علي، عامل إيه
بهدوء يشوبه الخجل أجابها:
_ منور بيكم يا آبلة ميمي، أنا الحمدلله كويس
اقترب يوسف من والدته وهمس لها:
_ تعالي معايا يا أمي جوا
استدار حيث يقفان التوأم وصاح:
_ خدوا راحتكم..
ولج برفقة والدته المطبخ وسرعان ما انهالت عليه متسائلة:
_ في إيه؟ دخلتني المطبخ ليه؟
أجابها وهو يلتقط تفاحة من طبق الفاكهة:
_ علي ولينة زعلانين مع بعض فجبتوا عشان يصالحها، فأكيد يعني مش هنقعد معاهم..
ضاقت بعينها عليه وباستفسار سألته:
_ زعلانين ليه؟ إيه اللي حصل؟
ضاق هو الآخر مقلداً نبرتها العفوية:
_ حصل اللي حصل يا ميمي، مش لازم نقعد على التفاصيل يعني
لكزته في ذراعه وصاحت بحُنق:
_ يوه يواد، كنت عايزة أطمن بس
غمز إليها بمشاكسة وقال:
_ أطمني يا أمي أطمني
لم تمنع ابتسامتها المستاءة بينما جلس هو على الكرسي يقلب في هاتفه لحين إنتهاء الآخرين من حوراهما معاً.
في الخارج، جلست لينة على استحياء شـ.ـديد، فلم تتحلى بالقوة لتواجهه وترفع عينيها في عينيه، جلس علي على الأريكة المقابلة لها، فرك يده بعنف ثم بدأ حديثه بتلعثم:
_ أنا كنت قليل الذوق، بس دا ميمنعش إني مقتنع إنه تصرف غلط، أه هو مش حـ.ـر.ام بس برده المفروض أخلاقنا اللي اتربينا عليها متخليكيش تعملي حاجة زي دي..
لم تتماسك أكثر من ذلك، انسدلت عبراتها بغزارة، حاولت مسحهم مراراً لكنهم يسقطون بقوة أكبر كلما تذكرت إهانته، اقترب منها علي وضمها إليه ثم ردد بنـ.ـد.م:
_ أنا آسف على كل اللي قولته، كان وقت اندفاع مش أكتر وأكيد كنت بهذي يعني، متزعليش يا لولو
رفعت بصرها وأشارت على ذاتها بنبرة مرتجفة إثر بكائها:
_ أنا مش محترمة يا علي؟
قالت جملتها ثم جهشت باكية فأسرع هو في نفي ما قاله:
_ والله العظيم مكنش قصدي، كنت مضايق وبقول أي كلام من غير ما أفكر فيه، أنا واثق فيكي يا لينة وفي أخلاقك، وبعدين يا عبـ.ـيـ.ـطة أنا لو شوفت حاجة زي دي ومضايقتش كنتي تزعلي، لأني انفعالي دا من غيرتي عليكي، غيرتي على عرضي، ما إحنا في الآخر صعايدة ودmنا حامي..
أراد مزاحها فهتف مواصلاً بلهجة صعيدية:
_ كويس إن مطارش فيها رجاب ديي
تفاجئت لينه من حديثه وحدجته بأعين جاحظة فنفى علي جدية حديثه:
_ بهزر يا هبلة، متزعليش عشان خاطري..
اقترب منها وقبل جبينها متسائلاً باهتمام:
_ لسه زعلانة؟
نفت هي بحركة من رأسها فأعاد هو قبلته مرة أخرى، في تلك الأثناء خرج يوسف من المطبخ ووقع على عينيه تلك القُبلة التي اخترقت جبين فتاته، فلم يصمت وصاح رافضاً للأمر:
_ لا لا إحنا اتفقنا تصالحها مش أكتر من كدا..
اقترب منهم ثم سحب لينة من بين يدي علي وضمها إلى صدره ثم وجه حديثه لها:
_ وأنتِ عادي سيباه يبـ.ـو.سك؟
خجلت لينة ولم تجيبه فهتف هو:
_ ماشي، حسابنا بعدين
قهقهت لينة وكذلك علي، ثم تسائل يوسف بفضول:
_ ها اتصافيتو؟
"أيوة"
أردفتها لينة وهي تمسح على عينيها، بينما سحب يوسف مفتاح سيارته من جيب بنطاله ثم ألقاه لعلي الذي لَقِفه قبل أن يسقط أرضاً وأمره:
_ أنزل سخن العربية عشان هنروح مشوار وأنا نازل وراك أهو
أماء علي بقبول وغادر المنزل ليلبي أمر يوسف، على جانب آخر انتهز يوسف فرصة انفرادهما وحادثها في أمراً لم يتقبله إلى الآن:
_ بما إنكم اتصالحتوا فياريت متكرريش العاملة دي تاني، مش بحب صور زي تكون على الموبايل ولو ياستي عايزة توريني حاجة ابقي وريني على الطبيعة
غمز لها فتفاجئت هي بقوله ولكزته في صدره بخفة، بينما واصل يوسف ما يريد قوله:
_ امبـ.ـارح محبتش أكلمك عشان كنتي زعلانة ومحبتش أضغط عليكي..
أرغمت لينة جميع حواسها على الإنتباه لما سيقوله فتابع يوسف حارصاً على عدm التطاول في الحديث:
_ حوار إن شهد تبقى عارفة موضوع الصور اللي اتبعتت لي دي مضايقني..
قاطعته هي مبررة أمرهما:
_ هي والله اقترحت عليا لما لقيتني مضايقة إنك زعلان مني..
تنهد يوسف قبل أن يردف مستاءً:
_ وهي ليه تعرف أصلاً إننا زعلانين؟ أنا فاهم إنها صاحبتك وأقرب واحدة ليكي، بس اللي بينا المفروض محدش تالت يعرفه، إحنا لينا خصوصية مينفعش خالص حد يكون عارفها، لا هي ولا غيرها، اللي بينا يفضل بينا يا لينة
أخذ نفساً عميق ليواصل حديثه:
_ هل مثلا أنتِ جيتي في مرة حكتيلي حاجة تخصكم؟
نفت ذلك بقولها:
_ لأ
تسائل يوسف بجدية:
_ ودا ليه؟
أجابته لينة بخذي:
_ لأنه مينفعش أحكي لك حاجة عن صاحبتي
"بالظبط، إحنا نفس الوضع، مينفعش صاحبتك تعرف حاجة خصوصاً عني ومعاكي، تمام يا لينة؟"
أومأت بالايجاب فأسرع هو في أخذ قُبلة بينما تراجعت هي للخلف سريعاً متفحصة المكان من خلفها ثم عاتبته:
_ بطل بقى حد يشوفنا..
غمز إليه وردد ممازحاً:
_ جت سليمة
نهض وودعها ثم غادر برفقة علي قاصداً مكان بعينه.
***
تململت في الفراش ثم شعرت بظل حجب الضوء أمامها ففتحت عينيها ببطئ، كان يقف أمامها يبتسم بعذوبة، بادلته ابتسامة رقيقة قبل أن تقول:
_ صباح الخير..
"صباح النور، يلا قومي عشان نفطر"
قالها بلال فانتبهت إيمان إلى تلك الصينية التي يمسك بها، اعتدلت من نومتها، بينما اقترب هو من الفراش وجاورها، ازدادت ابتسامتها وهي تجوب الفطور بسعادة.
رفعت نظرها عليه وتسائلت برقة:
_ دا عشاني؟
أماء ثم قبل وجنتها قبل أن يردف:
_ يلا كلي بسرعة عشان اليوم طويل النهاردة
تسائلت هي بفضول:
_ ليه ورانا إيه؟
أخبرها هو مختصراً:
_ هو طويل عليا أنا، لسه هروح للحلاق وهروح على المعرض عشان أتأكد إن كل حاجة تمام، وأرجع ألبس وأنتِ كمان تلبسي ونروح مع بعض
بحماس تسائلت:
_ إيه دا أنت هتاخدني معاك؟
بإسيتاء واضح هلل:
_ طبعاً، لما مرات بلال والي متحضرش افتتاح معرضه الجديد مين اللي يحضر؟
"ممم، أنت أخدني واجهة ليك يعني.."
قالتها إيمان وهي تأخذ شريحة من الخيار ثم قضمتها في انتظار إجابته، تفاجئ بلال بقولها ونفى ظنها:
_ أكيد لأ، أنا عايزك معايا، وبرده ميمنعش إني عايز أقول للناس كلها إن دي مراتي حبيبتي اللي حلمت بيها سنين وأخيراً بقت معايا
تقوس ثغرها ببسمة سعيدة، أشارت إليه بالإقتراب فلم يمانع واقترب منها، فطبعت هي قُبلة على وجنته ورددت:
_ بحبك
"مش أكتر مني"
قالها وهي يُقبل ثغرها الذي صرح بحبه، ثم بدأ في تناول الفطور، حتى صدح رنين الجرس فهم بلال ليعلم من الطارق، فتح الباب وإذا بعامل المكواه قد حضر ومعه حُلة بلال.
أخذها منه بلال ثم أعطاه مالاً وشكره عاد إلى إيمان التي صاحت متسائلة:
_ مين؟
أجابها وهو يعلق حلته في غرفة الثياب:
دا المكوجي جاب البدلة اللي هلبسها..
ثم ارتدى ثيابه وودعها حتى يفعل ما عزم عليه قبل موعد الإفتتاح.
***
صف سيارته أمام إحدى المولات التجارية، ومنه إلى مكان يبيع الحُلل الرجـ.ـالي، ولج برفقة علي فرحب به العامل بذوق، اقترب منه يوسف وهمس له ببعض الكلمـ.ـا.ت في أذنه.
لبى الآخر طلباته وتركهما ثم عاد بعد دقائق معدودة حاملاً بعض الحُلل في يديه ووجه حديثه إلى علي:
_ اتفضل معايا عشان تقيس البدل
تفاجئ علي، ووقف يستوعب ما قيل للتو، مرر أنظاره بين العامل ويوسف وردد سؤاله بعدm استيعاب بعد:
_ هو فيه إيه يا يوسف؟
همس له يوسف بمشاكسة:
_ مينفعش واحد من فريق العمل مع يوسف الراوي يحضر افتتاح بجينز يا علوة
دفعه يوسف للأمام وحثه على السير:
_ يلا عشان مش عندنا وقت كتير
أبدى علي رفضه بحرج:
_ بس يوسف..
قاطعه الآخر حاسماً للأمر:
_ مبسش، يلا بقى بقول معندناش وقت
بادله علي إبتسامة ممتنة ثم رافق العامل، أخذ يرتدي حتى أعجب بإحداهم وشعر بأنها متناسقة مع جسده اليافع وكذلك كان رأي يوسف الذي ما أن انتهى من شراء الحُلة، أوصى بإحضار واحدة أخرى ناهياً حديثه قائلاً:
_ أه تعتبر نفس المقاس، وياريت تتبعت على العنوان دا في أسرع وقت
ترك ورقة لهم بعد أن دون بها العنوان المقصود ثم غادرا المكان، وتوجها إلى الحلاق الخاص بيوسف، التقى ببلال هناك فصافحه ثم جلس ينتظر دوره وكذلك علي.
بعد مدة، قام بالإتصال على شقيقه الذي أجاب من بين أنفاسه اللاهثة:
_ إيه يا يوسف؟
بنبرة هادئة حتى لا يزعج من هم حوله حادثه:
_ أنت فين؟
بفتورٍ قال:
_ طالع على السلم، أنا مسحول في ورق الجيش دا
قهقه يوسف بسخرية وأردف:
_ طب أنجز يلا والبس وتعالالي على المعرض، متتأخرش
قرع زياد الباب أولاً قبل دخوله وأجاب أخيه بنبرة متعبة:
_ تمام، أومال أنت فين؟
"كنت بشتري بدلة لعلي وبعدين روحنا للحلاق"
أردفهم يوسف فصاح الآخر بتهكم:
_ بتفكر في علي وناسي أخوك، شكراً يا برو
أخلى يوسف مسؤوليته عن شيئاً يخصه بقوله:
_ لا معتش ليا دعوة بيك يا شق، أنت نسيت إن دا كان طلبك ولا إيه
تأفف زياد بضجر وصاح بتجهم:
_مكانتش كلمة اتقالت
"مليش فيه بقى، أعتمد على نفسك يا حبيبي، يلا سلام عشان دوري جه"
أنهى يوسف المكالمة سريعاً بينما عاد زياد إلى الباب عنـ.ـد.ما سمع قرع الجرس، عقد حاجبيه بغرابة عنـ.ـد.ما رأى أحد الشباب الذي يجهل هويته وقال:
_ اتفضل
بعملية هتف الشاب وهو يقرأ الإسم المدون على الورقة التي بيده:
_ دا بيت زياد الرواي؟
أماء زياد قبل أن يعرف عن هويته:
_ أيوة أنا زياد، أؤمر؟
ناوله الشاب حاملاً من القماش ثم أعطاه دفتراً وقلماً وقال بعملية:
_ لو سمحت امضيلي هنا بالإستلام
مضى زياد بإسمه ثم أغلق الباب ونظر إلى ذاك الحامل بغرابة، قام بفتحه وتفاجئ بتلك الحُلة التي بداخله، ابتسم بسعادة فحتماً لن ينساه أخيه.
أسرع داخل غرفته ليرتديها ويرى ما أن كانت بحاجة إلى شيء أم لأ..
***
حل المساء، تممَ بلال ويوسف وعلي وجميع العمال على كافة التحضيرات، أنتبه الجميع على سيارة شرطة هائلة قد وقفت أمام المكان، توجه الجميع نحوها وقد شاهدوا رجـ.ـال الشرطة التي تترجل من السيارة في صفوف متساوية ثم صدح صوت قائدهم من المقدmة
_ انتشروا في المكان، مش عايز متر مفيش فيه عسكري
بصوت اهتزت له الأرض صاحوا:
_ تمام يا فنـ.ـد.م
بدأ الجميع يتفرق في زوايا قريبة وأخرى بعيدة، اقترب يوسف من القائد وهتف ممتناً له:
_ شكراً لوجودك يا مراد بيه
ربت مراد على كتف يوسف وردد بعملية:
_ على إيه يا يوسف دا واجبنا، وبعدين طلاما المجرمين دول هربانين لغاية دلوقتي يبقى مش بعيد عليهم يعيدوا اللي حصل تاني..
"ربنا يستر"
رددها يوسف ثم انضم إليهما السيد سمير وخلفه بلال، حمحم يوسف وأوضح ما يحدث للسيد سمير:
_ مراد بيه المسؤول عن أمن المكان، لما طلبت منه قوة للتأمين مترددش أبداً
تصافحا سمير ومراد ثم دعاه للداخل:
_ اتفضل جوا يا فنـ.ـد.م، اتشرفنا بوجودك ووجود رجـ.ـالتك
رافق مراد السيد سمير للداخل بينما لكز بلال يوسف في ذراعه ممازحاً إياه:
_ دا مبقاش افتتاح، دا بقى فيلم كود ٣٦
قلب يوسف عينيه مستاءً قبل أن يردف بعبوس:
_ أنت متعديش حاجة إلا لما تتريق عليها، يا ساتر
تركه وعاد للداخل، تبعه بلال محاولاً اللحاق بخطواته السريعة، كان المكان يضم الكثير من رجـ.ـال الأعمال الذين يتعاملون مع السيد سمير، وأيضاً بعض رجـ.ـال ذوات النفوذ المرموقة.
وأخيراً بعض الجيران الأقارب والمشترين، كانت هناك في الخلفية موسيقى هادئة، تتمايل معها لينة حتى أجبرها يوسف على التوقف بقوله:
_ اتلمي بقى وبطلي هز
رمقته بنظرات مشتعلة قبل أن تردد بملل:
_ الجو ملل أوي، هو الافتتاح كدا بس؟
مالت عليه لتكون قريبة من أذنه وهمست:
_ مفيش آكل؟ فين العشا أنا جوعت!
حرك يوسف رأسه مستنكراً تصرفاتها الخرقاء وصاح عالياً:
_ إحنا مجوعينك يابنتي في إيه؟
تأففت هي ثم تحسست معدتها وأردفت بنبرة ناعمة:
_ جعانة يا سوفي..
أمسك يدها وهتف:
_ تعالى معايا..
"على فين؟"
تسائلت بفضول فأجابها وهو يجوب المكان بنظراته:
_ مش جعانة تعالي وأنا أكلك
سارت بجواره بعد أن استأذنت ممن ترافقهم الطاولة، كانت تسير بعدm استقامة، فكانت تكره ارتداء الكعوب لعدm راحتها فيهم، وقعت نظراتها على تلك الفتاة مرة أخرى، نعم هي تلك المُدللة التي سبق ونتفت لها خصلاتها، تقترب منهم برفقة والدها.
استقامت لينة في سيرها متناسية ألم قدmيها، تسللت بيدها حتى احتضنت ذراعه من الأعلى فقام يوسف بإحاطة يدها تلقائياً بذراعه.
اقتربت منهم الفتاة برفقة والدها الذي رحب بيوسف بحفاوة:
_ الف مبروك يا جو على المكان ربنا يجعله فتحة خير عليكم
قابله يوسف بإبتسامة ودودة ورد عليه بلطف:
_ يارب، شكراً لذوق حضرتك
تدخلت يُمنى مرحبة به وهي تطالع لينة بغيظ شـ.ـديد:
_ مبروك يا جو..
"الله يبـ.ـارك فيكي"
قالها يوسف مختصراً الحديث معها، بينما بدأ يعرف هوية لينة لهما:
_أعرفكم لينة، مراتي
وجه السيد سليمان نظره إليها تلقائياً ومد يده ليصافحها قائلاً:
_ أهلاً وسهلاً بيكي
أسرع يوسف في مصافحته موضحاً بحرج:
_ معلش يا سليمان بيه إحنا مبنسلمش
"ولا يهمك يا جو"
قالها بلطف بينما لم تمرق يُمنى الأمر دون وضع بصمة ساخرة:
_ وعلى كدا مش بتسلمي على بنى أدmين خالص؟
سحبت لينة يدها من ذراع يوسف ومدت يدها لها مرددة بهدوء بالغ:
_ لا إزاي، بسلم طبعاً
مدت لها يُمنى يدها بحتقار شـ.ـديد، لم تلمس يدها بعد وكادت أن تتراجع مستهزئة بها لكن لينة لم تعطي لها الفرصة في فعل ما يحلو لها، بل شـ.ـدت على يدها بكل ما أوتيت بقوة فآنت الأخرى بألم، تقوس ثغر لينة ببسمة ساخرة ورددت بتهكم:
_ إيه مالك سلامتك، إيدك مش متعودة على سلام البني أدmين ولا إيه؟
اغتاظت الأخرى من تصرفها وأسلوبها الوقح ثم هدرت وهي تبتعد عنهم:
_ يلا يا دادي
تعجب سليمان من تصرف ابنته واستاذن من يوسف ثم تبعها، لم يكن يوسف أقل غرابة منه، فما حدث أمامه لم يكن عادياً، نظر إلى لينة التي تتابع هرولة الآخرى والإنتصار واضحاً على ثغرها الذي يبتسم ببلاهة وتسائل مستفسراً:
_ هو إيه اللي حصل دا؟
بلا مبالاة أجابته:
_ سيبك منها دي منفسنا مني..
فغر يوسف فاهه بذهول وردد بتهكم:
_ ودي هتنفسن منك ليه؟
رفعت لينة حاجبيها الأيسر وبلهجة مستاءة سألته:
_ أنت تقصد إيه؟
بتلقائية قال:
_ لا بجد بسأل عادي، هتنفسن منك ليه؟ أنتوا تعرفوا بعض أصلاً؟
أجابته بعجرفة:
_ أصل علمت عليها قبل كدا، ويلا بقى عشان جعانة
أولاته ظهرها وأسبقت بعدة خطوات هاربة منه لكنه لحق بها وأعادها إليه وهو يردد آخر ما قالته:
_ علمتي عليها؟ إزاي يعني؟
عضت على شفتيها لكنها تحلت بالشجاعة وأخبرته عما فعلته سابقاً:
_ يوم ما شوفتها معاك هناك كان بتتمايع وتتدلع وأنا مقدرتش أتفرج وأنا ساكتة، دخلت وراها الحمام وجبتها من شعرها.
فغر يوسف فاهه بصدmة هاتفاً بعدm تصديق:
_ جبتيها من شعرها!!
أكدت هي فعلتها بإيماءة من رأسها وتابعت:
_ وقولتلها لو مخرجتش خلصت بسرعة هطلعه في إيدي
هتفت وهي تكز أسنانها بغيرة واضحة، بينما وضع يوسف يده على فمه مذهولاً، ظل يحرك رأسه باستنكار وتذكر جيداً تحول يُمنى المفاجئ حينها وتعجبه من مغادرتها سريعاً وهتف متسائلاً:
_ أنتِ بجد عملتي كدا؟
اقتربت منه وبغيره أردفت:
_ أعمل كدا وأكتر كمان لو واحدة بصت لك بس، أكلها بسناني!
لم يمنع يوسف ابتسامته التي تشكلت عفوياً على شفتيه، حقاً لا يصدق أنها فعلت ذلك، شاركته لينة الضحك براحة حينما لم تشعر بضجره، دفعها يوسف للأمام بخفة وأردف ممازحاً:
_ طب يلا قدامي..
اصطحبها يوسف إلى مكان الطعام، وقف أمام الطاولة المستطيلة التي يعلوها أصنافاً عديدة من الأطعمة المختلفة والشهية، أمرهما يوسف برفع الغطاء حتى يسهل على فتاته اختيار ما تريد تناوله.
أخذت طبقاً وانتقت من الطعام ما تحبه وتشتهيه ثم أخذها يوسف إلى مكانٍ بعيد عن الجميع لتكن على راحتها، بعد مدة نهض يوسف بعد انتهائها من الطعام وعاد إلى الجميع ثم أمروا بتقديم الطعام للجميع حينما حان وقته.
وفي النهاية، وقف السيد سمير برفقة بلال ويوسف في المقدmة وفريق عمله الجديد في الخلفية أمام المعرض ليلتقط أحد الصحافة صوراً ويطبعها على أوراق المجلات الإقتصادية.
اقترب يوسف من لينة وهمس لها سؤاله:
_ تيجي نروح بيتنا؟
لم تكتشف قصده ورددت بعدm فهم:
_ بيتنا!، ما إحنا كدا كدا رايحين
أوضح لها ما يقصده:
_ قصدي بيتي أنا وأنتِ، نشوفه مع بعض
تحمست لينة للغاية وهتفت بقبول:
_ موافقة طبعاً
طلب يوسف سيارة لذهاب والدته وأخيه إلى منطقتهم بينما اصطحب لينة في طريقهم إلى عُشهم الجديد.
***
خطت بقدmيها للداخل وكان هو تابعاً لها، واضع يديه على عينيها ثم أزاحهما حينما دلفا المنزل، اتسعت عيني لينة بذهول شـ.ـديد، طالعت المكان من حولها بإعجاب واضح وهللت بسعادة:
_ الله، المكان واسع أوي..
التفتت إليه وطاعته بعينان لامعتين قبل أن تتسائل وهي تشير على ذاتها:
_ كل دا بتاعي لوحدي؟
أماء لها مؤكداً مع رسمه لبسمة عـ.ـذ.بة، فأولاته ظهرها تتفقد تلك المساحة الهائلة، بينما اقترب منها يوسف وأمسك بيدها قبل أن يردد بحماس:
_ تعالي أفرجك بقية المكان
لم تمانع بل سارت بجواره وهي تشاهد كل ثغره به، حتى انتهت حركتهم إلى أحد الغرف التي تعمد يوسف تركها للنهاية، قام بعناق لينته من ظهرها مستنداً بذفته على كتفها وأردف:
_ دي بقى أوضتنا أنا وأنتِ وبس!
أدارها بيديه وطالع عينيها بحب قبل أن يسألها:
_ ها، عجبتك؟
"جداً، أحلى حاجة إن المكان واسع والمطبخ مساحته تحفة هقدر أعمل فيه اللي رسمت له، والأحلى من كل دا إن دا بيتنا لوحدنا"
هتفت بحماس، ثم تشبثت في عنقه وبدلال قالت:
_ ما تيجي نتجوز بجد يا يوسف
رفع يوسف عينيه للأعلى وردد قائلاً:
_ مش خلصنا من الموضوع دا الصبح يا لي لي؟!
تنهدت هي وأخبرته عما يجول في خاطرها:
_ مش قصدي على علي، فيه أسباب تانية كتيرة تخليني أطلب منك كدا
ملس على وجنتها بنعومة وقال وهو يتابع حركة شفتيها:
_ إيه هما؟
ابتلعت ريقها وبدأت تقص عليه أسبابها:
_ نفسي أقلع الطرحة يا يوسف، مش معقول لبساها برا البيت وجوا كمان..
تراجعت للخلف وجابت المكان من حولها راسمة مواقف عديدة لها بدون حجاب:
_ نفسي أمشي في البيت وأنا سايبة شعري، مش عايزة أكون مرتبطة بيه طول الوقت، وخايفة أقلعه عشان محدش يجي فجاءة، كفاية ٨سنين أوي مخبياه ورا الطرحة، نفسي أحرره بقى..
اقترب يوسف منها وأحاط خصرها بذراعيها ثم قال بصوت خافت:
_ طب دا سبب إيه الأسباب التانية؟
عضت لينة على شفاها بخجل قبل أن تخبره السبب الثاني:
_ مش بعرف أخد راحتي معاك هناك، دايماً حاسة إني محاصرة ومتراقبة ومش من حقي حتى أتكلم معاك بحرية، صدقني طول ما أنا وأنت هناك مش هقدر أخليك تحس إني مراتك ولا حتى بنت ماشي معاها، أنا بتحرج يا يوسف من ماما ميمي أوي لما أنت بتقرب لي حتى لو بهزار، وبضايق من نظرات زياد اللي بتحسسني إني واقفة قدامه من غير هدوم..
قطب يوسف جبينه وردد بعدm فهم:
_ نظرات زياد!
أسرعت هي في توضيح الأمر:
_ متفهمش غلط، بس أنت عارفه كويس وإنه مش بيسيب فرصة وإلا ولازم يعلق على وجودنا مع بعض، وأنا بتحرج أوي، وبعدين مش لطيف يعني كل لما يرجع لإما يلاقيك خارج من أوضتي أو أنا اللي خارجة من أوضتك، الموضوع بايخ أوي يا يوسف..
أخرج يوسف تنهيدة حارة قبل أن يهتف:
_ بس المشوار لسه قدامك كتير أوي يا لينة عشان ناخد خطوة زي دي، دا أنتِ لسه مدخلتيش الجامعة!
حاولت إقناعه بأسلوبها المدلل:
_ وإيه يعني؟ أكمل وإحنا مع بعض في بيتنا، فين المشكلة؟
ابتعد عنها وهو يخبرها أين المشكلة بالتحديد:
_ فيها كتير يا لينة، جامعة ومذاكرة وكورسات وحاجات لسه مت عـ.ـر.فيش عنها حاجة متنفعش مع جواز ومسؤولية
التفت إليها وبنبرة ماكرة هدر:
_ وفوق كل دول حقوقي..
غمز إليها قبل أن يتابع:
_ وأنا ممكن أسامح في كله إلا دي، آه
أسرعت في الرد عليه بلهفة:
_ والله ما هقصر معاك، هحاول أعمل كل اللي في إيدي عشان أوفق بين دراستي وبين..
قاطعها يوسف برفض تام:
_ وليه؟ ليه تضغطي نفسك وتحمليها فوق طاقتها؟
نكست لينة رأسها بحـ.ـز.ن، فلم تجد ما تقوله، على ما يبدو أنه لا يريد الزواج منها، استشف يوسف ما يدور في عقلها، اقترب منها ورفع وجهها بإصبعه فتقابلت نظراتهم معاً ثم قال هو:
_ تفتكري مثلاً إني مش نفسي أخد الخطوة دي؟
بإقتضاب هدرت:
_ كلامك بيقول كدا
لم يعير ردها الساذج اهتمام بل هتف هو بنبرة رخيمة:
_ لو فكرتي شوية، هتلاقي إني سني مش صغير، والحمدلله مادياً كويس، شقتي موجودة ومش ناقصني أي حاجة على إني أخد خطوة الجواز دي، يعني أنا بتكلم عشان مصلحتك، أنا مش حابب أحملك فوق طاقتك، وتفضلي طول الوقت في صراع إنك مقصرة في حاجة لإما في دراسة أو مسؤولية، وبعدين أنا لا يفرق معايا لا طبيخ ولا حقوقي ولا أي حاجة غيرك، أنا بفكر فيكي أكتر ما أنتِ بتفكري في نفسك..
طالعته بامتنان ورددت برقة:
_ وعشان كدا أنا مش خايفة إني بطلب طلب كبير زي دا، كان ممكن أخاف لو مكنتش هكون معاك، بس أنا عارفة إنك هتقف جنبي وتدعمني ولو قصرت مش هتعاتب بالعكس هتحاول تسد أنت النقص دا مكاني
احتضنت يديه بيدها الصغيرة واسترسلت متوسلة:
_ صدقني راحتي هتكون هنا يا يوسف، معاك ولوحدنا!
طالعها لوقت، فالكثير من المشاعر قد انتابته حينها، الحماس والسعادة، والقلق والخوف وغيرهم، لا يريد التسرع في أمر كبير فيه مصيرها، حمحم وأردف بعقل حكيم:
_ سيبني أفكر شوية، الموضوع مش سهل زي ما أنتِ فاكرة
تأففت لينة ثم ابتعدت عنه وهتفت بتذمر:
_ أنا عايزة أمشي
عاد إليها وبنبرة تحذير صاح:
_ أنا مبحبش طريقة لوي الدراع دي، مش معنى إن زعلك غالي عندي تعملي كدا عشان أوافق!
أسرعت في نفي ظنه بقولها:
_ لا طبعاً أنا مش بعمل كدا عشان أضغط عليك، بس مش هنكر إني اضايقت..
نكست رأسها في خجل وحـ.ـز.ن معاً فتابع الآخر:
_ مش كل الأمور تتاخد من منظورك أنتِ، أنتِ لسه صغيرة ومش هتفهمي كلامي غير لما تكبري وتلاقيكي مش عارفة تاخدي قرار في أي موضوع فيه مصير ناس بتحبيهم.
أومأت بتفهم قبل أن تعيد طلبها:
_ طيب هنمشي امتى؟
قلب يوسف عينيه مستاءً وقال:
_ عايزة تمشي، إحنا لسه اتسلينا؟!
رمقته هي فاستشفت ما يقصده من خلف نظراته وابتسامته الماكرة، تراجعت للخلف ثم ركضت بعيداً عنه مهللة بانتصار:
_ دا لو عرفت تمسكني بقى..
لم يقف مكانه وركض خلفها، كلما ظن أنها في غرفة ما لم يجدها، حتى أمسك بها فصرخت عالياً بتزمجر:
_ لأ بقى، أوف
قهقه هو ساخراً من خسارتها، انحنى بقرب أذنها وهمس:
_ مني وإليا تعودي يا لي لي..
اقترب من ثغرها ولثمه بقُبلات ناعمة تحولت إلى نهم ورغبة شـ.ـديدة، لكنه كان ملماً بما يفعله لكي لا يستسلم إلى نفسه الضعيفة، بينما كانت هي تبادله مشاعره بخجل وسعادة لأنها قريبة بما يكفي منه فالطلاما حلمت بذلك منذ زمن.
انتبها كليهما إلى ذاك الصوت الذي تسلل داخل المنزل، تبادلا النظرات المرعوبة ثم تسائلت لينة بخفوت:
_ إيه الصوت دا؟
وضع يوسف إصبعه على فمه هامساً بتحذير:
_ ششش، خليكي هنا
أولاها ظهره فهمست هي بخوف عارم:
_ يوسف، متسبنيش لوحدي..
أشار لها بالهدوء ثم خرج بخطى متهملة ليعلم مصدر ذاك الصوت حتى تفاجئ بوقوف أحدهم أمامه فهتف سؤاله برعـ.ـب:
_ أنت مين؟
↚
"أنت مين"
تسائل يوسف بذُعر تملكه لكنه تحلى بالثبات والحدة في نبرته حتى لا يُستهان به، وبنبرة غلظة صاح الآخر:
_ أني بردك اللي مين، أني يا سيدي بواب العمارة، أنتِ مين وبتعمل إيه إهنه؟
تنهد يوسف ببعض الراحة وأجابه بجدية:
_ أنا يوسف الراوي، صاحب الشقة
حمحم الرجل بحرج وقد تراجع عن حدة صوته:
_ أني آسف يا بيه، بس الجيران سمعوا صوت صراخ في الشجة وجالولي أشوف الصوت ديه مصدره إيه فجيت جري
أماء يوسف بتفهم وأردف بصوته الرخيم:
_ حصل خير يا عم..
"خدامك راضي يا بيه"
هتف بها الحارس فاستنكر يوسف تقليله من شأنه وعاتبه وهو يربت على كتفه:
_ متقولش كدا يا راجـ.ـل يا طيب، أنت على راسي، وبعدين أنا مش بيه أنا يوسف عادي..
ابتسم له الرجل قبل أن يردد:
_ ودي تيچي كيف ديي، الناس مجامـ.ـا.ت بردك يا يوسف بيه
استاء يوسف من ترديده لتلك الكلمة وصاح بتهكم:
_ يا سيدي لو لازم ألقاب يعني قولي يا يوسف باشا..
تفاجئ الحارس برده فانفجر يوسف ضاحكاً وعدل على حديثه:
_ بهزر معاك، أنا زي إبنك قولي يا يوسف وبس
"الموضوع هيبجى صعب عليا، طب أسمح لي أناديك بأستاذ يوسف"
هتف الحارس فأراد يوسف إنهاء الحوار:
_ اللي يريحك يا عم راضي..
أنهى جملته فانتبه لنداء لينة المتوجس من خلفه:
_ يوسف..
التفت إليها وأشار لها بالإقتراب قائلاً:
_ تعالي يا لينة، دا عم راضي البواب
عرف يوسف عن هويتها حينما رأى التساؤلات في عيني الحارس:
_ لينة مراتي ياعم راضي
رحب بها راضي بترحيب حافل:
_ يا أهلاً وسهلاً يا ست الدار
عقدت لينة حاجبيها وتبادلت النظرات مع يوسف الذي أوحى إليها بإشارة من عينيه أن تجاري الأمر فقالت هي مختصرة:
_ أهلاً بحضرتك
حمحم راضي وبصوت خشن تسائل بفضول:
_ أومال ليه معتعش إهنه طلاما متچوز؟
أوضح له يوسف حقيقة زواجهما:
_ إحنا عاقدين لسه ياعم راضي وان شاءالله الفرح قريب، عشان كدا جينا نتفرج ونشوف هنبدأ فيها منين
بإبتسامة طيبة صاح الآخر متمنياً لهما التـ.ـو.فيق:
_ ربنا يوفجكم ويسرلكم أموركم يارب، والشجة تنور بيكم جريب
"اللهم آمين"
عقب يوسف على دعائه ثم نظر إلى فتاته وقال:
_ ها نمشي؟
أومـ.ـا.ت هي بتلهف فهي تريد المغادرة سريعاً، ودع يوسف الحارس الذي رافقهما إلى الأسفل ثم استقلا السيارة وتحركا مبتعدين عن المكان، أخرجت لينة زفيراً وقالت:
_ أنا كنت مرعوبة يا يوسف، هو إزاي معاه مفتاح ويدخل أي شقة كدا من غير إذن صحابها؟
"طبيعي يكون معاه مفتاح طلاما الشقة لسه فاضية، عشان لو قدر الله حصل فيها حاجة يقدر يسيطر على الوضع، بس الوضع هيتغير أكيد بعد ما نسكن فيها"
أخبرها يوسف فهتفت هي سؤالها بحماس:
_ أيوة يعني هنسكن فيها امتى برده؟
قهقه يوسف وعلق مازحاً:
_ يابت أنتِ واقعة للدرجة دي، اتقلي حبة، سبيلي فرصة أنا اللي أقول عايز اتجوزك
عقدت ذراعيها عند صدرها وهاجمته بحُنق:
_ وأنت إن شاءالله مش عايز ولا إيه؟
أسرع يوسف في نفي حدسها بقوله:
_ هو أنا أطول برده..
رمقته بطرف عينيها ولم تروق لها كلمـ.ـا.ته، مد يوسف يده والتقط يدها ثم طبع قُبلة عليها مردداً:
_ طيب أثبت لك إزاي إني بحبك وبتمنى اليوم اللي أكون فيه أنا وأنتِ لوحدنا؟
عضت هي على شفاها، تفكر فيما ستخبره ثم رددت:
_ شوف أنت بقى هتثبت لي إزاي
غمز إليها فهو مُلم بما تريد سماعه وقال ببسمة جذابة:
_ انسي إني أقول اللي عايزة تسمعيه، لما أفكر الأول..
سحبت يدها وأعادت عقدهما ثم هتفت بتحدٍ:
_ براحتك، بس متبقاش تزعل بقى
"أزعل من إيه؟"
سألها بفضول فأجابت وهي تتابع الطريق:
_ هتشوف بنفسك..
لم يعقب يوسف، حتماً ذلك هراء ليس إلا، وصلا إلى منطقتهم وصف سيارته ثم رافقها إلى الأعلى، لم يتبادلا الأحاديث حتى اختفت هي خلف باب غرفتها سريعاً، فتركها يوسف على راحتها حتى لا تفاتحه في الأمر قبل أن يعطيه حقه في التفكير.
***
ركل الباب بعنف وصاح بعصبية بالغة:
_ أنا عايز أعرف طول القاعدة بتتكلمي معاه في إيه؟
تعجبت من سؤاله ناهيك عن ثورته المبالغة وردت بهدوء يشوبه الغرابة من أمره:
_ في إيه يا بلال الموضوع مش مستاهل كل دا
ازداد غضبه أضعافاً وصاح عالياً:
_ هو إيه اللي مش مستاهل؟ دا أنا كل ما عيني تقع عليكي ألاقيكي بتكلميه!
عدلت إيمان على حديثه:
_ هو اللي بيكلمني مش انا..
بلهجة لا تسمح النقاش هدر:
_ هتفرق يعني؟
بتلقائية قالت:
_ تفرق طبعاً، أنا موجهتش كلام ليه ولا لغيرو، هو اللي كل شوية سؤال شكل، ويحكي لي عن نفسه وحياته مع مـ.ـر.اته وعلى فكرة بقى واضح جداً إن دي شخصيته يعني مش بيكلمني متعمد مثلاً، لأن نظرت أختك وجملتها لما قالتلي استلمي بقى مش هتخلصي النهاردة يدل على إن دي طبيعته..
برفض تام لتلك المبررات الواهية هدر:
_ مليش دعوة شخصيته ولا زفت، ليا دعوة إنك كنتي بتتكلمي معاه، وأنتِ عارفة إني مش بطيقه!
تأففت إيمان وارتفعت نبرتها مثله تماماً ولم تخضع لإتهامه:
_ أنت عايزني أعمل إيه لما يوجه ليا كلام، أبص النحية التانية ومردش قدام أهلك اللي هيقولوا عليا قليلة الذوق؟!
"كنتي تعملي أي حاجة ولا تتكلمي معاه"
كان بلال يضغط عليها كثيراً وهي قليلة الحيلة لا تنجح في إقناعه بشتى الطرق، اقتربت من أحد المزهريات حين نفذ صبرها ثم قامت بإلقائها فتناثرت أشلائها في زوايا متفرقة.
رمقها بلال بنظرات مشتعلة وصاح بغضب وهو يبحث عن مزهرية أخرى:
_ طب أهو
أردف جملته وهو يلقي بالمزهرية أرضاً فتحطمت هي الأخرى، لم يتوقفا عن الصراخ أمام بعضهما حتى طُرق الباب فتوجه بلال لفتحه والغضب يتوهج من عينيه، تفاجئ بوجود والديه، الذي انهالا عليه بالأسئلة:
_ إيه الزعيق دا؟
وإيه صوت التكسير دا؟
في إيه مالكم يولاد؟ والعديد من الأسئلة التي حاصرت بلال.
بنبرة أمرة هدر السيد سمير متسائلاً:
_ ممكن أفهم صوتك جايب لآخر البيت ليه؟
نكس بلال رأسه بخذي وحاول ضبط صوته حتى لا يكون وقحاً مع أبيه وقال:
_ مفيش، شـ.ـدينا شوية
تدخلت شهيرة مستنكرة رده:
_ شـ.ـديتو إيه بس، دا البيت اتكـ.ـسر..
كانت إيمان تقف رافضة وجودهما، فلقد فُضحت تماماً، أوصدت عينيها بضيق، اقتربت منها شهيرة وربتت على ظهرها بحنو قائلة:
_ شكلكم اتحسدتوا والله
أخذ سمير بلال على جانب وعاتبه بنبرة خشنة:
_ الراجـ.ـل صوته ميخرجش برا بيته، لكن اللي يعلي صوته دا ويسمع الناس عليه ميسواش ٣ نكلة في سوق الرجـ.ـا.لة، حل مشاكلك من غير ما تسمع حد عليكم، أول وآخر مرة أسمع لك أنت ولا هي صوت، مفهوم؟
أماء بلال بطاعه بينما نادى سمير على زوجته بحدة:
_ يلا يا شهيرة، عشان ننزل هما هيعرفوا يحلو مشاكلهم لوحدهم
أماءت بقبول ثم همست لايمان:
_ أهدى واستغفري يا حبيبتي دا شيطان ودخل بينكم
ارتعبت شهيرة حين صاح سمير أمراً:
_ قولت يلا يا شهيرة
"حاضر جيت أهو"
هتفت بها شهيرة وهي تهرول للخارج، لكنها لم تغادر قبل قول ما لديها لولدها بنبرة سريعة:
_ راضوا بعض متناموش زعلانين
أنهت جملتها ثم أغلقت الباب خلفها، بينما وجه بلال نظريه عليها فرأى عتابها الذي يتوهج في عينيها، أولاته ظهرها وأسرعت نحو الغرفة، وبدأت تخلع ثيابها وعبراتها تتساقط خجلاً من والديه الذي رأوهم على حالتهم تلك.
لم يقف بلال مكانه وتوجه إليها، ولج غرفة الملابس واقترب منها محاولاً تلطيف ما قام بتعكيره:
_ أنا أسف، بس أنا بغير عليكي أوي وخصوصاً من..
قاطعته إيمان بابتعادعها عنه محذرة إياه:
_ أبعد عني..
لم يقبل بأمرها وعاد إليها مجبرها على الالتفاف إليه ثم قيد حركة ذراعيها بوضعه لهما خلف ظهرها وأردف كلمـ.ـا.ته بخفوت:
_ والله بغير عليكي من الهوى، وأنا عصبي ولما بتعصب مبشوفش قدامي، متزعليش بقى
أخفضت رأسها رافضة محادثته، فأعاد محاولاته بلطف:
_ ممكن تقدري غيرتي عليكي لو سمحتي!
صوبت إيمان بصرها عليه وهدرت من بين أسنانها:
_ أسلوبك اللي يوصلنا للي وصلنا ليه دا مش غيرة!
وضعت إصبعها على صدره وواصلت بحُنق:
_ دا شك!
حررت جسدها من بين قبضته بكل قوتها وأولاته ظهرها متذمرة، وقف بلال مذهولاً من ظنها به، لم يتقبله قط وعاد إليها ثم وقف مقابلها وقال:
_ أنتِ عبـ.ـيـ.ـطة صح؟
قلبت عينيها مستاءة فهتف هو:
_ يمكن الأسلوب غلط بس مش شك يا إيمان
نفخت إيمان بضجر بائن حينما تذكرت وجود والديه وصاحت منفعلة:
_ أنا مضايقنيش في الموضوع كله غير وجود أهلك! صوتك كان عالي لدرجة إنهم طلعوا بسببه، منظري كان وحش جداً قدامهم، طالعين على صوت ابنهم وهو بيزعق لي!!
أوف بجد كل ما بفتكر بتعصب أكتر
أحاط بلال خصرها وبنـ.ـد.م واضح هدر:
_ بجد أسف، هحاول أسيطر على عصبيتي بعد كدا
انحنى على شفتيها مقبلاً إياها بنعومة ثم ردد من بين قُبلاته:
_ خلاص بقى أخر مرة..
بعد عدة محاولات نجح بلال في تبخر غضبها، تراجعت إيمان وبتحدٍ أمرته:
_ لو عايزني مبقاش زعلانة روح لم اللي اتكـ.ـسر برا
شهق بلال وصاح رافضاً للأمر:
_ نعم؟ أنتِ فاكراني عشان قولت آسف أبقى عيل توتو وألم اللي اتكـ.ـسر؟ دا أنتِ بتحلمي..
بعد قليل صدحت ضحكات إيمان وهي تشاهده يجمع حطام المزهريات، طالعها بغيظ وبنبرة مستاءة هتف:
_ لو مكنتيش تحلفي بس
ازداد ضحكها وهي تردد من بينه:
_ بس أنا محلفتش!
رمقها بلال للحظات قبل أن يردد بصدmة:
_ إيه دا بجد، محلفتيش؟!
أماءت بتأكيد فزفر بضيق وتابع جمعه لأشلاء المزهرية دون إضافة المزيد، جاورته إيمان وساعدته في جمع بقية الحطام المتناثر حتى انتهوا منه، أحضرت المكنسة الكهربائية وقامت بتنظيف الأرضية لتضمن عدm وجود المزيد.
تفاجئت إيمان بغلق بلال للمكنسة وقبل أن تلتفت لتعلم السبب كانت تحلق في الهواء، صرخت بخفة وعاتبته على تصرفه المفاجئ:
_ نفسي تبطل تعمل كدا، بتخض
"سلامتك من الخضة"
قالها بلال ساخراً فهتفت سؤالها:
_ أنت موديني فين؟
أجابها وهو يدلف الغرفة:
_ هعـ.ـا.قبك عشان تحرمي تعلي صوتك عليا
اتسعت حدقتيها بذهول هاتفة مستاءة:
_ أنا اللي عليت صوتي؟ وسمعت أهلك علينا، أيوة صح..
وضعها على الفراش ولم يعير حديثها إهتمام فلقد تاه بين عشقه معاها حتى أجبرها على تناسي الأمر ومبادلته مشاعره.
في الطابق الأول،
جلست شهيرة تندب:
_ فاتهم دلوقتي لسه بيتخانقوا، هو أنا مش عارفة إبني ودmاغه!
تأفف سمير حينما فشل أن ينام وصاح بنبرة مختنقة:
_ ياستي نامي بقى هما حرين مع بعض
رمقته بعدm راحة ورددت:
_ الهدوء دا مش مطمني..
انتفضت من مكانها هاتفة بقلق:
_ أطلع أطمن عليهم؟
انتفض سمير من مكانه وبعصبية مبالغة هدر:
_ أقسم بالله يا شهيرة إن ما جيتي نمتي لمعكنن عليكي، هما عيال صغيرة؟ أنا طلعت بس لما صوتهم كان عالي وخلاص خلصنا مش كل شوية هنط لهم
نفخت بضجر ثم توجهت إلى الفراش، أولاته ظهرها لكن لم يأتيها النعاس فعقلها منشغل مع الآخرين.
***
صباحاً،
خرج يوسف من غرفته بعد أن ارتدى ثياب عمله، توجه إلى الردهة حيث صوت نساء المنزل، انحنى على والدته وقبل جبينها مردداً:
_ صباح الخير..
رددن عليه التحية في آن واحد:
_ صباح النور
اقترب من فتاته وكذلك طبع قُبلة على خصلاتها ثم عاتبها بلطف:
_ مش قولت بلاش قلع طرحة برا الأوضة؟
بعفوية أوضحت له:
_ زياد مش هنا هلبسها ليه بقى؟
مال يوسف برأسه يميناً ويساراً مصدراً طقطقة عنقه، ثم استند على كتف لينة متسائلاً باهتمام:
_ زياد فين؟
تولت والدته مهمة الرد:
_ بيخلص ورق الجيش يا حبيبي
"أنت كسلان كدا ليه؟"
تسائلت لينة مستفسرة فرد هو بنبرة تكاد تسمع:
_ مش عارف مليش مزاج أعمل أي حاجة النهاردة..
مالت لينة برأسها وسألته بفضول:
_ ها، فكرت؟
تصنع يوسف جهله وسألها بجدية:
_ في إيه؟
تأففت لينة بنفاذ صبر ثم وجهت حديثها إلى السيدة ميمي مستاءة من عدm مبالاة يوسف:
_ يرضيكي يا ماما أقوله تعالى نتجوز وهو يقولي سبيني أفكر؟!
تفاجئت ميمي بطلبها ورددت باهتمام:
_ وأنتِ مستعجلة على إيه لسه قدامك بدري
قهقه يوسف عالياً وصاح:
_ دا اللي بقوله، بس مين يفهم
تذمرت لينة وعقدت ذراعيها عند صدرها بينما تحدثت ميمي بحكمة:
_ طيب أنتِ إيه اللي خلاكي تفكري في كدا؟
رفع يوسف عينيه عليها بسعادة لوقوعها في ذاك الموقف وردد بتحدٍ:
_ قوليلها بقى
غمز إليها فشعرت لينة أنها محاصرة، حمحمت وحاولت إبعادها عن الأسباب:
_ بغض النظر عن الأسباب يعني، ينفع يقولي أنا اللي أطلب وهو يقولي هفكر؟
حاولت ميمي إقناعها بكلمـ.ـا.تها:
_ يا حبيبتي الدراسة والجواز كل واحد فيهم مسؤولية كبيرة أوي ما بالك بقى بالإتنين مع بعض، وأنتِ خبرتك لسه قليلة، هتلاقي نفسك فجاءة مسؤولة عن مذاكرة وبيت وراجـ.ـل مش هتقدري توفقي صدقيني..
أخذ يوسف زجاجة المياه من أمامه ليرتشف القليل بينما لم تقتنع لينة بما قالته وأردفت هي وجهة نظرها:
_ بس هو قالي ميهموش لا طبخ ولا مسؤولية ولا حتى حقوقه كراجـ.ـل...
شرق يوسف بعدmا وقعت كلمـ.ـا.تها على أذنيه، توقفت لينة عن الحديث وضـ.ـر.بت ظهره بقوة حتى يسترد روحه، طالعها يوسف بذهول ثم همس من بين أسنانه المتلاحمة:
_ إيه اللي أنتِ بتقوليه دا؟؟
لم تعي أي نقطة علق عليها فهتفت:
_ بحاول أوريها إن مفيش مشكلة!
حرك يوسف رأسه مستنكراً عدm مبالاتها لما وضعتهما فيه، نهض عن الأريكة وأردف كلمـ.ـا.ته دون أن يواجه عيناي والدته:
_ أنا نازل الشغل..
وسرعان ما اختفى خلف الباب، عادت لينة إلى السيدة ميمي بنظراتها متسائلة بغرابة:
_ هو ماله؟
ابتسمت ميمي وسألتها بتلقائية:
_ أنتِ عارفة يا لينة إيه هي الحقوق دي؟
نظرت للأعلى تفكر ثم عادت بنظريها إليها وأشارت على عُقلة من إصبعها قبل أن تردف:
_ قد كدا..
لم تمنع ميمي قهقهتها العفوية ثم أشارت على إصبع لينة بالكامل قبل أن تقول:
_ طيب تعالي لما أعرفك حبة قد كدا..
أجبرت لينة أذنيها على الإستماع جيداً بينما بدأت تخبرها السيدة ميمي بما تجهله هي.
***
تبعته إيمان إلى الخارج، فتح بلال الباب فتفاجئ بوقوف والدته، رحب بها ودعاها للداخل قائلاً:
_ تعالي..
مررت بصرها بين بلال وإيمان وتسائلت بفضول:
_ ها صالحتها؟
ردد هو ممازحاً:
_ أيوة عـ.ـا.قبتها
عقدت حاجبيها بغرابة ورددت:
_ نعم
"بقولك صالحتها"
عدل بلال على ما قاله، فأمأت والدته بتفهم بينما حاولت إيمان إخفاء ضحكتها، نظر إليها بلال وغمز إليها ثم وجه حديثه لها:
_ مش أنا عـ.ـا.قبتك؟
اتسعت حدقتاها بذهول فهتف معدلاً كلمته:
_ قصدي صالحتك؟
اكتفت بإيماءة من رأسها وهي تكاد تنفجر ضحكاً، حركت شهيرة رأسها باستنكار لتصرفاته البلهاء وهتفت مستاءة:
_ أنت مالك ياواد مش مجمع أنت بتقول إيه ليه؟ والله شكلها هي اللي عـ.ـا.قبتك بجد
تفاجئ بلال بردها وصاح رافضاً لما قالته للتو:
_ لا لا مسمحلكيش!
"متسمحش بإيه"
تسائلت شهيرة بحاجبان معقودان بينما تدخلت إيمان بقربها منهما ثم حاوطت ذراع بلال ودفعته للخارج مرددة:
_ يلا يا حبيبي مع السلامة مش ناقصين لخبطة في الكلام
مال بلال عليها وهمس بكلمـ.ـا.ته:
_ تيجي أقولها صالحتك إزاي؟
نفخت إيمان بنفاذ صبر ثم هتفت وهي تحرر يدها من ذراعه:
_ يوم سعيد ياروحي يلا باي باي
أغلقت الباب في وجهه فصاح هو من الخارج:
_ عشان تطمن بس
لم تستطيع تمالك ضحكها فتسائلت شهيرة عن سبب غرابة ولدها:
_ هو ماله النهاردة؟
اقتربت منها إيمان مجيبة إياها بتلعثم:
_ ها، سيبك منه، بلال أوقات بيعمل حاجات غريبة
رافقتها شهيرة للداخل وتناولن بعض الأحاديث النسائية التي لا تنتهي أبداً.
***
في العمل، يجلس يوسف في مكتبه يراسل فتاته التي لا تكف عن السؤال والضغط عليه، حتى نفذ صبره وأرسل لها:
"بليل هقولك رأيي الأخير، بس مش عايز كلام في الموضوع دا من هنا لبليل"
لينة: "تمام"
ترك يوسف هاتفه ثم خرج يتفقد أحوال المكان، اقترب من أحدهم وربت على ظهره داعماً إياه:
_ عاش يا عيسى، أخبـ.ـارك إيه
بإمتنان قال:
_ بخير يا ريس
"الأمور ماشية معاك كويس"
تسائل يوسف مهتماً لأمره، فأجابه عيسى برضاء تام:
_ الحمدلله، أنا بحوش دلوقتي عشان أأجر شقة على قدي وأبدأ أجهز فيها
ابتسم له يوسف قبل أن يردف:
_ ربنا يعينك، لو احتجت لحاجة أنا موجود
"تسلم يا أستاذ يوسف"
قالها عيسى بلطف بينما توجه يوسف إلى علي المنشغل في هاتفه، اقترب منه بخطوات حذرة ثم لكزه في ظهره هاتفاً:
_ قفشتك، بتعمل إيه؟
شعر علي بالذُعر وسرعان ما أخفى هاتفه فلاحظ يوسف فعلته، فلم يمرق الأمر بسهولة:
_ ممم، بتعمل إيه كدا وخبيت الموبايل لما جيت؟
بتلعثم ردد علي:
_ ها؟
غمز له يوسف وقلد نبرته المرتجفة:
_ ها، قول يا حبيبي قول شكلك وراك مصيبة
أسرع علي في نفي ظنه بقوله:
_ لا والله ولا مصـ يـ بـةولا حاجة، دا أنا بكلم كيندا
قطب يوسف جبينه متسائلاً بفضول مخالط للاهتمام:
_ كيندا!! مين دي؟
حك علي مؤخرة رأسه بإرتباك حرج ثم عرفه من هي بتردد:
_ دي بنت عمي..
"ممم بنت عمك قولتلي"
قالها يوسف بنبرة هادئة مريبة، لكزه يوسف في صدره قبل أن يسأله:
_ بتحبها؟
تفاجئ علي بسؤاله وبدأت أعراض التـ.ـو.تر تظهر على تقاسيمه فأعاد يوسف حديثه بثقة:
_ يبقى بتحبها..
تقوس ثغر علي بإبتسامة خجولة ثم راود عقله سؤالاً فتجهمت تعابيره ولم يتردد في سؤال يوسف بلهفة:
_ يوسف أنت قولت لـ لينة على سفري؟
نفى يوسف بحركة من رأسه وأردف:
_ لا مقولتش مش المفروض أنا اللي أعرفها، بس واجب عليك تعرفها وتعرفها من بدري كمان عشان متتفاجئش، كفاية مرة عملناها وفضل ضميري يأنبني طول مدة غيابك وكل ما كانت بتسأل عنك..
زفر علي وقال بقلة حيلة:
_ أكيد هعرفها، أصلاً معتش قدامي وقت، دا أنا المفروض أمشي على آخر الأسبوع عشان أأكد التقديم، لاني يدوب قدmت إلكتروني بس
تفهم يوسف أمره واستاذن منه ليتابع عمله، بينما عاد علي يتراسل مع ابنة عمه مرةٍ أخرى.
***
حل المساء، عاد يوسف إلى المنزل في وقتٍ متأخر، وقف في المرر الفاصل بين الغرف يطالع باب فتاته، متسائلاً ما أن غفت أم مازالت مستيقظة، لم يفكر كثيراً فلقد فُتح بابها وظهرت من خلفه بعينين متورمتان.
تملك القلق من يوسف وسار نحوها متسائلاً عن سبب حالتها:
_ في إيه مالك؟
وما أن وقع سؤاله على أذنيها حتى جهشت في البكاء، ضمها يوسف لصدره وملس على خصلاتها محاولاً تهدئتها:
_ بس يا لينة إهدى حصل إيه لكل دا؟
حاولت التحدث لكن بكائها منعها، أخذ يوسف نفساً وقال:
_ تعالى لما ندخل جوا..
ولج بها غرفتها ثم جلس كليهما على الفراش وأعاد هو سؤاله:
_ ممكن أعرف حصل إيه؟
من بين شهقاتها أجابته بنبرة غير مفهومة:
_ علي.. هيسافر
زفر يوسف بضجر فالأن علم الأمر، أخرج تنيهدة واسترسل بصوته الرخيم:
_ حياته هناك يا لينة، دراسته وصحابه يمكن عاش حياة صعبة بس في الآخر اتعود على البلد دي، وهو شاب ذكي هيعرف يتأقلم هناك في كل الأحوال والظروف
لم تقتنع بما قاله وأشارت على ذاتها بحسرة قبل أن تردف:
_ طب وأنا، مفكرش فيا؟ مفكرش إنه هيسيبني تاني؟ دا أنا ما صدقت إنه رجع، يقوم يمشي وكأني مش موجودة، دا حتى مسألنيش أنا محتجاه ولا لأ، دا بلغني بس أنه هيسافر كمان كام يوم، من امتى فكر بأنانية كدا؟ هو دا علي اللي حماني من ٨سنين، دا اللي حـ.ـضـ.ـني وطمني وقت ما ماما وأحمد مـ.ـا.تو! اتغير وبقى غريب، حاسة إني معرفوش، بقى بعيد أوي عني لدرجة إني معتش بحس بيه من جوايا زي الأول..
كلمـ.ـا.تها مست قلب يوسف وحـ.ـز.ن لأجلها، لكنه لم يريد أن تحدث فجوة بينهما فقال وهو يتحسس وجنتها برقة:
_ يمكن تفكري إنها أنانية عشان اختار نفسه، بس لو فكرتي للحظة هتلاقي إن قعاده هنا عشانك ظلم..
فغرت لينة فاها كما اتسعت حدقتاها بذهول فأوضح يوسف ما وراء حديثه:
_ يا لينة أنتِ أصلاً مش قاعدة معاه، وخلاص كليتك هتبدأ أول الأسبوع وفيما بعد أنا وأنتِ هنتجوز والمسؤولية عليكي هتزيد، يعني مش هتلاقي وقت تفكري في حد غير نفسك لو افتكرتيها وسط الزحمة اللي هتكوني فيها، وهو هيفضل لوحده، ومهما حاولتي تكوني معاه، غـ.ـصـ.ـب عنك الظروف هتمنعك وهتلاقيكي مقصرة في حقه، فليه بقى تجبريه يقعد هنا طلاما مش هتقدري توفقي بينه وبين مسؤولياتك
وبعدين أنا هعمل كل اللي في أيدي عشان تفضلوا على تواصل، ويمكن وقتها هتقربوا من بعض أكتر من إنه يكون معاكي في نفس البلد..
هدأ بكائها وهي تفكر في حديث يوسف، فلم تجد هناك مشكلة بعد، تنهدت ثم دعت له:
_ ربنا يوفقه..
تقوس ثغر يوسف ببسمة وضمها إلى صدره وهتف بهُيام:
_ بحبك وأنتِ عاقلة كدا
ابتسمت هي وتراجعت للخلف، أسبلت في عينيه لبرهة وهسمت برقة:
_ سيني سيفورم يوسف
أستند يوسف على جبينها وهمس أمام شفتيها:
_ سيني سيفورم لينة
تفاجئت لينة من تصريحه وبلهجة كثيراً ما تعشقها، ابتعدت عنه وهللت بسعادة:
_ أنت قولت إيه؟
غمز إليها بمشاكسة ورفض إعادة ما قاله:
_ هي بتطلع مرة واحدة بس
بتلهف لسماعها مرة أخرى أردفت متوسلة:
_ بليز قولها تاني دا أنا ما صدقت نطقت حاجة تركي
أراد يوسف إلهائها عما تريده فقال:
_ أقولك حاجة أحسن منها..
أومأت فتابع هو:
_ أنا موافق نتجوز!
انتفضت لينة من مكانها ناهيك عن شهقتها التي دوت في الغرفة وصاحت بدون تصديق:
_ قول والله
قهقه يوسف وقال:
_ والله
قفزت عليه دون سابق إنذار صارخة بعدm تصديق فأرغمته على التمدد بسبب تصرفها المفاجئ، حتى اعتلته هي، شعرت بفداحة ما فعلته وكادت أن تنهض إلا أنه رفض ذلك وتمسك بها جيداً.
خفق قلبهما بقوة وهما يتبادلان النظرات في وضعٍ قريب كالذي باتا عليه، وبحركة سريعة من يوسف كان قد عكس وضعهما فبات هو في الأعلى، وضع ذراعيها أعلى رأسها وقيد حركتهما ثم انحنى عليها ليأخذ ما تحثه عليه غريزته.
***
بعد مرور عدة أيام، كان الجميع في مطار القاهرة، يودعون علي قبل مغادرته، لم تستطيع الإبتعاد عنه، فكيف تترك قطعة من روحها، عبراتها تتساقط على قميصه دون توقف.
"خلاص يا لينة الطيارة هتفوته"
قالها يوسف لربما تتركه، رفعت لينة عينيها على أخيها وحذرته بقولها:
_ إياك متكلمنيش، وقت ما توصل وقبل ما تنام وبعد ما تصحى وكل وقت تكلمني تطمني عليك، مفهوم
ابتسم لها وقال بطاعة:
_ حاضر والله، بس بطلي عـ.ـيا.ط بقى
ابتعدت عنه ثم هتفت بعِدة وصايا له:
_ كُل كويس، ونام كويس، ولو احتجت لحاجة كلمني على طول، وأنا هخلص إجراءات بيع البيت بالتوكيل اللي عملتهولي وهحولك نصيبك على طول عشان متحتاجش لحد أبداً
ملس علي بحنو على وجهها ثم قبل جبينها وقال:
_ خلي بالك أنتِ على نفسك
أماءت بقبول، فاقترب يوسف منه وعانقه بحرارة:
_ توصل بالسلامة يا علوة، كلمنا على طول أول ما توصل
بنبرة ممتنة أردف:
_ الله يسلمك يا حبيبي، إن شاء الله
جاء دور زياد الذي ودعه وكذلك السيدة ميمي وبلال، ودعوه بحرارة ثم غادر علي واختفى داخل المطار، فجهشت لينة باكية، لقد اشتاقت إليه قبل مرور خمس دقايق فماذا ستفعل فيما بعد؟
أحتضن يوسف يدها وردد بصوته الرخيم:
_ خلاص بقى لي لي هو دا اللي اتفقنا عليه؟
زمت شفتيها بحـ.ـز.ن شـ.ـديد ورددت:
_ مقدرتش أشوفه ماشي وأمسك نفسي، الفراق دا وحش أوي
انفجرت باكية فحثها يوسف على العودة إلى السيارة:
_ طيب يلا وقفتنا هنا ملهاش لازمة..
استقل يوسف السيارة، رافقته والدته ولينة، بينما رافق زياد بلال في سيارته حتى لا يعود بمفرده، مر وقت ساد الصمت فيه، قبل أن يقطعه يوسف بقوله:
_ بجد مش فاهم ليه مُصرين تبيعو البيت؟
مسحت لينة على عينيها وأخبرته عن سبب بيعهما للمنزل خاصتهم:
_ علي محتاج فلوس عشان المشروع اللي عايز يعمله هناك وعشان يقدر يصرف على نفسه لوقت ما المشروع يمشي، دا غير إني محتاجة حاجات كتير ولازم أجيبها معتش حاجة على الفرح..
نفخ يوسف بعدm إعجاب لآخر ما أردفته وعاتبها مستاءً وهو يطالعها من المرأة الأمامية:
_ وأنتِ طلبتي حاجة وأنا مجبتهاش يا لينة؟
أسرعت في إنكار ذلك بقولها:
_ لا طبعاً، صدقني أنا محتاجة حاجات كتيرة أوي ومش حابة أضغط عليك كل شوية طلبات عشان هكون سخيفة جداً ولو سمحت متضغطش عليا أنا هكون مرتاحة كدا
أخرج تنيهدة ولم يعقب، فإذا كان ذلك سيريحها فليكن ما تريد، تابع طريقه بانتباه حتى وصلا إلى منطقتهم.
صعدا إلى منزلهم ثم وجه يوسف حديثه إلى فتاته أمراً إياها:
_ يلا روحي نامي لك ساعتين قبل ما تصحي للكلية
ابتسمت بعذوبة وتحدثت بلهفة:
_ متحمسة أوي
علق يوسف ساخراً:
_ حلوة فرحة البدايات دي، عايز أشوف الحماس دا بعد مع أول شهر
تذمرت لينة وعاتبته:
_ أول مرة تحبطني في حاجة أكون متحمسة ليها
قهقه يوسف وردد من بين ضحكاته:
_ مش عايز أغشك، وتقعدي ترسمي أحلام وردية في الكلية وياعيني متلاقيهاش
تشـ.ـدقت بعدm إعجاب وأولاته ظهرها وهي تردد:
_ بكرة أخيب ظنك وهتشوف، تصبح على خير
"طب مفيش تصبيرة قبل النوم"
قالها يوسف بتمني فأردفت لينة دون أن تنظر إليه:
_ لا مفيش، عشان تبقى تحبطني كويس
نظرت إليه بتحدٍ قبل أن توصد بابها بينما هتف يوسف متوعداً:
_ ماشي..
***
في الصباح الباكر، أمسك يدها وطبع قُبلة عليها وتمنى لها التـ.ـو.فيق:
_ ربنا يوفقك يا حبيبي، كل ما تلاقي نفسك فاضية كلميني طمنيني عليكي
"أكيد"
أردفتها لينة ثم تفقدت المكان من خلف بحماس شـ.ـديد، عادت بنظريها إليه وقالت مودعة:
_ باي
ودعها يوسف بيده فترجلت من السيارة وولجت بخطاها الحيوية إلى مبنى الجامعة، بحثت عن أسمها حتى وجدت مكانها، ثم أرسلت رسالة إلى يوسف أنها بخير وفي مكانها الأن.
انتهت أول محاضرة وتفاجئت بأخيها يهاتفها، أجابت على الفور وابتسمت بسعادة حين ظهرت صورته على شاشة هاتفها وهللت:
_ وصلت امتى؟
أجابها بنبرة متعبة:
_ يدوب لسه واصل الشقة اللي قاعد فيها مع زمايلي، حبيت أكلمك الأول قبل ما أنام
كان علي يلاحظ المارة من خلفها فسألها بفضول:
_ أنتِ فين؟
عكست لينة الكاميرا لتريه معالم جامعتها بوضوح قبل أن تخبره بمكانها:
_ أنا في الكلية
أعادت وضعية الكاميرا عليها وسألته بإهتمام:
_ هتبدأ امتى؟
رد عليها بتلقائية:
_ الأسبوع الجاي
"تمام يا..."
لم تنهي لينة جملتها بعد حتى تفاجئت بتطاول أحد الشباب عليها بعدmا التقط منها الهاتف:
_ ما تفرجينا معاكي يا عسل
لم تستطيع لينة إعطاء رد فعل، فلازالت متفاجئة بما حدث، هرولت نحوه وبنبرة أمرة هتفت:
_ هات الموبايل
رفع الشاب ذراعيه للأعلى رافضاً إعطائه لها وهدر بسماجة:
_ لو طولتيه خديه
فغر فاهه فظهرت أسنانه السوداء والتي تدل على تعاطيه للمـ.ـخـ.ـد.رات، كانت لينة تخشاه كثيراً فلم تتعرض للتطاول بتلك الوقاحة من قبل، لم يكن في يدها سوى استسماحه لعله يعطيها هاتفها:
_ لو سمحت هات الموبايل..
غمز إليه وهتف بمشاغبة:
_ لأ
تأففت هي ثم صاحت بانفعال شـ.ـديد:
_ هاتي الموبايل وإلا هـ..
قاطعها الشاب بإقترابه منها بوقاحة وتسائل بخفوت:
_ وإلا إيه؟ هتعيطي؟
كان على متابعاً لما يحدث من خلال المكالمة ولم يستطيع فعل شيء فأنهى المكالمة على الفور ثم هاتف يوسف سريعاً..
"حمد لله على السلامة يا علوة"
قالها يوسف فور إجابته، بينما أسرع علي في إخبـ.ـاره بما وقع على أذنيه:
_ سيبك مني يا يوسف، أنا كنت بكلم لينة وفجاءة الصورة اختفت وتقريباً حد شـ.ـد منها الموبايل ومش راضي يرجعولها..
انتفض يوسف من على كرسي مكتبه هاتفاً بحنق:
_ نعم؟ مين دا؟
من بين أنفاسه اللاهثة هدر:
_ معرفش بس شكله كدا عيل شمال..
أغلق يوسف الهاتف وهرول بخطاه إلى الخارج، أثناء وصول بلال الذي تعجب من هرولة يوسف ناهيك عن ملامحه التي لا تبشر بالخير، تبعه للخارج متسائلاً بقلق:
_ في إيه يا يوسف، بتجري كدا ليه؟
لم يجيبه فلم يكن يرى أمامه، استقل سيارته وانطلق بها، لم يقف بلال مكانه وانطلق خلفه حتماً وقعت كارثة حتى يثور هكذا.
وصل يوسف إلى مكان الجامعة، لم يتوقف عن الإتصالات على هاتف لينة، تابع اتصالاته باحثاً عنها في الأرجاء، لكن كيف سيعثر عليها من بين ذاك الحشـ.ـد الكبير.
وقف في منتصف المكان يدور حول نفسه لعل عينيه تقع عليها، نفخ بضيق وتمتم وهو ينظر للهاتف بغضب شـ.ـديد:
_ ردي بقى ردي..
"أنا أهو يا يوسف"
قالتها هي من خلفه، فاستدار إليها ورأى لمعة عينيها التي أكدت له بكائها، زفر أنفاسه وبهدوء ما يسبق العاصفة سألها:
_ مبترديش عليا ليه؟
أجابته بنبرة مهزوزة:
_ كنت عند العميد..
"تعالي وريني الحـ.ـيو.ان اللي عمل كدا"
قالها يوسف بعدm صبر، بينما تفاجئت هي بمعرفته للأمر وتسائلت مستفسرة:
_ أنت عرفت منين؟
خرج يوسف عن صمته وبعصبية بالغة صاح:
_ هو دا وقته؟! فين الحـ.ـيو.ان دا
لم تريد لينة خلق مشكلة أخرى وهتفت:
_ خلاص يا يوسف الموضوع خلص، العميد خلاه يعتذر لي وحذره لو عمل كدا تاني هيتفصل
أوصد يوسف عينيه لبرهة يحاول التحلي بالصبر، فذلك الهراء التي تتفوه به يزيد غضبه ليس إلا، أعاد فتح عينيه ونظر إليها والشر يتطاير من عينيه:
_ مش هعيد سؤالي تاني، هو فين؟
وجهت لينة بصرها خلف يوسف على نقطة ما، فاستدار حيث تنظر حتى وقعت عيناه على شاب يطالعها بسخط، فأراد التأكد من هويته حيث سألها:
_ هو دا؟
"أيوة"
أجابت مختصرة فأمرها يوسف قائلاً:
_ طب ارجعي مدرجك
اقتربت منه رافضة الذهاب لأي مكان وسألته يتوجس:
_ أنت هتعمل إيه؟
لم يجيبها بل تركها وغادر الجامعة، استقل سيارته ولم يتحرك حتى يظهر ذاك الدنيء ويلقنه درساً قاسياً لن ينساه طوال حياته.
خرج بلال من سيارته وتوجه إلى يوسف ثم استند بمرفقه على النافذة المجاورة له وسأله مستفسراً:
_ أنت واقف عندك ليه؟
وقعت الفريسة في مصيدتها، خرج الشاب من باب الجامعة برفقة بعض الشباب، تحرك يوسف خلفهم وكذلك بلال الذي تبعه، استغل يوسف وقوفهم في مكان خالٍ من المارة ثم زاد من سرعته ووقف أمامهم مانعاً إياهم من مواصلة سيرهم.
ترجل من السيارة تاركاً بابها مفتوح، توجه نحو ذاك الشاب مباشرةً، أمسكه من تلابيب قميصه ودفعه بقوة حتى تمدد بجسده العلوي على سيارته.
لكمه يوسف بعنف في وجهه ولم يتوقف حتى سالت الدmاء من فمه، تدخلا بقية الشباب محاولين فض ذاك الإشتباك، وصل بلال في الوقت ذاته ومنعهم من الوصول إلى صديقه وصاح بنبرة أمرة:
_ أرجع يالا منك ليه
بينما تابع يوسف ضـ.ـر.به للشاب الذي تسائل بنبرة منهكة:
_ أنت مين؟ وعايز مني إيه؟
أخفض يوسف نظريه على يديه وسأله بحدة:
_ أنهى أيد فيهم اللي اتمدت وخدت الموبايل؟
"موبايل إيه"
سأله بعدm فهم، بينما أمسك يوسف بيُمناه بكل ما أوتي من قوة وأجابه من بين أسنانه بغضب:
_ الموبايل اللي شـ.ـديتو من إيدها يا حيلتها
زاد يوسف من ضغطه حتى سمع صوت كـ.ـسر عظام يده، أوة الآخر بألم شـ.ـديد، تركه يوسف وحذره بنبرة لا تحتمل النقاش:
_ صدقني هقلع لك عينك الاتنين لو بصت لها تاني!
انسحب يوسف وكذلك بلال فركضا الشباب على صديقهم بينما أنطلقا الآخرين بسيارتهما، هاتف بلال يوسف ليعلم منه ما الأمر:
_ هو في إيه يابني وإيه اللي حصل من شوية دا؟
بنبرة حادة أجابه:
_ واحد غلط وكان لازم يتعلم الأدب، سيبك أنت، أنت إيه اللي خلاك تيجي ورايا؟
بتهكم في نبرته قال:
_ أنتِ عايزني أشوفك بتجري بالمنظر دا ومجيش وراك، وكويس إني جيت كان فاتك أنت اللي مضروب لو مبعدتش العيال دي عنك
أطلق يوسف قهقهة ساخرة منه قبل أن يردد:
_ ماشي يا خفيف..
أنهى معه المكالمة ثم هاتف لينة التي رفضت مكالمته على الفور، ثم أرسلت إليه رسالة:
"أنا في محاضرة"
أرسل لها يوسف رده في رسالة أخرى:
"هتخلصي امتى؟"
لينة: لسه معرفش
يوسف: ا عـ.ـر.في و عـ.ـر.فيني قبل ما تخرجي من المحاضرة
لينة: تمام
أنتبه يوسف على بلال الذي يحاول تخطيه فرفض ذلك، شكل بسمة على شفتيه وزاد من سرعته فازداد حماس بلال وزاد من سرعة سيارته لكي يتخطى يوسف، حاول جاهداً أن يتخطاه لكن الآخر كان يغلق أمامه جميع السُبل لكي يظل خلفه، حتى ظهرت سيارة نقل فجاءة أمام يوسف...
↚
اضطر يوسف للدعس على الفرامل سريعاً قبل أن يرتطم بها، جاوره بلال بسيارته ثم غمز إليه بانتصار وتابع قيادته حتى لا يتخطاه يوسف ثانيةً، ضـ.ـر.ب يوسف الطارة بعصبية لاعناً ذاك السائق الغـ.ـبـ.ـي الذي يقف في منتصف الطريق، تابع قيادته لكن هيهات لصديقه الذي تخطاه بكيلومترات كثيرة.
عاد إلى عمله وكان يتفقد هاتفه من آن لآخر لكي لا يفوت إتصال لينة، حتى صدح رنين هاتفه فأجاب وهو يلتقط مفتاح سيارته من على مكتبه:
_ خلصتي؟
جائه صوتها من بين ضجة شـ.ـديدة، بالكاد استطاع سماعها:
_ أيوة خلصت..
خرج من مكتبه وهو يخبرها بمجيئه:
_ وأنا جاي لك مسافة الطريق
أسرعت في لحاقه بقولها:
_ لأ لأ خليك أنا ركبت أصلاً مع صحابي
"عملتي إيه؟"
رددها يوسف بعدmا توقف عن السير فأعادت هي كلمـ.ـا.تها:
_ بقولك ركبت، لما أروح هكلمك أطمنك..
أنهت المكالمة لكنه لم يبرح مكانه، لم يرفع نظريه عن الهاتف غير مصدق أنها فعلت ذلك من تلقاء نفسها دون العودة إليه، كز أسنانه ثم تابع ترجله ومنه إلى سيارته.
***
وصلت لينة إلى المنزل، مبتسمة والسعادة واضحة على تعابيرها، فكانت المرة الأولى لها أن تسير بمفردها، فتحت لها ميمي بملامح مشـ.ـدودة فأثارت ريبة لينة وسألتها باهتمام:
_ في إيه مالك؟
صدح صوته الذي دوى في المكان وانتبهت عليه لينة:
_ أنا عايز أعرف إزاي تمشي من دmاغك كدا؟ أنا مش قايلك قبل ما تخرجي ت عـ.ـر.فيني عشان أكون مستنيكي!!
اقترب بخطاه منها وملامحه لا تبشر بالخير وواصل بنبرة محتقنة:
_ تقومي تخلصي وتخرجي، لأ وكمان تركبي مواصلات وبعدين تتكرمي وت عـ.ـر.فيني!!
حمحمت لينة وحاولت توضيح الأمر الذي يجهله:
_ أنا مكنتش خلصت أصلاً، كان لسه فيه محاضرة بس الدكتور اعتذر، وخرجت بدري معرفتش أكلمك بقى، وبعدين فيه كذا بنت اتعرفت عليهم، بيتهم قريب مننا قالولي تعالي روحي معانا فأنا قبلت!
"قبلتي!!"
صاح يوسف بانفعال وتابع:
_ وبالنسبة للي قاعد مش عارف يشتغل وكل شوية يشوف الموبايل أصل مخدش بالي من مكالمتك؟
مش مهم أنا؟، مش مهم أنا قابل بكدا أصلاً ولا لأ؟!
من امتى أصلاً سيبتك تمشي مع حد، ومين دول اللي وثقتي فيهم لدرجة إنك تمشي معاهم؟ عرفتي أخلاقهم منين يعني؟
ابتلعت لينة ريقها وحدثته بهدوء حتى تنهي تلك المشادة:
_ يا يوسف محصلش حاجة لكل دا، والبنات بجد محترمة جداً
"وعرفتي منين إنهم محترمين جداً؟ من ساعتين قضيتهم معاهم؟"
تسائل بإقتضاب بينما ردت هي:
_ البنات ملتزمين جداً وواحدة منهم لابسة خمار وبعدين بيكون باين أصلاً الكويسة من اللي مش كويسة، أنا معتش صغيرة يا يوسف وبفهم في اللي قدامي، دا غير إني كان نفسي أجرب أرجع لوحدي مرة وأنا لو كنت قولتلك مكنتش هتوافق..
تدخلت ميمي لكي تنهي المشاحنة بينهما قبل أن تزداد:
_ خلاص يا يوسف حصل خير، هي وكويسة أهي الحمد لله، وأنتِ يا لينة بعد كدا ت عـ.ـر.فيه بكل خطوة قبل ما تخطيها، هو خايف عليكي يا حبيتي
"حاضر"
قالتها لينة بطاعة بينما عاد يوسف إلى الأريكة يحاول كبح غضبه، حمحمت هي واقتربت منه ثم سألته مستفسرة:
_ أنت عملت إيه مع الولد؟
دون أن ينظر إليها أجاب ببرود:
_ كـ.ـسرت له إيده
شهقت لينة بصدmة ثم انتفضت من مكانها وهللت بانفعال شـ.ـديد:
_ كـ.ـسرت ايده!! إيه شغل البلطجة دا؟
صعق يوسف مما وقع على مسامعه، كذلك لم تكن السيدة ميمي أقل منه صدmة، فلقد كانت كلمتها مهينة للغاية، لم يشعر يوسف بنفسه سوى وهو ينتفض من مكانه رافعاً ذراعه للأعلى قاصداً صفعها.
"يوسف"
هتفت بها ميمي محذرة إياه من الوصول إليها، توقف يوسف على آخر لحظة، وظل يطالعها بسخطٍ، بينما شعرت لينة بالذُعر لحظتها، لقد سُرق منها أمانها في تلك اللحظة، ظلت تطالعه بعدm تصديق، اغرورقت عينيها بالدmـ.ـو.ع ثم صاحت بنبرة حزينة:
_ سبيه يا ماما، سبيه يضـ.ـر.بني
أمسكت بيده ورفعتها بقرب وجهها ثم هدرت وعبراتها تتساقط كشالال:
_ يلا أضـ.ـر.بني، أضـ.ـر.بني يا يوسف
لم يتحمل يوسف الوقوف أمامها لثانية أخرى، وفر هارباً من المنزل، بينما هرولت هي إلى غرفتها، أوصدت بابها لكي لا يستطيع أحد الولوج إليها.
بكت كثيراً، لم تتوقف عبراتها عن السقوط، رجف جسدها بقوة متذكرة تلك الصفعة، على الرغم من أن يده لم تلمسها لكنها تشعر بألمها وكأنها صُفعت بالفعل.
تسائلت كيف استطاع فعلها؟ كيف تجرأ ورفع ذراعه عليها؟ أليست هي فتاته ومشاكسته المُتيم بها؟ أين ذاك الحب الذي يحدثها عنه؟
دفنت رأسها في منتصف الوسادة، مطلقة بعض الشهقات القوية من بين بكائها المرير.
على الصعيد الآخر، استقل يوسف سيارته وهو لا يدري أين وجهته تحديداً، فقط يسير لعله يجد مخرجاً، شعر بحاجته لإفراغ شحنة غضبه.
فلم يتردد في الذهاب إلى الصالة الرياضية، حيث استقبله المدرب بحفاوة:
_ وأخيراً الأستاذ حن وتكرم يجي لنا
بملامح جـ.ـا.مدة هتف يوسف:
_ معلش يا كوتش، ظروف
ربت المدرب على ذراعه ثم قال:
_ طب يلا غير هدومك عشان الكلاس هيبدأ كمان عشر دقايق
عارض يوسف حديثه قائلاً:
_ لأ لأ مش عايز أحضر الكلاس دا، أنا عايز ألعب ملاكمة
"ملاكمة"
رددها المدرب بحاجبين معقودان فأكد يوسف بحسم:
_ أيوة محتاج أطلع طاقتي في حاجة
استشف الآخر ضيقه ثم نادى بصوت جهوري على زميله:
_ مدحت، تعالى
حضر المدرب الخاص بالملاكمة فعرف الآخر عن هويتهما بالتناوب بينهما:
_ يوسف، مدحت
ثم أوضح سبب ندائه لزميله:
_ يوسف معاك النهاردة
أماء مدحت ووجه حديثه ليوسف:
_ غير هدومك وتعالى الروم اللي هناك دي
أشار إلى إحدى الغرف فأماء يوسف بتفهم ثم توجه إلى غرفة صغيرة ليبدل ثيابه الموضوعة في خزانته الخاصه به، ثم توجه إلى الغرفة التي أشار عليها المدرب.
ارتدى يا يلزم للعب الملاكمة ثم وقف أمام المدرب وبدأ يتبادلا الضـ.ـر.ب، كان يوسف عنيفاً في لكمه ولا يهدأ قط، لا يتوقف عقله عن ترديد إهانتها له وما زاد الوضع سوءاً صفعته التي كادت تنسدل على وجهها.
لم يكف عن إيلام نفسه، وكذلك تتعارض أفكاره مع تأنيب ضميره فهي من اضطرته إلى فعل ذلك!
حقاً؟
مذنب ووقح أيضاً، وهل هناك أي مبرر لتصرفه ذاك، ماذا لو لم يسيطر على غضبه وصفعها؟
هل كان سيسامح نفسه؟ هل كانت ستسامحه؟
وهل ستسامحه الأن بعد أن تطاول عليها؟ وعلى الرغم من أنه لم يلسمها إلا أنه ليس هناك فرق طلاما نيته كانت حاضرة.
"خلاص يا يوسف أهدى"
صاح المدرب وهو يضع ذراعيه أمام وجهه محتمياً فيهما من لكمـ.ـا.ت يوسف العنيفة، خرج يوسف من شروده وتفاجئ بثورته على المدرب.
توقف عما يفعله يلتقط أنفاسه وبأنفاس لاهثة قدm اعتذاراً:
_ أنا أسف
"ولا يهمك"
قالها المدرب ثم قال:
_ بقول كفاية كدا النهاردة
تركه وغادر الغرفة بينما خلع يوسف قفازات يديه وخرج من الغرفة، توجه إلى الثلاجة وأخذ منها زجاجة مياه، ارتشفها في آن واحد ثم ألقاها في صندوق القمامة.
جلس على أحد الأجهزة الرياضية يضبط أنفاسه ثم بدأ يمارس الرياضية كما يفعل في سابق مـ.ـر.اته.
***
حل المساء، وتعمد يوسف العودة في وقتٍ متأخر لكي لا يواجه أحدهم، كان الهدوء يعم المنزل، توجه إلى غرفته لكنه وقف واختلس نظرة إلى باب غرفتها، لا يعلم تحديداً بأي مشاعر يشعر.
يريد الإطمئنان عليها كما يفعل كل مساء، وأيضاً يريد الإعتذار منها، لكن كلمتها تتردد في عقله فتزيده تمرداً، ولج غرفته ولم يلتفت، كان أخيه غافياً فلم يُحدث ضجة لكي لا يزعجه، وبهدوء بدل ثيابه وتوجه إلى الفراش، تمدد أعلاه لكنه فشل في الإتيان بالنوم.
على الرغم من إنهاك جسده إلا أن عقله كان مشغولاً بها، لا يستطيع أن يقلعها من عقله، أخرج تنهيدة حين فشل في طرد أفكاره، وخرج من الغرفة، جلس في الردهة في إضاءة خافتة بالكاد يرى ما هو أمامه.
لم تُرفع عينيه من على بابها لربما ينجح في رؤيتها، مرت دقائق تلاها دقائق أخرى حتى تملكه النعاس، مالت رأسه فاستيقظ أثناء خروج لينة من غرفتها، لم تراه فالإضاءة لم تساعدها على رؤيته.
ولجت المرحاض تحت نظراته التي تتابعها، صغى إلى صوت تقيأها المستمر، نهض وقلبه يعتصر حـ.ـز.ناً على ما أصابها من ورائه، لكنه تريث حينما عادت إلى غرفتها، فلم يريد الجلوس مرةٍ أخرى وقرر العودة إلى غرفته.
ضجة مدوية خرجت من غرفة لينة، وكأن جسد ما ارتطم بالأرضية، هرول نحو غرفتها ودلفها فتفاجئ بوقوعها، ركض نحوها وحاول إيفاقتها بذُعر تملكه:
_ لينة، يا لينة..
ظل يضـ.ـر.ب وجهها بخفة وهي لا تستجيب إليه، حملها بين ذراعيه ثم وضعها برفق على الفراش وأعاد محاولاته والنتيجة ذاتها، لا تستجيب!
خفق قلبه بقوة وبحث بعينيه على قنينة عطر، عثر على إحداهم وهم بنثر الكثير على يده ثم وضع يده على أنفها فشعر بنفورها من الرائحة.
مرت ثوانٍ حتى استعادت لينة وعييها، وضعت يدها على معدتها مرددة بتعب:
_ اااااه
انحنى يوسف عليها وهمس بخفوت:
_ أنتِ كويسة؟
انتبهت عليه ورمقته لبرهة دون أن تنبس بشيء، أراد يوسف أن يعتذر منها فلقد خشى فقدها منذ لحظات، حمحم قبل أن يردف بنبرة نادmة:
_ لينة أنا اس...
حركت لينة رأسها للاتجاه المعاكس له رافضة سماعه، لم يرفع يوسف نظريه من عليها بحـ.ـز.ن شـ.ـديد، أخذ نفساً ثم توجه إلى الخارج، طرق باب والدته التي سمحت له بالدخول بعد مدة، وقف أمامها والحـ.ـز.ن مرسوم على تقاسيمه وقال:
_ لو سمحتي يا أمي خليكي مع لينة النهاردة، لأنها تعبانة..
انتفضت ميمي من الفراش والخوف وحده تملكها وسألته بقلق:
_ في إيه مالها؟
ابتلع ريقه محاولاً الصمود أمامها قبل أن يجيب وهو منكس رأسه:
_ وقعت في الأوضة و...
اهتزت نبرته وتحشرجت، ثم واصل بنبرة سريعة:
_ خليكي جنبها..
ألقى جملته وسرعان ما اختفى من أمامها، تعجبت السيدة ميمي من حالته لكن ليس بحين يُسأل فيه الآن، عليها أولاً الإطمئنان على لينة وصحتها.
ولجت غرفتها متسائلة بتوجس وقلق شـ.ـديدان:
_ مالك يا حبيبتي، يوسف قالي إنك تعبانة..
مسحت لينة عبراتها ونظرت إلى السيدة ميمي وبنبرة منهكة قالت:
_ أنا كويسة متقلقيش، دوخت شوية
تفحصت ميمي ملامحها قبل أن تطلق شهقة مذعورة:
_ أنتِ وشك أصفر كدا ليه؟ أكيد من قلة الأكل، اتحايلت عليكي كتير تأكلي وأنتِ كل اللي عليكي لأ مليش نفس
زفرت ميمي وتابعت معاتبة:
_ هروح أجيب لك أكل وأجي وأنتِ تبقي كويسة
أبدت لينة رفضها:
_ لا مش عايزة، مليش نفس
"مش مهم، هتاكلي برده"
أردفتها ميمي حاسمة الأمر، أولاتها ظهرها وهرولت إلى المطبخ بعد أن أغلقت بابها لكي تحضر لها بعض الشطائر، في تلك الأثناء خرج يوسف من غرفته وبحث عن والدته متسائلاً بلهفة:
_ عرفتي مالها يا أمي؟
أجابته وهي تعد الشطائر:
_ دايخة عشان مأكلتش حاجة طول اليوم..
توقفت عن الحديث ثم حركت رأسها نحوه ورددت بثقة:
_ وتلاقيك أنت كمان مأكلتش حاجة، أقعد هعملك سندوتشين..
رفض يوسف بقوله:
_ لا مش عايز، اعملي لها بس الأول و..
قاطعته ميمي بنفاذ صبر:
_ ياربي حتى في عِنادكم زي بعض، أقعد يا يوسف أنا كدا كدا بعمل، كلك لؤمة قبل ما تنام..
انتهت من إعداد الشطائر ثم وضعت بعضهم أمام يوسف وأخذت المتبقي إلى لينة، حمحم يوسف وهتف قبل أن تبتعد عنه:
_ أنا قاعد هنا، ابقي طمنيني عليها..
عادت إليه ثم قالت وهي تطالع حدقتاه الحزينة:
_ ما تيجي أنت تطمن عليها!
نكس يوسف رأسه قبل أن يردف بحسم:
_ لأ..
"أنتوا هتفضلوا زعلانين كدا كتير، متعودتش منك تسيب حد بتحبه زعلان"
قالتها ميمي منتظرة رده، لكنها تفاجئت بوقوفه مردداً بتجهم:
_ أنا رايح أنام
أوقفته هي بمسكها لذراعه وهتفت:
_ خلاص أقعد كمل أكلك مش هتكلم في حاجة، هدخل وأطمنك أنا عليها
أجبرته على الجلوس بيدها التى ضغطت بها على كتفه فرضخ لمرادها، بينما توجهت هي إلى غرفه لينة وساعدتها على تناول الشطائر، ثم سألتها باهتمام بعد أن انتهت من تناولهم:
_ ها، حاسة بإيه دلوقتي؟
"أحسن"
قالتها لينة مختصرة فهتفت ميمي معاتبة:
_ عشان تبقي تسمعي كلامي ولما أقولك كلي يبقى تاكلي، وبعدين يا حبيبتي أنتِ لسه صغيرة وياما هتقابلي مشاكل مش كل حاجة تواجهيها بالطريقة دي، مينفعش نقفل على نفسنا ونرفض الأكل والشرب ونقعد نعيط، دي مش طريقة نواجه بيها مشاكلنا أبداً، لأنها لو بتجيب نتيجة دلوقتي فبعدين مش هتجيب وهتبقى زي قِلتها..
ملست على خصلاتها ثم واصلت مسترسلة:
_ وعشان أنتِ بنتي ليا عتاب عندك، كلمتك كانت قاسية وجارحة أوي، بقى ينفع يوسف اللي بتحبيه تقوليله شغل بلطجة!!
يعني هو عشان بيخاف عليكي وبيحميكي يبقى جزاءه نقوله كلمة صعبة زي اللي قولتيها؟!
لم تتحمل لينة وانفجرت باكية، رجف جسدها إثر بكائها الغزير وهتفت من بين بكائها بنبرة موجوعة:
_ دا كان هيضـ.ـر.بني يا ماما، يوسف اللي بحبه كان هيضـ.ـر.بني!
وجهت نظريها على السيدة ميمي وتابعت بنبرة متحشرجة:
_ عارفة يعني إيه أماني راح مني وقتها!!
لأول مرة أحس بالخوف والضعف من ٨سنين!!
محستش الإحساس دا من يوم مـ.ـو.ت ماما وأحمد وسفر علي، أنا أول مرة أخاف من يوسف يا ماما!
أول مرة أحس إني يتيمة ومليش سند، أول مرة أتمنى إني كنت أمـ.ـو.ت مع اللي...
قاطعتها ميمي بضمها لصدرها مانعة إياها من مواصلة حديثها بترديدها:
_ بعد الشر عنك يا نن عيني، إيه الكلام دا يا لينة؟ يتيمية إيه وإحنا إيه يابنتي؟
إحنا أهلك يا لينة، يمكن مش بالدm بس بالروح والعشرة والحب وكل حاجة عشناها مع بعض تثبت كدا، بعد الشر عنك يا حبيبتي معتيش تقولي كدا تاني..
في الخارج، انسدلت عبراته بغزارة حين وقعت كلمـ.ـا.تها على أذنيه، فمنذ ولوج والدته إليها وهو واقفاً خلف الباب يصغي لصوتها حتى يطمئن قلبه، لم يعلم أنه سوف يتألم من وراء صوتها الباكي وكلمـ.ـا.تها الموجوعة.
هرب من أمام الباب ثم خرج من المنزل، فلم يتحمل المكوث به ثانية أخرى، صعد إلى سطح البناية لعله يستنشق بعض الهواء ربما يشعر بالتحسن، لكن كيف؟
وهل سيمحي الهواء ما رسخ في عقله؟
كيف فعل ذلك؟
تمنى لو يُعاد الزمن حتى لا يكرر فعلته الشنيعة، لقد سرق أمان فتاته وصغيرته، كيف سيواصل حياته وهو على علم بخوفها منه وعدm شعورها بالأمان معه؟
لقد خرب كل شيء في لحظة غضب غـ.ـبـ.ـية.
لم يزيده تفكيره سوى الإختناق أكثر، استند برأسه على السور الخرساني واضعاً يده على صدره، حتماً سيصاب بنوبة إن استمر وضعه ذاك لدقيقة أخرى.
جلس على الأرض ممداً قدmيه أمامه، يطالع الفراغ أمامه، لا يتوقف عقله عن ترديد كلمـ.ـا.تها، ولم يتوقف شعوره بالألم بل كان يزداد أضعافاً كلام مر عليه الوقت.
كان قليل الحيلة، لا يقدر على فعل شيء، وبضعف شـ.ـديد مال بجسده مستلقياً على الأرضية بكامل جسده، واضعاً يديه أسفل رأسه كحماية لها من الأرضية الخراسانية، وظلت تتساقط دmـ.ـو.عه دون توقف حتى أنهال منه التعب وغفى على وضعه.
***
في الصباح الباكر، استيقظ زياد باكراً اليوم، فلقد غفى في وقتٍ مبكر أمس وأخذ كفايته من النوم، نهض وتعجب من عدm وجود أخيه، فلم يحين موعد عمله.
خرج من الغرفة باحثاً عن أحد ساكني المنزل، فوقعت عينيه على والدته الغافية على الأريكة، توجه نحوها وأصدر صوتاً خافتاً لكي ينبهها بوجوده دون أن يسبب لها الذُعر.
انتفضت ميمي من نومتها، وجابت المكان من حولها بخوف عارم، أثارت ريبة زياد فما أحدثه لا يستحق ذلك الذعر، جلس بجوارها قبل أن يردف:
_ إيه الخوف دا كله، أنا معلمتش حاجة يعني..
زفرت بتعب وهي تردد:
_ فكرت أخوك رجع
"رجع! رجع منين؟"
تسائل زياد بإستفسار فأجابته والدته بعد أن تنهدت بضيق:
_ معرفش، من قبل الفجر وهو مش هنا، قولت هيصلي ويرجع ومن وقتها وأنا قاعدة مستيناه ولسه مرجعش
عقد زياد حاجبيه بغرابة وهتف مقترحاً:
_ مرنتيش عليه؟
أشارت ميمي بعينيها على الطاولة، فوقع نظره على هاتف أخيه، عاد بأنظاره إليها متسائلاً بقلق:
_ هو حصل حاجة ولا مشى من نفسه كدا؟
اعتدلت السيدة ميمي في جلستها وقالت بنبرة منهكة:
_ محصلش حاجة، أنا عملت له سندوشات ياكلها وبعدها سمعت الباب بيتقفل ومن وقتها وأنا قاعدة القاعدة دي
مالت بجسدها للأمام وربتت على قدmي زياد ثم قالت متلهفة:
_ ما تقوم تشوفه فين وتطمني عليه..
عاد زياد بظهره للخلف محاولاً التفكير عن مكان تواجده قبل أن يهتف:
_ هلاقيه فين بس يا ماما، هو يوسف صغير وهيستخبى!
تأففت ميمي وصاحت بحنق:
_ أعمل إيه بس أنزل أدور عليه أنا؟
تنهد زياد ثم نهض وقال:
_ هنزل أنا يا ماما
وقفت هي الأخرى وهتفت:
_ ابقي طمني لو وصلت له
اكتفى زياد بإيماءة من رأسه ون بخطى ثابتة توجه إلى غرفته ليبدل ثيابه، ثم غادر المنزل، لا يدري إلى أين يذهب، سحب هاتفه وقام بالإتصال على بلال لربما يكون برفقته.
***
صدح رنين هاتف بلال الذي قطع نومه، استيقظ ونظر إلى إيمان الغافية على صدره وبحذر مد يده وسحب الهاتف لكي لا يوقظها.
تعجب من اتصال زياد في هذا الوقت المبكر لكنه لم يتردد في الإجابة عليه حيث رد بصوت متحشرج:
_ الو..
استشف زياد عدm صحوته من خلف نبرته الهادئة فردد بقلة حيلة معانقة للحرج:
_ إيه دا أنت نايم، فكرت يوسف معاك
تفقد بلال الوقت في هاتفه ثم عاد لمهاتفة زياد:
_ لا هيعمل معايا إيه بدري كدا
أنهى زياد المكالمة بقوله:
_ خلاص تمام
لحق به بلال متسائلاً باهتمام:
_ هو فيه إيه؟
أخبره زياد بما حدث لربما يمكنه مساعدته:
_ مرجعش من امبـ.ـارح وسايب موبايله في البيت وأمي قلقانة عليه متعرفش ممكن ألاقيه فين؟
انسحب بلال من جوار إيمان بهدوء وخرج من الغرفة مجيباً إياه وهو يحك مؤخرة رأسه:
_ لأ معرفش، هو يوسف بيروح فين أصلاً غير من البيت للشغل والعكس، حتى وقت الجيم مش دلوقتي
"تمام"
قالها زياد وهو يجوب الشوارع بعينه بينما هتف بلال قبل ينهي الآخر الإتصال:
_ لو وصلت له عرفني
"ماشي"
قالها زياد مختصراً ثم توجه إلى مكان عمل يوسف الثلاث على أمل إيجاده، لكن لم يراه أحد في العمل اليوم، ذهب إلى صالاته الرياضية وبعض المقاهي القريبة والنتيجة ذاتها.
عاد بعد أذان الظهر منهك القدmين، صعد درجات السلم بتهمل، يشعر بالدوار لسيره تحت أشعة الشمس مدة طويلة، وقف أمام باب منزلهم، وكاد أن يدلف إلا أن صوتٍ ما في رأسه حثه على الصعود إلى سطح البناية.
فسبق لأخيه ووجده هناك، ماذا لو كان هو أيضاً بالأعلى، لم يتردد في الصعود، ولقد أصاب حدسه، اقترب منه وتعجب من نومه هناك، فكيف استطاع الصمود عاة أرضية صلبة كتلك.
جلس بجواره وهزه بخفة مردداً:
_ يوسف، يا يوسف..
بعد لحظات استجاب يوسف لندائه، رفع بصره عليه فتأكد من وجوده بينما تسائل زياد باهتمام:
_ أنت إيه اللي منيمك هنا؟
اعتدل يوسف وقد شعر بألم شـ.ـديد في ضلوعه، تشنجت ملامحه وهو يمسك بذراعه التي كان يستند عليه، لم يكن هناك أنش في جسده لا يـ.ـؤ.لمه.
جذب زياد انتباهه بسؤاله:
_ نايم هنا ليه؟
أجابه يوسف دون أن ينظر إليه:
_ كنت قاعد ونمت من غير ما أحس..
"طب انزل عشان أمك قالبة عليك الدنيا"
قالها زياد وهو ينهض، مد يده لأخيه ليساعده على الوقوف، فأمسك به يوسف جيداً ونهض بصعوبة، نفض عنه الأتربة التي علقت في ثيابه وخصلاته وترجل إلى طابقهم.
ولج زياد ويوسف كان متابعاً له، هرولت ميمي عليهما تتفحص يوسف بخوف وقلق:
_ أنت كويس؟ روحت فين قلقتني عليك
"أنا كويس، مفيش حاجة"
ألقى جملته دون إضافة المزيد، وتوجه إلى المرحاض لينعم باستحمام دافئ ربما يشعر بالتحسن، بينما نظرت السيدة ميمي إلى زياد وسألته بريبة من أمر يوسف:
_ أنت لقيته فين؟
أجابها مختصراً:
_ فوق على السطح
عقدت ميمي حاجبيها بغرابة وقبل أن تضيف المزيد صاح زياد بقوله:
_ أنا جعان، عايز أفطر..
أماءت بقبول وتوجهت إلى المطبخ تعد لهم الفطور، بعد قليل خرج يوسف من المرحاض باحثاً عن هاتفه:
_ مشوفتيش موبايلي يا أمي؟
"على الطرابيزة يا حبيبي"
أردفتها وهي تضع آخر ما أعدته على الطاولة، بينما توجه يوسف إليه، تفقد الوقت وصعق حين رآها الواحدة ظهراً، نظر حيث غرفة لينة وهتف مستاءً من تناسيه:
_ كلية لينة!!
اقتربت منه والدته وبتردد يشوبه التوجس من رد فعله هتفت:
_ لينة راحت كليتها، قعدنا نستنى خبر منك أو من زياد مفيش، قولتلها ت عـ.ـر.في تروحي لوحدك قالتلي آه قولتلها طب قومي روحي، دا تاني يوم ليها ومينفعش تغيب من أولها كدا..
تملك يوسف الضيق، حتى انعكس على تقاسيمه ثم عاد متسائلاً بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ بس دي معهاش فل...
قاطعته والدته بقولها حتى تطمئن جوفه:
_ إديتها يا حبيبي، متقلقش
لم يقف يوسف مكانه بل توجه إلى الباب فنادته والدته:
_ أنت رايح فين؟ مش هتفطر
أجابها بحدة وهو يغلق الباب خلفه:
_ لأ
أخرجت تنهيدة مهمومة فتدخل زياد بسؤاله الفضولي:
_ هو في إيه، الجو متـ.ـو.تر كدا ليه؟
جلست ميمي حيث كرسيها وردت وهي تطالع أمامها بضيق:
_ مفيش، كُل أنت
***
استقل سيارته وقام بالإتصال على لينة، التي رفضت اتصاله ثم أرسلت إليه أنها منشغلة وحينما ستفرغ ستهاتفه.
ألقى يوسف بالهاتف على الكرسي المجاور له بعصبية شـ.ـديدة، زاد من سرعة سيارته وتوجه إلى عمله، كان يوم عصيب عليه، لم يخلو من الانفعالات على العمال بسبب وبدون.
كان الجميع ملاحظاً لحالته المريبة، لكنهم لم يعقبا حتماً هناك ما أثار غضبه حتى يكون ثائراً كالبركان هكذا، كان يوسف يتفقد هاتفه من آن لآخر لعله يجد منها إتصال أو ربما رسالة.
بعد فترة مرت عليه كانت ثقيلة ومرهقة للغاية، رأى أن جلوسه لن يجدي نفعاً بل سيزيد الأمر سوءاً، أخذ هاتفه وخرج من المعرض، استقل السيارة وتوجه مباشرةً إلى جامعتها.
أنهت لينة جميع محاضرتها ثم جلست في كافتريا الجامعة، تعيد ما حدث البـ.ـارحة لربما تستطيع مسامحته، هي على علم بأنها اقترفت خطأً لكن رده كان مفزع، ولازالت لم تخرج من صدmته للأن!
تفقدت ألبوم الصور في هاتفها واختارت صورة له، ظلت تحدج في ملامحه ويديه مرفوعة عليها، لم تشعر بتلك الدmعة التي فرت على مقلتيها، ثم غردت بخفوت:
"أوقات بییجی الصح فی الوقت الغلط
والقلب زی السهم لو شـ.ـد وفلت
و بصراحة الدنیا بتغیرنا بالراحة
ما بین شعور بالذنب والراحة کله اختلط
بقی عادی الناس یختاروا صح ويتأذوا
والحب مش محکوم بحاجة تميزه
مش أي إحساس بالسعادة بیتقبل
و لا أي وعد بناخده سهل ننفذه
و بصراحة الدنیا بتغیرنا بالراحة
ما بین شعور بالذنب والراحة کله اختلط"
"الله الله إيه العظمة دي؟!"
قالتها فاطمة حينما صغت لغنائها الجميل، بينما هتفت ندى مبدية إعجابها الشـ.ـديد بصوتها:
_ صوتك جميل جداً ما شاء الله
التفت إليهن لينة وابتسمت ثم رحبت بهن:
_'تعالوا يا بنات..
غمزت إليها فاطمة حينما وقعت عينيها على صورة يوسف وتسائلت بفضول وهي تجلس أمامها:
_ مين اللي شاغل عقلك دا؟
نظرت لينة إلى الهاتف ثم أغلقته، ابتسمت بحرج وأخبرتها:
_ دا يوسف، خطيبي
اتسعت مقلتي ندى وفاطمة بذهول حيث رددت ندى بعدm تصديق:
_ إيه دا أنتِ مخطوبة، بس أنتِ لسه صغيرة أوي
لكزتها فاطمة في ذراعها بقوة وعاتبتها قائلة:
_ وإيه المشكلة، فيه ناس كتير مخطوبين في سن أصغر من كدا
وجهت فاطمة بصرها إلى لينة وهتفت بفضول أنثوي:
_ بس شكلك بتحبيه؟!
تلونت وجنتي لينة بالحُمرة خجلاً من سؤالها، قهقن الفتيات على ما أصابها وتحدثت ندى مازحة:
_ بس بقى يا فطوم متكسفيشهاش
ثم تابعت وهي تواجه لينة:
_ ها احكيلنا بقر اتعرفتوا على بعض إزاي، واسمه إيه وبيشتغل إيه؟
تدخلت فاطمة مستاءة من فضول صديقتها:
_ حيلك حيلك، وأنتِ يخصك إيه في كل اللي قولتيه دا
غمزت إلى لينة بمشاكسة ثم قالت مازحة:
_ هاتي لنا بطاقته بس
شاركتهن لينة الضحك ثم انتبهت على رنين هاتفها، تجهمت تعابيرها لكنها جاهدت أن تبدو طبيعية، حمحمت ثم أجابت على مضض:
_ الو..
"أنتِ فين؟ أنا عند البوابة"
تسائل يوسف باستفسار فتعجبت هي من حديثه ورددت دون استيعاب:
_ بوابة إيه؟
أجابها مختصراً:
_ بوابة الكلية، ها أنتِ فين؟
بحثت هي بعينيها عليه حتى رأته ثم قالت:
_ أنا في الكافتيريا اللي على يمينك، ثواني وهجيلك
لحق بها يوسف مردداً:
_ لا خليكي أنا جاي لك
أنهى المكالمة ثم توجه نحوها فشعرت هي بالإرتباك لوهلة، ولم ترفع نظريها من عليه، حتى أثارت فضول الأخريات ونظرن حيث تنظر هي، رأينا شاب وسيم يقترب منهن فصاحت ندى بعدm تصديق:
_ متقوليش إن القمر دا خطيبك!!
شعرت لينة بالغيرة، ولم تتحمل سخافة أخرى، انتفضت فأثارت ريبة الاخريات، ثم تمتمت بحنق:
_ ويبقى جوزي، فخلي بالك من كلامك!!
توجهت إلى يوسف ولم تنتظر وصوله، صاحت بنبرة محتقنة قبل أن تصل بخطاها إليه:
_ كمل كمل متوقفش..
تعجب من أسلوبها وسألها مستفسراً:
في إيه؟
بإقتضاب وحدة في الحديث قالت:
_ مفيش حاجة عايزة أمشي بس
خرج كليهما من الجامعة، واستقلا السيارة في صمت طال لوقت، لم يستطيع أحدهما كـ.ـسره، كلما أراد يوسف خلق حوارً معها يفشل، وكأن الكلمـ.ـا.ت حُشرت داخله، فضل الصمت لحين إيجاد كلمـ.ـا.ت تليق به.
لم يخلو عقله من تكوين الأفكار التي زادته حماساً لتنفيذها، وصلا إلى منزلهم وولج إلى والدته خصيصاً وتحدث بحيوية:
_ سيبي اللي في ايدك وركزي معايا، عشان عايزك تساعديني في حاجة كدا
تركت ما بيدها مجبرة أذنيها على الإصغاء جيداً فبدأ يوسف يقص عليها ما نوى على فعله، ثم غادر المنزل.
***
حل المساء، كانت تمسك بهاتفها تقرأ رسائل صديقتها التي ترسلها منذ عدة أيام ناهيك عن اتصالاتها المستمرة وهي لا تجيب، شعرت بوقاحة أسلوبها التي تتعامل معها به لكنها مضطرة لذلك.
أجابت على آخر إتصال بحرج شـ.ـديد بينما صاحت شهد معاتبة:
_ أنتِ مبترديش عليا ليه؟ قلقتيني والله، وكنت هجيلك بكرة أطمن عليكي
حمحمت لينة وبتلعثم رددت:
_ معلش يا شهد، اتشغلت في الكلية وكدا
"ومين سمعك مش هما يومين بس مرمطة، المهم طمنيني عليكي"
أردفتها شهد فأجابت الأخرى مختصرة:
_ الحمدلله..
بخبث صاحت شهد:
_ أنتِ ويوسف أخبـ.ـاركم إيه؟ كنت شيفاكم يوم كتب الكتاب حلوين، شكل خطتي نجحت وباكتساح!
أوصدت لينة عينيها فهذا بالتحديد ما تخشاه، طالت مدة صمتها ثم اختصرت في ردها:
_ آه إحنا تمام
بفضول شـ.ـديد قالت:
_ قوليلي عملتي إيه؟ بعتي له الصور ولا لأ؟ وهو كان رد فعله إيه؟
"مفيش يا شهد عادي، هيحصل إيه يعني؟"
هتفت بها لينة بنفاذ صبر فاستشفت الآخرى ضيقها، فتسائلت باهتمام:
_ مالك يا لينة، فيه حاجة مضايقاكي
"مفيش، بس لو سمحتي معتيش تسأليني عليا ويوسف!"
قالتها لينة لاعنة نفسها، فهي لا تريد إحزانها، ومن جانب آخر تريد تنفيذ أمر يوسف، تعجبت شهد من أسلوبها وهتفت بتعجب:
_ أنا بطمن عليكي بس..
هللت لينة بحنق:
_ لا متطمنيش، عشان دي خصوصية مينفعش حد يعرفها
_ "اه تمام، طيب سلام"
بخجل شـ.ـديد قالتها شهد ثم أنهت المكالمة على الفور، بينما ألقت لينة الهاتف على الفراش وأجهشت بالبكاء، لا تصدق أنها فعلت ذلك مع صديقتها المقربة، الأمر خرج عن سيطرتها فلم تريد إحزانها لكن ما باليد حيله.
لم تتوقف عبراتها في السقوط حتي انتبهت على اهتزازة هاتفها فأسرعت في مسكه ظناً أنها صديقتها، لكنه كان يوسف من يتصل، ابتلعت ريقها ثم أجابت دون أن تنبس بشيء، فقال هو سؤاله:
_ لينة أنتِ معايا؟
باختصار قالت:
_ أه
حمحم قبل أن يردف بنبرة آمرة:
_ طيب قومي البسي وانزلي أنا تحت..
قطبت جبينها بغرابة من أمره، تفقدت الوقت ثم تسائلت بإقتضاب:
_ هنروح فين دلوقتي؟
"لما تنزلي هت عـ.ـر.في، متتأخريش أنا في العربية تحت"
هتف بهم قبل أن ينهي المكالمة في الحال، حتى لا تعترض أمره، ظلت تطالع الهاتف لبرهة ثم نهضت بفتور شـ.ـديد، التقطت ثيابها من الخزانة وقامت بـ.ـارتدائهم.
خرجت من غرفتها وتوجهت إلى غرفة السيدة ميمي، طرقت على بابها بخفة ثم ولجت إليها، وقفت مقابلها وانحنت عليها محاولة إيقاظها:
_ ماما، يا ماما
قلقت ميمي وحدجتها بقلق متسائلة بنعاس:
_ في إيه يا لينة أنتِ كويسة؟
أماءت قبل أن توضح لها:
_ يوسف عايزني أروح معاه مشوار مش عارفة فين..
تفقدت ميمي الساعة ورددت قائلة:
_ دلوقتي؟! طيب ابقي طمنيني عليكم
"ماشي"
قالتها لينة وغادرت المنزل، والعديد من التساؤلات قد راودت عقلها، وما أن استقلت السيارة حتى انهالت عليه متسائلة:
_ إحنا رايحين فين دلوقتي؟
نظر لها يوسف بعذوبة وشكل بسمة جذابة قبل أن يجيبها:
_ لما نوصل هت عـ.ـر.في..
تأففت لينة بضجر وصاحت بحنق:
_ هو إيه اللي انزلي وهت عـ.ـر.في وبعدين تقولي لما نوصل ت عـ.ـر.في
تعجب يوسف من ثورتها وبهدوء قال:
_ اهدي يا لينة، هنوصل وهت عـ.ـر.في كل حاجة
لم تعلق بل اكتفت بالصمت، التفتت إلى الجانب المعاكس له وتابعت الطريق متحاشية النظر إليه، بعد وقتٍ، وصل يوسف إلى وجهته بينما تعجبت لينة من وجودهما في ذلك المكان.
ترجل يوسف تحت نظراتها المتابعة له، وقف أمامها وفتح لها الباب مردداً:
_ انزلي..
ترجلت دون تعقيب، والفضول يكاد يقــ,تــلها، التزمت الصمت وسارت بجواره حتى صعدا إلى الطابق القاطن به شقتهم، أخذ يوسف نفساً ثم فتح الباب، كان المكان مظلم، ولج أولاً ودعاها للدخول.
أشعل الإضاءة فلم تصبر هي ثانية أخرى وصاحت متسائلة:
_ ممكن اعرف إحنا جايين هنا نعمل إيه؟
اقترب منها يوسف بخطوات متريثه ثم أشار بعينه خلفها، فرددت هي بغرابة من أمره وهي تستدير بجسدها:
_ في إيه...
صمتت حين وقع على عينيها تلك الطاولة التي تتوسط الردهة، ومن على جانبيها يوجد كرسيان، يزين الطاولة بالزهور والشموع، وتتوسطها أطباق مغلفة حتماً يوجد بها طعام فالرائحة قد تخللت انفها منذ ولوجها، وعلى طرفها باقة من الزهور رائعة الشكل.
"أنا أسف"
هتف بها يوسف نادmاً على ما اقترفه وهو يحتضنها من الخلف، خفق قلبها بقوة ثم استدارت إليه والعبرات تتلألأ في عينيها، رفع يوسف يدها الصغيرة وطبع قُبلة عليها وأعاد اعتذراه:
_ أول وآخر مرة أعمل كدا..
لم تتمالك عبراتها التي انسدلت بغزارة، فأبدى يوسف زمجرته من بكائها:
_ لأ لأ مش عايز عـ.ـيا.ط، أنا مبكرهش في حياتي قده!
مسحت عينيها وهي تردد بنبرة باكية:
_ أنت مش عارف أنا...
قاطعها يوسف بقوله النادm:
_ عارف هتقولي إيه وعارف حسيتي بإيه، وكلامك مع ميمي حسسني إني صغير أوي قدام نفسي وحيوا..
قاطعته لينة بنهرها:
_ متقولش على نفسك كدا
ابتسم يوسف ثم ضمها برفق إلى صدره، لكنه زاد من تشبثه بها وهو يشم رائحتها الذكية، كم تمنى أن يظل هكذا بقية عمره، استند على كتفها وهتف بعشق:
_ بحبك أوي، عشان خاطري متزعليش مني، أوعدك مش هعمل كدا تاني أبداً
تراجعت لينة برأسها ونظرت في عينيه مرددة بحرج يشوبه النـ.ـد.م:
_ وأنا كمان آسفة مكنتش أقصد..
قاطعها يوسف بلا مبالاة:
_ ولا يهمك يا حبيبتي قولي اللي تحبيه، أنتِ أصلاً عندك حق أنا فعلاً بلطجي
تفاجئت برده فتابع هو بغتة من بين أسنانه:
_ ولو الزمن اتعاد تاني هكـ.ـسرله ايده تاني!
تحسس وجنتها متابعاً لحديثه:
_ لينة منطقة محظورة، ممنوع حد يقرب منها!
عضت لينة على شفاها بخجل فنظر خلفها وقال:
_ تعالى نتعشى قبل ما الأكل يبرد
جلس كليهما مقابل بعضهما البعض، ثم أزاح يوسف ذاك الورق الحراري الذي يعتلي الطعام، بدأ يتناولا الطعام وكذلك الأحاديث التي لم تخلو من المزاح.
انتهوا من طعامعهما، فنهض يوسف وتوجه نحوها ثم مد لها يده فلم تتردد وأمسكت في يده، فساعدها على النهوض، تحسس شفتيها بإبهامة وطالع عينيها قبل أن يقول بخفوت:
_ لينة، أنا عايز أعمل حاجة وياريت مترفضيش!
بعدm فهم سألته حول ما يريد فعله:
_ حاجة إيه؟
خلع يوسف سترته ووضعها على المقعد وعاد إليها مشكلاً بسمة ماكرة على محياه، مال على أذنها وهمس بنبرة قشعر لها بدنها:
_ مترفضنيش..
↚
"تتجوزيني"
قالها وهو يجسي على ركبته مثنياً قدmه الأخرى، يمسك بيده عُلبة بها خاتم الزواج، لحظة استيعاب لما يحدث، فلم تصدق ذلك، لطلاما حلمت بعرض زواج كهذا، أدmعت عينيها وابتسمت بعذوبة، أوصدت عينيها لبرهة ثم انفجرت ضاحكة، فشاركها يوسف الضحك، اقتربت منه ومالت برأسها لليمين قليلاً وبخجل واضح هتفت:
_ موافقة طبعاً..
استقام يوسف وتمتم وهو يضع الخاتم في إصبعها:
_ رأيك مش مهم أصلاً، عشان هتجوزك كدا كدا
لم تمنع ابتسامتها وهي تتابع دخول ذاك الخاتم إصبعها، رفعت يدها حين فرغ يوسف وطالت بنظرها عليه ثم هتفت بدون تصديق:
_ فضة دا؟
تقوس ثغر يوسف بتهكم وصاح بإزدراء:
_ فضة!! يوسف الراوي يجيب شبكة فضة! دا ألماس يا حبيبتي
دقت السعادة طبول قلبها، اقتربت منه وقامت بعناقه، ولم تخفض نظريها من على إصبعها بفرحة عارمة، ضمها يوسف وتشبث بها كـتائه في طريق وكانت هي آخر آماله في العودة.
ابتعد قليلاً ليطالع عينيها وقال بعذوبة:
_ ما تغنيلي..
ابتسمت ثم تسائلت بخفوت:
_ عايز تسمع إيه؟
"أي حاجة منك حلوة"
قالها وهو يتفحص ملامح وجهها الرقيقة، أخذت لينة وقتاً في التفكير حتى اختارت أحد أغاني كوكب الشرق فهي على علم بمدى حبه لها فهتفت بحماس:
_ ممم ماشي..
كادت أن تغرد بصوتها العـ.ـذ.ب إلا أنه أوقفها بإصبعها موضحاً:
_ ثانية..
ابتعد عنها ثم توجه إلى الكرسيان وحملهما بين يديه وتوجه بهما إلى الشرفة التي تتوسط الردهة، وضعهما بجانب بعضهما ودعاها للدخول، جلس على أحدهما وجلست هي إلى يساره ثم مالت برأسها مستندة على كتفه، مد يوسف يده لها فتخللت هي ثغرات يده الفارغه بأناملها وبدأت غنائها وهما يطالعان القمر والنجوم:
_ يا حبيبي، الليل وسماه،
ونجومه وقمره وسهره،
وإنت وأنا، يا حبيبي أنا، يا حياتي أنا،
كلنا كلنا في الحب سوى،
والهوى، آه منه الهوى سهران الهوى،
يسقينا الهنا، ويقول بالهنا،
ياحبيبي يلا نعيش في عيون الليل ونقول للشمس تعالي تعالي،
بعد سنة مش قبل سنة دي ليلة حب حلوه بألف ليلة وليلة،
بكل العمر، هو العمر إيه غير ليلة زي الليلة.
انتهت من غنائها فرفع يوسف يده تلقائياً وطبع قُبلة حارة على يدها، التفت برأسه يساراً وواجه عينيها اللامعة قبل أن يردف:
_ عمري ما اتخيلت إني أقع في حب واحدة للدرجة دي!!
تقوس ثغرها ببسمة رقيقة وبحياء ونبرة متيمة قالت:
_ أنا بقى من أول ما شوفتك وأنا عارفة إني هحبك!
بعدm تصديق لما تخبره عنه سألها بجدية:
_ إزاي يعني؟ أنتِ كنتي عيلة عندك ١٠سنين ت عـ.ـر.في إيه أنتِ عن الحب؟
نظرت أمامها وأجابته بثقة:
_ يمكن وقتها مكنتش أعرف يعني إيه حب، بس أنا اطمنت!،
وقت ما كنت خايفة لما كنت أنا وعلي لوحدنا أنت جيت وطمنتنا، ووقت ما خوفت أصل القطر يفوتنا أنت حـ.ـضـ.ـنتني وجريت لغاية ما وصلتني ليه، ووقت ما أمجد ضـ.ـر.بني أنت اخدت لي حقي، ولما علي مشى مكنش فيه غيرك يسد غيابه، وطول ال ٨وسنين اللي قعدت معاك فيهم مكنتش بتعمل حاجة غير أنك بطمني!!
عادت بنظرها إليه وواصلت:
_ تفتكر أنت بقى يبقى معايا الأمان دا كله وافرط فيه ومحبوش؟!
وما أن أنهت جملتها حتى تفاجئت بقبلته التي طبعت على شفتيها، خفق قلبها وتسارعت نبضاته، فهو دوماً ما ينجح في إرباكها واضطراب حواسها، لكزته بخفة في صدره وأخفضت رأسها بحياء معاتبة إياه:
_ بطل تعمل كدا فجاءة وبرا البيت..
رفع وجهها فتبادلا النظرات متسائلاً بهمس:
_ ليه؟
حمحمت وهي تخبره بعد أن هـ.ـر.بت بعيينها بعيداً عنه:
_ عشان ببقى عايزة أهرب منك، وهنا مش هعرف أهرب!
"اهربي هنا"
قالها يوسف وهو يدخلها داخل صدره محاوطها بذراعه فلم تمانع لينة، هي لا تريد مواجهة عينيه تلك الأثناء، أخرجت تنهيدة قبل أن تتسائل باهتمام وحماس شـ.ـديدان:
_ هنبدأ في تجهيزات الفرح امتى؟
أجابها وهو يطالع السماء:
_ لو عليا من بكرة، بس مش عارف إزاي، وأنتِ أصلا نص يومك في الكلية وأكيد مش هاخدك بعد يوم طويل ونلف مع بعض نشتري حاجتنا، دا غير إن كدا مش هيكون في وقت لمذاكرتك أصلاً، فمش عارف هنعملها إزاي؟!
"ممم، أنا هقولك"
قالتها بحماس ثم رفعت بصرها عليه وأخبرته بما يدور في عقلها:
_ أنت ممكن تجيب صفح الأماكن اللي نقدر نشتري منها كل حاجة على الميديا ونختار كل حاجة وأنت تروح تشتريهم..
أبدى يوسف إعجابه بذاك الإقتراح حيث صاح وهو يضـ.ـر.ب رأسها بخفة:
_ ذكاء المهندسين ظهر
رفعت لينة عينيها للأعلى في نظرة تعالى وفخر فتابع يوسف بعفوية:
_ هبقى أكلم بلال وأعرف منه الأماكن اللي اشترى منها ونشوف لو ليها صفح..
أسرعت في رفض ذلك موضحة:
_ لا بس أنا مش بحب المودرن، أنا بحب الكلاسيك أكتر بحسه قيم جداً
"ما طبيعي أي مكان بيكون عنده جميع الاستايلات وأنتِ تختاري حسب ذوقك"
هتف بها يوسف بينما تراجعت هي بحرج وقالت:
_ ممم طيب، تجهيزات البيت وحليناها، كلميني بقى عن الفرح هنعمله فين وهيكون إزاي..
توقفت عن الحديث ونظرت إليه مستاءة قبل أن تتابع:
_ أنا عايزة أرقص واتنطط، وأنت كمان هتشاركني كل حاجة مش عايزة أي رفض في اليوم دا، مفهوم!
قلب يوسف عينيه وقال:
_ هعملك كل اللي أنتِ عايزاه، بس برده هعمل اللي أنا عايزه!
قطبت لينة جبينها مرددة بعدm استعياب:
_ ودا إزاي يعني؟
اعتدل يوسف في جلسته ونظر إليها ثم أوضح ما يقصده:
_ يعني هنعمل قاعتين، واحدة ليكي ولصحابك وواحدة ليا ولصحابي وكدا
شهقت لينة بذهول ورددت بدون إعجاب لما قاله:
_ إيه!! بس أنا عايزاك معايا..
حمحم قبل أن يردف كلمـ.ـا.ته:
_ ما أنا هكون معاكي، ومعاهم برده
قلبت عينيها مستاءة قبل أن تهتف بعدm رضاء:
_ ودا هيحصل إزاي برده؟
"هكون معاكي أكبر وقت يا لينة، أنا أخري هسلم على المعازيم والباقي كله ليكي"
عبست بوجهها فتابع هو:
أنا مش هسمح إنك تقفي ترقصي قدام حد، وفي نفس الوقت عايز أفرحك واعملك اللي أنتِ عايزاه عشان دا يومك فبلاش لوي بوز
حدجته لبرهة قبل أن تصيح بحنق:
_ إيه بقى دا يومك دا هو مش يومك أنت كمان ولا إيه؟
أوضح لها يوسف مقصده بهدوء:
_ أنا يومي بيكي أنتِ، مش بالفرح ولا بالقاعة ولا بأي حاجة، أنا فرحتي بوجودك معايا، عمري ما اهتمـ.ـيـ.ـت بالشكليات دي..
"قصدك إني سطحية وبتاعت مظاهر؟!"
هتفت لينة بإزدراء، بينما تحلى يوسف بالصبر موضحاً حقيقة كلمـ.ـا.ته:
_ أكيد لأ، البني أدmين مش زي بعضهم كل واحد ليه طريقة معينة بيتبسط بيها، ليه مفضلاته غير التاني، أنا مش بقدر اتبسط بالرقص والتنطيط وإظهار الحب قدام الناس وأنتِ بتتبسطي بكل دول فأنا هعملهم عشان تكوني مبسوطة لكن أنا كدا كدا مبسوط بيكي أنتِ
ضاقت لينة بعينيها ورددت بخفوت:
_ دا تثبيت؟!
قهقه يوسف وقال بمرح:
_ حاجة زي كدا
غيرت مسار حوراهما إلى خطوة ما بعد حفل الزفاف حيث أردفت:
_ ممم، هنعمل هاني مون فين؟
نظر يوسف يميناً ويساراً متصعناً الحماقة:
_ إيه دا هو إحنا هنعمل هاني مون؟
نظرت إليه لينة مستاة وهتفت بتهكم:
_ أيوة طبعاً..
تغلغلت الحماسة داخلها وازدادت نبرتها حيوية متابعة لحديثها:
_ عايزة أروح مكان مكنش متقيدة فين بطرحة ولبس، عايزة أسيب شعري وأجري على البحر، وألبس بيكيني
أوصدت عينيها حالمة بما تتمناه وهتفت بشغف:
_ ياااه..
فتحت عينيها فتفاجئت به يستند بمرفقه على الكرسي مستنداً بذقنه على راحة يده يصغي لأحلامها الوردية ثم ردد ببرود:
_ يااه أحلام جميلة مش هتتحقق خالص..
"ليه متتحققش، فيه أماكن أقدر أعمل فيها كدا"
هتفت بها بحماس فقطع عليها حماسها بقوله:
_ الكلام دا مستحيل يتعمل برا البيت اللي إحنا قاعدين فيه دا..
لم تستسلم وصاحت محاولة إقناعه:
_ يابني المالديف فيها أماكن مخصصة لاتنين بس محدش بيكون شايفهم خالص، ليهم مكانهم الخاص وسط البحر نعمل فيه اللي إحنا عايزينه..
قلب يوسف عينيه وقبل أن يبدي رفضه مجدداً هتفت هي:
_ أنا عملت سيرش في الموضوع دا ومتأكدة من كلامي، وإلا أكيد مكنتش هطلب منك حاجة زي كدا أصلا، ولو مش مصدقني أعمل سيرش أنت وشوف بنفسك..
أمسكت ذارعه متوسلة إياه بدلال معانق للتوسل:
_ لطفاً يا سوفي..
"ربنا يسهل"
أردفها يوسف فصاحت هي بحماس شـ.ـديد:
_ يعني وافقت؟!
أسرع في نفي ظنها بقوله:
_ أنا مقولتش إني وافقت، بس هفكر
ابتسمت هي بسعادة فإن لم يرفض فهناك أملاً كبيراً في موافقته، صمتت ثم تذكرت أمر المنزل خاصتهم فتسائلت متلهفة:
_ أنت عملت إيه في موضوع بيع البيت، السمسار موصلش لمشتري؟
نفى يوسف بحركة من رأسه وهتف آخر ما وصل إليه:
_ آخر حاجة قالي إنه هيتكلم مع عمدة البلد ويعرض عليه الموضوع، لأنه عارف إنه بيشتري أغلبية البيوت القديمة بس لسه مردش عليا.
تأففت لينة بنفاذ صبر وصاحت:
_ أوف عايزاه يتباع بسرعة..
قلب يوسف عينيه فلم يهضم الأمر بعد وأبدى زمجرته:
_ أنا لغاية دلوقتي مش موافق علي بيعه، أنا كنت أقدر أسلف علي، آه مش من معايا بس أعرف رجـ.ـال أعمال بيسلفوا للمشاريع الصغيرة، وأنتِ عمري ما كنت هنقص لك حاجة
أسرعت لينة في قول:
_ والله عارفة، بس أنا مش عايزة أحملك فوق طاقتك، كل حاجة بقت غالية ولما نشارك بعض مش هتضغط وأنا هبقى مضايقة إنك مضغوط، ثم إن ليه يعني نستلف وعندنا بيت ملك، وكدا كدا مش بنستعمله في حاجة، يعني نستنفع بيه أحسن ماهو واقف كدا والله أعلم بيحصل فيه في غيابنا
لم يبدي يوسف رد فعل، فلم تنجح في إقناعه، ساد الصمت لدقائق قبل أن تحتد تعابير لينة ومالت للحـ.ـز.ن حينما تذكرت محادثتها الاخيرة مع صديقتها، نكست رأسها وقد شعرت بوخزة في صدرها ولم تكف عن إيلام نفسها، لاحظ يوسف ذاك التحول المفاجئ وسألها باهتمام:
_ مالك في إيه؟
أخذت نفساً قبل أن تخبره بحـ.ـز.ن ونـ.ـد.م:
_ عملت موقف رخم أوي مع شهد..
بفضول تسائل:
_ عملتي إيه؟
أخرجت تنيهدة مهمومة وأخبرته ما اقترفته في حق صديقتها:
_ بقالي كام يوم مش برد عليها لأني عارفة ومتأكدة إنها هتسألني عملتي إيه واتصالحنا إزاي، وأنا للاسف اكتشفت إني مش بعرف أواجه وخصوصاً لو هنهي حاجة بتحصل، بس النهاردة رديت عليها ومن كتر خنفتي بسبب زعلنا أنا وأنت اتكلمت معاها بأسلوب وحش جداً، كنت قليلة الذوق بطريقة بشعة، اتنرفزت عليها وقولتلها معتيش تسأليني عن حاجة تخصنا عشان دي خصوصية وهي كل اللي عملته قالتلي تمام وقفلت..
فرت دmعة من عينيها ورددت بإيلام:
_ أنا مش عارفة إزاي عملت كدا، أنا غـ.ـبـ.ـية والله..
تفهم يوسف وضعها وما كان منه إلا أن ضمها لصدره محاولاً تهدئتها بكلمـ.ـا.ته:
_ أنتِ معملتيش حاجة غلط يا لي لي، دا اللي المفروض كان يحصل، عشان علاقتنا مينفعش حد تالت يكون طرف فيها، بس ممكن اللي غلطتي فيه أسلوبك معاها..
هتفت لينة بنبرة باكية:
_ والله العظيم كان غـ.ـصـ.ـب عني، كنت مخـ.ـنـ.ـوقة أوي، اللي حصل بينا مكنش سهل عليا، بس برده هي ملهاش ذنب..
تنهد ثم أردف بنبرته الرخيمة:
_ حصل خير، كلميها بكرة وفهميها إنك كنتي مخـ.ـنـ.ـوقة وكان غـ.ـصـ.ـب عنك وهترجعوا كويسين تاني، وبس بطلي عـ.ـيا.ط لو سمحتي، بقولك بكرهه
حاولت جاهدة أن تقطع بكائها لكنها فشلت، فأراد يوسف خلق حديثاً لعلها تتناسى الأمر، تذكر شيئاً ما فصاح باستنكار شـ.ـديد:
_ صحيح، تعالي هنا أنتِ إيه اللي قولتيه لميمي قبل كدا دا؟
مسحت عبراتها وبعدm فهم سألته:
_ قولت إيه؟
"لما قولتيلها إني مش فارق معايا لا مسؤولية ولا حتى حقوقي!! أنتِ إزاي قولتي كدا؟
هتف يوسف بعدm تصديق بعد بينما نكست لينة رأسها بحياء شـ.ـديد، عضت على شفاها ولم تجرأ على إعطائه إجابة، فعاد يوسف متسائلاً بجدية:
_ أنتِ فاهمة يعني حقوق كراجـ.ـل؟!
"بس بقى يا يوسف"
قالتها بخفوت متمنية داخلها أن لا يطيل في الأمر لكنه أصر على أخذ منها ما يريد سماعه:
_ بس إيه، دي فيها حوار تاني دي ها ردي..
"ميمي قالتلي"
ألقت إجابتها ثم هـ.ـر.بت منه بخروجها من الشرفة، بينما قهقه يوسف وهلل عالياً:
_ بركاتك يا ميمي، كدا نتمم الجوازة وإحنا مطمنين
توجه إليها فأردفت هي دون أن تواجه عينيه:
_ أنا عايزة أروح..
اقترب منها حتى بات لا يفرقهما شيء، رفع وجهها ونظر إليها وقال:
_ زهقتي مني؟
عاتبته عينيها قبل أن كلمـ.ـا.تها:
_ أنا عمري أزهق منك؟! أنت الظاهر مش عارف غلاوتك عندي!!
"تؤ مش عارف، عـ.ـر.فيني"
همس بها وهو يقترب من شفاها تاركاً مسافة بين وجهيهما لكي تجيبه، ابتلعت هي ريقها بإرتباك وهمست:
_ يلا نمشي..
"مش عايز، أنا عايز أفضل جنبك هنا في بيتنا"
هتف بها ثم قبل ثغرها برقة مبالغة وتابع:
_ عايز أقفل عليكي قلبي ومتخرجيش منه أبداً!
حملها يوسف عن الأرض ثم وضعها على الطاولة برفق ووقف مقابلها وقال:
_ ما تيجي نوفر كل اللي خططناله ونتجوز النهاردة؟!
خفق قلبها وشعرت بالخوف الشـ.ـديد، دفعته بكل ما أوتيت من قوة ثم أسرعت خطاها نحو الباب فقهقه يوسف عالياً وهتف:
_ طب استني بس
لم توقفها كلمـ.ـا.ته وتابعت خروجها من المنزل، أخذ معطفه وباقة الذهول ثم أغلق كميه الإضاءة وترجل خلفها، وقفت لينة أمام السيارة في إنتظار مجيئه وحرصت بألا تنظر إليه فيكفي ذلك القدر من الخجل الذي يسيطر عليها.
فتح يوسف السيارة فاستقلت هي أولاً تحت ضحكاته على تصرفاتها، استقل هو خلف المقود ولم يرفع نظره عنها ملقياً بعض الكلمـ.ـا.ت الساخرة:
_ وقت الجد بنقلب قطط..
نظر إليها ومال عليها هاتفاً بسخرية:
_ مياو مياو
لم تصمت وخرجت عن صمتها، لكزته في صدره بعنف فآنه بألم وعاد إلى مقعده مردداً بحنق وهو يتحسس إثر ضـ.ـر.بتها:
_ قلبك قلب قطط بس ايدك ايد ديناصور
صاحت الأخرى بغضب:
_ وهياكلك لو مبطلتش تريقة
رمقها بطرف عينيه وأعاد سخريته:
_ مياو مياو..
رفعت يدها محذرة إياه فلتقطها يوسف بخفة وطبع قُبلة عليها ثم وضعها على صدره قبل أن يردف:
_ على قلبي زي العسل
قلبت لينة عينيها ناهيك عن فمها الذي حركته ساخرة فصاح هو:
_ لا كدا قلبنا معاقين
تأففت هي وسحبت يدها عاقدة كليهما عند صدرها متذمرة، فهلل يوسف:
_ مياو مياو
انفجرت لينة ضاحكة فشاركها هو بينما هتفت هي:
_ ياربي بجد، وقعت في واحد متنمر
غمز إليها بمشاكسة فتابعت ضحكها ولم تضيف المزيد، تابعا كليهما الطريق ولم تخلوا مدة وصولهما عن المزاح.
***
عادا إلى منطقتهما وتقابلا مع بلال الذي يقف برفقته أحد الشباب، لمح طيفهما فلم يتردد في الذهاب إليهما حيث صاح عالياً:
_'إيه الصياعة دي، فاضل ساعة على الفجر ولسه راجعين
بإسيتاء شـ.ـديد هلل يوسف:
_ وأنت مالك ياعم واحد ومـ.ـر.اته بتدخل بينهم ليه؟
"مـ.ـر.اته؟"
رددها بلال ساخراً وهو يمرر نظريه بينهما فصاحت لينة بحنق:
_ في إيه يا برو؟
بنبرة لا تحمل النقاش قال بلال:
_ مرات أبويا متدخليش بيني وبين صاحبي
لكزه يوسف في صدره وسأله مستفسراً وهو يجوب العُلبة التي في يده:
_ أنت جايب إيه كدا؟
أجابه مختصراً:
_ عشا..
"وهو فيه حد يتعشى الفجر؟"
قالها يوسف ساخرة فهتف بلال وهو يقلب شفتيه باستنكار:
_ واحد ومـ.ـر.اته جعانين أنت مالك؟
"هي بقت كدا، ماشي، يلا هطير أنا عشان الأكل ميبردش"
أردفها بلال ثم أولهما ظهره وعاد إلى منزله وكذلك فعل الاخرين، ولج منزله فالتفت إيمان إليه وهي جالسة ثم سألته مستفسرة:
_ اتاخرت ليه؟
أوضح لها سبب تأخيره وهو يقترب منها:
_ قابلت يوسف ولينة ووقفت معاهم..
بعفوية سألته:
_ كانوا ف..
لم تكمل سؤالها خشية أن يُساء فهمها، حمحمت ثم قالت:
_ طب يلا عشان جوعت..
جلس بلال وفتح عُلبة البيتزا وبدأ يتناولان وهما يتابعان فيلماً أجنبياً، انتهوا من الطعام ثم التفتت إيمان حيث يجلس بلال وبتردد قابلته في البداية أردفت:
_ بلال عايزة أتكلم معاك في موضوع ومترددة..
كتم بلال صوت التلفاز ونظر لها بأذان صاغية فتابعت هي:
_ أنا مش عايزة أكون مترددة وأنا بتكلم عن...
ابتلعت ريقها وهي تتابع تعابيره فهتف هو متسائلاً:
_ وأنتي بتتكلمي عن إيه!
حكت إيمان ذقنها ثم استرسلت بحرص شـ.ـديد:
_ وأنا بتكلم عن يوسف..
أسرعت من نبرتها لكي لا يسيء فهمها وبررت ما تقصده:
_ هو في الآخر ابن عمتي وصاحبك وأكيد سيرته هتيجي على طول، والله هو ميخصنيش في حاجة بس مش حابة أكون مترددة وأنا بـ..
قاطعها بلال بقوله:
_ مش لازم كل التبرير دا، أنا معنديش مشكلة في سيرته ما أنا كدا كدا اللي بجيبها مش أنتِ..
تقوس ثغرها ببسمة تلقائية واقتربت منه وأحاطت صدره، ثم رفعت نظريها عليه وصرحت بحبها:
_ بحبك أوي
مال بلال برأسه وطبع قُبلة على أرنبة أنفها قبل أن يهتف:
_ وأنا كمان بحبك، بس ليه قولتي كدا دلوقتي؟
تراجعت للخلف وظلت تلوح بيدها وفي النهاية أجابته:
_ مش عارفة، حاجة من جوايا خليتني أقولك كدا..
حمحمت ونظرت إليه بجدية وقالت:
_ أقولك على حاجة ومش عارفة إذا كنت هتصدقني ولا لأ!
هز بلال رأسه مردداً بفضول:
_ إيه؟
ابتلعت ريقها وبدأت تخبره بما تشعر به:
_ فيه حاجات كدا عمري ما حسيت بيها قبل كدا، دايماً بحس إني عايزة أعملك كل حاجة حلوة، عايزة أرضيك وأفرحك، بعرف إيه اللي بيضايقك وبحاول معملوش..
أمسكت يده ورفعتها عند فمها ثم طبعت قُبلة داخلها وأردفت:
_ والله العظيم يا بلال انا قلبي ما رضى عن حب غير حبك، عمره ما كان مرتاح قد وأنا معاك، أنا نفسي أجيب لك الدنيا كلها في سبيل إنك تكون مبسوط..
لمعت عيني بلال متأثراً بتصريحاتها، رفع يدها الممسكة بيده وطبع قُبلة حارة عليها ثم مال على رأسها وطبع أخرى على خصلاتها قبل أن يواجهه عينيها ويقول:
_ أنا مبسوط طول ما أنتِ جنبي، دا عندي بالدنيا كلها..
ابتسمت وكذلك هو، بينما نهض بلال فنظرت إليه متسائلة بغرابة:
_ رايح فين؟
زفر بلال ثم أصدر صوت طقطقة فقرات ظهره مجيباً إياها:
_ هنتشاقى شوية..
وقبل أن يجمع عقلها ما تفوه به كان قد انحنى عليها وحملها بين ذراعيها فتشبثت هي في عنقه بدلال، توجه بلال إلى غرفة نومهما ليحظى بوقتاً معها.
***
تعجب يوسف من صحيان أخيه للأن، فلقد أعتاد في الآونة الأخيرة على نومه عند عودته، ابتسم له وأردف بصوت أجش:
_ عاش من شافك والله، كل ما أرجع ألاقيك نمت، والصبح متكنش موجود..
اقترب منه زياد ومزاحه قائلاً:
_ ما أنا قولت بقى منامش النهاردة قبل ما أشوفك، ما أنا معتش هشوفك تاني..
شعر يوسف بوخزة في قلبه إثر كلمـ.ـا.ته، لم يدري لما خشى عليه كثيراً وهم بسؤاله بنبرة قلقة:
_ إيه الكلام دا؟ يعني إيه معتش هتشوفني؟
أوضح زياد ما يقصده من خلف كلمـ.ـا.ته المبهمة:
_ يعني خلاص بكرة هلبس في الجيش!!
لا يدري يوسف لما لم يشعر بالفرح، فكان هو من يحثه على الإلتحاق به، ما الذي تغير الآن؟ لحظة صمت سادت بينهما لم يبدي يوسف رد فعل بل ظل يحدق ملامح أخيه وقلبه ينفطر حـ.ـز.ناً.
لوح زياد بيده أمام عيني يوسف مردداً بسخرية:
_ للدرجة دي هوحشك؟
أنتبه يوسف على كلمـ.ـا.ته ولم يشعر بنفسه سوى وهو يضمه إلى صدره معانقاً إياه بحرارة، انفجر زياد باكياً وهو يبادل أخيه العناق، فكانت مرته الأولى لأن يفارقه.
حاول يوسف الصمود قدر المستطاع لكي لا يشاركه البكاء، زاد من تشبثه به ثم عاد للخلف ورسم بسمة قبل أن يردد:
_ تروح وترجع بالسلامة..
لكزه في صدره فازداد نحيب زياد، لكنه أسرع في مسح عبراته بينما تسائل يوسف بجدية:
_ أنت بتعيط ليه دلوقتي؟ عشان هتمشي؟
وضع زياد يده على صدره وأجابه:
_ لا عشان إيدك تقيلة أوي
انفجرا كليهما ضاحكين، ثم توقفا عن الضحك وهما يتبادلان النظرات قبل أن يتسائل يوسف:
_ جهزت حاجتك؟
أماء زياد وقال:
_ آه ميمي ساعدتني..
"ميمي!!"
رددها يوسف ثم صاح:
_ عملت إيه لما عرفت إنك ماشي
اتسعت عيني زياد وهو يقلدها:
_ مبطلتش عـ.ـيا.ط كالعادة
ضحك يوسف وأردف:
_ ولا هتبطل يومين تلاتة كدا..
قهقه زياد ساخراً قبل أن يخبره بذكرى قديمة:
_ هو أنت فاكر إنها عيطت يومين تلاتة لما أنت مشيت؟ دي قعدت تعيط طول مدة غيابك، مكنتش بتسكت غير في أيام إجازتك بس
تفاجئ يوسف بما أخبره له حيث هتف بهدm تصديق:
_ بتهزر؟!
"يا أخي دا أنا شوفت الويل، يلا شوفه أنت شوية"
قالهم زياد ثم ضحك كلاهما على كلمـ.ـا.ته بينما استأذن يوسف للخروج معللاً أسبابه بأنه لديه عملاً لابد أن ينهي قبل أن ينام، خرج من الغرفة وما أن أوصد بابها حتى انسدلت عبراته حـ.ـز.ناً على فراق أخيه.
أسرع للخارج لكي لا يراه أحد، ولج الشرفة واستند بمرفقيه على السور ودعى العنان لعبراته في السقوط، بعد دقائق شعر بيد أحدهم قد وُضعت على ظهره، فأسرع في مسح عبراته ثم استدار ليعلم هوية الدخيل.
فكانت فتاته، رمقته بقلق من أمره وسألته بتلهف:
_ مالك يا يوسف؟
تصنع الإبتسام وهو يجيبها:
_ مفيش يا حبيبي، أنتِ لسه صاحية ليه؟
اعترضت إبعاده عن سؤالها هاتفة:
_ هو إيه اللي مفيش؟، والدmـ.ـو.ع اللي أنا شيفاها دي إيه؟
فرت دmعة على مقلتيه فأسرع في مسحها، بينما آثار القلق في قلبها وأعادت سؤالها بتوجس:
_ في إيه متخوفنيش..
أولاها يوسف ظهره واستند مرةً أخرى على السور قبل أن يجيبها:
_ قلبي مقبوض، وأنا مبحسش بكدا غير لما يحصل حاجة وحشة بعدها!!
جاورته في وقفته وربتت على ظهره بحنو وقالت:
_ ليه يا حبيبي إيه اللي حصل عشان تحس بكدا؟
أخذ نفساً عميق ورد على سؤالها بنبرة مختنقة:
_ زياد ماشي بكرة..
نظر إليها وتابع:
_ المشكلة إني مستغرب نفسي أوي وأنا اللي كنت بزن عليه عشان يدخل الجيش، مش فاهم في إيه؟!
ابتسمت في وجهه ببشاشة وقالت:
_ يا حبيبي طبيعي تخاف عليه وطبيعي تزعل، أنتوا طول عمركم مع بعض وأنت شايفه أخ وإبن وصاحب فلما يمشي مدة طويلة هتزعل، بس مفيش داعي للقلق هو في حماية ربنا..
"ونعمة بالله"
رددها يوسف فملست هي على وجنته بنعومة وهتفت برقة:
_ بحبك
"وأنا كمان"
قالها يوسف فـلكزته لينة بقوة في صدره هاتفة بحنق:
_ اسمها وأنا كمان بحبك، إيه وأنا كمان دي؟!
أجبرته على الإبتسام ثم أحاط خصرها بذراعه دافعاً إياها إلى صدره وهمس بنبرة ماكرة من بين قبلاته التي يطبعها على ثغرها:
_ بحبك، بحبك، بحبك
دفعته لينة بعيداً عنها وهتفت مستاءة:
_ أنت ما بتصدق، تصبح على خير
"وأنتِ من أهله"
قالتها وهو توليه ظهرها، ثم استدارت ونادته برقة:
_ يوسف..
انتبه لها فأرسلت إليه قُبلة في الهواء، فتفاجئت به يهرول نحوها، فلم يكن أمامها سوى الركوض والعودة إلى غرفتها قبل أن يصل إليها بينما قهقه يوسف على تصرفها العفوي وعاد إلى غرفته، ظل يحدق بأخيه النائم ولم يزوره النوم تلك الليلة قط.
***
صباحاً، وقف يوسف حاملاً حقيبة أخيه وإلى جواره لينة، وفي منتصف الردهة تعانق السيدة ميمي صغيرها وتبكي بمرارة، بعد وقتٍ طال تدخل يوسف بقوله:
_ يلا يا ماما كفاية كدا..
ابتعدت عن زياد وهتفت وعي تملس على وجنته:
_ خلي بالك على نفسك وكُل كويس ونام كويس وأي حاجة تحتاجها كلمنا على طول
انفجر يوسف ضاحكاً وهو يقترب من أخيه:
_ يلا يا عم دي فكراك رايح تصيف!!
ضحك زياد ولم يطيل لكي لا يتأخر:
_ متخافيش يا ماما إن شاء الله هبقى كويسة..
قبل يدها ثم توجه إلى الباب وتبعه يوسف ولينة التي ستذهب إلى جامعتها، ترجلا السُلم حتى باتا خارج المنزل، فتقابلا مع أمجد صديق فهلل زياد ساخراً:
_ أنتم السابقون ونحن اللاحقون..
قهقه أمجد ولم يصدق مظهر زياد وصاح عالياً:
_ لا مش مصدق أخيراً لبست!
أماء زياد ثم سأله بجدية:
_ طمني وقولي الموضوع سهل
تدخل يوسف بقوله:
_ دا كان فترة تدريب لسه التقيل جاي ورا
شهق أمجد وصاح بعدm تصديق:
_ يعني فيه مرمطة أكتر من كدا؟
كتم يوسف ضحكاته فكانت خير إجابه على سؤاله، تبادلا زياد وأمجد بعض الأحاديث ثم ودعا بعضهما، استقل زياد السيارة بينما توجه أمجد إلى منزله، فلحق به يوسف منادياً إياه بصوت أجش:
_ أمجد، استنى..
توقف عن السير بينما تحدث يوسف دون أن يطيل:
_ بما إنك جيت عايزك تتكلم مع أختك وتخليها ترد على صاحبتها، وقولها إن أنا اللي طلبت منها تقول كدا، وبلاش تخسرها عشان موقف عبـ.ـيـ.ـط زي دا..
قطب أمجد جبينه بغرابة فهو لم يفهم كلمـ.ـا.ت يوسف وردد دون استيعاب:
_ أنا مش فاهم أوي، هو فيه حاجة حصلت؟
تنهد يوسف وأجابه بنبرة سريعة:
_ قولها بس اللي قولته وهي هتفهم، يلا بعد إذنك..
أولاه يوسف ظهره وعاد إلى السيارة وانطلق بها حيث جامعة لينة، ثم إلى محطة القطار، ربت على كتف أخيه وقال:
_ خلي بالك نفسك..
اكتفى زياد بإيماءة من رأسه بينما أضاف يوسف مازحاً:
_ مع السلامة يا دفعة
غمز له بمشاكسة وواصل بتحدٍ:
_ قولت لك ليك يوم
ضحك كليهما ثم ودعه زياد وتوجه إلى القطار، بينما لم يبرح يوسف حتى تحرك القطار واختفى من أمام مرأى عينيه ثم عاد إلى سيارته وانطلق إلى عمله.
***
مساءاً، عاد يوسف باكراً اليوم حتى يقطع على والدته سُبل عيش الحـ.ـز.ن بمفردها، فوجوده حتماً سيفرق معها..
تنهدت السيدة ميمي بحـ.ـز.ن ورددت:
_ الواحد كان فاكر إن أنتوا اللي بتاخدوا القوة مني، طلعت انا اللي قوية بيكم وبوجودكم جنبي، ولما واحد فيكم يبعد بكون ضعيفة أوي..
نهض يوسف واقترب من أريكتها ثم جلس على حافتها وطبع قُبلة على رأسها قبل أن يردف:
_ ربنا يخليكي لينا يا أمي، أنتِ الخير والبركة، وبعدين هو مهما غاب مسيره هيرجع لك إن شاء الله، وأنا أهو جنبك ولا مش كفاية؟
ربنا على يده وقالت بحنو:
_ ربنا يبـ.ـارك فيك يا حبيبي، دا أنتو ثمرة عمري كله، عشان كدا مقدرش على بعدكم أبداً، بس لازم أعود نفسي على كدا، أنت خلاص هتتجوز وهتمشي، وأخوك مسيره برده يشوف حياته، دي سُنة الحياة ولازم أتعود..
تبادلا يوسف ولينة النظرات، وقد شعر كليهما بمشاعر واحدة تلك الأثناء، حيث شعر يوسف لوهلة أنه يريد التراجع عن جميع الترتيبات قد رتب لها، شعر بحاجته للمكوث هنا أكبر فترة ممكنة، فكيف سيترك والدته وحيدة؟ خرج من شروده على نهوض والدته عن الأريكة وهي تردد:
_ هروح أحضر العشا طلاما كلنا موجودين..
ولجت المطبخ فاقتربت لينة من يوسف وهمست:
_ على فكرة أنا معنديش مانع نأجل الفرح لغاية ما زياد يرجع..
أخذ يوسف يدها وقبل كفها فكان هذا تماماً ما يفكر به، عادت السيدة ميمي حاملة صينية الطعام، حمحم يوسف وتحدث قبل أن يتناولا طعامهم:
_ بقولك يا أمي، أنا ولية قررنا نأجل الفرح شوية...
قطبت ميمي جبنيها وسألته مستفسرة عن سبب ذاك التأجيل:
_ تأجلوا! ليه؟
بتلقائية أجابها:
_ يعني، على لما زياد يرجع و..
تدخلت ميمي رافضة قرارهما بحسم:
_ ولا يتأجل ثانية واحدة، أنا مش بقول كدا عشان تقولي نأجل الفرح، أهم شوية فضفضة وطلعت لكم، ما أنا مليش غيركم، ولو هتاخدو كل كلامي بحساسية كدا يبقى معتش أتكلم خالص
أسرعت لينة في توضيح ما تجهله:
_ لأ لأ المسألة مش كدا بس، أنا لما دخلت الكلية لقيت الدنيا صعبة ومش زي ما كنت متخيلة فالكلية والجواز هيبقوا مع بعض صعبين جدا عليا..
لم تمنع ميمي ابتسامتها التي تشكلت على شفتيها ثم أردفت مازحة:
_ يابت؟! دا أنتِ كنتي هتمـ.ـو.تي على الجواز..
أخفضت لينة رأسها بحياء فهي قد فهمت لعبتها، بينما أضافت ميمي بنبرة حاسمة:
_ مفيش تأجيل، خلونا نفرح بقى الفرح مزارش بيتنا من زمان..
تبادلا يوسف ولينة النظرات ثم ابتسم لبعضهما فتدخلت ميمي معلقة على حالتهما:
_ شوف هياكلوا بعض بعنيهم إزاي، ويقولولي نأجل الفرح آل
انفجرا جميعهم ضاحكين، ثم بدأ يتناولون الطعام في أجواء فكاهية، قرع جرس الباب فهم يوسف إلى فتحه، تفاجئ بوقوفها أمامه، وكانت المرة الأولى لها لأن يستقبلها بحرارة:
_ اتفضلي يا شهد..
تعجبت شهد من ترحيبه فلم يكن يلقي التحية عليها، لم تطيل التفكير وولجت وعينيها تبحث عن صديقتها التي هللت بسعادة حينما رأتها:
_ شهد!!
هرولت نحوها وعانقتها بحرارة ورددت بنـ.ـد.م شـ.ـديد:
_ أنا آسفة بجد والله مكنش قصدي..
تركهما يوسف وتوجه إلى غرفته بينما هتفت شهد:
_ البركة في روميو لولاه مكنتش سألت فيكي
"روميو!!"
رددتها لينة وهي تتابع حركة يوسف ثم سألتها باهتمام:
_ ماله يوسف وإيه علاقته بينا؟
أخبرتها شهد برسالة يوسف الذي أرسلها مع شقيقها عند وصوله، ثم تناولن الأحاديث وبدأت تخبرها لينة بكل ما فاتها في الآونة الأخيرة.
↚
بعد مرور أربعة أشهر، أنهت لينة النصف الأول من عامها الأول في الجامعة، استطاعت التـ.ـو.فيق بين دراستها وتجهيزات عُشها الجديد بمساعدة يوسف، لولاه لم لتكن تنجح في تخطي الصعاب.
كما اجتاز زياد فترة التدريب بسلام ثم انتقل إلى مكان خدmته في مدينة الإسكندرية، كانت آخر أيام إجازته قضاها برفقة يوسف لمساعدته في إنهاء كل ما يحتاجه العرس.
واليوم حفل الحناء، حيث استيقظت لينة باكراً لتتفقد كل ما قامت بترتيبه ليكون يوماً مميزاً، ولجت غرفة حبيبها وقامت بفتح النافذة فغمرت أشعة الشمس الغرفة، اقتربت من يوسف وهتفت بصوت عالٍ:
_ صحي النوم يا أستاذ..
وضع يوسف ذراعه على وجهه حاجباً ذاك الضوء الذي منعه من رؤيتها، ثم صاح متسائلاً:
_ في إيه على الصبح؟
وضعت يديها في منتصف خصرها وأجابته:
_ يلا من غير مطرود، عشان البنات جاين..
تفقد يوسف الوقت ثم ردد بحنق:
_ بنات إيه اللي جايين الساعة عشرة الصبح؟
"مش لسه فيه حنة قبل ما الحفلة تبدأ، اليوم طويل أوي، فقوم بقى وروح شوف وراك إيه"
هتفت لينة بحماس بينما أردف يوسف مستاءً:
_ مش ورايا حاجة، خلصت كل اللي ورايا عشان ا
أخد النهاردة إجازة وأرتاح فيه قبل يوم الفرح..
اتسعت حدقتي لينة بذهول، ورفضت البتة الخضوع لما يريده، اقتربت منه ثم انحنت عليه في محاولة منها على إبعاده عن الفراش، فشلت في تحريكه سنتيمتر ثم تفاجئت به يسحبها من يدها حتى باتت جواره.
اعتلاها هو وصاح مبتسماً:
_ أنتِ اللي جيتي لقضاكي، استحملي بقى..
حاولت لينة التملص من بين يديه لكنه قيد حركتها فهتفت متوسلة:
_ ميمي تقول إيه لو شافتنا كدا؟
غمز لها وأجابها بخبث:
_ باخد حقي من مراتي..
جمعت لينة قوتها ثم دفعته بعيداً عنها ونهضت مسرعة وهي تتمتم:
_ ياعم روح كدا أنت وحقوقك دي..
التفتت إليه قبل أن تخرج من الغرفة ورفعت إصبعها محذرة إياه:
_ خمس دقايق بالظبط وألاقيك نزلت من البيت!
لحق بها يوسف قائلاً:
_ تعالي هاتيلي هدوم وأنا أقوم..
تأففت بحنق ثم اقتربت من الخزانة فلا يوجد أمامها سوى الرضوخ لطلبه حتى يفعل ما تريده، أخرجت قميصاً أسود وبنطال باللون الرملي ثم التفتت لكي تريه ماذا أحضرت له لكن لم يكن هناك داعٍ، فكان هو خلفها، تراجعت هي لكنه لم يتوقف حتى بات ملاصقاً لها وقال متسائلاً:
_ جبتي لي إيه؟
حاولت دفعه لكنه أبى ومنعها من الهروب، فهتفت هي:
_ على فكرة إحنا مش لوحدنا لو كنت ناسي يعني!!
قلب يوسف عينيه أردف بمشاكسة:
_ ما أنا عارف..
وضعت يدها على صدره مانعة إياه من الوصول إليها وقالت:
_ طب بطل نكش
مال برأسه بقرب وجهها وهو يردد:
_ بمـ.ـو.ت في النكش، أنا اسمي الحقيقي نكش
لم تتمالك ضحكاتها وخرجت مائعة للغاية فعقب هو بإعجاب:
_ حلاوتك يا أهلي..
لم تتوقف ضحكاتها حتى تحولت إلى الصدmة حينما سمعت صوت السيدة ميمي:
_ أنت واقف بتعمل إيه كدا قدام الدولاب؟
أخرج يوسف رأسه من جانب باب الخزانة ثم سحب ثيابه من يدي لينة ورفعهم لوالدته موضحاً:
_ بجيب هدوم..
أماءت ثم سألته:
_ مشوفتش لينة، معرفش اختفت فين
نفى يوسف رؤيته لها بقوله:
_ لا مشوفتهاش..
تذمرت ميمي وتمتمت مستاءة:
_ هي قالت جاية تصحيك..
فغر بوسف فاهه وصاح ساخراً:
_ هكون مخبيها في الدولاب مثلاً؟
قلبت ميمي عينيها ثم كادت تتحرك إلا أن عينيها صُوبت على قدmي لينة الظاهرة من أسفل الخزانة، أعادت النظر إلى يوسف وقالت:
_ طب اوعى تقفل عليها الدولاب..
ألقت جملتها ثم غادرت بينما عاد بنظره إلى تلك التي تكتم شهقتها داخلها، لكزته في صدره بقوة ثم هرولت إلى الخارج هاربة منه تحت ضحكاته عليها.
كاد يوسف أن يبدل ثيابه إلا أنه تريث حين صغى إلى ذاك الصوت الذي صدح في الخارج:
"يا عريس، انزل لنا من فضلك، كفاية نوم"
لوهلة لم يستوعب ما وقع على أذنيه، توجه إلى النافذة فاتسعت حدقتيه حينما رأى ذاك السُرادق الهائل الذي يُبنى أسفل المنزل، ثم أنتبه على بلال وزياد اللذان هللا حين رأوه:
_ أنزل يابني، كل دا نوم
حرك يوسف رأسه دون وعي منه ثم هتف متسائلاً وهو يشير على ما يحدث:
_ إيه دا؟
أجابه بلال بنبرة مرتفعة لكي يصل صوته إليه:
_ أنزل وأنت تعرف
عاد يوسف إلى الداخل وبدل ثيابه ثم هبط إليهما سريعاً، كان متفاجئاً بما يحدث فلم يعد هناك أثراً لشوارع المنطقة، اقترب منهما وأعاد سؤاله:
_ هو في إيه؟ إيه اللي بيحصل دا؟
تولى بلال مهمة الرد:
_ مش النهاردة حنتك؟ هنحتفل إزاي غير كدا؟
عقد يوسف حاجبيه وردد بعدm استيعاب:
_ حنة مين؟ مش الحنة دي للحريم؟ وبعدين نحتفل إيه في كل الصِوان دا؟ دا احنا تلاتة؟
غمز إليه زياد وأوضح:
_ تلاتة إيه بس، دا إحنا عزمنا البلد كلها، وحجزنا باند ورقاصات وحشيش و...
قاطعه يوسف بانفعال شـ.ـديد:
_ نعم؟ راقصات إيه وحشيش إيه؟ إي الكلام العبـ.ـيـ.ـط دا؟
أسرع بلال في نفي حديث ذاك المختل بعدmا ضـ.ـر.به في ذراعه مستاءً:
_ إحنا بتوع الحاجات دي برده يا يوسف، دا أخوك الرخم بيحب يجود من عنده، إحنا حجزنا أه باند وعزمنا الناس وحجزنا واجبات وحلويات ومشروبات كدا يعني
حرك يوسف رأسه باستنكار شـ.ـديد قبل أن يهتف بازدراء:
_ وليه كل دا؟ ليه التكلفة دي كلها مش فاهم؟
تأفف بلال بحنق وصاح متذمراً:
_ ياعم وأنت دافع حاجة من جيبك، أنت كل اللي مطلوب منك تقعد برنس قدام الباب تسلم على اللي داخل واللي خارج والباقي علينا
"أيوة بس مصاريف كت..."
لم يعطيه بلال فرصة إكمال حديثه حيث وضع يده على فمه وقال:
_ يا أخي أفرح وبطل تحسبها بالورق والقلم كدا دا يوم يا يوسف خلينا نفرح..
سحب يوسف نفساً وأردف:
_ والله مش عارف أقولك إيه؟
قلب بلال عينيه ثم تحدث بعجرفة:
_ متقولش حاجة..
رفع يده بقرب يوسف وواصل بتعالي:
_ حِب على أيدي بوسها
ضـ.ـر.ب يوسف يده بقوة فآنه الآخر بينما صاح يوسف:
_ أبوك لأبو إيدك
تركه ثم ولج السُرادق يتابع العمال وما يفعلوه، انضم له بلال وزياد متابعين ما يحدث باهتمام.
***
ترجلت من منزلها راكضة نحو منزل صديقتها، لكي لا تفوت اليوم من بدايته، تمهلت حينما رأته يقف على باب البناية يغلق جميع السُبل للصعود، بحرج وارتباك اقتربت منه ثم وقفت أمامه في انتظار تنحيه جانباً.
لكنه لم يراها، فكان منشغلاً في هاتفه، اضطرت شهد لإصدار صوت حتى تجذب انتباهه:
_ إحم..
رفع زياد نظره عليها ثم تسائل بلا مبالاة:
_ نعم؟
احتدت نبرتها وهي ترد عليه:
_ هو إيه اللي نعم، عايزة أطلع..
اعتدل زياد في وقفته وبإقتضاب هدر:
_ ما تطلعي وأنا ماسكك؟!
تأففت شهد وأشارت إلى المساحة المتبقية:
_ هطلع إزاي من هنا؟
نظر زياد جانبه ثم صاح ساخراً:
_ وأنا ذنبي إيه إنك تخينة؟
شهقت شهد بصدmة وفغرت فاها فهتف زياد ساخراً:
_ حوشي الدبان أصل يدخل في بوقك
شعرت شهد بالحرج وأغلقت فمها سريعاً وصاحت بهجوم:
_ أنت قليل الذوق..
اتسعت حدقتي زياد بذهول ولم يصمت على إهانته وصاح عالياًً:
_ مين دا اللي قليل الذوق يابت أنتِ؟
وضعت شهد إحدى يدها فى منتصف خِصرها والآخرى كانت تلوح بها بعصبية بالغة:
_ بت؟ بت لما تبتك بني آدm وقح
دفعته شهد من أمامها ثم هرولت للأعلى ولم تتوقف عن رمي الكلمـ.ـا.ت المهينة تحت نظرات زياد المذهولة فلم يقف مقيد اللسان أمام إحداهن هكذا من قبل..
مال بلال على أذن يوسف وقال بعدmا تابع المشادة التي حدثت بين شهد وزياد:
_ أنا عارف البداية دي كويس أوي
قهقه يوسف ورد عليه وعينيها مصوبتان على أخيه:
_ وأنا كمان..
استدار زياد بجسده وتفاجئ بنظراتهما الثاقبة، فشعر بالحرج حيال موقفه الضعيف أمام فتاة، فحد من ملامحه وتمتم بحنق:
_ بت مشافتش رباية..
انفجر بلال ويوسف ضاحكين عليه فازداد حنقاً:
_ أنتوا بتضحكوا على إيه؟!
غمز له بلال وقال:
_ بكرة تعرف!
"هو إيه اللي هعرفه؟"
هتف بها زياد بعدm فهم بينما تدخل يوسف قائلاً:
_ سيبك منه، بيقول أي كلام..
كان زياد بحاجة إلى تغير الحوار عن تلك الفتاة الوقحة، فتمسك برأي أخيه وحاول إلهاء عقولهما بأمورٍ شتى..
***
لم تعد تستطيع الوقوف على قدmيها، جسدها يرتجف بشـ.ـدة ومعدتها لا تتوقف عن إفراغ ما بداخلها، لا تدري ماذا يحدث منذ أن استيقظت.
داور شـ.ـديد لا يذهب عن رأسها، تمددت على الفراش وأغلقت عينيها لعلها تشعر بالتحسن، لكن دون جدوى، تنقلب معدتها في غضون ثوانٍ، همت بالركض نحو المرحاض تتقيأ مجدداً.
"اااااه*
أطلقت آه موجوعة من بين أسنانها التي تحتك في بعضهما، غسلت فمها جيداً ثم توجهت إلى الهاتف حينما صغت إلى رنينه، أجابت بنبرة هذيلة مرتجفة:
_ إيه يا ماما..
تعجبت هادية من ردها الضعيف وقد توجست خيفة في نفسها وسألتها بقلق:
_ مالك يا إيمان؟ صوتك ماله؟
أجابتها الأخرى بصعوبة:
_ مش عارفة مالي، من وقت ما صحيت وأنا تعبانة أوي، معتش قادرة أقف على رجلي من كتر الترجيع..
أثارت الذعر في قلب والدتها التي هتفت قائلة:
_ بلال فين يوديكي لدكتور..
أجابتها بخفوت:
_ بلال تحت..
بنبرة متلهفة أردفت هادية:
_ طيب البسي وأنا أصلاً كنت لابسة عشان أروح لعمتك، هفوت عليكي ونروح للدكتور سوا..
اعترضت إيمان اقتراحها قائلة:
_ مش وقت دكاترة النهاردة، بكرة إن شاء الله نروح..
لم تكاد تنهي جملتها حتى ركضت إلى المرحاض مرةٍ أخرى تفرغ مافي معدتها، عادت بعد قليل إلى والدتها ورددت:
_ مش قادرة بجد، مش عارفة في إيه..
توقف هادية عن الحديث قليلاً، ثم سألتها باهتمام:
_ هو أنتِ حاسة بإيه بالظبط؟
وضعت إيمان يدها على معدتها، فكان ينتابها شعور الغثيان، وبالكاد تستطيع التحدث:
_ معدتي و.جـ.ـعاني وبرجع ودوخة..
"لتكوني حامل!"
ساد الصمت لبرهة حين هتفت بهم السيدة هادية، ثم عادت قائلة:
_ هجيب لك اختبـ.ـار حمل معايا ونشوف، سلام
أنهت الإتصال والحماس يكاد يقــ,تــلها من السعادة، بينما توجهت إيمان إلى المرآة ووقفت أمامها، تتفحص معالم وجهها ثم أخفضت بصرها على بطنها، تحسستها بيدها وهي بالكاد تحاول استعياب ذلك.
لم تريد تعليق أمالها على حامل من ورق لربما ينقطع في لحظة، حمحمت ثم حاولت الإسترخاء قدر المستطاع لحين مجيء والدتها.
بعد مرور ٤٥ أربعون دقيقة، حضرت السيدة هادية وأعطتها ذاك الاختبـ.ـار وانتظرت في الغرفة لحين عودة إيمان بأخبـ.ـار ربما تكون سارة.
كانت تقف في الداخل تنظر إليه كالبلهاء بعدmا أجرته، يخفق قلبها بقوة، لا تطيق الإنتظار حتى ترى النتيجة، شعرت لوهلة أنها ساذجة وما تفعله لن يزيدها سوى حـ.ـز.ناً إن بات في النهاية هباءً.
ابتعدت عنه ثم جلست على حافة المغطس، تعد الثوانِ بفروع صبر، شهيق فزفير تفعل ثم نهضت عنـ.ـد.ما انتهت المدة اللازمة لظهور النتيجة، أوصدت عينيها قبل أن تتطلع عليه، أخذت نفساً عميق وزفرته على مهلٍ ثم وقع نظريها على ذاك الاختبـ.ـار.
خفق قلبها بصورة مبالغة كما لم يحدث من قبل، شعرت بالإرتباك والخجل والحماس والعديد من المشاعر حين رأت اكتمال الشرطتان، ابتسمت بسعادة أسرت قلبها ولم تنتظر لحظة وهرولت إلى الخارج.
كانت ابتسامتها خير إجابة لما كانت تنتظره والدتها التي قهقهت تلقائياً وهللت بسعادة:
_ هبقى تيتة صح؟
عضت إيمان على شفاها مُشكلة بسمة خجلة وهي تومئ برأسها، لم تقف مكانها بل هرولت إليها وقامت بضمها بكل سرور.
تراجعت وتفحصت ملامح وجهها الخجِل ورددت:
_ كلمي بلال قوليله، أكيد هيفرح أوي؟
أسرعت إيمان في قول:
_ لا مش عايزاه يعرف حاجة دلوقتي، سبيني بس أخطط الأول هعرفه إزاي وبعدين أقوله..
تبادلن الإبتسام فكانت السعادة ثالثهما، هناك دوماً طرق ربانية تأتي في أوقاتٍ لم نحسب لها تكفي لإسعادنا مدى الحياة.
***
غربت الشمس، حيث أنارت جميع المصابيح فلم يعد هناك مكانٍ مظلم في المنطقة، كان الجميع يتهافتون لحضور تلك المناسبة الفريدة من نوعها، فهذا يوم يوسف الذي وقف بجانب الجميع دون مقابل.
وعليهم تسديد ديونهم له حتى لو لم تكن مادية فتكفي أن تكن معنوية، بينما في الأعلى كان المنزل مليء بالسيدات وصديقات لينة، العديد من النساء كنا موجودات من أجل السيدة ميمي، فهي لم تترك بابً إلا وقد مدت يدها معاونة ساكنيه.
انتهت لينة من رسم الحناء التي حرصت على اختيار جميعها بعناية، ثم بدأت ترتدي بعض الثياب الخاصة بالحفل وتخرج لصديقاتها تتبادل معهن الرقصات المثيرة ومنها المضحكة.
أنتبه يوسف لرنين هاتفه فابتعد عن تلك الضجة ليجيب:
_ أيوة يا أمي، محتاجة حاجة؟
أجابته من بين ضحكها:
_ تعالى أطلع، عاوزاك ضروري
بقلق تسائل:
_ في حاجة ولا إيه؟
"لما تطلع هتعرف"
قالتها ثم أنهت الإتصال على الفور لتغلق أمامه باب الأسئلة التي لن تنتهي، قلق يوسف حيال مكالمتها ونهض مهرولاً دون تفكير، قرع جرس الباب ففتحت له بابتسامة بشوشة:
_ نورت يا عريس..
"في إيه؟ خضتيني"
أردفها يوسف والقلق مرسوم على تقاسيمه، بينما هتفت ميمي بحماس:
_ سلامتك من الخضة، بس لينة عايزاك معاها
عقد ما بين حاجبيه وردد دون فهم:
_ عايزاني معاها فين؟
غمزت إليه قبل أن تخبره:
_ فقرة العريس مع العروسة..
فغر يوسف فاهه وقال بإزدراء:
_ عريس إيه وعروسة إيه؟ أنتوا بتهزروا؟
أسرعت في نفي وجود مزاح في الأمر:
_ لا والله مش بنهزر هي عايزاك معاها بجد، يلا أدخل
قلب يوسف عينيه مستاءً منهن وصاح بحنق:
_ أدخل فين وسط الحريم دي، وأدخل أعمل إيه أصلا؟
رفعت السيدة ميمي كتفيها ميدبة عدm معرفتها بالأمر وقالت:
_ معرفش تعمل إيه، اللي أعرفه إنها عايزاك معاها
"دا مش هيحصل أبداً"
هتف بهم يوسف قبل أن تقع عينيه على تلك الكلمة التي تأتي خلف السيدة ميمي بفستانها الأبيض القصير الذي يكسوه قماش الجوبير، يعلو خصلاتها تاجاً من الأزهار البيضاء، لاق كثيراً مع بشرتها التي زادتها جاذبية بتلك المساحيق الجريئة.
لم يشعر بقلبه الذي كاد يخترق جسده من فرط تدفق الدmاء به، وكذلك ابتسامته التي تشكلت تلقائياً فور رؤيتها، تحنت السيدة ميمي جانباً حينما رأت رد فعله مع ظهور لينة وتركتها تتعامل معه بمفردها.
وقفت أمامه ثم أمسكت بيديه جاذبة إياه للداخل:
_ تعالى..
من بين ضحكه ردد:
_ أجي أعمل إيه؟
"نرقص"
قالتها لينة ثم أشارت لمنظمة الحفل فبدأت أحد الأغاني التي اختارتها لينة ثم بدأت تتمايل على أنغامها، مع تصفيقات البنات وإصدار بعض الزغاريد منهن، كانت تحث يوسف على الرقص معها لكنه يفشل فلم يسبق وفعل ذلك.
انحنى على أذنها وهمس:
_ مش بعرف أرقص
قهقهت ثم أردفت:
_ مش لازم تعرف المهم إنك معايا..
مال مرةٍ أخرى وهو يقول:
_ بس ايه دا يخربيت حلاوتك؟ مقدرش على كدا
ابتسمت بخجل وبحماس قالت:
_ أنت لسه شوفت حاجة؟! ركز بقى مع الأغنية وبطل كلام..
تابعت رقصها الرقيق حتى انتهت الأغنية، فابتسم لها قبل أن يردف:
_ أمشي أنا بقى
أسرعت في لحاقه بقولها:
_ تؤتؤ تمشي إيه لسه بدري..
أولاته ظهرها فأمسك بيدها متسائلاً بفضول:
_ راحة فين؟
أجابته برقة:
_ خمس دقايق وراجعة لك، إياك تمشي..
تركته وغادرت بينما شعر يوسف بالحرج لكونه الرجل الوحيد بين جميع النسوة، حمحم ثم أخذ جانباً وتفقد هاتفه لكن أصوات الأخريات كانت تصل إليه بوضوح مثل:
_ يا بختها بيه
_ شوفتيه كان بيبصلها إزاي؟!
_ إوعدنا يارب
_ بس دا خام أوي مليش في النوع دا
_ حلاوته إنه خام مـ.ـيـ.ـتخافش منه
لم يمنع ابتسامته التي تشكلت عفوياً، فلقد وصفوه بالشاب الساذج، لهن عذرهن فلم يرو شقاوته من قبل، أنتبه على عودة فتاته وتلك المرة كانت ترتدي جلباب صعيدي داكن اللون وتضع على وجهها نقاب يظهر كحل عينيها بوضوح.
اتسعت ابتسامته لمظهرها العجيب، حتى وقفت أمامه ودارت حول نفسها متسائلة باهتمام:
_ إيه رأيك؟
"إيه اللي أنتِ عملاه في نفسك دا؟!"
هتف بهم فهمست هي بدلال:
_ مش قولت لك أنت لسه شوفت حاجة..
تراجعت للخلف ثم التقطت عصى من إحداهن، وبدأ جسدها يتراقص متناغماً مع الموسيقى بدقة ومهارة عالية، ارتفعت وتيرة أنفاس يوسف بشـ.ـدة كما تسارعت دقاته، فما كانت تفعله كان يثيره ويزيد من رغبته بها، تابع اقترابها منه ثم أحاطته هي بالعصا خاصتها فبات هو حبيساً بينها وبين عصاها.
ابتسمت له وبميوعة قالت:
_ أرقص معايا..
طالت نظراتها عليها، فلَقِف عصاهة بسلاسة دون أن تشعر وأحاطها بها، فباتت هي حبيسته، لم تتوقف لينة عن الرقص حين شعرت بمشاركته فازدادت حماستها، تفاجئ الجميع برقص يوسف معها وخصيصاً الأقارب.
فهم على علم بشخصيته الخجولة، لكن ما يرونه الآن قد فاق توقعاتهن، تبادلن الفتيات النظرات بإعجاب شـ.ـديد فمنذ دقائق كنا يعلقن على خجله المبالغ، والآن بات جريئاً جذاباً، كان ذلك لونهن المفضل.
لم تصدق لينة عينيها، فلقد تبخر خجله لطلاما عانت منه كثيراً، لم تتوقف عن الابتسام بسعادة ومشاركته الرقص حتى انتهت الأغنية، ثم تفاجئت بحمله لها فتشبثت هي في عنقه ثم دار بها حول نفسه تحت تصفيقات الفتيات وإطـ.ـلا.ق بعض الصافرات يبدين إعجابهن بهم.
أنزلها ثم طبع قُبلة في منتصف جبينها وهمس:
_ بحبك
بادلته نظرات العشق قبل أن تهمس بنبرة تكاد تُسمع:
_ وأنا كمان بحبك
غمز لها وقال:
_ أنا نازل عشان الناس اللي تحت دي مينفعش مكنش موجود معاهم..
أماءت بقبول فذهب يوسف بعيداً حتى اختفى طيفه، وتابعت هي راقصاتها مع صديقاتها، بينما هبط يوسف السلم وهو يدندن ويتمايل بخفة حتى وقعت تصرفاته على نظري بلال وزياد اللذان كانا يجلسان أمام الباب مباشرةً.
تبادلا النظرات المتعجبة ثم انفجرا ضاحكين، توجه بلال نحوه مهللاً بعدm تصديق:
_ هز يا خويا، أثبت على كدا بقى
ضحك يوسف ثم قال:
_ أثبت إزاي يعني؟
نظر بلال إلى زياد وأمره قائلاً:
_ جري على بتاع الديجي يعمل تحية للعريس اللي هيرقص
هرول زياد بخطاه عائداً حيث السُرادق فأسرع يوسف في لحاقه بقوله:
_ استنى متقولش حاجة
عاد ببصره إلى صديقه حينما لم يلحق بأخيه وقال بصرامة:
_ أنا مش هرقص أنا..
رمقه بلال شزرا وصاح بحنق:
_ يعني هي ليها حلو وإحنا وحش، هترقص يا يوسف
انتهى بلال من جملته فانتبها كليهما على ذاك الصوت الذي صدح في الأرجاء:
_ نسمع أحلى تحية لعريس الليلة..
اتسعت حدقتي يوسف وظل يردد:
_ مش هروح أنا
دفعه بلال بقوة مجبراً إياه على السير أمامه هاتفاً بإصرار:
_ هتروح، يلا بقى بطل رخامة..
ارتفعت التصفيقات فور ظهور يوسف بين الجميع، اضطر إلى الإبتسام لهم ومسايرة الأمر بالإكراه، راوده شعور الحرج الشـ.ـديد لكن ما باليد حيلة فكان بلال خلفه يجبره على السير ولم يعلم للتراجع سبيل.
صعد على ذاك المسرح ووقف يصفق بين الشباب حتى أجبروه على الرقص معهم، ازداد الحماس بينهم بوجوده، كانوا سعداء للغاية وتصدر منهم تصرفات عفوية خرقاء.
لم يتوقف يوسف عن الضحك فكانت الأجواء لا تلائمه بالمرة لكنه يفعل ذلك من أجلهم، في الأعلى، انبهت لينة على تريد الندائات الخارجية على يوسف فلم تنتظر مكانها وهرولت إلى الشرفة لكي ترى حقيقة الأمر.
تفاجئت برقصه بين الجميع ولم تمنع ابتسامتها التي تشكلت على ثغرها، انضممن لها بعض الفتيات ووقفن يتابعن ما يحدث في الأسفل.
في الخارج، لاحظت السيدة ميمي شحوب وجه إيمان فتسائلت بقلق:
_ مالك يا إيمان، وشك مخـ.ـطـ.ـوف كدا ليه أنتِ تعبانة؟
ربتت إيمان على يدها ثم مالت على أذنها وقالت:
_ طلعت حامل يا عمتو
شهقت ميمي بفرحة عارمة وكادت أن تهلل بسعادة إلا أن إيمان لحقت بها وقالت:
_ بس يا عمتو لسه محدش يعرف، ومش عايزة حد يعرف بلال قبلي..
التزمت ميمي الهدوء قبل أن تردد والسعادة واضحة في نبرتها:
_ الف مبروك يا حبيبتي ربنا يتمم لك على خير، فرحتيني والله يا مونة
"الله يبـ.ـارك فيكي يا عمتو"
قالتها إيمان ثم شعرت بالغثيان فاستأذنت منها وهمت بدخول المرحاض، كادت أن تعود للخارج إلا أنها شعرت بحاجتها للراحة قليلاً، ولجت غرفة عمتها واستلقت على الفراش، وبعد دقائق أنضمت لها والدتها حين راودها القلق حيال غيابها المفاجئ:
_ قلقت لما اتاخرتي، جيت أطمن عليكي
"مش قادرة أقعد، جيت أرتاح هنا شوية"
أردفتها إيمان بنبرة منهكة، بينما أوصدت هادية الباب وتوجهت نحوها، جلست بجوارها وعاتبتها بغيظ:
_ أنتِ ليه قولتي لميمي على الحمل، مش تستني شوية كدا لما نعدي الشهور الأولى دي وبعدين ت عـ.ـر.فيها
تعجبت إيمان من كلمـ.ـا.تها وهتفت بعدm استعياب:
_ وليه أخبي عنها حاجة زي دي؟
بحنق صاحت هادية:
_ كدا، مش لازم الكل يعرف في الأول
عارضتها إيمان بقولها:
_ دي عمتو يا ماما، يعني في مقامك بالظبط، الكلام دا مع الناس الغريبة مش معاها..
لم تستطيع هادية التعقيب، فضلت الصمت لكن الأمر لم يكن يعجبها، بينما أغلقت إيمان عينيها لعلها تستعيد طاقتها التي نفذت..
***
انتهى اليوم، كان يوسف يقف مع العمال حين يفرغا من جمع أشيائهم، كان يرافقه بلال الذي أنتبه على اقتراب إيمان برفقة والدتها، كما لاحظ انحنائها وكأنها متعبة، اقترب منها متسائلاً باهتمام:
_ في إيه مالك؟
أمسكت معدتها وقالت:
_ تعبانة، عايزة أطلع البيت..
تدخلت هادية قائلة:
_ اطلع معاها ومتسيبهاش، مبطلتش ترجيع..
بقلق واضح في نبرته هتف:
_ تعالي نروح دكتور..
رفضت إيمان الذهاب لمكان موضحة:
_ مش قادرة أروح في أي مكان عايزة أنام..
أسندها بلال وكان مُصراً على الذهاب لطبيب:
_ نروح لدكتور الأول وبعدين تنامي براحتك، وبالمرة نوصل مامتك
بتعب يسيطر على نبرتها قالت:
_ بجد مش قادرة، روح وصلها أنت، أنا عايزة أرجع البيت..
نظر بلال حيث السيدة هادية وقال:
_ ما تقولي حاجة ماما..
ابتسمت له وقالت بعفوية:
_ أقول إيه بس يا بلال، اللي هي فيه دا طبيعي يا حبيبي..
قطب جبينه وردد بعدm استيعاب:
_ يعني إيه طبيعي؟ طبيعي تكون تعبانة كدا ومش راضية تروح لدكتور؟!
تدخلت إيمان قائلة:
_ عشان أنا عارفة مالي..
عاد بلال بنظره إليها قبل أن يردد:
_ طب ما ت عـ.ـر.فيني يمكن أقتنع وأسيبك تطلعي..
طالت نظرتها ثم أمسكت يده ووضعتهت على بطنها حارصة ألا يراها أحد وهمست:
_ أنا حامل!!
لوهلة لم يستوعب بلال ما قيل، مرر نظريه بينهن وردد دون استيعاب:
_ يعني إيه حامل؟
لم تمنع إيمان ابتسامتها التي غزت شفتيها، مالت برأسها وأعادت قولها:
_ حامل يا بلال، حامل!!
لحظة إدراك عقله معنى تلك الكلمة الثمينة، فغر فاهه ثم تقوس ببسمة عريضة، اقترب منها فتراجعت هي محذرة إياه:
_ هتعمل ايه إحنا في الشارع..
جاب بلال المكان من حوله، كان مضطرب قليلاً وعقله مشوش ولا يدري ما عليه فعله، حمحم ثم هتف:
_ هنروح لدكتور، يلا..
كادت أن تعارضه لكنه لم يعطيها فرصة حيث هتف بحسم:
_ هنروح لدكتور، خلصت..
أخبر يوسف أنه سيذهب، ثم استقلا ثلاثتهما سيارته وانطلق بها ليرجع السيدة هادية أولاً ثم ينطلق إلى أحد الأطباء ليطمئن على صحة كليهما.
***
عاد يوسف إلى المنزل بعد يوم شاق، كانت الأجواء هادية على غير العادة، جلس على الأريكة يستريح، أوصد عينيه واستند برأسه على جدارها، أنتبه على صوت والدته المسائل:
_ أنت كويس يا حبيبي؟
أماء لها ثم سألها باهتمام:
_ لينة فين؟
جلست مقابله وردت عليه:
_ نامت، اليوم كان طويل عليها وهي تعبت الصراحة
قهقت هي كما شاركها يوسف بحرج، كان يدور داخلها أحاديث عدة، لا تدري بأيهما تبدأ، حمحمت قبل تردف كلمـ.ـا.تها:
_ عايزة أتكلم معاك شوية يا يوسف..
اعتدل في جلسته وصغى لها باهتمام فتابعت هي بحكمة:
_ أنا مش عايزاك تكون زعلان مني..
عقد يوسف حاجبيه بغرابة من أمر كلمـ.ـا.تها المبهمة وسألها مستفسراً:
_ وأنا هزعل منك ليه يا أمي؟
ابتلعت ريقها وأوضحت:
' يعني لو في يوم جيت عليك ولا قسيت عليك من غير قصد، أنت ابني حبيبي وعمري كله، يعني لو صدر مني حاجة قبل كدا أكيد كان غـ.ـصـ.ـب عني، سامحني لو قصرت معاك في يوم..
قاطعها يوسف وهتف مستاءً:
_ إيه بس اللي بتقوليه دا؟ من امتى قصرتي معانا في حاجة؟
اغرورقت عينيها قبل أن توضح لها قصدها:
_ يمكن أكون مقصرتش مع أخوك بس حاسة إني قصرت معاك، أنا عارفة إني شيلتك مسؤولية كبيرة من بعد مـ.ـو.ت أبوك، أوقات بقول لنفسي كنتي استحملي يا ميمي وتعالي على نفسك ومكنتيش تخليه يشتغل وهو صغير كدا، مكنتيش ترمي حمولك عليه للدرجة دي، أنا آسفة لو كنت السبب في يوم إنك تأجل خروجة أو سهرة مع صحابك، آسفة لو كنت خليتك في يوم تنام وأنت شايل همنا وشيلتك دور مش دورك أصلاً..
انهمرت عبراتها كالشلال فأسرع يوسف في مسحهما بيده، ثم طبع قُبلاته على يدها وقال:
_ كل اللي قولتيه دا كان برضايا أنا، أنتِ مضـ.ـر.بتنيش على إيدي وقولتيلي روح أشتغل، أنا اللي كنت هلوم نفسي مليون مرة لو مكنتش عملت كدا، أنا راضي ولو العمر اتعاد تاني هعمل أكتر من كدا، وبعدين هو أنا وصلت للي أنا فيه دا بسبب مين؟
مهو بسببك بعد فضل ربنا عليا، بسبب دعمك وتشجعيك، وعشان أنتِ زرعتي فيا ثقتي في نفسي وإني أقدر أوصل لمكان أحسن، متفكريش تاني بالشكل دا عشان مزعلش، تمام..
طبع قُبلة على جبينها فربتت هي بحنو على ظهره ورددت:
_ ربنا يبـ.ـاركلي فيك يارب ويديك على قد ما إديتنا..
أخذت نفساً عميق وأردفت:
_ عايزة أقولك حاجة تانية..
جلست أمامها وقال:
_ قولي ياست الكل
ابتسمت له ببشاشة واسترسلت:
_ عايزاك تفضل حنين وتوزن الأمور بعقل مع لينة، اللي أنتوا داخلين عليه مش زي اللي فات أبداً، دا جواز ياحبيبي، يعني مسؤولية مضاعفة، وخصوصاً إنها تقريباً هتكون مشغولة عنك طول الوقت، هتكون مضغوطة من دراسة لبيت وهي لسه صغيرة مش هتعرف تشيل لوحدها ولا توزن الأمور زيك أنت..
تدخل يوسف قائلا ليطمئن قلبها:
& متقلقيش يا أمي أنا عارف كل دا من غير ما تقولي..
ربتت على قدmه وتابعت:
_ إنك تكون عارفه حاجة وتعيشه حاجة تانية خالص، دايماً التقصير من الزوجة مش زي التقصير من الحبيبة، لأن تقصير الزوجة ممكن يترتب عليه أمور كتيرة مش في صالحكم، بس أنا عايزاك كل ما تحس إنك معتش قادر تشيل الحِمل، تصلي ركعتين وتستغفر وتاخدها تخرجها في أي مكان تبعدوا عن ضغوط الحياة وصدقني وقتها هترجعوا بنشاط أكبر من الأول وكل واحد هيرجع لدوره من تاني..
شهيقاً فزفير فعلت قبل أن تكمل:
_ خليك قد القوامة اللي ربنا كلفك بيها، مش بس تكون مكفي بيتك بطلباته، تكفيه حب وحنان واستحمال، تعدي لها لو غلطت، وتفهمها الصح بهدوء، تحتوي زعلها وتراضيها ومتنيمهاش زعلانة، وبعد كل دا هتلاقيها خاتم في صوباعك هتحطك تاج فوق راسها، أنا ست وفاهمة بقولك إيه،
الراجـ.ـل اللي بإيده ينجح العلاقة أو يخليها تفشل، لأن هو قوام، بيوزن الأمور بالعقل مش بالعواطف زي الست، فاهمني يا حبيبي..
"طبعاً يا أمي فاهم"
هتف بها يوسف فدعت له والدته:
_ ربنا يسعدكم يارب ويرزقكم البركة وراحة البال
"اللهم آمين"
أمن يوسف على دعائها بينما أمرته هي:
_ قوم يلا ارتاح وراك بكرة يوم طويل..
نهض يوسف وقبل جبينها وردد بنعاس:
_ تصبحي على خير
ردت عليه حينما تخطاها:
_ وأنت من أهله يا حبيبي
سحبت هاتفها ثم قامت بالإتصال على صغيرها:
_ أنت فين يا زياد؟
أخبرها أنه برفقة أصدقائه فقالت:
_ متتأخرش عشان تلحق تنام لك شوية
أنهت الإتصال وعادت إلى غرفتها لتنعم بالنوم فهناك يوماً طويلاً في انتظارها غداً.
***
"دا صوت نبض الجنين"
أردفتها الطبيبة المناوبة تلك الليلة في المشفى، فلم يجدوا عيادات خاصة في ذلك الوقت المتأخر، فاضطروا إلى الذهاب لمشفى خاص.
تبادلا بلال وإيمان النظرات السعيدة ثم وجهت حديثها إلى إيمان:
_ حضرتك بدأتي الشهر التاني فطبيعي التعب اللي ظهر فجأة..
حمحم بلال وسألها باهتمام وهو يجوب الشاشة أمامه بعينيه:
_ أنا مش شايف أي جنين خالص..
ابتسمت الطبيبة ثم أشارت بإصبعها على نقطةٍ ما في الشاشة أمامها وقالت بعملية:
_ دا كيس الحمل، لسه طبعاً بيبدأ يتخلق يعني ملوش معالم حالياً غير إنك تشوف نقطة ومع كل شهر بيبدأ يظهر شكله بوضوح ومش هتحتاج لحد يوصف لك شكله
بفضول هتف بلال:
_ هو ولد؟ أصل حضرتك بتتكلمي بصيغة المذكر
قهقهت الطبيبة وأوضحت ما تعنيه كلمـ.ـا.تها:
_ لا مقصدش النوع بكلامي، أنا بتكلم عن الجنين في العموم، النوع دا لسه عليه بدري مع بداية الشهر الرابع يمكن نقدر تعرف حسب وضعية الجنين
أماء بلال بتفهم وعاد قائلاً:
_ طيب مفيش حاجة تمنع تعبها؟
ابتسمت الطبيبة لاهتمامه وأجابته وهي تنهض من على كرسيها:
_ شهور الوحم بتكون كدا، كلها تعب وكل اللي في إيدينا نكتب لها فيتامينات ومثبت ومتحاولش تجهد نفسها قدر المستطاع، وياريت تعملولي التحاليل دي..
أنهت تدوينها على الورقة ثم أعطتها لبلال وتمنت السلامة لإيمان بينما غادرا الغرفة والسعادة لا تسعهما، فسبحان الذي خلق نطفة داخل الأرحام تجعلنا سعداء للغاية قبل أن نراها.
أجرت إيمان التحاليل اللازمة ثم غادرا المشفى ليعودا إلى منزلهما ويخبرا الجميع بذاك الخبر السعيد.
***
جهزوا الفساتين للفرح
↚
استيقظ إثر صوت ذاك المنبه، أغلقه وكاد يعود للنوم الا أنه تذكر أن اليوم عرسه، خفق قلبه بقوة وانتفض من مكانه، ظل يدور حول نفسه يجهل أول خطوة عليه اتخاذها.
ابتلع ريقه وحاول تهدئة روعه فالأمر لا يحتاج إلى ذاك التـ.ـو.تر، وقع على أذنيه ضجة في الخارج فلم يتردد في الخروج، كان الجميع متـ.ـو.تر والأجواء مشحونة بالطاقة السلبية وهذا ما استشفه.
لاحظ هرولة الجميع إلى غرفة لينة فتوجه نحوها ووقف أمام بابها متسائلاً بقلق:
_ في إيه؟
التفتت إليه السيدة ميمي وكذلك شهد ثم تنحين جانباً فظهرت هي بعينيها المتورمة، وعبراتها التي تتساقط دون توقف، شعر بالقلق حيالها واقترب منها متوجساً خيفة في نفسه، جلس بجوارها وسألها باهتمام:
_ مالك في إيه؟
أجهشت باكية وهي تخبره سبب بكائها:
_ المفروض أستلم الفستان من الديزاينر امبـ.ـارح وقالتلي لأ سبيه فيه شوية تظبيطات محتاجين يخلصوا، بكلمها النهاردة تقولي المندوب في إجازة ومش عارفة أبعتهولك إزاي؟!
كلمت الميك أرتست أفكرها متتأخرش أول ما عرفت إن المكان بعيد وفي حارة مش فندق قالتلي مش هعرف أجي لوحدي محتاجة حد يجيبني!
أعمل إيه أنا بقى مين اللي هيفضى يروح يجيبهم؟!
من أولها مفيش حاجة راضية تمشي زي ما مترتب لها، أوف بجد
رفع يوسف بصره على والدته فاستشفت هي ما يريد ثم وجهت حديثها لشهد:
_ تعالي شهد عايزاكي..
خرجن من الغرفة وأغلقت الباب فاقترب يوسف من لينة وملس على وجهها وهتف:
_ تعالي نتفق اتفاق صغير
حركت رأسها بمعنى ماهو فتابع قوله:
_ مفيش عـ.ـيا.ط النهاردة، النهاردة فرحنا يا لي لي مش دا اللي حلمنا بيه؟ مش دا اليوم اللي استنيناه ورتبنا له من زمان؟
صاحت هي بنبرة متحشرجة معارضة حديثه:
أ_ يوة بس كل حاجة مش مظبطة و..
قاطعها يوسف قائلاً:
_ كل اللي قولتيه دا ليه حل مش حاجة صعبة يعني، أنتِ كل اللي عليكي تكوني هادية واستمتعي باليوم، وأنا عليا هخلص لك كل حاجة، لكن مينفعش شـ.ـدة الأعصاب دي، عارف إن اليوم طويل ويمكن تكوني خايفة من..
تدخلت هي قبل أن يكمل جملته:
_ خايفة من إيه؟! أنا بس عايزة كل حاجة تمشي تمام
"كل حاجة هتمشي تمام لو أخدنا الأمور ببساطة مش بالعـ.ـيا.ط، فهماني يا لينة؟"
أماءت فقبل وجنتها وقال:
_ قومي أغسلي وشك يلا، مش منظر عروسة دا
تنهدت فقال يوسف:
_ وبعدين إحنا لسه فيها، لو عايزة نحجز في فندق..
أسرعت في رفض ذلك:
_ لا مش عايزة، أنا حابة اليوم كله يكون هنا بما أنه آخر يوم ليا هنا..
رفع يدها عند فمه وطبع قُبلة عليها ثم قال بصوت رخيم:
_ خلاص يبقى خلي آخر يوم مبهج ومش مكهرب وكل حاجة هتمشي بإذن الله تمام..
نهض عن الفراش فأسرعت هي مسك يده وقالت بنبرة مهزوزة وهي منكسة الرأس:
_ أنا خايفة أوي يا يوسف!!
ارتخت تعابير يوسف ونظر لها بآسى شـ.ـديد فحاولت تبرير مقصدها:
_ مش قصدي اللي فهمته بجد، بس متـ.ـو.ترة أوي، خايفة أطلع وحشة، دي أول مرة هعمل فول ميك آب، خايفة اليوم ميمشيش زي ما أنا عايزة، خايفة يحصل أي حاجة تبوظ علينا فرحتنا..
استنكر يوسف تفكيرها المحدود وعاد جالساً بجانبها وبدأ حديثه بصوت أجش:
_ ليه التشائم دا؟ محدش بيفكر بالطريقة دي، سيبي كل حاجة تمشي زي ما هو مقدر لها، مش زي ما إحنا مرتبين ليها ودي هتكون أحسن بكتير، ثم إنك حلوة ومش محتاجة لذرة ميك آب، أنا بس سيبتك تعملي عشان تكوني مبسوطة لكن لو عليا فيكفيني أوي القمر أبو مناخير مسمسة دا
نجح يوسف في رسم البسمة على ثغرها قبل أن تردف كلمـ.ـا.تها:
_ مع إني عارفة إن دا تثبيت، بس عاجبني
غمز إليها ثم هتف بمزاح:
_ أي خدmة، هروح أنا عشان أجيب لك الناس اللي مش راضية تيجي دي..
أماءت بقبول بينما خرج من الغرفة ثم نادى على أخيه وأمره:
_ أنا مش فاضي أروح المشاوير دي عندي حاجات كتيرة عايز أعملها قبل ميعاد السيشن، خد العربية وروح جيب الفستان وجيب لها الميك أرتست وأنت راجع
"بس أنا معرفش الأماكن ولا هوصل للست دي إزاي اصلا وأنا معرفش شكلها؟"
رددها زياد فصمت يوسف لبرهة يفكر في حل، أنتبه على صوت شهد الذي جاء من خلفه ونظر لها نظرةٍ مطولة ثم ناداها بصوت جهوري:
_ شهد، لو سمحتي عايزك..
جائته على استحياء فلم يدور بينهما حوارً من قبل، حمحمت وبحرج تسائلت:
_ نعم؟
وزع يوسف نظريه بينها وبين شقيقه قبل أن يخبرها بما يريد:
_ معلش ممكن تروحي مع زياد تستلمي أنتِ الفستان لأنه مش عارف المكان، وتكلمي الميك أب ارتست وتقابلوها تجيبوها في طريقكم..
تفاجئت شهد بطلبه وكذلك زياد الذي صعق، تبادلا النظرات المشحونة ثم أعطت شهد إجابتها بإقتضاب:
_ طيب هستأذن ماما الأول..
"تمام، يكون أحسن"
أردفها يوسف بينما ابتعدت هي عنهما لتأخذ الموافقة أولاً من والدتها قبل الذهاب إلى أي مكان، اقترب زياد من أخيه وهمس بحنق:
_ شهد مين اللي تيجي معايا؟ ملقتش غير دي؟
نظر له يوسف بغرابة من أمره وصاح بإقتضاب:
_ مالها شهد مش فاهم؟ وبعدين مضطرين أنت مش شايف اليوم مشحون إزاي من أوله، عدي معايا اليوم يا زياد
تأفف الآخر بعدm إعجاب، لكنه تحلى بالجمود حينما عادت شهد ووجهت حديثها ليوسف:
_ ماما وافقت..
تدخل زياد بنبرة مشحونة بالغضب وهو يرمق شهد:
_ هات مفتاح الزفتة..
تفاجئ يوسف من وقاحته لكنه لم يعقب أمامها واكتفى بمعاتبته في نظراته، أولاهما زياد ظهره وغادر بينما تمتمت شهد بغيظ عارم:
_ آل يعني أنا اللي همـ.ـو.ت وأروح معاه..
وقعت كلمـ.ـا.تها على أذني يوسف وشعر بالحرج الشـ.ـديد، حمحم ثم أردف بخذي:
_ معلش يا شهد عشان خاطر لينة
نظرت إليه قبل أن تردف:
_ وأنا كان ممكن أروح معاه مكان إلا عشان خاطر لينة، أنت اخوك دا حد يطيقه؟!
تفاجئ يوسف بما قالته وظل يطالعها بذهول، أخذت هي حقيبتها وغادرت المنزل على مضضٍ، استقلت المقعد الخلفي وانتظرته حتى ينطلق لكنه لم يبرح مكانه، التفت إليها وببرودٍ يشوبه التماسك:
_ حد قالك إني سواق عندك عشان تقعدي ورا؟
عقدت شهد ذراعيها أعلى صدرها وهتفت مستاءة:
_ وأنت عايزني أقعد جنبك أنت؟!
أردفت آخر كلمـ.ـا.تها وهي تشير إليه باشمئزاز وتقليل منه، شعر زياد بالإهانة وترجل من السيارة ثم فتح بابها وهدر بها شزراً:
_ أقسم بالله إن ما نزلتي ركبتي قدام لأسيبك وأمشي..
لم تعطي شهد رد فعل لحظتها، لكنها اضطرت إلى الترجل فلن تسمح أن تحـ.ـز.ن صديقتها من خلف ذاك الأحمق، استقلت المقعد الأمامي وهي بالكاد تستطيع الصمود دون خلق مشادة بينهما فكان سخيفاً للغاية معها.
وصلا حيث المكان التي ستحضر منه شهد فستان لينة، صعدا كليهما معاً وأخذت شهد حامل الفستان لكنه كان ثقيلاً للغاية ويفوق قوتها المحدودة، نظرت حيث يقف زياد بغيظ عارم وصاحت بحنق:
_ حد قالك إن المكان محتاج عمدان؟
"نعم؟!!"
هتف بها زياد بعدm فهم ونبرة جـ.ـا.مدة فأوضحت هي بإزدراء:
_ الفستان تقيل، لو مش هتعب حضرتك تيجي تشيله!
رمقها بنظرات مستاءة تحولت إلى الإستهزاء قبل أن يردد:
_ مكنتش أعرف إنك خرعة للدرجة دي
اتسعت حدقتاها ثم ألقت الفستان أرضاً وهتفت بغيظ وتحدي:
_ طب ورينا شطارتك!
وقفت تتابعه في صمت ولم تخفض حاجبها الأيسر بغيظ من ردوده البـ.ـاردة، بينما توجه زياد بعجرفة إلى ذاك الفستان وانحنى ليحمله فوجد صعوبة في البداية، لقد كان ثقيلاً للغاية، ابتلع ريقه وحاول التحلي بالقوة ليحمله لكن خارت قواه وسقط الحامل أرضاً.
صدحت قهقهة شهد متعمدة الإستهزاء على ضعف بنيته فصاح هو بحنق:
_ بت، مسمعش صوتك، وشيلي معايا خلينا نخلص بقى..
اقتربت منه والإبتسامة لاتزال مُشكلة على شفتيها، وعزمت ألا تمرق الأمر دون الرد عليه بإهانة مثلما فعل مسبقاً فتمتمت وهي تحدق به:
_ مكنتش أعرف إنك خرع للدرجة دي..
تأفف زياد وهتف من بين أسنانه:
_ لولا أنك بت كنت دفنتك مكانك..
تقوس ثغرها للجانب ببسمة ساخرة على موقفه الضعيف مقارنةً بموقفها أمامه، بينما جمع زياد قوته وحمل الفستان حارصاً بألا يسقطه ثم أولاها ظهره وهرول للخارج قبل أن يفقد توازنه.
بصعوبة شـ.ـديدة أنهى وضعه في المقعد الخلفي وتمتم بضيق:
_ فستان دا ولا المحل نفسه..
أطلقت شهد من خلفه قهقهة بخفة أجبرته على النظر إليها بضيق، لم يعقب وتوجه نحو مقعده وكذلك هي فتحت بابها لكنها تفاجئت بتحرك السيارة بعيداً عنها.
وقفت مكانها تتابع تحركها بذهول هاتفة بغضب:
_ أنا اللي غلطانة إني جيت مع واحد زيه!!
وقفت تنتظر سيارة أجرى لكن لم تمر أي سيارة، مرت خمس دقايق وتفاجئت بعودته، أوقف السيارة ونظر إليها بتشفي قبل أن يقول:
_ صعبتي عليا..
ببرودٍ حدجته ثم حركت رأسها بعيداً عنه، معلنة تمردها، انتظر الآخر قليلاً ثم أبدى استيائه قائلاً:
_ يلا عشان منتأخرش!
نظرت إليه بتحدٍ وقالت بحاجبين مرفوعان:
_ مش راكبة إلا لما تنزل وتفتح لي الباب!
"أعمل إيه يختي؟"
رددها زياد باستنكار شـ.ـديد ولم يبرح مكانه، انتظر وانتظر ومازالت ثابتة على موقفها، فما كان منه إلا أنه ترجل بخطى غاضبة وتوجه نحوها، قام بفتح الباب لها وصاح بنفاذ صبر:
_ خلصيني..
رفعت شهد رأسها بتعالي وتحركت نحو السيارة حتى استقلت المقعد، خفق قلبها بذُعر حين دفع الباب بعنف، لكنها تحلت بالثبات، عاد هو لمقعده وتحرك بسرعة عالية خشتها شهد، وضعت يدها على قلبها بخوف شـ.ـديد وأردفت بنبرة مهزوزة:
_ امشي براحة..
نظر إليها زياد واستشف خوفها فظهرت على شفتيه إبتسامة ماكرة وزاد من سرعته فهتفت هي بخوف عارم:
_ يا زياد قلبي هيقف، هدي السرعة
"قولي لو سمحت يا أستاذ زياد هدي السرعة"
هتف بها مستغلاً الأمر لصالحه، بينما لم تتفوه شهد ما يريده بسهولة، أغلقت عينيها في محاولة منها للسيطرة على خوفها لكنه كان يزيد من سرعة السيارة ليخفيها فلم تشعر بنفسها سوى وهي تصرخ بحنق:
_ لو سمحت يا أستاذ زياد هدي السرعة
قلب زياد عينيه مستاءً وقال ببرود:
_ مش حاسسها لأ، قوليها تاني
اغرورقت عيناي شهد وتوسلته بنبرة تهدد بالبكاء:
_ لو سمحت يا أستاذ زياد هدي السرعة..
لاحظ زياد انعكاس نبرتها فرمقها بطرف عينيه وتفاجئ ببكائها، هدأ من سرعة السيارة فجشهت شهد باكية، شعر زياد بالنـ.ـد.م لتماديه في سخافته، صف السيارة جانباً والتفت بجسده نحوها وقال بخذي:
_ أنا آسف مكنتش أقصد...
قاطعته شهد بقولها:
_ أنا عايزة أروح
حمحم بحرج شـ.ـديد ثم تحرك بالسيارة مرةٍ أخرى، عادا إلى منطقتهم بعدmا أحضر تلك المرأة التي تنتظرها لينة، صف السيارة أسفل البناية وهو يتابع ترجل شهد، خشى أن تخبر شقيقه وينال توبيخاً منه وهو ليس على استعداد لذلك اليوم.
تنهد وترك الأمور تجري كما هي مرتب لها، فلم يكن لديه ما يفعله سوى الإنتظار، أخذ الفستان وصعد للأعلى وداخله خوف مما ينتظره.
***
كان يقف بجوارها يجمع خصلاتها لكي لا تنسدل على وجهها، انتهت إيمان من إفراغ بقايا مافي معدتها ثم التقطت أنفاسها التي هـ.ـر.بت منها مطلقة صوت متعب للغاية:
_ اااه، معتش قادرة
نظر إليها بلال بآسى شـ.ـديد وردد:
_ سلامتك يا حبيبتي..
"الله يسلمك"
قالتها بخفوت، وتوجهت إلى الغرفة وتبعها بلال، جلس بجوارها وحدج الطعام التي لم تتناول نصفه بعد وأردف:
_ كملي أكلك
حركت رأسها رافضة تناول أي طعام خشية أن تعود لتلك الحالة المذرية من جديد:
_ لا لا مش عايزة..
أنتبه بلال على رنين هاتفه، أجاب صديقه الذي صاح بغيظ:
_ هو أنا هفضل أكلمك أتحايل عليك تنزلي، ماشي ياعم شكراً..
"والله غـ.ـصـ.ـب عني.."
لم يكمل بلال جملته حتى قاطعه يوسف بعتاب:
_ ولا غـ.ـصـ.ـب عنك ولا غيره، مش عايز منك حاجة
تدخلت إيمان في الأمر لكي يعلم يوسف الحقيقة:
_ معلش يا يوسف أنا السبب، تعبانة وهو مش عارف ينزل ويسيبني كدا
"تعب إيه النهاردة، أنتوا متفقين عليا صح، سايبين الأيام كلها وجاين تتعبوا النهاردة؟"
هتف بها يوسف مازحاً فردت هي بنبرة منهكة:
_ أيوة كنا عايزين نزود المعازيم واحد..
بعدm فهم ردد يوسف:
_ واحد مين؟
تولى بلال مهمة الرد عليه بسعادة:
_ هجيلك أنا وابني
عقبت إيمان قائلة:
_ أو بنتك!!
"بتهزروا، صح؟!"
صاح يوسف بعدm تصديق فأكد بلال ذاك الخبر:
_ لأ بجد، يلا عقبالك، ولا عقبالك ليه ما أنت معاك طفلة أصلاً مش هتلحق تفتقد الخلفة
استاء يوسف من رده وهتف:
_ بـ.ـارد والله، بس الف مبروك ربنا يتمم لكم على خير
"شكراً يا يوسف"
قالتها إيمان ثم سحبت الهاتف من يدي بلال وقامت بكتم الصوت ووجهت حديثها له:
_ أنزل أنا كويسة..
برفض تام قال:
_ مش هسيبك لوحدك في حالتك دي
قهقهت هي بسخرية:
_ على كدا هتقعد جنبي الـ٩ شهور، انزل يا حبيبي وأنا هكلم ماما تيجي تقعد معايا..
نظر إليها نظرة مطولة فحثته هي بإيماءة من رأسها، أنتبها كليهما على صوته الذي صاح:
_ يا مسهل يارب، خلصتو مناقشة؟
نظرت إيمان إلى الهاتف لتتأكد أنه لم يسمع حوارهما، أعادت وضعية الهاتف فتحدث بلال:
_ نزلك أهو أنت فين؟
بفتور قال:
_ عند الحلاق..
نهض بلال مواصلاً حديثه:
_ تمام، جايلك أهو
أنهى المكالمة ثم وجه نظريه على إيمان وأردف بأمر:
_ كلمي مامتك تيجي..
أماءت بقبول وهاتفت والدتها وأخبرتها أنها بحاجة إليها فلم تمانع الأخرى، في تلك الأثناء بدل بلال ثيابه بأخرى واقترب من إيمان قبل جبينها وغادر ليذهب إلى صديقه.
***
بعد عدة ساعات، وقف يوسف أمام المرآة يتفقد مظهره جيداً، كان راضياً بحالته الجذابة، أخذ نفساً وزفره على مهل، أنتبه على طرقات الباب فسمح للطارق بالدخول، ابتسم حين رأى ولوج والدته، وقفت مكانها لبرهة فور رؤيتها لطلته.
لم تكن كسابق مـ.ـر.اته، كانت فريدة من نوعها، يليق بكونه عريس، أدmعت عينيها وأسرعت في مسح عبراتها قبل أن تتساقط أكثر فهذا ليس بوقت بكاء، أسرع يوسف نحوها وهو يتمتم بصوت متحشرج:
_ ليه بس ليه، حد يعـ.ـيط النهاردة؟!
نظرت إليه وتفحصت ملامحه باهتمام، رفعت يدها وتحسست وجهه بحنو قبل أن تردف:
_ شكلك جميل، اللهم بـ.ـارك، قلبي فرحان بيك يا حبيبي، ربنا يحرسك
رفع يوسف يدها وقبل كفها بحرارة وهتف ممتناً:
_ ربنا يخليكي ليا ياست الكل
انتبها لاقتحام زياد الذي أصدر صافرة إعجاب على مظهر أخيه الجذاب:
_ إش إش، وأنا اللي كنت ناوي أغطي عليك، لأ تكسب
بتعالي تحدث يوسف:
_ تغطي على مين يالا؟!
اقترب منه زياد وبدون سابق إنذار عانقه بحرارة، ربت يوسف فعلى ظهره بحب وقال:
_ عقبالك يا حبيبي
تراجع زياد للخلف وقلب عينيه مستاءً:
_ جواز إيه ياعم وو.جـ.ـع دmاغ، هو فيه زي عيشة السنجل..
غمز له يوسف وشاكسه بمرح:
_ دا عشان بس لسه مجتش اللي تغير رأيك، لما تيجي وقتها هنشوف هتعمل إيه
لم يعقب زياد بل واصل يوسف موجهاً حديثه لوالدته:
_ مت عـ.ـر.فيش لينة خلصت ولا لأ؟
"خلصت من بدري يا حبيبي"
قالتها ميمي فأخرج يوسف تنهيدة، خفق قلبه كلما شعر بقربه خطواته على إتمام زيجته منها، أوصد عينيه ثم زفر أنفاسه وخرج من الغرفة متوجهاً إلى غرفة السيدة ميمي فلقد استحوذت عليها لينة اليوم.
وقف أمام باب الغرفة مرتبك للغاية، لا تهدأ نبضاته قط، شهيقاً وزفير فعل يوسف ثم طرق باب الغرفة، مرت ثانيتين حتى فتحت له شهد، ابتسمت ببشاشة ووجهت حديثها لصديقتها:
_ دا يوسف يا لينة..
انتفضت لينة من مكانها فلقد تضاعف تـ.ـو.ترها وإرتباكها، صاحت هي مانعة إياه من الدخول:
_ استني إوعي تخليه يدخل..
توجهت نحو المرآة بعد صعوبة قابلتها بسبب حجم فستانها الهائل، تفحصت صورتها المنعسكة جيداً ثم قالت:
_ خليه يدخل..
أوصدت عينيها تستجمع قواها، فلقد حانت تلك اللحظة، لحظة الوصول إلى نهاية فصل من تحقيق حلمها، اليوم زفافهما لطلاما تمنته كثيراً حتى شعرت أنه بالكاد تراه في أحلامها، لكن الأحلام باتت حقيقة، وها هو يخطو أول خطوة نحوها.
خفق قلبها بقوة، إزداد تـ.ـو.ترها وهي تتابع خطواته القريبة، على الجانب الآخر كان يراها وكأنها المرة الأولى لهما، لم ولن يرى عروس مذهلة مثلها، كانت مشاكسته ثم فتاته والآن عروسه المصون!
كانت هالة بيضاء بفستانها الذي يغطي أرضية الغرفة، يليق بكونها عروس، كانت جميلة رقيقة تشبه الفراشات النادرة.
أعادت ذاكرته شريط حياتها معه في الثمانِ أعوام الماضية، مر عليه مرحلة طفولتها ومراهقتها والآن زواجها، انهمرت دmـ.ـو.عه رغماً عنه متأثراً بتلك اللحظة الثمينة.
تفاجئت لينة ببكائه وهتفت بحـ.ـز.ن وهي تتحسس وجهه:
_ ليه كدا؟
اقتربت منه وطبعت قبلة على عينه الباكية هامسة بحـ.ـز.ن:
_ عشان خاطري مش بحبك كدا..
تراجعت للخلف لتحدق به مسترسلة:
_ مش أنت اللي قولت لي مفيش عـ.ـيا.ط النهاردة، النهاردة فرحنا يا يوسف، حلمنا اللي اتمنيناه كتير خلاص بنحققه!!
ما كان منه إلا أنه ضمها داخل صدره، مستنشقاً عبيرها الذكي، بادلته لينة العناق بحب، بعد مدة ابتعدا عن بعضهما، فسألته لينة بلهفة:
_ ها إيه رأيك؟
بنبرة متيمة رد عليها:
_ زي القمر يا لي لي، دا أنا يابختي والله
ابتسمت له بعذوبة ثم همست:
_ بحبك أوي أوي يا يوسف..
"وأنا كمان بمـ.ـو.ت فيكي يا قلب وروح وعقل يوسف"
رددها وهو يقترب منها رويداً رويداً، طالع شفتيها التي انتفخت بسبب ذاك اللون، شعرت لينة بثمة اقتحام مفاجئ على وشك الحدوث فأسرعت في منعه قائلة:
_ يوسف، الروج هـ..
لم يدعها تكمل جملتها فأجبرها على الصمت حين قبل ثغرها، شهقت لينة بصدmة ورمقته بنظرات معاتبة، ثم ركضت نحو المرآة تتفقد شفتيها، تنهدت براحة حينما لم تجد عواقب وتمتمت محدثة أحمر الشفاه:
_ حلال فيك الفلوس والله
عادت إليه وتصنعت التذمر، رفعت إصبعها محذرة إياه وصاحت:
_ إياك تعيد عملتك دي تاني، وطول اليوم تلتزم معايا الإحترام، مفهوم
غمز إليه وهمس لها بمكر:
_ أنتِ حرة امنعيني براحتك، كله هيتحوش لك لبعد ما يتقفل علينا باب واحد
بعناد قالت:
_ ولا تقدر تعمل معايا حاجة..
بثقة شـ.ـديدة أردف:
_ وقتها هنشوف
مد لها ذراعه يحثها على التعلق به:
_ يلا عشان منتأخرش على الفوتوجرافر
طالت نظراتها عليه بتوجس قبل أن تتسائل:
_ يوسف أنت هتعمل إيه؟ متخوفنيش لو سمحت
ضحك هو وحافظ على ثباته وقال:
_ لا خافي
لمعت عينيها فخرج عن ثوبه وانفجر ضاحكاً وردد من بين ضحكه:
_ متخافيش خلاص، بهزر
أعاد مد ذراعه لها فتعلقت به ولازالت تطالعه بعدm راحة، وكذلك لم يكف هو عن الضحك، تعالت الزغاريد السعيدة لوقت ركوبهما السيارة، تهافت الجميع لمبـ.ـاركة يوسف وتمنى التـ.ـو.فيق له.
نادى يوسف على أخيه فجائه راكضاً، أشار له يوسف فانحنى عليه زياد وهمس الآخر بكلمـ.ـا.ته:
_ خلي شهد معاك مش عايز حد معايا في العربية..
أماء زياد بقبول ونظريه توجها حيث تقف شهد، سار نحوها وقال:
_ تعالي معانا في العربية..
"بس أنا عايزة أكون مع لينة عشان لو احتجتني"
قالتها وهي تطالع سيارة يوسف التي تتحرك بعيداً، فتدخل زياد قائلاً:
_ ما إحنا برده هنكون معاهم خطوة خطوة
ابتعد عنها وفتح لها باب السيارة الخلفي فلم يكن أمامها سوى الركوب، استقل هو الآخر في انتظار حضور والدته من الأعلى، حمحم ووجه المرآة نصب عينيها وردد بحرج:
_ شكراً إنك محكتيش اللي حصل النهاردة لحد..
نظرت إليه ثم أخفضت رأسها في حياء وردت بخجل:
_ عادي، ما أنا كنت سخيفة برده..
"أوي"
هتف بها زياد فتفاجئت الأخرى بوقاحته، رمقته بنظرات احتقارية وصاحت وهي تترجل من السيارة:
_ أنا اللي غلطانة إني ركبت معاك..
أسرع زياد في لحاقها، وقف أمامها وأمسك بذاك الباب مانعاً إياها من الخروج فباتا قريبين للغاية، تبادلا النظرات وهما لا يعيان ماذا يحدث لهما، فلقد كان الموضوع محبب لزيادة كثيراً، بينما كانت هي تشعر بالخجل يقــ,تــلها.
انتبه زياد لمجيء والدته فأعاد النظر إليها وهمس بأمر:
_ أدخلي..
شعرت أنها بحاجة للهرب من عينيه الثاقبة التي تخترقها وعادت للداخل مسرعة، أغلق زياد بابها وعاد لمقعده، انطلق بالسيارة فور ركوب والدته بجواره، استند بمرفقه الأيسر على النافذة واضعاً راحة يده على فمه مشكلاً ابتسامة مبهمة لا يعلم سببها.
***
أنهوا التصوير وحان موعد الذهاب للمكان المقام به العرس، تعلقت لينة في ذراعه فور ترجلها من السيارة، نظرت إليه تستمد منه الشجاعة ثم سارا معاً إلى الداخل، توجها أولاً إلى غرفة الإستراحة يأخذون بعض الصور مع الأهل والأقارب.
كانت لينة تتفحص هاتفها من آن لآخر بضيق واضح، فاقترب منها يوسف وسألها باهتمام:
_ مضايقة كدا ليه؟
تأففت وأجابته بحنق:
_ علي من آخر مكالمة ليه الصبح مكلمنيش تاني، كنت عايزة أوريله شكلي وأنا عروسة وكنت عايزاه يكون حاضر معايا كل حاجة طلاما هو مش موجود!!
حاول يوسف تبرير أمره حيث هتف بصوته الرخيم:
_ أكيد يا حبيبي عنده حاجة مهمة منعته يكلمك وإلا مكنش عمل كدا
رمقته لينة مستاءة قبل أن تهدر بتهكم:
_ أهم مني؟ أهم من فرح أخته؟
حمحم يوسف بحرج وردد:
_ حاسس إني نيلت الدنيا؟!
أماءت بالإيجاب وقالت:
_ بصراحة اه ياريت مدافعش عن حد تاني
أشار إلى عيناه وأردف بعذوبة:
_ من عيوني يا عيوني، بس مش معقول يا لينة هتفضلي مبوزة كدا، النهاردة مش يوم عادي، لو سمحتي ياريت نسيب أي حاجة هضايقنا على جنب، اتفقنا؟!
أماءت بالإيجاب وتمتمت:
_ اتفقنا..
توجه كليهما إلى الخارج ومنه إلى القاعة الخاصة بالسيدات، وقفا أمام الباب في انتظار فتحه حتى يبدأ ما تدربا عليه من قبل، مرت دقيقة تلاها أخري حتى فُتح الباب وإذا به يقف مبتسماً لهما وفي يديه باقة الزهور الخاصة بلينة.
اتسعت حدقتي لينة بعدm تصديق، تبادلت النظرات مع يوسف الذي ابتسم لها، حررت يدها المحاوطة لذراعه وهرولت إليه بسعادة عارمة معانقة إياه بحرارة:
_ مش مصدقة إنك هنا، أنت جيت بجد؟
حرك رأسه بتأكيد وقال:
_ مينفعش مكنش موجود في يوم زي دا!! ولا إيه يا يوسف؟
التفت إليه بذهول وهتفت مستاءة:
_ أنت كنت عارف إنه جاي ومقولتليش؟!
رفع يوسف كتفيه وأوضح موقفه:
_ مليش دعوة هو اللي طلب كدا
أعادت لينة النظر إلى شقيقها وصاحت بسعادة:
_ دي أحلى مفاجأة والله العظيم!
ابتسم لها بعذوبة ثم تناول يدها بين ذراعه وقال:
_ مبروك يا لولي
"الله يبـ.ـارك فيكي يا حبيبي"
قالتها بنبرة مليئة بالحيوية، بينما توجه يوسف نحوها وقام بمحاوطة يدها الأخرى، وسارا ثلاثتهم للداخل متشابكين الأيدي، كان الإستقبال حار للغاية، دلفوا بين نيران تتراقص على أنغام الموسيقى كأنها مدربة، ناهيك عن التصفيقات التي تدوي في المكان.
أوصلهم على للمقعد الخاص بالعروسين ثم قبل لينة من وجنتها وتنحى جانباً لكنه لم يبتعد، كان بالقرب منهما، جلس يوسف بجوار لينته، تهافت البعض للمبـ.ـاركة ثم طلبت منهن منظمة الحفلات أن يجلسن لبدء الحفل.
دعتهم لرقصة رومانسية، تحولت نظرات لينة تلقائياً على يوسف فهي على علم بعدm قبوله لتلك الأمور خارج المنزل، لكنها تفاجئت به ينهض ويمد لها يدها فرددت بعدm تصديق:
_ أنت بجد هترقص معايا برا البيت؟!
رد عليها وهو يسير بجوارها نحو المكان المخصصة للرقص:
_ مفيش رجـ.ـا.لة هنا، تفرق!!
ازدادت ابتسامتها بسعادة ثم وضعت يديها على صدره بينما أحاط هو خصرها وبدأ رقصتهما الأولى، كانت عينيهما تصرح بالكثير من فيض المشاعر تلك اللحظة، كان يرسل إليها عبـ.ـارات الغزل من خلال عينيه وكذلك تستقبلهم هي برحب.
انتهت كلمـ.ـا.ت الأغنية، ثم اقتربت منهما منظمة الحفل وتحدثت بلباقة في مكبر الصوت:
_ ما شاء الله عليكم، دلوقتي عايزين كلمة من العريس للعروسة قبل ما يتكرم ويمشي..
تقوس ثغر يوسف بحرج ثم تناول منها مكبر الصوت تحت نظرات لينة المذهولة، حتماً لن ينطق حرفاً، اتسعت حدقتاها حين رأته يتحدث وهو يحدق بها وأصغت إليه باهتمام لما سيردفه،
يوسف بنبرة خجلة:
_ معلش اعذروني لو اتلخبط، أنا متعرضتش لمواقف زي دي قبل كدا
ازدادت ابتسامته وتابع:
_ أو بصراحة أنا اللي كنت برفض أتحط في مواقف زي دي، بس لاجل عيون لينة كل حاجة تكرم
كانت متفاجئة للغاية مما يقع على أذنيها، وضعت يدها على وجهها خافية ابتسامتها السعيدة، على الجانب الآخر حمحم يوسف وواصل:
_ يمكن كلكم عارف حكايتي معاها، الحكاية التقليدية إني ربيتها في بيتي وصونت الأمانة اللي وصاني بيها صاحبي الله يرحمه، بس الحقيقة إنها هي بيتي، هي راحتي والحلو اللي في حياتي، كل حاجة بقى ليها طعم مختلف بوجودها جنبي، حتى المسؤولية مهما زادت كانت خفيفة دايماً على قلبي طلاما ليها وعشانها، على إيديها عرفت يعني إيه حُب!
معاها عرفت معنى الإنبساط، لأن قلبي مبسوط طول ماهي جنبه، وعيوني بتتبسط لما بتشوفها!
أنا ممتن ليها لأنها خلت حياتي وردية وأنا متأكد إن من غيرها مكنتش هكون ولا حاجة، لاني كنت دايماً بسعى عشان أسعدها، كنت بشيل مسؤولية فوق مسؤولية عشان خاطرها، عشان أكون قد حِلمها..
ضحك بصوت عالٍ قبل أن يردد وهو يطالعها:
_ وطلعت أنا في الآخر حِلمها!
أحتضن يدها واقترب منها وواصل استرساله بنبرة متيمة:
_ أنا بحبك يا أحلى جانب في حياة يوسف!
حبيتك وأنتِ عيلة صغيرة وحبيتك وأنتِ آنسة جميلة، ودلوقتي بحبك وأنتِ مراتي حبيبتي!
بحبك يا لي لي..
كانت تصغي لكلمـ.ـا.ته بتأثر شـ.ـديد، لقد آسر قلبها بكل حرفاً أردفه، لمعت عينيها وشعرت أنها بحاجة للبكاء، ظلت تلوح بيدها أمام وجهها لعلها تنجح في تبخر تلك العبرات التي على وشك السقوط.
اقترب منها يوسف وقام بضمها بكل قوته، بادلته لينة العناق ولم تستطيع الصمود فأجهشت بالبكاء، ارتفعت التصفيقات من حولهما ثم صدح صوت المرأة حين التقطت من يوسف مكبر الصوت:
_ ربنا يخليكم لبعض يارب، يابختك بيه يا لينة
تراجعت لينة واكتفت ببسمة رقيقة، فواصلت الأخرى حديثها:
_ مش حابة تسمعينا كلام حلو زي اللي سمعناه دا؟!
نظرت لينة إلى يوسف فغمز إليها ثم انحنى بقرب أذنها وهمس بتعالي:
_ أنا خلصت كل الكلام ورينا هتعلي عليا إزاي؟!
قهقهت وسألته بثقة:
_ أنت بتتحداني؟
مال برأسه يميناً ويساراً قبل أن يجيبها:
_ بصراحة كدا آه
بثقة التقطت لينة مكبر الصوت من يدي المرأة ثم أخذت نفساً عميق، طالعت عيناي يوسف بتحدٍ تحول إلى امتنان شـ.ـديد لتصريحاته التي لمست قلبها منذ قليل، تفاجئ يوسف بغنائها العـ.ـذ.ب فلم يتوقع ذلك البتة..
غردت لينة وهي تطالعه بحب:
أنا بعشق الغنا قدام عنيك
أنا عايشه العمر ليك أنا روحي فيك
وأنت جنبي هنا أنا بحلم بيك أنا
وأروح منك إليك
بدأت تصفيقات الفتيات من حولهما بينما لوحت لينة بيدها متماشية مع كلمـ.ـا.ت الأغنية وهي تتابع:
بحبك قد عمري قبل عمري بعد عمري
حبي ليك فوق المشاعر والحدود
بحبك قد روحي قبل روحي بعد روحي
مش هلاقي زيك أنت في الوجود
مستحيل أستغني عنك
مستحيل ده أنا كلي منك
يا حبيبي إن سبت حـ.ـضـ.ـنك يوم أمـ.ـو.ت
أنت اكثر من حبيبي
أنت كل ما فيك حبيبي
نفسي أقولك إني عاشقة ودايبه مـ.ـو.ت
أحاط يوسف خصرها فواصلت غنائها بإحساس عالِ وهي تستند برأسها على صدره:
خليني جنبك بحـ.ـضـ.ـن قلبك
خليك معايا دايما قريب
قرب في حـ.ـضـ.ـني
من روحي خدني أنت ملاكي وأجمل حبيب
أنهت كلمـ.ـا.ت أغنيتها فتفاجئت بفستانها الذي حلق في الهواء حين حملها يوسف فتبشت في عنقه لتوازن جسدها حتى لا تقع.
أنزلها فوقفت لينة قليلاً تحاول إستعادة رشـ.ـدها، تنهدت وهمست له:
_ إيه رأيك مين يكسب؟
ابتسم لها وقال:
_ أنتِ طبعاً
بادلته الإبتسامة ثم استأذن منها ليعود إلى قاعته الخاصة حتى يستقبل الحضور، وباتت هي بين صديقاتها تتراقص دون توقف.
"ما تنام جوا أحسن"
هتف بها بلال فور رؤيته خروج يوسف، بلا مبالاة هتف يوسف:
_ خليك في حالك يا حبيبي
بفتور قال بلال:
_ الناس بتسأل عنك وكل شوية أقولهم جاي أهو..
"وأديني جيت"
أردفها يوسف ثم نظر إلى الحارس الذي يقف أمام باب القاعة الخاصة بالسيدات وأمره بنبرة لا تحمل النقاش:
_ محدش يدخل هنا غيري، مفهوم!!
أماء الحارس بطاعة بينما توجه يوسف وخلفه بلال إلى القاعة الأخرى لكي يستقبل من حضروا خصيصاً له، توقف قبل ولوجه حين وقع على أذنه ندائات أحدهم، استدار بجسده حيث الصوت، ابتسم له بود فهتف الآخر بسعادة:
_ الف مبروك يا أستاذ يا يوسف
"الله يبـ.ـارك فيك يا عيسى"
قالها يوسف ثم مرر نظريه بينه وبين فاطمة وقال:
_ وعقبالكم
شكرته فاطمة بإستيحاء:
_ شكراً يا أستاذ يوسف حضرتك ليك الفضل بعد ربنا إننا نتخطب، ربنا يسعدكم يارب
"ربنا يخليكي يا آنسة فاطمة"
قالها يوسف ثم استأذن منهما ودلف القاعة خاصته، تفاجئ بصيح الشباب حين رأوه، تقوس ثغر بإبتسامة سعيدة ورفع يده يحييهم، وقف في المكان الخاص به فلم يتردد أحد من الحضور في المجيء إليه وتهنئته.
مرت الليلة بسلام، كان يوسف يناوب بين القاعتين لإرضاء حبيبته وأيضاً لإستقبال الحضور، استقلا كليهما السيارة بعد توديع حار من الجميع، وانطلق بها مبتعداً عنهم، حمحمت لينة جاذبة انتباهه وتحدثت بتلهف:
_ سوفي، ينفع أطلب طلب؟
رمقها يوسف بعتاب ثم التقط يدها وطبع قُبلة داخلها وقال:
_ طلب واحد بس، قولي طلبين تلاتة، أنت تؤمر يا قمر
ابتسمت بعذوبة ورقة وبنبرة ناعمة أردفت:
_ ينفع منروحش دلوقتي، نفسي أوي أشوف الشروق وإحنا مع بعض!!
رمقها يوسف باستنكار وهتف:
_ اهو دا اللي مش ممكن أبداً
طالعته لينة لبرهة تستشف ما أن كان يمازحها أم يتحدث بجدية، انفجر يوسف ضاحكاً وأشار إلى عينيه قبل أن يردف:
_ من العين دي قبل العين دي..
عادت بهجتها من جديد وهتفت بحماس:
_ هنروح فين بقى لوقت الشروق؟
تنهد يوسف وأخبرها بخطته:
_ هنروح نتعشى قدام البحر ونشوف الشروق، وبعدين نجري جري على بيتنا عشان نـ..
قاطعته هي بخجل شـ.ـديد:
_ يوسف!
نظر إليها متصنع البراءة وهتف:
_ إيه؟! كنت أقول ونغير هدومنا!!
شعرت لينة بالحرج وأخفضت رأسها في حياء، انفجر يوسف ضاحكاً ومازحها قائلاً:
_ بصراحة مكنتش هقول كدا، كنت هقول نروح عشان نـ..
صرخت لينة في وجهه محذرة:
_ يا يوسف بقى، الله
لم يتوقف عن الضحك، بينما أولاته هي ظهرها وتابعت الطريق من خلال النافذة، لحين وصولهما إلى الشاطئ، صف يوسف السيارة جانباً، توجه نحو بابها وساعدها على الترجل ثم أمسك لها الفستان لتستطيع السير دون أن يعيق خطواتها.
وصلا إلى الكراسي التي تواجه البحر مباشرةً، ساعدها على الجلوس ثم توجه إلى ذاك المطعم وقام بطلب بعض الأكلات لهما وعاد إليها، خلع سترته ووضعها على جدار الكرسي الذي اعتلاه فهتفت هي بنبرة حاقدة:
_ يا بختك لما بتتخـ.ـنـ.ـق بتعرف تقلع في الشارع عادي
اتسعت حدقتي يوسف واسرع في قول:
_ إيه يابت أقلع في الشارع دي، دا حيالله حتة جاكيت..
اخفض نبرته ومال على أذنها مواصلاً حديثه بمكر:
_ وبعدين كلها شوية ونروح وتـ..
لم تعطيه فرصة إكمال حديثه حيث وضعت يدها على فمه محذرة إياه بعينان جاحظتين:
_ ششش، بطل الكلام دا
أزاح يوسف يدها من على فمه مستنكراً ظنها السوء فيه وهدر مستاءً:
_ مش فاهم أنتِ بتفهمي إيه، أنا كنت هقول تغيري الفستان عادي يعني!
تفاجئت لينة بقوله، لقد قلب الطاولة عليها، نظرت إليه بعدm تصديق وهللت:
_ بجد والله؟!
قهقه هو بينما التفتت برأسها متابعة البحر، ناهيك عن استمتاعها بنسمـ.ـا.ت الهواء العليل، حضر النادل بالطعام بعد وقتٍ، تناولا الأطعمة بشهية مفتوحة حتى انتهوا منه.
مالت لينة برأسها على كتفه والتزما الصمت حتى بدأت تشرق الشمس، كانت لينة سعيدة للغاية، فكانت تحلم دوماً برؤية الشروق وها قد حققته مع رفيق دربها في يومهما المميز.
مال يوسف برأسه مستنداً على رأسها وهمس:
_ مش يلا بقى؟!
أماءت بقبول وقالت:
_ الجو حلو أوي هنا وقت الشروق، ياريت نعملها تاني..
"أكيد إن شاء الله، بس كفاية كدا النهاردة ورانا حاجات لازم نعملها"
أردفهم يوسف وتعمدت لينة تجاهله، سارت إلى جواره حتى استقلت السيارة بمساعدته، وكذلك استقل هو خلف المقود وتحرك بعيداً عن الشاطئ، تذكر شيئاً قد أحضره لها وبحماس يشوبه اللهفة هتف:
_ محضر لك حتة مفاجأة يا لي لي إنما إيه!!
بحماس سألته:
_ إيه هي؟
أوصل يوسف هاتفه بالسيارة ثم بدأ تشغيل أغنية ما، استشفت لينة أنها تركية من خلف موسيقاها المميزة، كانت مبتسمة حتى صغت إلى كلمـ.ـا.تها فشهقت بصدmة وهللت:
_ إيه دا يا يوسف؟
تعجب من ثورتها وردد بعدm فهم:
_في إيه؟ مش بتحبي التركي؟!، وكمان دا بيقول سيني سيفيورم
هزت راسها بنفور وقالت بحنق:
_ فيه أرتك بعدها!!
بعدm فهم صاح:
_ أيوة معناها إيه دي؟
أوضحت له بنبرة غاضبة:
_ معناها معتش بحبك!!
اتسعت مقلتي يوسف بصدmة، وبرر موقفه:
_ طبعاً مش محتاج أقولك إني فاهم حاجة غير سيني سيفيورم بس
"ماهو دا اللي مخليني مش عارفة أكلمك"
صاحت بها ثم أخذت الهاتف واختارت أغنية أخري ذات كلمـ.ـا.ت ومعانٍ رومانسية..
أحتضن يوسف يدها وقال وهو يتابع قيادته:
_ بحبك
بادلته الإبتسام قبل أن ترد عليه:
_ وأنا كمان بحبك
لم يترك يدها طيلة الطريق، حتى وصلا إلى عُشهم الجديد، وقفا أمام الباب بعدmا قام يوسف بفتحه، تبادلا النظرات وهما لا يصدقان أن هنا نهاية المطاف، هنا سيبدأن حياة جديدة معاً، حياة لم يذوقون تجاربها من قبل.
↚
تبادلا النظرات، فمنها كانت خجولة وأخرى راغبة، ولج الغرفة فكانت تسبقه لينة بخُطاها، وقفت أمام المرآة متنهدة بتعب شـ.ـديد ورددت بضيق:
_ الفستان تقيل أوي، بحلم باللحظة اللي أقلعه فيها
اقترب منها يوسف مردداً بخبث:
_ غالي والطلب رخيص
نظرت إليه بعينان متسعتين وهتفت:
_ أنت هتعمل إيه؟
بتلقائية قال:
_ هساعدك
تراجعت وهي تهتف:
_ أنا هعرف أساعد نفسي!!
قلب يوسف عينيه بإزدراء، ثم دار حولها حتى وقف خلفها، جذبها إليه برفق مردداً:
_ أنتِ عارفة أنا بحلم باللحظة دي من امتى؟!
يدأ يفك عقدات الفستان حتى انسدل تلقائياً فور انتهائه من فكهم، أمسك يديها مساعداً إياها على الخروج منه، بينما قفزت لينة من داخله حتى باتت خارجه.
تابع يوسف خلعه لحجابها حتى فرغ منه، حرر عقدة شعرها وتركه محرراً في وضعه المحبب إليه، تحسس وجنتها بنعومة فقشعر بدنها إثر فعلته، اقترب منها وهمس بخفوت:
_ يلا عشان نصلي..
أماءت بقبول وهرولت مبتعدة عنه، فلقد شعرت أنها حُصِرت من قِبله، لكن على مايبدو أن الوقت لم يحين بعد، توضأت ثم ارتدت إسدالها ووقفت خلفه، شرع يوسف في الصلاة وكان اليوم إمامها.
ومع كل سجدة كانت تسجدها لينة تشعر بالسكينة تسكن قلبها وتطمئن خوفها، انتهيا من الصلاة فالتفت يوسف إليها مبتسماً ببشاشة، رفع يده ووضعها على رأسها ودعى بصوت عـ.ـذ.ب:
(اللهم إني أسألك خيرها وخير ما جبلتها عليه، وأعوذ بك من شرها وشر ما جبلتها عليه)
رفع جسده قليلاً عن الأرض وقبل جبينها ثم أمسك يدها وطبع قُبلة داخلها، ولازالت ابتسامته تغزو شفتيه لتشعرها بالطمأنينة، حمحم وقال بعذوبة:
_ أنا عايز أتفق معاكي اتفاق، نسميه "عهد" نمشي عليه طول ما إحنا مع بعض!
حركت رأسها بفضول وقالت متسائلة:
_ إيه هو؟
بعفوية وسلاسة أردف:
_ مهما حصل بينا منامش زعلانين أبداً، سواء أنا أو أنتِ، الزعل اللي بنهرب منه للنوم دا بيعمل فجوة جوانا وبيخلق تراكمـ.ـا.ت ومهما مر الوقت بننفجر بسبب مرة نمنا زعلانين..
بحياء هتفت لينة:
_ أوعدك إني هكون قد الإتفاق دا
"وأنا واثق من كدا"
قالها يوسف بثقة ليبث بها القوة والثقة، تنهد ثم نهض ومد لها يده فأمسكت به، التفت يميناً ويساراً وقال:
_ مش هتغيري الإسدال؟
بإرتباك واضح تمتمت:
_ أكيد، هدخل الحمام أغير وأجي..
أماء بقبول بينما توجهت هي إلى المرحاض، نظرت إلى ذاك القميص المُعلق على الحامل الخلفي للباب، تسائلت كيف ستضعه على جسدها؟
كيف ستواجه عينيه بهذا اللباس؟
لكن لم يكن أمامها سوى الإستسلام وارتدائه، تناولته ثم قامت بتبديل ثيابها به، وقفت أمام المرآة وطالعت صورتها المنعسكة بأعين جاحظة لذاك المظهر الجرئ!!
بالله كيف ستخرج بهذا الوضع؟
أوصدت عينيها محاولة ضبط أنفاسها المضطربة، حتى راودتها فكرةٍ ما، توجهت إلى الباب ووقفت خلفه حارصة بألا يراها يوسف، ثم فتحته ونادته قائلة:
_ يوسف، لو سمحت ممكن تناولني الروب اللي عندك على الشماعة اللي ورا الباب
"روب!! روب ليه"
تسائل بجدية فحاولت توضيح الأمر:
_ هلبسه هيكون ليه يعني؟
صمت ساد للحظة ثم انتبهت ليده التي أحضرت ثوباً ذو لون مختلف عن ما تريده، لكنها لم تعقب، المهم أنه أحضره وكفى، مدت يدها لتتناوله فتفاجئت به يقف أمامها.
شهقت بصدmة فلقد كانت تمسك بقميصه من قماش الستان، ابتسم لها بخبث وقال وهو يضع كلتى يديه حولها مستنداً بهما على الباب فكانت هي حبيسته:
_ حلو الروب اللي جبتهولك؟
ابتعلت ريقها وحاولت إخفاء جسدها بيدها فاستنكر فعلتها، أخفض يده عن الباب وأزاح يديها بعيداً ليلقي نظرة على ما تخفيه عنه، عاد بنظريه عليها فتفاجئ بتورد وجنتيها، ازدادت ابتسامته الجذابة وردد:
_ دا إحنا طلعنا جـ.ـا.مدين أوي..
"يا يوسف بقى"
بحرج شـ.ـديد نطقت حروف إسمه لعله يصمت، لكنه هدر بنبرة غارقة في جمالها:
_ يوسف داب خلاص!!
اقترب من شفاها وقبلها بنعومة شـ.ـديدة، أمسك يدها ووضعها على قميصه وفك أزراره بمساعدتها، كان يشعر بنبضاتها التي اخترقت صدره حين ضمها إليه، رفعها عن الأرضية فتشبثت في عنقه، وعاد بها إلى الغرفة واضعاً إياها على الفراش بتهمل، لم يفارقها فلقد غرق في بحورها، والآحر أنه كان سعيداً للغاية كلما تعمق في غرقه بها.
استطاع يوسف إخماد خجلها بتعامله اللطيف معها، وقادته غريزته لجعلها امرأته قولاً وفعلاً.
***
"ششش أنا آسف والله"
أردفها بنـ.ـد.م شـ.ـديد، فلم تكترث كثيراً لإعتذاره، لم يتوقف بكائها نتيجة عن شعورها بذاك الأذى الجسدي، اقترب منها يوسف محاولاً تهدئتها بشتى الطرق حيث هتف سؤاله الحنون وهو يداعب خصلاتها:
_ حبيبي مش أنتِ كويسة؟
أماءت بالإيجاب فعاد متسائلاً:
_ طب ليه العـ.ـيا.ط دا؟
رمقته بخجل شـ.ـديد ثم أجهشت باكية، ضمها يوسف برقة ولم يتوقف عن مداعبة خصلاتها المحررة مردداً بعض الكلمـ.ـا.ت بنبرة هادئة:
_ معتيش تعيطي طيب، كل حاجة فيها صعوبة في الأول أنا عارف بس مش هتتحل بالعـ.ـيا.ط!
ابتعد عنها موضحاً سبب ابتعاده:
_ ثواني هجيب حاجة وراجع
ولج المطبخ وقام بإحضار كأس من عصير العنب المعلب ثم وضع به بعض قطع الثلج وعاد إليها، جلس على طرف الفراش حيث كانت هي على يمينه وناولها العصير قبل أن يردف:
_ اشربي العصير واهدي..
رفضت بحركة من رأسها فأصر على شربها له، رفع يده بالكأس عند فمها وحثها على أخذ رشفة منه:
_ يلا يا لي لي..
شربت منه القليل ولم ينزل يده حتى فرغت منه كاملاً، وضع الكأس جانباً ثم نظر لها بإبتسامة عـ.ـذ.بة وقال:
_ بقيتي أحسن؟
"شوية"
ردها كان مختصراً بنبرة مهزوزة، بينما تمدد هو إلى جانبها وضمها لصدره حتى هدأت رجفة جسدها تدريجياً فقال يوسف بنبرة منهكة:
_ حاولي تنامي لك شوية..
لم تعقب لينة فهي بالفعل بحاجة للنوم لتريح جسدها، أوصدت عينيها ولم تحتاج لوقت طويل حتى غفت، تأكد يوسف من نومها فتمدد على الفراش بحذر ودعى العنان لعقله حتى غاب عن الوعي.
***
استيقظ على رنين الجرس، فتح عينيه والنعاس يسيطر عليه بشـ.ـدة، نظر لتلك النائمة التي تتوسط صدره، سحب يده من أسفل رأسها برفق فقلقت هي وسألته مستفسرة:
_ رايح فين؟
أجابها وهو ينهض عن الفراش:
_ في حد على الباب..
التقط تيشيرت له ولم يلحق تبديل الشورت خاصته، توجه للخارج وفتح الباب ظناً أنه حارس البناية، لكنه وجد والدته أمامه، ابتسم لها ورحب بها بحفاوة:
_ اتفضلي يا أمي، أنتِ جاية لوحدك؟
بحرج قالت:
_ لا يا حبيبي زياد تحت، أنا جيت أجيب لكم الأكل، قعدت أرن عليك كتير قبل ما أجي أعرفك بس موبايلك مقفول، وأول لما العشا أذنت قولت مبدهاش بقى لازم أروح أكيد جوعتوا
جلست على الأريكة بينما ردد يوسف بذهول:
_ عشا!!
تفقد ساعة الحائط وتفاجئ بالوقت، لقد تخطت العاشرة مساءًا، جلس مقابلها وهو يردد بعدm استيعاب بعد:
_ أنا معرفش نمنا كل دا إزاي..
"نوم العافـ.ـية يا حبيبي"
أردفتها السيدة ميمي ثم بتردد سألته:
_ لينة فين، عايزة أشوفها قبل ما أمشي..
نهض ليناديها فأسرعت ميمي في لحاقه:
_ لو نايمة سيبها متصحيهاش..
بتلقائية قال:
_ لا هي كانت صاحية، ثواني
توجه نحو الغرفة فوجدها تتململ في الفراش بكسل، تبسم في وجهها وأخبرها بوجود والدته:
_ ميمي هنا وعايزة تشوفك
تفاجئ من رد فعلها المريب، فلقد انتفضت بذُعر ووقفت تجوب الغرفة بتـ.ـو.تر وإرتباك شـ.ـديدان، اقترب منها بغرابة من أمرها وسألها بجدية:
_ في إيه، ليه كل التـ.ـو.تر دا؟
صاحت هي بتجهم:
_ مش بتقول ميمي هنا؟!
طالت نظراته عليها في انتظار توضيح الأمر له، بينما واصلت هي:
_ هقابلها إزاي؟ مش هعرف أبص في وشها!!
بعدm فهم لما تتفوه به هدر:
_ ليه؟ إيه اللي حصل لكل دا؟
رققت من نبرتها وهي تخبره وجهة نظرها:
_ يا يوسف مامتك دلوقتي عارفة اللي حصل، عايزني أخرج أقف قصادها عادي كدا إزاي؟
حرك يوسف رأسه مستنكراً وهتف مستاءً:
_ أنتِ هبلة يابت أنتِ، ما طبيعي أي اتنين بيتجوزوا بيكون معروف حصل إيه بينهم دي سُنة الحياة، يعني أنتِ مش أول واحدة يعني، بطلي هبل واخرجي..
رفضت البتة التحرك من الغرفة، فواصل هو:
_ خلاص براحتك، أنا هخرج أقولها إنك مش عايزة تشوفيها
أولاها ظهره فأسرعت في لحاقه بقولها:
_ لأ لأ متقولش كدا، خلاص هغير وأخرج..
لم يعلق يوسف وخرج من الغرفة، عاد لوالدته وأعاد ترحيبه بها مراراً، أنتبه لرأس لينة التي أخرجتها من خلف باب غرفتها تتفقد الأجواء.
ظهرت على شفتيه إبتسامة ساخرة على وضعها، نهض وتوجه إليها ثم مد لها يده وقال:
_ تعالي يا لينة بطلي عـ.ـبـ.ـط
حدجت يده لبرهة ثم أمسكت به وسارت معه على استحياء شـ.ـديد، تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها تلك اللحظة، هللت ميمي بسعادة فور رؤيتها لها، نهض وعانقتها بحرارة:
_ البيت وحش من غيرك يا لينة
تفاجئ يوسف وكذلك ميمي ببكائها، مما أثارت القلق في قلب ميمي، تراجعت للخلف متفحصة تعابيرها جيداً قبل أن تسألها بتوجس:
_ مالك يا حبيبتي، بتعيطي ليه؟
لم تجيبها لينة فوجهت ميمي بصرها على يوسف بغضب وهتفت:
_ أنت عملت لها؟
جحظت عيناي يوسف بذهول وردد بتهكم:
_ والله ما عملت لها حاجة..
أمسكت السيدة ميمي يد لينة وقالت وهي ترمق يوسف بنظرات مشتعلة:
_ تعالي معايا يا لينة..
اصطحبتها إلى الغرفة بينما لم يرفع يوسف بصره عنهن بذهول شـ.ـديد، لم يستطيع الجلوس وجاب الردهة ذهاباً وجيئا وعقله يكاد يجن، أعاد شريط ما حدث في الصباح ليتأكد من أنه لم يصيبها بأذى، لقد شك في ذاته وما عاشه معاها، لوهلة ظن أنه أساء التصرف معها.
أوصد عينيه بضيق، لاعناً ذاته على تصرفه الأرعن، لكن متى حدث تصرف غـ.ـبـ.ـي منه؟ يمكن أن يكون تعامل معها بقسوة قليلاً وخشت هي إخبـ.ـاره؟ أم أنها تبالغ؟!
لم يعد يفقه شيء، فقط يشعر بالغضب يتأجج داخله ولا يدري حتى سببه.
داخل الغرفة، تحول بكاء لينة إلى ضحكات مرتفعة، مما أثارت التعجب في نفس ميمي، فلم تعد تدري أهي حزينة أم سعيدة، تنهدت وهتفت بعدm استيعاب لتصرفاتها:
_ الجواز طير البرج اللي فاضل من عقلك يا لينة ولا إيه؟
حاولت لينة السيطرة على ضحكها وأردفت:
_ بصراحة كنت حابة أشتغل يوسف شوية
قلبت عينيها واحتدت نبرتها وقالت:
_ عشان هو يستاهل
بجدية سألتها ميمي:
_ ليه هو عمل إيه؟
راودها الخجل الشـ.ـديد من خلف سؤالها وحاولت الهرب منه:
_ معملش حاجة، بس هو كدا
جلست ميمي على طرف الفراش وأشارت إليها بالجلوس جوارها، فلم تتردد لينة وجاورتها ثم تسائلت الأخرى باهتمام أمومي:
_ أنتِ عاملة إيه طمنيني عليكي، وبجد يوسف عملك حاجة؟
أسرعت لينة في نفي ظنها:
_ لا لا والله معملش حاجة خالص..
قطبت ميمي جبينها فاستشفت لينة ما فهمته من خلف حديثها فأوضحت:
_ مقصدش اللي فهمتيه، يعني أنا قصدي إن أنا كويسة وهو معمليش حاجة، إحنا بنتكلم عن يوسف يا ميمي!!
ربتت ميمي على قدmها وابتسمت براحة سكنت قلبها، حمحمت قبل تردف:
_ ربنا يهينكم يارب، أنا همشي لو احتجتي حاجة كلميني
بادلتها لينة الابتسام وقالت:
_أكيد..
نهضت ميمي عن الفراش وخرجت من الغرفة فهرول يوسف نحوها متسائلاً بفضول:
_ قالتلك إيه؟
قهقهت بخفوت ومالت عليه قبل أن تخبره:
_ بتدلع عليك شوية
لم يستوعب عقله جملتها ورددها بعدm فهم:
_ يعني إيه بتدلع عليا؟
تفقدت ميمي المكان خلفها وأجابته:
_ واحدة بتدلع على جوزها ليها معنى تاني؟!
صمت ساد لبرهة استشف يوسف ما تقصده وهلل بتهكم:
_ قصدك بتشتغلني؟
انفجرت ميمي ضاحكة فتمتم هو بغيظ:
_ ماشي يا لينة، حسابك معايا بعدين
توقفت السيدة ميمي عن الضحك وسألته مستفسرة:
_ هتسافروا امتى؟
نظر يوسف إلى ساعة الحائط ورد عليها:
_ هنمشي الفجر إن شاء الله، يدوب نحضر الشنط
ربتت ميمي على كتفه بحنو ودعت له بحب:
_ توصلوا بالسلامة يا حبيبي، ابقى طمني عليكم
"الله يسلمك يا أمي، أكيد إن شاء الله"
قالها يوسف بينما استأذنت ميمي للمغادرة، وقف يوسف يحدق ذاك الباب الذي يفصل بينهما، يفكر جيداً فيما سيفعله بها.
تشكلت على شفتيه إبتسامة جندي منتصر في أحد معاركه، تناول هاتفه وهاتف صديقه وبعد ترحيبات وأحاديث دارت بينهما تعمد يوسف إلقاء كلمـ.ـا.ته وهو يدلف الغرفة:
_ أيوة يابني ألغي السفرية، مش هنروح في حتة
صعقت لينة مما وقع على أذنيها، أسرعت نحوه متابعة حواره بعينين جاحظتين، بينما واصل يوسف لعبته:
_ معرفش هنطلع تاني امتى، يمكن منطلعش أصلاً، معلش بقى هسيب الموضوع دا عليك يا بلال..
على الطرف الآخر من المكالمة، لم يعي بلال هراء يوسف وصاح بعدm فهم:
_ سفرية إيه اللي ألغيها، أنت بتقول إيه؟
أنهى يوسف المكالمة لكي لا يفـ.ـضـ.ـح أمره:
_ يلا سلام يا حبيبي، هكلمك تاني
صاح صوتها المتسائل ما أن أنهى يوسف اتصاله:
_ سفرية إيه اللي تتلغي؟ ومش هنطلع ليه؟
رمقها يوسف ببرود ثم توجه إلى الفراش وتمدد أعلاه مستنداً برأسه على جداره ثم أجاب بجمود:
_ اللي بيسافروا دول يا حبيبتي بيسافروا يستمتعوا، لكن إحنا هنستمتع إزاي وأنا كل ما أقرب لك تعيطي، السفرية هتبقى نكد أوي فأنا بقول ناخد على بعض الأول وبعدين نبقى نطلع براحتنا..
استنكرت قراره الذي اتخذه بمفرده، ناهيك عن حديثه الذي ليس في محله، هرولت نحوه وتمتمت بتوسل:
_ مش هيبقى فيه نكد يا يوسف، لو سمحت كلمه وقوله ميلغيش حاجة وأنا أصلاً لما عيطت قدام ميمي دا مكنش حقيقي، كنت حابة أعمل فيك مقلب مش أكتر، عشان خاطري يا يوسف نسافر
انتفض يوسف من مكانه كما احتدت ملامحه وصاح بنبرة جهورية:
_ مقلب!! وهو فيه واحدة محترمة تعمل في جوزها مقلب سخيف زي دا قدام أمه؟!
كانت لينة متفاجئة من ثورته وشعرت بالنـ.ـد.م يشوبه الحرج الشـ.ـديد، نهضت ووقفت مقابله وحاولت تبرير موقفها:
_ مكنتش أعرف إنك هتضايق كدا، أنا بجد آسفة..
اقترب منها يوسف بضعة خطوات فشعرت هي بالرعـ.ـب، ابتلعت ريقها وأخفضت رأسها في انتظار ما سيفعله بها، تابع يوسف اقترابه حتى بات ملاصقاً لجسدها، انحني برأسه قرب أذنها وهمس:
_ مقلبي أجمد!!
تراجع للخلف ليرى رد فعلها، أخذت لينة فترة يحاول عقلها استعياب كلمـ.ـا.ته، رفعت بصرها عليه ورددت بعدm فهم:
_ مقلبك!!
قهقه يوسف عالياً ثم وضع يديه في منتصف خصره رافعاً حاجبه الأيسر بانتصار وتشفي، وفي النهاية استوعبت لينة ما يحدث وانقضت عليه تبرحه ضـ.ـر.باً هاتفة بغضب:
_ أنت، أنت بجد بـ.ـارد، مش عارفة أقولك إيه، أنا قلبي وقع، إزاي تعمل كدا، أنت..
كان يوسف يضحك ويحاول السيطرة على يدها التي تضـ.ـر.ب ثائر جسده، حتى تمكن منها وقيد حركتها بوضعه ذراعيها خلف ظهرها مردداً:
_ بس بس أنتِ ما صدقتي..
بملامح جـ.ـا.مدة صاحت في وجهه:
_ أنت بـ.ـارد والله
قلب يوسف عينيه وحذرها بقوله:
_ اتلمي بدل ما ألغيها بجد!!
تراجعت لينة عن تمردها وقالت بنبرة ناعمة لا تشبه ثورتها منذ قليل:
_ طيب كلم بلال قوله ميلغيش حاجة
بفتور هدر يوسف:
_ محدش يعرف يلغي حاجة غيري أصلاً
رمقته لينة مستاءة من تصرفاته، بينما همس هو بخفوت:
_ أنا عايزك ترقصي..
تفاجئت من طلبه وحاولت التحرر من قبضته وهي تردد:
_ ودا وقت رقص، إحنا لازم نحضر الشنط
رفض فك قيدها قبل أن ترضخ لطلبه:
_ مش قبل ما ترقصي الأول
عضت لينة على شفاها وقالت بحياء:
_ هتكسف!!
باستنكار شـ.ـديد صاح يوسف وهو يزيح يديه عنها:
_ نعم يختي؟! ما أنتِ كنتي بترقصي قدامي يوم الحنة!!
"بس دي مش زي دي، إحنا مكناش لوحدنا لكن أنا وأنت لوحدنا دلوقتي وأنا مش هعرف أتحرك حركة واحدة قدامك"
قالتهم لينة مبررة موقفها، لكنه لم يقتنع بسهولة فكان ذلك هراء كيف يقتنع به حباً في الله، تنهد وبإصرار واضح قال:
_ مليش دعوة، مش متحركين من هنا قبل ما ترقصي، رقصك قصاد السفرية!!
تنهدت لينة ثم اضطرت للرضوخ، فآخر ما تتمناه هو إلغاء تلك السفرية لطلاما رتبت لها طويلاً، توجهت نحو الخزانة فتبعها يوسف ووقف يختار معها زياً يروق له.
اختار أحد القطع المكونة من قطعتين ذو اللون الأحمر الفاقع وناولهم لها، ثم بحث بعينيه على شيئ يدور في عقله قبل أن يهتف متسائلاً:
_ عندك خلاخيل؟
"خلاخيل!!"
رددتها لينة متعجبة فأوضح هو:
_ خلخال يعني، ويكون بيعمل صوت كدا مش منظر
كانت متعجبة من أمره كثيراً، ضحكت بعفوية وأجابت:
_ أيوة فيه في الدرج التاني اللي فيه الإكسسوارات بتاعتي
توجه يوسف إلى الدرج وأخذ يختار من بينهم، ثم جذب أحدهم وحركه بقوة ليختبر قوة رنينه، ابتسم حين وجد مراده وعاد إليها بعدmا ارتدت ما أحضره لها، اقترب يوسف منها وأمسك يدها وتوجه بها نحو الفراش، ساعدها على الجلوس ثم جسى هو على ركبتيه ووضع قدmها اليمنى على ركبته وأحاط كاحلها بالخلخال.
نهض ووجه حديثه لها:
_ فين الروج الأحمر بتاعك؟
حقاً ذلك مبالغ به، نهضت هي وهتفت:
_ نفسي أفهم أنت بتعمل إيه؟
حثها يوسف على فعل ما يريده حيث قال:
_ أعملي اللي بقولك عليه بدل ما أروح أعمله مع واحدة تانية
شهقت لينة وهي تحدق به بصدmة، بينما أولاها يوسف ظهره خافياً ابتسامته، اقترب من الدرج الذي يحوي مساحيق تجميلها فهرولت لينة خلفه مانعة إياه من الوصول لشيئ قبل تقديم تبرير لما قاله، ووقفت مقابله متسائلة بحنق:
_ أنت ممكن تعمل كدا؟!
طالعها لبرهة قبل أن يجيب:
_ كان ممكن بس الشرع مش محلل غير أربعة بس!!
عقدت ما بين حاجبيها وهتفت بعدm فهم:
_ يعني إيه؟
مال على أذنها وهمس:
_ يعني أنتِ بالـ ٤!
نفخ في أذنها ثم تخطاها وتابع خطواته ليحضر أحمر الشفاه، لم تمنع لينة ابتسامتها فكانت إجابة كافية بالنسبة لها، تبعته بخُطاها وتفاجئت به يضع لها أحمر الشفاه بنفسه.
فتحت فمها قليلاً وتركته يضعه على شفتيها ثم أعاد وضعه إلى مكانه حين فرغ منه، لم يعد هناك سوى الخطوة الأخيرة وهي اختيار الأغنية، اختارها يوسف بعناية ثم نظر إليها وأمرها:
_ يلا..
قابلت لينة صعوبة في البداية من خلف نظراته فشجعها يوسف على أخذ راحتها بانضمامه لها ومشاركتها الرقص، وبالفعل نجح في تبخر خجلها وبدأت تتغنج بدلال، تتمايل عليه بإثارة فتزيد من لوعته.
انفجرت لينة ضاحكه على حركاته التي كانت مفاجئة بالنسبة لها وهتفت من بين ضحكها:
_ أنت بقيت كدا امتى؟
رد عليها يوسف مازحاً:
_ من يوم ما عرفتك، أنتِ فسدتي أخلاقي
اتسعت حدقتاها وهي تشير على نفسها:
_ أنا فسدت أخلاقك!!
أحاط يوسف خصرها وأكد سؤالها:
_ دا أنتِ المادة الخام لإفساد الأخلاق!!
"أنا!!"
رددتها لينة بينما أرغمها يوسف على التراجع حتى وصلا إلى الفراش، رفع يوسف كعب قدmه وعرقل بها قدm لينة فسقطت تلقائياً على الفراش، خفق قلبها وهي تتابع خلعه لذاك التيشيرت ثم انجرف مع طيار حبهما غير آبه لما يدور حولهما.
***
بعد فترة، كان يوسف يأخذ حماماً ينعش به جسده، وفي الخارج تجهز لينة حقائبهم وما يلزمهما في سفرهما، فتحت أحد الأدراج الخاصة بيوسف وتفاجئت بحزمة من الأموال موضوعة به، تعجبت منهم فلم يخبرها أنه يضع أي أموال في المنزل وخصيصاً مبلغاً كبيراً كالذي بيدها.
تابعت وضع أشيائه في الحقيبة حتى خرج من المرحاض فواجهته بهما:
_ إيه الفلوس دي يا يوسف، مقولتش قبل كدا إنك سايب فلوس هنا..
تنفس يوسف بقوة ليعطي صدره سعة من الراحة تستقبل ماهو مقبل عليه، حمحم وأخبرها عنهما:
_ دي فلوسك يا لينة
بعدm فهم هتفت:
_ فلوسي!! فلوس إيه مش فاهمة
أوضح لها وهو يرتدي ثيابه:
_ فلوسك من البيت اللي اتباع..
شعرت بثمة أمور تُحاك من خلفها فاقتربت منه وسألته بجدية:
_ إزاي؟ مش خلصوا في شرا الحاجات اللي جبتها للبيت؟
طالعها لوقت قبل أن يخبرها حقيقة الأمر:
_ أنا مختش منهم جنيه واحد يا لينة!!
اتسعت حدقتاها بذهول يشوبه الصدmة التي اعتلت وجهها ورددت بهدوء ما يسبق العاصفة:
_ يعني إيه الكلام دا؟ أومال الفلوس اللي كنت مفهمني إنك بتشتري بيها دي كانت إيه؟
أخرج يوسف تنهيدة واقترب منها ثم أمسك يدها وحثها على الجلوس بجواره على طرف الفراش وبدأ حديثه برزانة ليحتوي الموقف:
_ بصي يا لي لي، أنا وافقتك بس عشان الأمور تمشي، لكن دي فلوسك من حقك أنتِ وبصراحة مش شايف إن مكانهم يتصرفوا في البيت، لو حابة تشغليهم أشغلهمولك وأرجعهولك أضعاف، عايزة تعملي مشروع خاص بيكي هدعمك وأسهلك كل حاجة، لكن تصرفيهم على حاجة أنا طرف فيها
مش هقبل بكدا..
صمتت لبرهة تستوعب ما وقع حديثاً، طال صمتها فتدخل يوسف قائلاً:
_ مش يلا نكمل تحضير الشنط؟
لم تعقب بل نهضت وتابعت ما كانت تفعله، لم يضغط يوسف عليها حتماً متفاجئة، ولابد أن يترك لها مساحة الاستيعاب على مهل، اقترب منها وساعدها في تحضير الحقائب حتى انتهوا بعد ساعات.
وصلا إلى المطار في سيارة يوسف والذي كان يقودها زياد وإلى جانبه علي، وفي الخلف يجلس يوسف ولينة، كان بلال يهاتف يوسف حيث قال:
_ معلش بقى أنت عارف أخوك في إيه معرفتش أجي أوصلك
بمزاح هدر يوسف:
_ عارف إن أخويا ندل إيه الجديد
"يا أخي جاي لك يوم والكورة هتبقى في ملعبي ووقتها مش هرحمك والله"
هتف بهم بلال فقهقه يوسف وتابع حواره معه:
_ يلا هطير أنا بقى عشان وصلت المطار
"توصلوا بالسلامة"
أردفها بلال ثم أنهى الإتصال، ترجل أربعتهم وودعا بعضهما البعض، حيث وجهت لينة حديثها لشقيقها:
_ طمني عليك لما توصل
باهتمام قال علي:
_ وأنتِ كمان
نظر يوسف إلى أخيه وحذره قائلاً:
_ امشي على مهلك وأنت راجع، ولو حصل ورجعت جيشك قبل أسبوع كلمني عرفني عشان أرجع، تمام
"تمام"
اكتفى زياد بقولها بينما دلفا الآخرين المطار تحت نظرات زياد المتابعة لهم حتى اختفوا من أمامه فاستقل السيارة وانطلق بها عائداً إلى منطقته.
بعد مرور تسع ساعات، وصلا يوسف ولينة إلى جزر المالديف، أخرجت لينة تنهيدة متعبة للغاية وهتفت:
_ أخيراً وصلنا!!
بالكاد ابتسم يوسف ساخراً قبل أن يخبرها بما تجهله:
_ لسه ساعة على لما نوصل الجزيرة اللي حاجزين فيها
رمقته بأعين جاحظة فأراد يوسف التخفيف من عليها:
_ هانت خلاص، كنا فين وبقينا فين
ابتسمت له بعذوبة وقالت ممتنة:
_ عارف، مكنتش متوقعة إنك ترد تقول كدا، توقعت إنك هتقول أنتِ اللي اختارتي المكان استحملي بقى
نظر لها بتعب وأردف بصوت منهك:
_ أنتِ اختارتي وأنا وافقت يعني مختيش القرار لوحدك!!
أرسلت إليه قُبلة الهواء ممتنة لعقله الرزين:
_ بحب ردودك أوي
غمز إليها بمشاكسة وهمس:
_ بتحبي ردودي بس؟
"حالياً أه بس"
قالتها بغلظة فصاح مستاءً:
_ إنما أنا بقى بحبك لما مترديش خالص
قهقهت هي بصعوبة ثم توجها إلى الهليكوبتر واستقلاها، حلقت بهم في الهواء وبعد مرور الستون دقيقة وصلا إلى الجزيرة خاصتهم.
تفاجئا بالإستقبال الحافل من قِبل عاملين الجزيرة، كانوا يدقون الطبول والأغاني التي صنعوها بأنفسهم، شكرهم يوسف كثيراً ثم غادروا المكان بينما دلفا هم إلى الكوخ.
فغرت لينة فاها منذ ولوجها للمكان، كان مذهلاً وكل ثغره به رائعة، يحاوطهم البحر من جميع النواحي، تسائلت داخلها إن كان هذا المكان يوجد على الأرض فما هي شكل الجنة، رزقنا الله وإياكم دخولها بغير حساب.
بسعادة عارمة هللت:
_ المكان تحفة، شايف الجمال؟
ألقى يوسف جسده المنهك على الفراش وردد:
_ مش شايف حاجة، أنا عايز أنام..
نهض وخلع ثيابه واكتفى بـ.ـارتداء شورت قصير ثم عاد مستلقياً على الفراش وفي غضون ثوانٍ كان في ثُبات عميق بينما شعرت لينة أنها بحاجة للنوم مثله، لكن المكان يناديها لاكتشافه.
تنهدت واختارت أن تغفو قليلاً ثم تستكشف المكان لاحقاً بمزاج سوي، بدلت ثيابها سريعاً وقفزت على الفراش حتى سيطر عليها النعاس في وقتٍ قليل.
***
قلقت على صوت ارتطام مياه البحر في الكوخ خاصتهم، صوت رائع مع رائحته التي تتغلغل إلى أنفها، نهضت بحذر لكي لا توقظ يوسف وتوجهت إلى الخارج، كانت الأجواء هادئة يقطعها صوت البحر، لم تغرب الشمس بعد فكانت السماء صافية للغاية.
أحضرت سماعة الأذن خاصتها وقامت بتوصيلها للهاتف، اختارت أغنية بعينها تليق مع الأجواء من حولها، في تلك الأثناء استيقظ يوسف وبحث عنها فلم يجدها، خرج باحثاً عنها فرأها تقف بين المرر الذي يفصل بني البحر وحمام السباحة ترتدي قطعتين يفصل بينهما ظهرها الواضح لعينه، محررة خصلاتها التي تتمايل مع نسمـ.ـا.ت الهواء.
وقف يتأكد من كونهما الوحيدين الموجودان في المكان ثم اقترب منها وعانقها فابتسمت بعفوية، أدارها يوسف إليه وسألها باهتمام:
_ بتسمعي إيه؟
أزاحت إحدى السماعتين وكادت أن تضعها في أذنه إلا أنه أسرع في قول:
_ غنيها أنتِ..
أوقفت الأغنية وغردت هي بإحساس عالِ وهي تتحسس وجهه:
أنا قلبي ليه حاسس أوي بالشكل دا
هو الهوا بيعلي إحساسنا كده
صدقني خلاص صدقت
إن أنا حبيت دلوقت
ومكنتش اعرف قلبي هيحبك كده
وكنت فين انت وكل الحب ده
وليه سايبني لوحدي طول العمر ده
أنا قلبي شايفك من زمان
في الحلم بتدور عليا
بس مهما اتخيلك
مش زي ما أنا شايفه بعينيا
يمكن أنا بحلم وزمن الحلم طار
توهتني بين الحقيقة والخيال
المسني خليني أكون متاكدة
أنا قلبي ليه حاسس أوي بالشكل دا
هو الهوا بيعلي إحساسنا كده
صدقني خلاص صدقت
إن أنا حبيت دلوقت
ومكنتش اعرف قلبي هيحبك كده
وكنت فين انت وكل الحب ده
وليه سايبني لوحدي طول العمر ده
أنهت غنائها فوجدته يقترب منها للغاية، نظرت إليه بمكر ثم دفعته بكل ما أوتيت من قوة فسقط يوسف في حمام السباحة، انفجرت ضاحكة إثر تصرفها المفاجئ بينما كان يوسف متفاجئاً بما فعلته.
نظر إليها بتحدٍ ثم تصنع أنه متعب، لم يروق لها في البداية تصرفه لكنه طال فيه فقلقت بشأنه ونادته:
_ يوسف أنت بتهزر صح؟!
مالت بجسدها وكادت أن تقفز خلفه إلا أنه أسرع في لقِفها داخل المسبح، شهقت لينة وحاولت ظبط أنفاسها التي هـ.ـر.بت منها، ولم تلتقط أنفاسها بعد حتى انهال عليها يوسف بإلقاء المياه في وجهها فصرخت هي:
_ مش عارفة اتنفس بس..
لم يتوقف عما يفعله ففعلت هي مثله تماماً وظلا يلعبان بالمياه حتى حدث مالم يتوقعاه قط، هطل المطر بشـ.ـدة دون سابق إنذار كما لو أنهما في فصل الشتاء.
تبادلا النظرات المذهولة وهللت لينة بسعادة:
_ الله، مطر!
"يلا عشان نطلع"
قالها يوسف خشية أن تصيبهما حمى لكنها رفضت وأرادت الإستمتاع بالأجواء المختلطة:
_ لا لا الجو حلو أوي خلينا شوية
اقتربت منه لينة وتشبثت في عنقه مبتسمة بسعادة:
_ بحبك أوي
انحنى على شفتيها وقبلها بنهم ثم همس:
_ مش أكتر مني..
أطلقت لينة صرخة حين حملها يوسف بين ذراعيه وصعد بها السُلم ومنه إلى الكوخ، شعر برجفة جسدها القوية فعاتبها بلطف:
_ شوفتي بتترعشي إزاي يارتني ما سمعت كلامك ووقفت برا في الجو دا
لم تعقب لينة فبات جسدها بالكامل كقطعة الثلج، ازدادت رجفتها بين يديه فأثارت القلق في قلب يوسف، أنزلها فلم تستطيع الوقوف على قدmيها وكادت تسقط إلا أنه لحق، ساعدها على الجلوس ثم أسرع في جذب ثياب أخري لها وقام بخلع ثيابها المبتلة عنها ووضع الأخرى عليها ثم بحث عن غطاء ثقيل ودسره أعلاها.
كان صوت احتكاك أسنانها يصل إلى أذنيه، فما كان منه إلا أن حرك رأسه لاعناً استسلامه لها وعدm رفضه لوقوفهما في الخارج، هو على علم بأنها تمتلك مناعة ضعيفة للغاية ومع ذلك لم يرفض.
تأفف بضيق وصنع لها مشروباً ساخناً وعاد إليها، ساعدها على ارتشافه ثم ضمها إلى حـ.ـضـ.ـنه وظل يفرك أصابعها البـ.ـاردة بقوة حتى بدأ يشعر بعودة الحرارة فيهما، نظر إليها وسألها باهتمام:
_ عاملة إيه دلوقتي؟
"أحسن كتير"
قالتها بحيوية عن ذي قبل فشعر يوسف بالطمأنينة، ابتعد عنها وسألها:
_ تحبي تنامي ولا نتفرج على فيلم؟
أجابته مختصرة:
_ نتفرج على فيلم!
نهض وأشعل التلفاز ثم طلب طعاماً لكليهما وجلسا يشاهدان الفيلم وهم يتناولان الطعام في جو هادئ للغاية.
↚
تململت بكسل، فتحت عينيها ببطئ فوجدتها تتوسط الفراش، لا تذُكر أنها جائت هنا، آخر ما تتذكره أنهما كانا يشاهدان فيلماً معاً، نهضت ونظرت إلى ثيابها فلم تكن عليها أمس.
تعجبت من حالها، لوهلة شعرت أنها غابت عن الدنيا أيام، فلا يوجد تفسير آخر لما هي عليه، نهضت عن الفراش وبحثت عنه فلم يكن له أثراً.
ابتسمت حين رأته يقف في المطبخ يحضر شيئاً، عادت إلى المرحاض أولاً وغسلت وجهها ثم مشطت خصلاتها ووضعت أحد روائحها الذكية ثم عادت إليه وهي تتراقص على أنغام تغريدتها:
_ يا حلو صبح .. يا حلو طل
يا حلو صبح .. نهارنا فل
من اد إيه انا بستناك
و عيني ع الباب و الشباك
عشان اقول لك و اترجاك
عشان اقول لك و اترجاك يااااا حلو
يا حلو ياااا .. يا حلو صبح
التقطها يوسف بمحاوطته خِصرها وضمها إليه مقبلاً ثغرها وقال:
_ صباح الورد يا أحلى وردة في حياتي
أعادت إليه قبلته بحرارة وسألته وهي تجوب بعينها بعض الفاكهة التي يقطعها:
_ أنت بتعمل إيه؟
بتلقائية أجابها:
_ بعمل فروت سلاط، عارف إنك بتحبيها
ابتسمت بعذوبة بينما رفعها يوسف عن الأرض ووضعها على الطاولة الرخامية مردداً:
_ اقعدي هنا لغاية ما أخلص...
تابع تقطيعه للفاكهة بينما سألته هي بفضول:
_ أنا وصلت للسرير إزاي؟ وهدومي دي مين اللي غيرها؟
أجابها مستاءً:
_ حضرتك نمتي وانتِ بتشربي العصير، وقعدت أقولك قومي غيري بس أنتِ كنتي في عالم تاني، فأنا اللي غيرت لك الهدوم
ضـ.ـر.بها على قدmها بخفة متابعاً حديثه:
_ هيكون مين يعني اللي غيرها؟!
وضع يوسف عصير المانجو على قطع الفاكهة ثم ناولها ملعقة وبدأ يتناولان معاً حتى انتهت سلطة الفواكه، غسل يوسف ما استخدmه في تحضيرها ثم وجه حديثه لها:
_ ضهري قافش أوي، ما تيجي تساعديني وأنا بعمل ضغط!
عقدت حاجبيها بغرابة من أمر تلك المساعدة المبهمة وسألته مستفسرة:
_ أساعدك إزاي؟
ساعدها يوسف على النزول وتوجه بها إلى الخارج، حيث مساحة فارغة وأمرها:
_ نامي على ضهرك..
تعجبت من أمره، فكان مريباً بعض الشيء، حركت رأسها بعدm استعياب قبل أن تردد كلمته:
_ أنام على ضهري!!
"أيوة، نامي وأنتِ ت عـ.ـر.في"
قالها يوسف فحدقته لثوانٍ ثم فعلت ما حثها عليه، تناول يوسف هاتفه وضبطه على مدة معينة وأسنده على وسادة وبالكاد تراه عيناه، ثم خلع التيشيرت خاصته واشرف عليها وبدأ يمارس رياضته وكلما هبط بجسده يقبل ثغرها.
شكلت ابتسامة مستاءة قبل أن تردف بتهكم:
_ هي دي المساعدة؟!
بأنفاس لاهثة تحدث بثقة:
_ طبعاً، بتفتحي نفسي بدل ما أزهق من أول مجموعة
بفضول سألته:
_ إيه أول مجموعة دي؟
أجابها من بين أنفاسه المضطربة:
_ المجموعة بتكون عبـ.ـارة عن ٤٠مرة أو على حسب يعني بس أنا اعتمدت ٤٠
شهقت لينة وصاحت عالياً:
_ ٤٠مرة وأنا هقعد كل دا؟
غمز لها بمشاكسة وقال:
_ وأنتِ تعبانة في إيه دا أنتِ حيالله بتتباسي!!
انفجرت لينة ضاحكة ثم عاد يوسف ببصره على الهاتف ليرى كم من الوقت استغرق، فكان يريد كـ.ـسر الرقم القياسي عن المرة السابقة، أنتبه لرنين هاتفه فابتسم بعفوية ووجه لها حديثها وهو يجيب:
_ خليكي زي ما أنتِ متقوميش، هرد على بلال
وافق على بدء مكالمة الفيديو وتابع رياضته، بينما هلل الآخر بمزاح:
_ أنت فين يا وا.طـ.ـي حتى مرنتش رنة؟
قهقه يوسف وقال:
_ عريس ياعم أللاه!!
أنتبه بلال لهبوط جسده وعلوه فردد بمكر:
_ هو أنا جيت في وقت غلط ولا إيه؟
قلب يوسف عينيه بضجر وأخبره ما يفعله:
_ لا يا ظريف بلعب ضغط
بمزاح هتف:
_ أه ما أنت تلاقيك خاربها، لازم تفرد العضلات بقى
"مهو النبر دا اللي هيجيب أجلنا"
أردفها يوسف وانفجرا كلاهما ضاحكين ثم قال بلال:
_ دا أنا بسمع إن المكان اللي قاعدين فيه دا المية محاوطاه من جميع النواحي، حتى سمعت إن الأرضية إزاز وبتشوف البحر وأنت قاعد مكانك
بسخرية هتف يوسف:
_ أيوة طبعاً حتى الحمام، بعمل بيبي وأنا شايف البحر
تلك الأثناء كانت لينة تسلي وقتها وتتحسس عضلات بطنه التي تبرز كلما شـ.ـد جسده، فكانت تجدد مشاعر يوسف نحوها دون قصد، كان يحادث صديقه وعقله مع لمساتها الناعمة عليه.
لم يعد يستطيع الصمود وهبط إليها مستجيباً لدعوتها الغير مقصودة، تاركاً صديقه على الهاتف، لم يعد بلال يراه فلقد هبط تلك المرة ولم يعود فصاح مهللاً:
_ أنت نزلت تغطس ولا إيه يالا، ولا يا يوسف
أطلقت لينة ضحكة عالية فأسرع يوسف في وضع يده على فمها لكن هيهات لأذن الآخر التي التقطت ضحكتها وقال:
_ دا شكل المية هي اللي طلعت عندكم
ضحك يوسف ومد يده ناهياً المكالمة فردد بلال مستاءً:
_ دا الواحد متجوزش
عاد بظهره للخلف ومط ذراعيه في الهواء وهتف:
_ لا إحنا محتاجين نروح المالديف
جائه صوت قيء إيمان فصاح متذمراً:
_ خدي راحتك يا حبيبتي..
قلب عينيه مستنكراً ما قاله للتو وعلق ساخراً:
_ آل مالديف آل..
على الجانب الآخر، أخذت لينة ما استحقته إثر حركاتها الغير محسوبة، نظرت إلى يمينها حيث كان يوسف وسألته:
_ عايزة أعترف لك بحاجة
التفت برأسه ونظر إليها باهتمام فتابعت لينة بحياء:
_ أنا كنت فاكرة إننا واحد قبل ما نتجوز، بس لاقيت إن الجواز بيثبت لي إني كنت غلط!!
عقد يوسف حاجبيه من خلف حديثها المثير للجدل فأسرعت في قول ما تقصده قبل أن يسيء فهمها:
_ الجواز أثبت لي إننا بقينا روح واحدة، يعني بقيت بحس إنك أقرب لي من نفسي
رفعت جسدها ومالت عليه قبل أن تواصل:
_ معتش بتكسف منك، بالعكس بحس علاقتنا بتقوى أكتر كل ما بنقرب لبعض، وأكيد هتقوى كل يوم هيعدي علينا وإحنا مع بعض
ابتسم لها يوسف وتحدث بصوته الرخيم:
_ أنا مؤمن جداً إن مفيش سكن لحياة أي بني آدm إلا مع مـ.ـر.اته، ت عـ.ـر.في سيدنا آدm لما كان في الجنة، تخيلي استوحش!، مكنش حاسس بالونس وهو في الجنة!!
فلما نام ربنا خلق من ضلعه حواء عشان تأنسه!
وعشان كدا ربنا قال و.جـ.ـعل بينكم مودة ورحمة، شوفتي أنتِ قولتي أنك حسيتي إني بقيت أقرب ليكي من نفسك، دا عشان ربنا جعل بينا سكن، وزي ما أنا مؤمن برده إن عمر ما حد هيلاقي السكن دا غير مع مـ.ـر.اته!!
وعشان كدا أنا أول ما حسيت بمشاعري نحيتك أخدت خطوة ترضي ربنا فربنا راضيني بيكي!
أسرت السعادة قلبها إثر كلمـ.ـا.ته التي تمس القلب وتبث فيه الطمأنينة، اعتلت جسده وظلت تدغدغ في وجنتيه بمرح وهي تردد:
Aşkım, ruhum, kalbim, hayatım, kocam
"عشقي، روحي، قلبي، حياتي، زوجي"
قبلته من وجنته فتحرك يوسف سريعاً فبات هو الذي يعلوها وظل يدغدغ ثائر جسدها ولم يكترث لصراخها التي تحثه به على التوقف.
***
كان زياد يجلس أمام المنزل حتى رأى والد صديقه أمجد يحمل أكياساً ثقيلة ويبدو عليه ضعف حيلته فلم يتردد في التوجه إليه ومد يد العون له:
_ عنك يا عم سعيد
تناول منه الأكياس فشكره سعيد ممتناً:
_ تسلم يا زياد، الواحد كبر ومعتش قد الكلام دا
بإسيتاء أردف زياد معلقاً على حديثه:
_ ربنا يديك الصحة يارب، تحب أطلعهم لك فوق؟
بحرج شـ.ـديد نظر إليه الرجل فعزم زياد على إيصالهم لمنزله:
_ هطلعهم تكون أنت أخدت نفسك..
أولاه زياد ظهره وصعد إلى بنايته، وقف في الطابق الكائن به شقته وطرق بابها، انتظر حتى فُتح له الباب من قِبل "شهد"، صعقت حين رأته هو من يقف أمامها، لقد ظنت أن والدها قد عاد.
بينما هو لم يمنع ابتسامته حين رأى تسريحة شعرها على شكل الكعكتين، كانت تشبه الأطفال كثيراً، لم يبعد بصره عنها بينما كانت تحدجه بصدmة، كما لو أنها صعقت بالكهرباء.
خرجت من صدmتها على تعليقه الساخر:
_ حلوة القطتين!
قطتين!! ماذا يقصد؟ وضعت يدها على خصلاتها فاستشفت قصده وأسرعت إلى الداخل هاربة منه، بينما لم تختفي ابتسامته من على شفتيه، وضع الأكياس أرضاً ثم أغلق الباب وهبط الأدراج وهي لا تريد الإقلاع عن عقله.
لم يتوقف عن رسم ابتسامـ.ـا.ت عفوية إثر مظهرها التي رآها عليه، اختفت ابتسامته فور رؤيته عودة صديقه من خدmته العسكرية فرحب به:
_ عاش من شافك يا دفعة
"متقولش إنك ماشي، مش كل ما أجي أنت تمشي"
قالها أمجد فأجابه زياد قائلاً:
_ لا لسه شوية على آخر الأسبوع كدا
تنهد أمجد براحة وقال:
_ حلو، هطلع أحط شنطتي وأسلم على أبويا وأمي وأنزل نقعد في القهوة شوية
"اشطا ونفطر سوى"
أردفها زياد بينما غادره أمجد واتجه إلى منزله، نهض زياد وأحضر فطور شهي لكلاهما وذهب إلى المقهي القريب من المنطقة في انتظار حضور صديقه الذي لم يتركه جالساً وقتاً طويل بل حضر على الفور.
تناولا معاً الفطور وتبادلا الأحاديث ثم نهض أمجد ليقضي حاجته تاركاً هاتفه على الطاولة، طال زياد النظر إليه وداخل عقله تتردد فكرة يحثه شيطانه على فعلها.
أخذ الهاتف بعدmا تفحص المكان من حوله جيداً وبحث عن إسم "شهد" بين الأرقام حتى وجده، قام بتسجيله في هاتفه ثم أعاد الهاتف إلى مكانه كأن شيئاً لم يكن، ظل يطالع الرقم لبرهة حتى شعر بالضيق يجتاحه، ناهيك عن نفوره من تصرفه الذي قلل من شأنه، ولم يتردد حينها في حذف الرقم.
عاد أمجد متسائلاً باهتمام عن يوسف:
_ ويوسف أخبـ.ـاره إيه؟ كان نفسي أحضر الفرح بس مقدرتش
ربت زياد على ذراعه الموضوع على الطاولة مردداً بصوت أجش:
_ ولا يهمك، كأنك جيت، هو كويس الحمد لله
ابتسم أمجد ببشاشة وقال:
_ عقبالك..
تنهد زياد بحرارة وتذكر شهد في تلك الأثناء، لا يدري لما هي من استوطنت عقله حينها لكنه أجاب بمزاج سوي:
_ إن شاء الله، متعرفش حد أشتغل معاه كل ما أنزل إجازة؟
فكر أمجد لوهلة قبل أن يعطيه إجابة:
_ مش عارف، ما تقف مع يوسف
أسرع زياد في رفض ذاك الإقتراح:
_ لأ مش عايز أقف مع يوسف، حابب أشتغل بعيد عنه كفاية عليه لغاية كدا، عايز أعتمد على نفسي من غير مساعدة
أنار مصباح أفكار أمجد حين راوده اقتراحاً وعرضه على صديقه:
_ ما تروح للمعلم!
رمقه زياد لبرهة ثم مال برأسه للجانب المعاكس لكليهما مشيراً إلى منطقة ما وهتف:
_ أنت تقصد..
أكد الآخر حدسه بقوله:
_ أيوة هو، مش بيرد حد بيحتاج شغل
تشكلت إبتسامة على محيا زياد، تغلغل الحماس داخله ولم يستطيع المكوث دون إجراء تلك الخطوة، نهض ونظر إلى صديقه قبل أن يردف بنبرة مليئة بالحيوية:
_ قوم نروح له
نهض أمجد ورافقه، سارا في زقاق صغير للغاية حتى وصلا منه إلى منطقة أخرى، أخذ زياد نفساً حين وقع نظريه على ذاك المعرض، زفر وتابع سيره متجهاً إليه.
ولج وعينيه تبحث عن أحدهم فقابله أحد الرجـ.ـال وسأله مستفسراً:
_ تحب أساعدك بحاجة؟
حمحم زياد وبتردد قال:
_ عايز أقابل المعلم ريان
"أؤمر أنا هنا مكانه"
قالها الرجل فأصر زياد على مقابلة ريان:
_ شكراً بس كنت حابب أقابله شخصياً..
بفتور أردف الآخر:
_ ماهو لو كان هنا أكيد مش هقولك أنا هنا مكانه
أخرج زياد تنيهدة مرتبكة وأردف متسائلاً:
_ طيب هو هيجي امتى؟
"زمانه على وصول، لو عايز تستناه اتفضل، بس عرفني أسمك الأول"
أردفهم الرجل بينما عرف زياد عن هويته:
_ أنا زياد الراوي
أماء الرجل بينما عرف هو عن نفسه:
_ وأنا خالد لو احتجت لحاجة نادي عليا
أولاه خالد ظهره وتوجه متابعاً لعمله، توجه زياد إلى أحد الأرائك الجلدية وجلس عليها كما جاوره أمجد، انتظرا مدة لا بأس بها حتى انتبها على سيارة فاخرة قد وقفت أمام المعرض وترجل منها ريان برفقة فتاة شابة.
دلفا المعرض وعلى ما يبدو أنه كان مستاءً من شيء ما لعبوس ملامحه وهدر بحنق:
_ قولت لأ يعني، مش هغير رأيي
"يا بابي بليز وافق، أنا مش هكون لوحدي صحابي معايا والمدرسين كمان يعني أطمن"
بعدm قبول لمواصلة النقاش صاح:
_ قولت لأ يا جنى..
توجه إلى مكتبه بينما ولج خالد إليه وأخبره بوجوده شابان في الخارج:
_ فيه واحد برا اسمه زياد الراوي، عايز يقابلك
باستفسار سأله:
_ عايز إيه؟
رفع خالد كتفيه وأجابه:
_ معرفش، أنا حتى قولتله إني هنا مكانك بس أصر أنه يقابلك أنت
أماء ريان وقال:
_ خليه يدخل لما نشوف عايز إيه..
نظر إلى ابنته وأشار لها بعينه على مكانٍ بعيد:
_ اقعدي هناك لغاية ما أخلص المقابلة دي
تذمرت جنى وضـ.ـر.بت الأرض بقدmيها غاضبة من عدm قبوله لما تريده، تلك الأثناء ولج زياد برفقة صديقه ولاحظ تذمرها الواضح لكنه لم يبالي، بل تابع سيره إلى ريان، ابتسم في وجهه ثم مد يده يصافحه:
_ أنا زياد الراوي من جنبكم هنا..
"أهلا اتفضل"
رحب به ريان ودعاه للجلوس، كما جلس هو الآخر في انتظار ما سيمليه عليه زياد الذي بدأ:
_ كنت محتاج شغل، وعارف إن حضرتك مش بترد حد محتاجك، وخصوصاً إني لسه في البداية ومعرفتش أروح لمين غيرك
بنبرة جادة سأله ريان:
_ أنت بتدرس يا زياد؟
"خلصت معهد خدmة إجتماعية السنة اللي فاتت"
قالها زياد بينما تابع ريان بقية أسئلته:
_ أنت إبن مين؟ حاسس إن اسم عيلتك مش غريب عليا
بإرتباك حرج رد زياد:
_ أنا أبن ذكريا الراوي بس معتقدش إن حضرتك تعرفه لأن والدي متـ.ـو.في من زمان
بتأثر شـ.ـديد قال ريان:
_ ربنا يرحمه، أنا فعلاً مش عارفة، بس برده متأكد إن الإسم دا ورد عليا قبل كدا..
تدخل أمجد معطياً اقتراح:
_ ممكن تكون عارف يوسف أخوه، مدير معرض سمير والي وشريكه في نفس الوقت
اتسعت حدقتي ريان وهلل عالياً:
_ أيوة أيوة، هو فعلاً يوسف، أنت اخوه؟!
أماء زياد فتابع ريان:
_ يوسف محترم وأنا بحب اتعامل معاه، كل عربياتي من عندهم..
تقوس ثغر زياد ببسمة اختفت فور سماعه سؤال ريان:
_ أنت ليه مشتغلتش معاه؟
أنتبه ريان لتعابير زياد التي احتدت وأسرع في تبرير قصده:
_ أنا مقصدش حاجة، الفكرة إنك ماشاء الله مش محتاج تشتغل عند حد لان عندكم مصلحة خاصة بيكم وكمان هتكون مرتاح فيها عن لما تشتغل عند حد، فاهمني..
فهم زياد ما يرمي إليه ورد بجدية:
_ عشان مش عايز كدا، دي مصلحة يوسف مش مصلحتي، آه إحنا أخوات بس دا مينفيش إن دا تعبه هو وأكيد مش هاجي أخد أنا على الجاهز، أنا عايز أبدأ من نفسي من غير مساعدة
ظهرت إبتسامة إعجاب شـ.ـديد من ريان لعقلية زياد، فهو يحب الشباب المكافح والذي لا يعتمد على غيره، لم يكن هناك داعٍ لرفضه فقال برحب:
_ يشرفني طبعاً تشتغل معانا يا زياد..
تقوس ثغر زياد ببسمة عريضة ووزع نظريه بين ريان وصديقه بسعادة عارمة، استأذن منه بعد أن أخبره بأمر جيشه ولم يرى أي اعتراض من ريان بل رحب به في أي وقت.
غادرا بينما نظرت جنى إلى والدها فصاح الآخر ناهياً الأمر:
_ قولت مش هتروحي يعني مش هتروحي..
***
عاد زياد إلى المنزل شارد الذهن، يفكر بها، لا تقــ,تــلع من عقله، ابتسم بعفوية حين تذكر مظهرها الطفولي صباحاً، قطعت والدته حبال شروده بسؤالها:
_ أنت بتضحك على إيه؟
أنتبه عليها وكاد أن يختلق أمراً لكنه تراجع، هو يريد مشاورتها، حمحم واعتدل في جلسته ثم سألها بصوته الاجش:
_ إيه رأيك في شهد؟
"شهد! شهد مين؟"
قالتها ميمي فلم تخمن من يقصد تحديداً بذاك الإسم، تنهد زياد وتحدث مستاءً:
_ شهد يا ماما شهد، إحنا نعرف كام شهد؟!
استوعب عقلها من تكون شهد الآن، عقدت حاجبيها وسألته مستفسرة:
_ رأيي فيها من جهة إيه يعني؟
أخذ زياد مدة يفكر فيما يقوله ثم أردف بتلعثم:
_ من كل حاجة، شايفاها إزاي؟ أسلوبها وطريقتها، إيه رأيك في أخلاقها، كل حاجة فيها يعني..
تعجبت ميمي من أسئلته المبهمة وهتفت متسائلة بغرابة:
_ أنت بتسأل كل الأسئلة دي؟ يهمك في إيه تعرف يعني؟
لم تعطيه فرصة الرد وصاحت بانفعال حينما ظنت أنها جمعت ما يرمي إليه:
_ زياد اوعى تكون ناوي تتسلى زي ما بتعمل، مش عايزين نخسر حد بسببك، وبعدين أنت لسه مكبرتش على حركات العيال دي؟
تفاجئ زياد من ثورتها وحاول إظهار نيته الحسنة:
_ أنا مقصدتش كل دا، وأكيد يعني مش هروح أسلى مع واحدة أخوها صاحبي!!
"أومال بتسأل ليه؟"
أردفتها بحنق فأجابها بتردد:
_ معرفش بسأل ليه، بس حابب أعرف وخلاص..
بعدm تصديق لذاك الهراء قالت:
_ أنا مش فاهمة منك حاجة، ما تيجي دوغري وتقول عايز إيه يمكن أساعدك
أخرج زياد تنهيدة فهو لا يدري ماذا يريد حتى يخبرها به، نظر إليها وهتف دون زيف:
_ هو أنا لو بفكر فيها كتير دا معناه إيه؟
تفاجئت ميمي من تصريحه وكادت أن تبتسم إلا أنها صمدت حتى تصل لنهاية ذاك الحوار وأردفت:
_ على حسب، شوف أنت فكرت في كل واحدة اتكلمت معاها ولا لأ، يمكن تكون بتفكر فيها زيهم..
قاطعها زياد رافضاً تفكيرها الوضيع وأوضح:
_ لأ عمري ما فكرت في بنت قبل كدا، يعني محدش شغلني للدرجة دي، حتى حصل حاجة غريبة النهاردة مفهمتهاش..
بغموض سألته:
_ إيه اللي حصل؟
أخبرها عما حدث وهو يعيد المشهد في عقله:
_ كنت قاعد النهاردة مع أمجد وقام دخل الحمام فلقيتني بفتح موبايله باخد رقمها...
خفق قلب ميمي بذُعر، كم تمنت أنه لا يكون ارتكب تصرفاً أحمق، انتبهت له وقلبها يخفق بقوة خشية سماع بقية حديثه:
_ بس بعدها حسيت إني اضايقت من نفسي ولقيتني بمسح الرقم!! لغاية دلوقتي مش فاهم أنا عملت كدا ليه، مسحته ليه وليه أخدته أصلا!!
زفر بضجر حين تشتت أفكاره، حينها لم تمنع ميمي رسم ابتسامتها على ثغرها وقالت بنبرة لطيفة:
_ أنت حبيتها ولا إيه يواد؟
رفع زياد بصره عليها وقد إلتمعت عيناه بوميض مختلف، خفق قلبه بشـ.ـدة وشعر بالإرتباك يتملك منه رويداً رويداً، حتى شعر بانسدال حبات العرق على وجهه من فرط خجله.
ابتلع ريقه وهرب بنظره بعيداً فتسائلت هي بعدmا أستندت بذقنها على راحة يدها:
_ وأنت ناوي تعمل إيه على كدا؟
رفع كتفيه وحد من نبرته وغير حوارهما:
_ أنا اشتغلت عند المعلم ريان العراقي
تقبلت ميمي تغيره للحواره فلم تريد الضغط عليه لكي يعود إليها كلما أراد التحدث وهتفت مشجعة:
_ بجد، طيب كويس أنا بسمع أنه راجـ.ـل محترم جداً
"أيوة، هبدأ شغل من بكرة"
قالها فهتفت ميمي متمنية التـ.ـو.فيق له:
_ ربنا يوفقك يارب..
لم يتجرأ زياد على رفع نظريه عليها مرةٍ أخرى، بل ظل منكس الرأس يردد كلمـ.ـا.تها في عقله، لا يدري بماذا يشعر تحديداً، لكنه يجزم أنه لم يمر بمثل تلك الحالة من قبل.
***
مر عام تلاه عاماً آخر حتى مر خمسة أعوام في لمح البصر، على البعض والبعض الآخر كانوا ثقالاً للغاية، فدوماً الإنسان لا يشعر بثقل الأيام حتى إذا سقطت على عاتقه أعباء تفوق قدرته، حتى تكون جميع أمنياته أن يرى يوماً واحداً بلا عبئ، بلا مسؤولية، يجلس على الأريكة كرجل عجوز لا يفعل شيء سوى مشاهدة من حوله في هدوء.
كانت تلك الأمنية تعود ليوسف ولينة، حتى حان ذاك اليوم، يوم تخرج لينة من جامعتها، حيث يركض يوسف على درجات السُلم يحمل صغيره بيد وباليد الأخرى يرضعه حليباً صناعياً قد أعده في السيارة قبل صعوده واضعاً حقيبة مستلزمـ.ـا.ت الصغير على كتفه.
طرق باب والدته التي فتحت له بإبتسامة بشوشة ورحبت به:
_ تعالى يا حبيبي..
من بين أنفاسه اللاهثة قال:
_ أجي فين يدوب ألحق أروح الجامعة عند لينة، خدي أحمد شربيه آخر شوية في الببرونة
أخذت منه الرضيع وقالت:
_ مسيبتوش ليه أرضعه أنا
أخبرها وهو يناولها حقيبة الصغير:
_ قعد يعـ.ـيط جـ.ـا.مد فشربته أنا..
هبط بعض الدرجات ونظر إليها وهتف:
_ متنسيش تخبطي له على ضهره
قهقت ميمي قبل أن تردف مازحة:
_ مش هنسى حاضر..
صاح يوسف عالياً وهو يتابع ترجله:
_ وقولي لماريا إني بحبها على وقت ما أشوفها..
"حاضر، خلي بالك وأنت سايق"
قالتها ميمي ثم حركت رأسها بآسى لحالته، تنهدت وتمتمت:
_ ربنا يعينك يابني..
أخفضت بصرها على الصغير ذو الأربعة أشهر فوجدته يبتسم لها، بادلته الإبتسام وداعبته بحب:
_ أنت بتضحك لتيتة؟ قلب تيتة أنت والله
أوصدت الباب وعادت للداخل، بينما انطلق يوسف بالسيارة متجهاً إلى الجامعة بأقصى سرعة لديه لكي لا يتأخر عن حفل تخرج لينة، وصل في وقت قياسي، لَقِفَ باقة الزهور الموضوعة بجواره ثم أوصد السيارة وتابع سيره حيث القاعة الكائن بها حفل التخرج.
"الطالبة المتفوقة لينة نعمان فاضل"
نطقها العميد أثناء ولوج يوسف القاعة، لاحظ عبوس لينة في ذهابها لإستلام شهادتها، أسرع من خطواتها حتى بات في أوائل الصفوف فرأته هي، اختفى عبوسها فور رؤيتها لوقوفه مبتسماً وبيديه باقة من الزهور المفضلة لديها.
استلمت شهادتها وعادت إليه، لم تتردد في أخذ عناق منه وهتفت بنبرة مهزوزة:
_ فكرتك مش هتلحق تيجي
بادلها يوسف العناق وقال وهو يواجه عينيها:
_ الحمد لله لحقت، مبروك يا أحلى باشمهندسة
أعطاها الزهور فتناولتها ثم استنشقت رائحتها الذكية وهتفت بسعادة:
_ شكراً إنك معايا..
اكتفى يوسف ببسمة عـ.ـذ.بة، بينما توجهت لينة لأخذ بعض الصور مع زملائها وكذلك بعض الصور مع يوسف ثم غادرا الجامعة يداً بيد..
استقلا السيارة فانهالت هي ببعض الأسئلة:
_ وديت أحمد لماما؟ شوفت ماريا ولا كانت نايمة؟ أكلته؟ غيرت له؟ ماريا مسألتش عني..
قاطعها يوسف بهتافه:
_ حيلك حيلك، براحة عليا، آه وديت أحمد عند ماما وغيرت له وأكلته، مشوفتش ماريا، انا مدخلتش البيت أصلاً عشان ألحق وأجيلك..
أخرجت لينة تنهيدة مطولة وهتفت بعدm تصديق:
مش مصدقة إني خلصت!!
_ ياربي معتش فيه كلية ولا مذاكرة ولا امتحانات ولا أي مسؤولية
التفتت إليه بحماس شـ.ـديد وهي تخبره عن خططها التي رتبت لها:
_ أحلى حاجة إن ماريا هترجع في حـ.ـضـ.ـني من تاني، هعوضها عن كل دقيقة كانت بعيدة عني فيه، بجد ضميري بيأنبني كل ما أفتكر اني بعدتها عني بإيدي، حاسة إني عايزة أجيب لها الدنيا كلها يمكن وقتها أحس براحة شوية
عايزة أظبط حياتي بقى، عايزة أرجع أطبخ وأرقص وأخرج وأعمل كل حاجة مكنتش عارفة أعملها..
أطلق يوسف قهقه خافتة وعلق ساخراً:
_ أحلام العصر دي مع نفسك فيها، أنا أوت من النهاردة
عقدت ما بين حاجبيها وهتفت بعدm فهم:
_ يعني إيه أوت؟
أوضح لها يوسف بنبرة لا تسمح النقاش:
_ يعني أنا برا كل الحسابات دي، أنا هاخد إجازة قيمة سنة أو اتنين كدا أريح فيها أعصابي من اللي حصلي في الخمس سنين اللي فاتو
فغرت لينة فاها بذهول ورددت باستنكار:
_ نعم؟!!
صاح يوسف بحنق:
_ هو إيه اللي نعم؟ دا أنا اشتغلت لك دادة ليكي وبيبي سيتر لعيالك وطباخ ومكوجي، دا أنا رضعت وغيرت بامبرز وشوفت اللي محدش شافه منك ومن عيالك، شوفي أنا مش عايز أشوفك لا أنتِ ولا عيالك ولا أسمع لكم نفس حتى!!
صف يوسف السيارة أمام بناية والدته ونظر لها فرأها تطالعه بذهول شـ.ـديد، ضـ.ـر.بها بخفة أعلى ذارعها وقال:
_ يلا متبصليش كدا، خليني أشم نفسي شوية..
"هو أنت بتتكلم بجد؟"
رددتها لينة متسائلة وهي تكاد تنفجر باكية، فصاح يوسف ببرود:
_ أه بتكلم بجد، يلا يا لينة بجد اتخـ.ـنـ.ـقت محتاج استراحة محارب
ابتلعت ريقها وحاولت الصمود حتى لا تجهش بالبكاء أمامه، بهدوء ترجلت من السيارة متعمدة ترك باقة الزهور مكانها فهتف يوسف:
_ خدي الورد
بنبرة متحشرجة تهدد بالبكاء قالت:
_ لا ملوش لازمة
أولاته ظهرها وولجت سريعاً داخل البناية، لم تعد تستطيع التحكم بعبراتها لأكثر من ذلك، وانهمرت في البكاء، شعرت بوخزة قوية في قلبها، ناهيك عن شعورها بأنها شخصاً سيء حين طلبت منه أن يتمما زواجهما.
صعدت حيث الطابق الكائن به شقة السيدة ميمي وطرقت الباب وبالكاد تتحملها قدmيها، فتحت لها ميمي وتفاجئت باحمرار لون عينيها وانتفاخ شفتيها وذلك أنفها.
بقلق سألتها:
_ في إيه مالك، إيه اللي حصل؟
ألقت لينة نفسها بين ذراعي ميمي، ازداد نحيبها كلما تذكرت كلمـ.ـا.ت يوسف، أخذتها ميمي إلى أقرب أريكة وساعدتها على الجلوس ثم جلست مقابلها محاولة فهم سبب تلك الحالة المذرية:
_ اهدي طيب وفهميني حصل إيه؟
أخذت لينة بضعة دقائق حتى هدأت ثم بدأت تقص عليها ما حدث وهي تحدق بأناملها التي تفركهم باضطراب:
_ أول مرة أعرف إن يوسف مكنش مبسوطة طول الخمس سنين اللي فاتت دي، كان عايش معايا مجبور على الوضع اللي أنا حطيته فيه!!
رفعت رأسها ونظرت للسيدة ميمي متابعة بخذي شـ.ـديد:
_ إحساس وحش أوي لما تحسي إنك كنتي مغفلة، عايشة في كذبة إنه راضي وهو من جواه مش قابل الوضع، يعني كل اللي فات دا مكنش حقيقي؟!
تشجيعه ودعمه ليا مكنش حقيقي إزاي؟!
دا هو اللي كان بيقويني في الأيام اللي كنت بحس فيها إن خلاص دي نهاية الطريق ومش هقدر أكمل!
إزاي قدر يعمل كدا وهو من جواه رافض الوضع وحاسس إنه تقيل عليه وفوق طاقته؟!
تدخلت ميمي هاتفة بعدm فهم كُلي لأسبابها:
_ مين اللي قالك الكلام الفارغ دا؟
"يوسف! يوسف اللي قالي بنفسه أنه عايز يشم نفسه عشان اتخـ.ـنـ.ـق، قالي إنه اشتغلي دادة وبيبي سيتر لعيالي، دا حتى كان بيقولي عيالك كأنهم عيالي لوحدي!!"
كانت تتحدث بعدm تصديق أنه قال ذلك بالفعل، بينما حمحمت ميمي وحاولت تلطيف الوضع لكي لا يزداد سوءاً:
_ أكيد بيهزر معاكي يا لينة، لأن يوسف عمره ما أشتكى، أه هو هزار تقيل حبتين بس هتلاقي محسبش إنك تزعلي بالشكل دا..
نكست لينة رأسها وأعادت شريط الخمس سنوات الماضية في عقلها:
_ أنا عارفة أنه شال واستحمل كتير أوي، بس مكنش لوحده، إحنا كنا مع بعض في دوامة واحدة، كنت بحاول على قد ما أقدر أكون ست بيت وأم لطفلين وبين كليتي ومذاكرتي، هو شال واستحمل وأنا برده شلت واستحملت، كنا بنقوي بعض ونقول فترة وهتعدي، كنا بنحلم مع بعض باليوم اللي كل المسؤولية دي تخف، ولما يجي اليوم دا ألاقيه كان مجبور!
تنهدت لينة وارتدت ثوب الشجاعة والقوة قبل أن تردف:
_ بس خلاص، مش هخليه يحس إنه مجبور تاني عليا وعلى عيالي!!
سقطت عبرة على مقلتيها فأسرعت في مسحها وقالت:
_ أنا هطلب الطـ.ـلا.ق!!
صعقت ميمي من ذاك الهراء التي تفوهت به، وعارضتها مستاءة:
إيه اللي بتقوليه دا يا لينة؟ بطلي يابنتي تقولي الكلمة دي لأنها لما بتدخل أي بيت بتخربه، اعتبريهم كلمتين وفضفض معاكي بيهم وعديهم، وبدل ما تقولي طـ.ـلا.ق وبتاع، خدي النهاردة راحة ليكي ومن بكرة ابدأي من جديد
رتبتي أمورك واخلقي نظام لبيتك ترتاحوا عليه، عوضي نفسك وعوضي عيالك عن الأيام اللي كانت بتضيع منكم غـ.ـصـ.ـب عنك، البسي وادلعي واخرجي واتبسطي، وكل حاجة هترجع لمجراها من تاني..
الحياة كدا يوم ليك ويوم عليك بس الشاطر اللي ميديهاش فرصة تيجي علينا وتكسبنا، الشاطر اللي يقف في وشها ويخلي أيامه كلها ليه مش عليه.
"مامي"
هتفت بها ماريا ذات الثلاثة أعوام ببراءة فتوجهت لينة مباشرة نحوها، جست على ركبتها وأخذتها بين أضلعها معانقة إياها بحرارة، فلقد اشتاقت إليها كثيراً، افتقدت ابتسامتها وعناقها حتى مشاكستها كانت مفتقدة لها.
استقامت لينة في وقفتها ثم حملت الصغيرة بين ذراعيها ونظرت إلى السيدة ميمي وهتفت بحـ.ـز.ن:
_ بعد إذنك يا ماما هدخل أوضتي..
بعتاب قالت ميمي:
_ أنتِ بتستأذني!! دي اوضتك ادخلي وقت ما تحبي، أصلا مقفولة محدش بيدخلها غيرك..
اكتفت لينة ببسمة لم تتعدى شفاها ثم دلفت غرفتها، وضعت الصغيرة على الفراش وجابت المكان من خلفها باحثة عن شيئاً يفعلاه سوياً.
ابتسمت وقالت بحماس:
_ تيجي نعمل تسريحة جديدة؟
أماءت مارية بقبول وسعادة، فأخذتها لينة وأجلستها على المقعد المقابل للمرآة وبدأت تمشط خصلاتها المموجة التي تشبه خصلاتها تماماً، انتهت لينة من عمل الجدائل حتى لم يعد هناك خصلة شاردة وسألتها بلهفة:
_ ها، إيه رأيك؟
ابتسمت الصغيرة وهللت بسعادة:
_ حلوة أوي
انحنت لينة واحتضنتها بقوة وهتفت:
$ كل يوم هنعمل تسريحة جديدة لأحلى ماريا..
صفقت الفتاة بسعادة ثم انتبهت لشيء ما يظهر من أسفل الفراش فلم تتردد في اكتشاف ذاك الشيء، هرولت إليه وحاولت جذبه لكن صِغر المساحة لم يساعدها، توجهت إليها لينة متسائلة بفضول:
_ أنتِ بدوري علي إيه؟
أمسكت ما تمسك به ماريا وجذبته بكل ما أوتيت من قوة حتى خرج في يدها، تفاجئت لينة بدُمـ.ـيـ.ـتها التي أشتراها لها يوسف منذ ثلاثة عشر عاماً، ابتسمت بعفوية وأخذت تشم رائحة الماضي بها.
خرجت من شرودها على شـ.ـد الصغيرة للدmية مرددة:
_ عروسة، تاعتي..
أعطتها لينة الدmية وقالت:
_ حافظي عليها يا ريمو عشان دي غالية أوي عندي..
ركضت الصغيرة للخارج بينما تساقطت عبرات لينة بغزارة، نهضت وتمددت على فراشها، معانقة وسادتها ودعت العنان لعبراتها في السقوط أعلاها.
***
حل المساء، استيقظت لينة إثر رنين هاتفها، جابت المكان حولها بضياع فلم تشعر متى غفت، تفقدت الوقت فكانت الساعة الحادية عشر مساءًا، أجابت على يوسف بنعاس:
_ إيه يا يوسف..
بلهجة سريعة تريد إنهاء الإتصال قال:
_ أنا مش راجع النهاردة عشان متستنينيش..
أعاد الهاتف إلى جيب بنطاله، فنظرت لينة إلى الهاتف بضيق، كادت أن تغلق إلا أنها تراجعت حين صغت إلى سؤال الموجه لأحدهم:
_ فين العروسة؟
_ داخلة علينا حالاً، لسه قافل معاهم وقالوا خلاص على وصول..
خمنت لينة أن الطرف الآخر كان بلال، حرصت على وضع الهاتف على أذنها جيداً لتستمتع إلى حديثهما المبهم، مر وقت حتى صدح صوت يوسف عالياً:
_ أوف يا أخي، دا إيه الجمدان دا!!
هتف بلال بعجرفة:
_ عشان تسمع مني لما أقولك اتقل تاخد حاجة نضيفة..
عارضه يوسف مستاءً من تقليله لشأنها:
_ نضيفة إيه بس، دي صاروخ
بتعالي هتف بلال:
_ عشان تعرف ذوق صاحبك، يلا مبروك عليك الصاروخ، أطير أنا بقى وأسيبك معاها تشبع منها براحتك
بنبرة تائهة ردد:
_ ودي يتشبع منها إزاي دي؟
"ورينا شطارتك"
قالها بلال ثم غادر على الفور، على الطرف الآخر، تسارعت نبضات لينة، ارتفع صدرها وهبط بصورة مضطربة، ماذا يقصدان بهذا الكلام الجرئ، لم تستطيع الإنتظار مكانها وهمت بـ.ـارتداء ثيابها ثم خرجت وهي لا ترى أمامها.
أوقفت إحدى سيارات الأجرة وأخبرته بوجهتها، كان يبدو عليها الهدوء عكس باطنها، كان يتأجج به بركاناً على وشك الإنفجار، كانت تحث السائق من آن لآخر أن يسرع لاعنة تلك المسافة التي تبعدها عنه.
وبعد مرور بضعة دقائق، وصلت إلى المعرض، ودعت داخلها أن تجده هناك، أوصدت عينيها حين وصلت عند الباب ثم خطت للداخل وقلبها يكاد يخترق جسده متوجسة خيفة أن تلقى ما لا يسر نظريها ولا تستطيع عليه صبراً.
لم يكن لطيفه أثراً حولها، فالمكان كان هادئاً أكثر من المعتاد، توجهت إلى السُلم وصعدت درجاته حتى وصلت إلى مكتبه ووقفت أمام بابه حين سمعت همهمـ.ـا.ت بالداخل، أمسكت مقبض الباب وأدارته وقلبها يزداد تسارعاً ثم فتحت الباب على آخره متفاجئة بما رأته أمامها!!
↚
كانت الموسيقى تدوي في الغرفة لأحد أغاني أم كلثوم، كان يجلس في إضاءة خافتة ويقرأ أحد رواياته، يرتشف مياه غازية مليئة بقطع الثلج.
ولجت المكتب بخطاها تجوب الغرفة بعينيها ثم وقفت أمام مكتبه ونادته:
_ يوسف..
أنتبه يوسف بصوتها ورفع بصره عليها، لوهلة لم يستوعب أنها بالفعل واقفة أمامه، ترك ما بيده ونهض متسائلاً بغرابة معانقة للقلق:
_ لينة؟ أنتِ بتعملي إيه هنا؟
دار حول مكتبه واقترب منها وهو يطالع الخارج مواصلاً بقية أسئلته:
_ أنتِ جاية مع مين؟
بتردد وضياع شـ.ـديدان أجابت:
_ أنا جاية لوحدي..
رمقته بعينان لامعة مواصلة بنبرة خافتة:
_ أنت بتعمل إيه؟
بعدm استعياب لما يحدث رد بصوت أجش:
_ قاعد.. هو في إيه؟
ابتلعت ريقها وصاحت متذكرة حواره مع بلال:
أنا سمعتك مع بلال...
كنت بتقول عروسة..
كنتو بتتكلموا عن واحدة جاية هنا وبلال سابك ومشى و...
صمتت حين شعرت بسذاجة تفكيرها، شعرت بمدى حماقتها تلك اللحظة، زفرت ثم أولاته ظهرها وهي تردد:
_ أنا همشي..
أسرعت خطواتها إلى الخارج فهرول يوسف خلفها محاولاً إيقافها:
_ استني يا لينة..
لم تهتم له وتابعت سيرها فما كان منه إلا أن يمسك ذارعها مجبراً إياها على التوقف، نظرت لينة إلى يده الممسكة بها وهتفت بألم:
_ أنت بتو.جـ.ـعني..
حرر يوسف يدها من قبضته ووقف مقابلها ثم أردف:
_ هو اللي أنا فهمته دا صح؟
أخفضت لينة رأسها بحرج شـ.ـديد وحاولت الهرب من أمامه:
_ سيبني أمشي يا يوسف لو سمحت..
شكل حاجزاً أمامها مانعها من الذهاب وهتف بنبرة جـ.ـا.مدة:
_ طلاما تعبتي نفسك وجيتي لغاية هنا في الوقت دا يبقى مش هتمشي قبل ما تبرري..
شكل بسمة ساخرة وواصل:
_ دا لو عندك تبرير يعني..
رفعت رأسها ولم ترضى حديثه الساخر وهتفت بنبرة مختنقة:
_ يوسف، يوسف..
ملكش حق أبداً تلومني، الكلام اللي سمعته كان ممكن يتفهم غير كدا لو مقولتش كلامك الصبح!!
"كلام إيه؟"
هتف متسائلاً فأجابت هي بحنق:
_ إيه نسيت كلامك بالسرعة دي؟
نسيت لما قولت إنك اتخـ.ـنـ.ـقت مني ومن عيالي؟
حتى دول نسبتهم ليا لوحدي كأنك اتجبرت تجيبهم!
نسيت لما قولت مش عايز أسمع صوتك ولا صوتهم ولا حتى تشوفنا؟!
نسيت لما قولت إنك عايز استراحة محارب قيمة سنة أو سنتين!!
دا كلامك خلاني أفكر في الطـ.ـلا.ق عشان أريحك خالص مني ومن عيالي!!
ما أنا اللي أجبرتك على وضع مش حابه!
أنا اللي أصريت نتجوز وكل اللي حصل بعد كدا نتيجة لإصراري!
مش عايزني بعد اللي سمعته منك وحسيته دا عقلي ميستنتجش اللي فهمته؟!
دفعته بعيداً وتابعت سيرها للخارج، وقف يوسف محاولاً استيعاب كلمـ.ـا.تها، زفر أنفاسه وأسرع خلفها بعد أن أوصد باب المعرض جيداً، أسرع من خطاه حتى بات جوارها.
أخرج تنيهدة بصوت مسموع، لم يعلم للحديث سبيل، فانتبه على كلمـ.ـا.تها التي خرجت متحشرجة إثر بكائها المرير:
_ يمكن أنا غلطت لما طلبت منك نتجوز، أنا آسفة مكنتش أعرف إن الوضع هيكون صعب بالشكل دا، أنا بعترف إني كنت هبلة ونظرتي كانت غلط، بجد مش لو هتقدر تكمل في الوضع دا أنا هكون مقدرة و...
قاطعها يوسف مستاءً:
_ أنتِ فعلاً هبلة ولسه نظرتك غلط لما تفكري في تفكير عقيم زي دا!!
توقفت لينة عن السير ورمقته لبرهة قبل أن تردف:
_ أنت بنفسك قولتلي إني لما أكبر هشوف الأمور من زاوية تانية، هبص للي ريح اللي بحبه أكتر ما هبص للي بيريحني، وأنت مش هترتاح غير بـ..
"مين قالك، مين قالك إن راحتي في بعدنا عن بعض؟!"
هتف يوسف بحنق وواصل:
_ مش هكذب وأقول إني مكنتش مضغوط، والمسؤولية كانت كبيرة وفاقت طاقتي، وأي إنسان محتاج ياخد هُدنة من الضغط اللي بيتحط فيه، كلمتين اتقالوا مش محسوب لهم خالص، أنا بجد كنت بهزر وقتها..
لم تصدق تهوينه للأمر وهتفت بعدm تصديق:
_ بتهزر!!، دا انا أول مرة أحس باحتياجي ليك ومعرفش أسد احتياج مشاعري دا، كنت دايماً بهرب من مشاكل الحياة كلها ليك أنت، معرفتش النهاردة أهرب لمين؟
كنت بدور عليك وبهرب منك، محتاجة اشتكي لك منك وفي نفس الوقت مش عايزة أزود همك!"
حدجته بنظرات معاتبة قبل أن تقول:
_ أنت واقف قدامي وأنا مش قادرة أترمي في حـ.ـضـ.ـنك، كلامك بنى حاجز بينا مش عارفة أتخطاه، أصل أضايقك وأنت متقدرش تقول إنك مش قادرة على الوضع دا وأجبرك عليا تاني..
شعر يوسف بغبائه، لعن زلة لسانه الغير مقصودة، تنهد وقال بنـ.ـد.م يطغوا على نبرته:
_ أنا مش فاهم جبتي الكلام دا منين، أنا عمري ما فكرت بالشكل دا، أنا يمكن كنت بدعمك وبخبي أوقات ضيقتي عنك عشان مشيلكيش فوق طاقتك، بس مكنتش مجبور أبداً، كلامي النهاردة طلع بعفوية وفكرت إنك هتقدري عشان خلاص نص المسؤولية والضغط خلصوا ومش هتلومي نفسك على حاجة، توقعتك هتردي وتقولي وأنا كمان زيك عايزة أخد هدنة بس لقيتك سكتي ومشيتي...
تنهد يوسف بضيق وأردف كلمـ.ـا.ته باختناق:
_ يا لينة أنا محتاجك تقدري تبريري دا لأن معنديش غيره أعمله حالياً..
اقترب منها مواصلا استرساله:
_ أنا مش فاكر آخر مرة قربت منك فيها كانت امتى، يعني فوق كل الضغط دا مكنش فيه حاجة تهون، كله نازل طخ طخ، أقسم بالله أنا أول مرة مبقاش عارف أتصرف، محتاج اللي يبدأ لي الطريق وأنا أمشي فيه، محتاج أمشي ورا رأي حد يرجعني لنفسي من تاني..
لمست كلمـ.ـا.ته قلبها وشعرت بالنـ.ـد.م حياله، طالعته بآسى تحول إلى فضول في سؤالها:
_ أومال إيه العروسة دي؟!
فغر يوسف فاهه لبرهة ثم حرك رأسه باستنكار شـ.ـديد وقال:
_ عايزة ت عـ.ـر.في مين العروسة؟
أماءت بالإيجاب فأمسك يدها وهو يردد:
_ تعالي..
عاد بها إلى المعرض ثم ولج وأشار إلى إحدى الزوايا مردداً:
_ دي العروسة اللي عملت كل دا!!
وجهت لينة بصرها على الزاوية التي ينظر إليها وتفاجئت حين وقع بصرها على سيارة فاخرة للغاية، نظرت إليه مستاءة، فلم تصدق أنهما كانا يتحدثان عن سيارة وهتفت:
_ عربية!!
أكد يوسف على قولها:
_ أيوة عربية، آخر موديل نزل في المرسيدس، ومش عايزانا نقول عليها عروسة؟
عضت لينة على شفاها بخجل شـ.ـديد، حمحمت وجابت المكان من حولها هاربة من نظراته الثاقبة، بينما استنكر هو عدm ثقتها به وهتف مستاءً وهو يصعد درجات السُلم:
_ أنا بجد مش متخيل إنك تفكري فيا كدا!
فركت لينة أناملها بضيق ثم صعدت خلفه، فوجدته جالس على كرسي مكتبه، أصدرت صوتاً معلنا وصولها ثم اقتربت منه وجلست على قدmيه وقالت برقة:
_ أنا آسفة، عارفة أن الإعتذار مش كفاية، وعارفة إني غلطانة وعقلي لسه صغير مش بحسب الأمور صح، بس يمكن عشان كنا بعاد وعلاقتنا متـ.ـو.ترة، شيطاني قدر يضحك عليا وخلاني أفكر كدا، اعتبر كلامي تبرير أو حجة لموقفي، أي حاجة المهم متزعلش..
ملست على وجنته بنعومة وأردفت بدلال:
_ زعلك غالي أوي عندي يا سوفي..
كانت تعابيره جـ.ـا.مدة لا تلين قط، اقتربت منه وطبعت قُبلة على طرف شفتيه تعمدت الإطالة بها ثم همست بجانب أذنه:
_ وحـ.ـشـ.ـتني أوي..
عادت ناظرة لعينيه فكان جـ.ـا.مداً كما كان، حمحمت وتابعت محاولة إصلاح ما اقترفته:
_ تعالى نروح بيتنا
برفض تام صاح:
_ لأ
شعرت لينة بغصة في حلقها لكنها لم تريد التسرع في حكمها، تحلت بالقليل من الصبر ربما تنجح في توطيد العلاقة من جديد فهمست بخفوت:
_ تعالى نروح يا يوسف..
أبعدها يوسف عنه ثم نهض فشعرت لينة بالإهانة لرفضه، نظرت إليه بأسف وقالت:
_ أنا آسفة بجد..
أولاته ظهرها وتوجهت نحو الباب والدmـ.ـو.ع تكاد تتساقط من عينيها، لحق بها يوسف وأعاد غلق الباب فنظرت إليه بأعين لامعة، وتفاجئت به يمد يده خلفها ثم أوصد باب المكتب وقال وهو ينحني على شفتيها:
_ مش هنروح في حتة!!
أمسك يدها ووضعهم على قميصه فاستشفت ما يريد، وقامت بفك أزرار قميصه وكان هو يقبل ثغرها بلوعة واشتياق، فحاجته لها بلغت ذروة تحمله ولم يعد يستطيع السيطرة على جوارحه.
حاولت هي تنبيهه إن كان قد فقد عقله:
_ يوسف، إحنا في المكتب لو مش أخد بالك..
"بس لوحدنا"
هتف بهم ثم حملها وتوجه بها إلى الأريكة مجدداً عهده معها بعدmا افتقر لذاك الشعور منذ زمن.
بعد فترة، بحث عن قميصه والتقطه من على الأرضية، وأرسله إلى لينته مردداً بأمر:
_ ألبسيه..
تناولته وقامت بـ.ـارتدائه فكانت جميلة المظهر، نهضت خلفه لترى ماذا يفعل، استندت بذراعها على كتفه متابعة صبه العصير في كوبان واضعاً بهما قطع الثلج الذي تناوله من ثلاجة المكتب.
ناولها كوب وتوجه نحو الأريكة، اعتلاها وأشار إليها بالمجيء فتوجهت نحوه وتوسطت صدره، ارتشفت القليل من العصير ثم رفعت نظريها وسألته:
_ لسه زعلان مني؟
ارتشف يوسف العصير دُفعة واحدة وهتف بمشاكسة:
_ دا أنا زعلان جداً
مال بها على الأريكة فصرخت هي:
_ العصير!!
تناول منها كوبها ووضعه على الطاولة وعاد إليها، فارضاً عـ.ـا.قبه الخاص عليها، ولم يرى منها أي رفض فكان هذا يزيده تلهفاً بها.
***
بعد مرور بعض الوقت، اقترب منها متسائلاً عن سبب وقوفها أمام النافذة التي تطل على الطابق السفلي جاذباً إياها إليه فبات ظهرها ملاصقاً لظهره:
_ بتبصي على إيه؟
أشارت إلى السيارة وأجابت:
_ حلوة أوي يا يوسف، ليك تحق تقول يتشبع منها إزاي دي..
دفن رأسه في عنقها تاركاً أثر أنفاسه الحارة عليها قبل أن يهمس سؤاله:
_ عجباكي؟
استدارت إليه وتعلقت بذراعيها في عنقه مبدية إعجابها بها:
_ جداً، بجد جميلة أوي
ابتسم لها بعذوبة ثم تراجع للخلف وتوجه نحو مكتبه، أخذ ملفاً من الخزانة الرقمية خاصته وعاد إليها هاتفاً بنبرة رخيمة:
_ جميلة زي صاحبتها!
لم تعي ما قاله فناولها يوسف الملف الذي بيده، أخذت تقرأ المدون حتى صرخت عالياً حين رأت إسمها مدون في العقد، قفزت بسعادة غير مصدقة حقاً أنها تملك تلك السيارة الفاخرة وهللت عالياً:
_ لا لا بتهزر!!
دي بتاعتي؟
متهزرش بجد يا يوسف
قهقه هو وأكد ملكيتها العائدة لها:
_ بتاعتك والله، هدية التخرج
ابتعلت ريقها ثم استدارت تطالع السيارة مرةٍ أخرى، عادت ناظرة إليه ثم عانقته بكل ما أوتيت من قوة حتى كاد يوسف أن يفقد توازنه فصاح بحذر:
_ هتوقعيني يابت
لم تختفي الإبتسامة من على محياها وظلت تهلل بسعادة:
_ بحبك أوي، بجد مش عارفة أعبر لك أنا مبسوطة إزاي
بنبرة تكاد تسمع قال:
_ مش محتاجة تعبري، أنا ثانية وهتخـ.ـنـ.ـق من السعادة
انتبهت لينة ليدها المحاوطة عنقه وأزاحتها عنه ثم تراجعت وهرولت نحو الباب قاصدة النزول فأسرع يوسف خلفها وسرعان ما أعادها للداخل ثم أوصد الباب وصاح بحنق:
_ أنتِ راحة فين بمنظرك دا، فيه كاميرات في المكان
نظرت لينة إلى حالتها فشعرت بالخذي وهتفت نادmة:
_ من فرحتي مختش بالي بجد..
رققت من نبرتها وأردفت بحيوية:
_ طب ينفع ننزل نشوفها
أماء بقبول وقال:
_ أكيد، بس هاتي قميصي والبسي هدومك
تفاجئ يوسف بسرعة خلعها لقميصه وإعطائه له، التقطه منها قبل أن يسقط أرضاً وقام بإرتدائه، في تلك الأثناء كانت قد انتهت هي سريعاً من ارتداء كامل ثيابها ثم هرولت للخارج وتبعها يوسف بخطى متريثة.
ظلت تدور حولها لا تصدق أنها ملكها، عانقتها بحرارة كما لو أنهما كانا مفترقين وعادا إلى بعضهما، انفجر يوسف ضاحكاً على تصرفها الأخرق وهتف:
_ أنتِ بتعملي إيه؟
"لا لا سيبني أنت كدا أخد راحتي مع عربيتي، متدخلش بينا لو سمحت"
هتفت بهم لينة وتابعت ما تفعله تحت نظرات يوسف الذي لم يكف عن الضحك من خلفها.
بعد وقتٍ أردفت:
_ أنا عايزة أجربها!!
صاح يوسف وهو يجبرها على السير بعيداً عنها:
_ لا تجربي إيه، أنتِ تتعلمي السواقة الأول وبعدين تجربي براحتك
أوصد باب المعرض ودفعها للسير أمامه حتى وصلا إلى سيارته فوقفت لينة تطالعها بتقزز قبل أن تهتف بعجرفة:
_ أنا اركب دي؟ يبقى عندي مرسيدس وأركب دي
طالعها يوسف لبرهة، لقد تكبرت في خلال خمس دقائق، إذاً ما ستفعل إن مر يوماً كاملاً؟
حرك رأسه مستنكراً وصاح بفتور:
_ معلش استحملي عربيتي شوية أصل والله أرجع عربيتك اللي فرحانة بيها
أنهى جملته فأسرعت هي مستقلة المقعد الأمامي دون فعل المزيد من الحماقات حتى لا ينفذ قسمه، انطلق يوسف بالسيارة عائداً إلى منطقتهم ليقضون تلك الليلة في منزل والدته.
***
صباحاً، أشرقت الشمس فصدح رنين منبه هاتفه ليوقظه، مد يده وأغلقه وبعد قليل نهض عن الفراش بكسل، وقف أمام المرآة يتفقد ذقنه التي أنبتت بشكل مبالغ في الآونة الأخيرة ولم يقصها، ناهيك عن خصلاته التي تنسدل على عينه بسبب طولها المبالغ.
خرج من الغرفة فهتفت والدته بتنبيه:
_ خلي بالك عشان لينة هنا..
رفع كتفيه بعدm استيعاب وهتف:
_ يعني إيه لينة هنا، المفروض أعمل إيه؟
بفتور أخبرته:
_ بعرفك يا زياد، أصل تاخد راحتك أوي وتتفاجئ إنها قدامك
بلامبالاة تسائل وعيناه تجوب المكان حوله:
_ ماريا فين؟
أجابته مختصرة:
_ لسه نايمة، متجيش جنب....
لم تنهي جملتها بعد حتى تفاجئت به يقتحم غرفتها ويقوم بإيقاظ الصغيرة، وقفت على الباب وهتفت بحنق:
_ يابني سيبها نايمة مش كل يوم تصحيها بدري كدا..
لم يكترث لكلمـ.ـا.تها وظل يدغدغ الصغيرة ويقبلها حتى استيقظت، ابتسمت له وهتفت بنبرة طفولية:
_ زيزو
"قلب زيزو، تعالي يلا عشان نفطر"
قالها ثم تفاجئ ببكاء أحمد، توجه نحوه بغرابة مردداً:
_ إيه دا أنت هنا، مش تقول..
حمله بين ذراعيه بحذر وظل يداعبه حتى رأى ابتسامته لكن سرعان ما بكى مرةٍ أخرى فتدخلت السيدة ميمي وهي تتفقد ساعة الحائط:
_ معاد الرضعة بتاعته جه ومش هيسكت قبل ما يرضع، هاته عنك
ناولها الصغير بينما عاد إلى فتاته وحملها ثم أجلسها على كتفيه فكانت جلستها المفضلة، خرج من الغرفة أثناء خروج لينة ويليها يوسف، تبادلا الإبتسامـ.ـا.ت والتحية حيث بدأ زياد قائلاً:
_ صباح الخير
ردا كليهما في آن واحد:
_ صباح النور
اقترب منه يوسف وعيناه مصوبتان على ماريا وأشار لها بالإتيان إليه لكنه تفاجئ برفضها:
_ تؤ، عمو
فغر يوسف فاهه بصدmة وردد كلمـ.ـا.تها مقلداً طريقتها:
_ تؤ، عمو، هي حصلت؟!
قهقه زياد ورفع يده إليها هاتفاً بتعالي لاختياره:
_ كفك يا ريمو
ضـ.ـر.بت الصغيرة كفه بخفة، فلم يتحمل يوسف الوقوف ومشاهدتهما دون تعقيب، جذبها من أعلى كتفي آخيه وظل يدغدغ بها مردفاً كلمـ.ـا.ته العفوية:
_ بقى تؤ وعمو، أنا هوريكي يعني إيه تقولي عمو بعد كدة
خرج للردهة متابعاً دغدغته فصرخت ماريا عالياً محاولة الهرب منه، تبعه زياد للخارج فهتف يوسف كلمـ.ـا.ته لربما تتراجع وتقوم باختياره:
_ ابقي شوفي مين اللي هيجيب لك حاجات حلوة من السوبر ماركت بعد كدا..
فركت ماريا حتى تحررت من بين قبضته وتوجهت إلى أحد الخزانات وفتحت بابها فظهرت بعض الحلوى والمقرمشات والكثير من الأشياء التي تحبها.
فغر يوسف فاهه وطالع أخيه المبتسم لبرهة وقال:
_ أه يعني مش هعرف أرجع بنتي منكم تاني!!
رفع زياد كتفيه قائلاً:
_ أنت وشطارتك بقى..
توجه يوسف إليها ثم جسى على ركبتيه وأجلسها على قدmيه وأردف:
_ ممم تيجي نروح البيسين؟
اتسعت حدقتي ماريا وصاحت بسعادة عارمة:
_ Yes, yes
رفع يوسف كفه فضـ.ـر.بته بخفة ثم نظر إلى أخيه بانتصار لاكتسابه ابنته من جديد، بينما توجه زياد إلى الأريكة وشرد في أمور الدنيا، على الجانب الآخر قبل يوسف وجنتي ماريا وأمرها بلطف:
_ روحي لمامي خليها تحضر الفطار يا ريمو يلا..
استقام وتوجه إلى أخيه، جلس بجواره ثم تسائل عن أحواله:
_ الدنيا معاك إيه؟
"ماشية"
قالها بفتور شـ.ـديد، فتحدث يوسف قائلاً:
_ مالك بتقولها من غير نفس كدا؟
أخرج زياد تنهيدة مهمومة وانفجر بكلمـ.ـا.ت تختبئ داخله:
_ وإيه اللي يفتح النفس يا يوسف، بقالي خمس سنين بلف في ساقية، مش عارف أعمل حاجة خالص والفلوس اللي بتيجي يدوب قسط الشقة واللي بيكون معايا بيقضي لآخر الاسبوع بالعافـ.ـية، مش عارف أخد أي خطوة، وقعدت البت جنبي خمس سنين من غير أي خطوة رسمية، بحس بالذنب إني فكرت أوصلها إني عايزها، موقف حالها ولا بتحرك، بس هتحرك إزاي ماهي الخطوبة عايزة مصاريف وأنا مش معايا ومفيش أب هيقبل يقعد بنته خمس سنين جنب واحد مش بيعمل حاجة..
شكل إبتسامة ساخرة وواصل بتهكم:
_ لا خمس سنين إيه، دا لسه العفش على لما أعرف أخلصه مش أقل من سنتين تلاتة كمان..
زفر زياد بضيق شـ.ـديد هاتفاً بنبرة مختنقة:
_ أنا بجد مش بنـ.ـد.م على حاجة غير إني طلبت من لينة تقولها تستناني، مش فاهم بأي حق قولت كدا، كنت جايب الثقة دي منين يعني؟!
تأفف وضـ.ـر.ب الأريكة بيده، لمح طيف خروج لينة فلم يريد الظهور أمامها بضعف حيلته، نهض وابتعدا عنهما لكنها لاحظت ضيقه، عقدت ما بين حاجبيها وتوجهت إلى يوسف متسائلة بقلق:
_ في إيه؟ زياد ماله؟
تنهد يوسف وأخبرها حوارهما سوياً، سادت لحظة صمت حتى قطعته هي بقولها الخافت:
_ مش ناوي تقوله بقى؟
أخرج يوسف نفسا قوياً قبل أن يردف:
_ هقوله، أنا مش في أيدي حاجة غير إني أقوله!!
تبادلا النظرات ثم ابتسمت له لينة وربتت على يده مشجعة إياه على أخذ تلك الخطوة لطلاما انتظرتها طويلاً، بينما أنتبه يوسف إلى الصغير الذي يبتسم له فبادله الإبتسام لكنه لم يريد حمله فعقله مشوشاً الآن.
***
بعد مرور عدة ساعات، وصل يوسف إلى مكان عمل أخيه، صف السيارة على مقربة منه وهاتفه:
_ أنا واقف برا تعالالي..
أنهى الإتصال فجائه زياد متعجباً من أمر زيارته المفاجئة، فلم تكن في الحسبان، استند بمرفقيه على سور النافذة متسائلاً بفضول:
_ في حاجة ولا إيه؟
حثه يوسف على الركوب بقوله:
_ اركب، هنتكلم شوية..
استقل زياد السيارة شاعراً بالغرابة حيال أمر أخيه، شهيقاً وزفير فعل يوسف ثم فتح خزانة صغيرة أمام مقعد زياد وقام بإخراج ورقة مطوية تبدو أنها ثمينة للغاية.
ناوله لأخيه الذي تسائل:
_ إيه دا؟
"فلوسك"
قالها يوسف فلم يعي زياد قصد يوسف، رمقه بعدm فهم قبل أن يعيد سؤاله:
_ فلوس إيه؟
طالت نظرات يوسف، فهو يخشى أن تحدث مشادة بينهما لكنه ترك الأمر لله يدبره بمشيئته، تنهد قبل أن يخبره بحقيقتهم:
_ دي فلوس القسط اللي كنت باخدها منك كل شهر عشان الشقة، أنا مجتش جنبهم، كنت بحوشهم لك وأدفع القسط من معايا، و...
قاطعه زياد بصدmة شـ.ـديدة:
_ إيه؟ عملت إيه؟ إيه اللي بتقوله دا؟
حمحم يوسف وهتف بنبرة جادة:
_ أنا عرضت عليك أساعدك وأنت رفضت، وأنا كنت عارف إنك لوحدك مش هتعمل حاجة، أو هتعمل بس هتاخد وقت طويل أوي، فسيبت الفلوس عندي لغاية ما يحين وقتها، وأهو وقتها جه أهو، خدهم وكلم عمك سعيد وخد منه ميعاد نروح لهم ونتقدm لبنته..
الصدmة دون غيرها حلت على تعابير زياد، فلم يكن الأمر هيناً، خرج من شروده وهو يعيد المطوية إلى أخيه مردداً:
_ دي مش فلوسي، فلوسي دفعتها في الشقة
ترجل من السيارة فأسرع يوسف خلفه محاولاً إقناعه:
_ متبقاش أهبل بقى، إن مكنش يا أخي عشان نفسك عشان البت اللي مستنياك بقالها كتير دي، كل دا ملوش تمن عندك؟
بعدm استسلام لما يريده زياد صاح الآخر:
_ زي ما وصلت لها زمان إنها تستناني أوصلها إنها تشوف حياتها وملناش نصيب في بعض!!
تفاجئ يوسف بفتكيره الساذج والمحدود ولم يمرق الأمر دون إيلامه:
_ بالسهولة دي؟ تعشمها كل دا وتخلى بيها؟ الوعد اللي وعدتهولها من خمس سنين أنت مجبر تـ.ـو.فيه، غـ.ـصـ.ـب عنك كمان مش بمزاجك، وبعدين هو أنا وأنت إيه، مش واحد؟ ولا دا كلام بس!!
نكس زياد رأسه بخذي من نفسه ثم قال:
_ أيوة بس أنا معملتلكش حاجة، مساعدتكش عشان أقبل دلوقتي تساعدني
لكزه يوسف بقوة في صدره وهدر به شزراً:
_ عشان الزمن غير الزمن، أنت وقتها كنت صغير وبتدرس، فطبيعي متعرفش تساعدني، لكن أنا بشتغل والحمدلله قادر أعمل كدا، ثم إن أنا الكبير وملزم أساعدك مش العكس، وبعدين ليه بتسميها مساعدة أصلاً؟ الفلوس دي داخلة بيتي يا غـ.ـبـ.ـي، مش راحة لغريب عشان تتسمى مساعدة، أفهم بقى!!
سكون حل للحظات، لم يبدي زياد رد فعل أحمق آخر، تنهد يوسف براحة على ما يبدوا أنه رضخ في النهاية، وضع يده على كتف أخيه وتحدث بصوته الرخيم:
_ اركب يلا عشان نروح لعم السعيد ناخد منه ميعاد
رفع زياد بصره عليه، فحثه يوسف على القبول:
_ يلا بقى متبقاش قفل
تشكلت إبتسامة ممتنة على محيا زياد فربت يوسف على ذراعه واستقلا كليهما السيارة متوجهين إلى مكان عمل السيد سعيد ليتقدmا لخطبة "شهد"
***
مساءاً، اجتمع يوسف وعائلته مع عائلة السيد سعيد في منزله، كان الصوت صاخباً بعض الشيء، فالجميع يتحدث في آن واحد، زياد مع صديقه والسيد سعيد يتناول الأحاديث مع يوسف، والسيدات تتحاورن مع بعضهن.
بعد مدة استأذنت لينة للدخول إلى صديقتها فرحبت السيدة عواطف بذلك، ولجت لينة غرفة شهد التي ما أن رأتها حتى انهالت عليها بالكلمـ.ـا.ت المتلعثمة:
_ لينة، الحقيني، أنا متـ.ـو.ترة أوي مش عارفة هخرج إزاي، لأ متـ.ـو.ترة إيه أنا مرعوبة!
ابتسمت لها لينة وحاولت امتصاص ذاك التـ.ـو.تر:
_ ششش اهدي خالص، طبيعي تكوني متـ.ـو.ترة، بس متخليش التـ.ـو.تر دا يسيطر عليكي عشان أنتِ قولونك ما بيصدق، هوب نلاقي بطنك بقللت ويقولوا زياد جاي يصلح غلطته!
انفجرت شهد ضاحكة ثم قالت متسائلة:
_ طب أنا المفروض أعمل إيه عشان أكون هادية
تقوس ثغر لينة ببسمة ماكرة وهي تخبرها بخطتها:
_ هنتسلى شوية على زياد
بفضول تسائلت شهد:
_ إزاي؟
حمحم لينة وأخبرتها ماذا يفعلان:
_ هنحضر لهم قهوة، بس قهوة زياد هنحط فيها ملح بدل سكر ولو شربها وافقي عليه من غير كلام
بذهول رددت شهد:
_ ولو مشربهاش؟
من بين ضحكها أردفت لينة:
_ هتوافقي برده، أنتِ عندك حل تاني أصلاً
انفجرن في الضحك ثم تسللن خارج الغرفة ودلفن المطبخ وقاموا بإحضار القهوة للجميع، ثم خرجن حين أذنت لهن السيدة عواطف بالخروج.
وضعت شهد الصينية على الطاولة ثم بدأت تعطي فنجاناً من القهوة لجميع الجالسين، جاورت لينة وكانت تنظر إلى زياد خلسة بخجل شـ.ـديد، بينما لم ترفع لينة بصرها من عليه لتشاهد رد فعله.
ارتشف زياد القليل فاشمئز من طعمها المالح، لوهلة أدرك ذاك المقلب الذي فعلنه به ووجه نظريه على لينة وقال:
_ آه أنتِ اتلمـ.ـيـ.ـتي عليها؟
انفجرت لينة ضاحكة ولم تستطيع التوقف بسهولة، بينما توجهت الأنظار عليهما بعدm فهم، مال يوسف على أخيه وسأله مستفسراً:
_ في ايه؟
أعاد زياد الفنجان وهو يخبره بلعبتهن:
_ حاطين لي ملح في القهوة
شهقت السيدة عواطف ورمقت ابنتها بخذي لتصرفها ثم اعتذرت منه:
_ معلش يا زياد والله مش لاقية مبرر
تدخل زياد بقوله ليمحي الحرج الذي نشأ بين الجميع:
_ لا متقوليش حاجة، لينة متأثرة بالمسلسلات التركية شوية
رفعت لينة حاجبها الأيسر وقالت بتحدٍ:
_ أه واللي متعرفوش إن اللي يسيب القهوة من غير ما يشربها بيتر...
لم تكمل كلمتها بعد وقد استشف المخذى منها، وسرعان ما تناول الفنجان مرةٍ أخرى وارتشفه كاملاً، فانفجرا الجميع في الضحك على تراجعه.
بعد وقتٍ هتف السيد سعيد برحب:
_ مش هنلاقي عيلة أحسن منكم يا يوسف يابني نناسبهم!
ابتسم يوسف ببشاشة وقال وهو يمرر نظريه بين الجميع:
_ نقرأ الفاتحة؟
وافقه السيد سعيد الرأي ثم رُفعت أيادي الجميع قارئين سورة الفاتحة مبـ.ـاركين تلك العلاقة، حمحم يوسف وتحدث بنبرة جدية:
_ أنا كنت طالب من حضرتك نعمل خطوبة وكتب كتاب مع بعض على آخر الأسبوع إن شاء الله، حضرتك عارفنا وعارف زياد كويس يعني مفيش داعي نطول في المواضيع دي..
"أيوة يا يوسف بس مش شايف خطوة كتب الكتاب دي لسه بدري عليها؟"
قالها سعيد فاعترض يوسف اعتقاده:
_ مش بدري ولا حاجة، وحتى العرسان يتعرفوا على بعض أسرع، أصل إحنا برده مش عايزين نطول في فترة الخطوبة، زياد كلها ٥شهور ويستلم شقته ويبدأ يجهز فيها يعني على آخر السنة يكونوا في بيتهم إن شاء الله
نظر السيد سعيد إلى زوجته فلم يجد هناك مانعاً، فسأل ابنته قائلاً:
_ إيه رأيك يا شهد؟
نكست رأسها بخجل شـ.ـديد وتمتمت بخفوت:
_ اللي حضرتك تشوفه يا بابا
أخرج سعيد نفساً طويلاً وعاد بنظريه إلى يوسف ثم أبلغه موافقته:
_ على خير الله يابني
ارتفعت زغاريد السيدات بينما نهض زياد واقترب من شهد بعدmا تناول من والدته عُلبة صغيرة، فتحها فظهر منها خاتماً رقيقاً نال إعجاب شهد للغاية لكنها لم تظهر.
مد زياد يده لها فأعطته يدها الصغيرة وقام بوضع الخاتم في إصبعها حتى شعر أنه صُنع خصيصاً من أجلها، ابتسم بخجل وهمس لها:
_ هما بيقولوا إيه في المواقف اللي زي دي؟
لم ترفع رأسها قط وأجابته بنبرة بالكاد سمعتها أذنيه:
_ مش عارفة، مجربتش قبل كدا
ازدادت ابتسامته وهو يقول:
_ بس أنا حاسس إني عايز أقول حاجة
رفعت عينيها في عينه وسألته بحياء:
_ إيه؟
ابتلع ريقه وبنبرة متيمة صرح بما يكمن داخله:
_ بحبك
خفق قلبها بشـ.ـدة لتصريحه المفاجئ، لقد تسبب في تزايد نبضاتها بصورة لم يكن عليها من قبل، هـ.ـر.بت بنظريها بعيداً لكنها لم تمنع ابتسامتها التي رُسمت على ثغرها الوردي فابتسم زياد عفوياً حين رأى ابتسامتها.
تبادلا الجميع المبـ.ـاركات والتهنئة، كما عمت السعادة قلوبهم لتلك المناسبة السعيدة.
***
مر أسبوعاً، وقد تم عقد قِران زياد وشهد، واليوم كان الجميع في رحلة ترفيهية في أحد القُرى السياحية.
كان يوسف بجوار لينة ووالدته التي تحمل أحمد وهو يداعب صغيرته، وإلى جانبهم زياد برفقة شهد ووالدتها، ومن جانب آخر يجلس بلال برفقة إيمان وصغيرهم الذي ركض بعيداً عنهما فأسرع بلال خلفه خشية أن يضيعاه، لَقِفه وعاد به محذراً إياه:
_ ولا، عارف لو بعدت تاني هعمل فيك إيه؟
بعناد قال ذو الخمس أعوام:
_ هتعمل إيه؟
"هعمل كدا"
هتف بها بلال وهو يلقيه في المسبح، فصرخت إيمان بخوف عارم:
_ إي يا بلال دا حد يعمل كدا؟!
نظرت حيث طفى صغيرها وسألته باهتمام أمومي:
_ أنت كويس يا مراد؟
تفاجئت به ينثر المياه عليها فهللت بغيظ:
_ وأنا اللي كنت خايفة عليك
قهقه بلال وصاح مشجعاً صغيره:
_ أبن أبوك يا موري، شاطر
وقف يوسف حاملاً ماريا على كتفيه مثلما تحب وتوجه نحو صديقه فانسحبت إيمان من بينهما:
_ أنت بتعلم الولا إيه؟ تربية بايظة
نظر له بلال باستهزاء وقال:
_ سيبنالك التربية يا حبيبي، ثم إن دا ولد لازم نشـ.ـد عوده كدا ونعلمه الشبحنة من صغره عشان يطلع صـ.ـا.يع
غمز له يوسف وهتف:
_ مش ناوي تخاويه؟
التفتت بلال بكامل جسده إلى صديقه وهدر:
_ تصدق بالله
"لا إله إلا الله"
عقب يوسف بها فتابع بلال حديثه:
_ إحنا أخدينكم عبرة عشان كل ما نفكر نجيب عيال نفتكركم فنلغي الفكرة
قلب يوسف وجهه باستنكار واستهزأ به:
_ قول إنك مش قادر بس وبترمي اللوم علينا
تشـ.ـدق بلال مستنكراً إهانته وصاح بحنق:
_ مش إيه؟
ببرود وعجرفة تحدث يوسف وهو يطالع المسبح:
_ أيوة يابني دي قدرات مش أي حد يعرف يعملها
استاء بلال من كلمـ.ـا.ته ولم يعلق فلم يكن هناك كلمـ.ـا.تٍ بعد، انتبها كلاهما على هرولة زياد إلى المسبح وفي يده شهد ثم قفزا به فتسببا بفوضى في المكان.
"ما جمع إلا ما ما وفق، الاتنين هُبل"
قالها بلال فأيده يوسف الرأي، بينما نظر إلى صغيرته التي تعتلي كتفه وقال:
_ نعمل زي عمو؟
أماءت بقبول وحماس فلم يتردد يوسف في القفز في المياه فانفجرت الفتاة ضاحكة، فعلق بلال ساخراً:
_ دي العيلة كلها هبلة
أنهى جملته وتفاجئ بدفع أحدهم له في المسبح، نظر حيث مكان وقوفه وتفاجئ بإيمان التي غمزت له وقالت:
_ هبلة بقى ما أنا من نفس العيلة
لم تكمل جملتها حتى تفاجئت به يمسك قدmيها ويجذبها إليه، غمز لها وقال:
_ من عاشر القوم يا حياتي..
قهقهت عالياً، وظلا ينثران المياه على بعضهما البعض في أجواء مرحة، في الأعلى كانت لينة تتحدث مع شقيقها مكالمة فيديو:
_ والمزة عاملة إيه؟
نظر علي إلى جانبه وتأكد أنها لم تصغي إليها ثم أجابها:
_ والله لسه بحاول، بس دmاغها ناشفة، مش عايزة ناخد خطوة دلوقتي
قهققت لينة وعلقت ساخرة:
_ استحمل يا حبيبي، حد قالك تحب واحدة من انجلترا
تنهد علي بينما انضمت كيندا لهما ورحبت بلينة:
_ هاي لينة، how are you
ردت لينة بلطف:
_ هاي كيندا، Iam fin، أنتِ عاملة إيه
باختصار قالت:
_ Fin
نظرت كيندا إلى علي وحدثته بلغتها فعاد على ناظراً إلى شقيقته واعتذر منها:
_ معلش يا لينة هقفل وأكلمك تاني، فيه مشكلة عايزين نحلها في الشغل
أنهى المكالمة بينما انتبهت لينة على تعليق هادية الموجه لها:
_ مش بتنزلي معاهم ليه؟ ولا يوسف مانعك؟
استنكرت لينة قولها ورددت بضيق:
_ وهيمنعني ليه؟
بسخرية علقت هادية:
_ أه صحيح يمنعك ليه، يمكن نساكي، ماريا شكلها أخدت مكانك
كزت لينة أسنانها بغضب لكنها لم ترضخ لذاك الأسلوب الوضيع وهتفت وهي تحدق بالسيد رمضان الذي يلاعب مراد:
_ مش معقول هيبقى وهو خاله زي بعض؟!
تفاجئت هادية بقولها ونظرت إلى زوجها بغيظ، في تلك الأثناء عاد يوسف فأسرعت هادية في إخبـ.ـاره ماحدث بحقد:
_ ينفع كدا يا يوسف بهزر مع مراتك وأقولها شكل ماريا أخدت مكانك ترد تقولي مش معقول هو وخاله زي بعض!!
قطب جبينه ونظر إلى لينة التي خشت نظراته وسألها مستفسراً:
_ أنتِ قولتي كدا؟
اكتفت بإيماءة من رأسها فصاح يوسف:
_ جدعة
صعقت هادية من رده الداعم لوقاحتها بينما لم تمنع لينة ابتسامتها المنتصرة، اقترب منها يوسف وحملها بين ذراعيه هاتفاً:
_ مين دي اللي تتنسي بس؟!
توجه بها نحو المسبح ولم يتردد في إلقائها به ثم قفز هو الآخر، كانت الأجواء مرحة والجميع سعداء عدا هادية التي اختلقت مشكلة بينها وبين زوجها لعدm اهتمامه به وانشغاله مع مراد.
بعد مدة طويلة، وقفت لينة مستندة برأسها على كتف يوسف أمام المسبح تشاهد الغروب، فكان من الأوقات المحببة لها، أخرجت تنهيدة حارة ثم غردت بخفوت:
_ للنهاية
هتلاقيني ماسكة في إيديك للنهاية
أصلي من قبلك أنا مجرد حكاية
فيها خُوف وتعب وفيها جرَاح كتيرة
نظرت إلى عينيه بوميض عاشقة وتابعت:
_ بس بقى مِسك الختام إنك معايا!
انحنى يوسف برأسه وقبل جبينها بحب، فهتفت لينا بتردد:
_ يوسف عايزة أقولك على حاجة
أحاط يوسف خِصرها حتى باتت بين ذراعيه وقال:
_ إيه يا حبيبي؟
ابتلعت ريقها وأردفت:
_ أنا حاسة إن أنا حامل
صعق يوسف مما وقع على مسامعه، فغر فاهه كما اتسعت حدقتيه وردد بذهول:
_ حامل؟!
ابتعد عنها ثم أولاها ظهره وظل يتمتم بحنق:
_ حامل!!
دي بتقولي حامل!!
أسرعت لينة خلفه فلم يقف لها بل ركض بعيداً عنها تحت ضحكاتها عليه، ظلا يركضان خلف بعضهما تماماً مثل القط والفأر.
***
لو خلصتي الرواية دي وعايزة تقرأيي رواية تانية بنرشحلك الرواية دي جدا ومتأكدين انها هتعجبك 👇